ج4وج5وج6.كتاب المغازي الواقدي
حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عثمان بن أبي سليمان، قال: كانت قريشٌ قد توافدوا وجمعوا الأموال يطعمون بها من ضوى إليهم من الأحابيش، فكان يطعم في أربعة أمكنة: في دار الندوة لجماعتهم، وكان صفوان بن أمية يطعم في داره، وكان سهيل بن عمرو يطعم في داره، وكان عكرمة بن أبي جهل يطعم في داره، وكان حويطب بن عبد العزى يطعم في داره.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قال: ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصف خيله فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين القبلة، وهي في مائتي فرس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله فقام بإزائه فصف أصحابه.
قال داود: فحدثني عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: فحانت صلاة الظهر فأذن بلال وأقام، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وصف الناس خلفه يركع بهم ويسجد، ثم سلم فقاموا على ما كانوا عيه من التعبية. فقال خالد بن الوليد: قد كانوا على غرة، و كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاةً هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم! قال: فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم.. " الآية. قال: فحانت العصر فأذن بلال، وأقام فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهاً القبلة، والعدو أمامه، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر الصفان جميعاً، ثم ركع وركع الصفان جميعاً، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود بالصف الأول وقاموا معه سجد الصف المؤخر السجدتين، ثم استأخر الصف يلونه، وتقدم الصف المؤخر، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا جميعاً، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع الصفان جميعاً، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الصف الذي يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونه مقبلين على العدو، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من السجدتين سجد الصف المؤخر السجدتين اللتين بقيتا عليهم، واستوى رضي الله عنه جالساً فتشهد، ثم سلم عليهم. فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: هذه أول صلاةٍ صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف.
حدثني سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش الزرقي، أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا، وذكر أبو عياش أنه أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف.
حدثين ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان، بينهما أربع سنين؛ وهذا أثبت عندنا.
قالوا: فلما أمسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تيامنوا في هذا العصل ، فإن عيون قريش بمر الظهران أو بضجنان، فأيكم يعرف ثنية ذات الحنظل ؟ فقال بريدة بن الحصيب الأسلمي: أنا يا رسول الله عالمٌ بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسلك أمامنا، فاخذ به بريدة في العصل قبل جبال سراوع قبل المغرب، فسار قليلاً تنكبه الحجارة وتعلقه الشجر، وحار حتى كأنه لم يعرفها قط. قال: فوالله إن كنت لأسلكها في الجمعة مراراً. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوجه قال: اركب! فركبت فقال صلى الله عليه وسلم: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل حمزة بن عمرو الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك. فسار قليلاً ثم سقط في خمر الشجر، فلا يدري أين يتوجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركب. ثم قال: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل عمرو بن عبد نهم الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك. فقال: انطلق أمامنا. فانطلق عمرو أمامهم حتى نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الثنية فقال: هذه ثنية ذات الحنظل؟ فقال عمرو: نعم يا رسول الله. فلما وقف على رأسها تحدر به. قال عمرو: والله إن كان ليهمني نفسي وجدي، إنما كانت مثل الشراك ، فاتسعت لي حتى برزت وكانت محدة لاحبة . ولقد كان النفر يسيرون تلك الليلة جميعاً معطفين من سعتها يتحدثون، وأضاءت تلك الليلة حتى كأنا في قمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده، ما مثل هذه الثنية الليلة إلا مثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: " وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ " .
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلمة التي عرضت على بني إسرائيل: " لا إله إلا الله وادخلوا الباب سجداً " . قال: باب بيت المقدس، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا: " حبة في شعيرةٍ " .
وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلمة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوا: " نستغفر الله ونتوب إليه " . فكلا هذين الحديثين قد روي.
قالوا: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجوز هذه الثنية أحدٌ إلا غفر الله له. قال أبو سعيد الخدري: وكان أخي لأمي قتادة بن النعمان في آخر الناس، قال: فوقفت على الثنية فجعلت أقول للناس: إن رسول الله قال: " لا يجوز هذه الثنية أحدٌ إلا غفر له " . فجعل الناس يسرعون حتى جاز أخي في آخر الناس، وفرقت أن يصبح قبل أن نجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل: من كان معه ثقلٌ فليصطنع. قال أبو سعيد: وإنما معه صلى الله عليه وسلم ثقل - الثقل: الدقيق - وإنما كان عامة زادنا التمر. فقلنا: يا رسول الله، إنا نخاف من قريشٍ أن ترانا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم لن يروكم، إن الله سيعينكم عليهم. فأوقدوا النيران، واصطنع من أراد أن يصطنع. فلقد أوقدوا أكثر من خمسمائة نار. فلما أصبحنا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم قال: والذي نفسي بيده، لقد غفر الله للركب أجمعين إلا رويكباً واحداً على جملٍ أحمر، التقت عليه رجال القوم ليس منهم. فطلب في العسكر وهو يظن أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا به ناحيةً إلى ذرى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل من بني ضمرة من أهل سيف البحر، فقيل لسعيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. قال سعيد: ويحك! اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك! قال: بعيري والله أهم إلى أن يستغفر لي - وإذا هو قد أضل بعيراً له يتبع العسكر يتوصل بهم ويطلب بعيره - وإنه لفي عسكركم، فأدوا إلي بعيري. فقال سعيد: تحول عني لا حياك الله! ألا لا أرى قربي إلا داهيةً وما أشعر به! فانطلق الأعرابي يطلب بعيره بعد أن استبرأ العسكر، فبينا هو في جبال سراوع إذ زلقت نعله فتردى فمات، فما علم بن حتى أكلته السباع.
وحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي قومٌ تحقرون أعمالكم مع أعمالهم. فقيل: يا رسول الله، قريش. قال: لا، ولكن أهل اليمن، فإنهم أرق أفئدةً وألين قلوباً. قلنا: يا رسول الله، هم خيرٌ منا؟ فقال بيده هكذا - ويصف هشام في الصفة كأنه يقول سواء - ألا إن فضل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " حديثني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذٍ: أتاكم أهل اليمن كأنهم قطع السحاب، هم خير من على الأرض. قال رجلٌ من الأنصار: ولا نحن يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم الرابعة قال قولاً ضعيفاً: إلا أنتم.
حدثني معمر وعبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة قال: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دنا من الحديبية وقعت يد راحلته على ثنيةٍ تهبطه على غائط القوم، فبركت راحلته فقال المسلمون: حل! حل! فأبت أن تنبعث فقالوا: خلأت القصواء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ما خلأت، ولا هو لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل. أما والله لا يسألونني اليوم خطةً في تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرناها فقامت، فولى راجعاً عوده على بدئه حتى نزل بالناس على ثمدٍ من ثماد الحديبية ظنون قليل الماء، يتبرض ماؤه تبرضاً ، فاشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فانتزع سهماً من كنانته فأمر به فغرز في الثمد، فجاشت لهم بالرواء حتى صدروا عنه بعطن. قال: وإنهم ليغرقون بآنيتهم جلوساً على شفير البئر. والذي نزل بالسهم ناجية بن الأعجم من أسلم. وقد روي أن جاريةً من الأنصار قالت لناجية بن جندب وهو في القليب:
يا أيها الماتح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجدونكا
فقال ناجية وهو في القليب:
قد علمت جاريةٌ يمانيه ... أنى أنا الماتح واسمي ناجيه
وطعنةٍ مني رشاشٍ واهيه ... طعنتها تحت صدور العاليه
أنشدنيها رجلٌ من ولد ناجية بن الأعجم يقال له عبد الملك بن وهب الأسلمي. فحدثني موسى بن عبيد، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: الذي نزل بالسهم ناجية بن جندب.
وحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، قال: حدثني رجلٌ من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ناجية بن الأعجم - وكان ناجية بن الأعجم يحدث - يقول: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكى إليه قلة الماء، فأخرج سهماً من كنانته ودفعه إلي ودعاني بدلوٍ من ماء البئر، فجئته به فتوضأ، فقال: مضمض فاه، ثم مج في الدلو، والناس في حرٍّ شديدٍ وإنما هي بئر واحدة، وقد سبق المشركون إلى بلدح فغلبوا على مياهه، فقال: انزل بالماء فصبه في البئر وأثر ماءها بالسهم. ففعلت، فوالذي بعثه بالحق ما كنت أخرج حتى كاد يغمرني، وفارت كما تفور القدر حتى طمت، واستوى بشفيرها يغترفون ماء جانبها حتى نهلوا من آخرهم. قال: وعلى الماء يومئذ نفرٌ من المنافقين؛ الجد بن قيس، وأوس، وعبد الله بن أبي، وهم جلوسٌ ينظرون إلى الماء، والبئر تجيش بالرواء وهم جلوسٌ على شفيرها. فقال أوس بن خولي: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيءٌ؟ وردنا بئراً يتبرض ماؤها - يتبرض: يخرج في القعب جرعة ماءٍ - فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضمض فاه في الدلو، ثم أفرغ الدلو فيها ونزل بالسهم فحثحثها فجاشت بالرواء. قال: يقول ابن أبي: قد رأيت مثل هذا. فقال أوس: قبحك الله وقبح رأيك! فيقبل ابن أبي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أبا الحباب، أين رأيت مثل ما رأيت اليوم؟ فقال: ما رأيت مثله قط. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلم قلت ما قلت؟ قال ابن أبي: أستغفر الله! قال ابنه: يا رسول الله، استغفر له! فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد، عن جده عبدي بن أبي عبيد، قال: سمعت خالد بن عباد الغفاري يقول: أنا نزلت بالسهم يومئذٍ في البئر.
حدثني سفيان بن سعيد، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: أنا نزلت بالسهم.
قالوا: ومطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية مراراً فكثرت المياه.
حدثني سفيان بن سعيد، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح الهذلي، عن أبيه، قال: مطرنا بالحديبية ل الله صلى الله عليه وسلم: بلى، آيةٌ بينك وبينه أن تجد له قشعريرةً إذا رأيته. واستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أقول، فقال: قل ما بدا لك. قال: فأخذت سيفي لم أزد عليه، وخرجت أعتزي إلى خزاعة، فأخذت على الطريق حتى انتهيت إلى قديد، فأجد بها خزاعة كثيراً، فعرضوا علي الحملان والصحابة، فلم أرد ذلك وخرجت حتى أتيت بطن سرف، ثم عدلت حتى خرجت على عرنة، وجعلت أخبر من لقيت أني أريد سفيان بن خالد لأكون معه، حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي، ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه. فلما رأتيه هبته، وعرفته بالنعت الذي نعتثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي سلمة الحضرمي، قال: سمعت أبا قتادة يقول، سمعت ابن أبي يقول - ونحن بالحديبية ومطرنا بها - فقال ابن أبي: هذا نوء الخريف، مطرنا بالشعرى! وحدثني محمد بن الحجازي، عن أسيد بن أبي أسيد، عن أبي قتادة، قال: لما نزلنا على الحديبية، والماء قليل، سمعت الجد بن قيس يقول: ما كنا خروجنا إلى هؤلاء القوم بشيء! نموت من العطش عن آخرنا! فقلت: لا تقل هذا يا أبا عبد الله، فلم خرجت؟ قال: خرجت مع قومي. قلت: فلم تخرج معتمراً؟ قال: لا والله، ما أحرمت. قال أبو قتادة: ولا نويت العمرة؟ قال: لا! فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل فنزل بالسهم، وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلو ومج فاه فيه، ثم رده في البئر، فجاشت البئر بالرواء. قال أبو قتادة: فرأيت الجد ماذاً رجليه على شفير البئر في الماء، فقلت: أبا عبد الله! أين ما قلت؟ قال: إنما كنت أمزح معك، لا تذكر لمحمد مما قلت شيئاً. قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرته قبل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فغضب الجد وقال: بقينا مع صبيانٍ من قومنا لا يعرفون لنا شرفاً ولا سناً، لبطن الأرض اليوم خيرٌ من ظهرها! قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرت قوله للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابنه خيرٌ منه! قال أبو قتادة: فلقيني نفرٌ من قومي فجعلوا يؤنبونني ويلومونني حين رفعت مقالته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لهم: بئس القوم أنتم! ويحكم! عن الجد بن قيس تذبون؟ قالوا: نعم، كبيرنا وسيدنا. فقلت: قد والله طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤدده عن بني سلمة، وسود علينا بشر بن البراء بن معرور ، وهدمنا المنامات التي كانت على باب الجد وبنيناها على باب بشر بن البراء، فهو سيدنا إلى يوم القيامة. قال أبو قتادة: فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة فر الجد بن قيس فدخل تحت بطن البعير، فخرجت أعدو وأخذت بيد رجلٍ كان يكلمني فأخرجناه من تحت بطن البعير، فقلت: ويحك! ما أدخلك ها هنا؟ أفراراً مما نزل به روح القدس؟ قال: لا، ولكني رعبت وسمعت الهيعة . قال الرجل: لا نضحت عنك أبداً، وما فيك خير. فلما مرض الجد بن قيس ونزل به الموت لزم أبو قتادة بيته فلم يخرج حتى مات ودفن، فقيل له في ذلك فقال: والله، ما كنت لأصلي عليه وقد سمعته يقول يوم الحديبية كذا وكذا، وقال في غزوة تبوك كذا وكذا، واستحييت من قومي يرونني خارجاً ولا أشهده. يوقال: خرج أبو قتادة إلى ماله بالواديين فكان فيه حتى دفن، ومات الجد في خلافة عثمان
وقالوا: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية أهدى له عمرو ابن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان غنماً وجزوراً، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جزراً، وكان صديقاً له، فجاء سعد بالغنم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن عمراً أهداها له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعمرو قد أهدى لنا ما ترى، فبارك الله في عمرو! ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزر، تنحر وتقسم في أصحابه، وفرق الغنم على أصحابه من آخرها. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت معه: فدخل علينا من لحم الجزر كنحوٍ مما دخل على رجلٍ من القوم، وشركنا في شاةٍ فدخل علينا بعضها. وكان الذي جاءنا بالهدية غلامٌ منهم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، والغلام في بردةٍ له بلية ، فقال: يا غلام، أين تركت أهلك؟ قال: تركتهم قريباً بضجنان وما والاه. فقال: وكيف تركت البلاد؟ فقال الغلام: تركتها وقد تيسرت، قد أمشر عضاهها ، وأعذق إذخرها ، واسلب ثمامها ، وابقل حمضها ، وانبلت الأرض فتشبعت شاتها إلى الليل، وشبع بعيرها إلى الليل مما جمع من خوصٍ وضمد الأرض وبقل، وتركت مياههم كثيرةً تشرع فيها الماشية، وحاجة الماشية إلى الماء قليلٌ لرطوبة الأرض. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لسانه، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسوةٍ فكسي الغلام، وقال الغلام: إني أريد أن أمس يدك أطلب بذلك البركة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن! فدنا فأخذ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه وقال: بارك الله فيك! فكان قد بلغ سناً، وكان له فضلٌ وحالٌ في قومه حتى توفي زمن الوليد بن عبد الملك.
قالوا: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية جاءه بديل ابن ورقاء وركبٌ من خزاعة، وهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، منهم المسلم ومنهم الموادع، لا يخفون عليه بتهامة شيئاً، فأناخوا رواحلهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا فسلموا عليه، فقال بديل: جئناك من عند قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العوذ المطافيل - النساء والصبيان - يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؛ وقريشٌ قومٌ قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاءوا ماددتهم مدةً يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس، والناس أكثر منهم، فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو يقاتلوا وقد جمعوا! والله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو ينفذ الله أمره! فوعى بديلٌ مقالته وركب، ثم ركبوا إلى قريش، وكان في الركب عمرو ابن سالم، فجعل يقول: والله لا تنصرون على من يعرض هذا أبداً، حتى هبطوا على كفار قريش. فقال ناسٌ منهم: هذا بديل وأصحابه، إنما جاءوا يريدون أن يستخبروكم، فلا تسألوهم عن حرفٍ واحدٍ! فلما رأى بديل وأصحابه أنهم لا يستخبرونهم قال بديل: إنا جئنا من عند محمد، أتحبون أن نخبركم؟ قال عكرمة بن أبي جهل والحكم بن العاص: لا والله، ما لنا حاجةٌ بأن تخبرنا عنه! ولكن أخبروه عنا أنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبداً حتى لا يبقى منا رجلٌ. فقال عروة بن مسعود: والله ما رأيت كاليوم رأياً أعجب! وما تكرهون أن تسمعوا من بديل وأصحابه؟ فإن أعجبكم أمرٌ قبلتموه، وإن كرهتم شيئاً تركتموه؛ لا يفلح قومٌ فعلوا هذا أبداً! وقال رجالٌ من ذوي رأيهم وأشرافهم، صفوان ابن أمية والحارث بن هشام: أخبرونا بالذي رأيتم والذي سمعتم. فأخبروهم بمقالة النبي صلى الله عليه وسلم التي قال، وما عرض على قريشٍ من المدة، فقال عروة: يا معشر قريش تتهمونني؟ ألست الوالد وأنا الولد؟ وقد استنفرت أهل عكاظٍ لنصركم، فلما بلحوا علي نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني! فقالوا: قد فعلت! فقال: وإني ناصحٌ لكم شفيقٌ عليكم، لا أدخر عنكم نصحاً، وإن بديلاً قد جاءكم بخطة رشدٍ لا يردها أحد أبداً إلا أخذ شراً منها، فاقبلوها منه وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده، وأنظر إلى من معه وأكون لكم عيناً آتيكم بخبره. فبعثته قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عروة بن مسعود حتى أناخ راحلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى جاءه، ثم قال: يا محمد، إني تركت قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، قد استنفروا لك أحابيشهم ومن أطاعهم، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم. وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين، أن تجتاح قومك، ولم نسمع برجلٍ اجتاح أصله قبلك؛ أو بين أن يخذلك من نرى معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم. فغضب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: امصص بظر اللات! أنحن نخذله؟ فقال عروة: أما والله لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك! وكان عروة بن مسعود قد استعان في حمل ديةٍ، فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث وأعانه أبو بكر بعشر فرائض، فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود. فطفق عروة وهو يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس لحيته - والمغيرة قائمٌ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، على وجهه المغفر - فطفق المغيرة كلما مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قرع يده ويقول: اكفف يدك عن مس لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك! فلما أكثر عليه غضب عروة فقال: ليت شعري من أنت يا محمد من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: وأنت بذلك يا غدر؟ والله ما غسلت عنك عذرتك إلا بعلابط أمس! لقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر! يا محمد، أتدري كيف صنع هذا؟ إنه خرج في ركبٍ من قومه، فلما كانوا بيننا وناموا فطرقهم فقتلهم وأخذ حرائبهم وفر منهم. وكان المغيرة خرج مع نفرٍ من بني مالك بن حطيط بن جشم بن قسي
- والمغيرة أحد الأحلام - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده فسمي الشريد. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا ببيسان شربوا خمراً، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه، هذا غدر! وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم. وأسلم المغيرة، وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان ابن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر ابن مسعود بن معتب - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: أين أسلك؟ إن سلكت ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب. فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود بن عمرو المالكين فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه. قال: فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعودٌ إلينا وهو يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟ بل طرقت بداهية! أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك يا مسعود، انظر ما أنت فاعل! فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتاً. قال: فانصرفنا عنه، فلما أصبح غدا مسعود فقال: بني مالك، إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا تقرك الأحلاف أبداً حين تقبلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهمٍ مفوقٍ بآخر، لا يسير إلى أحدٍ بسهمه إلا وضعه حيث يريد! فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً بآخر. قال مسعود: يا بني مالك أطيعوني! قالوا: الأمر إليك! قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود اخر إلي! فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة ديةً، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي! قال: فاصطلح الناس. قال الأعشى أخو بني بكر بن وائل: والمغيرة أحد الأحلام - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده فسمي الشريد. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا ببيسان شربوا خمراً، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه، هذا غدر! وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم. وأسلم المغيرة، وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان ابن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر ابن مسعود بن معتب - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: أين أسلك؟ إن سلكت ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب. فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود بن عمرو المالكين فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه. قال: فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعودٌ إلينا وهو يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟ بل طرقت بداهية! أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك يا مسعود، انظر ما أنت فاعل! فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتاً. قال: فانصرفنا عنه، فلما أصبح غدا مسعود فقال: بني مالك، إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا تقرك الأحلاف أبداً حين تقبلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهمٍ مفوقٍ بآخر، لا يسير إلى أحدٍ بسهمه إلا وضعه حيث يريد! فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً بآخر. قال مسعود: يا بني مالك أطيعوني! قالوا: الأمر إليك! قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود اخر إلي! فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة ديةً، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي! قال: فاصطلح الناس. قال الأعشى أخو بني بكر بن وائل:
تحمل عروة الأحلاف لما ... رأى أمراً تضيق به الصدور
ثلاث مئين عاديةً والفاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور
قال الواقدي: فلما فرغ عروة بن مسعود من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال لبديل بن ورقاء وأصحابه وكما عرض عليهم من المدة، ركب عروة بن مسعود حتى أتى قريشاً فقال: يا قوم، إني قد وفدت على الملوك، على كسرى وهرقل والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكاً قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمدٍ في أصحابه؛ والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمرٍ فيفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجلٍ منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيءٍ؛ وقد حرزت القوم، واعلموا أنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم؛ وقد رأيت قوماً ما يبالون ما يصنع بهم إذا منعوا صاحبهم؛ والله لقد رأيت نسياتٍ معه إن كن ليسلمنه أبداً على حال؛ فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع الرأي ، وقد عرض عليكم خطةً فمادوه! يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه! رجلٌ أتى هذا البيت معظماً له، معه الهدي ينحره وينصرف! فقالت قريش: لا تلكم بهذا يا أبا يعفور ! لو غيرك تكلم بهذا للمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع إلى قابلٍ.
قالوا: ثم جاء مكرز بن حفص بن الأخيف، فلما طلع ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا رجلٌ غادر! فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلمه بنحوٍ مما كلمه أصحابه، فلما انتهى إلى قريشٍ أخبرهم بما رد عليه. فبعثوا الجليس بن علقمة - وهو يومئذٍ سيد الأحابيش - فلما طلع الحليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من قوم يعظمون الهدي ويتألهون ، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه. فبعثوا الهدي، فلما نظر إلى الهدي يسيل في الوادي عليه القلائد، قد أكل أوباره يرجع الحنين. واستقبله القوم في وجهه يلبون، قد أقاموا نصف شهر قد تفلوا وشعثوا، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، حتى رجع إلى قريش فقال: إني قد رأيت ما لا يحل صده، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره، معكوفاً عن محله، والرجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت! أما والله ما على هذا حالفناكم، ولا عاقدناكم على أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظماً لحرمته مؤدياً لحقه، وساق الهدي معكوفاً أن يبلغ محله؛ والذي نفسي بيده لتخلن بينه وبين ما جاء به، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد! قالوا: إنما كل ما رايت مكيدةٌ من محمدٍ وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به. وكان أول من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريشٍ خراش بن أمية الكعبي على جملٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء له، ويقول: إنما جئنا معتمرين، معنا الهدي معكوفاً، فنطوف بالبيت ونحل وننصرف. فعقروا جمل النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ولي عقره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله، فمنعه من هناك من قومه حتى خلوا سبيل خراش، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكد ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما لقي فقال: يا رسول الله ابعث رجلاً أمنع مني! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريشٍ، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، قد عرفت قريشٌ عداوتي لها، وليس بها من بني عديٍّ من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً. قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجلٍ أعز بمكة مني، وأكثر عشيرةً وأمنع، عثمان بن عفان. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه فقال: اذهب إلى قريشٍ فخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زواراً لهذا البيت، معظيمن لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف. فخرج عثمان حتى أتى بلدح، فيجد قريشاً هنالك فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافةً، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه! وأخرى تكفون، ويلي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمدٍ فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمدٌ كنتم بالخيار، أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون؛ إن الحرب قد نهكتكم وأذهبت بالأماثل منكم! وأخرى، إن رسول الله يخبركم أنه لم يأت لقتال أحد، إنما جاء معتمراً، معه الهدي عليه القلائد ينحره وينصرف. فجعل عثمان رضي الله عنه يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذاأبداً، ولا دخلها علينا عنوةً، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا. فقام إليه أبان ابن سعد بن العاص، فرحب به وأجازه وقال: لا تقصر عن حاجتك! ثم نزل عن فرسٍ كان عليه فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان بن حرب، وصفوان ابن أمية وغيرهم، منهم من لقي ببلدح ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إنم محمداً لا يدخلها علينا أبداً! قال عثمان رضي الله عنه: ثم كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجالٍ ونساءٍ مستضعفين فأقول: إن رسول الله يبشركم بالفتح ويقول: " أظلكم حتى لا يستخفى بمكة الإيمان " . فقد كنت أرى الرجل منهم والمرأة نتتحب حتى أظن أنه يموت فرحاً بما خبرته، فيسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخفي المسألة، ويشتد ذلك على أنفسهم، ويقولون: أقرأ على رسول الله منا السلام؛ إن الذي أنزله بالحديبيية لقادرٌ على أن يدخله بطن مكة! وقال المسلمون: يا رسول الله، وصل عثمان إلى البيت فطاف! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن عثمان يطوف بالبيت ونحن محصورون. قالوأ: يا رسول الله، وما يمنعه وقد
وصل إلى البيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف، فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.صل إلى البيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف، فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل، وكان الرجل من أصحابه يبيت على الحرس حتى يصبح يطيف بالعسكر، فكان ثلاثةٌ من أصحابه يتناوبون الحراسة: أوس بن خولي، وعباد بن بشر، ومحمد بن مسلمة. فكان محمد بن مسلمة على فرس النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً من تلك الليالي وعثمان بمكة بعد، وقد كانت قريشٌ بعثت ليلاً خمسين رجلاً، عليهم مكرز بن حفص، وأمروهم أن يطيفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يصيبوا منهم أحداً أو يصيبوا منهم غرة، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان بمكة قد أقام بها ثلاثاً يدعو قريشاً، وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهليهم؛ فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان وأصحابه قد قتلوا، فذلك حين دعا إلى البيعة. وبلغ قريشاً حبس أصحابهم، فجاء جمعٌ من قريشٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة، واسروا أيضاً من المشركين حينئذٍ أسرى؛ ثم إن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يؤم منازل بني مازن بن النجار، وقد نزلت في ناحية من الحديبية جميعاً. قالت أم عمارة: والرسل تختلف بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً في منزلنا. قالت: فظننت أنه يريد حاجةً فإذا هو قد بلغه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد قتل، فجلس في رحالنا ثم قال: إن الله أمرني بالبيعة. قالت: فأقبل الناس يبايعونه في رحالنا حتى تدارك الناس، فما بقي لنا متاعٌ إلا وطىء! وزوجها غزية بن عمرو. وقالت: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يومئذٍ. قالت: فكأني أنظر إلى المسلمين قد تلبسوا السلاح، وهو معنا قليلٌ؛ إنما خرجنا عماراً، فأنا أنظر إلى غزية ابن عمرو وقد توشح بالسيف، فقمت إلى عمودٍ كنا نستظل به فأخذته في يدي، ومعي سكين قد شددته في وسطي، فقلت: إن دنا مني أحدٌ رجوت أن أقتله. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يبايع الناس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه آخذٌ بيده، فبايعهم على ألا يفروا. وقال قائل: بايعهم على الموت. ويقال: أول الناس بايع سنان بن أبي سنان ابن محصن، فقال: يا رسول الله، أبايعك على ما في نفسك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على بيعة سنان بن أبي سنان، وكان المسلمون الذين دخلوا على أهليهم عشرةً من المهاجرين؛ كرز بن جابر الفهري، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد الشمس، وعبد الله بن حذافة، وأبو الروم بن عمير، وعمير بن وهب الجمحي، وعبد الله بن أمية بن وهب حليف سهيل في بني أسد بن عبد العزى.
فلما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: سهل أمرهم! قال: من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا ولا ذوي الأحلام منا؛ بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا! فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت آخر مرة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني غير مرسلهم حتى ترسل أصحابي. قال سهيل: أنصفتنا! فبعث سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص إلى قريشٍ الشتيم بن عبد مناف التيمي: إنكم حبستم رجالاً من أصحاب محمدٍ بينكم وبينهم أرحام، لم تقتلوهم وقد كنا لذلك كارهين! وقد أبى محمد أن يرسل من أسر من أصحابكم حتى ترسلوا أصحابه، وقد أنصفنا، وقد عرفتم أن محمداً يطلق لكم أصحابكم. فبعثوا إليه بمن كان عندهم، وكانوا أحد عشر رجلاً، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهم الذين أسروا أول مرة وآخر مرة، فكان فيمن أسر أول مرة عمرو بن أبي سفيان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يومئذٍ تحت شجرةٍ خضراء، وقد كان مما صنع الله للمسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديه فنادى: إن روح القدس قد نزل على الرسول وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا. قال ابن عمر: فخرجت مع أبي وهو ينادى للبيعة، فلما فرغ من النداء أرسلني أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أني قد أذنت الناس. قال عبد الله: فأرجع فأجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، فبايعته الثانية. قال عبد الله لعمر أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له فرجع؛ وكان يمسك بيد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع. فلما نظرت قريش - سهيل بن عمرو، وحويطب ابن عبد العزى ومن كان معه، وعيون قريش - إلى ما رأت من سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب، اشتد رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية. فلما رجع عثمان رضي الله عنه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشجرة فبايعه؛ وقد كان قبل ذلك حين بايع الناس قال: إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله، فأنا أبايع له! فضرب يمينه على شماله.
قال الواقدي: حدثني جابر بن سليم، عن صفوان بن عثمان، قال: فكانت قريش قد أرسلت إلى عبد الله بن أبي: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل. وابنه جالس عنده فقال له ابنه: يا أبت، أذكرك الله أن تفضحنا في كل موطن؛ تطوف بالبيت ولم يطف رسول الله؟ فأبى ابن أبي وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ذلك فسر به. ورجع حويطب بن عبد العزى وسهيل بن عمرو ومكرز بن حفص إلى قريش، فأخبروهم بما رأوا من سرعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وما جعلوا له، فقال أهل الرأي منهم: ليس خيرٌ من أن نصالح محمداً على أن ينصرف عنا عامة هذا ويرجع قابل، فيقيم ثلاثاً وينحر هديه وينصرف، ويقيم ببلدنا ولا يدخل علينا. فأجمعوا على ذلك، فلما أجمعت قريشٌ على الصلح والموادعة بعثوا سهيل بن عمرو ومعه حويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص وقالوا: ائت محمداً فصالحه، وليكن في صلحك لا يدخل في عامه هذا، فوالله لا يتحدث العرب أنك دخلت علينا عنوةً. فأتى سهيل للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حين طلع قال: أراد القوم الصلح. فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال الكلام، وتراجعوا، وترافعت الأصوات وانخفضت.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن الحارث ابن عبد الله بن كعب، قال: سمعت أم عمارة تقول: إني لأنطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً يومئذٍ متربعاً، وإن عباد بن بشر وسلمة بن أسلم بن حريش مقنعان بالحديد، قائمان على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رفع سهيل بن عمرو صوته قالا: اخفض من صوتك عند رسول الله! وسهيل باركٌ على ركبتيه، رافعٌ صوته كأني أنظر إلى علم في شفته وإلى أنيابه، وإن المسلمين لحول رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس.
قالوا: فلما اصطلحوا فلم يبق إلا الكتاب، وثب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني. فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، ألسنا بالمسلمين؟ فقال: بلى! فقال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غرزه ! فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيعه الله! ولقي عمر من القضية أمراً كبيراً، وجعل يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام ويقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا رسول الله ولن يضيعني قال: فجعل يرد على النبي صلى الله عليه وسلم الكلام. قال: يقول أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول؟ تعوذ بالله من الشيطان واتهم رأيك! قال عمر رضي الله عنه: فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم حياءً، فما أصابني قط شيءٌ مثل ذلك اليوم، ما زلت أصوم وأتصدق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذٍ. فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: قال لي عمر في خلافته، وذكر القضية: ارتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذٍ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعةً تخرج عنهم رغبةً عن القضية لخرجت. ثم جعل الله تبارك وتعالى عاقبتها خيراً ورشداً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم.
قال أبو سعيد الخدري: جلست عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً، فذكر القضية فقال: لقد دخلني يومئذٍ من الشك، وراجعت النبي صلىالله عليه وسلم يومئذٍ مراجعةً ما رجعته مثلها قط، ولقد عتقت فيما دخلني يومئذٍ رقاباً، وصمت دهراً، وإني لأذكر ما صنعت خالياً فيكون أكبر همي، ثم جعل الله عاقبة القضية خيراً، فينبغي للعباد أن يتموا الرأي؛ والله لقد دخلني يومئذٍ من الشك حتى قلت في نفسي: لو كنا مائة رجلٍ على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبداً! فلما وقعت القضية أسلم في الهدنة أكثر ممن كان أسلم من يوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الحديبية، وما كان في الإسلام فتحٌ أعظم من الحديبية. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصلح، لأنهم خرجوا لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حلق رأسه، وأنه دخل البيت، فأخذ مفتاح الكعبة، وعرف مع المعرفين! فلما رأوا الصلح دخل الناس من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا يهلكون. فبينا الناس على ذلك قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب، أقبل أبو جندل بن سهيل، قد أفلت يرسف في القيد متوشح السيف خلا له أسفل مكة؛ فخرج من أسفلها حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكاتب سهيلاً، فرفع سهيلٌ رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه سهيل فضرب وجهه بغصن شوكٍ وأخذ بلبته وصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شراً إلى ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. قال: يقول حويطب بن عبد العزى لمكرز بن حفص: ما رأيت قوماً قط اشد حباً لمن دخل معهم من أصحاب محمدٍ لمحمد وبعضهم لبعض! أما إني أقول لك لا تأخذ من محمدٍ نصفاً أبداً بعد هذا اليوم، حتى يدخلها عنوةً! فقال مكرز: أنا أرى ذلك. وقال سهيل: هذا أول ما قاضيتك عليه، ردوه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شيءٍ حتى ترده إلي. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلاً أن يتركه فأبى سهيل، فقال مكرز بن حفص وحويطب: يا محمد، نحن نجيره لك. فأدخلاه فسطاطاً فأجاراه، وكف أبوه عنه. ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً! إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهداً، وإنا لا نغدر! وعاد عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال رسول الله: إني رسول الله، ولن أعصيه ولن يضيعني. فانطلق عمر حتى جاء إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يعصيه ولن يضيعه، ودع عنك ما ترى يا عمر! قال عمر: فوثبت إلى أبي جندل أمشي إلى جنبه. وسهيل بن عمرو يدفعه، وعمر يقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، وإنما هو رجل وأنت رجل ومعك السيف! فرجوت أن يأخذ السيف ويضرب أباه، فضن الرجل بأبيه. فقال عمر: يا أبا جندل، إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فرجلٌ برجلٍ! قال: وأقبل أبو جندل على عمر فقال: مالك لا تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله وقتل غيره. قال أبو جندل: ما أنت بأحق بطاعة رسول الله مني! وقال عمر ورجالٌ معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف مع المعرفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلق رأسي ورءوسكم ببطن مكة، وأعرف مع المعرفين! ثم أقبل على عمر فقال: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؟ أنسيتم يوم كذا؟ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم أموراً - أنسيتم يوم كذا؟
فقال المسلمون: صدق الله ورسوله يا نبي الله، ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم بالله وبأمره منا! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: أي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: أي رسول الله، ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من صلح الحديبية! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه؛ والعباد يعجلون، والله تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد الله. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجه قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيلٍ يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب أن محمداً رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام؛ وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة!قال المسلمون: صدق الله ورسوله يا نبي الله، ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم بالله وبأمره منا! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: أي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: أي رسول الله، ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من صلح الحديبية! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه؛ والعباد يعجلون، والله تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد الله. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجه قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيلٍ يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب أن محمداً رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام؛ وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة! فلما حضرت الدواة والصحيفة بعد طول الكلام والمراجعة فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو، ولما التأم الأمر وتقارب، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يكتب الكتاب بينهم، ودعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا أحد الرجلين، ابن عمك علي أو عثمان بن عفان! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً يكتب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب كما نكتب باسمك اللهم. فضاق المسلمون من ذلك وقالوا: هو الرحمن. وقالوا: لا تكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذاً لا أقاضيه على شيءٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم! هذا ما اصطلح عليه رسول الله. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فضج المسلمون منها ضجةً هي أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجالٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: لا نكتب إلا محمدٌ رسول الله!
فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي فروة، عن واقد بن عمرو، قال: حدثني من نظر إلى أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذا بيد الكاتب فأمسكاها وقالا : لا تكتب إلا محمدٌ رسول الله، وإلا فالسيف بيننا! علام نعطي هذه الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومىء بيده إليهم: اسكتوا! وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقبل على مكرز بن حفص ويقول: ما رأيت قوماً أحوط لدينهم من هؤلاء القوم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. فنزلت هذه الآية في سهيل حين أبي أن يقر بالرحمن: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا محمدٌ بن عبد الله، فاكتب! فكتب: باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا عيبةً مكفوفة ؛ وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمدٍ وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريشٍ وعقدها فعل؛ وأنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه رده إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمدٍ لم ترده؛ وأن محمداً يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثاً، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب. شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفا، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد ابن مسلمة، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف؛ وكتب ذلك على صدر هذا الكتاب، فلما كتب الكتاب قال سهيل: يكون عندي! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عندي! فاختلفا فكتب له نسخةً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب الأول وأخذ سهيل نسخته، وكان عنده. ووثبت من هناك خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمدٍ وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا. ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل مع قريشٍ في عهدها وعقدها، ونحن على من وراءنا من قومنا. فقال حويطب لسهيل: بادأنا أخوالك بالعداوة وقد كانوا يستترون منا، قد دخلوا في عهد محمدٍ وعقده! قال سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمنا قد دخلوا مع محمد، قومٌ اختاروا لأنفسهم أمراً فما نصنع بهم؟ قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر. قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر! فإنهم أهل شؤم، فيقعوا بخزاعة فيغضب محمدٌ لحلفائه، فينقض العهد بيننا وبينه. قال حويطب: حظوت والله أخوالك بكل وجه! فقال سهيل: ترى أخوالي أعز علي من بني بكر؟ ولن والله لا تفعل قريش شيئاً إلا فعلته، فإذا أعانت بني بكر على خزاعة فإنما أنا رجلٌ من قريش، وبنو بكر أقرب إلي في قدم النسب، وإن كان لهؤلاء لخؤولة، وبنو بكر من قد عرفت، لنا منهم مواطن كلها ليست بحسنةٍ، منها يوم عكاظ.
قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب وانطلق سهيل بن عمرو وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا واحلقوا! فلم يجبه منهم رجلٌ إلى ذلك، فقالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك يأمرهم، فلم يفعل واحدٌ منهم ذلك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على أم سلمة زوجته مغضباً شديد الغضب، وكانت معه في سفره ذلك، فاضطجع فقالت: ما لك يا رسول الله؟ مراراً لا تجيبني . ثم قال: عجباً يا أم سلمة! إني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مراراً، فلم يجبني أحدٌ من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون في وجهي! قالت، فقلت: يا رسول الله، انطلق أنت إلى هديك فانحره، فإنهم سيقتدون بك. قالت: فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه، ثم خرج وأخذ الحربة ينهم هديه. قالت أم سلمة: فكأني أنظر إليه حين يهوي بالحربة إلى البدنة رافعاً صوته: بسم الله والله أكبر! قالت: فما هذا إلا أن رأوه نحر، فتواثبوا إلى الهدي، فازدحموا عليه حتى خشيت أن يغم بعضهم بعضاً.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبعاً بثوبه والحربة في يديه ينحر بها.
حدثني مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: وأشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان الهدي سبعين بدنة. وكان جمل أبي جهل قد غنمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فكان المسلمون يغزون عليه المغازي، وكان قد ضرب في لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم التي استاق عيينة بن حصن، ولقاحه التي كانت بذي الجدر التي كان ساقها العرنيون، وكان جمل أبي جهل نجيباً مهرياً كان يرعى مع الهدي، فشرد قبل القضية فلم يقف حتى انتهى إلى دار أبي جهل وعرفوه، وخرج في أثره عمرو بن عنمة السلمي فأبى أن يعطيه له سفهاءٌ من سفهاء مكة، فقال سهيل بن عمرو: ادفعوه إليه. فأعطوا به مائة ناقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أنا سميناه في الهدي فعلنا. فنحر الجمل عن سبعة، أحدهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وكان ابن المسيب يقول: كان الهدي سبعين، وكان الناس سبعمائة، وكان كل بدنةٍ عن عشرة. والقول الأول أثبت عندنا أنه ست عشرة مائة. قال: وقام طلحة بن عبيد الله ينحر بدناتٍ له ساقها من المدينة، وعبد الرحمن أيضاً، وعثمان بن عفان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل، وكان يصلي في الحرم. وحضره يومئذٍ من يسأل من لحوم البدن معتراً غير كبير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيم من لحوم البدن وجلودها. قالت أم كرز الكعبية: جئت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لحوم الهدي حين نحر بالحديبية، فسمعته يقول: عن الغلام شاتان مكافئتان والجارية شاة. وأكل المسلمون من هديهم الذي نحروا يومئذٍ وأطعموا المساكين ممن حضرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بعشرين بدنةً لتنحر عند المروة مع رجل من أسلم، فنحرها عند المروة وقسم لحمهها.
وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، عن أم عمارة، قالت: فأنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من نحر البدن فدخل قبةً له من أدمٍ حمراء، فيها الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إليه قد أخرج رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين! قيل: يا رسول الله، والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين - ثلاثاً. ثم قال: والمقصرين.
فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: وأنا أنظر إليه حين حلق رأسه، ورمى بشعره على شجرةٍ كانت إلى جنبه من سمرة خضراء. قالت أم عمارة: فجعل الناس يأخذون الشعر من فوق الشجرة فيتحاصون فيه، وجعلت أزاحم حتى أخذت طاقاتٍ من شعرٍ. فكانت عندها حتى ماتت تغسل للمريض. قال: وحلق يومئذٍ ناسٌ، وقصر آخرون. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: وقصرت يومئذٍ أطراف شعري. وكانت أم عمارة تقول: قصرت يومئذ - بمقص معي - الشعر وما شد.
حدثني خراش بن هنيد، عن أبيه، قال: كان الذي حلقه خراش ابن أمية.
قالوا: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال عشرين ليلة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزل بمر الظهران ثم نزل عسفان، فأرملوا من الزاد، فشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد بلغوا من الجوع - وفي الناس ظهر - وقالوا: فننحر يا رسول الله وندهن من شحومه، ونتخذ من جلوده حذاءً! فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لا تفعل فإن يك في الناس بقية ظهرٍ يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم ثم ادع الله فيها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنطاع فبسطت، ثم نادى مناديه: من كان عنده بقيةٌ من زاد فلينثره على الأنطاع. قال أبو شريح الكعبي: فلقد رأيت من يأتي بالتمرة الواحدة، وأكثرهم لا يأتي بشيءٍ، ويأتي بالكف من الدقيق، والكف من السويق، وذلك كله قليل. فلما اجتمعت أزوادهم وانقطعت موادهم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فدعا بالبركة، ثم قال: قربوا أوعيتكم! فجاءوا بأوعيتهم. قال أبو شريح: فأنا حاضرٌ، فيأتي الرجل فيأخذ ما شاء من الزاد حتى إن الرجل ليأخذ ما لا يجد له محملاً؛ ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا وهم صائفون. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا معه، فشربوا من الماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم، فجاء ثلاثة نفرٍ، فجلس اثنان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب واحدٌ معرضاً، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فتاب، فتاب الله عليه، وأما الثالث فأعرض، فأعرض الله عنه.
فحدثني معاذ بن محمد قال، سمعت شعبة مولى ابن عباس قال: سمعت ابن عباس يقول، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منصرفه من الحديبية، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني. قال عمر: فقلت: ثكلتك أمك يا عمر! نذرت رسول الله ثلاثاً، كل ذلك لا يجيبني! قال: فحركت بعيري حتى تقدمت الناس، وخشيت أن يكون نزل في قرآنٌ، فأخذني ما قرب وما بعد، ولما كنت راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وكراهتي القضية، فإني لأسير مهموماً متقدماً للناس، فإذا منادٍ! ينادي: يا عمر بن الخطاب! فوقع في نفسي ما الله به أعلم، ثم أقبلت حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت فرد علي السلام وهو مسرور، ثم قال: أنزلت علي سورةٌ هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس؛ فإذا هو يقرأ " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " . فبشره بمغفرته، وإتمام نعمته ونصره، وطاعة من أطاع الله تعالى، ونفاق من نافق؛ فأنزل الله على ذلك عشر آيات.
وحدثني مجمع بن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن جارية، قال: لما كنا بضجنان راجعين من الحديبية رأيت الناس يركضون فإذا هم يقولون: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن، فركضت مع الناس، حتى توافينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، فلما نزل بها جبريل عليه السلام قال: يهنيك يا رسول الله! فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون.
وكان مما نزل في الحديبية: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " قال: قضينا لك قضاءً مبيناً؛ فالفتح قريش وموادعتهم، فهو أعظم الفتح. " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك " قال: ما كان قبل النبوة وما تأخر. قال: ما كان قبل الموت إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم. " ويتم نعمته عليك " ، بصلح قريش؛ " ويهديك صراطاً مستقيماً " ، قال: الحق؛ " وينصرك الله نصراً عزيزاً " حتى تظهر فلا يكون شرك. " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " ، قال: الطمأنينة؛ " ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم " ، قال: يقيناً وتصديقاً؛ " ولله جنود السموات والأرض " . قال عز وجل: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم " ، قال: ما اجترحوا؛ " وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً " ، يقول: فوزاً لهم أن يغفر لهم سيئاتهم؛ " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء " ، يعني الذين مر عليهم بين مكة والمدينة؛ من مزينة وجهينة وبني بكر، واستنفرهم إلى الحديبية فاعتلوا وتشاغلوا بأهليهم وأموالهم: يقول: عليهم ما تمنوا وظنوا، وذلك أنهم قالوا: إنما خرج محمدٌ في أكلة رأس ، يقدم على قومٍ موتورين، فأبوا أن ينفروا معه. " إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً " ، قال: شاهداً عليهم ومبشراً لهم بالجنة ونذيراً لهم من النار. " وتعزروه " ، قال: تنصروهه وتوقره وتعظموه؛ " وتسبحوه بكرةً وأصيلاً " ، قال: تصلوا لله بكرةً وعشياً. " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايعوه يومئذٍ على ألا يفروا، ويقال: على الموت؛ " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " ، يقول: من بدل أو غير ما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما ذلك على نفسه، ومن أوفى فإن له الجنة، " سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " ، قال: هم الذين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنفرهم واستعان بهم في بدايته فتشاغلوا بأهليهم وأموالهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إلى المدينة جاءوه يقولون استغفر لنا إباءنا أن نسير معك. يقول الله عز وجل: " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " ، يقول: سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً " ، إلى قوله عز وجل: " وكنتم قوماً بوراً " ، قال: قولهم حين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما محمد في أكلة رأس، يخرج إلى قوم موتورين معدين، ومحمد لا سلاح معه ولا عدة " فأبوا أن ينفروا، " وزين ذلك في قلوبكم " ، قال: كان يقيناً في قلوبهم. وقوله عز وجل: " وكنتم قوماً بوراً " ، يقول: هلكى. وقوله: " سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها... " إلى آخر الآية. قال: هم الذين تخلفوا عنه وأبوا أن ينفروا معه، هؤلاء العرب من مزينة وجهينة وبكر، لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم التوجه إلى خيبر قالوا: نحن نتبعكم. يقول الله عز وجل، " يريدون أن يبدلوا كلام الله " . قال: الذي قضى الله، قضى ألا تتبعونا، وهو كلام الله، يقال قضاءه: يقول: " قل للمخلفين من الأعراب " يعني هؤلاء الذين تخلفوا عنك في عمرة الحديبية. " ستدعون إلى قومٍ أولي باسٍ شديد " . قال: هم فارس والروم؛ ويقال: هوازن، ويقال: بني حنيفة يوم اليمامة؛ " تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً اليماً " ، قال: إن أبيتم أن تقاتلوا كما أبيتم أن تخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة الحديبية.
" ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرجٌ " قال: لما نزلت العورات الثلاث. " ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم " أخرجوا العميان والمرضى والعرجان من بيوتهم. فأنزل الله عز وجل: " ليس على الأعمى حرجٌ " ، ويقال: هذا في الغزو.
وحدثني محمد ومعمر، عن الزهري، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: نزلت هذه الآية في قومٍ من المسلمين كانوا إذا نفروا للغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الزمنى من ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك رخصةً لهم بالإذن في كل. " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " ، قال: وهي سمرة خضراء؛ " فعلم ما في قلوبهم " ، قال: صدق نياتهم. " فأنزل السكينة عليهم " ، يعني الطمأنينة، وهو بيعة الرضوان؛ " فتحاً قريباً " ، قال: صلح قريش، " ومغانم كثيرةً تأخذونها " إلى يوم القيامة. وفي قوله عز وجل: " فعجل لكم هذه " ، قال: فتح خيبر؛ " وكف أيدي الناس عنكم " ، قال: الذين كانوا طافوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من المشركين رجاء أن يصيبوا من المسلمين غرة، فأسرهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسراً؛ " ولتكون آيةً للمؤمنين " . قال: عبرة ، صلح قريش وحكمٌ لم يكن فيه سيفٌ، وكان فتحاً عظيماً. " وأخرى لم تقدروا عليها " ، قال: فارس والروم، ويقال مكة. " ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً " ، يقول: لو قاتلتكم قريش انهزموا ثم لم يكن لهم من الله ولي، يعني حافظ، ولا نصير من العرب. " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً " ، قال: قضاء الله الذي قضى ولا تبديل أن رسله يظهرون ويغلبون. " وهو الذي طف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " ، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسروا من المشركين بالحديبية أسرى، فكف الله أيدي المسلمين عن قتلهم؛ " وأيديهم عنكم " ، من كانوا حبسوا بمكة، فذلك الظفر. " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله " ، يقول: حيث لم يصل إلى البيت وحبس بالحديبية؛ " ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرةٌ بغير علمٍ ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً " ، يقول: لولا رجال ونساءٌ مستضعفون بمكة؛ " أن تطؤهم " ، يقول: أن تقتلوهم ولا تعرفوهم فيصيبكم من ذلك بلاءٌ عظيمٌ؛ حيث قتلتم المسلمين وأنتم لا تعلمون؛ " لو تزيلوا " ، يقول: لو خرجوا من عندهم؛ " لعذبنا الذين كفروا " ، يقول: سلطناكم عليهم بالسيف. " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " حيث أبى سهيل بن عمرو أن يكتب " محمدٌ رسول الله " وحيث أبى أن يكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " . " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " ، يقول: بينهم؛ " وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " ، يقول: لا إله إلا الله هم أحق بها وأولى من المشركين. " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام " إلى قوله: " فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً " ، والفتح القريب صلح الحديبية. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فحلق وحلق معه قومٌ، وقصر من قصر، ودخل في حجته ومعه أصحابه آمنين لا يخاف إلا الله عز وجل. " محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " قال: يبتغون بذلك الركوع والسجود الفضل من الله والرضوان. " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ، قال: أثر الخشوع والتواضع؛ " مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع " ، فهذا في الإنجيل، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، ثم ازدادوا، ثم كثروا، ثم استغلظوا، وقال: " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " ، قال: هي مفصولة بأنهم آمنوا بالله ورسله يصدقونهم. قال بعد: " والشهداء عند ربهم " وفي قوله عز وجل: " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعةٌ " يعني ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية.
كانت الحرب قد حجزت بين الناس وانقطع الكلام، وإنما كان القتال حيث التقوا، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وآمن الناس بعضهم بعضاً، فلم يكن أحدٌ تكلم بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل في الإسلام، حتى دخل في تلك الهدنة صناديد المشركين الذين يقومون بالشرك وبالحرب - عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وأشباهٌ لهم، وإنما كانت الهدنة حتى نقضوا العهد اثنين وعشرين شهراً، دخل فيها مثل ما دخل في الإسلام قبل ذلك وأكثر، وفشا الإسلام في كل ناحيةٍ من نواحي العرب.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير - وهو عتبة بن أسيد بن جارية حليف بني زهرة - مسلماً، قد انفلت من قومه فسار على قدميه سعياً، فكتب الأخنس بن شريق، وأزهر ابن عبد عوف الزهري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، استأجراه ببكرٍ؛ ابن لبون - وهو خنيس بن جابر - وخرج مع العامري مولىً له يقال له كوثر، وحملا خنيس بن جابر على بعيرٍ، وكتبا يذكران الصلح بينهم، وأن يرد إليهم ابا بصير، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام فقال خنيس: يا محمد، هذا كتابٌ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فقرأ عليه الكتاب فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه، وأشهدنا بيننا وبينك، من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير أن يرجع معهم ودفعه إليهما، فقال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً، قال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق يا أبا بصير، فإن الله سيجعل لك مخرجاً. فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العامري وصاحبه؛ فخرج معهما؛ وجعل المسلمون يسرون إلى أبي بصير: يا أبا بصير، أبشر! فإن الله جاعلٌ لك مخرجاً، والرجل يكون خيراً من ألف رجل، فافعل وافعل! يأمرونه بالذين معه. فخرجوا حتى كانوا بذي الحليفة - انتهوا إليها عند صلاة الظهر - فدخل أبو بصير مسجد ذي الحليفة فصلى ركعتين صلاة المسافر؛ ومعه زا دٌ له يحمله من تمر، فمال إلى أصل جدار المسجد فوضع زاده فجعل يتغدى، وقال لصاحبيه: ادنوا فكلا! فقالا: لا حاجة لنا في طعامك. فقال: ولكن لو دعوتموني إلى طعامكم لأجبتكم وأكلت معكم. فاستحييا فدنوا ووضعا أيديهما في التمر معه، وقدما سفرةً لهما فيها كسرٌ، فأكلوا جميعاً، وآنسهم، وعلق العامري بسيفه على حجرٍ في الجدار، فقال أبو بصير للعامري: يا أخا بني عامر، ما اسمك؟ فقال: خنيس. قال: ابن من؟ قال: ابن جابر. فقال: يا أبا جابر أصارمٌ سيفك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله العامري وكان أقرب إلى السيف من أبي بصير، فأخذ أبو بصير بقائم السيف، والعامري ممسكٌ بالجفن، فعلاه به حتى برد، وخرج كوثر هارباً يعدو نحو المدينة، وخرج أبو بصير في أثره، فأعجزه حتى سبقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو بصير: والله لو أدركته لأسلكته طريق صاحبه! فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في أصحابه بعد العصر إذ طلع المولى يعدو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجلٌ قد رأى ذعراً! فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك، مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، وأفلت منه ولم أكد! وكان الذي حبس أبا بصير احتمال سلبهما على بعيرهما، فلم يبرح مكانه قائماً حتى طلع أبو بصبر، فأناخ البعير بباب المسجد فدخل متوشحاً بالسيف - سيف العامري - فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله: وفت ذمتك وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، وتبغيت بي أن أكذب بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلٌ أمه، محش حربٍ لو كان معه رجال!
وجاء أبو بصير بسلب العامري خنيس بن جابر ورحله وسيفه، فقال: خمسه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه؛ ولكن شأنك بسلب صاحبك! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكوثر: ترجع به إلى أصحابك. فقال: يا محمد، قد أهمتني نفسي، ما لي به قوةٌ ولا يدان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: اذهب حيث شئت! فخرج أبو بصير حتى أتى العيص، فنزل منه ناحيةً على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام. قال أبو بصير: فخرجت وما معي من الزاد إلا كفٌّ من تمرٍ فأكلتها ثلاثة أيام، وكنت آتي الساحل فأصيب حيتاناً قد ألقاها البحر فآكلها. وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة، وأرادوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير " ويل أمه، محش حربٍ لو كان له رجال " فجعلوا يتسللون إلى أبي بصير. وكان الذي كتب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فلما جاءهم كتاب عمر فأخبرهم أنه بالساحل على طريق عير قريش، فلما ورد عليهم كتاب عمر جعلوا يتسللون رجلاً رجلاً حتى انتهوا إلى أبي بصير فاجتمعوا عنده، قريب من سبعين رجلاً، فكانوا قد ضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحدٍ منهم إلا قتلوه، ولا تمر عيرٌ إلا اقتطعوها، حتى أحرقوا قريشاً، لقد مر ركبٌ يريدون الشام معهم ثلاثون بعيراً، وكان هذا آخر ما اقتطعوا، لقد أصاب كل رجلٍ منهم، ما قيمته ثلاثون ديناراً. فقال بعضهم: ابعثوا بالخمس إلى رسول الله. فقال أبو بصير: لا يقبله رسول الله؛ قد جئت بسلب العامري، فأبى أن يقبله، وقال " إني إذا فعلت هذا لم أف لهم بعهدهم " . وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير، فكان يصلي بهم ويفرضهم ويجمعهم، وهم سامعون له مطيعون. فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير للعامري اشتد ذلك عليه وقال: والله ما صالحنا محمداً على هذا. قالت قريش: قد برىء محمدٌ منه، قد أمكن صاحبكم فقتله بالطريق، فما على محمدٍ في هذا؟ فقال سهيل: قد والله عرفت أن محمداً قد أوفى، وما أوتينا إلا من قبل الرسولين. قال: فأسند ظهره إلى الكعبة وقال: والله، لا أؤخر ظهري حتى يودي هذا الرجل. قال أبو سفيان: إن هذا لهو السفه! والله لا يود! ثلاثاً. وأنى قريش تديه، وإنما بعثته بنو زهرة؟ فقال سهيل: قد والله صدقت، ما ديته إلا على بني زهرة، وهم بعثون ولا يخرج ديته غيرهم قصرةً ؛ لأن القاتل منهم، فهم أولى من عقله. فقال الأخنس: والله لا نديه، ما قتلنا ولا أمرنا بقتله، قتله رجل مخالف لديننا متبع لمحمد فأرسلوا إلى محمدٍ يديه. قال أبو سفيان: لا، ما على محمد دية ولا غرم؛ قد برىء محمد؛ ما كان على محمدٍ أكثر مما صنع، لقد أمكن الرسولين منه. فقال الأخنس: إن ودته قريشٌ كلها كانت زهرة بطناً من قريشٍ تديه معهم، وإن لم تده قريشٌ فلا نديه أبداً. فلم تخرج له دية حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح. فقال موهب بن رياح، فيما قال سهيل في بني زهرة، وما أراد أن يغرمهم من الدية:
أتاني عن سهيلٍ ذرو قولٍ ... ليوقظني وما بي من رقاد
فإن كنت العتاب تريد مني ... فما بيني وبينك من بعاد
متى تغمز قناتي لا تجدني ... ضعيف الرأي في الكرب الشداد
يسامي الأكرمين بعز قومٍ ... هم الرأس المقدم في العباد
أنشدنيها عبد الله بن أبي عبيدة، وسمعتهم يثبتونها.
فلما بلغ أبو بصير من قريش ما بلغ من الغيظ، بعثت قريش رجلاً، وكتبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يسألونه بأرحامهم: الا تدخل أبا بصير وأصحابه، فلا حاجة لنا بهم؟ وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير أن يقدم بأصحابه معه؛ فجاءه الكتاب وهو يموت، فجعل يقرأ وهو يموت، فمات وهو في يديه، فقبره أصحابه هناك وصلوا عليه، وبنوا على قبره مسجداً، وأقبل أصحابه إلى المدينة وهم سبعون رجلاً، فيهم الوليد بن الوليد بن المغيرة. فلما دخل الحرة عثر فانقطعت إصبعه فربطها وهو يقول:
هل أنت إلا إصبعٌ دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
فدخل المدينة فمات بها. فقالت أم سلمة: يا رسول الله، ايذن لي أبكي على الوليد. قال: ابكي عليه! قال: فجمعت النساء وصنعت لهن طعاماً، فكان مما ظهر من بكائها:
يا عين فابكي للولي ... د بن الوليد بن المغيره
مثل الوليد بن الولي ... د أبي الوليد كفى العشيره
فحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ترداد الوليد قال: ما اتخذوا إلا حناناً.
وقالوا: لا نعلم قرشيةً خرجت بين أبويها مسلمةً مهاجرةً إلى الله إلا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، كانت تحدث تقول: كنت أخرج إلى بادية لنا بها أهلي فأقيم فيهم الثلاث والأربع، وهي من ناحية التنعيم - أو قالت بالحصحاص - ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي، حتى أجمعت السيرن فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية التي كنت فيها، فلما رجع من تبعني خرجت حتى انتهيت إلى الطريق، فإذا رجلٌ من خزاعة فقال: أين تريدين؟ فقلت: حاجتي؛ فما مسألتك ومن أنت؟ فقال: رجلٌ من خزاعة. فلما ذكر خزاعة اطمأننت إليه؛ لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقده، فقلت: إني امرأةٌ من قريشٍ أريد اللحوق برسول الله، ولا علم لي بالطريق. فقال: أهل الليل والنهار ، أنا صاحبك حتى أوردك المدينة. ثم جاءني ببعيرٍ فركبته، فكان يقود بي البعير، لا والله ما يكلمني كلمةً، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده في الشجرة وتنحى عني في الشجرة، حتى إذا كان الرواح جذع البعير فقربه وولى عني، فإذا ركبته أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى تنزل؛ فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله خيراً من صاحب! فكانت تقول: نعم الحي خزاعة! قالت: فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متنقبة فما عرفتني حتى انتسبت، وكشفت النقاب فالتزمتني وقالت: هاجرت إلى الله وإلى رسوله؟ فقلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين كما رد غيري من الرجال؛ أبا جندل بن سهيل، وأبا بصير، وحال الرجال يا أم سلمة ليس كحال النساء؛ والقوم مصبحي، قد طالت غيبتي عنهم اليوم ثمانية أيامٍ منذ فارقتهم، فهم يبحثون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني، فإن لم يجدوني رحلوا إلي فساروا ثلاثاً. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته أم سلمة خبر أم كلثوم، فرحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، إني فررت بديني إليك فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، فلا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة وضعف النساء إلى ما تعرف؛ وقد رأيتك رددت رجلين إلى المشركين حتى امتنع أحدهما، وأنا امرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله نقض العهد في النساء. وأنزل الله فيهن " الممتحنة " ، وحكم في ذلك بحكمٍ رضوه كلهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد من جاء من الرجال، ولا يرد من جاءه من النساء. وقدم أخواها من الغد، الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط، فقالا: يا محمد، فِ لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض الله! فانصرفا.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: دخلت على عروة بن الزبير وهو يكتب إلى هنيد صاحب الوليد بن عبد الملك، وكان كتب يسأله عن قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " ، فكتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد إليهم من جاء بغير إذن وليه، فكان يرد الرجال، فلما هاجر النساء أبى الله ذلك أن يردهن إذا امتحن بمحنة الإسلام، فزعمت أنها جاءت راغبةً فيه، وأمره أن يرد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم ، وأن يردون عليهم إن فعلوا، فقال: " وليسئلوا ما أنفقوا " وصبحها أخواها من الغد فطلباها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها إليهم، فرجعا إلى مكة، فأخبرا قريشاً، فلم يبعثوا في ذلك أحداً، ورضوا بأن تحبس النساء " وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليمٌ حكيمٌ " " وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " ، قال: فإن فات أحداً منهم أهله إلى الكفار، فإن أتتكم امرأةٌ منهم فأصبتم فعوضوهم مما أصبتم صداق المرأة التي أتتكم؛ فأما المؤمنون فأقروا بحكم الله، وأبى المشركون أن يقروا بذلك، وأن ما ذاب للمشركين على المسلمين من صداق من هاجر من أزاواج المشركين " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم " من مال المشركين في أيديكم. ولسنا نعلم امرأةً من المسلمين فاتت زوجها باللحوق بالمشركين بعد إيمانها، ولكنه حكم حكم الله به لأمرٍ كان، والله عليمٌ حكيم. " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " ، يعني من غير أهل الكتاب، فطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه زينب بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وطلق عمر أيضاً بنت جرول الخزاعية، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة، وطلق عياض ابن غنم الفهري أم الحكم بنت أبي سفيان يومئذٍ، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي فولدت له عبد الرحمن بن أم الحكم.
غزوة خيبرحدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن حيويه لفظاً، سنة سبعٍ وسبعين وثلثمائة، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب ابن عيسى بن أبي حية، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي، قال: حدثني محمد بن عبد الله، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وابن أبي حبيبة، وعبد الرحمن ابن عبد العزيز، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل، وعائذ ابن يحيى، وعبد الحميد بن جعفر، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، وأسامة بن زيد الليثي، وأبو معشر، ومعاذ بن محمد، وإبراهيم بن جعفر، ويونس ويعقوب ابنا محمد الظفريان، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، وسعيد بن أبي زيد بن المعلى الزرقي، وربيعة بن عثمان، ومحمد بن يعقوب، وعبد الله بن يزيد، وعبد الملك وعبد الرحمن ابنا محمد بن أبي بكر، ومعمر بن راشد، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة؛ فكلٌّ قد حدثني من حديث خيبر بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء المسمين قد حدثني من حديث خيبر، فكتب ما حدثوني.
قالوا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية في ذي الحجة تمام سنة ست ، فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، وخرج في صفر سنة سبعٍ - ويقال خرج لهلال ربيع الأول - إلى خيبر. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتهيؤ للغزو فهم مجدون، وتجلب من حوله يغزون معه، وجاءه المخلفون يريدون أن يخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقالوا: نخرج معك! وقد كانوا تخلفوا عنه في غزوة الحديبية، وأرجفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، فقالوا: نخرج معك إلى خيبر، إنها ريف الحجاز طعاماً وودكاً وأموالاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا. وبعث منادياً فنادى: لا يخرجن معنا إلا راغبٌ في الجهاد، فأما الغنيمة فلا! فلما تجهز الناس إلى خيبر شق ذلك على يهود المدينة الذين هم موادعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنهم إذا دخلوا خيبر أهلك الله خيبر كما أهلك بني قينقاع والنضير وقريظة. قال: فلما تجهزنا لم يبق أحدٌ من يهود المدينة له على أحدٍ من المسلمين حقٌّ إلا لزمه، وكان لأبي الشحم اليهودي عند عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي خمسة دراهم في شعيرٍ أخذه لأهله، فلزمه، فقال: أجلني فإني أرجو أن أقدم عليك فأقضيك حقك إن شاء الله، إن الله عز وجل قد وعد نبيه خيبر أن يغنمه إياها. وكان عبد الله بن أبي حدرد ممن شهد الحديبية، فقال: يا أبا الشحم، إنا نخرج إلى ريف الحجاز في الطعام والأموال. فقال أبو الشحم حسداً وبغياً: تحسب أن قتال خيبر مثل ما تلقونه من الأعراب؟ فيها والتوراة عشرة آلاف مقاتل! قال ابن أبي حدرد: أي عدو الله! تخوفنا بعدونا وأنت في ذمتنا وجوارنا؟ والله لأرفعنك إلى رسول الله! فقلت: يا رسول الله ألا تسمع إلى ما يقول هذا اليهودي؟ وأخبرته بما قال أبو الشحم. فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إليه شيئاً، إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه بشيءٍ لم أسمعه، فقال اليهودي: يا أبا القاسم، هذا قد ظلمني وحبسني بحقي وأخذ طعامي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطه حقه. قال عبد الله: فخرجت فبعت أحد ثوبي بثلاثة دراهم، وطلبت بقية حقه فقضيته، ولبست ثوبي الآخر، وكانت علي عمامةٌ فاستدفأت بها. وأعطاني سلمة بن أسلم ثوباً آخر، فخرجت في ثوبين مع المسلمين، ونفلني الله خيراً، وغنمت امرأةً بينها وبين أبي الشحم قرابةٌ فبعتها منه بمال.
وجاء أبو عبس بن جبر فقال: يا رسول الله، ما عندنا نفقة ولا زاد ولا ثوب أخرج فيه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيقةٌ سنبلانيةٌ، فباعها بثمانية دراهم، فابتاع تمراً بدرهمين لزاده وترك لأهله نفقةً درهمين، وابتاع بردةً بأربعة دراهم. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق خيبر في ليلةٍ مقمرةٍ إذ أبصر برجل يسير أمامه، عليه شيءٌ يبرق في القمر كأنه في الشمس وعليه بيضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقيل: أبو عبس بن جبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدركوه! قال: فأدركوني فحبسوني، وأخذني ما تقدم وما تأخر، وظننت أنه قد نزل في أمرٌ من السماء، فجعلت أتذكر ما فعلت حتى لحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك تقدم الناس لا تسير معهم؟ قلت: يا رسول الله، إن ناقتي نجيبة. قال: فأين الشقيقة التي كسوتك؟ فقلت: بعتها بثمانية دراهم، فتزودت بدرهمين تمراً، وتركت لأهلي نفقةً درهمين، واشتريت بردةً بأربعة دراهم. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أنت والله يا أبا عبس وأصحابك من الفقراء! والذي نفسي بيده لئن سلمتم وعشتم قليلاً ليكثرن زادكم، وليكثرن ما تتركون لأهليكم، ولتكثرن دراهمكم وعبيدكم، وما ذاك بخيرٍ لكم! قال أبو عبس: فكان والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري. قال أبو هريرة رضي الله عنه: قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتاً من دوس، فقال قائل: رسول الله بخيبر وهو قادمٌ عليكم. فقلت: لا أسمع به ينزل مكاناً أبداً إلا جئته. فتحملنا حتى جئناه بخيبر فنجده قد فتح النطاة وهو محاصرٌ أهل الكتيبة، فأقمنا حتى فتح الله علينا. وكنا قدمنا المدينة فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة بالمدينة، فقرأ في الركعة الأولى سورة مريم وفي الآخرة: " ويلٌ للمطففين " ، فلما قرأ " إذا اكتالوا على الناس يستوفون " قلت: تركت عمي بالسراة له مكيالان، مكيال يطفف به ومكيال يتبخس به . ويقال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر، والثبت عندنا سباع بن عرفطة.
وكانت يهود خيبر لا يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم لمنعتهم وحصونهم وسلاحهم وعددهم؛ كانوا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفاً ثم يقولون: محمدٌ يغزونا؟ هيهات! هيهات! وكان من كان بالمدينة من اليهود يقولون حين تجهز النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر: ما أمنع والله خيبر منكم! لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم؛ حصون شامخات في ذرى الجبال، والماء فيها واتن ، إن بخيبر لألف دارع، ما كانت أسدٌ وغطفان يمتنعون من العرب قاطبةً إلا بهم، فأنتم تطيقون خيبر؟ فجعلوا يوحون بذلك إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قد وعدها الله نبيه أن يغنمه إياها. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فعمى الله عليهم مخرجه إلا بالظن حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحاتهم ليلاً. وكانوا قد اختلفوا فيما بينهم حيث أحسوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشار عليهم الحارث أبو زينب اليهودي بأن يعسكروا خارجاً من حصونهم ويبرزوا له، فإني قد رأيت من سار إليه من الحصون، لم يكن لهم بقاء بعد أن حاصرهم حتى نزلوا على حكمه، ومنهم من سبي ومنهم من قتل صبراً. فقالت اليهود: إن حصوننا هذه ليست مثل تلك، هذه حصون منيعة في ذرى الجبال. فخالفوه وثبتوا في حصونهم، فلما صبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاينوه أيقنوا بالهلكة.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة فسلك ثنية الوداع، ثم أخذ على الزغابة، ثم على نقمي، ثم سلك المستناخ، ثم كبس الوطيح ، ومعهم دليلان من أشجع يقال لأحدهما حسيل بن خارجة، والآخر عبد الله بن نعيم، خرج على عصر وبه مسجد، ثم على الصهباء . فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره قال لعامر بن سنان: انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك . فاقتحم عامر عن راحلته، ثم ارتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله! فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجبت والله يا رسول الله! فقال رجل من القوم: لولا متعتنا به يا رسول الله! فاستشهد عامر يوم خيبر. فكان سلمة بن الأكوع يقول: لما كنا دون خيبر نظرت إلى ظبيٍ حاقفٍ في ظل شجرة، فأتفرد له بسهمٍ فارميه فلم يصنع سهمي شيئاً، وأذعر الظبي فيلحقني عامر ففوق له السهم فوضع السهم في جنب الظبي، وينقطع وتر القوس فيعلق رصافه بجنبه، فلم يخلصه إلا بعد شد. ووقع في نفسي يومئذٍ طيرةٌ ورجوت له الشهادة فبصرت رجلاً من اليهود فيصيب نفسه فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة: ألا تحرك بنا الركب! فنزل عبد الله عن راحلته فقال:
والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمه! فقال عمر رضي الله عنه: وجبت يا رسول الله. قال الواقدي: قتل يوم مؤتة شهيداً.
قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصهباء فصلى بها العصر ثم دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق والتمر، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلوا معه، ثم قام إلى المغرب فصلى بالناس ولم يتوضأ، ثم صلى العشاء بالناس، ثم دعا بالأدلاء فجاء حسيل بن خارجة الأشجعي، وعبد الله بن نعيم الأشجعي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسيل: امض أمامنا حتى تأخذنا صدور الأودية، حتى نأتي خيبر من بينها وبين الشام، فأحول بينهم وبين الشام وبين حلفائهم من غطفان. فقال حسيل: أنا أسلك بك. فانتهى به إلى موضع له طرق، فقال له: يا رسول الله، إن لها طرقاً يؤتى منها كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمها لي! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن، ويكره الطيرة والاسم القبيح. فقال الدليل: لها طريق يقال لها حزن. قال: لا تسلكها! قال: لها طريق يقال لها شاش. قال لا تسلكها! قال: لها طريق يقال لها حاطب. قال: لا تسلكها! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما رأيت كالليلة أسماء أقبح! سم لرسول الله! قال: لها طريقٌ واحدةٌ لم يبق غيرها. فقال عمر: سمها. قال: اسمها مرحب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم اسلكها! قال عمر: ألا سميت هذا الطريق أول مرة!
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر في فوارس طليعةً، فأخذ عيناً لليهود من أشجع فقال: من أنت؟ قال: باغٍ أبتغي أبعرةً ضلت لي، أنا على أثرها. قال له عباد: ألك علمٌ بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود. قال: نعم، كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنةً، فجاءوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيها عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاحٌ وطعامٌ كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، وماءٌ واتنٌ يشربون في حصونهم، ما أرى لأحدٍ بهم طاقة. فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات وقال: ما أنت إلا عينٌ لهم، اصدقني وإلا ضربت عنقك! فقال الأعرابي: أفتؤمني على أن أصدقك؟ قال عباد: نعم. فقال الأعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود، وإن يهود يثرب بعثوا ابن عمٍّ لي وجدوه بالمدينة، قد قدم بسلعةٍ يبيعها، فبعثوه إلى كنانة بن أبي الحقيق يخبرونه بقلتكم وقلة خيلكم وسلاحكم. ويقولون له: فاصدقوهم الضرب ينصرفوا عنكم، فإنه لم يلق قوماً يحسنون القتال! وقريش والعرب قد سروا بمسيره إليكم لما يعلمون من موادكم وكثرة عددكم وسلاحكم وجودة حصونكم! وقد تتابعت قريش وغيرهم ممن يهوى هوى محمد، تقول قريش: إن خيبر تظهر! ويقول آخرون: يظهر محمد، فإن ظفر محمد فهو ذل الدهر! قال الأعرابي: وأنا أسمع كل هذا، فقال لي كنانة: اذهب معترضاً للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك، واحزرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم ما تقوى به، ثم ألق إليهم كثرة عددنا ومادتنا فإنهم لن يدعوا سؤالك، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم. فأتى به عباد النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال عمر بن الخطاب: اضرب عنقه. قال عباد: جعلت له الأمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكه معك يا عباد! فأوثق رباطاً. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر عرض عليه الإسلام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني داعيك ثلاثاً، فإن لم تسلم لم يخرج الحبل عن عنقك إلا صعداً! فأسلم الأعرابي، وخرج الدليل يسير برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى به، فيسلك بين حياض والسرير ، فاتبع صدور الأودية حتى هبط به الخرصة ، ثم نهض به حتى سلك بين الشق والنطاة. ولما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه: قفوا! ثم قال: قولوا: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت، ورب الرياح وما ذرت، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها. ثم قال: ادخلوا على بركة الله! فسار حتى انتهى إلى المنزلة، وعرس بها ساعةً من الليل، وكان اليهود يقومون كل ليلة قبل الفجر فيتلبسون السلاح ويصفون الكتائب، وهم عشرة آلاف مقاتل. وكان كنانة بن أبي الحقيق قد خرج في ركبٍ إلى غطفان يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمر خيبر سنةً، وذلك أنه بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرٌ إليهم. وكان رجلٌ من بني فزارة حليفٌ لهم قدم بسلعةٍ إلى المدينة فباعها، ثم رجع فقدم عليهم فقال: تركت محمداً يعبىء أصحابه إليكم. فبعثوا إلى حلفائهم من غطفان، فخرج كنانة بن أبي الحقيق في أربعة عشر رجلاً من اليهود يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمرٍ خيبر سنةً. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديلكٌ حتى طلعت الشمس، فأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم معهم المساحي والكرازين والمكاتل ، فلما نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل بساحتهم قالوا: محمدٌ والخميس ! فولوا هاربين حتى رجعوا إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الله أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنزلة جعل مسجداً فصلى إليه من آخر الليل نافلةً. فثارت راحلته تجر زمامها، فأدركت توجه إلى الصخرة لا تريد تركب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها مأمورة! حتى بركت عند الصخرة، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة، وأمر برحله فحط ، وأمر الناس بالتحول إليها، ثم ابتنى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عليها مسجداً، فهو مسجدهم اليوم. فلما أصبح جاءه الحباب ابن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمرٍ أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي. فقال: يا رسول الله، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدىً منهم؛ ولا أعدل منهم، وهم مرتفعون علينا. وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل؛ تحول يا رسول الله إلى موضعٍ بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقالتهم هذا اليوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله. وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك إلى الليل يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها. وحشدت اليهود يومئذٍ، فقال له الحباب: لو تحولت يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجزٌ ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.لله عليه وسلم عليها مسجداً، فهو مسجدهم اليوم. فلما أصبح جاءه الحباب ابن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمرٍ أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي. فقال: يا رسول الله، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدىً منهم؛ ولا أعدل منهم، وهم مرتفعون علينا. وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل؛ تحول يا رسول الله إلى موضعٍ بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقالتهم هذا اليوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله. وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك إلى الليل يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها. وحشدت اليهود يومئذٍ، فقال له الحباب: لو تحولت يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجزٌ ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.
وحدثني محمد بن يحيى، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت نخلاً بخيبر في النطاة مقطعةً، فكان ذلك مما قطع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة قال: قطع المسلمون في النطاة أربعمائة عذق، ولم تقطع في غير النطاة.
فكان محمد بن مسلمة ينظر إلى صور من كبيس، قال: أنا قطعت هذا الصور بيدي حتى سمعت بلالاً ينادي عزمةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع النخل! فأمسكنا. قال: وكان محمود بن مسلمة يقاتل مع المسلمين يومئذٍ، وكان يوماً صائفاً شديد الحر، وهو أول يومٍ قاتل فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل النطاة وبها بدأ، فلما اشتد الحر على محمود وعليه أداته كاملةً جلس تحت حصن ناعم يبتغي فيئه، وهو أآول حصنٍ بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن محمود أن فيه أحداً من المقاتلة، إنما ظن أن فيه أثاثاً ومتاعاً - وناعم يهودي، وله حصون ذوات عدد فكان هذا منها - فدلى عليه مرحب رحى فأصاب رأسه. فهشمت البيضة رأسه حتى سقطت جلدة جبينه على وجهه، وأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرد الجلدة فرجعت كما كانت، وعصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول إلى الرجيع وخاف على أصحابه البيات، فضرب عسكره هناك وبات فيه، وكان مقامه بالرجيع سبعة أيام، يغدو كل يوم بالمسلمين على راياتهم متسلحين ويترك العسكر بالرجيع، ثم إذا أمسى رجع إلى الرجيع. وكان قاتل أول يومٍ من أسفل النطاة، ثم عاد بعد فقاتلهم من أعلاها حتى فتح الله عليه. وكان من جرح من المسلمين حمل إلى المعسكر فدووي، وإن كان به انلاق انطلق إلى معسكر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان أول يوم قاتلوا فيه جرح من المسلمين خمسون رجلاً من نبلهم، فكانوا يداوون من الجراح. ويقال: إن قوماً شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وباء المنزل فأمرهم بالتحول إلى الرجيع، وقدموا خيبر على ثمرة خضراء وهي وبئةٌ وخيمة، فأكلوا من تلك الثمرة، وأهمدتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قرسوا الماء في الشنان، فإذا كان بين الأذانين فاحدروا الماء عليكم حدراً واذكروا اسم الله. ففعلوا فكأنما أنشطوا من عقال .
وكان كعب بن مالك يحدث: إن رجلاً من اليهود من أهل النطاة نادانا بعد ليلٍ ونحن بالرجيع: أنا آمنٌ وأبلغكم؟ قلنا: نعم. قال: فابتدرناه فكنت أول من سبق إليه فقلت: من أنت؟ فقال: رجلٌ من اليهود. فأدخلناه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اليهودي: يا أبا القاسم: تؤمني وأهلي على أن أدلك على عورة من عورات اليهود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فدله على عورة اليهود. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه تلك الساعة فحضهم على الجهاد، وخبرهم أن اليهود قد أسلمها حلفاؤها وهربوا، وأنها قد تجادلت واختلفوا بينهم. قال كعب: فغدونا عليهم فظفرنا الله بهم، فلم يكن في النطاة شيءٌ غير الذرية فلما انتهينا إلى الشق وجدنا فيه ذرية، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودي زوجته وكانت في الشق، فدفعها إليه فرأيته أخذ بيد امرأةٍ حسناء.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام. فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل عمر بن الخطاب على العسكر، فطاف عمر بأصحابه حول العسكر وفرقهم أو فرق منهم، فأتي برجلٍ من اليهود في جوف الليل فامر به عمر أن يضرب عنقه، فقال اليهودي: اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسكه عمر وانتهى به إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عمر فسلم وأدخله عليه، ودخل عمر باليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي: ما وراءك ومن أنت ؟ فقال اليهودي: تؤمني يا أبا القاسم وأصدقك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال اليهودي: خرجت من حصن النطاة من عند قومٍ ليس لهم نظام، تركتهم يتسللون من الحصن في هذه الليلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين يذهبون؟ قال: إلى أذل مما كانوا فيه، إلى الشق، وقد رعبوا منك حتى إن أفئدتهم لتخفق. وهذا حصن اليهود فيه السلاح والطعام والودك، وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضاً، قد غيبوا ذلك في بيتٍ من حصونهم تحت الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو؟ قال: منجينق مفككة ودبابتان وسلاح من دروع وبيضٍ وسيوف، فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله. قال اليهودي: إن شاء الله أوقفك عليه، فإنه لا يعرفه أحدٌ من اليهود غيري. وأخرى! قيل: ما هي؟ قال: تستخرجه، ثم أنصب المنجنيق على حصن الشق، وتدخل الرجال تحت الدبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من يومك، وكذلك تفعل بحصن الكتيبة. فقال عمر: يا رسول الله، إني أحسبه قد صدق. قال اليهودي: يا أبا القاسم، احقن دمي. قال: أنت آمن قال: ولي زوجة في حصن النزار فهبها لي. قال: هي لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لليهود حولوا ذراريهم من النطاة؟ قال: جردوها للمقاتلة، وحولوا الذراري إلى الشق والكتيبة.
قالوا: ثم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: أنظرني أياماً، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا بالمسلمين إلى النطاة، ففتح الله الحصن، واستخرج ما كان قال اليهودي فيه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق أن تصلح وتنصب على الشق على حصن النزار، فهيئوا، فما رموا عليها بحجرٍ حتى فتح الله عليهم حصن النزار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إليه حصب الحصن فساخ في الأرض حتى أخذ أهله أخذاً، وأخرجت زوجته، يقال لها نفيلة، فدفعها إليه. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الوطيح وسلالم أسلم اليهودي، ثم خرج من خيبر فلم يسمع له بذكر، وكان اسمه سماك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى حصن ناعم في النطاة وصف أصحابه نهى عن القتال حتى يأذن لهم، فعمد رجلٌ من أشجع فحمل على يهودي، وحمل عليه مرحب فقتله. فقال الناس: يا رسول الله، استشهد فلان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبعد ما نهيت عن القتال؟ فقالوا: نعم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: لا تحل الجنة لعاصٍ. ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال وحث عليه، ووطن المسلمون أنفسهم على القتال. وكان يسار الحبشي - عبدٌ أسود لعامر اليهودي - في غنم مولاه، فلما رأى أهل خيبر يتحصنون ويقاتلون سألهم، فقالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي. قال: فوقعت تلك الكلمة في نفسه، فأقبل بغنمه يسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ما تقول؟ ما تدعو إليه؟ قال: أدعو إلى الإسلام، فاشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: فما لي؟ قال: الجنة إن ثبت على ذلك. قال: فأسلم. وقال: إن غنمي هذه وديعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات، فإن الله عز وجل سيؤدي عنك أمانتك. ففعل العبد فخرجت الغنم إلى سيدها، وعلم اليهودي أن عبده قد أسلم. ووعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وفرق بينهم الرايات، وكانت ثلاث رايات، ولم تكن راية قبل يوم خيبر، إنما كانت الألوية، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من بردٍ لعائشة، تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، ودفع رايةً إلى عليٍّ رضي الله عنه بالراية وتبعه العبد الأسود فقاتل حتى قتل، فاحتمل فأدخل خباءً من أخبية العسكر، فاطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخباء فقال: لقد كرم الله هذا العبد الأسود وساقه إلى خيبر، وكان الإسلام من نفسه حقاً، قد رأيت عند رأسه زوجتين من الحور العين.
قالوا: وكان رجلٌ من بني مرة يقال له أبو شييم يقول: أنا في الجيش الذين كانوا مع عيينة من غطفان؛ أقبل مدد اليهود، فنزلنا بخيبر ولم ندخل حصناً. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وهو رأس غطفان وقائدهم أن ارجع بمن معك ولك نصف تمر خيبر هذه السنة، إن الله قد وعدني خيبر. فقال عيينة: لست بمسلمٍ حلفائي وجيراني. فأقمنا فبينا نحن على ذلك مع عيينة إذ سمعنا صائحاً، لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم، أهلكم بحيفاء - صيح ثلاثة - فإنكم قد خولفتم إليهم! ويقال: إنه لما سار كنانة بن أبي الحقيق فيهم حلفوا معه، وارتأسهم عيينة بن حصن وهم أربعة آلاف، فدخلوا مع اليهود في حصون النطاة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أرسل إليهم سعد بن عبادة وهم في الحصن، فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم: إني أريد أن أكلم عيينة بن حصن. فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب: لا تدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها، ولكن تخرج إليه. فقال عيينة: لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً. فأبى مرحب أن يدخله، فخرج عيينة إلى باب الحصن، فقال سعد: إن رسول الله أرسلني إليك يقول: إن الله قد وعدني خيبر فارجعوا وكفوا، فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنةً. فقال عيينة: إنا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشيءٍ، وإنا لنعلم ما لك ولمن معك مما ها هنا طاقة، هؤلاء قومٌ أهل حصونٍ منيعة، ورجالٍ عددهم كثير، وسلاح. إن أقمت هلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله، ما هؤلاء كقريش، قوم ساروا إليك، إن أصابوا غرة منك فذاك الذي أرادوا وإلا انصرفوا، وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم. فقال سعد بن عبادة: أشهد ليحضرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك، فلا نعطيك إلا السيف، وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب، كيف مزقوا كل ممزق! فرجع سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال، وقال سعد: يا رسول الله، لئن أخذه السيف ليسلمنهم وليهربن إلى بلاده كما فعل ذلك قبل اليوم في الخندق. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يوجهوا إلى حصنهم الذي فيه غطفان، وذلك عشيةً وهم في حصن ناعم، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان. قال: فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحاً يصيح، لا يدرون من السماء أو من الأرض: يا معشر غطفان، أهلكم أهلكم! الغوث، الغوث بحيفاء - صيح ثلاثة - لا تربة ولا مال! قال: فخرجت غطفان على الصعب والذلول، وكان أمراً صنعه الله عز وجل لنبيه. فلما أصبحوا أخبر كنانة بن أبي الحقيق وهو في الكتيبة بانصرافهم، فسقط في يديه ، وذل وأيقن بالهلكة وقال: كنا من هؤلاء الأعراب في باطل، إنا سرنا فيهم فوعدونا النصر وغرونا، ولعمري لولا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمداً بالحرب، ولم نحفظ كلام سلام بن أبي الحقيق إذ قال: لا تستنصروا بهؤلاء الأعراب أبداً فإنا قد بلوناهم. وجلبهم لنصر بني قريظة ثم غروهم. فلم نر عندهم وفاءً لنا، وقد سار فيهم حيي بن أخطب وجعلوا يطلبون الصلح من محمد، ثم زحف محمد إلى بني قريظة وانكشفت غطفان راجعةً إلى أهلها.
قالوا: فلما انتهى الغطفانيون إلى أهلهم بحيفاء وجدوا أهلهم على حالهم فقالوا: هل راعكم شيء؟ قالوا: لا والله. فقالوا: لقد ظننا أنكم قد غنمتم، فما نرى معكم غنيمةً ولا خيراً! فقال عيينة لأصحابه: هذا والله من مكائد محمد وأصحابه، خدعنا والله! فقال له الحارث بن عوف: بأي شيءٍ؟ قال عيينة: إنا في حصن النطاة بعد هدأةٍ إذ سمعنا صائحاً يصيح، لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم أهلكم بحيفاء - صيح ثلاثةً - فلا تربة ولا مال! قال الحارث بن عوف: يا عيينة، والله لقد غبرت إن انتفعت. والله إن الذي سمعت لمن السماء! والله ليظهرن محمد على من ناوأه، حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد. فأقام عيينة أياماً في أهله ثم دعا أصحابه للخروج إلى نصر اليهود، فجاءه الحارث بن عوف فقال: يا عيينة أطعني وأقم في منزلك ودع نصر اليهود، مع أني لا أراك ترجع إلى خيبر إلا وقد فتحها محمد ولا آمن عليك. فأبى عيينة أن يقبل قوله وقال: لا أسلم حلفائي لشيءٍ. ولما ولى عيينة إلى أهله هجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحصون حصناً حصناً، فلقد انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصن ناعم ومعه المسلمون، وحصون ناعم عدة، فرمت اليهود يومئذ بالنبل، وترس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ درعان ومغفرٌ وبيضة، وهو على فرسٍ يقال له الظرب ، في يده قناةٌ وترس، وأصحابه محدقون به، وقد كان دفع لواءه إلى رجلٍ من أصحابه من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً، ثم دفعه إلى آخر فرجع ولم يصنع شيئاً، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء الأنصار إلى رجلٍ منهم، فخرج ورجع ولم يعمل شيئاً، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وسالت كتائب اليهود، أمامهم الحارث أبو زينب يقدم اليهود يهد الأرض هداً، فأقبل صاحب راية الأنصار فلم يزل يسوقهم حتى انتهوا إلى الحصن فدخلوه، وخرج أسير اليهودي يقدم أصحابه معه عاديته وكشف راية أصحاب الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه حدةً شديدة، وقد ذكر لهم الذي وعدهم الله، فأمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهموماً، وقد كان سعد بن عبادة رجع مجروحاً وجعل يستبطىء أصحابه، وجعل صاحب راية المهاجرين يستبطىء أصحابه ويقول: أنتم، وأنتم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود جاءهم الشيطان فقال لهم: إن محمداً يقاتلكم على أموالكم! نادوهم: قولوا لا إله إلا الله، ثم قد أحرزتم بذلك أموالكم ودماءكم، وحسابكم على الله. فنادوهم بذلك فنادت اليهود: إنا لا نفعل ولا نترك عهد موسى والتوراة بيننا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية غداً يحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار، أبشر يا محمد بن مسلمة غداً، إن شاء الله يقتل قاتل أخيك وتولى عادية اليهود. فلما أصبح أرسل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أرمد، فقال: ما أبصر سهلاً ولا جبلاً. قال: فذهب إليه فقال: افتح عينيك. ففتحهما فتفل فيهما. قال علي رضي الله عنه: فما رمدت حتى الساعة. ثم دفع إليه اللواء ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر، فكان أول من خرج إليهم الحارث أخو مرحب في عاديته، فانكشف المسلمون وثبت علي رضي الله عنه فاضطربا ضرباتٍ فقتله علي رضي الله عنه، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن فدخلوه وأغلقوا عليهم، فرجع المسلمون إلى موضعهم، وخرج مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أضرب أحياناً وحيناً أضرب
فحمل علي رضي الله عنه فقطره على الباب وفتح الباب. وكان للحصن بابان.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن شيوخٍ من بني ساعدة قالوا: قتل أبو دجانة الحارث أبا زينب، وكان يومئذٍ معلماً بعمامة حمراء، والحارث معلمٌ فوق مغفره، وياسر وأسير وعامر معلمين.
حدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيٌّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر، قتله يوم خيبر رجلٌ من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة يوم نزل محمد خيبر، وكنا ممن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أعير، تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابن سيد اليهود لم يترك اليهودية، قتل عليها أبوك وتخالفه؟ وقال أبو رافع: كنا مع علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بالراية، فلقي علي رضي الله عنه رجلاً على باب الحصن، فضرب علياً واتقاه بالترس عليٌّ، فتناول عليٌ باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده حتى فتح الله عليه الحصن. وبعث رجلاً يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الحصن؛ حصن مرحب ودخولهم الحصن. ويقال: إن مرحب برز وهو كالفحل الصؤول يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أضرب أحياناً وحيناً أضرب
يدعو للبراز. فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس فائذن لي في قتال مرحب وهو قاتل أخي. فأذن له رسولالله صلى الله عليه وسلم في مبارزته، ودعا له بدعوات، وأعطاه سيفه، فخرج محمد فصاح: يا مرحب، هل لك في البراز؟ فقال: نعم. فبرز إليه مرحب وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب
وخرج محمد بن مسلمة وهو يقول:
قد علمت خيبر أني ماض ... حلوٌ إذا شئت وسمٌّ قاض
ويقال: إنه جعل يومئذٍ يرتجز ويقول:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... لا صبر لي بعد أبي النبيت
وكان أخوه محمود يكنى بأبي النبيت. قال: وبرز كل واحد منهما إلى صاحبه. قال: فحال بينهما عشرات أصلها كمثل أصل الفحل من النخل وأفنانٌ منكرة، فكلما ضرب أحدهما صاحبه استتر بالعشر حتى قطعا كل ساقٍ لها، وبقي أصلها قائماً كأنه الرجل القائم. وأفضى كل واحد منهما إلى صاحبه، وبدر مرحب محمداً، فيرفع السيف ليضربه، فاتقاه محمد بالدرفة فلحج سيفه، وعلى مرحب درعٌ مشمرة، فيضرب محمد ساقي مرحب فقطعهما. ويقال: لما اتقى محمدٌ بالدرفة وشمرت الدرع عن ساقي مرحب حين رفع يديه بالسيف، فطأطأ محمد بالسيف فقطع رجليه ووقع مرحب، فقال مرحب: أجهز يا محمد! قال محمد: ذق الموت كما ذاقه أخي محمود! وجاوزه ومر به عليٌّ فضرب عنقه وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، والله ما قطعت رجليه ثم تركته إلا ليذوق مر السلاح وشدة الموت كما ذاق أخي؛ مكث ثلاثاً يموت، وما منعني من الإجهاز عليه شيء، قد كنت قادراً بعد أن قطعت رجليه أن أجهز عليه. فقال علي رضي الله عنه: صدق، ضربت عنقه بعد أن قطع رجليه. فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه فيه كتاب لا يدرى ما هو حتى قرأه يهوديٌّ من يهود تيماء فإذا فيه:
هذا سيف مرحب ... من يذقه يعطب
حدثني محمد بن الفضل، عن أبيه، عن جابر، وحدثني زكريا بن زيد، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن سلمة بن سلامة، ومجمع ابن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن حارثة، قالوا جميعاً: محمد بن مسلمة قتل مرحباً.
قالوا: وبرز أسير، وكان رجلاً أيداً، وكان إلى القصر، فجعل يصيح؛ من يبارز؟ فبرز له محمد بن مسلمة فاختلفا ضربات، ثم قتله محمد ابن مسلمة. ثم برز ياسر وكان من أشدائهم، وكانت معه حربةٌ يحوش بها المسلمين حوشاً، فبرز له علي رضي الله عنه فقال الزبير: أقسمت عليك ألا خليت بيني وبينه. ففعل عليٌّ وأقبل ياسر بحربته يسوق بها الناس، فبرز له الزبير، فقالت صفية: يا رسول الله واحزني! ابني يقتل يا رسول الله! فقال: بل ابنك يقتله. قال: فاقتتلا فقتله الزبير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فداك عمٌّ وخال! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري وحواري الزبير وابن عمتي. فلما قتل مرحب وياسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا، قد ترحبت خيبر وتيسرت! وبرز عامر وكان رجلاً طويلاً جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلع عامر: أترونه خمسة أذرع؟ وهو يدعو إلى البراز، يخطر بسيفه وعليه درعان، مقنع في الحديد يصيح: من يبارز؟ فأحجم الناس عنه، فبرز إليه عليٌّ رضي الله عنه فضربه ضرباتٍ، كل ذلك لا يصنع شيئاً، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم ذفف عليه فأخذ سلاحه.
فلما قتل الحارث، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، مع ناسٍ من اليهود كثير - ولكن إنما سمي هؤلاء المذكورين لأنهم كانوا أهل شجاعة، وكان هؤلاء في حصن ناعم جميعاً. ولما رمي محمود بن مسلمة من حصن ناعم حمل إلى الرجيع فمكث ثلاثة أيام يموت، وكان الذي دلى عليه الرحا مرحب، فجعل محمود يقول لأخيه: يا أخي، بنات أخيك لا يتبعن الأفياء ؛ يسألن الناس. فيقول محمد بن مسلمة: لو لم تترك مالاً لكان لي مال. ومحمود كان أكثرهما مالاً - ولم ينزل يومئذٍ فرائض البنات - فلما كان اليوم الذي مات فيه محمود وهو اليوم الثالث، وهو اليوم الذي قتل فيه مرحب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يبشر محمود بن مسلمة أن الله قد أنزل فرائض البنات، وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله؟ فخرج جعال بن سراقة إليه فأخبره فسر بذلك، وأمره أن يقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام منه. قال: فاقرأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال محمود. لا أراه يذكرني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت في موضعه بالرجيع فمات خلافه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلة، وقد جرح عامر بن الأكوع نفسه، حمل إلى الرجيع فمات، فقبر عامر بن الأكوع معه في غار. فقال محمد: يا رسول الله اقطع لي عند قبر أخي. قال: لك حضر الفرس فإن عملت فلك حضر فرسين.
وكان حصن الصعب بن معاذ في النطاة، وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع، وكان فيه خمسمائة مقاتل، وكان الناس قد أقاموا أياماً يقاتلون وليس عندهم طعامٌ إلا العلف . قال معتب الأسلمي: أصابنا معشر أسلم خصاصةٌ حين قدمنا خيبر، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام، فأجمعت أسلم أن يرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: ايت محمداً رسول الله فقل: إن أسلم يقرئونك السلام ويقولون إنا قد جهدنا من الجوع والضعف. فقال بريدة بن الحصيب: والله إن رأيت كاليوم قط أمراً بين العرب يصنعون فيه هذا! فقال عند بن حارثة: والله إنا لنرجو أن تكون البعثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الخير. فجاءه أسماء بن حارثة فقال: يا رسول الله، إن أسلم تقول: إنا قد جهدنا من الجوع والضعف فادع الله لنا. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما بيدي ما أقريهم . ثم صاح بالناس فقال: اللهم افتح عليهم أعظم حصن فيه، أكثره طعاماً وأكثره ودكاً. ودفعوا باللواء إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وندب الناس، فما رجعنا حتى فتح الله علينا الحصن - حصن الصعب بن معاذ. فقالت أم مطاع الأسلمية، وكانت قد شهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء، قالت: لقد رأيت أسلم حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكوا من شدة الحال، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهضوا، فرأيت أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب بن معاذ، وإن عليه لخمسمائة مقاتل، فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله، وكان عليه قتال شديد. برز رجلٌ من اليهود يقال له يوشع يدعو إلى البراز، فبرز إليه الحباب بن المنذر فاختلفا ضرباتٍ فقتله الحباب. وبرز آخر يقال له الزيال، فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري فبدره الغفاري فيضربه ضربةً على هامته، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الغفاري! فقال الناس: بطل جهاده. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بأسٌ به، يؤجر ويحمد.
وكان أبو اليسر يحدث أنهم حاصروا حصن الصعب بن معاذ ثلاثة أيام، وكان حصناً منيعاً، وأقبلت غنمٌ لرجلٍ من اليهود ترتع وراء حصنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجلٌ يطعمنا من هذه الغنم؟ فقلت: أنا يا رسول الله، فخرجت أسعى مثل الظبي، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال: اللهم متعنا به! فأدركت الغنم وقد دخل أولها الحصن، فأخذت شاتين من آخرها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت أعدو كأن ليس معي شيء حتى أتيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحتا ثم قسمهما، فما بقي أحدٌ من أهل العسكر الذين هم معه محاصرين الحصن إلا أكل منها. فقيل لأبي اليسر: وكم كانوا؟ قال: كانوا عدداً كثيراً. فيقال: أين بقية الناس؟ فيقول: في الرجيع بالمعسكر. فسمع أبو اليسر - وهو شيخ كبير - وهو يبكي في شيءٍ غاظه من بغض ولده، فقال: لعمري بقيت بعد أصحابي ومتعوا بي وما أمتع بهم! لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم متعنا به! فبقي فكان من آخرهم.
وكان أبو رهم الغفاري يحدث قال: أصابنا جوعٌ شديدٌ، ونزلنا خيبر زمان البلح، وهي أرض وخيمة حارةٌ شديدٌ حرها. فبينا نحن محاصرون حصن الصعب بن معاذ فخرج عشرون حماراً منه أو ثلاثون، فلم يقدر اليهود على إدخالها، وكان حصنهم له منعةٌ، فأخذها المسلمون فانتحروها، وأوقدوا النيران وطبخوا لحومها في القدور والمسلمون جياع، ومر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على تلك الحال فسأل فأخبر فأمر منادياً: إن رسول الله ينهاكم عن الحمر الإنسية - قال: فكفوا القدور - وعن متعة النساء، وعن كل ذي ناب ومخلب.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن الفضيل بن مبشر، قال: كان جابر بن عبد الله يقول: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، فذبح قومٌ من المسلمين خيلاً من خيلهم قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ، فقيل لجابر: أرأيت البغال، أكنتم تأكلونها؟ قال: لا.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: ذبحنا بخيبر لبني مازن بن النجار فرسين، فكنا نأكل منهما قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ.
وحدثني ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر يقول: حرامٌ أكل الحمر الأهلية والخيل والبغال. قالوا: وكل ذي نابٍ من السباع، ومخلب من الطير. قال الواقدي: الثبت عندنا أن خالداً لم يشهد خيبر، وأسلم قبل الفتح هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة أول يومٍ من صفر سنة ثمان.
وكان ابن الأكوع يقول: كنا على حصن الصعب بن معاذ، أسلم بأجمعها، والمسلمون قد حصروا أهل الحصن، فلقد رأيتنا وصاحب رايتنا سعد بن عبادة، فانكشف المسلمون، فأخذ الراية فغدونا معه. وغدا عامر ابن سنان فلقي رجلاً من اليهود، وبدره اليهودي فضرب عامراً، قال عامر: فاتقيته بدرقتي فنبا سيف اليهودي عنه. قال عامر: فأضرب رجل اليهودي فأقطعها، ورجع السيف على عامر فأصابه ذبابه فنزف فمات. فقال أسيد ابن حير: حبط عمله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب من قال ذلك! إن له لأجرين، إنه جاهدٌ مجاهدٌ، وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص .
حدثني خالد بن إلياس، عن جعفر بن محمود بن محمد، عن محمد ابن مسلمة قال: كنت فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت أصيح بأصحابه: تراموا بالحجف! ففعلوا فرمونا حتى ظننت ألا يقلعوا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسهم، فما أخطأ رجلاً منهم،وتبسم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفرجوا ودخلوا الحصن.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما انتهينا إلى حصن الصعب بن معاذ، والمسلمون جياع والأطعمة فيه كلها، وغزا بنا الحباب ابن المنذر بن الجموح ومعه رايتنا وتبعه المسلمون، وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال، فلما كان اليوم الثالث بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في يده حربةٌ له، وخرج وعاديته معه فرموا بالنبل ساعةً سراعاً، وترسنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمطروا علينا بالنبل، فكان نبلهم مثل الجراد حتى ظننت ألا يقلعوا، ثم حملوا علينا حملة رجلٍ واحدٍ، فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف، قد نزل عن فرسه ومدعم يمسك فرسه. وثبت الحباب برايتنا، والله ما يزول، يراميهم على فرسه، وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها. قال: فأقبل الناس جميعاً حتى عادوا إلى صاحب رايتهم، ثم زحف بهم الحباب فلم يزل يدنو قليلاً قليلاً، وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر فانكشفوا سراعاً، ودخلوا الحصن وغلقوا عليهم، ووافوا على جدره - وله جدر دون جدر - فجعلوا يرموننا بالجندل رمياً كثيراً، ونحونا عن حصنهم بوقع الحجارة حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول. ثم إن اليهود تلاومت بينها وقالت: ما نستبقي لأنفسنا؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم. فخرجوا مستميتين، ورجعنا إليهم فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال، وقتل يومئذٍ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو صياح، وقد شهد بدراً، ضربه رجلٌ منهم بالسيف فأطن قحف رأسه؛ وعدي بن مرة بن سراقة، طعنه أحدهم بالحربة بين ثديه فمات؛ والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدراً، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه. وقد قتلنا منهم على الحصن عدة، كلما قتلنا منهم رجلاً حملوه حتى يدخلوه الحصن. ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم، فقتلنا من أشرف لنا، وأسرنا منهم، وهربوا في كل وجهٍ يركبون الحرة يريدون حصن قلعة الزبير، وجعلنا ندعهم يهربون، وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً، ففتتنا أعضاد اليهود بالتكبير، لقد رأيت فتيان أسلم وغفار فوق الحصن يكبرون، فوجدنا والله من الأطعمة ما لم نظن أن هناك؛ من الشعير، والتمر، والسمن، والعسل، والزيت، والودك. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا واعلفوا ولا تحتملوا. يقول: لا تخرجوا به إلى بلادكم. فكان المسلمون يأخذون من ذلك الحصن مقامهم طعامهم وعلف دوابهم، لا يمنع أحد أن يأخذ حاجته ولا يخمس الطعام. ووجدوا فيه من البز والآنية، ووجدوا خوابي، السكر، فأمروا فكسروها، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن، والخوابي كبار لا يطاق حملها. وكان أبو ثعلبة الخشني يقول: وجدنا فيه آنيةً من نحاسٍ وفخارٍ كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا. وقال: أسخنوا فيها الماء ثم اطبخوا بعد، وكلوا واشربوا. وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً، وأخرجنا منه آلةً كثيرةً للحرب، ومنجنيقاً ودبابات وعدة، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً، فعجل الله خزيهم.
فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لقد خرج من أطمٍ من حصن الصعب بن معاذ من البز عشرون عكماً محزومةً من غليظ متاع اليمن، وألفٌ وخمسمائة قطيفة؛ يقال: قدم كل رجل بقطيفةٍ على أهله، ووجدوا عشرة أحمال خشب، فأمر به فأخرج من الحصن ثم أحرق، فمكث أياماً يحترق، وخوابي سكرٍ كسرت، وزقاق خمر فأهريقت. وعمد يومئذٍ رجل من المسلمين فشرب من الخمر، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكره حين رفع إليه فخفقه بنعليه؛ ومن حضره، فخفقوه بنعالهم. وكان يقال له عبد الله الخمار، وكان رجلاً لا يصبر عن الشراب قد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم العنه! ما أكثر ما يضرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل يا عمر، فإنه يحب الله ورسوله. قال: ثم راح عبد الله فجلس معهم كأنه أحدهم حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة قالت: لقد وجدنا في حصن الصعب بن معاذ من الطعام ما كنت أظن أنه لا يكون بخيبر، جعل المسلمون يأكلون مقامهم شهراً وأكثر من ذلك الحصن، فيعلفون دوابهم، ما يمنع أحدهم ولم يكن فيه خمس، وأخرج من البزور شيءٌ كثيرٌ يباع في المقسم، ووجد فيه خرز من خرز اليهود. فقيل لها: فمن الذي يشتري ذلك في المقسم؟ قالت: المسلمون، واليهود الذين كانوا في الكتيبة فآمنوا، ومن حضر من الأعراب، فكل هؤلاء يشتري، فأما من يشتري من المسلمين فإنما يحاسب به مما يصيبه من المغنم.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، قال: لما نظر عيينة بن حصن إلى حصن الصعب بن معاذ والمسلمون ينقلون منه الطعام والعلف والبز قال: ما أحدٌ يعلف لنا دوابنا ويطعمنا من هذا الطعام الضائع، فقد كان أهله عليه كراماً! فشتمه المسلمون وقالوا: لك الذي جعل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذو الرقيبة ، فاسكت! وبينما المسلمون يجولون في حصن الصعب بن معاذ، وله مداخل، فأخرجوا رجلاً من اليهود فضربوا عنقه فتعجبوا لسواد دمه، ويقول قائلهم: ما رأينا مثل سواد هذا الدم قط - قال: يقول متكلم: في رفٍّ من تلك الرفاف الثوم والثريد - وأنزل فقدموه فضربوا عنقه.
قال: وتحولت اليهود من حصن ناعم كلها، ومن حصن الصعب ابن معاذ، ومن كل حصون النطاة، إلى حصنٍ يقال له قلعة الزبير، فزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم والمسلمون، فحاصروهم وغلقوا عليهم حصنهم وهو حصين منيع، وإنما هو في رأس قلعة لا تقدر عليه الخيل ولا الرجال لصعوبته وامتناعه، وبقيت بقايا لا ذكر لهم في بعض حصون النطاة، الرجل والرجلان. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزائهم رجالاً يحرسونهم، لا يطلع أحدٌ عليهم إلا قتلوه. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على محاصرة الذين في قلعة الزبير ثلاثة أيام، فجاء رجلٌ من اليهود يقال له غزال فقال: أبا القاسم، تؤمني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق، فإن أهل الشق قد هلكوا رعباً منك؟ قال: فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله وماله. فقال اليهودي: إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، لهم دبولٌ تحت الأرض، يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، وإن قطعت مشربهم عليهم ضجوا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم لم يطيقوا المقام على العطش، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، وقتل من المسلمين يومئذٍ نفرٌ، وأصيب من اليهود ذلك اليوم عشرةٌ، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخر حصون النطاة. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النطاة أمر بالانتقال، والعسكر أن يحول من منزله بالرجيع إلى مكانه الأول بالمنزلة، وأمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيات ومن حرب اليهود وما يخاف منهم، لأن أهل النطاة كانوا أحد اليهود وأهل النجدة منهم. ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشق.
فحدثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير محمد بن سهل بن أبي حثمة قال: لما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشق، وبه حصونٌ ذات عدد، كان أول حصنٍ بدأ منها حصن أبي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعةٍ يقال لها سمران ، فقاتل عليها أهل الحصن قتالاً شديداً. وخرج رجلٌ من اليهود يقال له غزال فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر فاختلفا ضربات، ثم حمل عليه الحباب فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فوقع السيف من يد غزال فكان أعزل، ورجع مبادراً منهزماً إلى الحصن، وتبعه الحباب فقطع عرقوبه، فوقع فذفف عليه. وخرج آخر فصاح: من يبارز؟ فبرز إليه رجلٌ من المسلمين من آل جحش فقتل الجحشي. وقام مكانه يدعو إلى البراز ويبرز له أبو دجانة قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر يختال في مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجليه، ثم ذفف عليه وأخذ سلبه، درعه وسيفه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وأحجموا عن البراز، فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثاً ومتاعاً وغنماً وطعاماً، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجدر كأنهم الظباء حتى صاروا إلى حصن النزار بالشق، وجعل يأتي من بقي من قلل النطاة إلى حصن النزار فعلقوه وامتنعوا فيه أشد الامتناع. وزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في أصحابه فقاتلوهم، فكانوا أشد أهل الشق قتالاً، رموا المسلمين بالنبل والحجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، حتى أصابت النبل ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقت به، فأخذ النبل فجمعها ثم أخذ لهم كفاً من حصا فحصب به حصنهم، فرجف بهم ثم ساخ في الأرض.
قال إبراهيم بن جعفر: استوى بالأرض حتى جاء المسلمون، فأخذوا أهله أخذاً . وكانت فيه صفية بنت حيي وابنة عمها. فكان عمير مولى آبى اللحم يقول: شهدت صفية أخرجت وابنة عمها وصبياتٌ من حصن النزار، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن النزار بقيت حصونٌ في الشق، فهرب أهلها منها حتى انتهوا إلى أهل الكتيبة والوطيح وسلالم. وكان محمد بن مسلمة يقول: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصن النزار فقال: هذا آخر حصون خيبر كان فيه قتال؛ لما فتحنا هذا الحصن لم يكن بعده قتالٌ حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر.
فحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر قال، قلت لجعفر بن محمود: كيف صارت صفية في حصن النزار في الشق وحصن آل أبي الحقيق بسلالم، ولم يسب في حصون النطاة من النساء والذرية أحدٌ ولا بالشق، إلا في حصن النزار، فإنه قد كان فيه ذرية ونساء؟ فقال: إن يهود خيبر أخرجوا النساء والذرية إلى الكتيبة وفرغوا حصن النطاة للمقاتلة فلم يسب أحدٌ منهم إلا من كان في حصن النزار، صفية وابنة عمها ونسيات معها. وكان كنانة قد رأى أن حصن النزار أحصن ما هنالك، فأخرجها في الليلة التي تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبيحتها إلى الشق حتى أسرت وبنت عمها ومن كان معهما من ذراري اليهود، وبالكتيبة من اليهود ومن نسائهم وذراريهم أكثر من ألفين؛ فلما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتيبة أمن الرجال والذرية، ودفعوا إليه الأموال، والبيضاء والصفراء، والحلقة، والثياب، إلا ثوباً على إنسان. فلقد كان من اليهود حين أمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلون ويدبرون، ويبيعون ويشترون، لقد أنفقوا عامة المغنم مما يشترون من الثياب من الثياب والمتاع، وكانوا قد غيبوا نقودهم وعين مالهم.
قالوا: ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكتيبة والوطيح وسلالم، حصن ابن أبي الحقيق الذي كانوا فيه، فتحصنوا أشد التحصن، وجاءهم كل فل كان قد انهزم من النطاة والشق، فتحصنوا معهم في القموص وهو في الكتيبة، وكان حصناً منيعاً، وفي الوطيح وسلالم. وجعلوا لا يطلعون من حصونهم مغلقين عليهم، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب المنجنيق عليهم لما رأى من تغليقهم، وأنه لا يبرز منهم بارز. فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح. قال أبو عبد الله، قلت لإبراهيم بن جعفر: وجد في الكتيبة خمسمائة قوس عربية. وقال: أخبرني أبي عمن رأى كنانة بن أبي الحقيق يرمي بثلاثة أسهم في ثلثمائة - يعني ذراع - فيدخلها في هدف شبراً في شبر، فما هو إلا أن قيل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل من الشق في أصحابه، وقد تهيأ أهل القموص وقاموا على باب الحصن بالنبل، فنهض كنانة إلى قوسه فما قدر أن يوترها من الرعدة، وأومأ إلى أهل الحصون: لا ترموا! وانقمع في حصنه، فما رئي منهم أحدٌ، حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب. فأرسل كنانة رجلاً من اليهود يقال له شماخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنزل إليك أكلمك! فلما نزل شماخ أخذه المسلمون فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره برسالة كنانة. فأنعم له، فنزل كنانة في نفر من اليهود، فصالحه على ما صالحه، فأحلفه على ما أحلفه عليه. قال إبراهيم: تلك القسي والسلاح إنما كان لآل أبي الحقيق جماعة يعيرونه العرب، والحلي يعيرونه العرب. ثم يقول: كانوا شر يهود يثرب.
قالوا: وأرسل كنانة بن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مالٍ أو أرضٍ، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، وعلى البز، إلا ثوباً على ظهر إنسان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئاً. فصالحه على ذلك، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأموال فقبضها، الأول فالأول، وبعث إلى المتاع والحلقة فقبضها، فوجد من الدروع مائة درع، ومن السيوف أربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية بجعابها. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبي الحقيق عن كنز آل أبي الحقيق وحليٍ من حليهم، كان يكون في مسك الجمل، كان أسراهم يعرف به، وكان العرس يكون بمكة فيقدم عليهم، فيستعار ذلك الحلي الشهر فيكون فيهم، وكان ذلك الحلي يكون عند الأكابر فالأكابر من آل أبي الحقيق. فقال: يا أبا القاسم، أنفقناه في حربنا فلم يبق منه شيء، وكنا نرفعه لمثل هذا اليوم، فلم تبق الحرب واستنصار الرجال من ذلك شيئاً. وحلفا على ذلك فوكدا الأيمان واجتهدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : برئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إن كان عندكما! قالا: نعم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكل ما أخذت من أموالكما وأصبت من دمائكما فهو حلٌّ لي ولا ذمة لكما! قالا: نعم. وأشهد عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعمر، وعلياً، والزبير رضوان الله عليهم وعشرةً من اليهود. فقام رجلٌ من اليهود إلى كنانة بن أبي الحقيق فقال: إن كان عندك ما يطلب منك محمدٌ أو تعلم علمه فأعلمه فإنك تأمن على دمك، وإلا فوالله ليظهرن عليه، قد اطلع على غير ذلك بما لم نعلمه. فزبره ابن أبي الحقيق فتنحى اليهودي فقعد. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق - وكان رجلاً ضعيفاً - عن كنزهما، فقال: ليس لي علم غير أني قد كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة - قال: وأشار إلى خربة - فإن كان شيءٌ دفنه فهو فيها. وكان كنانة بن أبي الحقيق لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على النطاة أيقن بالهلكة - وكان أهل النطاة أخذهم الرعب - فذهب بمسك الجمل، فيه حليهم، فحفر له في خربةٍ ليلاً ولا يراه أحد، ثم سوى عليه التراب بالكتيبة، وهي الخربة التي رآه ثعلبة يدور بها كل غداة. فأرسل مع ثعلبة الزبير بن العوام ونفراً من المسلمين إلى تلك الخربة، فحفر حيث أراه ثعلبة فاستخرج منه ذلك الكنز. ويقال: إن الله عز وجل دل رسوله على ذلك الكنز. فلما أخرج الكنز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أن يعذب كنانة بن أبي الحقيق حتى يستخرج كل ما عنده. فعذبه الزبير حتى جاءه بزندٍ يقدحه في صدره، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى محمد بن مسلمة يقتله بأخيه، فقتله محمد بن مسلمة. وأمر بابن ابي الحقيق الآخر، فعذب ثم دفع إلى ولاة بشر بن البراء فقتل به، ويقال: ضرب عنقه. واستحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أموالهما وسبى ذراريهما.
فحدثني خالد بن الربيعة بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عمن نظر إلى ما في مسك الجمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به، فإذا جله أسورة الذهب، ودمالج الذهب، وخلاخل الذهب، وقرطة الذهب، ونظمٌ من جوهرٍ وزمردٍ، وخواتم ذهب، وفتخٌ بجزع ظفار مجزعٌ بالذهب. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظاماً من جوهرٍ فأعطاه بعض أهله، إما عائشة أو إحدى بناته، فانصرفت فلم تمكث إلا ساعةً من نهارٍ حتى فرقته في أهل الحاجة والأرامل، فاشترى أبو الشحم ذرةً منها. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار إلى فراشه لم ينم، فغدا في السحر حتى أتى عائشة، ولم تكن ليلتها، أو بنته، فقال: ردي علي النظام فإنه ليس لي، ولا لك فيه حق. فخبرته كيف صنعت به، فحمد الله وانصرف.
وكانت صفية بنت حيي تقول: كان ذلك النظام لبنت كنانة. وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سباها قبل أن ينتهي إلى الكتيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل بها مع بلال إلى رحله. فمر بها وبابنة عمها على القتلى، فصاحت ابنة عمها صياحاً شديداً، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع بلال فقال: أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السن على القتلى!، فقال بلال: يا رسول الله ما ظننت أنك تكره ذلك، وأحببت أن ترى مصارع قومها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنة عم صفية: ما هذا إلا شيطان. وكان دحية الكلبي قد نظر إلى صفية فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال إنه وعده جاريةً من سبي خيبر، فأعطاه ابنة عمها.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن أبي حرملة، عن أخته أم عبد الله، عن ابنة أبي القين المزني، قالت: كنت آلف صفية من بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تحدثني عن قومها وما كانت تسمع منهم قالت: خرجنا من المدينة حيث أجلانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمنا بخيبر، فتزوجني كنانة بن أبي الحقيق فأعرس بي قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيام، وذبح جزراً ودعا باليهود، وحولني في حصنه بسلالم، فرأيت في النوم كأن قمراً أقبل من يثرب يسير حتى وقع في حجري. فذكرت ذلك لكنانة زوجي فلطم عيني فاخضرت، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلت عليه فسألني فأخبرته. قالت: وجعلت اليهود ذراريها في الكتيبة، وجردوا حصن النطاة للمقاتلة، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وافتتح حصون النطاة، ودخل علي كنانة فقال: قد فرغ محمدٌ من النطاة، وليس ها هنا أحدٌ يقاتل، قد قتلت اليهود حيث قتل أهل النطاة وكذبتنا العرب. فحولني إلى حصن النزار بالشق، - قال: وهو أحصن مما عندنا - فخرج حتى أدخلني وابنة عمي ونسيات معنا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا قبل الكتيبة فسبيت في النزار قبل أن ينتهي النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكتيبة، فأرسل بي إلى رحله، ثم جاءنا حين أمسى فدعاني، فجئت وأنا مقنعة حيية، فجلست بين يديه فقال: إن أقمت على دينك لم أكرهك، وإن اخترت الله ورسوله فهو خيرٌ لك. قالت: أختار الله ورسوله والإسلام. فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني وعل عتق مهري، فلما أراد أن يخرج إلى المدينة قال أصحابه: اليوم نعلم أزوجةٌ أم سريةٌ، فإن كانت امرأته فسيحجبها وإلا فهي سرية. فلما خرج أمر بستر فسترت به فعرف أنى زوجة، ثم قدم إلى البعير وقدم فخذه لأضع رجلي عليها، فأعظمت ذلك ووضعت فخذي على فخذه، ثم ركبت. وكنت ألقى من أزواجه، يفخرن علي يقلن: يا بنت اليهودي. وكنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلطف بي ويكرمني، فدخل علي يوماً وأنا أبكي فقال: ما لك؟ فقلت: أزواجك يفخرن علي ويقلن: يا بنت اليهودي. قالت: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب ثم قال: إذا قالوا لك أو فاخروك فقولي: أبي هرون وعمي موسى
قالوا: وكان أبو شييم المزني - قد أسلم فحسن إسلامه - يحدث يقول: لما نفرنا أهلها بحيفاء مع عيينة - قدمنا عليهم وهم قارون هادئون لم يهجهم هائج - رجع بنا عيينة، فلما كان دون خيبر بمكانٍ يقال له الحطام عرسنا من الليل ففزعنا، فقال عيينة: أبشروا إني أرى الليلة في النوم أني أعطيت ذا الرقيبة - جبلاً بخيبر - قد والله قد أخذت برقبة محمد. قال: فلما قدمنا خيبر قدم عيينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر وغنمه الله ما فيها، فقال عيينة: أعطني يا محمد مما غنمت من حلفائي فإني انصرفت عنك وعن قتالك وخذلت حلفائي ولم أكثر عليك، ورجعت عنك بأربعة آلاف مقاتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، ولكن الصياح الذي سمعت أنفرك إلى أهلك. قال: أجزني يا محمد. قال: لك ذو الرقيبة. قال عيينة: وما ذو الرقيبة؟ قال: الجبل الذي رأيت في النوم أنك أخذته. فانصرف عيينة فجعل يتدسس إلى اليهود ويقول: ما رأيت كاليوم أمراً؛ والله ما كنت أرى أحداً يصيب محمداً غيركم. قلت: أهل الحصون والعدة والثروة، أعطيتم بأيديكم وأنتم في هذه الصحون المنيعة، وهذا الطعام الكثير ما يوجد له آكل، والماء الواتن. قالوا: قد أردنا الامتناع في قلعة الزبير ولكن الدبول قطعت عنا، وكان الحر، فلم يكن لنا بقاءٌ على العطش. قال: قد وليتم من حصون ناعم منهزمين حتى صرتم إلى حصن قلعة الزبير. وجعل يسأل عمن قتل منهم فيخبر، قال: قتل والله أهل الجد والجلد، لا نظام ليهود بالحجاز أبداً. ويسمع كلامه ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق، وكانوا يقولون إنه ضعيف العقل مختلط، فقال: عيينة، أنت غررتهم وخذلتهم وتركتهم وقتال محمد، وقبل ذلك ما صنعت ببني قريظة! فقال عيينة: إن محمداً كادنا في أهلنا، فنفرنا إليهم حيث سمعنا الصريخ ونحن نظن أن محمداً قد خالف إليهم، فلم نر شيئاً فكررنا إليكم لننصركم. قال ثعلبة: ومن بقي تنصره؟ قد قتل من قتل وبقي من بقي فصار عبداً لمحمد، وسبانا، وقبض الأموال! قال: يقول رجل من غطفان لعيينة: لا أنت نصرت حلفاءك فلم يعدوا عليك حلفنا! ولا أنت حيث وليت - كنت أخذت تمر خيبر من محمدٍ سنةً! والله إني لأرى أمر محمدٍ أمراً ظاهراً، ليظهرن على من ناوأه. فانصرف عيينة إلى أهله يفتل يديه، فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف، قال: ألم أقل لك إنك توضع في غير شيء؟ والله ليظهرن محمدٌ على من بين المشرق والمغرب، اليهود كانوا يخبروننا هذا. أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا نحسد محمداً على النبوة حيث خرجت من بني هرون، وهو نبي مرسل واليهود لا تطاوعني على هذا، ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر. قال الحارث، قلت لسلام: يملك الأرض جميعاً؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى، وما أحب أن تعلم اليهود بقولي فيه!
قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر واطمأن جعلت زينب بنت الحارث تسأل: أي الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون: الذراع والكتف. فعمدت إلى عنزٍ لها فذبحتها، ثم عمدت إلى سمٍّ لابطى ، قد شاورت اليهود في سموم فأجمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتفين. فلما غابت الشمس صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب وانصرف إلى منزله، ويجد زينب جالسةً عند رحله فيسأل عنها فقالت: أبا القاسم، هدية أهديتها لك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدية فقبضت منها ووضعت بين يديه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم حضور، أو من حضر منهم: ادنوا فتعشوا! فدنوا فمدوا أيديهم، وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، وتناول بشر بن البراء عظماً، وأنهش رسول الله صلى الله عليه وسلم نهشاً وانتهش بشر، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلته ازدرد بشر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة. فقال بشر بن البراء: قد والله يا رسول الله وجدت ذلك من أكلتي التي أكلتها، فما منعني أن ألفظها إلا كراهية أنغص إليك طعامك، فلما تسوغت ما في يدك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت ألا تكون ازدردتها وفيها نعى . لم يرم بشرٌ من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان، وماطله وجعه سنةً لا يتحول إلا ما حول، ثم مات منه. ويقال لم يقم من مكانه حتى مات، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب فقال: سممت الذراع؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: الذراع: قالت: نعم. قال: وما حملك على ذلك؟ قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبياً فستخبره الشاة ما صنعت، وإن كان ملكاً استرحنا منه. فاختلف علينا فيها، فقال قائلٌ رواية: أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ثم صلبت. وقال قائلٌ رواية: عفا عنها. وكان نفرٌ ثلاثةٌ قد وضعوا أيديهم في الطعام ولم يسيغوا منه شيئاً. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاحتجموا أوساط رءوسهم من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كتفه اليسرى. ويقال: احتجم على كاهله، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة.
وقالوا: وكانت أم بشر بن البراء تقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو محموم فمسسته فقلت: ما وجدت مثل ما وعك عليك على أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما يضاعف لنا الأجر كذلك يضاعف لنا البلاء؛ زعم الناس أن برسول الله ذات الجنب! ما كان الله ليسلطها علي، إنما هي همزةٌ من الشيطان، ولكنه من الأكلة التي أكلت أنا وابنك يوم خيبر. ما زال يصيبني منها عدادٌ حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري . فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً. ويقال: إن الذي مات في الشاة مبشر بن البراء. وبشر أثبت عندنا، وهو المجتمع عليه.
قال عبد الله: سألت إبراهيم بن جعفر عن قول زينب ابنة الحارث قتلت أبي قال: قتل يوم خيبر أبوها الحارث وعمها يسار، وكان أخبر الناس، هو الذي أنزل من الشق، وكان الحارث أشجع اليهود، وأخوه زبير قتل يومئذٍ، فكان زوجها سيدهم وأشجعهم سلام بن مشكم، كان مريضاً وكان في حصون النطاة فقيل له: إنه لا قتال فيكم فكن في الكتيبة. قال: لا أفعل أبداً. فقتل وهو مريض، وهو أبو الحكم الذي يقول فيه الربيع بن أبي الحقيق:
ولما تداعوا بأسيافهم ... فكان الطعان دعونا سلاما
وكنا إذا ما دعونا به ... سقينا سراة العدو السماما
وهو كان صاحب حربهم ولكن الله شغله بالمرض.
قالوا: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم يوم خيبر فروة بن عمرو البياضي، وكان قد جمع ما غنم المسلمون في حصون النطاة وحصون الشق وحصون الكتيبة، لم يترك على أحدٍ من أهل الكتيبة إلا ثوباً على ظهره من الرجال والنساء والصبيان، وجمعوا أثاثاً كثيراً وبزاً وقطائف وسلاحاً كثيراً، وغنماً وبقراً، وطعاماً وأدماً كثيراً. فأما الطعام والأدم والعلف فلم يخمس، يأخذ منه الناس حاجتهم، وكان من احتاج إلى سلاحٍ يقاتل به أخذه من صاحب المغنم، حتى فتح الله عليهم فرد ذلك المغنم. فلما اجتمع ذلك كله أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزىء خمسة أجزاء، وكتب في سهمٍ منها لله وسائر السهمان أغفال. فكان أول ما خرج سهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخير في الأخماس، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيع الأربعة الأخماس فيمن يريد، فجعل فروة يبيعها فيمن يريد، فدعا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة وقال: اللهم ألق عليها النفاق! قال فروة بن عمرو: فلقد رأيت الناس يتداركون علي ويتواثبون حتى نفق في يومين، ولقد كنت أرى أنا لا نتخلص منه حيناً لكثرته. وكان الخمس الذي صار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغنم يعطى منه على ما أراد الله من السلاح والكسوة، فأعطى منه أهل بيته من الثياب والخرز والأثاث، وأعطى رجالاً من بني عبد المطلب ونساءً، وأعطى اليتيم والسائل. وجمعت يومئذٍ مصاحف فيها التوراة من المغنم، فجاءت اليهود تطلبها وتكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ترد عليهم. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عارٌ وشنارٌ ونارٌ يوم القيامة. فباع يومئذٍ فروة المتاع، فأخذ عصابةً فعصب بها رأسه ليستظل بها من الشمس، ثم رجع إلى منزله وهي عليه فذكر فخرج فطرحها. وأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عصابةٌ من نارٍ عصبت بها رأسك. وسأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ من الفيء شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لي من الفيء خيطٌ ولا مخيطٌ، لا آخذ ولا أعطي. فسأله رجلٌ عقالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى نقسم الغنائم ثم أعطيك عقالاً، وإن شئت مراراً . وكاىن رجلٌ أسود مع النبي صلى الله عليه وسلم يمسك دابته عند القتال يقال له كركرة، فقتل يومئذ، فقيل: يا رسول الله استشهد كركرة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه الآن ليحرق في النار على شملة غلها. فقال رجلٌ من القوم: يا رسول الله، أخذت شراكين يومئذٍ كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراكان من نار. وتوفي يومئذٍ رجل من أشجع، وإنهم ذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم. فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم غل في سبيل الله. قال زيد بن خالد الجهني: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يسوى درهمين. وكان نفرٌ من المسلمين أصابوا خرزاً من خرز اليهود وكانوا رفقاء؛ فقال المحدث لهذا الحديث: لو كان الخرز عندكم اليوم لم يسو درهمين. فأتي بذلك الخرز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من المقسم، فقالوا: يا رسول الله، نسينا! هذا الخرز عندنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم يحلف بالله أنه نسيه؟ قالوا: نعم. فحلفوا بالله جميعاً أنهم نسوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرير الموتى فسجن عليهم بالربطان، ثم صلى عليهم صلاة الموتى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد الغلول في رحل الرجل فلا يعاقبه، ولم يسمع أنه أحرق رحل أحدٍ وجد في رحله، ولكنه يعنف ويؤنب ويؤذي ويعرف الناس به.
قالوا: واشترى يوم خيبر تبراً بذهبٍ جزافاً، فلهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان فضالة بن عبيد يحدث يقول: اصبت يومئذٍ قلادةً فبعتها بثمانية دنانير، فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللهعليه وسلم، فقال: بع الذهب وزناً بوزنٍ. وكان في القلادة ذهبٌ وغيره فرجعت فيها. واشترى السعدان تبراً بذهب أحدهما أكثر وزناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربيتما فردا! ووجد رجلٌ يومئذٍ في خربةٍ مائتي درهم، فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ودفعها إليه.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره، ولا يبع شيئاً من المغنم حتى يعلم، ولا يركب دابةً من المغنم حتى إذا براها ردها، ولا يلبس ثوباً من المغنم حتى إذا أخلقه رده، ولا يأت من السبي حتى تستبرىء وتحيض حيضة، وإن كانت حبلى حتى تضع حملها. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ على امرأةٍ مجح فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان. قال: فلعله يطؤها؟ قالوا: نعم. قال: كيف بولدها يرثه وليس بابنه، أو يسترقه وهو يعدو في سمعه وبصره؟ لقد هممت أن ألعنه لعنةً تتبعه في قبره.
قالوا: وقدم أهل السفينتين من عند النجاشي بعد أن فتحت خيبر، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر قال: ما أدري بأيهما أنا أسر، بقدوم جعفر أو فتح خيبر! ثم ضمه رسول الله وقبل بين عينيه.
وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو وأصحابهم ونفرٌ من الأشجعيين، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة. قالوا: نعم يا رسول الله. ونظر أبان بن سعيد بن العاص إلى أبي هريرة فقال: أما أنت فلا. فقال أبو هريرة: يا رسول الله، هذا قاتل ابن قوقل. قال أبان بن سعيد: يا عجباه لوبرٍ تدلى علينا من قدوم ضأنٍ ! ينعى علي قتل امرىءٍ مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهنى على يده.
قالوا: وكان الخمس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل مغنم غنمه المسلمون، شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غاب عنه. وكان لا يقسم لغائبٍ في مغنمٍ لم يشهده، إلا أنه في بدرٍ ضرب لثمانية لم يشهدوا، كلهم مستحقٌّ فيها. وكانت خيبر لأهل الحديبية، من شهدها منهم أو غاب عنها قال الله عز وجل: " وعدكم الله مغانم كثيرةً تأخذونها فعجل لكم هذه " يعني خيبر. وقد تخلف عنها رجال: مري بن سنان، وأيمن بن عبيد، وسباع بن عرفطة الغفاري، خلفه على المدينة، وجابر بن عبد الله وغيرهم. ومات منهم رجلان، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تخلف منهم ومن مات، وأسهم لمن شهد خيبر من الناس ممن لم يشهد الحديبية. وأسهم لرسلٍ كانوا يختلفون إلى أهل فدك، محيصة بن مسعود الحارثي وغيره، فأسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحضروا. وأسهم لثلاثة مرضى لم يحضروا القتال: سويد بن النعمان، وعبد الله بن سعد بن خيثمة، ورجل من بني خطامة، وأسهم للقتلى الذين قتلوا من المسلمين.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة ذلك. وقد قال قائل: إنما كانت خيبر لأهل الحديبية، لم يشهدها غيرهم ولم يسهم فيها لغيرهم. والقول الأول أثبت عندنا أن قوماً شهدوا خيبر فأسهم لهم ولم يكونوا شهدوا الحديبية.
حدثني ابن أبي سبرة، عن قطير الحارثي، عن حزام بن سعد بن محيصة قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة غزا بهم إلى خيبر، فأسهم لهم كسهمان المسلمين. ويقال: أحذاهم ولم يسهم لهم، وكان معهم مملوكون، منهم عمير مولى آبي اللحم. قال عمير: ولم يسهم لي وأعطاني خرثى متاع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محذيهم . وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عشرون امرأة: أم سلمة زوجته، وصفية بنت عبد المطلب، وأم أيمن، وسلمى امرأة أبي رافع مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وامرأة عاصم بن عدي ولدت سهلة بنت عاصم بخيبر، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، وأم منيع وهي أم شباث، وكعيبة بنت سعد الأسلمية، وأم متاع الأسلمية، وأم سليم بنت ملحان، وأم الضحاك بنت مسعود الحارثية، وهند بنت عمرو ابن حزام، وأم العلاء الأنصارية، وأم عامر الأشهلية، وأم عطية الأنصارية، وأم سليط.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت الحكم، عن أمية بنت قيس بن أبي الصلت الغفارية، قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلنا: إنا نريد يا رسول الله أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله! قالت: فخرجنا معه وكنت جارية حديثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، فنزل الصبح فأناخ وإذا أنا بالحقيبة عليها دمٌ مني؛ وكانت أول حيضة حضتها، فتقبضت إلى الناقة واستحييت. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: لعلك نفست! قلت: نعم قال: فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناءً من ماءٍ، ثم اطرحي فيه ملحاً واغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي. ففعلت، فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيء ولم يسهم، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبداً. وكانت في عنقها حتى ماتت وأوصت أن تدفن معها، وكانت لا تطهر إلا وجعلت في طهورها ملحاً، وأوصت أن يجعل في غسلها ملحٌ حين غسلت.
حدثني عبد السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن أنيس، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ومعي زوجي حبلى، فنفست بالطريق فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقع لها تمراً فإذا أنعم بله فامرثه ثم تشربه. ففعلت فما رأت شيئاً تكرهه. فلما فتحنا خيبر أحذى النساء ولم يسهم لهن، فأحذى زوجتي وولدي الذي ولد. قال عبد السلام: لست أدري غلام أم جارية.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، عن أم العلاء الأنصارية قالت: فأصابني ثلاث خرزات، وكذلك أصاب صواحبي، وأتي يومئذٍ برعاث من ذهب، فقال: هذا لبنات أخي سعد بن زرارة، فقدم بها عليهن فرأيت ذلك الرعاث عليهن، وذلك من خمسه يوم خيبر.
حدثني عبد الله بن أبي يحيى، عن ثبيتة بنت حنظلة الأسلمية، عن أمها أم سنان قالت: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج جئته فقلت: يا رسول الله، أخرج معك في وجهك هذا، أخرز السقاء، وأداوي المرضى والجريح إن كانت جراح - ولا يكون - وأنظر الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجي على بركة الله فإن لك صواحب قد كلمنني وأذنت لهن من قومك ومن غيرهم، فإن شئت فمع قومك وإن شئت فمعنا. قلت: معك! قال: فكوني مع أم سلمة زوجتي. قالت: فكنت معها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو من الرجيع كل يومٍ عليه الدرع، فإذا أمسى رجع إلينا، فمكث على ذلك سبعة أيام حتى فتح الله النطاة، فلما فتحها تحول إلى الشق وحولنا إلى المنزلة، فلما فتح خيبر رضخ لنا من الفيء، فأعطاني خرزاً وأوضاحاً من فضة أصيبت في المغنم، وأعطاني قطيفةً فدكية، وبرداً يمانياً، وخمائل ، وقدراً من صفر . وكان رجالٌ من أصحابه قد جرحوا فكنت أداويهم بدواءٍ كان عند أهلي فيبرأون، فرجعت مع أم سلمة فقالت لي حين أردنا ندخل المدينة، وكنت على بعيرٍ من إبل النبي صلى الله عليه وسلم منحه لي، فقالت: بعيرك الذي تحتك لك رقبته أعطاكيه رسول الله. قالت: فحمدت الله وقدمت بالبعير فبعته بسبعة دنانير. قالت: فجعل الله في وجهي ذلك خيراً.
قالوا: فأسهم للنساء، وأسهم لسهلة بنت عاصم، ولدت بخيبر، وولد لعبد الله بن أنيس بخيبر، فأسهم للنساء والصبيان. ويقالك رضخ للنساء والصبيان ولم يجعلهم كأهل الجهاد.
وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، قال: رأيت في رقبة أم عمارة خرزاً حمراً فسألتها عن الخرز فقالت: أصاب المسلمون خرزاً في حصن الصعب بن معاذ دفن في الأرض، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به بمن معه من النساء فأحصين، فكنا عشرين امرأة، فقسم ذلك الخرز بيننا هذا وأرضخ لنا من الفيء، قطيفةً وبرداً يمانياً ودينارين، وكذلك أعطى صواحبي. قلت: فكم كانت سهمان الرجال؟ قالت: ابتاع زوجي غزية بن عمرو متاعاً بأحد عشر ديناراً ونصف، فلم يطالب بشيءٍ، فظننا أن هذه سهمان الفرسان - وكان فارساً - وباع ثلاثة أسهم في الشق زمن عثمان بثلاثين ديناراً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاد في خيبر ثلاثة أفراس، لزاز والظرب والسكب ؛ وكان الزبير بن العوام قد قاد أفراساً، وكان خراش بن الصمة قد قاد فرسين، وكان البراء ابن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف - أبو إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم أرضعه - قد قاد فرسين؛ وكان أبو عمرو الأنصاري قد قاد فرسين. قال: فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من كان له فرسان خمسة أسهم، اربعة لفرسيه وسهماً له، وما كان أكثر من فرسين لم يسهم له. ويقال إنه لم يسهم إلا لفرسٍ واحد، واثبت ذلك أنه أسهم لفرسٍ واحد. ويقال: إنه عرب العربي يوم خيبر وهجن الهجين؛ فأسهم للعربي وألقى الهجين. وقال بعضهم: لم يكن الهجين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كانت العراب حتى كان زمن عمر بن الخطاب وفتح العراق والشام، ولم يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لمن كان معه من الخيل لنفسه إلا لفرسٍ واحد، هو معروف، سهم الفرس. وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في النطاة ثلاثة أسهم، لفرسه سهمان وله سهم، كان مع عاصم بن عدي.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: خرج سويد بن النعمان على فرس، فلما نظر إلى بيوت خيبر في الليل وقع به الفرس، فعطب الفرس وكسرت يد سويد، فلم يخرج من منزله حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم فارس.
قالوا: وكانت الخيل مائتي فرس. ويقال: ثلاثمائة، ومائتان أثبت عندنا. وكان الذي ولي إحصاء المسلمين زيد بن ثابت، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم الذين غنموا من المتاع الذي بيع، ثم أحصاهم ألفاً وأربعمائة، والخيل مائتي فرس. فكانت السهمان على ثمانية عشر سهماً، وهم الذين ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسهمان، ولخيلهم أربع عشرة مائة، والخيل مائتي فارس لها أربعمائة سهم. فكانت سهمان المسلمين التي أسهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في النطاة أو في الشق ثلاثة أسهمٍ فوضى لم تعرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحد ولم تقسم، إنما لها رؤساءٌ مسمون، لكل مائةٍ رأسٌ يعرف يقسم على أصحابه ما خرج من غلتها، فكان رؤساؤهم في الشق والنطاة: عاصم بن عدي، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله رضوان الله عليهم. وسهم بني ساعدة، وسهم بني النجار لهم رأس، وسهم حارثة بن الحارث، وسهم أسلم وغفار، وسهم بني سلمة - وكانوا أكثر ورأسهم معاذ بن جبل - وسهم عبيدة رجل من اليهود، وسهم أوس، وسهم بني الزبير، وسهم أسيد بن حضير، وسهم بلحارث بن الخزرج، رأسه عبد الله بن رواحة، وسهم بياضة، رأسه فروة بن عمرو، وسهم ناعم. فهذه ثمانية عشر سهماً في الشق والنطاة فوضى يقبض رؤساءهم الغلة منه، ثم يفض عليهم، ويبيع الرجل سهمه فيجوز ذلك. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من رجلٍ من بني غفار سهمه بخيبر ببعيرين ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعلم أن الذي آخذ منك خير من الذي أعطيك، والذي أعطيك دون الذي أخذ منك، وإن شئت فخذ وإن شئت فأمسك! فأخذ الغفاري. وكان عمر بن الخطاب يشتري من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهم، وأخذ من أصحابه وهم مائة، وهو سهم أوس كان يسمى سهم اللفيف حتى صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابتاع محمد بن مسلمة من سهم أسلم سهماناً، ويقال: إن أسلم كانوا بضعة وسبعين، وغفار بضعة وعشرين فكانوا مائة، ويقال: كانت أسلم مائة وسبعين، وغفار بضعة وعشرين، وهذا مائتا سهم، والقول الأول أثبت عندنا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر سأله اليهود فقالوا: يا محمد، نحن أرباب النخل وأهل المعرفة بها. فساقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على شطرٍ من التمر والزرع، وكان يزرع تحت النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقركم على ما أقركم الله. فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، وأبي بكر، وصدرٍ من خلافة عمر، وكان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص عليهم النخل، فكان يخرصها فإذا خرص قال: إن شئتم فلكم وتضمنون نصف ما خرصت، وإن شئتم فلنا ونضمن لكم ما خرصت. وإنه خرص عليهم أربعين ألف وسقٍ، فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك، وتجاوز في القسم. فقال: يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك يحملني أن أحيف عليكم. قالوا: بهذا قامت السموات والأرض! فكان عبد الله بن رواحة يخرص عليهم، فلما قتل يوم مؤتة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا الهيثم بن التيهان يخرص عليهم، ويقال: جبار بن صخر، فكان يصنع بهم مثل ما كان يصنع عبد الله بن رواحة، ويقال: الذي خرص بعد ابن رواحة عليهم فروة بن عمرو. قالوا: وجعل المسلمون يقعون في حرثهم وبقلهم بعد المساقاة وبعد أن صار ليهود نصفه، فشكت اليهود ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، ويقال: عبد الرحمن بن عوف، فنادى: إن الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم. فاجتمع الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن اليهود شكوا إلي أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم وعلى أموالهم والذي في أيديهم من أراضيهم، وعاملناهم، وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها. وكان المسلمون لا يأخذون من بقولهم شيئاً إلا بثمن، فربما قال اليهودي للمسلم: أنا أعطيكه باطلاً ! فيأبى المسلم إلا بثمن.
قال ابن واقد: وقد اختلف علينا في الكتيبة، فقال قائل: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خالصةً ولم يوجف! عليها المسلمون، إنما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الله بن نوح، عن ابن غفير، وموسى بن عمرو بن عبد الله ابن رافع، عن بشير بن يسار. وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، أنهم كانوا يقولون ذلك. وقال قائل: هي خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، من الشق والنطاة. وحدثني قدامة بن موسى، عن ابي بكر بن محمد بن محمد بن عمرو بن حزام، قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز في خلافته أن افحص لي عن الكتيبة. قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق والكتيبة خمسة أجزاء، وكانت الكتيبة جزءاً منها، ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بعراتٍ، وأعلم في بعرةٍ منها، فجعل لله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل سهمك في الكتيبة. فكان أول ما خرج منها الذي فيه مكتوبٌ على الكتيبة، فكانت الكتيبة خمس النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السهمان أغفالاً ليس عليها علامات، وكانت فوضى للمسلمين على ثمانية عشر سهماً. قال أبو بكر: فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز بذلك.
وحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي مالك، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: لما خرج سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان الشق والنطاة أربعة الأخماس للمسلمين فوضى.
وحدثني عبد الله بن عون، عن أبي مالك الحميري، عن سعيد بن المسيب، وحدثني محمد ، عن الزهري، قال: الكتيبة خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم من أطعم في الكتيبة وينفق على أهله منها. قال ابن واقد: والثبت عندنا أنها خمس النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطعم من الشق والنطاة أحداً وجعلها سهماناً للمسلمين، وكانت الكتيبة التي أطعم فيها. كانت الكتيبة تخرص ثمانية آلاف وسق تمر، فكان لليهود نصفها أربعة آلاف، وكان يزرع في الكتيبة شعير، فكان يحصد منها ثلاثة آلاف صاع، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم نصفه؛ ألف وخمسمائة صاع شعير، وكان يكون فيها نوى فربما اجتمع ألف صاع فيكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصفه، فكل هذا قد أعطى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من الشعير والتمر والنوى.
تسمية سهمان الكتيبةخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وسلالم، والجاسمين، وسهما النساء، وسهما مقسم - وكان يهودياً - وسهما عوان، وسهم غريث، وسهم نعيم، وهو اثنا عشر سهماً.
ذكر طعم النبي في الكتيبة أزواجه وغيرهمأطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل امرأةٍ من نسائه ثمانين وسقاً تمراً وعشرين وسقاً شعيراً. وللعباس بن عبد المطلب مائتي وسق، ولفاطمة وعلي رضي الله عنهما من الشعير والتمر ثلاثمائة وسق، والشعير من ذلك خمسة وثمانين وسقاً، لفاطمة من ذلك مائتا وسق. ولأسامة بن زيد مائة وخمسون، منها أربعون شعيراً وخمسون وسقاً نوىً، ولأم رمثة بنت عمر بن هاشم بن المطلب خمسة أوساق شعير، وللمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً شعيراً.
وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، قالت: بعنا طعمة المقداد بن عمرو من خيبر خمسة عشر وسقاً شعيراً من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى محمد رسول الله لأبي بكر بن أبي قحافة مائة وسق. ولعقيل بن أبي طالب مائة وأربعين، ولبني جعفر بن أبي طالب خمسين وسقاً، ولربيعة بن الحارث مائة وسق، ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مائة وسق، وللصلت بن مخرمة بن المطلب ثلاثين وسقاً، ولأبي نبقة خمسين وسقاً، ولركانة بن عبد يزيد خمسين وسقاً، وللقاسم بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقاً، ولمسطح بن أثاثة بن عباد وأخته هند ثلاثين وسقاً، ولصفية بنت عبد المطلب أربعين وسقاً، ولبحينة بنت الحارث بن المطلب ثلاثين وسقاً، ولضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أربعين وسقاً، وللحصين، وخديجة، وهند بن عبيدة بن الحارث مائة وسق، ولأم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب ثلاثين وسقاً، ولأم هانىء بنت أبي طالب أربعين وسقاً، ولجمانة بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً، ولأم طالب بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً، ولقيس بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقاً، ولأبي أرقم خمسين وسقاً، ولعبد الرحمن ابن أبي بكر أربعين وسقاً، ولأبي بصرة أربعين وسقاً، ولابن أبي حبيش ثلاثين وسقاً، ولعبد الله بن وهب وابنيه خمسين وسقاً، لابنيه أربعين وسقاً، ولنميلة الكلبي من بني ليث خمسين وسقاً، ولأم حبيبة بنت جحش ثلاثين وسقاً، ولملكان بن عبدة ثلاثين وسقاً، ولمحيصة بن مسعود ثلاثين وسقاً، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم للرهاويين بطعمةٍ من خمس خيبر بجاد مائة وسق، وللداريين بجاد مائة وسق، وهم عشرة من الداريين قدموا من الشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى لهم بطعمة مائة وسق: هانىء بن حبيب، والفاكه بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند بن بر وأخوه الطيب بن بر، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وتميم بن أوس، ونعيم بن أوس، ويزيد بن قيس، وعزيز بن مالك، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وأخوه مرة بن مالك، وأوصى للأشعريين بجاد مائة وسق.
أخبرنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: حدثنا ابن الثلجي قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بثلاثة أشياء، للداريين بجاد مائة وسق، وللأشعريين بجاد مائة وسق، وللرهاويين بجاد مائة وسق، وأن ينفذ جيش أسامة بن زيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد له إلى مقتل أبيه، والا يترك بجزيرة العرب دينان.
قالوا: ثم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في قسم خمس خيبر فأشار عليه أن يقسمه في بني هاشم وبني المطلب وبني عبد يغوث.
وحدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال جبير ابن مطعم: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بخيبر من بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني المطلب لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أفرأيت إخواننا من بني المطلب، إنما نحن وهم منك بمنزلةٍ واحدة، أعطيتهم وتركتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني المطلب لم يفارقوني في الجاهلية والإسلام؛ دخلوا معنا في الشعب، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ! وشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
قالوا: وكان عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث يحدث قال: اجتمع العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث فقالا: لو بعثنا هذين الغلامين - لي وللفضل بن عباس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدى الناس، وأصابا ما يصيبون من المنفعة. فبعث بي والفضل فخرجنا حتى جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقناه، وانصرف إلينا من الظهر وقد وقفنا له عند حجرة زينب، فأخذ بمناكبهما فقال: أخرجا ما تسران ! فلما دخل دخلا عليه فكلماه فقالا: يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنؤدى ما يؤدى الناس، ونصيب ما يصيبون من المنفعة. فسكت ورفع رأسه إلى سقف البيت ثم أقبل علينا فقال: إن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس. ادع لي محمية بن جزء الزبيدي وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال لمحمية: زوج هذا ابنتك - للفضل . وقال لأبي سفيان: زوج هذا ابنتك - لعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث. وقال لمحمية: أصدق عنهما مما عندك من الخمس! وكان يكون على الخمس. فكان ابن عباس يقول: قد دعانا عمر إلى أن ينكح فيه أيامانا ويخدم منه عائلنا، ويقضي منه غارمنا، فأبينا عليه إلا أن يسلمه كله، وابى ذلك علينا.
حدثني مصعب بن ثابت، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير أن أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنهم جعلوا هذين السهمين على اليتامى والمساكين. وقال بعضهم: في السلاح والعدة في سبيل الله. وكانت تلك الطعمة تؤخذ بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وفي خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، رضي الله عنهم، حتى كان يحيى بن الحكم فزاد في الصاع سدس المد، فأعطى الناس بالصاع الذي زاد، ثم كان أبان ابن عثمان فزاد فيه فأعطاهم بذلك، وكان من مات من المطعمين أو قتل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فإنه يرثه تلك الطعمة من ورث ماله. فلما ولي عمر بن الخطاب قبض طعمة كل من مات ولم يورثه، فقبض طعمة زيد بن حارثة، وقبض طعمة جعفر بن أبي طالب، وكلمه فيه علي بن أبي طالب فأبى؛ وقبض طعمة صفية بنت عبد المطلب، فكلمه الزبير في ذلك حتى غالظه فأبى عليه برده، فلما ألح عليه قال: أعطيك بعضه. قال الزبير: لا والله، لا تخلف تمرةً واحدةً تحبسها عني! فأبى عمر تسليمه كله إليه. قال الزبير: لا آخذه إلا جميعاً! فأبى عمر وأبى أن يرد على المهاجرين. وقبض طعمة فاطمة، فكلم فيها فأبى أن يفعل. وكان يجيز لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعن، فماتت زينب بنت جحش في خلافته فخلى بين ورثتها وبين تلك الطعمة، وأجاز ما صنعن فيه من بيع أو هبة، وورث ذلك كل من ورثهن ولم يفعل بغيرهن. وأبى أن يجيز بيع من باع تلك الطعمة، وقال: هذا شيء لا يعرف، إذا مات المطعم بطل حقه فكيف يجوز بيعه؟ إلا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أجاز ما صنعن، فلما ولي عثمان كلم في تلك الطعمة فرد على أسامة ولم يرد على غيره. فكلمه الزبير في طعمة صفية أمه فأبى يرده وقال: أنا حاضرك حين تكلم عمر، وعمر يأبى عليك يقول خذ بعضه، فأنا أعطيك بعضه الذي عرض عليك عمر، أنا أعطيك الثلثين وأحتبس الثلث. فقال الزبير: لا والله، لا تمرة واحدة حتى تسلمه كله أو تحتبسه.
حدثني شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: لما توفي أبو بكر رضي الله عنه كان ولده ورثته يأخذون طعمته من خيبر؛ مائة وسق في خلافة عمر وعثمان، ورثت امرأته أمر ومان بنت عامر بن عويمر الكنانية ، وحبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، فلم يزل جارياً عليهن حتى كان زمن عبد المللك أو بعده فقطع.
قال أبو عبد الله: سألت إبراهيم بن جعفر عمن أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خمس خيبر فقال: لا تسأل عنه أحداً أبداً أعلم مني؛ كان من أعطي منه طعمةً جرت عليه حتى يموت، ثم يرثه من ورثته، يبيعون ويطعمون ويهبون؛ كان هذا على عهد أبي بكر وعمر وعثمان. قلت: ممن سمعت ذلك. قال: من أبي وغيره من قومي. قال أبو عبد الله: فذكرت لعبد الرحمن بن عبد العزيز هذا الحديث فقال: أخبرني من أثق به أن عمر كان يقبض تلك الطعمة إذا مات الميت في حياة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن. ثم يقول: توفيت زينب بنت جحش في سنة عشرين في خلافة عمر فقبض طعمتها، فكلم فأبى أن يعطيها الورثة. قال: إنما كانت من النبي صلى الله عليه وسلم طعمةً ما كان المرء حياً، فإذا مات فلا حق لورثته. قال: فكان الأمر على ذلك في خلافة عمر حتى توفي، ثم ولي عثمان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أطعم زيد بن حارثة طعمةً من خيبر لم يكن له بها كتاب، فلما توفي زيد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد. قلت: فإن بعض من يروي يقول: كلم أسامة بن زيد عمر وعثمان في طعمة أبيه فأبى، قال: ما كان إلا كما أخبرتك. قال أبو عبد الله: هذا الأمر.
تسمية من استشهد بخيبر مع رسول اللهمن بني أمية من حلفائهم: ربيعة بن أكثم، قتل بالنطاة، قتله الحارث اليهودي؛ وثقف بن عمرو بن سميط، قتله أسير اليهودي؛ ورفاعة بن مسروح، قتله الحارث اليهودي. ومن بني أسد بن عبد العزى: عبد الله بن أبي أمية بن وهب حليفٌ لهم وهو ابن أختهم، قتل بالنطاة. ومن الأنصار محمود بن مسلمة دلى عليه مرحب رحىً من حصن ناعم بالنطاة. ومن بني عمرو بن عوف: أبو الضياح بن النعمان، شهد بدراً؛ والحارث بن حاطب قد شهد بدراً، وعدي بن مرة بن سراقة؛ وأوس بن حبيب، قتل على حصن ناعم؛ وأنيف بن وائلة ، قتل على حصن ناعم. ومن بني زريق: مسعود بن سعد، قتله مرحب. ومن بني سلمة: بشر بن البراء بن معرور، مات من الشاة المسمومة؛ وفضيل بن النعمان، وهو من العرب، من أسلم؛ وعامر بن الأكوع، أصاب نفسه على حصن ناعم فدفن هو ومحمود بن مسلمة في غارٍ واحدٍ بالرجيع. ومن بني غفار: عمارة بن عقبة بن عباد بن مليل، ويسار، العبد الأسود، ورجلٌ من أشجع؛ فجميع من استشهد خمسة عشر رجلاً. وقد اختلف في الصلاة عليهم فقال قائلٌ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال قائلٌ: لم يصل عليهم. وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلاً. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبلة بن جوال الثعلبي كل داجن بخيبر، ويقال: أعطاه كل داجن في النطاة، ولم يعطه من الكتيبة ولا من الشق شيئاً.
ذكر ما قيل من الشعر في خيبرقال ناجية بن جندب الأسلمي:
يا عباد الله فيما نرغب ... ما هو إلا مأكلٌ مشرب
وجنةٌ فيها نعيمٌ معجب
وقال أيضاً:
أنا لمن أبصرني ابن جندب ... يا رب قرنٍ قد تركت أنكب
طاح عليه أنسرٌ وثعلب
أنشدني هذا عبد الملك بن وهب من ولد ناجية قال: مازلت أرويها لأبي وأنا غلام.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، أنه سئل عن الرهان التي كانت بين قريش حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال: كان حويطب بن عبد العزى يقول: انصرفت من صلح الحديبية وأنا مستيقن أن محمداً سيظهر على الخلق، وتأبى حمية الشيطان إلا لزوم ديني، فقدم علينا عباس بن مرداس السلمي فخبرنا أن محمداً سار إلى خيابر، وأن خيابر قد جمعت الجموع فمحمدٌ لا يفلت، إلى أن قال عباس: من شاء بايعته لا يفلت محمد. فقلت: أنا أخاطرك. فقال صفوان بن أمية: أنا معك يا عباس. وقال نوفل بن معاوية: أنا معك يا عباس. وضوى إلي نفرٌ من قريش، فتخاطرنا مائة بعير خماساً إلى مائة بعير، أقول أنا وحيزي يظهر محمد. ويقول عباس وحيزه: تظهر غطفان. فاضطرب الصوت، فقال أبو سفيان بن حرب: خشيت واللات حيز عباس بن مرداس، فغضب صفوان وقال: أدركتك المنافية! فأسكت أبو سفيان، وجاءه الخبر بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حويطب وحيزه الرهن.
قالوا: وكانت الأيمن تحلف عن خيبر؛ وكان أهل مكة حين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر قد تبايعوا بينهم، منهم من يقول: يظهر الحليفان أسد وغفار واليهود بخيبر، وذلك أن اليهود أوعبت في حلفاءها، فاستنصروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنة، فكانت بينهم في ذلك بيوعٌ عظامٌ.
وكان الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي قد خرج يغير في بعض غاراته، فذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسلم وحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وكانت أم شيبة بنت عمير بن هاشم أخت مصعب العبدي امرأته، وكان الحجاج مكثراً، له مال كثير، معادن الذهب التي بأرض بني سليم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي حتى أذهب فآخذ ما لي عند امرأتي، فإن علمت بإسلامي لم آخذ منه شيئاً، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لابد لي يا رسول الله من أن أقول. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء. قال الحجاج: فخرجت فلما انتهيت إلى الحرم هبطت فوجدتهم بالثنية البيضاء، وإذا بهم رجالٌ من قريش يتسمعون الأخبار، قد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر، وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعة ورجالاً وسلاحاً، فهم يتحسبون الأخبار مع ما كان بينهم من الرهان، فلما رأوني قالوا: الحجاج ابن علاط عنده والله الخبر! يا حجاج، إنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر بلد اليهود وريف الحجاز. فقلت: بلغني أنه قد سار إليها وعندي من الخبر ما يسركم. فالتبطوا بجانبي راحلتي يقولون: يا حجاج أخبرنا. فقلت: لم يلق محمدٌ وأصحابه قوماً يحسنون القتال غير أهل خيبر. كانوا قد ساروا في العرب يجمعون له الجموع وجمعوا له عشرة آلاف، فهزم هزيمة لم يسمع قط بمثلها، وأسر محممد أسراً، فقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فنقتله بين أظهرهم بمن قتل منا ومنهم! ولهذا فإنهم يرجعون إليكم يطلبون الأمان في عشائرهم ويرجعون إلى ما كانوا عليه، فلا تقبلوا منهم وقد صنعوا بكم ما صنعوا. قال: فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما ينتظر أن يقدم به عليكم. وقلت: أعينوني على جمع مالي على غرمائي فأنا أريد أن أقدم فأصيب من محمد وأصحابه قبل أن تسبقني التجار إلى ما هناك. فقاموا فجمعوا إلي مالي كأحث جمعٍ سمعت به، وجئت صاحبتي وكان لي عندها مال فقلت لها: مالي، لعلي ألحق بخيبر فأصيب من البيع قبل أن يسبقني التجار إلى من انكسر هناك من المسلمين . وسمع ذلك العباس فقام، فانخذل ظهره فلم يستطع القيام، فأشفق أن يدخل داره فيؤذى، وعلم أن سيؤذى عند ذلك، فأمر بباب داره يفتح وهو مستلق، فدعا بابنه قثم وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يرتجز ويرفع صوته ألا يشمت به الأعداء. وحضر باب العباس بين مغيظ محزون، وبين شامت، وبين مسلم ومسلمة، مقهورين بظهور الكفر والبغي، فلما رأى المسلمون العباس طيبةً نفسه طابت أنفسهم واشتدت منتهم ، ودعا غلاماً له يقال له أبو زبينة فقال له: اذهب إلى الحجاج فقل، يقول العباس: الله أعلى وأجل من أن يكون الذي تخبر حقاً. فجاءه فقال الحجاج: قل لأبي الفضل: أحلني في بعض بيوتك حتى آتيك ظهراً ببعض ما تحب، فاكتم عني. فأقبل أبو زبينة يبشر العباس أبشر بالذي يسرك فكأنه لم يمسه شيءٌ، ودخل عليه أبو زبينة فاعتنقه العباس وأعتقه وأخبره بالذي قال، فقال العباس: لله علي عتق عشر رقاب! فلما كان ظهراً جاءه الحجاج فناشده الله: لتكتمن علي ثلاثة أيام. فواثقه العباس على ذلك، قال: فإني قد أسلمت ولي مال عند امرأتي ودين على الناس، ولو علموا بإسلامي لم يدفعوا إلي؛ تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، وجرت سهام الله ورسوله فيها وانتثل ما فيها، وتركته عروساً بابنة حيي بن أخطب، وقتل ابن أبي الحقيق. قال: فلما أمسى الحجاج من يومه خرج، وطال على العباس تلك الليالي، ويقال: إنما استنظر العباس يوماً وليلة، وجعل العباس يقول: يا حجاج، انظر ما تقول فإني عارف بخيبر؛ هي ريف الحجاز أجمع، وأهل المنعة والعدة في الرجال. أحقاً ما تقول؟ قال: إي والله، فاكتم عني يوماً وليلة. حتى إذا مضى الأجل والناس يموجون في شأن ما تبايعوا عليه، عمد العباس إلى حلةٍ فلبسها، وتخلق الخلوق وأخذ في يده قضيباً، ثم أقبل يخطر حتى وقف على باب الحجاج بن علاط، فقرعه فقالت زوجته: لا تدخل، أبا الفضل! قال: فأين الحجاج. قالت: انطلق إلى غنائم محمد ليشتري منها التي أصابت اليهود منهم قبل أن تسبقه التجار إليها. فقال لها العباس: فإن الرجل ليس لك بزوجٍ إلا أن تتبعي دينه؛ إنه قد أسلم وحضر الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب بماله
هارباً منك ومن أهلك أن يأخذوه. قالت: أحقاً يا أبا الفضل؟ قال: إي والله! قالت: والثواقب إنك لصادق. ثم قامت تخبر أهلها، وانصرف العباس إلى المسجد وقريش يتحدثون بما كان من حديث الحجاج، فلما نظروا إليه وإلى حاله تغامزوا وعجبوا من تجلده، ثم دخل في الطواف بالبيت، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة! أين كنت منذ ثلاث لا تطلع؟ قال العباس: كلا والذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم حيي بن أخطب، وضرب أعناق بني أبي الحقيق البيض الجعاد الذين رأيتموهم سادة النضير من يثرب، وهرب الحجاج بماله الذي عند امرأته. قالوا: من خبرك بهذا؟ قال العباس: الصادق في نفسي، الثقة في صدري، فابعثوا إلى أهله! فبعثوا فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله حتى يصبح، فسألوا عن ذلك كله فوجدوه حقاً، فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون، ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك.ً منك ومن أهلك أن يأخذوه. قالت: أحقاً يا أبا الفضل؟ قال: إي والله! قالت: والثواقب إنك لصادق. ثم قامت تخبر أهلها، وانصرف العباس إلى المسجد وقريش يتحدثون بما كان من حديث الحجاج، فلما نظروا إليه وإلى حاله تغامزوا وعجبوا من تجلده، ثم دخل في الطواف بالبيت، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة! أين كنت منذ ثلاث لا تطلع؟ قال العباس: كلا والذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم حيي بن أخطب، وضرب أعناق بني أبي الحقيق البيض الجعاد الذين رأيتموهم سادة النضير من يثرب، وهرب الحجاج بماله الذي عند امرأته. قالوا: من خبرك بهذا؟ قال العباس: الصادق في نفسي، الثقة في صدري، فابعثوا إلى أهله! فبعثوا فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله حتى يصبح، فسألوا عن ذلك كله فوجدوه حقاً، فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون، ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك.
باب شأن فدكقالوا: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدكٍ يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحل بساحتهم. قال محيصة: جئتهم فأقمت عندهم يومين، وجعلوا يتربصون ويقولون: بالنطاة عامر، وياسر، وأسير، والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمداً يقرب حراهم ، إن بها عشرة آلاف مقاتل. قال محيصة: فلما رأيت خبثهم أردت أرحل راجعاً، فقالوا: نحن نرسل معك رجالاً يأخذون لنا الصلح - ويظنون أن اليهود تمتنع. فلم يزالوا كذلك حتى جاءهم قتل أهل حصن ناعم وأهل النجدة منهم، ففت ذلك أعضادهم وقالوا لمحيصة: اكتم عنا ما قلنا لك ولك هذا الحلي! لحلي نسائهم، جمعوه كثيراً. فقال محيصة: بل أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي سمعت منكم. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوا. قال محيصة: وقدم معي رجلٌ من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع في نفرٍ من اليهود، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويجليهم ويخلوا بينه وبين الأموال. ففعل، ويقال: عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم عليهم من الأموال شيءٌ، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذوها، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل ذلك وقال لهم محيصة: ما لكم منعة ولا رجال ولا حصون، لو بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم مائة رجل لساقوكم إليه. فوقع الصلح بينهم أن لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نصفها، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذا أثبت القولين. فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يبلغهم، فلما كان عمر ابن الخطاب وأجلى يهود خيبر، بعث عمر إليهم من يقوم أرضهم، فبعث أبا الهيثم بن التيهان وفروة بن عمرو بن حيان بن صخر، وزيد بن ثابت، فقوموها لهم؛ النخل والأرض، فأخذها عمر بن الخطاب ودفع إليهم نصف قيمة النخل بتربتها، فبلغ ذلك خمسين ألف درهم أو يزيد - كان ذلك المال جاءه من العراق - وأجلاهم عمر إلى الشام. ويقال: بعث أبا خيثمة الحارثي فقومها.
انصراف رسول الله من خيبر إلى المدينة
قال أنس: انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وهو يريد وادي القرى، ومعه أم سلمة بنت ملحان، وكان بعض القوم يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية حتى مر بها فألقى عليها رداءه، ثم عرض عليها الإسلام فقال: إن تكوني على دينك لم نكرهك، فإن اخترت الله ورسوله اتخذتك لنفسي. قالت: بل أختار الله ورسوله. قال: فأعتقها فتزوجها وجعل عتقها مهرها. فلما كان بالصهباء قال لأم سليم: انظري صاحبتك هذه فامشطيها! وأراد أن يعرس بها هناك، فقامت أم سليم - قال أنس: وليس معنا فساطيط ولا سرادقات - فأخذت كسائين وعباءتين فسترت بهما عليها إلى شجرة فمشطتها وعطرتها، وأعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من خيبر، وقرب بعيرها وقد سترها النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه، أدنى فخذه لتضع رجلها عليه، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه، فلما بلغ ثباراً أراد أن يعرس بها هناك، فأبت عليه حتى وجد في نفسه، حتى بلغ الصهباء فمال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت حين أردت أن أنزل بثبار - وثبار على ستة أميال والصهباء على اثني عشر ميلاً - قالت: يا رسول الله خفت عليك قرب اليهود، فلما بعدت أمنت. فزادها عند النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وعلم أنها قد صدقته، ودخلت عليه مساء تلك الليلة، وأولم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عليها بالحيس والسويق والتمر، وكان قصاعهم الأنطاع قد بسطت، فرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معهم على تلك الأنطاع. قالوا: وبات أبو أيوب الأنصاري قريباً من قبته آخذاً بقائم السيف حتى أصبح، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فكبر أبو أيوب فقال: ما لك يا أبا أيوب؟ فقال: يا رسول الله، دخلت بهذه الجارية وكنت قد قتلت أباها وإخوتها وعمومتها وزوجها وعامة عشيرتها، فخفت أن تغتالك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له معروفاً.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل صفية في منزل الحارثة بن النعمان، وانتقل حارثة عنها. وكانت عائشة وحفصة يداً واحدةً فأرسلت عائشة بريرة إلى أم سلمة تسلم عليها - وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر - وتسألها عن صفية أظريفةٌ هي؟ فقالت أم سلمة: من أرسلك، عائشة؟ فسكتت فعرفت أم سلمة أنها أرسلتها، فقالت أم سلمة: لعمري إنها لظريفة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لمحبٌّ. فجاءت بريرة فأخبرت عائشة خبرها، فخرجت عائشة متنكرةً حتى دخلت على صفية وعندها نسوةٌ من الأنصار، فنظرت إليها وهي منتقبة، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرجت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فقال: يا عائشة كيف رأيت صفية؟ قالت: ما رأيت طائلاً، رأيت يهودية بين يهوديات - تعني عماتها وخالاتها - ولكني قد أخبرت أنك تحبها، فهذا خيرٌ لها من لو كانت ظريفةً. قال: يا عائشة، لا تقولي هذا فإني عرضت عليها الإسلام فأسرعت وأسلمت وحسن إسلامها. قال: فرجعت عائشة فأخبرت حفصة بظرفها، فدخلت عليها حفصة فنظرت إليها ثم رجعت إلى عائشة فقالت: إنها لظريفة وما هي كما قلت.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصهباء سلك على برمة حتى انتهى إلى وادي القرى يريد من بها من اليهود. وكان أبو هريرة يحدث قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أسود يقال له مدعم ، وكان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضوى إليها أناسٌ من العرب، فبينا مدعم يحط رحل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبيةٍ وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهمٌ عائرٌ فأصاب مدعماً فقتله، فقال الناس: هنيئاً لك الجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم يصبها المقسم تشتعل عليه ناراً. فلما سمع بذلك الناس جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشراكٍ أو بشراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شراك من نار! أو شراكان من نار.
وعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، ورايةً إلى الحباب بن المنذر، ورايةً إلى سهل بن حنيف، ورايةً إلى عباد بن بشر. ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأخبرهم إن أسلمواأحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. فبرز رجلٌ منهم وبرز إليه الزبير بن العوام فقتله؛ ثم برز آخر فبرز إليه الزبير فقتله؛ ثم برز آخر فبرز له علي رضي الله عنه فقتله؛ ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله، ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله؛ حتى قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل رجلٌ دعا من بقي إلى الإسلام. ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذٍ فيصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً، وغنمه الله أموالهم وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك النخل والأرض بأيدي اليهود وعاملهم عليها. فلما بلغ يهود تيماء ما وطىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم. فلما كان زمن عمر رضي الله عنه أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجازٌ، وأن ما وراء ذلك من الشام. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وادي القرى راجعاً بعد أن فرغ من خيبر ومن وادي القرى وغنمه الله، فلما كان قريباً من المدينة سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته، حتى إذا كان قبيل الصبح بقليلٍ نزل وعرس. وقال: ألا رجلٌ صالحٌ حافظٌ لعينه يحفظ لنا صلاة الصبح؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله! قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ووضع الناس رءوسهم، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول لبلال: يا بلال احفظ عينك! قال: فاحتبيت بعباءتي واستقبلت الفجر، فما أدري متى وضعت جنبي إلا أني لم أستيقظ إلا باسترجاع الناس وحر الشمس، وأخذتني الألسنة باللوم؛ وكان أشدهم علي أبو بكر. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أهون لائمةً من الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له حاجة فليقضها. فتفرق الناس في أصول الشجر، وقال صلى الله عليه وسلم: أذن يا بلال بالأذان الأول. قال بلال: وكذلك كنت أفعل في أسفاره، فأذنت فلما اجتمع الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركعوا ركعتي الفجر. فركعوا ثم قال: أقم يا بلال! فأقمت فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس. قال بلال: فما زال يصلي بنا حتى إن الرجل ليسلت العرق من جبينه من حر الشمس، ثم سلم فأقبل على القوم فقال: كانت أنفسنا بيد الله، ولو شاء قبضها وكان أولى بها، فلما ردها إلينا صلينا. ثم أقبل على بلال فقال: مه يا بلال! فقال: بأبي وأمي، قبض نفسي الذي قبض نفسك. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم.
ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبنا ونحبه؛ اللهم إني أحرم ما بين لابتي المدينة! قال: وانتهى إلى الجرف ليلاً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله بعد صلاة العشاء.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بالجرف: لاتطرقوا الناسء بعد صلاة العشاء. قالت: فذهب رجلٌ من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره فخلى سبيله ولم يهجه ، وضن بزوجته أن يفارقها وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى ما يكره.
حدثني عبد الله بن نوح الحارثي، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن سعد بن حزام بن محيصة، عن أبيه، قال: كنا بالمدينة والمجاعة تصيبنا، فنخرج إلى خيبر فنقيم بها ما أقمنا ثم نرجع، وربما خرجنا إلى فدك وتيماء. وكانت اليهود قوماً لهم ثمار لا يصيبها قطعة ، أما تيماء فعينٌ جاريةٌ تخرج من أصل جبلٍ لم يصبها قطعه منذ كانت، وأما خيبر فماءٌ واتنٌ، فهي مغفرة في الماء، وأما فدك فمثل ذلك. وذلك قبل الإسلام، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وفتح خيبر قلت لأصحابي: هل لكم في خيبر فإنا قد جهدنا وقد أصابنا مجاعة؟ فقال أصحابي: إن البلاد ليس كما كانت، نحن قوم مسلمون وإنما نقدم على قومٍ أهل عداوةٍ وغشٍّ للإسلام وأهله، وكنا قبل ذلك لا نعبد شيئاً. قالوا: قد جهدنا، فخرجنا حتى قدمنا خيبر، فقدمنا على قومٍ بأيديهم الأرض والنخل ليس كما كانت؛ قد دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم على النصف؛ فأما سراة اليهود وأهل السعة منهم قد قتلوا - بنو أبي الحقيق وسلام بن مشكم، وابن الأشرف - وإنما بقي قومٌ لا أموال لهم وإنما هم عمال أيديهم. وكنا نكون في الشق يوماً وفي النطاة يوماً وفي الكتيبة يوماً، فرأينا الكتيبة خيراً لنا فأقمنا بها أياماً، ثم إن صاحبي ذهب إلى الشق فبات عني وقد كنت أحذره اليهود، فغدوت في أثره أسأل عنه حتى انتهيت إلى الشق فقال لي أهل أبيات منهم: مر بنا حين غابت الشمس يريد النطاة. قال: فعمدت إلى النطاة، إلى أن قال لي غلام منهم: تعال أدلك على صاحبك! فانتهى بي إلى منهر فأقامني عليه، فإذا الذباب يطلع من المنهر. قال: فتدليت في المنهر فإذا صاحبي قتيل، فقلت لأهل الشق: أنت قتلتموه! قالوا: لا والله، ما لنا به علم! قال: فاستعنت عليه بنفرٍ من اليهود حتى أخرجته وكفنته ودفنته، ثم خرجت سريعاً حتى قدمت على قومي بالمدينة فأخبرتهم الخبر. ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عمرة القضية، فخرج معي من قومي ثلاثون رجلاً، أكبرنا أخي حويصة، فخرج معنا عبد الرحمن ابن سهل أخو المقتول - والمقتول عبد الله بن سهل - وكان عبد الرحمن ابن سهل أحدث مني، فهو مستعبرٌ على أخيه رقيقٌ عليه، فبرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال عبد الرحمن: يا رسول الله إن أخي قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر، كبر! فتكلمت فقال: كبر، كبر! فسكت. وتكلم أخي حويصة فتكلم بكلمات وذكر أن اليهود تهمتنا وظنتنا ثم سكت، فتكلمت وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحربٍ من الله ورسوله، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك فكتبوا إليه: ما قتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن ولمن معهم: تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله، لم نحضر ولم نشهد. قال: فتحلف لكم اليهود؟ قالوا: يا رسول الله، ليسوا بمسلمين. فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مائة ناقة، خمسة وعشرين جذعة، وخمسة وعشرين حقة، وخمسة وعشرين بنت لبون، وخمسة وعشرين بنت مخاض. قال سهل بن أبي حثمة: رأيتها أدخلت عليهم مائة ناقة، فركضتني منها ناقةٌ حمراء وأنا يومئذٍ غلام.
حدثني ابن أبي ذئب، ومعمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: كانت القسامة في الجاهلية ثم أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وقضى بها في الأنصاري الذي وجد بخيبر قتيلاً في جب من جباب اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: تحلف لكم اليهود؛ خمسين رجلاً خمسين يميناً بالله ما قتلنا؟ قالوا: يا رسول الله، كيف تقبل أيمان قوم كفار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتحلفون خمسين رجلاً خمسين يميناً بالله أنهم قتلوا صاحبكم وتستحقوا الدم؟ قالوا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته على اليهود لأنه قتل بحضرتهم.
حدثني مخرمة بن بكير، عن خالد بن يزيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته على اليهود، فإن لم يعطوا فليأذنوا بحربٍ من الله ورسوله. وأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببضعة وثلاثين بعيراً - فهي أول ما كانت القسامة. وكان الناس يطلعون إلى أموالهم بخيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: خرجت أنا والزبير، والمقداد بن عمرو، وسعيد بن زيد بن عمر بن نفيل إلى أموالنا بخيبر فطلعنا نتعاهدها، وكان أبو بكر يبعث من يطلعها وينظر إليها، وكان عمر يفعل ذلك أيضاً، فلما قدمنا خيبر تفرقنا في أموالنا. فعدى علينا من جوف الليل وأنا نائمٌ على فراشي فصرعت يداي فسالوني: من صنع هذا بك؟ فقلت: لا أدري، فاصلحوا أمر يدي! وقال غير سالم، عن ابن عمر، قال: سحروه بالليل وهو نائمٌ على فراشه فكوع حتى أصبح كأنه كان في وثاقٍ، وجاء أصحابه فأصلحوا من يديه، فقدم ابن عمر المدينة فأخبر أباه بما صنع به.
حدثني محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: أقبل مظهر بن رافع الحارثي بأعلاج من الشام يعملون بأرضه وهم عشرة، فأقبل حتى نزل بهم خيبر فأقام بها ثلاثة أيام، فيدخل بهم رجلٌ من اليهود فقال: أنتم نصارى ونحن يهود وهؤلاء قوم عرب قد قهرونا بالسيف، وأنتم عشرة رجال أقبل رجلٌ واحدٌ منهم يسوقكم من أرض الخمر والخير إلى الجهد والبؤس، وتكونون في رقٍّ شديد، فإذا خرجتم من قريتنا فاقتلوه. قالوا: ليس معنا سلاح. فدسوا إليهم سكينين أو ثلاثة. قال: فخرجوا فلما كانوا بثبار قال لأحدهم، وكان الذي يخدمه منهم: ناولني كذا وكذا. فأقبلوا إليه جميعاً قد شهروا سكاكينهم، فخرج مظهر يعدو إلى سيفه وكان في قراب راحلته، فلما انتهى إلى القراب لم يفتحه حتى بعجوا بطنه، ثم انصرفوا سراعاً حتى قدموا خيبر على اليهود فآووهم وزودوهم وأعطوهم قوة فلحقوا بالشام. وجاء عمر الخبر بمقتل مظهر بن رافع وما صنعت اليهود، فقام عمر خطيباً بالناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن اليهود فعلوا بعبد الله ما فعلوا، وفعلوا بمظهر بن رافع مع عدوتهم على عبد الله بن سهل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أشك أنهم أصحابه ليس لنا عدو هناك غيرهم؛ فمن كان له بها مالٌ فليخرج فأنا خارج، فقاسمٌ ما كان بها من الأموال، وحادٌّ حدودها، ومورفٌ أرفها ومجلي اليهود منها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: " أقركم ما أقركم الله " وقد أذن الله في جلائهم إلا أن يأتي رجلٌ منهم بعهدٍ أو بينةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقره فأقره. فقام طلحة بن عبيد الله فقال: قد والله أصبت يا أمير المؤمنين ووفقت! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقركم ما أقركم الله " ، وقد فعلوا ما فعلوا بعبد الله بن سهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما حرضوا على مظهر بن رافع حتى قتله أعبده، وما فعلوا بعبد الله بن عمر، فهم أهل تهمتنا وظنتنا . فقال عمر رضي الله عنه: من معك على مثل رأيك؟ قال: المهاجرون جميعاً والأنصار. فسر بذلك عمر.
حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: " لا يجتمع بجزيرة العرب دينان " . ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى وجد عليه الثبت من لا يتهم، فأرسل إلى يهود الحجاز فقال: من كان منكم عنده عهد من النبي صلى الله عليه وسلم فإني مجليه، فإن الله عز وجل قد أذن في جلائهم. فأجلى عمر يهود الحجاز.
قالوا: فخرج عمر بأربعة قسام: فروة بن عمرو البياضي، قد شهد بدراً، وحباب بن صخر السلمي، قد شهد بدراً، وأبو الهيثم بن التيهان، قد شهد بدراً، وزيد بن ثابت؛ فقسموا خيبر على ثمانية عشر سهماً، على الرءوس التي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سمى ثمانية عشر سهماً وسمى رؤساءها. ويقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمى الرؤساء ثم جزأوا الشق والنطاة، فجزأوها على ثمانية عشر سهماً، جعلوا ثمانية عشر بعرة فألقين في العين جميعاً، ولكل رأس علامةٌ في بعرته، فإذا خرجت أول بعرة قيل سهم فلان وسهم فلان. وكان في الشق ثلاثة عشر سهماً، وفي النطاة خمسة أسهم. حدثني بذلك حكيم بن محمد من آل مخرمة، عن أبيه. فكان أول سهم خرج في النطاة سهم الزبير بن العام؛ ثم سهم بياضة، يقال: إن رأسه فروة بن عمرو؛ ثم سهم أسيد بن حضير؛ ثم سهم بلحارث بن الخزرج، يقال: رأسه عبد الله بن رواحة؛ ثم سهم ناعم؛ يهودي. ثم ضربوا في الشق، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عاصم بن عدي، إنك رجلٌ محدود، فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهمك. فخرج سهم عاصم أول سهم في الشق، ويقال: إنه سهم النبي صلى الله عليه وسلم كان في بني بياضة، والثبت أنه كان مع عاصم بن عدي. ثم خرج سهم علي رضي الله عنه على أثر سهم عاصم؛ ثم سهم عبد الرحمن بن عوف؛ ثم سهم طلحة بن عبيد الله؛ ثم سهم بني ساعدة، يقال: رأسهم سعد ابن عبادة؛ ثم سهم بني النجار؛ ثم سهم بني حارثة بن الحارث؛ ثم سهم أسلم وغفار، يقال: رأسهم بريدة بن الحصيب؛ ثم سهما سلمة جميعاً؛ ثم سهم عبيد السهام؛ ثم سهم عبيد؛ ثم سهم أوس، صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن واقد: فسألت ابن أبي حبيبة: لم سمى عبيد السهام؟ قال: أخبرني داود بن الحصين قال: كان اسمه عبيد، ولكنه جعل يشتير من السهام بخيبر فسمي عبيد السهام.
حدثني إسماعيل بن عبد الملك ابن نافع مولى بني هاشم، عن يحيى ابن شبل، عن أبي جعفر قال: أول ما ضرب في الشق خرج سهم عاصم ابن عدي فيه سهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب: كنت أحب أن يخرج سهمي مع سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخطأني قلت: اللهم اجعل سهمي في مكانٍ معتزلٍ لا يكون لأحدٍ على طريق. فكان سهمه معتزلاً وكان شركاؤه أعراباً، فكان يستخلص منهم سهامهم؛ يأخذ حق أحدهم بالفرس والشيء اليسير حتى خلص له سهم أوس كله.
حدثني عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما قسم عمر رضي الله عنه خيبر خيروا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في طعمهن الذي أطعمهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة، إن أحببن أن يقطع لهن من الأرض و الماء مكان طعمهن، أو يمضى لهن الوسوق وتكون مضمونة لهن. فكانت عائشة رضي الله عنها وحفصة رضي الله عنها ممن اختار الأرض والماء، وكان سائرهن أخذن الوسوق مضمونة.
حدثني أفلح بن حميد قال: سمعت القاسم بن محمد يقول، سمعت عائشة رضي الله عنها تقول يوماً: رحم الله ابن الخطاب! قد خيرني فيما صنع، خيرني في الأرض والماء وفي الطعمة، فاخترت الأرض والماء، فهن في يدي، وأهل الطعم مرة ينقصهم مروان، ومرة لا يعطيهم شيئاً، ومرة يعطيهم. ويقال: إنما خير عمر رضي الله عنه أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: خير عمر رضي الله عنه الناس كلهم؛ فمن شاء أخذ الطعمة كيلاً، ومن شاء أخذ الماء والتراب، وأذن لمن شاء باع، ومن أحب أن يمسك أمسك من الناس كلهم، فكان من باع الأشعريين، من عثمان بن عفان مائة وسق بخمسة آلاف دينار، وباع الرهاويون من معاوية بن أبي سفيان بمثل ذلك. قال أبو عبد الله: هذا الثبت عندنا والذي رأيت عليه أهل المدينة.
وحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: خير عمر رضي الله عنه من كانت له طعمة أن يعطيه من الماء والأرض أو الطعم مضمونةً، فكان أسامة ابن زيد اختار الطعمة مضمونة. ولما فرغ عمر رضي الله عنه من القسمة أخرج يهود خيابر، ومضى عمر رضي الله عنه من خيبر في المهاجرين والأنصار إلى وادي القرى. وخرج معاوية بالقسام الذين قسموا: جبار بن صخر، وأبو الهيثم بن التيهان، وفروة بن عمرو، وزيد بن ثابت، فقسموها على أعداد السهام، وأعلموا أرفها، وحدوا حدودها، وجعلوها السهام تجرى. فكان ما قسم عمر من وادي القرى لعثمان بن عفان خطر، ولعبد الرحمن ابن عوف خطر، ولعمر بن أبي سلمة خطر - الخطر هو السهم - ولعامر بن ربيعة خطر، ولمعيقب خطر، ولعبد الله بن الأرقم خطر، ولبني جعفر خطر، ولعمرو بن سراقة خطر، ولعبد الله وعبيد الله خطران، ولشييم خطر، ولابن عبد الله بن جحش خطر، ولابن أبي بكر خطر، ولعمر خطر، ولزيد ابن ثابت خطر، ولأبي بن كعب خطر، ولمعاذ بن عفراء خطر، ولأبي طلحة وجبير خطر، ولجبار بن صخر خطر، ولجبار بن عبد الله بن رباب خطر، ولمالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله بن عمر خطر، ولسلمة بن سلامة خطر، ولعبد الرحمن بن ثابت وابن أبي شريق خطر، ولأبي عبس بن جبر خطر، ولمحمد بن مسلمة خطر، ولعباد بن طارق خطر، ولجبر بن عتيك نصف خطر، ولابن الحارث بن قيس نصف خطر، ولابن جرمة والضحاك خطر.
حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن مكنف الحارثي، قال: إنما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القسام برجلين، جبار بن صخر وزيد بن ثابت، هما قاسما المدينة وحاسباها، فقسما خيبر وأقاما نخل فدك وأرضها، ودفع عمر إلى يهود فدك نصف القيمة؛ وقسما السهمان بوادي القرى، ثم أجلى عمر رضي الله عنه يهود الحجاز، وكان زيد بن ثابت قد تصدق بالذي صار له من وادي القرى مع غيره.
سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة
في شعبان سنة سبعحدثنا أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في ثلاثين رجلاً إلى عجز هوازن بتربة ، فخرج عمر رضي الله عنه ومعه دليلٌ من بني هلال، فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، وأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحداً. وانصرف راجعاً إلى المدينة حتى سلك النجدية، فلما كان بالجدر قال الهلالي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هل لك في جمعٍ آخر تركته من خثعم، جاءوا سائرين قد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، إنما أمرني أصمد لقتال هوازن بتربة. فانصرف عمر راجعاً إلى المدينة.
سرية أبي بكر إلى نجد
في شعبان سنة سبعحدثني حمزة بن عبد الواحد، عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه وأمره علينا، فبيتنا ناساً من هوازن، فقتلت بيدي سبعةً أهل أبيات ، وكان شعارنا: أمت! أمت!
سرية بشير بن سعد إلى فدك
في شعبان سنة سبعحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مرة بفدك. فخرج فلقي رعاء الشاء فسأل: أين الناس؟ فقالوا: هم في بواديهم . والناس يومئذٍ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء وعاد منحدراً إلى المدينة، فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركه الدهم منهم عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير، وأصبحوا وحمل المريون عليهم فأصابوا أصحاب بشير وولى منهم من ولى. وقاتل بشير قتالاً شديداً حتى ضرب كعبه، وقيل: قد مات، ورجعوا بنعمهم وشاءهم. وكان أول من قدم بخبر السرية ومصابها علبة بن زيد الحارثي. وأمهل بشير بن سعد وهو في القتلى، فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقم عند يهودي بفدك أياماً حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة.
وهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال: سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير، فإن ظفرك الله بهم فلا تبق فيهم. وهيأ معه مائتي رجلٍ وعقد له اللواء، فقدم غالب بن عبد الله من سرية قد ظفر الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام: اجلس! وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل، فخرج أسامة بن زيد في السرية حتى انتهى إلى مصاب بشير وأصحابه، وخرج معه علبة بن زيد.
حدثني أفلح بن سعيد، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: كان مع غالب عقبة بن عمرو أبو مسعود، وكعب بن عجرة، واسامة بن زيد، وعلبة بن زيد؛ فلما دنا غالب منهم بعث الطلائع، فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظر إلى جماعة محالهم، حتى أوفى على جماعةٍ منهم ثم رجع إلى غالب فأخبره. فأقبل غالب يسير حتى إذا كان منهم بمنظر العين ليلاً، وقد اجتلبوا وعطنوا وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا لي أمراً، فإنه لا رأي لمن لا يطاع. ثم ألف بينهم فقال: يا فلان أنت وفلان، يا فلان أنت وفلان - لا يفارق كل رجلٍ زميله - وإياكم أن يرجع إلي أحدكم فأقول: أين فلان صاحبك؟ فيقول: لا أدري؛ وإذا كبرت فكبروا. قال: فكبر وكبروا، وأخرجوا السيوف. قال: فأحطنا بالحاضر وفي الحاضر نعمٌ وقد عطنوا مواشيهم، فخرج إلينا الرجال فقاتلوا ساعةً، فوضعنا السيوف حيث شئنا منهم ونحن نصيح بشعارنا: أمت! أمت! وخرج أسامة بن زيد في إثر رجلٍ منهم يقال له نهيك بن مرداس فأبعد، وحوينا على الحاضر وقتلنا من قتلنا، ومعنا النساء والماشية، فقال أميرنا: أين أسامة بن زيد؟ فجاء بعد ساعة من الليل، فلامه أمرينا لائمةً شديدةً وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك؟ فقال: إني خرجت في إثر رجلٍ جعل يتهكم بين حتى إذا دنوت ولحمته بالسيف قال: لا إله إلا الله! فقال أميرنا: أغمدت سيفك؟ قال: لا والله ما فعلت حتى أوردته شعوب. قال: قلنا: والله بئس ما فعلت وما جئت به، تقتل امرءاً يقول لا إله إلا الله! فندم وسقط في يديه. قال: واستقنا النعم والشاء والذرية، وكانت سهامهم عشرة أبعرةٍ كل رجلٍ، أو عدلها من الغنم. وكان يحسب الجزور بعشرة من الغنم.
وحدثني شبل بن العلاء، عن إبراهيم بن حويصة، عن أبيه عن أسامة بن زيد، قال: كان أميرنا آخى بيني وبين أبي سعيد الخدري. قال أسامة: فلما أصبته وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى رأيتني وما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلني واعتنقني واعتنقته، ثم قال لي: يا أسامة، خبرني عن غزاتك. قال: فجعل أسامة يخبره الخبر حتى انتهى إلى صاحبه الذي قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتلته يا أسامة، وقد قال لا إله إلا الله؟ قال: فجعلت أقول: يا رسول الله، إنما قالها تعوذاً من القتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققت قلبه فتعلم أصادقٌ هو أم كاذب ؟ قال أسامة: لا أقتل أحداً يقول لا إله إلا الله. قال أسامة: وتمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الجبار، عن المقداد بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت رجلاً من الكفار يقاتلني، وضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله، أقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله! قال: فإني قتلته فماذا؟ قال: فإنه بمنزلتك التي كنت بها قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال.
سرية بني عبد بن ثعلبة
عليها غالب بن عبد الله إلى الميفعة في رمضان سنة سبع
حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الكدر أقام أياماً ما شاء الله أن يقيم، فقال له يسار مولاه: يا رسول الله، إني قد علمت غرةً من بني عبد بن ثعلبة، فأرسل معي إليهم. فأرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله في مائة وثلاثين رجلاً، خرج بهم يسار، فظعن بهم في غير الطريق حتى فنيت أزوادهم وجهدوا، واقتسموا التمر عدداً، فبينا القوم ذات ليلة بعد ما ساء ظنهم بيسار، وظن القوم أن إسلامه لم يصح، وقد انتهوا إلى مكان قد فحصه السيل، فلما رآه يسار كبر قال: والله قد ظفرتم بحاجتكم، اسلكوا في هذا الفحص حتى ينقطع بكم. فسار القوم فيه ساعة بحسٍّ خفي لا يتكلمون إلا همساً حتى انتهوا إلى ضرس من الحرة، فقال يسار لأصحابه: لو صاح رجلٌ شديد الصوت لأسمع القوم، فارتأوا رأيكم! قال غالب: انطلق بنا يا يسار أنا وأنت، وندع القوم كميناً، ففعلا، فخرجنا حتى إذا كنا من القوم بمنظر العين سمعنا حس الناس والرعاء والحلب، فرجعا سريعين فانتهيا إلى أصحابهما، فأقبلوا جميعاً حتى إذا كانوا من الحي قريباً، وقد وعظهم أميرهم غالب ورغبهم في الجهاد، ونهاهم عن الإمعان في الطلب، وألف بينهم وقال: إذا كبرت فكبروا. فكبر وكبروا جميعاً معه، ووقعوا وسط محالهم فاستاقوا نعماً وشاءً، وقتلوا من أشرف لهم، وصادفوهم تلك الليلة على ماءٍ يقال له الميفعة. قال: واستاقوا النعم فحدروه إلى المدينة، ولم يسمع أنهم جاءوا بأسرى.
سرية بشير بن سعد إلى الجناب
سنة سبعحدثني يحيى بن عبد العزيز، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: قدم رجلٌ من أشجع يقال له حسيل بن نويرة، وقد كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين يا حسيل؟ قال: قدمت من الجناب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال: تركت جمعاً من غطفان بالجناب، قد بعث إليهم عيينة يقول لهم: إما تسيروا إلينا وإما نسير إليكم. فأرسلوا إليه أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد جميعاً، وهم يريدونك أو بعض أطرافك. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعاً: ابعث بشير بن سعد! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً فعقد له لواء؛ وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار، وخرج معهم حسيل بن نويرة دليلاً؛ فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا أسفل خيبر فنزلوا بسلاح ، ثم خرجوا من سلاح حتى دنوا من القوم، فقال لهم الدليل: بينكم وبين القوم ثلثا نهارٍ أو نصفه، فإن أحببتم كمنتم وخرجت طليعةً لكم حتى آتيكم بالخبر، وإن أحببتم سرنا جميعاً. قالوا: بل نقدمك. فقدموه، فغاب عنهم ساعةً ثم كر عليهم فقال: هذا أوائل سرحهم فهل لكم أن تغيروا عليهم؟ فاختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: إن أغرنا الآن حذرنا الرجال والعطن. وقال آخرون: نغنم ما ظهر لنا ثم نطلب القوم. فشجعوا على النعم، فأصابوا نعماً كثيراً ملأوا منه أيديهم، وتفرق الرعاء وخرجوا سراعاً، ثم حذروا الجمع فتفرق الجمع وحذروا، ولحقوا بعلياء بلادهم، فخرج بشير بأصحابه حتى أتى محالهم فيجدها وليس بها أحد. فرجع بالنعم حتى إذا كانوا بسلاح راجعين لقوا عيناً لعيينة فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة، وعيينة لا يشعر بهم فناوشوهم، ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأصابوا منهم رجلاً أو رجلين فأسروهما أسراً، فقدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما فأرسلهما النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وكان الحارث بن عوف المري حليفاً لعيينة ولقيه منهزماً على فرسٍ له عتيقٍ يعدو به عدواً سريعاً، فاستوقفه الحارث فقال: لا، ما أقدر! الطلب خلفي! أصحاب محمد! وهو يركض. قال الحارث بن عوف: أما لك بعد أن تبصر ما أنت عليه؟ إن محمداً قد وطىء البلاد وأنت موضعٌ في غير شيءٍ. قال الحارث: فتنحيت عن سنن خيل محمد حتى أراهم ولا يروني، فأقمت من حين زالت الشمس إلى الليل، ما أرى أحداً - وما طلبوه إلا الرعب الذي دخله. قال: فلقيته بعد ذلك، فقال الحارث: فلقد أقمت في موضعٍ حتى الليل، ما رأيت من طلب. قال عيينة: هو ذاك، إني خفت الإسار وكان أثري عند محمد ما تعلم في غير موطن. قال الحارث: أيها الرجل، قد رأيت ورأينا معك أمراً بيناً في بني النضير، ويوم الخندق وقريظة، وقبل ذلك قينقاع، وفي خيبر، إنهم كانوا أعز يهود الحجاز كله، يقرون لهم بالشجاعة والسخاء، وهم أهل حصون منيعة وأهل نخل؛ والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم. لقد سارت حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان فامتنعوا بهم من الناس، ثم قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة وكيف أديل عليهم. فقال عيينة: هو والله ذاك، ولكن نفسي لا تقرني. قال الحارث: فادخل مع محمد. قال: أصير تابعاً! قد سبق قوم إاليه فهم يزرون بمن جاء بعدهم يقولون: شهدنا بدراً وغيرها. قال الحارث: وإنما هو على ما ترى، فلو تقدمنا إليه لكنا من علية أصحابه، قد بقي قومه بعدهم منه في موادعة وهو موقعٌ بهم وقعةً، ما وطىء له الأمر. قال عيينة: أرى والله! فاتعدا يريدان الهجرة والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مر بهما فروة ابن هبيرة القشيري يريد العمرة وهما يتقاولان، فأخبراه بما كانا فيه وما يريدان. قال فروة: لو استأنيتم حتى تنظروا ما يصنع قومه في هذه المدة التي هم فيها وآتيكم بخبرهم! فأخروا القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى فروة حتى قدم مكة فتحسب من أخبارهم، فإذا القوم على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يريدون أن يدخلوا طائعين أبداً، فخبرهم بما أوقع محمد بأهل خيابر. قال فروة: وقد تركت رؤساء الضاحية على مثل ما أنتم عليه من العداوة لمحمد. قالت قريش: فما الرأي، فأنت سيد أهل الوبر؟ قال: نقضي هذه المدة التي بينكم وبينه ونستجلب العرب ، ثم نغزوه في عقر داره. وأقام أياماً يجول في مجالس قريش، ويسمع به نوفل بن معاوية الديلي، فنزل من باديته فأخبره بما قال لقريش، فقال نوفل: إذاً لأجد عندكم شيئاً! قدمت الآن لمقدمك حيث بلغني، ولنا عدوٌ قريبٌ داره، وهم عيبة نصح محمد لا يغيبون عليه حرفاً من أمورنا. قال: من هم؟ قال: خزاعة. قال: قبحت خزاعة؛ قعدت بها يمينها! قال فروة: فماذا؟ قال: استنصر قريشاً أن يعينونا عليهم. قال فروة: فأنا أكفيكم. فلقي رؤساءهم، صفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال: ألا ترون ماذا نزل بكم! إنكم رضيتم أن تدافعوا محمداً بالراح. قالوا: فما نصنع؟ قال: تعينون نوفل بن معاوية على عدوه وعدوكم. قالوا: إذاً يغزونا محمدٌ في ما لا قبل لنا به فيوطئنا غلبةً، وننزل على حكمه، ونحن الآن في مدة وعلى ديننا. فلقي نوفل بن معاوية فقال: ليس عند القوم شيء. ورجع فلقي عيينة والحارث فأخبرهم وقال: رأيت قومه قد أيقنوا عليه فقاربوا الرجل وتدبروا الأمر. فقدموا رجلاً وأخروا أخرى.
غزوة القضيةحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، ومعاذ بن محمد، عن محمد بن يحيى بن حباب، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وأبو معشر؛ فكلٌّ قد حدثني بطائفةٍ من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، فكتبت كل ما حدثوني قالوا: لما دخل هلال ذي القعدة سنة سبع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا - قضاء عمرتهم - وألا يتخلف أحدٌ ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف أحدٌ شهدها إلا رجالٌ استشهدوا بخيبر ورجالٌ ماتوا. وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من المسلمين سوى أهل الحديبية ممن لم يشهد صلح الحديبية عماراً، فكان المسلمون في عمرة القضية ألفين.
فحدثني خارجة بن عبد الله، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع، بعد مقدمه بأربعة أشهر، وهو الشهر الذي صدته المشركون، لقول الله عز وجل: " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاصٌ " يقول: كما صدوكم عن البيت فاعتمروا في قابلٍ. فقال رجال من حاضر المدينة من العرب: والله يا رسول الله، ما لنا من زادٍ وما لنا من يطعمنا . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدقوا، وألا يكفوا أيديهم فيهلكوا. قالوا: يا رسول الله، بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بما كان، ولو بشق تمرةٍ، ولو بمشقصٍ يحمل به أحدكم في سبيل الله. فأنزل الله عز وجل في ذلك: " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " . قال: نزلت في ترك النفقة في سبيل الله.
حدثني الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: متع في سبيل الله ولو بمشقص، ولا تلق بيدك إلى التهلكة.
حدثني الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: نزلت هذه الآية في ترك النفقة في سبيل الله.
وحدثني ابن موهب، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضية ستين بدنة.
حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبيد الله بن ينار، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب الأسلمي على هديه، يسير بالهدي أمامه يطلب الرعي في الشجر، معه أربعة فتيانٍ من أسلم.
فحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عبيد بن أبي رهم، قال: أنا كنت ممن يسوق الهدي وأركب على البدن.
حدثني محمد بن نعيم، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنت ممن صاحب البدن أسوقها.
حدثني يونس بن محمد، عن شعبة مولى ابن عباس، قال: قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه بيده هو بنفسه.
حدثني معاذ بن محمد، عن عاصم بن عمر، قال: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، وهي مائة فرسٍ عليها محمد ابن مسلمة. وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد، فقيل: يا رسول الله! حملت السلاح وقد شرطوا علينا ألا ندخل عليهم إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندخلها عليهم الحرم، ولكن تكون قريباً منا، فإن هاجنا هيجٌ من القوم كان السلاح قريباً منا. قيل: يا رسول الله! تخاف قريشاً على ذلك؟ فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم البدن.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن جابر بن عبد الله، قال: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب المسجد لأنه سلك إلى طريق الفرع، ولولا ذلك لأهل من البيداء.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: سلكنا في عمرة القضية على الفرع، وقد أحرم أصحابي غيري، فرأيت حماراً وحشياً فشددت عليه فعقرته، فأتيت أصحابي، فمنهم الآكل والتارك. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كل! قال أبو قتادة: ثم حج حجة الوداع. فأحرم من البيداء، وهذه العمرة من المسجد؛ لأن طريقه ليس على البيداء. قال ابن واقد: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي، والمسلمون يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، فيجد عليها نفراً من قريش فسألوا محمد بن مسلمة فقال: هذا رسول الله، يصبح هذا المنزل غداً إن شاء الله. فرأوا سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعاً حتى أتوا قريشاً فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش فقالوا: والله ما أحدثنا حدثاً، ونحن على كتابنا ومدتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريشٌ مكرز بن حفص بن الأحنف في نفرٍ من قريشٍ حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح، قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد! والله ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخلها إلا كذلك. ثم رجع سريعاً بأصحابه إلى مكة فقال: إن محمداً لا يدخل بسلاحٍ، وهو على الشرط الذي شرط لكم. فلما جاء مكرز بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قريشٌ من مكة إلى رءوس الجبال، وخلوا مكة، وقالوا: ولا ننظر إليه ولا إلى أصحابه. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمهم الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، وأصحابه محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشحو السيوف يلبون؛ فلما انتهى إلى ذي طوى وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء والمسلمون حوله، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون على راحلته القصواء، وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته.
فحدثني سعيد بن مسلم، عن زيد بن قسيط، عن عبيد بن خديج، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع التلبية حتى جاء عروش مكة.
حدثني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى استلم الركن.
حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، قال: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي رجل على السلاح، عليهم أوس بن خولي.
حدثني يعقوب بن محمد بن عدب الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: شهدت عمرة القضية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت قد شهدت الحديبية، فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى البيت، وهو على راحلته وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته - وقد صف له المسلمون - حين دنا من الركن حتى انتهى إليه، فاستلم الركن بمحجنه مضطبعاً بثوبه، على راحلته، والمسلمون يطوفون معه قد اضطبعوا بثيابهم، وعبد الله بن رواحة يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... إني شهدت أنه رسوله
حقاً وكل الخير في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر بن الخطاب: يا ابن رواحة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر، إن أسمع! فأسكت عمر.
فحدثني إسماعيل بن عباس، عن ثابت بن العجلان، عن عطاء بن أبي رباح، قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن المشركين على الجبل وهم يرونكم، امشوا ما بين اليماني والأسود. ففعلوا.
وحدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند المروة عند فراغه، وقد وقف الهدي عند المروة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر! فنحر عند المروة. وقال ابن واقد: وكان قد اعتمر مع النبي صلى الله عليه وسلم قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا، فأما من كان شهد الحديبية وخرج في القضية فإنهم شركوا في الهدي.
حدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، عن أم عمارة، قالت: لم يتخلف أحدٌ من أهل الحديبية إلا اعتمر عمرة القضية، إلا من مات أو قتل؛ فخرجت ونسوةٌ معي في الحديبية فلم نصل إلى البيت، فقصرن من أشعارهن بالحديبية ثم اعتمرن مع النبي صلى الله عليه وسلم، قضاءً لعمرتهن، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة. وكان ممن شهد الحديبية وقتل بخيبر ولم يشهد عمرة القضية: ربيعة بن أكثم، ورفاعة بن مسروح ، وثقف بن عمرو، وعبد الله بن أبي أمية بن وهب الأسدي، وأبو صياح، والحارث بن حاطب، وعدي بن مرة بن سراقة، وأوس بن حبيب، وأنيف ابن وائل، ومسعود بن سعد الزرفي، وبشر بن البراء، وعامر بن الأكوع.
وكان ابن عباس رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم في القضية أن يهدوا، فمن وجد بدنة من الإبل نحرها، ومن لم يجد بدنة رخص لهم في البقرة؛ فقدم فلان ببقرٍ اشتراه الناس منه.
حدثني حزام بن هشام، عن أبيه، أن خراش بن أمية حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن الذي حلقه معمر بن عدب الله العدوي.
حدثني علي بن عمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن سعيد ابن المسيب، قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلالٌ بالظهر فوق ظهر الكعبة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك. فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول! وقال صفوان بن أمية: الحمد الله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا! وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حين يقوم بلال بن أم بلال ينهق فوق الكعبة! وأما سهيل بن عمرو ورجالٌ معه، فحين سمعوا ذلك غطوا وجوههم.
حدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، قال: لم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة في القضية، قد أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك. وأمر بلالاً فأذن فوق الكعبة يومئذٍ مرةً ولم يعد بعد، وهو الثبت.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ميمونة وهو محرم، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
حدثني هشام بن سعد، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، قال: لما حل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمةً بين ظهري المشركين؟ فلم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها؛ فتكلم زيد بن حارثة، وكان وصى حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق بها، ابنة أخي! فلما سمع ذلك جعفر قال: الخالة والدةٌ، وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي، أسماء بنت عميس. فقال علي رضي الله عنه: ألا أراكم في ابنة عمي ، وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها نسبٌ دوني، وأنا أحق بها منكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحكم بينكم! أما أ،ت يا زيد فمولى الله ورسوله، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي، وأنت يا جعفر أحق بها! تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها فقضى بها لجعفر. قال ابن واقد: فلما قضى بها لجعفر قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جعفر؟ قال: يا رسول الله، كان النجاشي إذا أرضى أحداً قام فحجل حوله. فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: تزوجها! فقال: ابنة أخي من الرضاعة! فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هل جزيت سلمة؟ حدثني عبيد الله بن محمد قال: فلما كان عند الظهر يوم الرابع، أتى سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى - ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ من مجالس الأنصار يتحدث معه سعد بن عبادة - فقال: قد انقضى أجلك، فاخرج عنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، فصنعت لكم طعاماً؟ فقالا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا! ننشدك الله يا محمد والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا؛ فهذه الثلاث قد مضت! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل بيتاً، وضربت له قبةٌ من الأدم بالأبطح، فكان هناك حتى خرج منها، لم يدخل تحت سقف بيت من بيوتها. فغضب سعد ابن عبادة لما رأى من غلظة كلامهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لسهيل: كذبت لا أم لك، ليست بأرضك ولا أرض أبيك! والله لا يبرح منها إلا طائعاً راضياً. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد، لا تؤذ قوماً زارونا في رحالنا. قال: وأسكت الرجلان عن سعد. قال: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالرحيل، وقال: لا يميسين بها أحدٌ من المسلمين. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل سرف، وتتام الناس، وخلف أبا رافع ليحمل إليه زوجته حين يمسي، وأقام أبو رافع حتى أمسى، فخرج بميمونة ومن معها، فلقوا عناءً من سفهاء المشركين، آذوا بألسنتهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال لها أبو رافع - وانتظر أن يبطش أحدٌ منهم فيستخلى به ، فلم يفعلوا - ألا إني قد قلت لهم: " ما شئتم! هذه والله الخيل والسلاح ببطن يأجج! " وإذا الخيل قد قربت فوقفت لنا هنالك والسلاح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مائتين من أصحابه حين طافوا بالبيت أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا، فلما انتهينا إلى بطن يأجج ساروا معنا، فلم نأت سرف حتى ذهب عامة الليل، ثم أتينا سرف، فبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أدلج حتى قدم المدينة.
سرية ابن أبي العوجاء السلمي
في ذي الحجة سنة سبع
حدثني محمد، عن الزهري، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء سنة سبع - رجع في ذي الحجة سنة سبع - بعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين رجلاً، فخرج إلى بني سليم. وكان عين لبني سليم معه، فلما فصل من المدينة خرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم، فجمعوا جمعاً كثيراً. وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون له، فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم بالنبل ولم يسمعوا قولهم، وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه. فراموهم ساعة، وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل ناحية، فقاتل القوم قتالاً شديداً حتى قتل عامتهم، وأصيب صاحبهم ابن أبي العوجاء جريحاً مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إسلام عمرو بن العاصحدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمرو بن العاص: كنت للإسلام مجانباً معانداً، فحضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً فنجوت، ثم حضرت الخندق فقلت في نفسي: كم أوضع ؟ والله ليظهرن محمد على قريش! فخلفت مالي بالرهط وأفلت - يعني من الناس - فلم أحضر الحديبية ولا صلحها، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح ورجعت قريش إلى مكة، فجعلت أقول: يدخل محمد قابلاً مكة بأصحابه؛ ما مكة بمنزلٍ ولا الطائف، وما من شيءٍ خير من الخروج. وأنا بعد ناتٍ عن الإسلام، أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم. فقدمت مكة فجمعت رجالاً من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدمونني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟ قالوا: ذو رأينا ومدرهنا ، مع يمن نفسٍ وبركة أمر . قال، قلت: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد أمراً يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت رأياً. قالوا: ما هو؟ قال: نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن كان يظهر محمدٌ كنا عند النجاشي، فنكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد؛ وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. قالوا: هذا الرأي. قال: فاجمعوا ما تهدونه له. وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم. قال: فجمعنا أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتابٍ كتبه إليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي! أهديت لي من بلادك شيئاً؟ قال: فقلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدماً كثيراً. ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويحتفظ به. فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا؛ قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله! فرفع يده فضرب بها أنفي ضربةً ظننت أنه كسره، وابتدر منخاري، فجعلت أتلقى الدم بثيابي، وأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقاً منه. ثم قلت له: أيها الملك، لو ظننت أنك تكره ما فعلت ما سألتك. قال: واستحيى وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول رسول الله - من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى بن مريم - لتقتله؟
قال عمرو: وغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت؟ قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني واتبعه؛ والله إنه لعلى الحق، وليظهرن على كل دينٍ خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أفتبايعني على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ودعا لي بطستٍ فغسل عني الدم وكساني ثياباً، وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فألقيتها، ثم خرجت إلى أصحابي فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل أدركت صاحبك ما أردت؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت أعود إليه. قالوا: الرأي ما رأيت! وفارقتهم كأني أعمد لحاجة فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينةً قد شحنت برقعٍ ، فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعيبة ، وخرجت من الشعيبة ومعي نفقةٌ، فابتعت بعيراً وخرجت أريد المدينة حتى خرجت على مر الظهران، ثم مضيت حتى كنت بالهدة، إذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلاً، وأحدهما داخلٌ في خيمة، والآخر قائمٌ يمسك الراحلتين، فنظرت وإذا خالد بن الوليد، فقلت: أبا سليمان؟ قال: نعم. قلت: أين تريد؟ قال: محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طمعٌ ؛ والله لو أقمنا لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها. قلت: وأنا والله قد أردت محمداً وأردت الإسلام. وخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعاً في المنزل، ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة، فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح! يا رباح! فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين! فظننت أنه يعنيني وخالد بن الوليد، ثم ولى مدبراً إلى المسجد سريعاً فظننت أنه يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت. وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونودي بالعصر فانطلقنا جميعاً حتى طلعنا عليه صلوات الله عليه، وإن لوجهه تهللاً، والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا. فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياءً منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر. فقال: إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها. قال: فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمرٍ حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب.
قال عبد الحميد: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب فقال: أخبرني راشدٌ مولى حبيب بن أبي أويس، عن حبيب بن أوس الثقفي، عن عمرو، نحو ذلك. قال عبد الحميد: فقلت ليزيد: فلم يوقت لك متى قدم عمرو وخالد؟ قال: لا، إلا أنه قبيل الفتح، قلت: وإن أبي أخبرني أن عمراً، وخالداً، وعثمان بن طلحة، قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان.
وأخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أبي حبيبة، قراءةً عليه، حدثنا محمد بن شجاع قال، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال، فحدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال، سمعت أبي يحدث يقول: قال خالد بن الوليد: لما أراد اللهبي من الخير ما أراد قذف في قلبي حب الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمدٍ، فليس موطنٌ اشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيءٍ وأن محمداً سيظهر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيلٍِ من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان؛ فقمت بإزاءه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر آمناً منا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرةٌ - فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعاً وقلت: الرجل ممنوع! وافترقنا وعدل عن سنن خيلنا وأخذ ذات اليمين؛ فلما صالح قريشاً بالحديبية ودافعته قريشٌ بالرواح قلت في نفسي: أي شيءٍ بقي؟ أين المذهب إلى النجاشي؟ فقد اتبع محمداً، وأصحابه آمنون عنده، فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى نصرانيةٍ أو يهودية، فأقيم مع عجمٍ تابعاً، أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثله جهل الإسلام! ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين، لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة. قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبةً في الإسلام وسرني مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال خالد: وارى في النوم كأني في بلادٍ ضيقةٍ جديبة، فخرجت إلى بلدٍ أخضر واسع، فقلت إن هذه لرؤيا. فلما قدمت المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر. قال: فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك. فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأسٍ ، وقد ظهر محمدٌ على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمدٍ فاتبعناه فإن شرف محمدٍ لنا شرفٌ. فأبى أشد الإباء وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعته أبداً. فافترقنا وقلت: هذا رجلٌ موتور يطلب وتراً، قد قتل أبوه وأخوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل الذي قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان، قلت: فاطو ما ذكرت لك. قال: لا أذكره وخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي تخرج إلي، فخرجت بها إلى أن ألقى عثمان بن طلحة فقلت: إن هذا لي لصديقٌ ولو ذكرت له ما أريد! ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحلٌ من ساعتي. فذكرت له ما صار الأمر إليه فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحرٍ، لو صب عليه ذنوب من ماءٍ لخرج. قال: وقلت له نحواً مما قلت لصاحبيه، فاسرع الإجابة وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخٍ مناخةٌ. قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه. قال: فأدلجنا سحراً فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج؛ فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فنجد عمرو بن العاص بها فقال: مرحباً بالقوم! فقلنا: وبك! قال: فأين مسيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك الذي أقدمني. قال: فاصطحبنا جميعاً حتى قدمنا المدينة فأنخنا بظاهر الحرة ركابنا، فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا؛ فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم. فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يبتسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد على السلام
بوجهٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير. قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه .هٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير. قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه .
قال أبو عبد الله: سألت عبد الله بن عمرو بن زهير الكعبي: متى كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزاعة كتابه؟ فقال: أخبرني أبي، عن قبيصة بن ذؤيب أنه كتب لهم في جمادة الآخرة سنة ثمان. وذلك أنه أسلم قوم من العرب كثيرٌ، ومنهم من هو بعد مقيمٌ على شركه، ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية لم يبق من خزاعة أحدٌ إلا مسلمٌ مصدق بمحمد، قد أتوا بالإسلام وهو فيمن حوله قليلٌ، حتى قدم علقمة بن علاثة وابنا هوذة وهاجروا، فذلك حيث كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزاعة: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بديل، وبشر ، وسروات بني عمرو، سلامٌ عليكم، فإني أحمد الله إليكم، الله لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإني لم آثم بإلكم، ولم أضع في جنبكم، وإن أكرم تهامة علي أنتم، وأقربهم رحماً أنتم ومن تبعكم من المطيبين. فإني قد أخذت لمن قد هاجر منكم مثل ما أخذت لنفسي - ولو هاجر بأرضه - غير ساكن مكة إلا معتمراً أو حاجاً؛ وإني لم أضع فيكم إذ سالمت ، وإنكم غير خائفين من قبلي ولا محصورين. أما بعد: فإنه قد أسلم علقمة بن علاثة وابناه، وتابعا وهاجرا على من تبعهما من عكرمة؛ أخذت لمن تبعني منكم ما آخذ لنفسي، وإن بعضنا من بعض أبداً في الحل والحرم، وإنني والله ما كذبتكم وليحبكم ربكم.
حدثني عبد الله بن بديل، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن مسلمة، عن أبيه، عن بديل بن ورقاء مثل ذلك.
سريةٌ أميرها غالب بن عبد الله بالكديد
في صفر سنة ثمان
حدثنا الواقدي قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب ابن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي أحد بني كلب بن عوف، في سريةٍ كنت فيهم ، وأمره أن يشن الغارة على بني الملوح بالكديد، وهم من بني ليث. فخرجنا حتى إذا كنا بقديدٍ لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء، فأخذناه فقال: إنما جئت أريد الإسلام. فقلنا: لا يضرك رباط ليلةٍ إن كنت تريد الإسلام، وإن يكن غير ذلك نستوثق منك. فشددناه وثاقاً، وخلفنا عليه رجلاً منا يقال له سويد بن صخر، وقلنا: إن نازعك فاحتز رأسه. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكمن ناحية الوادي، فبعثني أصحابي ربيئةً لهم، فخرجت فأتيت تلاً مشرفاً على الحاضر يطلعني عليهم، حتى إذا أسندت فيه وعلوت على رأسه انبطحت، فوالله إني لأنظر إذ خرج رجل منهم، من خباءٍ له فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سواداً ما رأيته عليه صدر يومي هذا، فانظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب أخذت منها شيئاً. فنظرت فقالت: والله ما أفقد من أوعيتي شيئاً. فقال: ناوليني قوسي ونبلي! فناولته قوسه وسهمين معها، فأرسل سهماً، فوالله ما أخطأ به جنبي، فانتزعته فوضعته وثبت مكاني. ثم رماني الآخر فخالطني به أيضاً، فأخذته فوضعته وثبت مكاني. فقال لامرأته: والله لو كان زائلةً لتحرك بعد، لقد خالطه سهماي، لا أبا لك! إذا أصبحت فاتبعيهما؛ لا تمضغهما الكلاب. ثم دخل خباءه وراحت ماشية الحي من غبلهم وأغنامهم، فحلبوا وعطنوا ، فلما اطمأنوا وهدأوا شننا عليهم الغارة، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، واستقنا النعم والشاء فخرجنا نحدرها قبل المدينة حتى مررنا بأبي البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا. وخرج صريخ القوم في قومهم فجاءنا ما لا قبل لنا به، ونظروا إلينا وبيننا وبينهم الوادي وهم موجهون إلينا، فجاء الله الوادي من حيث شاء بماءٍ ملأ جنبيه؛ وأيم الله ما رأينا قبل ذلك سحاباً ولا مطراً، فجاء بما لا يستطيع أحدٌ أن يجوزه، فلقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا وقد أسندنا في المشلل وفتناهم، فهم لا يقدرون على طلبنا، فما أنسى رجز أميرنا غالب:
أبى أبو القاسم أن تعز بي ... وذاك قول صادقٍ لم يكذب
في خضلٍ نباته مغلولب ... صفرٍ أعاليه كلون المذهب
ثم قدمنا المدينة.
فحدثني عبد العزيز بن عقبة، عن محمد بن حمزة بن عمر الأسلمي، عن أبيه، قال: كنت معهم ونا بضعة عشر رجلاً، شعارنا: أمت! أمت!
سرية كعب بن عمير إلى ذات أطلاح
في شهر ربيع الأول سنة ثمانقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل. فلما رأى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فأفلت منهم رجلٌ جريحٌ في القتلى، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم.
حدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: كان كعب يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم، فرآه عينٌ لهم فأخبرهم بقلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوا على الخيول فقتلوهم.
سرية شجاع بن وهب
إلى السي من أرض بني عامر من ناحية ركبة
في ربيع الأول سنة ثمان؛ وسرية إلى خثعم بتبالةحدثني الواقدي قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمعٍ من هوازي بالسي، وأمره أن يغير عليهم، فخرج؛ فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم وهم غارون، وقد أوعز إلى أصحابه قبل ذلك ألا يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعماً كثيراً وشاءً، فاستاقوا ذلك كله حتى قدموا المدينة واقتسموا الغنيمة ، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيراً؛ كل رجلٍ، وعدلوا البعير بعشرة من الغنم، وغابت السرية خمس عشرة ليلة.
قال ابن أبي سبرة: فحدثت هذا الحديث محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان فقال: كانوا قد أصابوا في الحاضر نسوةً فاستاقوهن، وكانت فيهن جاريةٌ وضيئةٌ فقدموا بها المدينة. ثم قدم وفدهم مسلمين، فلما قدموا كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم شجاعاً وأصحابه في ردهن، فسلموهن وردوهن إلى أصحابهن.
قال ابن أبي سبرة: فأخبرت شيخاً من الأنصار بذلك فقال: أما الجارية الوضيئة فكان شجاع بن وهب قد أخذها لنفسه بثمنٍ فأصابها، فلما قدم الوفد خيرها، فاختارت المقام عند شجاع بن وهب، فلقد قتل يوم اليمامة وهي عنده، ولم يكن له منها ولدٌ. فقلت لابن أبي سبرة: ما سمعت أحداً قط يذكر هذه السرية. فقال ابن أبي سبرة: ليس كل العلم سمعته. قال: أجل والله.
فقال ابن أبي سبرة: لقد حدثني إسحاق بن عبد الله سريةً أخرى، قال إسحاق: حدثني ابن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلاً إلى حيٍّ من خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة عليهم، وأن يسير الليل ويكمن النهار، وأمره أن يغذ السير. فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، قد غيبوا السلاح؛ فأخذوا على الفتق حتى انتهوا إلى بطن مسحب ، فأخذوا رجلاً فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر، فقدمه قطبة فضرب عنقه ثم أقاموا حتى كان ساعة من الليل، فخرج رجلٌ منهم طليعةً فيجد حاضر نعمٍ، فيه النعم والشاء؛ فرجع إلى أصحابه فأخبرهم، فأقبل القوم يدنون دبيباً يخافون الحرس، حتى انتهوا إلى الحاضر وقد ناموا وهدأوا؛ فكبروا وشنوا الغارة، فخرج إليهم رجال الحاضر، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت الجراح في الفريقين. وأصبحوا وجاء الخثعميون الدهم ، فحال بينهم سيلٌ أتى، فما قدر رجلٌ واحدٌ منهم يمضي حتى أتى قطبة على أهل الحاضر، فأقبل بالنعم والشاء والنساء إلى المدينة، فكان سهامهم أربعة أربعة، والبعير بعشرة من الغنم بعد أن خرج الخمس. وكان في صفر سنة تسع
غزوة مؤتةحدثنا الواقدي قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي ثم أحد بني لهب، إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلك من رسل محمدٍ؟ قال: نعم، أنا رسول رسول الله. فأمر به فأوثق رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه صبراً. ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ غيره، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف، ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر،فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر جلس وجلس أصحابه، وجاء النعمان بن فنحص اليهودي، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم. فقال النعمان بن فنحص: أبا القاسم، إن كنت نبياً فسميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان، فلو سمى مائة أصيبوا جميعاً. ثم جعل اليهودي يقول لزيد ابن حارثة: اعهد، فلا ترجع إلى محمد أبداً إن كان نبياً! فقال زيد: فأشهد أنه نبيٌّ صادقٌ بارٌ. فلما أجمعوا المسير وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم اللواء ودفعه إلى زيد بن حارثة - لواء أبيض - مشى الناس إلى أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونهم ويدعون لهم، وجعل المسلمون يودع بعضهم بعضاً، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين. قال ابن رواحة عند ذلك:
لكني أسال الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرعٍ تقذف الزبدا
وهي أبياتٌ أنشدنيها شعيب بن عبادة.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن رافع بن إسحاق، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً. أو قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لاتغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث؛ فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم؛ ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين؛ وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الفيء ولا في القسمة شيءٌ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين؛ فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم؛ وإن أنت حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا. وإن حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذمتكم وذمم آبائكم خيرٌ لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله.
حدثني أبو صفوان، عن خالد بن يزيد، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مشيعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف ووقفوا حوله فقال: اغزوا بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين للناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان، في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأةً ولا صغيراً ولا مرضعاً ولا كبيراً فانياً، لا تغرقن نخلاً ولا تقطعن شجراً، ولا تهدموا بيتاً.
حدثني أبو القاسم بن عمارة بن غزية، عن أبيه، عن عطاء بن أبي مسلم؛ قال: لما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيءٍ أحفظه عنك! قال: إنك قادمٌ غداً بلداً، السجود به قليلٌن فأكثر السجود. قال عبد الله: زدني يا رسول الله! قال: اذكر الله، فإنه عون لك على ما تطلب. فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهباً رجع إليه فقال: يا رسول الله، إن الله وتر يحب الوتر! قال: يا ابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدةً. فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيءٍ بعدها. قال أبو عبد الله: وكان زيد بن أرقم يقول: كنت في حجر عبد الله بن رواحة فلم أر والي يتيمٍ كان خيراً منه؛ خرجت معه في وجهه إلى مؤتة، وصب بي وصببت به فكان يردفني خلف رحله، فقال ذات ليلة وهو على راحلته بين شعبتي الرحل، وهو يتمثل أبيات شعر
إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسافة أربعٍ بعد الحساء
فزادك أنعمٌ وخلاك ذمٌّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشتهى الثواء
هنالك لا أبالي طلع نخلٍ ... ولا نخلٍ أسافلها رواء
فلما سمعت هذه الأبيات بكيت، فخفقني بيده وقال: ما يضرك يا لكع أن يرزقن الله الشهادة فأستريح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها وأحداثها. ويرجع بين شعبتي الرحل، ثم نزل نزلة من الليل فصلى ركعتين وعاقبهما دعاءً طويلاً ثم قال لي: يا غلام! فقلت: لبيك! قال: هي إن شاء الله الشهادة.
ومضى المسلمون من المدينة، فسمع العدو بمسيرهم عليهم قبل أن ينتهوا إلى مقتل الحارث بن عمير، فلما فصل المسلمون من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا الجموع. وقام فيهم رجلٌ من الأزد يقال له شرحبيل بالناس، وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون وادي القرى وأقاموا أياماً، وبعث أخاه سدوس وقتل سدوس وخاف شرحبيل بن عمرو فتحصن، وبعث أخاً له يقال له وبر بن عمرو. فسار المسلمون حتى نزلوا أرض معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام في مائة ألفٍ، عليهم رجلٌ من بلى يقال له مالكٌ. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالاً. فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجعهم ثم قال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاحٍ، ولا بكثرة خيولٍ، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. انطلقوا والله لقد رأيتنا يوم بدرٍ ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد فرسٌ واخدٌ؛ وإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهورٌ عليهم فذلك ما وعدنا الله ووعدنا نبينا، وليس لوعده خلفٌ، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان! فشجع الناس على مثل قول ابن رواحة.
فحدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: شهدت مؤتة، فلما رأينا المشركين راينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت ابن أرقم. يا أبا هريرة، ما لك؟ كأنك ترى جموعاً كثيرةً. قلت: نعم، قال: تشهدنا ببدر؟ إنا لم ننصر بالكثرة! حدثني بكير بن مسمار، عن ابن كعب القرظي، وابن أبي سبرة، عن عمارة بن غزية، أحدهما يزيد على الآخر في الحديث، قال: لما التقى المسلمون والمشركون، وكان الأمراء يومئذٍ يقاتلون على أرجلهم، أخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل الناس معه، والمسلمون على صفوفهم، فقتل زيد بن حارثة. قال ابن كعب القرظي، أخبرني من حضر يومئذٍ قال: لا، ما قتل إلا طعناً بالرمح. ثم أخذه جعفر، فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها ، ثم قاتل حتى قتل.
وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: ضربه رجلٌ من الروم فقطعه، نصفين، فوقع أحد نصفيه في كرمٍ، فوجد في نصفه ثلاثون أو بضعٌ وثلاثون جرحاً.
حدثني أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وجد مما قتل من بدن جعفر ما بين منكبيه اثنان وسبعون ضربةً بسيف أو طعنةٍ برمح.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن صالح، عن عاصم بن عمر، قال: وجد في بدن جعفر أكثر من ستين جرحاً، ووجد به طعنةٌ قد أنفذته.
حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن عبد الله بن أبي بكر، زاد أحدهما على صاحبه في الحديث قالا: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت وحبب إليه الدنيا! فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا! فمضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: استغفروا له، فقد دخل الجنة وهو يسعى! ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا! ثم مضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له، ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيدٌ، دخل الجنة فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة. ثم أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة، فاستشهد ودخل الجنة معترضاً. فشق ذلك على الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصابه الجراح. قيل: يا رسول الله، ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فشجع، فاستشهد فدخل الجنة. فسري عن قومه.
حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت جعفراً ملكاً يطير في الجنة تدمى قادمتاه، ورأيت زيداً دون ذلك فقلت: ما كنت أظن أن زيداً دون دعفر. فأتى جبريل عليه السلام فقال: إن زيداً ليس بدون جعفر، ولكنا فضلنا جعفر لقرابته منك.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن المقبري، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الفرسان أبو قتادة، وخير الرجالة سلمة بن الأكوع.
حدثني نافع بن ثابت، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، أن رجلاً من بني مرة كان في الجيش. قيل له: إن الناس يقولون إن خالداً انهزم من المشركين. فقال: لا والله ما كان ذلك! لما قتل ابن رواحة نظرت إلى اللواء قد سقط، واختلط المسلمون والمشركون، فنظرت إلى اللواء في يد خالد منهزماً، واتبعناه فكانت الهزيمة.
حدثني محمد بن صالح، عن رجل من العرب، عن أبيه، قال: لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمةٍ رأيتها قط. في كل وجهٍ. ثم إن المسلمين تراجعوا. فأقبل رجلٌ من الأنصار يقال له ثابت بن أرقم، فأخذ اللواء وجعل يصيح بالأنصار، فجعل الناس يثوبون إليه من كل وجهٍ وهم قليل وهو يقول: إلي أيها الناس! فاجتمعوا إليه. قال: فنظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه، أنت أحق به. أنت رجلٌ لك سنٌّ، وقد شهدت بدراً. قال ثابت: خذه أيها الرجل! فوالله ما أخذته إلا لك! فأخذه خالدٌ فحمله ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه. فثبت حتى تكركر المشركون. وحمل بأصحابه ففض جمعاً من جمعهم، ثم دهمه منهم بشرٌ كثيرٌ. فانحاش المسلمون فانكشفوا راجعين.
حدثني ابن أبي سبرة. عن إسحاق بن عبد الله. عن ابن كعب بن مالك. قال: حدثني نفرٌ من قومي حضروا يومئذٍ قالوا: لما أخذ اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة. وقتل المسلمون. واتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم. يقتل الرجل مقبلاً أحسن أن يقتل مدبراً! يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد، هي الهزيمة، ويتبعون صاحب الراية منهزماً.
حدثني إسماعيل بن مصعب، عن إبراهيم بن يحيى بن زيد، قال: لما أخذ اللواء ثابت بن أرقم، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، قال ثابت: اصطلحتم على خالد؟ قالوا: نعم. فأخذه خالد فانكشف بالناس.
حدثني عطاف بن خالد قال: لما قتل ابن رواحة مساءً بات خالد بن الوليد، فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم وقالوا: قد جاءهم مددٌ! فرعبوا فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قومٌ.
حدثني عبد الله بن الفضيل، عن أبيه، قال: لما أخذ خالد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن حمي الوطيس! قال أبو عبد الله: والأول أثبت عندنا؛ أن خالداً انهزم بالناس. قال ابن أبي الزناد: بلغت الدماء بين الخيل موضع الأشاعر من الحافر ؛ والوطيس أيضاً ذاك، وإذا حمي ذلك الموضع من الدابة كان أشد لعدوها.
حدثني داود بن سنان قال: سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد يومئذٍ حتى عيروا بالفرار، وتشاءم الناس به.
حدثني خالد بن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدري، قال: أقبل خالد بن الوليد بالناس منهزماً، فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون: يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار، ولكنهم كرارٌ إن شاء الله! حدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن عتبة، يقول: ما لقي جيش بعثوا معنا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة؛ لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له، يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك؟ فأما من كان كبيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في بيته استحياءً حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم رجلاً رجلاً، يقول: أنتم الكرار في سبيل الله!
حدثني مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: كان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة، فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة: ما لي لا أرى سلمة بن هشام؟ آشتكى شيئاً؟ قالت امرأته: لا والله، ولكنه لا يستطيع الخروج؛ إذا خرج صاحوا به وبأصحابه يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟. حتى قعد في البيت. فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، هم الكرار في سبيل الله، فليخرج! فخرج.
حدثني خالد بن إلياس، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس، لقد كان بيني وبين ابن عمرٍّ لي كلام، فقال: إلا فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شيء أقول له.
حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أم عيسى بن الحزار، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد هيأت أربعين منا من أدم ، وعجنت عجيني، وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم؟ فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أسماء، أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه فضمهم وشمهم، ثم ذرفت عيناه فبكى، فقلت: أي رسول الله، لعلك بلغك عن جعفر شيءٌ؟ فقال: نعم، قتل اليوم. قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أسماء، لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً! قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على ابنته فاطمة وهي تقول: واعماه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على مثل جعفر فلتبك الباكية! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم.
حدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن أبي يعلى، قال: سمعت عبد الله ابن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته. ثم قال: اللهم، إن جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته! ثم قال: يا أسماء، ألا أبشرك؟ قالت: بلى، بأبي أنت وأمي! قال: فإن الله عز وجل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة! قالت: بأبي وأمي يا رسول الله، فأعلم الناس ذلك! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيدي، يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم فقال: إن المرء كثيرٌ بأخيه وابن عمه، ألا إن جعفراً قد استشهد، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وأدخلني، وأمر بطعامٍ فصنع لأهلي، وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده والله غداءً طيباً مباركاً؛ عمدت سلمى خادمته إلى شعيرٍ فطحنته، ثم نسفته، ثم أنضجته وأدمته بزيت. وجعلت عليه فلفلاً. فتغديت أنا وأخي معه فأقمنا ثلاثة أيام في بيته، ندور معه كلما صار في إحدى بيوت نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أساوم بشاة أخٍ لي، فقال: اللهم بارك في صفقته. قال عبد الله: فما بعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه.
حدثني عمر بن أبي عاتكة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما قدم نعي جعفر عرفنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن. قالت: قديماً ما ضر الناس التكلف ؛ فأتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن النساء قد عنيننا بما يبكين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارجع إليهن فأسكتهن، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب. فقلت في نفسي: أبعدك الله! ما تركت نفسك، وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: أنا أطلع من صير الباب فأسمع هذا.
حدثني عبد الله بن محمد، عن ابن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: أصيب بها ناسٌ من المسلمين، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين، فكان مما غنموا خاتماً جاء به رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلت صاحبه يومئذٍ!فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
==============
ج5. كتاب المغازي الواقدي
وقال عوف بن مالك الأشجعي: لقيناهم في جماعة من قضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فصافونا فجعل رجلٌ من الروم يسل على المسلمين ويغري بهم على فرسٍ أشقر، عليه سلاحٌ مذهبٌ ولجامٌ مذهبٌ، فجعلت أقول في نفسي: من هذا؟ وقد رافقني رجلٌ من أمداد حمير، فكن معنا في مسيرنا ذلك ليس معه سيفٌ، إذ نحر رجلٌ من القوم جزوراً فسأله المددي طائفةً من جلده، وهبه له فبسطه في الشمس وأوتد على أطرافه أوتاداً، فلما جف اتخذ منه مقبضاً وجعله درقةً. فلما رأى ذلك المددي ما يفعل ذلك الرومي بالمسلمين كمن له خلف صخرة، فلما مر به خرج عليه فعرقب فرسه، فقعد الفرس على رجليه وخر عنه العلج ، وشد عليه فعلاه بسيفه فقتله.
حدثني بكير بن مسمار، عن عمارة بن غزية ، عن أبيه، قال: حضرت مؤتة، فبارزت رجلاً يومئذٍ فأصبته، وعليه يومئذٍ بيضةٌ له فيها ياقوتةٌ، فلم يكن همي إلا الياقوتة فأخذتها؛ فلما انكشفنا وانهزمنا رجعت بها المدينة، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفلنيها فبعتها زمن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بمائة دينارٍ، فاشتريت بها حديقة نخل ببني خطمة.
ذكر من استشهد بمؤتة من بني هاشم وغيرهماستشهد من بني هاشم: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة. ومن بني عدي بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة. ومن بني عامر ابن لؤي، ثم من بني مالك بن حسيل: وهب بن سعد بن أبي سرح. وقتل من الأنصار، ثم من بني النجار من بني مازن: سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء. ومن بني النجار: الحارث بن النعمان بن يساف بن نضلة بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك. ومن بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، وعبادة بن قيس. ثم رجعوا إلى المدينة.
غزوة ذات السلاسلحدثني ربيعة بن عثمان، عن ابن رومان؛ وحدثني أفلح بن سعد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش، عن أبي بكر بن حزم؛ وحدثني عبد الحميد بن جعفر؛ فكلٌّ قد حدثني منه طائفةً، وبعضهم أوعى للحديث من بعض، فجمعت ما حدثوني، وغير هؤلاء المسمين قد حدثني أيضاً، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعاً من بليٍّ وقضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواءً أبيض، وجعل معه رايةً سوداء، وبعثه في سراة المهاجرين والأنصار - في ثلاثمائة - عامر بن ربيعة، وصهيب بن سنان، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وسعد بن أبي وقاص؛ ومن الأنصار: أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، وسلمة بن سلامة، وسعد بن عبادة. وأمره أن يستعين بمن مر به من العرب، وهي بلاد بليٍّ وعذرة وبلقين، وذلك أن عمرو بن العاص كان ذا رحمٍ بهم؛ كانت أم العاص بن وائل بلويةً، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بعمرٍو. فسار، وكان يكمن النهار ويسير الليل، وكانت معه ثلاثون فرساً، فلما دنا من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فنزل قريباً منهم عشاءً وهم شاتون، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يصطلوا - وهي أرضٌ باردةٌ - فمنعهم؛ فشق ذلك عليهم حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه، فقال عمرو: أمرت أن تسمع لي وتطيع! قال: فافعل!
وبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن لهم جمعاً كثيراً ويستمده بالرجال، فبعث أبا عبيدة بن الجراح وعقد له لواءً، وبعث معه سراة المهاجرين - أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - والأنصار، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق عمرو بن العاص. فخرج أبو عبيدة في مائتين، وأمره أن يكونا جميعاً ولا يختلفا. فساروا حتى لحقوا بعمرو بن العاص، فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمراً، فقال له عمرو: إنما قدمت علي مدداً لي، وليس لك أن تؤمني، وأنا الأمير؛ وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلي مدداً. فقال المهاجرون: كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه! فقال عمرو: لا، بل أنتم مددٌ لنا! فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف - وكان حسن الخلق، لين الشيمة - قال: لتطمئن يا عمرو، وتعلمن أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا " . وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك! فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. فآب إلى عمرو جمعٌ - فصاروا خمسمائة - فسار الليل والنهار حتى وطىء بلاد بليٍّ ودوخها ، وكلما انتهى إلى موضعٍ بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا به تفرقوا، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بليٍّ وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعاً ليس بالكثير، فقاتلوا ساعةً وتراموا بالنبل، ورمي يومئذٍ عامر بن ربيعة بسهمٍ فأصيب ذراعه. وحمل المسلمون عليهم فهربوا، وأعجزوا هرباً في البلاد وتفرقوا، ودوخ عمرو ما هناك وأقام أياماً لا يسمع لهم بجمعٍ ولا بمكانٍ صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، وكانوا ينحرون ويذبحون، لم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن غنائم تقسم إلا ما ذكر له.
وكان رافع بن أبي رافع الطائي يقول: كنت فيمن نفر مع أبي عبيدة ابن الجراح، وكنت رجلاً أغير في الجاهلية على أموال الناس، فكنت أجمع الماء في البيض - بيض النعام - فأجعله في أماكن أعرفها، فإذا مررت بها وقد ظمئت استخرجتها فشربت منها. فلما نفرت في ذلك البعث قلت: والله لأختارن لنفسي صاحباً ينفعني الله به. فاخترت أبا بكر الصديق فصحبته، وكانت له عباءةٌ فدكية ، فإذا ركب خلها عليه بخلالٍ، وإذا نزلنا بسطها. فلما قفلنا قلت: يا أبا بكر، رحمك الله! علمني شيئاً ينفعني الله به. قال: قد كنت فاعلاً ولو لم تسألني؛ لا تشرك بالله، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت واعتمر، ولا تتأمر على اثنين من المسلمين. قال: قلت: أما ما أمرتني به من الصلاة والصوم والحج فأنا فاعله، وأما الإمارة فإني رأيت الناس لا يصيبون هذا الشرف وهذا الغنى وهذه المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الناس إلا بها. قال: إنك استنصحتني فجهدت لك نفسي؛ إن الناس دخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً فأجارهم الله من الظلم، وهم عواد الله وجيران الله، وفي أمانته، فمن أخفر فإنما يخفر الله في جيرانه؛ وإن شاة أحدكم أو بعيره ليذهب فيظل ناتثاً عضله غضباً لجاره، والله من وراء جاره. قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه جئته فقلت: يا أبا بكر، ألم تنهني أن أتامر على اثنين؟ قال: بلى، وأنا على ذلك! قال: فما لك تأمرت على أمة محمد؟ قال: اختلف الناس وخشيت عليهم الهلاك، ودعوا إلي فلم أجد لذلك بداً.
قال: وكان عوف بن مالك الأشجعي رفيقاً لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما معهما في رحلهما، فخرج عوف يوماً في العسكر فمر بقومٍ بأيديهم جزورٌ قد عجزوا عن عملها، فكان عوف عالماً بالجزر فقال: أتعطوني عليها وأقسمها بينكم. قالوا: نعم نعطيك عشيراً منها. فنحرها ثم جزأها بينهم، وأعطوه منها جزأً فأخذه فأتى به أصحابه، فطبخوه وأكلوا منه. فلما فرغوا قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: من أين لك هذا اللحم؟ فأخبرهما فقالا: والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا. ثم قاما يتقيآن، فلما فعل ذلك أبو بكر وعمر فعل ذلك الجيش، وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لعوف: تعجلت أجرك! ثم أتى أبا عبيدة فقال له مثل ذلك.
وكان عمرو بن العاص حين قفلنا احتلم في ليلةٍ باردةٍ كأشد ما يكون من البرد، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قد والله احتلمت، وإن اغتسلت مت! فدعا بماءٍ فتوضأ وغسل فرجه وتيمم، ثم قام فصلى بهم؛ فكان أول من بعث عوف بن مالك بريداً. قال عوف بن مالك: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر وهو يصلي في بيته، فسلمت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عوف بن مالك؟ قلت: عوف بن مالك يا رسول الله! قال: صاحب الجزور؟ قلت: نعم. ولم يزد على هذا شيئاً، ثم قال: أخبرني! فأخبرته بما كان في مسيرنا وما كان بين أبي عبيدة بن الجراح وبين عمرو بن العاص ومطاوعة أبي عبيدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح! ثم أخبرته أن عمراً صلى بنا وهو جنبٌ ومعه ماءٌ لم يزد على أن غسل فرجه بماءٍ وتيمم، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته فأخبره فقال: والذي بعثك بالحق لو اغتسلت لمت، لم أجد قط برداً مثله، وقد قال الله: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً " . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أنه قال شيئاً
سرية الخبط أميرها أبو عبيدةقال الواقدي: حدثني داود بن قيس، ومالك بن أنس، وإبراهيم بن محمد الأنصاري من ولد ثابت بن قيس بن شماس، وخارجة بن الحارث؛ وبعضهم قد زاد في الحديث، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في سريةٍ فيها المهاجرون والأنصار، وهم ثلثمائة رجل، إلى ساحل البحر إلى حيٍّ من جهينة؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ، فأمر أبو عبيدة بالزاد فجمع حتى إذا كانوا ليقتسمون التمرة، فقيل لجابر: فما يغني ثلث تمرة؟ قال: لقد وجدوا فقدها. قال: ولم تكن معهم حمولة ، إنما كانوا على أقدامهم، وأباعر يحملون عليها زادهم. فأكلوا الخبط، وهو يومئذٍ ذو مشرة ، حتى إن شدق أحدهم بمنزلة مشفر البعير العضة، فمكثنا على ذلك حتى قال قائلهم: لو لقينا عدواً ما كان بنا حركةٌ إليه، لما بالناس من الجهد. فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمراً بجزر، يوفيني الجزر ها هنا وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: واعجباه لهذا الغلام، لا مال له يدان في مال غيره! فوجد رجلاً من جهينة، فقال قيس بن سعد: بعني جزراً وأوفيك سقةً من تمرٍ بالمدينة. قال الجهني: والله ما أعرفك، ومن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم . قال الجهني: ما أعرفتني بنسبك أما إن بيني وبين سعد خلة، سيد أهل يثرب. فابتاع منهم خمس جزر كل جزور بوسقين من تمرٍ يشرط عليه البدوي، تمرٍ ذخيرةٍ مصلبةٍ من تمر آل دليم. قال: يقول قيس: نعم. فقال الجهني: فاشهد لي. فأشهد له نفراً من الأنصار ومعهم نفرٌ من المهاجرين. قال قيس: أشهد من تحب. فكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: لا أشهد! هذا يدان ولا مال له، إنما المال لأبيه. قال الجهني: والله، ما كان سعدٌ ليخني بابنه في سقةٍ من تمر! وأرى وجهاً حسناً وفعالاً شريفاً. فكان بين عمر وبين قيس كلام حتى أغلظ له قيس الكلام؛ وأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة، كل يوم جزوراً، فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره وقال: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟
حدثني محمد بن يحيى بن سهل، عن أبيه، عن رافع بن خديج، قال: أقبل أبو عبيدة بن الجراح ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فقال: عزمت عليك ألا تنحر؛ أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟ فقال قيس: يا أبا عبيدة، أترى أبا ثابت وهو يقضي دين الناس، ويحمل الكل ، ويطعم في المجاعة، لا يقضي سقة تمرٍ لقومٍ مجاهدين في سبيل الله! فكاد أبو عبيدة أن يلين له ويتركه حتى جعل عمر يقول: اعزم عليه! فعزم عليه فأبى عليه أن ينحر. فبقيت جزوران معه حتى وجد القوم الحوت، فقدم بهما قيس المدينة ظهراً يتعاقبون عليها، وبلغ سعد ما كان أصاب القوم من المجاعة فقال: إن يكن قيسٌ كما أعرفه فسوف ينحر للقوم. فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابهم؟ قال: نحرت. قال: أصبت، انحر! قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت! قال: ثم ماذا؟ قال: ثم نحرت. قال: أصبت، انحر! قال: ثم ماذا؟ قال: نهيت. قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح أميري. قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك، فقلت: أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل ، ويطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي! قال: فلك أربع حوائط . قال: وكتب له بذلك كتاباً. قال: وأتى بالكتاب إلى أبي عبيدة فشهد فيه، وأتى عمر فأبى أن يشهد فيه - وأدنى حائطٍ منها يجذ خمسين وسقاً. وقدم البدوي مع قيس فأوفاه سقته وحمله وكساه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فعل قيس فقال: إنه في بيت جود.
حدثني مالك بن أنس، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، فألقى لنا حوتاً مثل الظرب ، فأكل الجيش منه اثنتي عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعٍ من أضلاعه فنصب، ثم أمر براحلةٍ فرحلت، ثم مر تحتها فلم يصبها.
حدثني ابن أبي ذئبٍ، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: إن كان الرجل ليجلس في وقب عينه، وإن كان الراكب ليمر بين ضلعين من أضلاعه على راحلته.
حدثني عبد الله بن الحجازي، عن عمر بن عثمان بن شجاع، قال: لما قدم الأعرابي على سعد بن عبادة قال: يا أبا ثابت! والله، ما مثل ابنك صنعت ولا تركت بغير مال؛ فابنك سيد من سادة قومه، نهاني الأمير أن أبيعه. قلت: لم؟ قال: لا مال له! فلما انتسب إليك عرفته فتقدمت لما عرفت أنك تسمو على معالي الأخلاق وجسيمها، وأنك غير مذم بمن لا معرفة له لديك. قال: فأعطى ابنه يومئذٍ أموالاً عظاماً.
سرية خضرة، أميرها أبو قتادة
في شعبان سنة ثمان
حدثنا الواقدي قال: حدثني محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: قال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي: تزوجت ابنة سراقة بن حارثة اللجاري وكان قتل ببدر، فلم أصب شيئاً من الدنيا كان أحب إلي من مكانها، فأصدقتها مائتي درهم، فلم أجد شيئاً أسوقه إليها فقلت:على الله ورسوله المعول. فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: كم سقت إليها! قلت: مائتي درهم. فقال: لو كنتم تغترفونه من ناحية بطحان ما زدتم. فقلت: يا رسول الله، أعني في صداقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وافقت عندنا شيئاً أعينك به، ولكني قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلاً في سرية، فهل لك أن تخرج فيها؟ فإني أرجو أن يغنمك الله مهر امرأتك. فقلت: نعم. فخرجنا فكنا ستة عشر رجلاً بابي قتادة وهو أميرنا، وبعثنا إلى غطفان نحو نجد فقال: سيروا الليل واكمنوا النهار، وشنوا الغارة، ولا تقتلوا النساء والصبيان. فخرجنا حتى جئنا ناحية غطفان، فهجمنا على حاضرٍ منهم عظيمٍ. قال: وخطبنا أبو قتادة وأوصانا بتقوى الله عز وجل، وألف بين كل رجلين وقال: لا يفارق كل رجلٍ زميله حتى يقتل أو يرجع إلي فيخبرني خبره، ولا يأتني رجلٌ فأسأل عن صاحبه فيقول، لا علم لي به! وإذا كبرت فكبروا، وإذا حملت فاحملوا، ولا تمعنوا في الطلب. فأحطنا بالحاضر فسمعت رجلاً يصرخ: يا خضرة! فتفاءلت وقلت: لأصيبن خيراً ولأجمعن إلي امرأتي! وقد أتيناهم ليلاً. قال: فجرد أبو قتادة سيفه وجردنا سيوفنا، وكبر وكبرنا معه، فشددنا على الحاضر فقاتل رجالٌ، وإذا برجلٍ طويلٍ قد جرد سيفه صلتاً، وهو يمشي القهقرى ويقول: يا مسلم، هلم إلى الجنة! فاتبعته ثم قال: إن صاحبكم لذو مكيدة، وإن أمره هو الأمر. وهو يقول: الجنة! الجنة! يتهكم بنا. فعرفت أنه مستقبل فخرجت في أثره، فيناديني صاحبي: لا تبعد، فقد نهانا أميرنا أن نمعن في الطلب! فأدركته فرميته على جريداء متنه ، ثم قال: ادن يا مسلم إلى الجنة! فرميته حتى قتلته بنبلي، ثم وقع ميتاً فأخذت سيفه. وجعل زميلي ينادي: أين تذهب؟ إني والله إن ذهبت إلى أبي قتادة فسألني عنك أخبرته. قال: فلقيته قبل أبي قتادة فقلت: أسأل أميري عني؟ فقال: نعم، وقد تغيظ علي وعليك. وأخبرني أنهم جمعوا الغنائم - وقتلوا من أشرف لهم - فجئت أبا قتادة فلامني فقلت: قتلت رجلاً كان من أمره كذا وكذا، فأخبرته بقوله كله. ثم استقنا النعم، وحملنا النساء، وجفون السيوف معلقة بالأقتاب . فأصبحت - وبعيري مقطور - بامرأة كأنها ظبيٌ، فجعلت تكثر الالتفات خلفها وتبكي، قلت: إلى أي شيءٍ تنظرين؟ قالت: أنظر والله إلى رجلٍ لئن كان حياً ليستنقذنا منكم. فوقع في نفسي أنه الذي قتلته فقلت: قد والله قتلته، وهذا سيفه معلق بالقتب إلى غمده، فقالت: هذا والله غمد سيفه، فشمه إن كنت صادقاً. قال: فشمته فطبق . قال: فبكت ويئست. قال ابن أبي حدرد: فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بالنعم والشاء.
فحدثني أبو مودود، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد ، عن أبيه، قال: لما رجعت من غزوة خضرة وقد أصبنا فيئاً، سهم كل رجل اثنا عشر بعيراً، دخلت بزوجتني فرزقني الله خيراً.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن جعفر بن عمرو، قال: غابوا خمس عشرة ليلة، وجاءوا بمائتي بعير وألف شاة، وسبوا سبياً كثيراً. وكان الخمس معزولاً، وكان سهمانهم اثني عشر بعيراً، يعدل البعير بعشر من الغنم.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه، قال: أصبنا في وجهنا أربع نسوة، فيهن فتاة كأنها ظبيٌ، من الحداثة والحلاوة شيءٌ عجب، وأطفال من غلمان وجوار، فاقتسموا السبي وصارت تلك الجارية الوضيئة لأبي قتادة. فجاء محمية بن جزء الزبيدي فقال: يا رسول الله، إن أبا قتادة قد أصاب في وجهه هذا جاريةً وضيئةً، وقد كنت وعدتني جاريةً من أول فيءٍ يفيء الله عليك. قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي قتادة فقال: ما جاريةٌ صارت في سهمك؟ قال: جاريةٌ من السبي هي أوضأ ذلك السبي، أخذتها لنفسي بعد أن أخرجنا الخمس من المغنم. قال: هبها لي. فقال: نعم، يا رسول الله. فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إلى محمية بن جزء الزبيدي.
شأن غزوة الفتح
حدثني محمد بن عبد الله، وموسى بن محمد، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن يزيد، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ويونس بن محمد، ومحمد بن يحيى بن سهل، وابن أبي حثمة، ومحمد بن صالح بن دينار، ونجيح، وأسامة بن زيد، وحزام بن هشام، ومعاذ بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، ومعمر بن راشد؛ فكلٌّ قد حدثني من حديث الفتح بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعضٍ، وغير هؤلاء قد حدثني أيضاً، فكتبت كل ما سمعت منهم، قالوا: كانت خزاعة في الجاهلية قد أصابوا رجلاً من بني بكر أخذوا ماله؛ فمر رجلٌ من خزاعة على بني الديل بعد ذلك فقتلوه، فوقعت الحرب بينهم، فمر بنو الأسود بن رزن - ذؤيب، وسلمى، وكلثوم - على خزاعة فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم. وكان قوم الأسود يؤدون في الجاهلية ديتين بفضلهم في بين بكر، فتجاوزوا وكف بعضهم عن بعض من أجل الإسلام، وهم على ما هم عليه من العداوة في أنفسهم، إلا أنه قد دخل الإسلام عليهم جميعاً فأمسكوا، فلما كان صلح الحديبية دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً، ولقد جاءته يومئذٍ خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه. قال ابن واقد: وهو " باسمك اللهم، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة، إذ قدم عليه سراتهم وأهل الرأي، غائبهم مقرٌّ بما قضى عليه شاهدهم. إن بيننا وبينكم عهود الله وعقوده، ما لا ينسى أبداً، ولا يأتى بلدٍّ ، اليد واحدةٌ والنصر واحدٌ، ما أشرف ثبير، وثبت حراء، وما بل بحرٌ صوفة ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبداً، الدهر سرمداً " . فقرأه عليه ابي بن كعب فقال: ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف! فكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام. وجاءته أسلم وهو بغدير الأشطاط ، جاء بهم بريدة بن الحصيب فقال: يا رسول الله، هذه أسلم وهذه محالها، وقد هاجر إليك من هاجر منها وبقي قومٌ منهم في مواشيهم ومعاشهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم مهاجرون حيث كنتم. ودعا العلاء بن الحضرمي فأمره أن يكتب لهم كتاباً، فكتب: " هذا كتابٌ من محمد رسول الله لأسلم، لمن آمن منهم بالله، وشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ فإنه آمنٌ بأمان الله، وله ذمة الله وذمة رسوله. وإن أمرنا وأمركم واحدٌ على ما دهمنا من الناس بظلمٍ، اليد واحدة والنصر واحدٌ، ولأهل باديتهم مثل ما لأهل قرارهم، وهم مهاجرون حيث كانوا " . وكتب العلاء بن الحضرمي. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، نعم الرجل بريدة بن الحصيب لقومه، عظيم البركة عليهم؛ مررنا به ليلة، مررنا ونحن مهاجرون إلى المدينة، فأسلم معه من قومه من أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل بريدة لقومه وغير قومه يا أبا بكر، إن خير القوم من كان مدافعاً عن قومه ما لم يأثم، فإن الإثم لا خير فيه.
حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن محجن بن وهب ، قال: كان آخر ما كان بين خزاعة وبين كنانة أن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعه غلامٌ من خزاعة فوقع به فشجه، فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها. فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهراً من صلح الحديبية تكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش - واعتزلت بنو مدلجٍ فلم ينقضوا العهد - أن يعينوا بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة؛ وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة لهم، وضربوهم بأرحامهم، وأخبروهم بدخولهم معهم في عقدهم وعهدهم، وذهاب خزاعة إلى محمدٍ في عقده وعهده، فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً إلا أبا سفيان، لم يشاور في ذلك ولم يعلم؛ ويقال: إنهم ذاكروه فأبى عليهم. وجعلت بنو نفاثة وبكر يقولون: إنما نحن! فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال ودسوا ذلك سراً لئلا تحذر خزاعة، فهم آمنون غارون بحال الموادعة وما حجز الإسلام بينهم. ثم اتعدت قريش الوتير موضعاً بمن معها، فوافوا للميعاد، فيهم رجالٌ من قريش من كبارهم متنكرون متنقبون؛ صفوان بن أمية، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وحويطب بن عدب العزى، وأجلبوا معهم أرقاءهم، ورأس بني بكر نوفل بن معاوية الدؤلي؛ فبيتوا خزاعة ليلاً وهم غارون آمنون من عدوهم، ولو كانوا يخافون هذا لكانوا على حذرٍ وعدةٍ، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم، فقالوا: يا نوفل، إلهك، إلهك! قد دخلت الحرم! قال: لا إله لي اليوم، يا بني بكر! قد كنتم تسرقون الحاج، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم؟ لا يريد أحدكم يأتي امرأته حتى يستأذني، لا يؤخر أحدٌ منك اليوم بعد يومه هذا من ثأره. فلما انتهت خزاعة إلى الحرم، دخلت دار بديل بن ورقاء ودار رافع الخزاعيين وانتهوا بهم في عماية الصبح، ودخلت رؤساء قريش في منازلهم وهم يظنون ألا يعرفوا، وألا يبلغ هذا محمداً صلى الله عليه وسلم.
حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال: قتلوا منهم عشرين رجلاً، وحضروا خزاعة في دار رافع وبديل، وأصبحت خزاعة مقتلين على باب بديل - ورافع مولى لخزاعة. وتنحت قريش وندموا على ما صنعوا، وعرفوا أن هذا الذي صنعوا نقض للمدة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الحارث بن هشام، قال: وجاء الحارث بن هشام وابن أبي ربيعة إلى صفوان بن أمية، وإلى سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فلاموهم فيما صنعوا من عونهم بني بكر، وأن بينكم وبين محمد مدة، وهذا نقضٌ لها. وانصرف ذلك القوم ودسوا إلى نوفل بن معاوية، وكان الذي ولى كلامه سهيل بن عمرو، فقال: قد رأيت الذي صنعنا بك وأصحابك وما قتلت من القوم، وأ،ت قد حضرتهم تريد قتل من بقي منهم، وهذا ما لا نطاوعك عليه فاتركهم لنا. قال: نعم. فتركهم فخرجوا. فقال ابن قيس الرقيات يذكر سهيل بن عمرو:
خالط أخواله خزاعة لما ... كثرتهم بمكة الأحياء
وقال في ذلك ابن لعط الديلي :
ألا هل أتى قصوى العشيرة أننا ... رددنا بني كعبٍ بأفوق ناصل
حبسناهم في دارة العبد رافعٍ ... وعند بديلٍ محبساً غير طائل
حبسناهم حتى إذا طال يومهم ... نفخنا لهم من كل شعبٍ بوابل
ذبحناهم ذبح التيوس كأننا ... أسودٌ تبارى فيهم بالقواصل
قال: ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان فقالا: هذا أمرٌ لابد له من أن يصلح؛ والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه! قال أبو سفيان: قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها وخفت من شرها. فقال القوم: ما هي؟ قال: رأت دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة ملياً، ثم كان ذلك الدم لم يكن، فكره القوم هذا، وقالوا: هذا شرٌّ.
فحدثني مجمع بن يعقوب، عن أبيه، قال: لما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال: هذا والله أمرٌ لم أشهده ولم أغب عنه، لا حمل هذا إلا علي؛ ولا والله ما شوورت ولا هويت حيث بلغن! والله ليغزونا محمدٌ إن صدقني ظني وهو صادقي، وما لي بدٌّ أن آتي محمداً فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر. فقالت قريش: قد والله أصبت الرأي! وندمت قريش على ما صنعت من عون بني بكرٍ على خزاعة، وعرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدعهم حتى يغزوهم. فخرج أبو سفيان، وخرج معه مولىً له على راحلتين، فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عبد الله: وقد سمعنا وجهاً من أمر خزاعة لم أر عليه الناس قبلنا ولا يعرفونه، وقد رواه ثقةٌ، ومخرجه الذي رد إليه ثقةٌ مقنعٌ، فلم أر أحداً يعرف له وجهاً! إلا أن الناس قبلنا ينفونه ويقولون: لم يكن؛ وذكرته لابن جعفر ومحمد بن صالح ولأبي معشر وغيرهم ممن له علم بالسرية فكلهم ينكره ولا يأتي له بوجهٍ.
وكان أول الحديث، أنه حدثني الثقة عندي، أنه سمع عمرو بن دينار، يخبر عن ابن عمر، أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بمن قتل منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن تهمتكم وظنتكم؟ قالوا: بنو بكر. قال: كلها؟ قالوا: لا، ولكن تهمتنا بنو نفاثة قصرةً، ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي. قال: هذا بطنٌ من بني بكر وأنا باعثٌ إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال. فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث خلال، بين أن يدوا خزاعة أو يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء. فأتاهم ضمرة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبرهم بالذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذوا إليهم على سواء. فقال قرطة بن عبد عمرو الأعجمي: أما أن ندي قتلى خزاعة؛ فإن نفاثة قوم فيهم عرامٌ فلا نديهم حتى لا يبقى لنا سبدٌ ولا لبدٌ ، وأما أن نبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة في العرب تحج هذا البيت أشد تعظيماً لهذا البيت من نفاثة، وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم، ما بقي لنا سيدٌ ولا لبدٌ ، ولكنا ننبذ إليه على سواء. فرجع ضمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك من قولهم، فبعثت قريش أبا سفيان بن حرب تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجدد العهد، وندمت قريش على رد الرسول بما ردوه.
قال أبو عبد الله: فكل أصحابنا أننكروا هذا الحديث. وقال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنقاب وعمى عليهم الأخبار حتى دخلها فجاءةً - حتى ذكرت هذا الحديث لحزام بن هشام الكعبي فقال: لم يضيع الذي حدثك شيئاً، ولكن الأمر على ما أقول لك - ندمت قريش على عون نفاثة وقالوا: محمدٌ غازينا! قال عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وهو عندهم يومئذٍ كافرٌ مرتدٌ - إن عندي رأياً؛ أن محمداً لن يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيركم في خصالٍ كلها أهون عليكم من غزوه. قالوا: ما هي؟ قال: يرسل أن أدوا قتلى خزاعة وهم ثلاثة وعشرون قتيلاً، أو تبرأوا من حلف من نقض العهد بيننا - بنو نفاثة - أو ننبذ إليكم الحرب ؛ فما عندكم في هذه الخصال؟ قال القوم: آخر ما قال ابن أبي السرح! وقد كان به عالماً. فقال سهيل بن عمرو: ما خصلةٌ أيسر علينا من التبرؤ من حلف بني نفاثة. قال شيبة ابن عثمان العبدري: حفظت أخوالك وغضبت لهم! قال سهيل: وابو قريش لم تلده خزاعة. قال شيبة: لا، ولكنا ندي قتلى خزاعة، فهو أهون علينا. فقال قرطة بن عبد عمرو: لا والله، لا يودون ولا نبرأ من حلف نفاثة، ابن الغوث بنا وأعمدة لشدتنا، ولكن ننبذ إليه على سواء! فقال أبو سفيان: ما هذا بشيء! وما الرأي لنا إلا جحد هذا الأمر، أن تكون قريش دخلت في نقض عهدٍ وقطع مدة، فإن قطعه قومٌ بغير هوىً منا ولا مشورة فما علينا. قالوا: هذا الرأي، لا رأي غيره؛ الجحد لكل ما كان من ذلك! قال: وإني لم أشهده ولم أوامر فيه، وأنا في ذلك صادقٌ؛ لقد كرهت ما صنعتم وعرفت أن سيكون له يوم عماس . قالت قريش لأبي سفيان: واخرج أنت بذلك! حتى خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله: فذكرت حديث حزام لابن جعفر وغيره من أصحابنا فلم ينكروه، وقالوا: هذا وجهه! وكتبه مني عبد الله بن جعفر.
حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: قد حرت في أمر خزاعة. قال ابن واقد: فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أترى قريشاً تجترىء على نقض العهد بينكم وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينقضون العهد لأمرٍ يريده الله تعالى بهم. قالت عائشة: خيرٌ أو شرٌّ يا رسول الله؟ قال: خيرٌ! فحدثني حزام بن هشام بن خالد الكعبي، عن أبيه، قال: وخرج عمرو ابن سالم الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بالذي أصابهم وما ظاهرت عليه قريش - فأعانوهم بالرجال والسلاح والكراع، وحضر ذلك صفوان بن أمية في رجالٍ من قومهم متنكرين، فقتلوا بأيديهم - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجد في أصحابه؛ ورأس خزاعة عمرو بن سالم، وقام ينشد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمع منه فقال:
اللهم إني ناشدٌ محمدا ... حلف أبينا وأبيك الأتلدا
قد كنتم ولداً وكنا والدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
فانصر هداك الله نصراً اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... في فيلقٍ كالبحر يجري مزبدا
قرمٌ لقرمٌ من قرومٍ أصيدا ... هم بيتونا بالوتير هجدا
نتلو القران ركعاً وسجدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل ... وأقل عددا
فلما فرع الركب قالوا: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك. فهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، فبلغ أنس بن زنيم، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذراً مما بلغه، فقال:
أأنت الذي تهدى معدٌّ بأمره ... بل الله يهديهم وقال لك اشهد
فما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمةً من محمد
أحث على خيرٍ وأوسع نائلا ... إذا راح يهتز اهتزاز المهند
وأكسى لبرد الخال قبل اجتذابه ... وأعطى برأس السابق المتجرد
تعلم رسولالله أنك مدركي ... وأن وعيداً منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادرٌ ... على كل سكنٍ من تهامٍ ومنجد
ونبي رسول ا أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي
سوى أنني قد قلت يا ويح فتيةٍ ... أصيبوا بنحسٍ يوم طلقٍ وأسعد
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاءً فعزت عبرتي وتبلدي
ذؤيبٌ وكلثومٌ وسلمى تتابعوا ... جميعاً فإلا تدمع العين أكمد
على أن سلمى ليس فيهم كمثله ... وإخوته أو هل ملوكٌ كأعبد
وإني لا عرضاً خرقت ولا دماً ... هرقت ففكر عالم الحق واقصد
أنشدنيها حزام. وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته واعتذاره، وكلمه نوفل بن معاوية الديلي فقال: يا رسول الله، أنت أولى الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ويؤذك، ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك من الهلكة، وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك. فقال: دع الركب، فإنا لم نجد بتهامة أحداً من ذي رحمٍ ولا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة. فأسكت نوفل بن معاوية، فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عفوت عنه. قال نوفل: فداك أبي وأمي! وحدثني عبد الحميد بن جعفر بن عمران بن أبي أنس؛ عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر طرف ردائه، وهو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي!
وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول: " جدد العهد وزد في الهدنة " وهو راجعٌ بسخطه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم وأصحابه: راجعوا وتفرقوا في الأودية! وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على عائشة وهو مغضب، فدعا بماءٍ فدخل يغتسل. قالت عائشة: فأسمعه يقول وهو يصب الماء عليه: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب! وخرج أبو سفيان من مكة وهو متخوف الذي صنع عمرو بن سالم وأصحابه أن يكونوا جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان القوم لما أتوا الأبواء راجعين تفرقوا، وذهبت طائفةٌ إلى الساحل تعارض الطريق، ولزم بديل بن أم أصرم في نفيرٍ معه الطريق، فلقيه أبو سفيان، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء محمداً، بل كان اليقين عنده، فقال للقوم: أخبروني عن يثرب، منذ كم عهدكم بها؟ فقالوا: لا علم لنا بها. فعرف أنهم كتموه، فقال: أما معكم من تمر يثرب شيءٌ تطعموناه؟ فإن لتمر يثرب فضلاً على تمر تهامة. قالوا: لا. قال: ثم أبت نفسه أن تقره حتى قال: يا بديل، هل جئت محمداً؟ قال: لا! ما فعلت، ولكني سرت في بلاد كعب وخزاعة من هذا الساحل في قتيلٍ كان بينهم، فأصلحت بينهم. قال: يقول أبو سفيان: إنك والله - ما علمت - برٌّ واصلٌ. ثم قايلهم أبو سفيان حتى راح بديل وأصحابه، ثم جاء منزلهم ففت أبعار أباعرهم فوجد فيها نوىً، ووجد في منزلهم نوىً من تمر عجوة كأنها ألسنة الطير، فقال أبو سفيان: أحلف بالله لقد جاء القوم محمداً! وكان القوم لما كانت الوقعة خرجوا من صبح ذلك اليوم، فساروا إلى حيث لقيهم أبو سفيان ثلاثاً.
وكانت بنو بكر قد حبست خزاعة في دار بديل ورافع ثلاثة أيام لم يكلموا فيهم، وائتمرت قريش أن يخرج أبو سفيان، فأقام يومين ثم خرج، فهذا خمس بعد مقتل خزاعة. وأقبل أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إني كنت غائباً في صلح الحديبية، فاشدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان قبلكم حدثٌ؟ قال: معاذ الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية، لا نغير ولا نبدل. ثم قام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته دونه، فقال: أرغبت بهذا الفراش عني أو بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤٌ نجسٌ مشرك! قال: يا بنية، لقد أصابك بعلمك شرٌّ! قالت: هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام، وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر؟ قال: يا عجباه، وهذا منك أيضاً؟ أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمدٍ؟ ثم قام من عندها فلقي أبا بكر الصديق رضي الله عنه فكلمه وقال: تكلم محمداً وتجير أنت بين الناس؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لقي عمر رضي الله عنه فكلمه بمثل ما كلم به أبو بكر، فقال عمر: والله، لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم! قال أبو سفيان: جزيت من ذي رحمٍ شراً. ثم دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: إنه ليس في القوم أحدٌ أقرب بي رحماً منك، فزد في الهدنة وجدد العهد؛ فإن صاحبك لن يرده عليك أبداً؛ والله ما رأيت رجلاً قط أكثر إكراماً لصاحبٍ من محمدٍ لأصحابه! قال عثمان رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: دخل على فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمها فقال: أجيري بين الناس! فقالت: إنما أنا امرأة. قال: إن جوارك جائزٌ، قد أجازت أختك أبا العاص بن الربيع، فأجاز ذلك محمدٌ. قالت فاطمة: ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأبت ذلك عليه. فقال: مري أحد بنيك يجير بين الناس! قالت: إنهما صبيان، وليس مثلهما يجير. فلما أبت عليه أتى علياً رضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن، أجر بين الناس وكلم محمداً يزيد في المدة! قال علي ويحك يا أبا سفيان! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم ألا يفعل، وليس أحدٌ يستطيع أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيءٍ يكرهه. قال أبو سفيان: فما الرأي؟ يسر لي أمري ، فإنه قد ضاق علي، فمر لي بأمرٍ ترى أنه نافعي! فقال علي رضي الله عنه: ما أجد لك شيئاً أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس، فإنك سيد كنانة. قال: ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال علي رضي الله عنه: لا أظن ذلك والله، ولكني لا أجد لك غيره. فقام بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس، ولا أظن محمداً يخفرني! ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، ما أظن أن ترد جواري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! حدثني ابن أبي حبيبة، عن واقد عن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: جاء أبو سفيان إلى سعد بن عبادة فقال: يا أبا ثابت، قد عرفت الذي كان بيني وبينك، وأني قد كنت لك في حرمنا جاراً، وكنت لي بيثرب مثل ذلك، وأنت سيد هذه البحرة ، فأجر بين الناس ورد في المدة. فقال سعد: يا أبا سفيان، جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجير أحدٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال: خرج أبو سفيان على أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! يقال: لما صاح لم يقرب النبي صلى الله عليه وسلم، وركب راحلته وانطلق إلى مكة، وكان قد حبس وطالت غيبته، وكانت قريش قد اتهمته حين أبطأ أشد التهمة وقالوا: والله إنا نراه قد صبأ، واتبع محمداً سراً وكتم إسلامه. فلما دخل على هندٍ ليلاً قالت: لقد حبست حتى اتهمك قومك، فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجحٍ فأنت الرجل! ثم دنا منها فجلس مجلس الرجل من المرأة، فجعلت تقول: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما قال لي عليٌّ. فضربت برجليها في صدره، وقالت: قبحت من رسول قوم! حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، قال: فلما أصبح حلق رأسه عند الصنمين، إساف ونائلة، وذبح لهما، وجعل يمسح بالدم رءوسهما، ويقول: لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي! أبرأ لقريش مما اتهموه.
وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: وقالت له قريش: ما وراءك؟ هل جئتنا بكتاب من محمد، أو زيادة في مدة؟ ما نأمن أن يغزنا! فقال: والله لقد أبى علي، ولقد كلمت علية أصحابه فما قدرت على شيءٍ منهم، إلا أنهم يرمونني بكلمةٍ واحدة؛ إلا أن علياً قد قال لما ضاقت بي الأمور: أنت سيد كنانة، فأجر بين الناس! فناديت بالجوار ثم دخلت على محمد فقلت: إني قد أجرت بين الناس، وما أظن أن ترد جواري. فقال محمد: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! لم يزدني على ذلك. قالوا: ما زاد على أن تلعب بك تلعباً! قال: والله ما وجدت غير ذلك.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: لما ولي أبو سفيان راجعاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: جهزينا وأخفي أمرك! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم خذ على قريشٍ الأخبار والعيون حتى نأتيهم بغتةً. ويقال قال: اللهم خذ على قريشٍ أبصارهم فلا يروني إلا بغتةً، ولا يسمعون بي إلا فجأةً. قالوا: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنقاب، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف على الأنقاب قيماً بهم فيقول: لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه - وكانت الأنقاب مسلمة - إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه، أو ناحية مكة.
قالوا: فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعمل قمحاً سويقاً ودقيقاً وتمراً، فدخل عليها أبو بكر فقال: يا عائشة، أهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوٍ؟ قالت: ما أدري. قال: إن كان رسول الله هم بسفرٍ فآذنينا نتهيأ له. قالت: ما أدري، لعله يريد بني سليم، لعله يريد ثقيفاً، لعله يريد هوازن! فاستعجمت عليه حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو بكر: يا رسول الله، أردت سفراً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: أفأتجهز؟ قال: نعم. قال أبو بكر: وأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشاً، وأخف ذلك يا أبا بكر! وأمر رسول الله بالجهاز، قال: أو ليس بيننا وبينهم مدةٌ؟ قال: إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم. وقال لأبي بكر: اطو ما ذكرت لك! فظانٌّ يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام، وظانٌّ يظن ثقيفاً، وظانٌّ يظن هوازن. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفرٍ إلى بطن إضم ليظن ظانٌّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار.
حدثني عبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، عن اب أبي حدرد، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بطن إضم، أميرنا أبو قتادة في تلك السرية وفيها محلم بن جثامة الليثي وأنا فيهم، فبينا نحن ببعض وادي إضم إذ مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، وسلبه بعيراً له ومتاعاً ووطباً من لبنٍ كان معه، فلما لحقنا النبي صلى الله عليه وسلم نزل فينا القرآن " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا.. " الآية. فانصرف القوم ولم يلقوا جمعاً حتى انتهوا إلى ذي خشب فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة، فأخذوا على بين حتى لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالسقيا.
حدثني المنذر بن سعد، عن يزيد بن رومان، قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى قريش، وعلم بذلك الناس، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأعطى الكتاب امرأةً من مزينة، وجعل لها جعلاً على أن توصله قريشاً، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها، فخرجت. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والزبير فقال: أدركا امرأةً من مزينة، قد كتب معها حاطب كتاباً يحذر قريشاً فخرجا فأدركاها بالخليفة، فاستنزلاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا شيئاً، فقالا لها: إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك! فلما رأت منهما الجد قالت: أعرضا عني! فأعرضها عنها، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب فدفعته إليهما، فجاءا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، إني لمؤمنٌ بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت! ولكني كنت امرءاً ليس لي في القوم أصلٌ ولا عشيرةٌ، وكان لي بين أظهرهم أهلٌ وولدٌ فصانعتهم. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قاتلك الله! ترى رسول الله يأخذ بالأنقاب وتكتب الكتب إلى قريش تحذرهم. دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد نافق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع يوم بدرٍ على أهل بدرٍ. فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم! وأنزل الله عز وجل في حاطب: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة.. " إلى آخر الآية.
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كتب حاطب إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل: " إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يدٌ بكتابي إليكم " . ودفع الكتاب إلى امرأةٍ من مزينة من أهل العرج يقال لها كنود، وجعل لها ديناراً على أن تبلغ الكتاب، وقال: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فإن عليها محرساً. فسلكت على غير نقب، عن يسار المحجة في الفلوق ، حتى لقيت الطريق بالعقيق.
حدثني عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرة بن سعد، قال: هي سارة؛ جعل لها عشرة دنانير.
قالوا: فما أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم الغزو، أرسل إلى أهل البادية وإلى من حوله من المسلمين، يقول لهم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة. وبعث رسولاً في كل ناحيةٍ حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع. وبعث إلى بني سليم، فأما بنو سليم فلقيته بقديد؛ وأما سائر العرب فخرجوا من المدينة.
قال: وحدثني سعيد بن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن جده، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بن حارثة، وهند بن حارثة إلى أسلم يقولان لهم: إن رسول الله يأمركم أن تحضروا رمضان بالمدينة. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جندباً ورافعاً ابني مكيث إلى جهينة يأمرهم أن يحضروا رمضان بالمدينة؛ وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماء بن رخصة وابا رهم كلثوم بن الحصين إلى بني الحصين إلى بني غفار وضمرة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أشجع معقل بن سنان، ونعيم بن مسعود؛ وبعث إلى مزينة بلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو المزني؛ وبعث إلى بني سليم الحجاج بن علاط السلمي، ثم البهزي ، وعرباض بن سارية؛ وبعث إلى بني كعب بني عمرة بشر بن سفيان وبديل بن ورقاء، فلقيه بنو كعب بقديد وخرج معه من بني كعب من كان بالمدينة. وعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر أبي عنبة، وعقد الألوية والرايات؛ فكان في المهاجرين ثلاث رايات - رايةٌ مع الزبير، ورايةٌ مع علي رضي الله عنه، ورايةٌ مع سعد بن أبي وقاص. وكان في الأوس بني عبد الأشهل رايةٌ مع أبي نائلة، وفي بني ظفر رايةٌ مع قتادة بن النعمان، وفي بني حارثة رايةٌ مع أبي بردة بن نيار، وفي بني معاوية راية مع جبر بن عتيك، وفي بني خطمة رايةٌ مع أبي لبابة بن عبد المنذر، وفي بني أمية رايةٌ مع مبيض - قال ابن حيويه: نبيض في كتاب أبي حية، فتركته أنا على ما هناك مبيض. وفي بني ساعدة رايةٌ مع أبي أسيد الساعدي، وفي بني الحارث بن الخزرج رايةٌ مع عبد الله بن زيد، وفي بني سلمة رايةٌ مع قطبة ابن عامر بن حديدة، وفي بني مالك بن النجار رايةٌ مع عمارة بن حزم، وفي بني مازن رايةٌ مع سليط بن قيس، وفي بني دينار رايةٌ يحملها . وكان المهاجرون سبعمائة، ومعهم من الخيل ثلثمائة فرس؛ وكانت الأنصار أربعة آلاف، معهم من الخيل خمسمائة؛ وكانت مزينة ألفاً، فيها من الخيل مائة فرس ومائة درع، وفيها ثلاثة ألوية؛ لواءٌ مع النعمان بن مقرن، ولواءٌ مع بلال بن الحارث، ولواءٌ مع عبد الله بن عمرو. وكانت أسلم أربعمائة، فيها ثلاثون فرساً، ولواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب والآخر ناجية بن الأعجم. وكانت جهينة ثمانمائة، معها من الخيل خمسون فرساً، فيها أربعة ألوية، لواءٌ مع سويد بن صخر، ولواءٌ مع ابن بكيث، ولواءٌ مع أبي زرعة، ولواءٌ مع عبد الله بن بدر. وكانت بنو كعب ابن عمرو خمسمائة، فيهم ثلاثة ألوية، لواءٌ مع بشر بن سفيان، ولواءٌ مع ابن شريح، ولواءٌ مع عمرو بن سالم، ولم يكن خرج معه من المدينة، لقيه قومه بقديد.
قال: حدثني عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن، قال: لم يعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الألوية والرايات حتى انتهى إلى قديد، ثم جعل رايات المهاجرين والأنصار على ما ذكرنا. وقال: كانت راية أشجع مع عوف بن مالك. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لعشرٍ خلون من رمضان بعد العصر، فما حل عقدةً حتى انتهى إلى الصلصل . وخرج المسلمون وقادوا الخيل وامتطوا الإبل، وكانوا عشرة آلاف. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه الزبير بن العوام، في مائتين من المسلمين، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيداء - قال: فحدثني يحيى بن خالد بن دينار، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس قال: وحدثني داود بن خالد، عن المقبري، عن أبي هريرة، قالا - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة فنادى مناديه: من أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر! وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وحدثني مالك بن أنس، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث، عن رجل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه ووجهه من العطش.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله، قال: لما كنا بالكديد بين الظهر والعصر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إناءً من ماءٍ في يده حتى رآه المسلمون، ثم أفطر تلك الساعة. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوماً صاموا فقال: أولئك العصاة! وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم! قال ذلك بمر الظهران. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم العرج، والناس لا يدرون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى قريش، أو إلى هوازن، أو إلى ثقيف! فهم يحبون أن يعلموا، فجلس في أصحابه بالعرج وهو يتحدث، فقال كعب بن مالك: آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلم لكم علم وجهه. فجاء كعب فبرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، ثم قال :
قضينا من تهامة كل ريبٍ ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نسائلها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فلست لحاضر إن لم تروها ... بساحة داركم منها ألوفا
فننتزع الخيام ببطن وجٍّ ... ونترك دورهم منهم خلوفا
أنشدنيها أيوب بن النعمان، عن أبيه. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزد على ذلك. فجعل الناس يقولون: والله ما بين لك رسول الله شيئاً، ما ندري بمن يبدى، بقريش أو ثقيف أو هوازن.
قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقديد قيل: هل لك في بيض النساء وأدم الإبل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرمها علي بصلة الرحم ووكزهم في لبات الإبل.
قال: حدثني الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله حرمهم علي ببر الوالد ووكزهم في لبات الإبل.
قال: وحدثني قران بن محمد، عن عيسى بن عميلة الفزاري، قال: كان عيينة في أهله بنجد فأتاه الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد وجهاً، وقد تجمعت العرب إليه، فخرج في نفر من قومه حتى قدم المدينة، فيجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج قبله بيومين، فسلك عن ركوبه فسبق إلى العرج، فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم العرج أتاه فقال: يا رسول الله، بلغني خروجك ومن يجتمع إليك فأقبلت سريعاً ولم أشعر فأجمع قومي فيكون لنا جلبة كثيرة، ولست أرى هيأة حرب، لا أرى ألويةً ولا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيأة الإحرام! فأين وجهك يا رسول الله؟ قال: حيث يشاء الله. وذهب وسار معه، ووجد الأقرع بن حابس بالسقيا، قد وافاها في عشرة نفرٍ من قومه، فساروا معه، فلما نزل قديد عقد الألوية وجعل الرايات. فلما رأى عيينة القبائل تأخذ الرايات والألوية عض على أنامله، فقال أبو بكر: علام تندم؟ قال: على قومي ألا يكونوا نفروا مع محمد، فأين يريد محمد يا أبا بكر؟ قال: حيث يشاء الله. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ مكة بين الأقرع وعيينة.
قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرج، فكان فيما بين العرج والطلوب ، نظر إلى كلبةٍ تهر على أولادها وهم حولها يرضعونها، فأمر رجلاً من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها، لا يعرض لها أحدٌ من الجيش ولأولادها.
قال: حدثني معاذ بن محمد، عن عبد الله بن سعد، قال: لما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرج تقدمت أمامه جريدة من خيلٍ طليعة، تكون أمام المسلمين، فلما كانت بين العرج والطلوب أتوا بعينٍ من هوازن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، رأيناه حين طلعنا عليه وهو على راحلته، فتغيب عنا في وهدةٍ ، ثم جاء فأوفى على نشزٍ فقعد عليه، فركضنا إليه فأراد يهرب منا، وإذا بعيره قد عقله أسفل من النشز وهو يغيبه، فقلنا: ممن أنت؟ قال: رجلٌ من بني غفار. فقلنا: هم أهل هذا البلد. فقلنا: من أي بني غفار أنت؟ فعيى ولم ينفذ لنا نسباً، فازددنا به ريبةً وأسأنا به الظن، فقلنا: فأين أهلك؟ قال: قريباً! وأومأ بيده إلى ناحية. قلنا: على أي ماءٍ، ومن معك هنالك؟ فلم ينفذ لنا شيئاً، فلما رأينا ما خلط قلنا: لتصدقنا أو لنضربن عنقك! قال: فإن صدقتكم ينفعني ذلك عندكم؟ قلنا: نعم. قال: فإني رجلٌ من هوازن من بني نضر، بعثني هوازن عيناً. وقالوا: ائت المدينة حتى تلقى محمداً فتستخبر لنا ما يريد في أمر حلفائه، أيبعث إلى قريش بعثاً أو يغزوهم بنفسه، ولا نراه غلا يستغورهم، فإن خرج سائراً أو بعث بعثاً فسر معه حتى تنتهي إلى بطن سرف، فإن كان يريدنا أولاً فيسلك في بطن سرف حتى يخرج إلينا، وإن كان يريد قريشاً فسيلزم الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأين هوازن؟ قال: تركتهم ببقعاء وقد جمعوا الجمعوع، وأجلبوا في العرب، وبعثوا إلى ثقيفٍ فأجابتهم، فتركت ثقيفاً على ساقٍ قد جمعوا الجموع، وبعثوا إلى الجرش في عمل الدبابات والمنجنيق، وهم سائرون إلى جمع هوازن فيكونون جمعاًز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإلى من جعلوا أمرهم؟ قال: إلى فتاهم مالك بن عوف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكل هوازن قد أجاب إلى ما دعا إليه مالك؟ قال: قد أبطأ من بني عامر أهل الجد والجلد. قال: من؟ قال: كعبٌ وكلابٌ. قال: ما فعلت هلال؟ قال: ما أقل من ضوى إليه منهم، وقد مررت بقومك أمس بمكة وقد قدم عليهم أبو سفيان بن حرب فرأيتهم ساخطين لما جاء به، وهم خائفون وجلون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، ما أراه إلا صدقني! قال الرجل: فلينفعني ذلك؟ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يحبسه، وخافوا أن يتقدم ويحذر الناس، فلما نزل العسكر مر الظهران أفلت الرجل، فطلبه خالد بن الوليد فأخذه عند الأراك ، وقال: لولا وليت عهداً لك لضربت عنقك. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به يحبس حتى يدخل مكة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفحتها أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن فقتل بأوطاس .
قال: حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عبد الرحمن بن سابط وغيره، قال كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعته حليمة أياماً، وكان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له ترباً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه عدواةً لم يعاد أحدٌ قط، ولم يكن دخل الشعب، وهجا رسول الله، وهجا أصحابه، وهجا حسان فقال:
ألا مبلغٌ حسان عني رسالةً ... فخلتك من شر الرجال الصعاليك
أبوك أبو سوءٍ وخالك مثله ... فلست بخيرٍ من أبيك وخالك
فقال المسلمون لحسان: اهجه! قال: لا أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف آذن لك في ابن عمي أخي أبي؟ قال: أسلك منه كما تسل الشعرة من العجين. فقال حسان شعراً، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذاكر أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعض ذلك، فذاكره. قال: فمكث أبو سفيان عشرين سنة عدواً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يهجو المسلمين ويهجونه، ولا يتخلف عن موضعٍ تسير فيه قريش لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله ألقى في قلبه الإسلام. قال أبو سفيان، فقلت: من أصحب ومع من أكون؟ قد ضرب الإسلام بجرانه ! فجئت زوجتي وولدي، فقلت: تهيأوا للخروج فقد أظل قدوم محمد عليكم. قالوا: قد آن لك تبصر أن العرب والعجم قد تبعت محمداً وأنت موضعٌ في عداوته، وكنت أولى الناس بنصره! فقلت لغلامي مذكور: عجل بأبعرةٍ وفرس. قال: ثم سرنا حتى نزلنا الأبواء، وقد نزلت مقدمته الأبواء، فتنكرت وخفت أن أقتل، وكان قد هدر دمي؛ فخرجت، وأجد ابني جعفر على قدمي نحواً من ميل، في الغداة التي صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الأبواء، فأقبل الناس رسلاً رسلاً ، فتنحيت فرقاً من أصحابه؛ فلما طلع مركبه تصديت له تلقاء وجهه، فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى، وأعرض عني مراراً، فأخذني ما قرب وما بعد، وقلت: أنا مقتول قبل أن أصل إليه. وأتذكر بره ورحمته وقرابتي فيمسك ذلك مني، وقد كنت لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سيفرحون بإسلامي فرحاً شديداً؛ لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المسلمون إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عني أعرضوا عني جميعاً، فلقيني ابن أبي قحافة معرضاً، ونظرت إلى عمر ويغري بي رجلاً من الأنصار، فألز بي رجلٌ يقول: يا عدو الله، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتؤذي أصحابه، قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته! فرددت بعض الرد عن نفسي، فاستطال علي، ورفع صوته حتى جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي. قال: فدخلت على عمي العباس فقلت: يا عباس، قد كنت أرجو أن سيفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي وشرفي، وقد كان منه ما كان رأيت، فكلمه ليرضى عني! قال: لا والله، لا أكلمه كلمةً فيك أبداً بعد الذي رأيت منه إلا أن أرى وجهاً، إني أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهابه. فقلت: يا عمي إلى من تكلني؟ قال: هو ذاك. قال: فلقيت علياً رحمة الله عليه فكلمته فقال لي مثل ذلك، فرجعت إلى العباس فقلت: يا عم فكف عني الرجل الذي يشتمني. قال: صفه لي. فقلت: هو رجلٌ آدم شديد الأدمة، قصير، دحداد ، بين عينيه شجة. قال: ذاك نعمان بن الحارث النجاري. فأرسل إليه، فقال: يا نعمان، إن ابا سفيان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أخي، وإن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخطاً فسيرضى، فكف عنه، فبعد لأيٍ ما كف. وقال: لا أعرض عنه. قال أبو سفيان: فخرجت فجلست على باب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج إلى الجحفة، وهو لا يكلمني ولا أحدٌ من المسلمين. وجعلت لا ينزل منزلاً إلا أنا على بابه ومعي ابني جعفر قائم، فلا يراني إلا أعرض عني، فخرجت على هذه الحال حتى شهدت معه فتح مكة وأنا على حيلة تلازمه حتى هبط من أذاخر حتى نزل الأبطح ، فدنون من باب قبته فنظر إلي نظراً هو ألي من ذلك النظر الأول، قد رجوت أن يتبسم، ودخل عليه نساء بني المطلب، ودخلت معهن زوجتي فرققته علي. وخرج إلى المسجد وأنا بين يديه لا أفارقه على حالٍ حتى خرج إلى هوازن، فخرجت معه، وقد جمع العرب جمعاً لم يجمع مثله قط، وخرجوا بالنساء والذرية والماشية، فلما لقيتهم قلت: اليوم يرى أثري إن شاء الله، ولما لقيتهم حملوا الحملة التي ذكر الله: " ثم وليتم مدبرين " . وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء وجرد سيفه، فأقتحم عن فرسي وبيدي السيف صلتاً، قد كسرت جفنه، والله أعلم أني أريد الموت دونه وهو ينظر إلي، فأخذ العباس بن عبد المطلب بلجام البغلة، فأخذت بالجانب الآخر، فقال: من هذا؟ فذهبت أكشف المغفر، فقال العباس: يا رسول الله، أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث! فارض عنه، أي رسول الله! قال: قد فعلت، فغفر الله
كل عداوةٍ عادانيها! فأقبل رجله في الركاب، ثم التفت إلي فقال: أخي لعمري! ثم أمر العباس فقال: ناد يا أصحاب البقرة ! يا أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار يا للخزرج! فأجابوا: لبيك داعي الله! وكروا كرة رجلٍ واحد، قد حطموا الجفون، وشرعوا الرماح، وخفضوا عوالي الأسنة، وأرقلوا إرقال الفحول؛ فرأيتني وإني لأخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدم فضارب القوم! فحملت حملةً أزلتهم عن موضعهم، وتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قدماً في نحور القوم، ما نالوا ما تقدم، فما قامت لهم قائمة حتى طردتهم قدر فرسخ، وتفرقوا في كل وجهٍ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه على الطلب، فبعث خالد بن الوليد على وجهٍ، وبعث عمرو بن العاص في وجهٍ، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكرٍ بأوطاس فقتل، وقتل أبو موسى قاتله .كل عداوةٍ عادانيها! فأقبل رجله في الركاب، ثم التفت إلي فقال: أخي لعمري! ثم أمر العباس فقال: ناد يا أصحاب البقرة ! يا أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار يا للخزرج! فأجابوا: لبيك داعي الله! وكروا كرة رجلٍ واحد، قد حطموا الجفون، وشرعوا الرماح، وخفضوا عوالي الأسنة، وأرقلوا إرقال الفحول؛ فرأيتني وإني لأخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدم فضارب القوم! فحملت حملةً أزلتهم عن موضعهم، وتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قدماً في نحور القوم، ما نالوا ما تقدم، فما قامت لهم قائمة حتى طردتهم قدر فرسخ، وتفرقوا في كل وجهٍ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه على الطلب، فبعث خالد بن الوليد على وجهٍ، وبعث عمرو بن العاص في وجهٍ، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكرٍ بأوطاس فقتل، وقتل أبو موسى قاتله .
قال أبو عبد الله: وقد سمعت في إسلام أبي سفيان بن الحارث وجهاً آخر، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وعبد الله بن أبي أمية بنيق العقاب ، فطلبنا الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى يدخلهما عليه، فكلمته أم سلمة زوجته فقالت: يا رسول الله، صهرك وابن عمتك وابن عمك وأخوكم من الرضاعة! وقد جاء الله بهما مسلمين، لا يكونان أشقى الناس بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لي بهما؛ أما أخي فالقائل لي بمكة ما قال؛ لن يؤمن لي حتى أرقى في السماء! وذلك قول الله عز وجل: " أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه.. " إلى آخر الآية. فقالت: يا رسول الله، إنما هو من قومك ما هو، وقد تكلم وكل قريش قد تكلم ونزل القرآن فيه بعينه، وقد عفوت عمن هو أعظم جرماً منه؛ وابن عمك وقرابته بك، وأنت أحق الناس عفواً من جرمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الذي هتك عرضي، فلا حاجة لي بهما! فلما خرج إليهما الخبر قال أبو سفيان بن الحارث، ومعه ابنه: والله، ليقبلني أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبن في الأرض حتى أهلك عطشاً وجوعاً، وأنت أحلم الناس وأكرم الناس مع رحمي بك. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته فرق له.
وقال عبد الله بن أمية: إنما جئت لأصدقك، ولي من القرابة ما لي والصهر بك. وجعلت أم سلمة تكلمه فيهما، فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما فأذن لهما ودخلا، فأسلما وكانا جميعاً حسني الإسلام؛ قتل عبد الله ابن أبي أمية بالطائف، ومات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة في خلافة عمر لم يغمص عليه في شيءٍ، وكان أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه قبل أن يلقاه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث يوم نيق العقاب: أنت الذي تقول: " طردتني كل مطرد؟ " بل الله طردك كل مطرد. قال أبو سفيان: يا رسول الله، هذا قول قلته بجهالةٍ وأنت أولى الناس بالعفو والحلم. وأما قوله: " وأدعى وإن لم أنتسب من محمد " فإنه هرب وقدم على قيصر ملك الروم، فقال: ممن أنت؟ فانتسب له أبو سفيان ابن الحارث ابن عبد المطلب. قال قيصر: أنت ابن عم محمد إن كنت صادقاً، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قال: قلت: نعم، أنا ابن عمه. فقلت: لا أراني عند ملك الروم وقد هربت من الإسلام، لا أعرف إلا بمحمد! فدخلني الإسلام وعرفت أن ما كنت فيه باطلٌ من الشرك، ولكنا كنا مع قومٍ أهل عقولٍ باسقةٍ ، وارى فاضل الناس يعيش في عقولهم ورأيهم، فسلكوا فجاً فسلكناه. ولما جعل أهل الشرف والسن يقتحمون عن محمدٍ، وينصرون آلهتهم، ويغضبون لآبائهم، فاتبعناهم. ولقيه العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل بالسقيا، فدخل عليه العباس فلم يخرج حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينزل معه في كل منزلٍ حتى دخل مكة. ولما كانت الليلة التي نزل فيها بالجحفة، رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما دنوا من مكة، خرجت عليهم كلبةٌ تهر، فلما دنوا منها استلقت على ظهرها، وإذا أطباؤها تشخب لبناً. فذكرت أبو بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهب كلبهم وأقبل درهم! سائلوكم بأرحامكم، وأنتمن لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه.
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قديداً لقيته سليم، وذلك أنهم نفروا من بلادهم فلقوه، وهم تسعمائة على الخيول جميعاً، مع كل رجلٍ رمحه وسلاحه، وقدم معهم الرسولان اللذان كان أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فذكرا أنهم أسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نزلا عليهم، وحشدوا - ويقال إنهم ألف - فقالت سليم: يا رسول الله، إنك تقصينا وتستغشنا ونحن أخوالك - أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان من بين سليم - فقدمنا يا رسول الله حتى تنظر كيف بلاؤنا، فإنا صبرٌ عند الحرب صدقٌ عند اللقاء، فرسانٌ على متون الخيل. قال: ومعهم لواءان وخمس رايات، والرايات سودٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيروا! فجعلهم مقدمته، وكان خالد بن الوليد على مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم حين لقيته بنو سليم بقديدٍ، حتى نزلوا مر الظهران وبنو سليم معه.
قال: حدثني شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: خرجت بنو سليم تسعمائة على الخيول، والقنا والدروع الظاهرة، قد طووا ألويتهم وراياتهم، وليس معهم لواءٌ ولا رايةٌ معقودة، فقالوا: يا رسول الله، اعقد لنا وضع رايتنا حيث رأيت. فقال: يحمل رايتكم اليوم من كان يحملها في الجاهلية! ما فعل فتى كان قدم مع وفدكم علي، حسن الوجه، جيد اللسان؟ قالوا: توفي حديثاً.
قال: حدثني عكرمة بن فروخ، عن معاوية بن جاهمة بن عباس بن مرداس السلمي، قال: قال عباس: لقيته وهو يسير حتى هبط من المشلل في آلة الحرب، والحديد ظاهرٌ علينا، والخيل تنازعنا الأعنة، فصففنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أبو بكر وعمر، فنادى عيينة من خلفه فقال: أنا عيينة ! هذه بنو سليم، قد حضرت بما ترى من العدة والعدد والسلاح: وإنهم لأحلاس الخيل، ورجال الحرب، ورعاة الحدق . فقال العباس بن مرداس: أقصر أيها الرجل! والله إنك لتعلم لنحن أفرس على متون الخيل، وأطعن بالقنا، وأضرب بالمشرفية منك ومن قومك. فقال عيينة: كذبت ولومت ! لنحن أولى بما ذكرت منك، قد عرفته لنا العرب قاطبةً. فأومأ إليهما النبي صلى الله عليه وسلم بيده حتى سكتا.
واجتمع المسلمون بمر الظهران، ولم يبلغ قريشاً حرفٌ واحدٌ من مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقد اغتموا وهم يخافون يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران عشاءً، أمر أصحابه أن يوقدوا النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار، فأجمعت قريش بعثة أبي سفيان بن حرب يتحسب الأخبار، وقالوا: إن لقيت محمداً فخذ لنا منه جوراً إلا أن ترى رقةً من أصحابه فآذنه بالحرب. فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام، فلقيا بديل بن ورقاء فاستتبعاه فخرج معهما، فلما بلغوا الأراك من مر الظهران رأوا الأبنية والعسكر والنيران، وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الإبل، فأفزعهم ذلك فزعاً شديداً وقالوا: هؤلاء بنو كعب حاشتها الحرب! فقال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب! قالوا: فتنجعت هوازن على أرضنا! والله ما نعرف هذا! إن هذا العسكر مثل حاج الناس! قالوا: وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب. وقد ركب العباس بن عبد المطلب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدلدل، عسى أن يصيب رسولاً إلى قريش يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلٌ عليهم مع عشرة آلاف، فسمع صوت أبي سفيان فقال: أبا حنظلة! فقال أبو سفيان: يا لبيك، أبو الفضل! قال العباس: نعم! قال أبو سفيان: فما وراءك؟ قال العباس: هذا رسول الله في عشرة آلاف من المسلمين، فأسلم، ثكلتك أمك وعشيرتك! ثم أقبل على حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقال: أسلما، فإني لكما جارٌ حتى تنتهوا إلى رسول الله، فإني أخشى أن تقتطعوا دون النبي صلى الله عليه وسلم! قالوا: فنحن معك. قال: فخرج بهم العباس حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه فقال: يا رسول الله، أبو سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، قد أجرتهم وهم يدخلون عليك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلهم. فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام، وقال: تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله! فأما حكيم وبديل فشهدا، وأما أبو سفيان فشهد أن لا إله إلا الله، فلما قال " وأني رسول الله " قال: والله يا محمد، إن في النفس من هذا لشيئاً يسيراً بعد، فأرجئها. ثم قال للعباس: قد أجرناهم، اذهب بهم إلى منزلك. فلما أذن الصبح أذن العسكر كلهم، فلزع أبو سفيان من أذانهم وقال: ما يصنعون؟ قال العباس: فقلت: الصلاة. قال أبو سفيان: كم يصلون في اليوم والليلة؟ قال العباس: يصلون خمس صلوات. قال أبو سفيان: كثيرٌ والله! قال: ثم رآهم يبتدرون وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما رأيت يا أبا الفضل ملكاً هكذا قط، لا ملك كسرى، ولا ملك بني الأصفر! فقال العباس: ويحك، آمن! قال: أدخلني عليه يا أبا الفضل! فأدخله العباس عليه وقال: يا محمد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فلا والله ما لقيتك من مرةٍ إلا ظفرت علي، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً غلبتك! فتشهد أبو سفيان أن محمداً رسول الله. ثم قال أبو سفيان: يا محمد، جئت بأوباش الناس، من يعرف ومن لا يعرف، إلى عشيرتك وأصلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أظلم وأفجر، غدرتم بعهد الحديبية وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه! فقال أبو سفيان: وحيكم يا رسول الله! لو كنت جعلت حدتك ومكيدتك بهوازن، فهم أبعد رحماً وأشد لك عداوةً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو من ربي أن يجمع ذلك لي كله بفتح مكة، وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن! وأن يغنمني الله أموالهم وذراريهم، فإني راغبٌ إلى الله تعالى في ذلك!
قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، قال: سمعت يعقوب بن عتبة يخبر عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب: واصباح قريش! والله لئن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوةً إنه لهلاك قريش آخر الدهر. قال: فأخذت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء فركبتها، وقلت: ألتمس إنساناً أبعثه إلى قريش؛ فيلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها عليهم عنوةً. قال: فوالله إني لفي الأراك أبتغي إنساناً إذ سمعت كلاماً يقول: والله إن رأيت كالليلة من النيران. قال: يقول بديل بن ورقاء: هذه والله خزاعة حاشتها الحرب! قال أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم وعسكرهم. قال: وإذا بأبي سفيان فقلت: أبا حنظلة! فقال: يا لبيك، أبا الفضل - وعرف صوتي - ما لك، فداك أبي وأمي؟ فقلت: ويلك، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف. فقال: بأبي وأمي! ما تأمرني، هل من حيلة؟ قلت: نعم، تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه والله إن ظفربك دون رسول الله، لتقتلن. قال أبو سفيان: وأنا والله أرى ذلك. قال: ورجع بديل وحكيم، ثم ركب خلفي، ثم وجهت به، كلما مررت بنارٍ من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوني قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رآني قام فقال: من هذا؟ فقلت: العباس. قال: فذهب ينظر، فرأى أبا سفيان خلفي فقال: أبو سفيان، عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بلا عهدٍ ولا عقدٍ! ثم خرج نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد، وركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعاً على باب قبة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل عمر على إثري، فقال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله، قد أمكن الله منه بلا عهدٍ ولا عقدٍ، فدعني أضرب عنقه. قال: قلت. يا رسول الله، إني قد أجرته! قال: ثم التزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحدٌ غيري - أو دوني. فلما أكثر عمر فيه قلت: مهلاً يا عمر! فإنه لو كان رجلٌ من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنه أحد بني عبد مناف. فقال عمر: مهلاً، يا أبا الفضل! فوالله لإسلامك كان أحب إلي من غسلام رجلٍ من آل الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به، فقد أجرته لك فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت. فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك، يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إلهٌ لقد أغنى عني شيئاً بعد. قال: يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أما هذه، فوالله إن في النفس منها لشيئاً بعد. فقال العباس: فقلت: ويحك، أشهد أن لا إله إلا الله! وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قبل - والله - أن تقتل! فقال: فشهد شهادة الحق، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فقال العباس: يا رسول الله، إنك عرفت أبا سفيان وحبه الشرف والفخر، اجعل له شيئاً! قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، ومن أغلق داره فهو آمنٌ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بعد ما خرج: احبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. قال العباس: فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل، فلما حبست أبا سفيان قال: غدراً بني هاشم؟ فقال العباس: إن أهل النبوة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجةٌ. فقال أبو سفيان: فهلا بدأت بها أولاً! فقلت: إن لي إليك حاجةً فكان أفرخ لروعي. قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب. وعبا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومرت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها، فكان أول من قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف، فيهم لواءٌ يحمله عباس بن مرداس السلمي، ولواءٌ يحمله خفاف بن ندبة، وراية يحملها الحجاج بن علاط .
قال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام؟ قال: نعم. فلما حاذى خالد العباس، وإلى جنبه أبو سفيان، كبر ثلاثاً، ثم مضوا. ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمسمائة - منهم مهاجرون وأفناء العرب - ومعه رايةٌ سوداء، فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثاً وكبر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أختك؟ قال: نعم. ومر بنو غفار في ثلاثمائة، يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري - ويقال إيماء بن رحضة - فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. وقال: يا أبا الفضل، من هؤلاء؟ قال: بنو غفار. قال: ما لي ولبني غفار! ثم مضت أسلم في أربعمائة، فيها لواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر نا جية بن الأعجم، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. قال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال: يا أبا الفضل، ما لي ولأسلم! ما كان بيننا وبينها مرةٌ قط. قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو عمرو بن كعب في خمسمائة، يحمل رايتهم بسر بن سفيان. قال: من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد! فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. ثم مرت مزينة في ألفٍ، فيها ثلاثة ألوية وفيها مائة فرس، يحمل ألويتها النعمان بن مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو؛ فلما حاذوه كبروا، فقال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: يا أبا الفضل ما لي ولمزينة! قد جاءتني تقعقع من شواهقها . ثم مرت جهينة في ثمانمائة مع قادتها، فيها أربعة ألوية، لواءٌ مع أبي روعة معبد بن خالد، ولواءٌ مع سويد بن صخر، ولواءٌ مع رافع بن مكيث، ولواءٌ مع عبد الله بن بدر . قال: فلما حاذره كبروا ثلاثاً. ثم مرت كنانة، بنو ليث، وضمرة، وسعد بن بكر في مائتين، يحمل لواءهم أبو واقدٍ الليثي، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم، أهل شؤم والله! الذين غزانا محمد بسببهم، أما والله ما شوورت فيه ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث بلغني، ولكنه أمرٌ حم! قال العباس: قد خار الله لك في غزو محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ودخلتم في الإسلام كافة.
قال: وحدثني عبد الله بن عامر، عن أبي عمرة بن حماس قال: مرت بنو ليث وحدها، وهم مائتان وخمسون، يحمل لواءها الصعب بن جثامة، فلما مر كبروا ثلاثاً فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو ليث. ثم مرت أشجع - وهم آخر من مر وهم ثلثمائة، معهم لواءان، لواءٌ يحمله معقل بن سنان، ولواءٌ مع نعيم بن مسعود. فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمدٍ. فقال العباس: أدخل الله الإسلام في قلوبهم، فهذا من فضل الله عز وجل! فسكت ثم قال: ما مضى بعد محمد! قال العباس: لم يمض بعد، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صلى الله عليه وسلم رأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحدٍ به طاقة، قال: أظن والله يا أبا الفضل؛ ومن له بهؤلاء طاقة سوادٌ وغبرةٌ من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، كل ذلك يقول: ما مر محمدٌ! فيقول العباس: لا. حتى مر يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير وهو يحدثهما، فقال العباس: هذا رسول الله في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطنٍ من الأنصار رايةٌ ولواءٌ، في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها زجلٌ - وعليه الحديد - بصوتٍ عالٍ وهو يزعجها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم؟ قال: عمر ابن الخطاب. قال: لقد أمر أمر بني عدي بعد - والله - قلةٍ وذلةٍ! فقال العباس: يا أبا سفيان، إن الله يرفع من يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام. ويقال: كان في الكتيبة ألف دارعٍ. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة، فلما مر سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم نادى: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشاً! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشاً! وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله، ما نأمن سعداً أن يكون منه في قري صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم يوم المرحمة! اليوم أعز الله فيه قريشاً! قال: وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعدٍ فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج من سعدٍ حين صار لابنه. فأبى سعدٌ أن يسلم اللواء إلا بأمارةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته، فعرفها سعدٌ فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل، عن أهله، قالوا: دخل والله سعد بلوائه حتى غرزه بالحجون. وقال ضرار بن الخطاب الفهري: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضي الله عنه فأخذ اللواء، فذهب علي رضي الله عنه بها حتى دخل بها مكة فغرزها عند الركن. وقال أبو سفيان: ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط، ولا خبرنيه مخبر! سبحان الله، ما لأحدٍ بهذه طاقةٌ ولا يدان! ثم قال: لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً! قال، قلت: ويحك يا أبا سفيان، ليس بملكٍ ولكنها نبوةٌ. قال: نعم! قال: فحدثني عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن ساعدة، قال: قال له العباس: فانج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم. قال: فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل من كداءٍ وهو يقول: من أغلق بابه فهو آمن! حتى انتهى إلى هند بنت عتبة، فأخذت برأسه فقالت: ما وراءك؟ قال: هذا محمد في عشرة آلافٍ عليهم الحديد، وقد جعل لي: من دخل داري فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمنٌ، ومن طرح السلاح فهو آمنٌ. قالت: قبحك الله رسول قوم. قال: وجعل يصرخ بمكة: يا معشر قريش، ويحكم! إنه قد جاء ما لا قبل لكم به! هذا محمد في عشرة آلافٍ عليهم الحديد، فأسلموا! قالوا: قبحك الله وافد قومٍ! وجعلت هند تقول: اقتلوا وافدكم هذا، قبحك الله وافد قومٍ. قال: يقول أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم! رأيت ما لم تروا! رأيت الرجال والكراع والسلاح، فلا لأحدٍ بهذا طاقة!
قالوا: وانتهى المسلمون إلى ذي طوى، فوقفوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاحق الناس. وقد كان صفوان بن أمية، وعكرمة ابن أبي جهل، وسهيل بن عمرو قد دعوا إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضوى إليهم ناسٌ من قريش وناسٌ من بني بكر وهذيل، وتلبسوا السلاح، ويقسمون بالله لا يدخلها محمدٌ عنوةً أبداً. فكان رجل من بني الديل يقال له: حماس بن قيس بن خالد الديلي، لما سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يصلح سلاحه، فقالت له امرأته: لمن تعد هذا؟ قال: لمحمدٍ وأصحابه، فإني أرجو أن أخدمك منهم خادماً فإنك إليه محتاجة. قالت: ويحك، لا تفعل ولا تقاتل محمداً! والله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمداً وأصحابه. قال: سترين. قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء، معتجراً بشقة برد حبرة.
قال: فحدثني محمد بن عبد الله، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ وعليه عمامة سوداء، ورايته سوداء، ولواؤه أسود، حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس وإن عشنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه، تواضعاً لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين. ثم قال: العيش عيش الآخرة! قال: وجعلت الخيل تمعج بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت حيث توسطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: وصعد أبو قحافة يومئذٍ بصغرى بناته، قريبة بنت أبي قحافة، تقوده حتى ظهرت به إلى أبي قبيس - وقد ذهب بصره - فلما أشرفت به على أبي قبيس قال: يا بنية، ماذا ترين؟ قالت: أرى رجلاً يسعى بين ذلك السواد مقبلاً ومدبراً. قال: ذلك الوازع يا بنية، انظري ما ترين! قالت: تفرق السواد. قال: قد تفرقت الجيوش! البيت! البيت! قالت: فنزلت به. قال: فجعلت الجارية ترعب لما ترى، فيقول: يا بنية، لا تخافي! فوالله إن أخاك عتيقاً لآثر أصحاب محمد عند محمد. قال: وعليها طوق من فضة، فاختلسه بعض من دخل.
قالوا: فما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أبو بكر رضي الله عنه: أنشد بالله طوق أختي! ثلاث مرات. ثم قال: يا أخية احتسبي طوقك، فإن الأمانة في الناس قليل.
قالوا: ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ من الأنصار إلى جنبه، فقال: كيف قال حسان بن ثابت؟ فقال :
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع من كتفي كداء
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل من كدىً ، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء، والراية مع ابنه قيس، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل من أذاخر. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال، وأمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نقيذ ، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي، وهند بنت عتبة بن ربيعة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وقينتين لأبي خطل: قرينا وقريبة؛ ويقال: فرتنا وأرنبة. فكل الجنود دخل فلم يلق جمعاً، فلما دخل خالد بن الوليد وجد جمعاً من قريش وأحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح، ورموا بالنبل، وقالوا: لا تدخلها عنوةً أبداً! فصاح خالد بن الوليد في أصحابه وقاتلهم، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلاً من قريشٍ، وأربعةً من هذيل، وانهزموا أقبح الانهزام حتى قتلوا بالحزورة وهم مولون في كل وجهٍ. وانطلقت طائفةٌ منهم فوق رءوس الجبال، واتبعهم المسلمون، فجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمنٌ، ومن وضع السلاح فهو آمن. فجعل الناس يقتحمون الدور، ويغلقون عليهم، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذها المسلمون. ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية أذاخر نظر إلى البارقة فقال: ما هذه البارقة، ألم أنه عن القتال؟ قيل: يا رسول الله، خالد بنالوليد قوتل، ولو لم يقاتل ما قاتل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى الله خيراً! قال: وجعل يتمثل بهذه الأبيات، وهو يقاتل خارجة بن خويلد الكعبي، أنشدنيها عن أبيه:
إذا ما رسول الله فينا رأيتنا ... كلجة بحرٍ نال فيها سريرها
إذا ما ارتدينا الفارسية فوقها ... ردينيةٌ يهدي الأصم خريرها
وإن محمداً ... لها ناصرٌ عزت وعز نصيرها
وأقبل ابن خطل جائياً من مكة، مدججاً في الحديد، على فرس ذنوب ، بيده قناةٌ. وبنات سعيد بن العاص قد ذكر لهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل، فخرجن قد نشرن رءوسهن، يضربن بخمرهن وجوه الخيل، فضربهن ابن خطل جائياً من أعلى مكة فقال لهن: أما والله لا يدخلها حتى ترين ضرباً كأفواه المزاد ! ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة، فرأى خيل المسلمين ورأى القتال، ودخله الرعب حتى ما يستمسك من الرعدة، حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه، وطرح سلاحه، فأتى البيت فدخل بين أستاره.
قال: وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: أخذ رجلٌ من بني كعب درعه، وصففه ، ومغفره، وبيضته، وسيفه، وأدرك فرسه غائراً فأدركه فاستوى عليه، ولحق النبي صلى الله عليه وسلم بالحجون. قالوا: وأقبل حماس بن خالد منهزماً حتى أتى بيته، فدقه ففتحت له امرأته فدخل، وقد ذهبت روحه، فقالت: أين الخادم الذي وعدتني؟ ما زلت منتظرتك منذ اليوم تسخر به! قال: دعي عنك، أغلقي بابي! فإنه من أغلق بابه فهو آمنٌ! قالت: ويحك! ألم أنهك عن قتال محمد؟ وقلت لك: " ما رأيته يقاتلكم من مرة إلا ظهر عليكم " ، وما بابنا؟ قال: إنه لا يفتح على أحدٍ بابه. ثم قال - أنشدنيها ابن أبي الزناد:
وأنت لو شهدتنا بالخندمه ... إذ فر صفوانٌ وفر عكرمه
وأبو يزيدٍ كالعجوز المؤتمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وضربتنا بالسيوف المسلمه ... لهم زئيرٌ خلفنا وغمغمه
قال: وأقبل الزبير بن العوام بمن معه من المسلمين حتى انتهى بهم إلى الحجون، فغرز الراية عند منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يقتل من المسلمين أحدٌ إلا رجلان من أصحابه، أخطآ طريقه فسلكا غيرها فقتلا؛ كرز بن جابر الفهري، فقام عليه خالد الأشقر وهو جد حزام بن خالد حتى قتل، وكان الذي قتل خالداً ابن أبي الجذع الجمحي.
قال: فحدثني قدامة بن موسى، عن بشير مولى المازنيين، عن جابر بن عبد الله، قال: كنت ممن لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر، فلما أشرف على أذاخر نظر إلى بيوت مكة، ووقف عليها فحمد الله وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قبته فقال: هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت علينا قريشٌ في كفرها. قال جابر: فذكرت حديثاً كنت أسمعه منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالمدينة: منزلنا غداً إن شاء الله إذا فتح الله علينا مكة في الخيف حين تقاسموا علي الكفر. وكنا بالأبطح وجاه شعب أبي طالب حيث حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم ثلاث سنين.
قال: حدثني عبد الله بن زيد، عن أبي جعفر، قال: كان أبو رافع قد ضرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة بالحجون من أدمٍ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى القبة، ومعه أم سلمة وميمونة.
قال: حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي رافع، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: فهل ترك لنا عقيلٌ منزلاً؟ وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة. فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أدخل البيوت. فلم يزل مضطرباً بالحجون لم يدخل بيتاً، وكان يأتي إلى المسجد من الحجون.
قال: وحدثنا ابن خديج، عن عطاء، قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يدخل بيوت مكة، فاضطرب بالأبطح في عمرة القضية، وعام الفتح، وفي حجته.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً بالحجون في الفتح، ويأتي لكل صلاة.
قالوا: وكانت أم هانىء بنت أبي طالبٍ تحت هبيرة بن أبير وهب المخزومي، فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها - عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، والحارث بن هشام - فاستجارا بها وقالا: نحن في جوارك! فقالت: نعم، أنتما في جواري. قالت أم هانىء: فهما عندي إذ دخل علي فارساً، مدججاً في الحديد، ولا أعرفه، فقلت له: أنا بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فكف عني وأسفر عن وجهه، فإذا علي رضي الله عنه، فقلت: أخي! فاعتنقته وسلمت عليه، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما. قلت: أخي من بين الناس يصنع بي هذا! قالت: وألقيت عليهما ثوباً، وقال: تجيرين المشركين؟ وحلت دونهما فقلت: والله لتبدأن بي قبلهما! قالت: فخرج ولم يكد، فأغلقت عليهما بيتاً، وقلت: لا تخافا! قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانىء، قالت: فذهبت إلى خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فلم أجده، ووجدت فيه فاطمة فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما! قالت: فكانت أشد علي من زوجها وقالت: تجيرين المشركين؟ قالت: إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار، فقال: مرحباً بفاختة أم هانىء! وعليه ثوبٌ واحدٌن فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ ما كدت أنفلت منه! أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان ذاك، قد أمنا من أمنت، وأجرنا من أجرت. ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلاً فاغتسل، ثم صلى ثمان ركعاتٍ في ثوبٍ واحد ملتحفاً به، وذلك ضحىً في فتح مكة.
قالوا: قالت: فرجعت إليهما فأخبرتهما وقلت لهما: إن شئتما فأقيما وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما. قالت: فأقاما عندي يومين في منزلي، ثم انصرفا إلى منازلهما. قالت: فكنت أكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في خبائه بالأبطح حتى خرج إلى حنين. قالت: فأتى آتٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الحارث بن هشام وابن أبي ربيعة جالسان في ناديهما متفضلان في الملاء المزعفر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سبيل إليهما، قد أمناهما! قال: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله ساعةً من النهار واطمأن واغتسل، ثم دعا براحلته القصواء فأدنيت إلى باب قبته، ودعا للبس السلاح، والمغفر على رأسه، وقد صف له الناس، فركب براحلته والخيل تمعج بين الخندمة إلى الحجون، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه يسير يحادثه، فمر ببنات أبي أحيحة بالبطحاء حذاء منزل أبي أحيحة وقد نشرن رءوسهن، يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فتبسم، وذكر بيت حسان بن ثابت فأنشده أبو بكر رضي الله عنه .
تظل جيادنا متمطراتٍ ... يلطمهن بالخمر النساء
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فرآها، ومعه المسلمون، تقدم على راحلته فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره، فرجعوا التكبير حتى ارتجت مكة تكبيراً حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليهم: اسكتوا! والمشركون فوق الجبال ينظرون. ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت على راحلته، آخذٌ بزمامها محمد بن مسلمة، وحول الكعبة ثلاثمائة صنمٍ، وستون صنماً مرصصةٌ بالرصاص وكان هبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما مر بصنمٍ منها يشير بقضيبٍ في يده ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " . فيقع الصنم لوجهه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: ما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشير بالقضيب إلى الصنم فيقع لوجهه، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً على راحلته يستلم الركن الأسود بمحجنه في كل طوافٍ، فلما فرغ من سبعة نزل عن راحلته، وجاء معمر بن عبد الله بن نضلة فأخرج راحلته؛ ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقام، وهو يومئذٍ لاصقٌ بالكعبة، والدرع عليه والمغفر، وعمامته بين كتفيه، فصلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها، وقال: لولا أن يغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلواً. فنزع له العباس بن عبد المطلب دلواً فشرب منه. ويقال: الذي نزع الدلو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وأمر بهبل فكسر وهو واقفٌ عليه. فقال الزبير بن العوام لأبي سفيان بن حرب: يا أبا سفيان، قد كسر هبل! أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم! فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان!
قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ناحيةً من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالاً إلى عثمان فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة. قال عثمان: نعم. فخرج عثمان إلى أمه وهي بنت شيبة، ورجع بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال نعم، ثم جلس بلال مع الناس. فقال عثمان لأمه، والمفتاح يومئذٍ عندها: يا أمه، أعطني المفتاح فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل وأمرني أن آتي به إليه. فقالت أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه. قال: فوالله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجزتها وقالت: أي رجل يدخل يده ها هنا؟ فبينا هم على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر في الدار، ومر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان، اخرج إلي! فقالت أمه: يا بني، خذ المفتاح فأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيمٌ وعدي. قال: فأخذه عثمان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناوله إياه، فلما ناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده فقال: يا نبي الله، بأبي أنت اجمع لنا الحجابة والسقاية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم ما ترزءون فيه، ولا أعطيكم ما ترزءون منه. وقد سمعت أيضاً في قبض المفتاح بوجهٍ آخر.
قال: حدثني إسمعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح على بعيرٍ لأسامة بن زيد، وأسامة رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، فلما بلغ رأس الثنية أرسل عثمان فجاءه بالمفتاح فاستقبله به. قالوا: وكان عثمان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص مسلماً قبل الفتح، فخرج معنا من المدينة. قال أبو عبد الله: وهذا أثبت الوجوه.
وقالوا: إن عمر بن الخطاب بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم من البطحاء ومعه عثمان بن طلحة ، وأمره أن يتقدم فيفتح البيت، فلا يدع فيه صورة إلا محاها، ولا تمثالاً، إلا صورة إبراهيم. فلما دخل الكعبة رأى صورة إبراهيم شيخاً كبيراً يستقسم بالأزلام. ويقال: أمره ألا يدع صورة إلا محاها، فترك عمر صورة إبراهيم، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صورة إبراهيم عليه السلام، فقال: يا عمر، ألم آمرك ألا تدع فيها صورة إلا محوتها؟ فقال عمر: كانت صورة إبراهيم. قال: فامحها.
فكان الزهري يقول: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم فرأى فيها صورة الملائكة وغيرها، ورأى صورة إبراهيم عليه السلام، قال: قاتلهم الله، جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام! ثم رأى صورة مريم، فوضع يده عليها ثم قال: امسحوا ما فيها من الصور إلا صورة إبراهيم.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فرأى فيها صوراً، فأمرني أن آتيه في الدلو بماءٍ، فيبل الثوب ويضرب به الصور، ويقول: قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون! قالوا: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة فغلقت عليه، ومعه أسامة بن زيد، وبلال بن رباح، وعثمان بن طلحة، فمكث فيها ما شاء الله؛ وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة. قال ابن عمر: فسألت بلالاً كيف صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت؟ قال: جعل عمودين عن يمينه وعموداً عن يساره وثلاثة وراءه، ثم صلى ركعتين، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتاح في يده، وقف على الباب خالد بن الوليد يذب الناس عن الباب حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فحدثني علي بن محمد بن عبيد الله، عن منصور الحجبي، عن أمه صفية بنت شيبة، عن برة بنت أبي تجراة ، قالت: أنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت، فوقف على الباب وأخذ بعضادتي الباب، فأشرف على الناس وبيده المفتاح، ثم جعله في كمه.
قالوا: فلما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وقد ليط بهم حول الكعبة فهم جلوس، قال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيراً ونظن خيراً، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم، وقد قدرت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقول كما قال أخي يوسف: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " . ألا إن كل رباً في الجاهلية، أو دمٍ، أو مالٍ، أو مأثرةٍ، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج؛ ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد، الدية مغلظةً مائة ناقةٍ، منها أربعون في بطونها أولادها. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم من آدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرامٌ بحرمة الله، لم تحل لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ كائنٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من النهار - يقصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا - لا ينفر صديها ولا يعضد عضاهها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها . فقال العباس، وكان شيخاً مجرباً: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لابد منه، إنه للقبر وطهور البيوت. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال. ولا وصية لوارث، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ولا يحل لامرأةٍ تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوةٌ، والمسلمون يدٌ واحدةٌ على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومشدهم على مضعفهم وميسرتهم على قاعدهم؛ ولا يقتل مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده. ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب ؛ ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها، والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأةٌ مسيرة ثلاثٍ إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين، يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لبستين! لا يحتب أحدكم في ثوبٍ واحدٍ يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء ، ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها.
قال: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية المسجد فجلس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قيض السقاية من العباس وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: ادعوا إلي عثمان! فدعي له عثمان بن أبي طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوماً، وهو يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان المفتاح، فقال: لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت! فقال عثمان: لقد هلكت إذاً قريشٌ وذلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذٍ. فلما دعاني بعد أخذه المفتاح ذكرت قولة ما كان قال، فأقبلت فاستقبلته ببشرٍ واستقبلني ببشرٍ، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدةً خالدةً، لا ينزعها إلا ظالمٌ؛ يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف. قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله! فأعطاه المفتاح، والنبي صلى الله عليه وسلم مضطجعٌ بثوبه، وقال: أعينوه! وقال: قم على الباب وكل بالمعروف. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم السقاية إلى العباس، فكان العباس يليها دون بني عبد المطلب في الجاهلية وولده بعدهم. فكان محمد بن الحنفية كلم فيها ابن عباس، فقال ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها في الجاهلية، وقد كان أبوك كلم فيها فأقمت البينة؛ طلحة بن عبيد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عبد عوف، ومخرمة بن نوفل، أن العباس كان يليها في الجاهلية وأبوك في ناديته بعرنة في إبله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها العباس يوم الفتح، فعرف ذلك من حضر، فكانت بيد عبد الله بن عباسٍ بعد أبيه، لا ينازعهم فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم. وكان للعباس مالٌ بالطائف، كرمٌ كان يحمل زبيبه إليها فينبذ في الجاهلية والإسلام، ثم كان عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك، ثم كان علي بن عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك إلى اليوم.
قال: وجاء خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ فقال: هم يا رسول الله بدأونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا، حتى إذا لم أجد بداً قاتلتهم، فظفرنا الله عليهم وهربوا في كل وجهٍ يا رسول الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى الله خيراً! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر المسلمين، كفوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر فخبطوهم ساعةً، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحل لأحدٍ قبله؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقتل من خزاعة أحدٌ. قال أبو اليسر: فدخلنا مع خالد بن الوليد من الليط، فكانوا هم الذين بدأونا بالقتال وأبوا أن يدعونا ندخل ، وكلمهم خالد بن الوليد وأعذر إليهم، فأبوا. قال خالد: احملوا عليهم! فحملنا فما قاموا لنا فواق ناقة حتى هربوا، ونهانا عن الطلب. قال أبو اليسر: فجعلت أحذم بسيفي، وهويت إلى رجلٍ فضربته فاعتزل إلى خزاعة، فسقط في يدي فجعلت أسأل عنه، فقيل لي: إنه من الحيا - أخو خزاعة. فحمدت الله ألا أقتل أحداً من خزاعة.
قالوا: وأقام أبو أحمد عبد الله بن جحش على باب المسجد على جملٍ له حين فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، وهو يصيح: أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي، وأنشد بالله يا بني عبد مناف داري ! قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ابن عفان، فسار عثمان بشيءٍ، فذهب عثمان إلى أبي أحمد فساره، فنزل أبو أحمد عن بعيره وجلس مع القوم، فما سمع أبو أحمد ذاكرها حتى لقي الله، فقيل لعثمان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن تقوله لأبي أحمد؟ فقال: لم أذكره في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأذكره بعد وفاته؟ وكان أبو أحمد قد حالف إلى حرب ابن أمية، وكان المطلب بن الأسود قد دعاه إلى أن يحالفه وقال: دمي دون دمك ومالي دون مالك! وحالف حرب بن أمية فقال أبو أحمد في ذلك:
أبني أمية كيف أخذل فيكم ... وأنا ابنكم وحليفكم في العشر
ولقد دعاني غيركم فأبيته ... وخبأتكم لنوائب الدهر
وكانوا يتحالفون في العشر من ذي الحجة قياماً، يتماسحون كما يتماسح البيعان ، وكانوا يتواعدون قبل العشر، وكان أبو سفيان قد باع داره من ابن علقمة العامري بأربعمائة دينار، فجعل له مائة دينار، ونجم عليه ما فضل.
قال: فحدثني أهل أبي أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لك بها دارٌ في الجنة. وقال أبو أحمد في بيع داره لأبي سفيان، أنشدنيها عمرو بن عثمان الجحشي:
أقطعت عقدك بيننا ... والحادثات إلى ندامه
ألا ذكرت ليالي ال ... عشر التي فيها القيامه
عقدي وعقدك قائمٌ ... لا عوق فيه ولا أثامه
دار ابن عمك بعتها ... تشرى بها عنك الغرامه
اذهب بها إذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه
ولقد جريت إلى العقو ... ق وأسوأ الخلق الرغامه
قد كنت آوي في ذرى ... فيه المقامة والسلامه
ما كان عقدك مثل عق ... د ابن عمرو لابن مامه
قالوا: وكان إساف ونائلة رجلاً وامرأة، الرجل إساف بن عمرو والمرأة نائلة بنت سهيل من جرهم، فزنيا في جوف الكعبة فمسخا حجرين، فاتخذتهما قريش يعبدونهما، فخرج من أحدهما امرأة شمطاء سوداء تخمش وجهها، عريانة، ناشرة الشعر، تدعو بالويل. فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: تلك نائلة يئتست أن تعبد في بلادكم أبداً. ويقال إن إبليس رن ثلاث رناتٍ، رنةً حين لعن فتغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورنةً حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قائماً بمكة، ورنةً حين افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة. فاجتمعت ذريته، فقال إبليس: ايئسوا أن تردوا أمة محمد على الشرك بعد يومهم هذا، ولكن افشوا فيهم النوح والشعر.
وكان أول من نصب أنصاب الحرم إبراهيم، وجبريل يريه، ثم لم تحرك حتى كان إسماعيل فجددها، ثم لم تحرك حتى كان قصي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان يوم الفتح، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاىعي فجدد أنصاب الحرم، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب، فبعث أربعةً من قريش كانوا يبدون في بواديها؛ مخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وأبو هود سعيد بن يربوع المخزومي. ثم كان عثمان بن عفان فبعث هؤلاء النفر، ثم كان معاوية عام حج فبعث هؤلاء النفر.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة، قال: لما حج عبد الملك بن مروان أرسل إلى أكبر شيخٍ يعلمه يومئذٍ من خزاعة، وشيخ من قريش، وشيخ من بني بكر، ثم أمرهم بتجديده، وكل وادٍ في الحرم فهو يسيل في الحل ولا يسيل وادٍ من الحل في الحرم إلا في موضعٍ واحدٍ عند التنعيم. وكان يقال: ولا ينفر صيدها. قال: لا يخرج من الظل إلى الشمس، ويقال: لا يذعر.
قال: حدثني عبد الملك بن نافع، عن أبيه، قال: كان ابن عمر يغشاه الحمام على رحله، وثيابه، وطعامه، ما يطرد؛ وكان ابن عباس يرخص أن يكشكش . وقوله: لا تحل لقطة ضالتها إلا لمنشد؛ يقول: لا يأكلها كما يأكل اللقطة في غيرها من البلدان.
قالوا: خرج غزيٌّ من هذيل في الجاهلية وفيهم جنيدب بن الأدلع يريدون حي أحمر بأساً، وكان أحمر بأساً رجلاً من أسلم شجاعاً لا يرام، وكان لا ينام في حيه؛ إنما ينام خارجاً من حاضره، وكان إذا نام غط غطيطاً منكراً لا يخفى مكانه، وكان الحاضر إذا أتاهم فزعٌ صرخوا بأحمر بأساً فيثوب مثل الأسد. فلما جاءهم ذلك الغزي من هذيل قال لهم جنيدب بن الأدلع: إن كان أحمر بأساً في الحاضر فليس إليهم سبيل، وإن كان له غطيطٌ لا يخفى، فدعوني أتسمع. فتسمع الحس فتسمعه، فأمه حتى وجده نائماً فقتله، ووضع السيف في صدره ثم اتكأ عليه فقتله، ثم حملوا على الحي، فصاح الحي: يا أحمر بأساً! فلا شيء، لا أحمر بأساً قد قتل. فنالوا من الحاضر حاجتهم ثم انصرفوا، فتشاغل الناس بالإسلام، فلما كان بعد الفتح بيومٍ دخل جنيدب بن الأدلع معه يرتاد وينظر - والناس آمنون - فرآه جندب بن الأعجم الأسلمي، فقال: جنيدب بن الأدلع، قاتل أحمر بأساً! فقال: نعم. فخرج جندب يستجيش عليه، وكان أول من لقي خراش بن أمية الكعبي، فأخبره، فاشتمل خراشٌ على السيف ثم أقبل إليه، والناس حوله وهو يحدثهم عن قتل أحمر بأساً، فبينا هم مجتمعون عليه إذ أقبل خراش بن أمية مشتملاً على السيف، فقال: هكذا عن الرجل! فوالله ما ظن الناس إلا أنه يفرج عنه الناس لينصرفوا عنه، فانفرجوا عنه، فلما انفرج الناس عنه حمل عليه خراش بن أمية بالسيف فطعنه به في بطنه، وابن الأدلع مستندٌ إلى جدار من جدر مكة، فجعلت حشوته تسايل من بطنه، وإن عينيه لتبرقان في رأسه وهو يقول: قد فعلتموها يا معشر خزاعة! فوقع الرجل فمات، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقام خطيباً - وهذه الخطبة الغد من يوم الفتح بعد الظهر - فقال: أيها الناس، إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، فهي حرامٌ إلى يوم القيامة. لا يحل لمؤمنٍ بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً؛ لم تحل لأحدٍ كان قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من نهار، ثم رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم. فإن قال قائل: قد قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم! يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد والله كثر القتل إن نفع؛ وقد قتلتم هذا القتيل، والله لأدينه! فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار، إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله.
فدخل أبو شريح على عمرو بن سعيد بن العاص، وهو يريد قتال ابن الزبير، فحدثه هذا الحديث وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن يبلغ الشاهد الغائب، وكنت شاهداً وكنت غائباً، وقد أديت إليك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، فقال عمرو بن سعيد: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنه لا يمنع من ظالمٍ ولا خالع طاعة، ولا سافك دم. فقال أبو شريح: قد أديت إليك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، فأنت وشأنك!
قال: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، أنه أخبر ابن عمر ما قال أبو شريح لعمو بن سعيد، فقال ابن عمر: رحم الله أبا شريح! قد قضى الذي عليه، قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكلم يومئذٍ في خزاعة حين قتلوا الهذلي بأمرٍ لا أحفظه، إلا أني سمعت المسلمين يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأديه " .
قال: حدثني عمرو بن عمير بن عبد الملك بن عبيد، عن جويرية بنت الحصين، عن عمران بن الحصين، قال: قتله خراش بعد ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القتل، فقال: لو كنت قاتلاً مؤمناً بكافرٍ لقتلت خراشاً بالهذلي. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة يخرجون ديته، فكانت خزاعة أخرجت ديته. قال عمران بن الحصين: فكأني أنظر إلى غنمٍ عفرٍ جاءت بها بنو مدلج في العقل، وكانوا يعاقلونها في الجاهلية ثم شده الإسلام، وكان أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيب، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني كعب، فأعطوا القتيل مائةً من الإبل. قالوا: وجاءت الظهر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة يومئذٍ، وقريش فوق رءوس الجبال، وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفاً أن يقتلوا، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أومن. فلما أذن بلالٌ ورفع صوته كأشد ما يكون، فلما بلغ أشهد أن محمداً رسول الله، تقول جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك! أما الصلاة فسنصلي، والله لا نحب من قتل الأحبة أبداً؛ ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمداً من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه. وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام: واثكلاه! ليتني مت قبل هذا اليوم، أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة! وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم أن يصيح عبد بني جمح على بنية أبي طلحة. قال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخط الله فسيغيره، وإن كن رضاء الله فسيقره. وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول شيئاً، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصاء! فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم.
قال: فحدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: قال سهيل بن عمرو: ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وظهر، انقحمت بيتي وأغلقت علي بابي، وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جواراً من محمدٍ، وإنلا لا آمن أن أقتل. وجعلت أتذكر أثري عند محمدٍ وأصحابه، فليسأحدٌ أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحدٌ، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت فيها. فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تؤمنه؟ فقال: نعم، هو آمنٌ بأمان الله، فليظهر! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فليخرج؛ فلعمري إن سهيلاً له عقلٌ وشرف، وما مثل سهيلٍ جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافعٍ! فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل: كان واله براً؛ صغيراً وكبيراً! فكان سهيل يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة.
وهرب هبيرة بن أبي وهب - وهو يومئذٍ زوج أم هانىء بنت أبي طالب - وهو وابن الزبعري جميعاً حتى انتهى إلى نجران، فلم يأمنا من الخوف حتى دخلا حصن نجران، فقيل لهما: ما وراءكما؟ قالا: أما قريش فقد قتلت، ودخل محمدٌ مكة، ونحن والله نرى أن محمداً سائرٌ إلى حصنكم هذا! فجعلت بلحارث وكعب يصلحون ما رث من حصنهم، وجمعوا ماشيتهم، فأرسل حسان بن ثابت أبياتاً يريد بها ابن الزبعري، أنشدنيها ابن أبي الزناد:
لا تعدمن رجلاً أحلك بغضه ... نجران في عيشٍ أحد لئيم
بليت قناتك في الحروب فألقيت ... خمانةً خوفاء ذات وصوم
غضب الإله على الزبعري وابنه ... وعذاب سوءٍ في الحياة مقيم
فلما جاء ابن الزبعري شعر حسان تهيأ للخروج، فقال هبيرة بن أب وهب: أين تريد يا ابن عم؟ قال: أردت والله محمداً. قال: أتريد أن تتبعه؟ قال: إي والله! قال: يقول هبيرة: يا ليت أني رافقت غيرك! والله، ما ظننت أنك تتبع محمداً أبداً! قال ابن الزبعري: هو ذاك، فعلى أي شيءٍ نقيم مع بني الحارث بن كعب وأترك ابن عمي وخير الناس وأبرهم ، ومع قومي وداري. فانحدر ابن الزبعري حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في أصحابه، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه قال: هذا ابن الزبعري، ومعه وجهٌ فيه نور الإسلام. فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السلام عليكم، أي رسول الله؟ شهدت أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والحمد لله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأجلبت عليك، وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك إلى نجران، وأنا أريد ألا أقرب الإسلام أبداً، ثم أراد بي الله عز وجل منه بخيرٍ، فألقاه في قلبي وحببه إلي، وذكرت ما كنت فيه من الضلالة، واتباع ما لا ينفع ذا عقل، من حجر يعبد ويذبح له، لا يدري من عبده ومن لا يعبده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداك للإسلام، إن الإسلام يجب ما كان قبله! وأقام هبيرة بنجران، وأسلمت أم هانىء، فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح
أشاقتك هندٌ أم نآك سؤالها ... كذاك النوى أسبابها وانفتالها
وقد أرقت في رأس حصنٍ ممنعٍ ... بنجران يسري بعد ليلٍ خيالها
وإني من قومٍ إذا جد جدهم ... على أي حالٍ أصبح اليوم حالها
وإني لحامٍ من وراء عشيرتي ... إذا كرهت نحو العوالي فحالها
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
وإن كنت قد تابعت دين محمدٍ ... وقطعت الأرحام منك حبالها
فكوني على أعلى سحيقٍ بهضبةٍ ... ململمةٍ حمراء يبسٍ تلالها
أقام بنجران حتى مات مشركاً.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عن المنذر بن جهم قال: لما كان يوم فتح مكة هرب حويطب بن عبد العزى حتى انتهى إلى حائط عوف فدخل هناك، وخرج أبو ذر لحاجته وكان داخله، فلما رآه هرب حويطب فناداه أبو ذر: تعال، أنت آمن! فرجع إليه فسلم عليه، ثم قال: أنت آمن، فإن شئت أدخلتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت فاذهب إلى منزلك. قال: وهل لي سبيلٌ إلى منزلي؟ ألقى فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي، أو يدخل علي منزلي فأقتل. قال: فأنا أبلغ معك منزلك. فبلغ معه منزله، ثم جعل ينادي على بابه: إن حويطباً آمنٌ، فلا يهجم عليه! ثم انصرف أبو ذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أو ليس قد أمنا كل الناس إلا من أمرت بقتله؟
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال: لما كان يوم الفتح، أسلمت هند بنت عتبة، وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، البغوم بنت المعذل، من كنانة، وأسلمت فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وأسلمت هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، في عشر نسوةٍ من قريش، فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، فبايعنه فدخلن عليه، وعنده زوجته وابنته فاطمة، ونساءٌ من نساء بني عبد المطلب، فتكلمت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأةٌ مؤمنةٌ بالله مصدقة. ثم كشفت عن نقابها فقالت: هند بنت عتبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحباً بك. فقالت: والله يا رسول الله، ما على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وزيادة أيضاً! ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن القرآن وبايعهن، فقالت هند من بينهن: يا رسول الله، نماسحك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إن قولي لمائة امرأة مثل قولي لامرأةٍ واحدة. ويقال: وضع على يده ثوباً ثم مسحن على يده يومئذٍ. ويقال: كان يؤتى بقدحٍ من ماءٍ، فيدخل يده فيه ثم يدفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه. والقول الأول أثبت عندنا: " إني لا أصافح النساء " . ثم قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو آمن. فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حيٍّ من عك ، فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطاً، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحلٍ من سواحل تهامة فركب البحر، فجعل نوتي السفينة يقول له: أخلص! فقال: أي شيءٍ أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله. قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا. فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلح إليه وتقول: يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك. فوقف لها حتى أدركته فقالت: إني قد استأمنت لك محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك. فرجع معها وقال: ما لقيت من غلامك الرومي؟ فخبرته خبره فقتله عكرمة، وهو يومئذٍ لم يسلم. فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبوا أباه ، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت. قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها، فتأبى عليه وتقول: إنك كافر وأنا مسلمة. فيقول: إن أمراً منعك مني لأمرٌ كبير. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عكرمة وثب إليه - وما على النبي صلى الله عليه وسلم رداء - فرحاً بعكرمة، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف بين يديه، وزوجته منتقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فأنت آمن! فقال عكرمة: فإلى ما تدعو يا محمد؟ قال: أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة - وتفعل، وتفعل، حتى عد خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق وأمرٍ حسنٍ جميلٍ؛ قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً وأبرنا براً. ثم قال عكرمة: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال: يا رسول الله، علمني خير شيءٍ أقوله. قال: تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. قال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقول: أشهد الله وأشهد من حضر أني مسلمٌ مهاجرٌ مجاهدٌ. فقال عكرمة ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني اليوم شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتكه. فقال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسيرٍ وضعت فيه، أو مقامٍ لقيتك فيه، أو كلامٍ قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر له كل عداوةٍ عادانيها، وكل مسيرٍ سار فيه إلى موضعٍ يريد بذلك
المسير إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه! فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله. ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدٍّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته بذلك النكاح الأول.ر إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه! فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله. ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدٍّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته بذلك النكاح الأول.
وأما صفوان بن أمية، فهرب حتى أتى الشعيبة ، وجعل يقول لغلامه يسار وليس معه غيره: ويحك، انظر من ترى! قال: هذا عمير بن وهب. قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمداً علي. فلحقه فقال: يا عمير، ما كفاك ما صنعت بي؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي! قال: أبا وهب، جعلت فداك! جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس. وقد كان عمير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، سيد قومي خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه، فأمنه فداك أبي وأمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أمنته. فخرج في أثره، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنك. فقال صفوان: لا والله، لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامةٍ أعرفها. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، جئت صفوان هارباً يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته: فقال: لا أرجع حتى تأتي بعلامةٍ أعرفها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عمامتي. قال: فرجع عمير إليه بها، وهو البرد الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلميومئذٍ معتجحراً به، برد حبرة . فخرج عمير في طلبه الثانية، حتى جاء بالبرد فقال: أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، ابن أمك وأبيك، أذكرك الله في نفسك. قال له: أخاف أن أقتل. قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام؛ فإن رضيت وإلا سيرك شهرين؛ فهو أوفى الناس وأبرهم ، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجراً، تعرفه؟ قال: نعم. فأخرجه، فقال: نعم، هو هو! فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالمسلمين العصر في المسجد، فوقفا، فقال صفوان: كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات. قال: يصلي بهم محمد؟ قال: نعم. فلما سلم صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمراً وإلا سيرتني شهرين. قال: انزل أبا وهب. قال: لا والله، حتى تبين لي. قال: بل تسير أربعة أشهر. فنزل صفوان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن، وخرج معه صفوان وهو كافر، وأرسل إليه يستعيره سلاحه، فأعاره سلاحه؛ مائة درعٍِ بأداتها، فقال: طوعاً أو كرهاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عارية مؤداة. فأعاره، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملها إلى حنين، فشهد حنيناً والطائف ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها، ومعه صفوان بن أمية، جعل صفوان ينظر إلى شعبٍ ملىء نعماً وشاءً ورعاءً، فأدام إليه النظر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال: أبا وهب، يعجبك هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحدٍ بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله! وأسلم مكانه.
قال: فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أسلم أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل قبل نسائهم، ثم قدموا على نسائهم في العدة، فردهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك النكاح. وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة قبل أزواجهما، ثم أسلما فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم عليهم، وذلك أن إسلامهم كان في عدتهم.
قالوا: وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " سميعٌ عليمٌ " فيكتب عليمٌ حكيمٌ؛ فيقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: كذلك الله، ويقره. وافتتن وقال: ما يدري محمد ما يقول! إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد. وخرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتداً، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فلما كان يومئذٍ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، فقال: يا أخي، إني والله اخترتك فاحتبسني ها هنا، واذهب إلى محمد فكلمه في، فإن محمداً إن رآني ضرب الذي فيه عيناي؛ إن جرمي أعظم الجرم، وقد جئت تائباً. فقال: بل اذهب معي. قال عبد الله: والله لئن رآني ليضربن عنقي ولا يناظرني، قد أهدر دمي، وأصحابه يطلبونني في كل موضع. فقال عثمان: انطلق معي، فلا يقتلك إن شاء الله، فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعثمان، أخذ بيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح واقفين بين يديه، فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمه كانت تحملني وتمشيه، وترضعني وتقطعه، وكانت تلطفني وتتركه، فهبه لي. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل عثمان كلما أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام، فإنما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه إرادة أن يقوم رجلٌ فيضرب عنقه، لأنه لم يؤمنه؛ فلما رأى ألا يقدم أحدٌ، وعثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه وهو يقول: يا رسول الله، تبايعه فداك أبي وأمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما منعكم أن يقوم رجلٌ منكم إلى هذا الكلب فيقتله؟ أو قال: الفاسق. فقال عباد بن بشر: ألا أومأت إلي يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه. ويقال: قال هذا أبو اليسر؛ ويقال: عمر بن الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أقتل بالإشارة. وقائل يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ: إن النبي لا تكون له خائنة الأعين . فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما رآه، فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك! فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أو لم أبايعه وأؤمنه؟ قال: بلى أي رسول الله! ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الإسلام يجب ما كان قبله " . فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره، فكان يأتي فيسلم على النبي مع الناس.
وأما الحويرث بن نقيذ من ولد قصي، فإنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه، فبينا هو في منزله يوم الفتح قد أغلق بابه عليه، وأقبل علي رضي الله عنه يسأل عنه، فقيل هو في البادية. فأخبر الحويرث أنه يطلب، وتنحى علي رضي الله عنه عن بابه، فخرج الحويرث يريد أن يهرب من بيتٍ إلى بيتٍ آخر، فتلقاه علي فضرب عنقه.
وأما هبار بن الأسود، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلما بعث سرية أمرها بهبار إن أخذ أن يحرق بالنار. ثم قال: إنما يعذب بالنار رب النار؛ اقطعوا يديه ورجليه إن قدرتم عليه، ثم اقتلوه. فلم يقدر عليه يوم الفتح، وكان جرمه أنه عس بابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب وضرب ظهرها بالرمح - وكانت حبلى - حتى سقطت، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة في أصحابه إذ طلع هبار بن الأسود، وكان لسناً، فقال: يا محمد! سب من سبك؛ إني قد جئت مقراً بالإسلام، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنعم الله بك عيناً! أنت الذي فعلت وفعلت. فقال: إن الإسلام محا ذلك. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه والتعريض له.
قال: حدثني هشام بن عمارة، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه ف مسجده، منصرفه من الجعرانة، فطلع هبار بن الأسود من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر القوم إليه قالوا: يا رسول الله، هبار ابن الأسود! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رأيته. فأراد بعض القوم القيام إليه، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أن اجلس، ووقف عليه هبار فقال: السلام عليك يا رسول الله، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد وأردت اللحوق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وبرك وصفحك عمن جهل عليك؛ وكنا يا رسول الله أهل شرك، فهدانا الله عز وجل بك، وأنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإني مقر بسوء فعلي، معترف بذنبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عفوت عنك، وقد أحسن الله بك حيث هداك للإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله.
قال: حدثني واقد بن أبي ياسر، عن يزيد بن رومان، قال: قال الزبير ابن العوام: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هباراً قط إلا تغيظ عليه، ولا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قط إلا قال: إن ظفرتم بهبار فاقطعوا يديه ورجليه ثم اضربوا عنقه. والله لقد كنت أطلبه وأسأل عنه، والله يعلم لو ظفرت به قبل أ يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلته. ثم طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده جالسٌ، فجعل يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: سب يا محمد من سبك وأوذي من آذاك، فقد كنت موضعاً في سبك وأذاك، وكنت مخذولاً، وقد نصرني الله وهداني للإسلام. قال الزبير: فجعلت أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنه ليطأطىء رأسه استحياءً مما يعتذر هبار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قد عفوت عنك، الإسلام يجب ما كان قبله. وكان لسناً، وكان يسب حتى يبلغ منه، فلا ينتصف من أحد. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلمه وما يحمل عليه من الأذى، فقال: هبار، سب من سبك! قالوا: وأما ابن خطل، فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة.
فحدثني يعقوب بن عبد الله، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد ابن عبد الرحمن بن أبزي، قال: سمعت أبا برزة الأسلمي يقول: في نزلت هذه الآية: " لا أقسم بهذا البلد " . " وأنت حلٌّ بهذا البلد " ؛ أخرجت عبد الله بن خطل وهو معلق بأستار الكعبة، فضربت عنقه بين الركن والمقام. ويقال: قتله سعيد بن حريث المخزومي؛ ويقال: عمار بن ياسر، ويقال: شريك بن عبدة العجلاني، وأثبته عندنا أبو برزة. وكان جرمه أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً، وبعث معه رجلاً من خزاعة، فكان يصنع طعامه ويخدمه، فنزلا في مجمع فأمره يصنع له طعاماً، ونام نصف النهار، فاستيقظ والخزاعي نائمٌ ولم يصنع له شيئاً، فاغتاظ عليه، فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله، فلما قتله قال: والله ليقتلني محمد به إن جئته. فارتد عن الإسلام، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة، فقال له أهل مكة: ما ردك إلينا؟ قال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم. فأقام على شركه، وكانت له قينتان، إحداهما فرتنا، والأخرى أرنب، وكانتا فاسقتين، وكان يقول الشعر يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهما تغنيان به، ويدخل عليه وعلى قينتيه المشركون فيشربون الخمر، وتغني القينتان بذلك الهجاء. وكانت سارة مولاة عمرو ابن هاشم مغنيةً نواحة بمكة، فيلقى عليها هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغني به، وكانت قد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب أن يصلها وشكت الحاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان لك في غنائك ونياحك ما يغنيك! فقالت: يا محمد، إن قريشاً منذ قتل من قتل منهم ببدرٍ تركوا سماع الغناء. فوصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقر لها بعيراً طعاماً، فرجعت إلى قريش وهي على دينها، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن تقتل فقتلت يومئذٍ. وأما القينتان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما، فقتلت إحداهما؛ أرنب أوفرتنا، وأما فرتنا فاستؤمن لها حتى آمنت، وعاشت حتى كسر ضلع من أضلاعها زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فماتت منه، فقضى فيها عثمان ثمانية آلاف درهم؛ ستة آلاف ديتها، وألفين تغليظاً للجرم.
قالوا: وأما مقيس بن صبابة فإنه كان مع أخواله بني سهم - كانت أمه سهمية - فاصطبح الخمر يوم الفتح في ندامى له، فأتى نميلة بن عبد الله الليثي، وعلم بمكانه، فدعاه فخرج إليه وهو ثمل، يتمثل بهذه الأبيات؛ أنشدنيها ابن جعفر وغيره:
دعيني أصطبح يا بكر إني ... رأيت الموت نقب عن هشام
ونقب عن أبيك أبي يزيد ... أخي القينات والشرب الكرام
بهم أرست رواسٍ من ثبيرٍ ... ومن ثور ولم تصمم صمام
تغنيني الحمام كأن رهطي ... خزاعة أو أناسٌ من جذام
فضربه بالسيف حتى برده. ويقال: خرج وهو ثملٌ فيما بين الصفا والمروة، فرآه المسلمون فهبتوه بأسيافهم حتى قتلوه، وقال شاعرهم :
لعمري لقد أخزى نميلة رهطه ... وفجع إخوان السناء بمقيس
فلله عينا من رأى مثل مقيسٍ ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس
وكان جرمه أن أخاه هاشم بن صبابة كان قد أسلم وشهد المريسيع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله رجلٌ من بني عمرو بن عوف خطأ ولا يدري، فظن أنه من المشركين، فقدم مقيس بن صبابة، فقضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على بني عمرو بن عوف، فأخذها وأسلم ثم عدا على قاتل أخيه العمري فقتله، وهرب مرتداً كافراً يقول شعراً. ويقال: قتله أوس بن ثابت، من رهط عبادة بن الصامت، وهو لا يشعر به، وذلك أنه كان في رهج العدو، فخرج يطلبهم فرجع ولقيه أوس وهو يظن أنه من المشركين فقتله، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بديته على رهط عبادة ابن الصامت - وهذا أثبت القولين - فقال:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع
ثأرت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حملت به وترى وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه.
قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي بن كعب بن مالك، قال: لما رجع مقيس بن صبابة إلى قريشٍ إلى مكة قالوا: ما ردك إلينا وقد اتبعت محمداً؟ قال: فانطلق إلى الصنمين فحلق رأسه، وقال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم ولا أقدم. ثم أخبرهم كيف صنع وكيف قتل قاتل أخيه.
قال: وحدثني عبد الله بن يزيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي، قال: لما قتل النفر الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم سمع النوح عليهم بمكة، وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي، البقية في قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا تقتل قريشٌ صبراً بعد اليوم! يعني على الكفر.
قال: وحدثني يزيد بن فراس، عن عراك بن مالك، عن الحارث بن البرصاء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تغزى قريش بعد اليوم إلى يوم القيامة! يعني على الكفر.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل وحشي مع النفر، ولم يكن المسلمون على أحد أحرص منهم على وحشي. وهرب وحشي إلى الطائف، فلم يزل به مقيماً حتى قدم في وفد الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فقال: وحشي؟ قال: نعم. قال: اجلس، حدثني كيف قتلت حمزة. فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيب عني وجهك! قال: فكنت إذا رأيته تواريت عنه. ثم خرج الناس إلى مسيلمة ، فدفعت إلى مسيلمة فزرقته بالحربة، وضربه رجلٌ من الأنصار، فربك أعلم أينا قتله.
قال: وحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيع، عن أبيه، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فاستسلف من عبد الله ابن أبي ربيعة أربعين ألف درهم فأعطاه، فلما فتح الله عليهم هوازن وغنمه أموالها ردها وقال: إنما جزاء السلف الحمد والأداء. وقال: بارك الله لك في مالك وولدك! قال: وحدثني عبد الله بن زيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي، قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثلاثة نفرٍ من قريشٍ: من صفوان ابن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه، واستقرض من عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم، واستقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فكانت ثلاثين ومائة ألف، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من أهل الضعف.
قال: فأخبرني رجلٌ من بني كنانة - كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح، أنه قسم فيهم دارهم، فيصيب الرجل خمسين درهماً أو أقل أو أكثر، ومن ذلك المال بعث إلى بني جذيمة.
قال: وحدثني سفيان بن سعيد، عن الكلبي، عن صالح، عن المطلب ابن أبي وداعة، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في يومٍ صائفٍ، وعطش فاستسقى. فقال رجلٌ: يا رسول الله، عندنا شرابٌ من هذا الزبيب، أفلا أسقيك منه؟ قال: بلى. قال: فبعث الرجل إلى بيته فأتى بقدحٍ عظيمٍ، فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم من فيه، فوجد له ريحاً شديدة فكرهه فرده. قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماءٍ، ثم دعا به. قال: وأتي بماءٍ من زمزم فصبه عليه حتى رأيت الماء يفيض من جانبه، وشرب منه حاجته، ثم ناوله الذي عن يمينه وقال: من أرابه من شرابه ريبٌ فليكسره بالماء.
قال: حدثني أسامة بن زيد، عن أسلم، وهشام بن سعد، عن زيد ابن أسلم، عن أبي وعلة، عن ابن عباس، قال: أهدى صديقٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف راوية خمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله تعالى حرمها؟ فسار الرجل غلامه: اذهب بها إلى الحزورة فبعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم أمرته؟ قال: ببيعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها! فبلغني أنها فرغت في البطحاء.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عن ثمن الخمر، وثمن الخنزير، وثمن الميتة، وثمن الأصنام، وحلوان الكاهن .
قال: وحدثني سعيد بن بشير، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: ما ترى في شحوم الميتة يدهن بها السقاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود! حرم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا ثمنها.
قال: وحدثني معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عن ثمن الخمر، فقال: قاتل الله اليهود! حرم عليهم الشحم فباعوه فأكلوا ثمنه.
قال: وحدثني معمر، وابن أبي ذئب، عن الزهري، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم متعة النساء يومئذٍ.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، ومعمر، عن الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الفتح وهو بالحزورة: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت! قال: حدثني سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وقال: لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.
قال: وحدثني شيخٌ من خزاعة، عن جابر بن عبد الله، قال: كان لبني عبد الدار غلامٌ يقال له جبر، وكان يهودياً، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة يقرأ سورة يوسف، فعرف الذي ذكر في ذلك، فاطمأن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فلما ارتد عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن إسلامه رجع إلى مكة فأخبر أهله بإسلامه، وكان العبد يكتم إسلامه من أهله قبل أن يدخل بيته، فعذبوه أشد العذاب حتى قال لهم الذي يريدون، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه، وأخبره ما لقي في سبب عبد الله بن سعد. قال: فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنه فاشترى نفسه فعتق، واستغنى ونكح امرأةً لها شرف.
قال: حدثني إبراهيم بن يزيد، عن عطاء بن أبي رباح، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح الله عليك مكة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ها هنا أفضل. فرد ذلك عليه ثلاثاً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لصلاةٌ ها هنا أفضل من ألفٍ فيما سواه من البلدان! وقالت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقدرين على ذلك، يحول بينك وبينه الروم. فقالت: آتي بخفيرٍ يقبل ويدبر. فقال: لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيتٍ يستصبح لك به فيه، فكأنك أتيته. فكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمالٍ يشتري به زيتٌ يستصبح به في بيت المقدس، حتى ماتت فأوصت بذلك.
قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن بن عوف، وإبراهيم بن عبد الله بن محرز، قالا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جلس عبد الرحمن بن عوف في مجلسٍ فيه جماعةٌ، منهم سعد بن عبادة، فمر نسوةٌ من قريشٍ على ذلك المجلس، فقال سعد بن عبادة: قد كان يذكر لنا من نساء قريش حسنٌ وجمالٌ ؛ ما رأيناهن كذلك! قال: فغضب عبد الرحمن حتى كاد أن يقع بسعد وأغلظ عليه، ففر منه سعدٌ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ماذا لقيت من عبد الرحمن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما له؟ فأخبره بما كان. قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى كأن وجهه ليتوقد، ثم قال: رأيتهن وقد أصبن بآبائهن وأبنائهن وإخوانهن وأزواجهن؛ خير نساءٍ ركبن الإبل نساء قريش! أحناه على ولدٍ، وأبذله لزوجٍ بما ملكت يدٌ! وكان أبو الطفيل عامر عامر بن واثلة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، فما أنسى شدة بياضه وسواد شعره، وإن من الرجال لمن هو أطول منه، ومنهم من هو أقصر منه، يمشي ويمشون حوله. قال: فقلت لأمي: من هذا؟ فقالت: رسول الله. قيل له: ما ثيابه؟ قال: لا أدري.
قال: وحدثني عبد الله بن يزيد، عن ربيعة بن عباد، قال: دخلنا بعد فتحها بأيام ننظر ونرتاد وأنا مع أبي، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساعة رأيته عرفته وذكرت رؤيتي إياه بذي المجاز، وأبو لهب يتبع أثره يومئذٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا حلف في الإسلام، ولن يزيد حلف الجاهلية الإسلام إلا شدة. وكانت أم هانىء تحدث تقول: ما رأيت أحداً كان أحسن ثغراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ذكرت القراطيس المثنية بعضها على بعض - تعني عكنه - وقد رأيته دخل يوم الفتح قد ضفر رأسه بضفائر أربع.
قال: وحدثني علي بن يزيد، عن أبيه، عن عمته، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ضفرت رأس النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة أربع ضفائر، فلم يحله حتى فتح مكة ومقامه بمكة، حتى حين أراد أن يخرج إلى حنين حله وغسلت رأسه بسدر.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن أبي حصين الهذلي، قال: لما أسلمت هند بنت عتبة أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية - وهو بالأبطح - مع مولاةٍ لها، بجديين مرضوفين وقدٍّ . فانتهت الجارية إلى خيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت واستأذنت، فأذن لها فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بين نسائه أم سلمة زوجته وميمونة، ونساء من نساء بني عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرةٌ غليك وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكم في غنمكم، وأكثر والدتها! فرجعت المولاة إلى هند فأخبرتها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرت بذلك، فكانت المولاة تقول: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتنا ما لم نكن نرى قبل قبل ولا قريباً، فتقول هند: هذا دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركته، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام! ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أني في الشمس أبداً قائمة، والظل مني قريبٌ لا أقدر عليه، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منا رأيت كأني دخلت الظل. قال أبو حصين: وقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم إحدى نساء بني سعد بن بكر - إما خالةٌ أو عمةٌ - بنحيٍ مملوء سمناً وجراب أقط ، فدخلت عليه وهو في الأبطح، فلما دخلت انتسبت له، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت وصقدت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبول هديتها، وجعل يسائلها عن حليمة فأخبرته أنها توفيت في الزمان. قال: فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سألها: من بقي منهم؟ فقالت: أخواك وأختاك، وهم والله محتاجون إلى برك وصلتك، ولقد كان لهم موئل فذهب. وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أهلك؟ فقالت: بذنب أوطاس. فأمر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسوة، وأعطاها جملاً ظعينةً ، وأعطاها مائتي درهم، وانصرفت وهي تقول: نعم والله المكفول كنت صغيراً، ونعم المرء كنت كبيراً، عظيم البركة.
قال: فحدثني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بث السرايا، فبعث خالد بن الوليد إلى العزى، وبعث إلى ذي الكفين - صنم عمرو بن حممة - الطفيل بن عمرو الدوسي، فجعل يحرقه بالنار ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حششت النار في فؤادكا
وبعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة بالمشلل فهدمه، وبعث عمرو بن العاص إلى صنم هذيل - سواع - فهدمه، فكان عمرو يقول: انتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت: هدم سواع. فقال: ما لك وله؟ فقلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: لا تقدر على هدمه. قلت: لم؟ قال: يمتنع. قال عمرو: حتى الآن أنت في الباطل! ويحك هل يسمع أو يبصر؟ قال عمرو: فدنوت إليه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، ولم يجدوا فيها شيئاً، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: من كان يؤمن بالله وبرسوله فلا يدعن في بيته صنماً إلا كسره. قال: فجعل المسلمون يكسرون تلك الأصنام، وكان عكرمة بن أبي جهل حين أسلم لا يسمع بصنمٍ في بيتٍ من بيوت قريش إلا مشى إليه حتى يكسره، وكان أن بتجراة يعملها في الجاهلية ويبيعها. قال سعد بن عمرو: أخبرني أنه كان يراه يعملها ويبيعها. ولم يكن رجل من قريش بمكة إلا وفي بيته صنمٌ.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن بعض آل جبير بن مطعم، عن جبير بن مطعم، قال: لما كان يوم الفتح نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله فلا يتركن في بيته صنماً إلا كسره أو حرقه، وثمنه حرام. قال جبير: وقد كنت أرى قبل ذلك الأصنام يطاف بها مكة، فيشتريها أهل البدو فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما من رجل من قريشٍ إلا وفي بيته صنمٌ، إذا دخل مسحه وإذا خرج مسحه تبركاً به.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد المجيد بن سهيل، قال: لما أسلمت هند بنت عتبة جعلت تضرب صنماً في بيتها بالقدوم، فلذةً فلذةً، وهي تقول: كنا منك في غرور! قال: وحدثني محمد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة، يصلي ركعتين.
قال: حدثني مخرمة بن بكير، عن أبيه عراك بن مالك، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ليلة، يصلي ركعتين.
تم بعون الله تعالى الجزء الثاني من مغازي الواقدي، ويليه الجزء الثالث وأوله " شأن هدم العزى " .
الجزء الثالث
شأن هدم العزىقال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الجمعة لعشر ليالٍ بقين من رمضان؛ فبث السرايا في كل وجه. أمرهم أنيغيروا على من لم يكن على الإسلام. فخرج هشام بن العاص في مائتين قبل يلملم.وخرج خالد ابن سعيد بن العاص في ثلثمائة، قبل عرنة. وبعث خالد بن الوليد إلي العزى يهدمها. فخرج خالد في ثلاثين فارساً من أصحابه حتى انتهى إليها وهدمها. ثم رجع إلي النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: هدمت؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئاً ما؟ قال: لا. قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها. فرجع خالد وهو متغيظ. فلما انتهى إليها جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة سوداء، عريانة، ناشرة الرأس. فجعل السادن يصيح بها. قال خالد: وأخذني اقشعرارا في ظهري، فجعل يصيح:
أيا عز شدي شدة لا تكذبي ... على خالد ألقى القناع وشمرى
أيا عز إن لم تقتلي المرء خالداً ... فبوئي بذنب عاجل أو تنصري
قال: وأقبل خالد بالسيف إليها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني ودجدت الله قد أهانك
قال: فضربها بالسيف فجزلها باثنين، ثم رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: نعم، تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبداً. ثم قال خالد: أي رسول الله، الحمد لله الذي أكرمنا وأنقذنا من الهلكة! إني كنت أرى أبي يأتي إلي العزى بحتره؛ مائة من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثاً ثم ينصرف إلينا مسروراً، فنظرت إلي ما مات عليه أبي، وذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله، كيف خدع حتى صار يذبح لحجر ل يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأمر إلي الله، فمن يسره للهدى تيسر، ومن يسره للضلالة كان فيها. وكان هدمها لخمس ليالٍ بقين من رمضان سنة ثمان. وكان سادنها أفلح بن نضر الشيباني من بني سليم، فلما حضرته الوفاة دخل عليه وهو حزين، فقال له أبو لهب مالي أراك حزيناً؟ قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدى. قال له أبو لهب: فلا تحزن، فأنا أقوم عليها بعدك. فجعل كل من لقى قال: إن تظهر العزى كنت قد اتخذت يداً عندها بقيامي عليها ، وإن يظهر محمد على العزى - ولا أراخ يظهر - فابن أخي! فأنزل الله عز وجل: " تبت يدا أبي لهب " ؛ ويقال إنه قال هذا في اللات . وقال حسان بن ثابت .
باب ذكر من قتل من المسلمين يوم الفتحرجلان آخطآ الطريق، كرز بن جابر الفهري، وخالد الأشعر، من بني كعب.
عزوة بني جذيمةقال : حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر، قال: لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مقيم بمكة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة، وبعثه داعياً لهم إلي الإسلام ولم ببعثه مقاتلاً فخرج في المسلمين من المهاجرين والأنصار وبني سليم؛ فكانوا ثلثمائة وخمسين رجلاً، فانتهى إليهم بأسفل مكة، فقيل لبني جذيمة: هذا خالد بن الوليد معه المسلمون. قالوا: ونحن قوم مسلمون، قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد وأذنا فيها. فانتهى إليهم خالد فقال: الإسلام! قالوا: نحن مسلمون! قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين قومٍ من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم، فأخذنا السلاح لأن ندفع عن أنفسنا من خالف دين الإسلام. قال: فضعوا السلاح! فقال لهم رجل منهم يقال له جحدم: يا بني جذيمة، إنه والله خالد! وما يطلب محمد من أحد أكثر من أن يقر بالإسلام، ونحن مقرون با لإسلام؛ وهو خالد لا يريد بنا ما يراد بالمسلمين، وإنه ما يقدر مع السلاح إلا الإسار، ثم بعد الإسار السيف! قالوا: نذكرك الله، تسومنا. فأبى يلقي سيفه حتى كلموه جميعاً فألقى سيفه وقالوا: إنا مسلمون والناس قد أسلموا، وفتح محمد مكة، فما نخاف من خالد؟ فقال: أما والله ليأخذنكم بما تعلمون من الأحقاد القديمة. فوضع القوم السلاح، ثم قال لهم خالد: استأسروا! فقال جحدم: يا قوم، ما يريد من قومٍ مسلمين يستأ سرون! إنما يريد ما يريد، فقد خالفتموني وعصيتم أمري، وهو والله السيف. فاستأ سر القوم، فأمر بعضهم يكتف بعضاً، فلما كتفوا دفع إلي كل رجلٍ من المسلمين الرجل والرجلين؛ وباتوا في وثاقٍ، فكانوا إذا جاء وقت الصلاة يكلمون المسلمين فيصلون ثم يربطون. فلما كان في السحر، والمسلمون قد احتفلوا بينهم، فقائلٍ يقول: ما نريد بأسرهم، نذهب بهم إلي النبي صلى الله عليه وسلم. وقائل يقول: ننظر هل يسمعون أو يطيعون، ونبلوهم ونخبرهم. والناس على هذين القولين، فلما كان في السحر نادى خالد بن الوليد: من كان معه أسير فليذافه - والمذافة: الإجهاز عليه بالسيف. فأما بنو سليم فقتلوا كا من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا آسراهم.
قال: فجد ثني موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: كنت مع خالد بن الوليد وكان في يدي أسير، فأرسلته وقلت: اذهب حيث شئت! وكان مع أناس من الأنصار أسارى فأرسلوهم.
قال: وحدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: وأرسلت أسيري، وما احب أني قتلته وأن لي ما طلعت عليه شمس أو غربت، وأرسل قومي معي من الأنصار أسراهم.
قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: لما نادى خالد من كان معه أسير فليذافه أرسلت أسيري.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن ضمرة بن سعيد، قال: سمعت أبا بشير يا لمازني يقول: كان معي أسير منهم. قال: فلما نادى خالد من كان معه أسير فليذافه أخرجت سيفي لأضرب عنقه، فقال لي الأسير: يا أخا الأنصار، إن هذا لا يفوتك، انظر إلى قومك! قال: فنظرت فإذا الأنصار طرا قد أرسلوا آسراهم. قال: قلت انطلق حيث شئت! فقال: بارك الله عليكم، ولكن من كان أقرب رحماً منكم قد قتلونا! بنو سليم.
قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله، عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: لما نادى خالد بن الوليد في الأسرى يذافون، وثبت بنو سليم على أسراهم فذافوهم - وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم - غضب خالد على من أرسل من الأنصار، فكلمه يومئذ أبو أسيد الساعدي وقال: اتق الله يا خالد، والله ما كنا لنقتل قوماً مسلمين! قال: وما يدريك؟ قال: نسمع إقرارهم بالإسلام، وهذه المساجد بساحتهم.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد قسيط، عن أبيه،عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن أبي حد رد، عن أبيه، قال: إنا في الجيش وقد كتفت بنو جذيمة، أمر بعضهم فكتف بعضاً. فقال رجل من الأسرى: يا فتى! فقلت: ما تريد؟ قال: هل أنت آخذ برمتى هذه فمقدمي إلى النسيات، ثم رادى ففاعل بي ما فعل بأصحابي؟ قال: قد سألت يسيراً . قال: وأخذت برمته فانتهيت به إلى النسوة. فلما انتهى إليهن كلم امرأة منهن ببعض ما يريد. قال: ثم رجعت به حتى رددته في الأسرى، فقام بعضهم فضرب عنقه.
ويقال: إن فتى من بني جذيمة أدركه الجيش عشية، فنادى في القوم فكف عنه، وكان الذين يطلبونه بنو سليم، وكانوا عليه متغيظين في حروب كانت بينهم ببرزة وغيرها، وكانت بنو جذيمة قد أصابوهم ببرزة وهم موتورون يريدون القود منهم. فشجعوا عليه، فلما لم ير إلا أنهم يقتلونه شد عليهم فقتل منهم رجلاً، ثم شد عليهم ثانية فقتل منهم آخر، ثم جاء الظلام فحال بينهم، ووجد الفتى فرجة، حتى إذا كان الغداة جاء وقد قتل من القوم رجلين، والنساء والذرية في يد خالد، فاستأمن فعرض فرسه، فلما نظروا إليه قالوا: هذا الذي صنع بالأمس ما صنع، فناوشوه عامة النهار ثم أعجزهم وكر عليهم، فقال: هل لكن أن أنزل، على أن تعطوني عهداً وميثاقاً لتصنعن بي ما تصنعون بالظعن؛ إن استحييتموهن استحييت وإن قتلتموهن قتلت؟ قالوا: لك ذلك. فنزل بعهد اله وميثاقه، فلما نزل قالت بنو سليم: هذا صاحبنا الذي فعل بالأمس ما فعل. قالوا: انطلقوا به إلى الأسرى من الرجال، فإن قتله خالد فهو إمام ونحن له تبع، وإن عفا عنه كان كأحدهم. فقال بعضهم: إنما جعلنا له العهد والميثاق أن يكون مع الظعن، وأنتم تعلمون أن خالداً لا يقتل، إما يقسمهن وإما يعفو عنهن. قال الفتى: فإذا فعلتم بي ما فعلتم، فانطلقوا بي إلى نسياتٍ هناك، ثم اصنعوا بي مابدا لكم. قال: ففعلوا، وهو مكتوف برمة، حتى وقف على امرأة منهن، فأخلد إلى الأرض وقال: أسلمى جيش على نفد العيش! لا ذنب لي قد قلت شعراً:
أثيبى بود قبل أن تشحط النوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق
ألم يك حقاً أن ينول علاشق ... تكلف أدراج السرى والودائق
ألم أك قد طالبتكم فلقيتكم ... بحلية أو أدراكتكم با لخوانق
فإني لا ضيعت سر أمانة ... ولا راق عني بعدك اليوم رائق
سوى أن ما نال العشيرة شاغل ... لنا عنك إلا أن يكون التواثق
أنشدنيها ابن قسيط وابن أبي الزناد.
قال: فحدثني عبد الله بن أبي حرة، عن الوليد، عن سعيد، عن حنظلة بن علي، قال: أقبلت امرأة يومئذ بعد أن ضربت عنقه. يقول: ثم وضعت فاها على فيه فالتقمته، فلم تزل تقبله حتى ماتت.
قال: حدثني عبد الله بن زيد، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: لما قدم خالد بن الوليد على النبي صلى الله عليه وسلم عاب عبد الرحمن بن عوف على خالدٍ ما صنع، قال: يا خالد، أخذت بأمر الجاهلية! قتلتهم بعملك الفاكه، قاتلك الله! قال: وأعانه عمر بن الخطاب على خالد، فقال خالد: أخذتهم بقتل أبيك! فقال عبد الرحمن: كذبت والله، لقد قتلت قاتل أبي بيدي وأشهدت على قتله عثمان بن عفان. ثم التفت إلى عثمان فقال: أنشدك الله، هل علمت أني قتلت قاتل أبي؟ فقال عثمان: اللهم، نعم. ثم قال عبد الرحمن: ويحك يا خالد، ولو لم أقتل قاتل أبي كنت تقتل قوماً مسلمين بأبي في الجاهلية؟ قال خالد: ومن أخبرك أنهم أسلموا؟ فقال: أهل السرية كلهم يخبروننا أنك وجدتهم قد بنوا المساجد وأقروا بالإسلام، ثم حملتهم على السيف. قال: جائني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أغير عليهم، فأغرت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عبد الرحمن: كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد وغضب عليه، وبلغه ما صنع بعبد الرحمن فقال: يا خالد، ذروا لي أصحابي! متى ينك أنف المرء ينك! لو كان أحد ذهباً تنفقه قيراطاً قيراطاً في سبيل يا لله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن بن عوف! قال: حدثني عبد الله بن عمر، عن نافعٍ ، عن ابن عمر، قال: قال عمر لخالد: ويحك يا خالد، أخذت بني جذيمة بالذي كان من أمر الجاهلية! أو ليس الإسلام قد محا ما كان قبله في الجاهلية؟ فقالك يا أبا حفص، و الله ما أخذتهم إلا بالحق! أغرت على قوم مشركين وامتنعوا، فلم يكن لي بد - إذا امتنعوا - من قتلهم، فأسرتهم ثم حملتهم على السيف. فقال عمر: أي رجلٍ تعلم عبد الله بن عمر؟ قال: أعلمه والله رجلاً صالحاً. قال: فهو أخبرني غير الذي أخبرتني، وكان معك في ذلك الجيش. قال خالد: فإني أستغفر الله وأتوب إليه. قال: فانكسر عنه عمر، وقال: ويحك، ايت رسول الله يستغفر لك! قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أهله، عن أبي قتادة، وكان في القوم، قال: لما نادى خالد في السحر من كان معه أسير فليذافه أرسلت أسيرى وقلت لخالد: اتق الله، فإنك ميت! وإن هؤلاء قوم مسلمون! قال: يا أبا قتادة، إنه لا علم لك بهولاء.
قال أبو قتادة: فإنما يكلمني خالد على مافي نفسه من الترة عليهم.
قالوا: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد بن الوليد رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وهو يقول: اللهم، إني أبرأ إليك مما صنع خالد! وقدم خالد والنبي صلى الله عليه وسلم عاتب.
قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، قال: كان بين عبد الرحمن بن عوف وخالدٍ كلام، فأعرض عنه عبد الرحمن، فمشى خالد بعثمان بن عفان إلى عبد الرحمن، فاعتذر إليه حتى رضى عنه فقال: استغفر لي يا أبا محمد! قالوا: ودخل عمار على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد حمش قوماً قد صلوا وأسلموا. ثم وقع بخالدٍ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وخالد جالس لا يتكلم، فلما قام عمار وقع به خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه يا خالد! لا تقع بأبي اليقظان، فإنه من يعاده الله، ومن يبغضه الله، ومن يسفهه الله.
قالوا: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استقرض مالاً بمكة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فأعطاه مالاً، فقالك انطلق إلى بني جذيمة واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فد لهم ما أصاب خالد بن الوليد. فخرج علي عليه السلام بذلك المال حتى جاءهم، فودى لهم ما أصاب خالدً، ودفع إليهم مالهم، وبقي لهم بقية المال، فبعث علي عليه السلام أبا رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستزيده، فزاده مالاً، فودى لهم كل ما أصاب، حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق لهم شئ يطلبونه بقي مع علي عليه السلام بقية من المال. فقال علي عليه السلام: هذه البقية من هذا المال لكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أصاب خالدن مما لا يعلمه ولا تعلمونه. فأعطاهم ذلك المال، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. ويقال إنما المال الذي بعث به مع علي عليه السلام كان أتقرضه النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبي ربيعة، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، فبعث مع علي عليه السلام، فلما رجع علي دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعت يا علي؟ فأخبره وقال: يا رسول الله، قدمنا على قوم مسلمين، قد بنوا المساجد بساحتهم، فوديت لهم كل من قتل خالد حتى ميلغة الكلاب، ثم بقي معي بقية من المال فقلت: هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلمه ولا تعلمونه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبت! ما أمرت خالداً بالقتل، إنما أمرته بالدعاء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل على خالد، ويعرض عنه، وخالد يتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحلف ما قتلهم على تره ولا عداوة. فلما قدم على ووداهم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد، فلم يزل عنده من علية أصحابه حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسى، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا خالد بن الوليد، فإنما هو سيف من سيوف الله، سله على المشركين!! قال: وحدثني محمد بن حرب، عن أبي بكر بن عبد الله، عن أبي الأحوص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم عبد الله خالد بن الوليد، وأخو العشيرة، وسيف من سيوف الله، سله على الكفار والمنافقين!
قال: وحدثني يوسف بن يعقوب بن عتبة، عن عثمان بن محمد الأخنسى، عن عبد الملك بن عبد الرحمن بن الحارث، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد يغير على بني كنانة، إلا أن يسمع أذاناً أو يعلم إسلاماً، فخرج حتى انتهى إلى بني جذيمة فامتنعوا أشد الامتناع، وقاتلوا وتلبسوا السلاح؛ فانتظر بهم صلاة العصر والمغرب والعشاء لا يسمع أذاناً، ثم حمل عليهم فقتل من قتل وأسر من أسر، فادعوا بعد الإسلام. قال عبد الملك: وما عتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك على خالد ولقد كان المقدم حتى مات. ولقد خرج معه بعد ذلك إلى حنين على مقدمته، وإلى تبوك، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكيدر ودوم الجندل، فسبى من سبى ثم صالحهم؛ ولقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بالحارث بن كعب إلى نجران أميراً وداعياً إلى الله، ولقد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فلما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه تعظاه ناصيته، فكانت في مقدم قلنسوته. فكان لا يلقى أحداً إلا هزمه الله تعإلى؛ ولقد قاتل يوم اليرموك فوقعت قلنسوته، فجعل يقول: القلنسوة! القلنسوة! فقيل له بعد ذلك: يا أب سليمان، عجباً لطلبك القلنسوة وأنت في حومة القتال! فقال: إن فيها ناصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ألقى بها أحداً إلا ولى. ولقد توفي خالد يوم توفي، وهو مجاهد في سبيل الله، وقبره بحمص؛ فأخبرني من غسله وحضر موته، ونظر إلى ما تحت ثيابه، مافية مصح؛ ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رميةٍ بسهمٍ. ولقد كان عمر بن الخطاب الذي بينه وبينه ليس بذلك، ثم يذكره بعد فيترحم عليه ويتندم على ما كان صنع في أمره، ويقول: سيف من سيوف الله تعإلى! ولقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال الرجل: فلان. قال: بئس عبد الله فلان! ثم طلع خالد بن الوليد فقال: من هذا؟ قال: خالد ابن الوليد. قال: ثعم عبد الله خالد بن الوليد! وقال رجلف من بني جذيمة مبيض قال: سمعت خالد بن إلياس يقول: بلغنا أنه قتل منهم قريباً من ثلاثين رجلاً.
غزوة حنينحدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي قال: حدثنا الوادي قال: حدثنا محمد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، ومحمد بن صالحن وأبو معشر، وابن أبي حبيبة، ومحمد بن يحيى بن سهل، وعبد الصمد بن محمد السعدي، ومعاذ بن محمد، وبكير بن مسمار، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة؛ فكل قد حدثنا بطائفةٍ، وغير هؤلاء حدثنا ممن لم أسم، أهل ثقة، فكل قد حدثنا بطائفةٍ من هذا الحديق، وبعضهم أوعى له من بعض، وقد جمعت كل ما قد حدثوني به.
قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مشت أشراف هوزان بعضها إلى بعض، وثقيف بعضها إلى بعض، وحشدوا وبغوا وأطهروا أن قالوا: والله ما لاقى محمد قوماً يحسنون القتال، فأجمعوا أمركم فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم. فأجمعت هوزان أمرها وجمعها مالك بن عوف وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة - وكان سيداً فيها، وكان مسبلاً، يفعل في ماله ويحمد. فاجتمعت هوزان كلها، وكان في تكيف سيدان لها يومئذ: قارب بن الأسود بن مسعود في الأحلاف، هو الذي قادها؛ وفي بني مالك ذو الخمار أبيع بن الحراث - ويقال الأحمر بن الحارث - وهو الذي قادها موالياً ثقيفاً؛ فأوبت كلها مع هوزان، وقد أجمعوا المسير إلى محمد، فوجد ثقيفاً إلى ذلك سراعاً، فقالوا: قد كنا نهم بالمسير إليه، ونكره أن يسير إلينا، ومع ذلك لو سار إلينا لوجد حصناً حصيناً نقاتل دونه، وطعاماً كثيراً، حتى نصيبه أو ينصرف، ولكنا لا نريد ذلك، ونسير معكم ونكون يداً واحدة. فخرجوا معهم. قال غيلان بن سلمة الثقفي لبنيه، وهم عشرة: أني أريد أمراً كائنه له أمور، لا يشهدها رجل منكم إلا على فرسه. فشهدها عشرة من ولده على عشرة أفراس، فلما انهزموا بأوطاس هربوا، فدخلوا حصن الطائف فغلقوه. وقال كنانة بن عبد يا ليل: يا معشر ثقيف، إنكم تخرجون من حصنكم وتسيرون إلى رجل لا تدرون أيكون لكم أم عليكم؛ فمروا بحصنكم أن يرم مارث منه، فإنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه. فأمروا به أن يصلح، وخلفوا على حرمته رجلاً وساروا، وشهدها ناس من بني هلال ليسوا بكثيرٍ، ما يبلغون مائة، ولم يحضرها من هوزان كعب ولا كلاب، ولقد كانت كلاب قريبة، فقيل لبعضهم: لم تركتها كلاب فلم تحضرها؟ فقال: أما والله إن كانت لقريبة، ولكن ابن أبي إبراء مشى فنهاها عن الحضور فأطاعته، وقال: والله، لو ناوأ محمداً من بين المشرق والمغرب لظهر عليه.
ونصرها دريد بن الصمة في بني جشم، وهو يومئذٍِ ابن ستين ومائة سنة، شيخ كبير ليس فيه شئ إلا التيمن به ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وقد ذهب بصره يومئذ. وجماع الناس، ثقيف وغيرها من هوزان. إلى مالك بن عوف النصري، فلما أجمع مالك المسير بالناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا بأوطاس، واجتمع الناس به فعسكروا وأقاموا به، وجعلت الأمداد تأتيهم من كل ناحية. ودريد بن الصمة يومئذ في شجار يقاد به على بعير، فمكث على بعيره، فلما نزل الشيخ لمس الأرض بيده، فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس ولا سهل دهس! مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وثغاء الشاء، وخوار البقر، وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك من الناس أبناءهم نساءهم وأموالهم. قال: يا معشر هوزان، أممعكم من بني كلاب بن ربيعة أحد؟ قالوا: لا. قال: فمعكم من بني كعب بن ربييعة أحد؟ قالوا: لا. قال: فهل معكم من بني هلال بن عامر أحد؟ قالوا: لا. قال دريد: لو كان خيراً ما سبقتموهم إليه، ولو كان ذكراً أو شرفاً ما تخلفوا عنه؛ فأطيعوني يا معشر هوزان، وارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء! فأبوا عليه. قال: فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان من عامر، لا يضران ولا ينفعان! ثم قال: أين مالك؟ قالوا: هذا مالك فدعا له فقال: يا مالك، إنك تقاتل رجلاً كريماً؛ وقد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا اليوم كائن لما بعده من الأيام! يا مالك، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وخوار البقر، وبكاء الصغير، وثغاء الشاء؟ قال مالك سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم نساءهم. قال دريد: ولم؟ قال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجلٍ أهله وماله وولده ونساءه حتى يقاتل عنهم. قال: فأنقض بيده، ثم قال: راعى ضأن، ما له واللحرب؟ وهل يرد المنهزم شئ؟ أنها إن كانت لكم لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الجد والحد، ولو كان يوم رفعةٍ وعلاء لم تغب عنه كعب ولا كلاب. يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئاً، فإذا صنعت ما صنعت فلا تعصى في هذه الخطة؛ ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعليا قومهم وعزهم، ثم الق القوم على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك؛ وكان أهلك لا خوف عليهم، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. فغضب مالك من قوله وقال: والله لا أفعل، ولا إير أمراً صنعته، إنك قد كبرت وكبر علمك، وحدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك؟ قال دريد: يا معشر هوزان، والله ما هذا لكم برأي هذا فاضحكم في عورتكم وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه؟! فسل مالك سيفه، ثم نكسه، ثم قال يا معشر هزان، والله لتطيعنني أو لأتكئن على السيف حتى يخرج من ظهري! وكره مالك أن يكون لدر يد فيها ذكر ورأى، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: والله، لئن عصينا مالكاً، وهو شاب، ليقتلن نفسه ونبقى مع دريد، شيخ كبير لا قتال فيه، ابنستين ومائة سنة. واجمعوا أمرهم مع مالك، فلما رأى ذلك دريد وأنهم قد خالفوه، قال: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
وكان دريد قد ذكر با لفوسية والشجاعة، ولم يكن له عشرون سنة، وكان سيد بني جشم وأوسطهم نسباً، ولكن السن أدركته حتى فنى فناء وهو دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة.
قال: حدثني معمر، عن الزهري، قال: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الله تعإلى: إذا جاء نصر الله والفتح قالوا: وكان فتح مكة يوم الجمعة لعشرٍ بقين من رمضان، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة يصلى ركعتين، ثم غدا يوم اسبت لست ليال خلون من شوال، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد يصلى بهم، ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه.
قالوا: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثنى عشر ألفاً من المسلمين، عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفين من أهل مكة، فلما فصل قال رجل من أصحابه: لو لقينا بني شيبان ما بالينا، ولا يغلبنا اليوم أحد من قلة. فأنزل الله عز وجل في ذلك: لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم الآية.
قال : حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن موسى بن عقبة، عن الزهري، عن سعيد بن السيب، قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، لا نغلب اليوم من قلة. فأنزل الله عز وجل في ذاك: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة.. " الآية.
قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة - كلمتهم واحدة.
قالوا: وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المشركين كثير، منهم صفوان بن أمية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعار منه مائة درع بأداتها كاملة، فقال: يا محمد، طوعاً أو كرهاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عارية موداة! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان: اكفنا حملها. فحملها صفوان على إبله حتى انتهوا إلى أوطس، فدفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا معمر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي - وهو الحارث بن مالك - قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة يعلقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها، يعكفون عليها يوماً. قال: فرأينا يوماً، ونحن نسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، شجرة عظيمة خضراء، فسترتنا من جانب الطريق، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! الله أكبر! قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " إنها للسنن، سنن من كان قبلكم.
حدثني ابن حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كانت ذات أنواط شجرة عظيمة، أهل الجاهلية يذبحون بها ويعكفون عليها يوماً، وكان من حج منهم وضع رداءه عندها، ويدهل بغير رداء تعظيماً لها، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين قال له رهط. من أصحابه، فيهم الحارث بن مالك: يا رسول الله. اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وقال: هكذا فعل قوم موسى بموسى.
قال: قال أبو بردة بن نيار: لما كنا دون أوطاس نزلنا تحت شجرة ونظرنا إلى شجرة عظيمة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، وعلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه وقوسه. قال: وكنت من أقرب أصحابه إليه. قال: فما أفزعني إلا صوته: يا أبا بردة! فقلت: لبيك! فأقبلت سريعاً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه وقوسه. قال: وكنت من أقرب أصحابه إليه. قال: فما أفزعني إلا صوته: يا أبا بردة! فقلت: لبيك! فأقبلت سريعاً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده رجل جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الرجل جاء وأنا نائم، فسل سيفي ثم قام به على رأس ففزعت به، وهو يقول: يا محمد، من يومنك مني اليوم؟ قلت: الله ! قال أبو بردة: فوثبت إلى سيفي فسللته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شم سيفك! قال: قلت: يا رسول الله، دعني أضرب عنق عدو الله؛ فإن هذا من عيون المشركين. قال: فقال لي: اسكت يا أبا بردة. قال: فما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا عاقبة. قال: فجعلت أصيح به في العسكر ليشهده الناس فيقتله قاتل بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كفني عن قتله. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اله عن الرجل يا أبا بردة!، إن الله مانعي وحافظي حتى يظهر دينه على الدين كله.
قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليالً خلون من شوال. وبعث مالك بن عوف رجالاً من هوازان ينظرون إلى محمد وأصحابه - ثلاثة نفر - وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ما شأنكم ويلكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيلً بلقٍ، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! وقالوا له: ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلا أهل السموات - وإن أفئدة عيونه تخفق - وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل ما رأينا أصابهم مثل الذي أصابنا. قال: أف لكم! بل أنتم قوم أجبن أهل العسكر. فجسهم عنده فرقاً أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجلٍ شجاع. فأجمعوا له على رجلٍ، فخرج، ثم رجع إليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم، فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالاً بيضاً على خيلٍ بلقٍ، ما يطاق النظر إليهم؛ فو الله ما تماسكت أن أصابني ما ترى! فلم يثنه ذلك عن وجهه.
قالوا: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي حدرد الأسلمي فقال: انطلق فادخل في الناس حتى تأتى بخير منهم، وما يقول مالك. فخرج عبد الله فطاف في عسكرهم، ثم انتهى إلى ابن عوف فيجد عنده رؤساء هوزان، فسمعه يقول لأصحابه: إن محمداً لم يقاتل قط. قبل هذه المرة، وإنما كان يلقي قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فينصر عليهم؛ فإذا كان في السحر فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم، ثم صفوا صفوفكم، ثم تكون الحملة منكم، واكسروا جفون سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسور الجفن، واحملوا حملة رجلٍ واحدٍ، واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولاً! فلما وعى ذلك عبد الله بن أبي حدرد رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بكل ما سمع، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره بما قال، فقال: كذب ابن أبي حدرد. فقال ابن أبي حدرد: لئن كذبتني لربما كذبت بالحق! فقال: يا رسول الله، اسمع ما يقول ابن أبي حدرد! قال: صدق، كنت ضالاً فهداك الله! قالوا: وكان سهل بن الحنظلية الأنصاري يقول: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة هوزان، فأسرع السير حتى أتاه رجل فقال: يا رسول الله، قد تقطعوا من ورائك! فنزل فصلى العصر، وأوى إليه الناس فأمرهم فنزلوا، وجاءه فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت من بين أيديكم على جبل كذا وكذا، فإذا بهوزان على بكرة أبيها بظعنها ونسائها ونعمها في وادي حنين. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا فارس يحرسنا الليلة؟ إذا أقبل أنيس بن أبي مرثد الغنوى على فرسه، فقال: أنا ذا يا رسول الله. فقال انطلق حتى تقف على جبل كذا وكذا فلا تنزلن إلا مصليا أو قاضي حاجة، ولا تغرن من خلفك! قال وبتنا حتى أضاء الفجر، وحضرنا الصلاة، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أأحسستم فارسكم الليلة؟ قلنا: لا والله!فأقيمت الصلاة فصلى بنا، فلما سلم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر خلال الشجر، فقال: أبشروا، قد جاء فارسكم! وجاء فقال: يا رسول الله ، إني وقفت على الجبل كما أمرتني، فلم أنزل عن فرسى إلا مصلياً أو قاضي حاجة حتى أصبحت، فلم أحس أحداً. قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فانزل عن فرسك، وأقبل علينا. فقال: ما على هذا ألا يعمل بعد هذا عملاً؟ قالوا: وخرج رجال من مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يغادر منهم أحداً - على غير دين - ركباناً ومشاة، ينظرون لمن تكون الدرئة فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وخرج أبو سفيان بن حرب في أثر العسكر، كلما مر بترس ساقط. أو رمح أو متاع النبي صلى الله عليه وسلم حمله، والأزلام في كنانته، حتى أوقر جمله. وخرج صفوان ولم سلم، وهو في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطرب خلف الناس، ومعه حكيم بن حزام. وحويطب بن عبد العزي، وسهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب. والحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، ينظرون لمن تكون الدائرة. واضطربوا خلف الناس والناس يقتلون، فمر به رجل فقال: أبشر أبا وهب! هزم محمد وأصحابه! فقال له صفوان: إن ربا من قريش أحب إلى من رب من هزان إن كنت مربوباً.
قالوا: ولما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم في وادي حنين - وهو واد أجوف، ذو شعابٍ ومضايق - وفرق الناس فيه، وأعوعز إلى الناس أن يحملوا على محمد وأصحابه حملة واحدة. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وصفهم صفوفاً في السحر، ووضع الألوية والرايات في أهلها؛ مع المهاجرين لواء يحمله على عليه السلام، وراية يحملها سعد بن أبي وقاص، وراية يحملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وفي الأنصار رايات، مع الخزرج لواء يحمله الحباب بن المنذر - ويقال لواء الخزرج الأكبر مع سعد بن عبادة - ولواء الأوس مع أسيد بن حضير، وفي كل بطن من الأوس والخزرج لواء أو راية. وفي بني عبد الأشهل راية يحملها أبو نائلة، وفي بني حارثة راية يحملها أبو بردة بن نيار، وفي ظفر راية يحملها قتادة بن النعمان، وراية يحملها جبر بن عتيك في بني معاوية، وراية يحملها هلال بن أمية في بني واقف، وراية يحملها أبو لبابة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف. وراية يحملها أبو أسيد الساعدي في بني ساعدة، وراية يحملها عمارة بن حزم في بني مالك بن النجار، وراية يحملها أبو سليط. في بني عدى بن النجار، وراية يحملها سليط. بن قيس في بني مازن. وكانت رايات الأوس والخزرج في الجاهلية خضر وحمر، فلما كان الإسلام أقروها على ما كانت عليه؛ وكانت رايات المهاجرين سود والألوية بيض. وكان في قبائل العرب في أسلم رايتان، إحداهما مع بريدة بن الحصيب، والأخرى مع جندب بن الأعجم. وكان في بني غفار راية يحملا أبو ذر، ومع بني ضمرة، وليث، وسعد بن ليث راية يحملها أبو واقد الليثي الحارث بن سفيان، والأخرى أبو شريح. وكان في بني مزينة ثلاث رايات؛ راية يحملها بلال بن الحارث، وراية يحملها النعمان بن مقرن، وراية يحملها بلال بن الحارث، وراية يحملها النعمان بن مقرن، وراية يحملها عبد الله بن عمرو بن عوف. وكان في جهينة أربع رايات؛ راية مع رافع بن مكيث، وراية مع عبد الله بن يزيد. وراية مع أبي زرعة معبد بن خالد، وراية مع سويد بن صخر. وكانت في بني أشجع رايتان؛ واحدة مع نعيم بن مسعود، والأخرى مع معقل بن سنان. وكانت في بني سليم ثلاث رايات؛ راية مع العباس بن مرداس، وراية مع خفاف بن ندبة، وراية مع الحجاج بن علاط. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدم سليماً من يوم خرج من مكة فجعلهم مقدمة الخيل، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فلم يزل على مقدمته حتى ورد الجعرانة.
قالوا: وانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وقد مضت مقدمته وهو على تعبئة في وادي حنين، فانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم انحداراً - وهو وادٍ حدور - وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء دلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة، واستقبل الصفوف، وطاف عليها بعضها خلف بعض ينحدرون في الوادي، فحضهم على القتال وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، فبيناهم على ذلك ينحدرون في غلس الصبح.
فكان أنس بن مالك يحدث يقول: لما انتهينا إلى وادي حنين - وهو وادٍ من أودية تهامة له مضايق وشعاب - فاستقبلنا من هوزان شئ، لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط. من السواد والكثرة! قد ساقوا نساءهم وأموالهم وأبناءهم وذراريهم ثم صفوا صفوفاً، فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاءوا بالإبل والبقر والغنم فجعلوها وراء ذلك؛ لئلا يفروا بزعمهم. فلما رأينا ذلك السواد حسبناه رجالاً كلهم، فلما تحدرنا في الوادي، فبينا نحن فيه غلس الصبح، إن شعرنا إلا بالكتائب قد خرجب علينا من مضيق الوادي وشعبه فحملوا حملة واحدة، فانكشف أول الخيل - خيل سليم - مولية فولوا، وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين، ما يلوون على شئ. قال أنس: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفت عن يمينه ويساره والناس منهزمون، وهو يقول: يا أنصار الله وأنصار رسوله! أنا عبد الله ورسوله صابر! قال: ثم تقدم بحربته أمام الناس، فوالذي بعته بالحق، ما ضربنا بسيف ولا طعنا برمح حتى هزمهم الله، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العسكر وأمر أن يقتل من قدر عليه منهم، وجعلت هوزان تولى وثاب من انهزم من المسلمين.
قال: حدثني معمر، ومحمد بن عبد الله، عن الزهري، عن كثير بن العباس بن عبد المطلب، عن أبيه، قال: لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون، فولى المسلمون يومئذ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذاً بثفر بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يألو ما أسرع نحو المشركين. قالك فأتيته حتى أخذت بحكمة بغلته، وهو على بغلة له شهباء، فشجرتها بالحكمة، وكنت رجلاً صيتاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى من الناس ما رأى؛ لا يلوون على شئ، قالك يا عباس، اصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! فناديت: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! قال: فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت إلى أولادها، يقولون: يا لبيك! يا لبيك! فيذهب الرجل منهم فيثنى بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقدمها في عنقه، ويأخذ ترسه وسيفه ثم يقتحم عن بعيره فيخلى سبيله في الناس، ويوم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ثاب إليه الناس اجتمعوا، فكانت الدعوة أولاً: يا للأنصار! ثم قصرت الدعوة فنادوا: يا للخزرج! قال: وكانوا صبرا عند اللقاء، صدقاً عند الحرب. قال: فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كالمتطاول في ركائبه، فنظر إلى قتالهم فقالك الآن حمى الوطيس! ثم أخذ بيده من الحصى فرماهم، ثم قال: انهزموا، ورب الكعبة! فو الله مازلت أرى أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله، وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته. ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: ناد " يا أصحاب السمرة! فرجعت الأنصار وهم يقولون: الكرة بعد الفرة. قال: فعطفوا عطفة البقر على أولادها، قد شرعوا الرماح حتى إني لأخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم رماحهم أشد من خوفي رماح المشركين، يؤمون الصفوف ويقولون: يا لبيك! يا لبيك! فلما اختلطوا واجتلدوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على بغلته في ركائبه، يقول: اللهم، إني أسلك وعدك، لا ينبغي لهم أن يظهروا. ثم قال للعباس: ناولني حصيات! فناوله حصيات من الأرض، ثم قال: شاهدت الوجوه! ورمى بها وجوه المشركين، وقال: انهزموا، ورب الكعبة! قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما انكشف الناس والله ما رجعت راجعة هزيمتهم حتى وجد الأسرى عند النبي صلى الله عليه وسلم مكتفين. قال: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ إلى أبي سفيان بن الحارث وهو مقنع في الحديد، وكان ممن صبر يومئذ، وهو آخذ بثفر بغلة النبي صلى الله عليه وسلم قال: من هذا؟ قال: ابن أمك يا رسول الله. ويقال إنه قال: من أنت؟ قال: أخوك - فداك أبي وأمي - أو سفيان بن الحارث. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أخي، ناولني حصى من الأرض! فناولته فرمى بها في أعينهم كلهم، وانهزموا.
قالوا: فلما انكشف الناس انحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، وهو واقف على دابته لم ينزل، إلا أنه قد جرد سيفه وطرح غمد وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفرٍ من المهاجرين والأنصار وأهل بيته؛ العباس، وعلى، الفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة ابن الحارث، وأيمن بن عبدي الخزرجي، وأسامة بن زيد، وأبو بكر، وعمر عليهم السلام. ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انكشف الناس، قال لحارثة بن النعمان: يا حارثة، كم ترى الذين ثبتوا؟ قال: فلما التفت ورائي تحرجا، فنظرت عن يميني وشمالي فحزرتهم مائة، فقلت: يا رسول الله، هم مائة! حتى كان يوم مررت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يناجي جبريل عليه السلام عند باب المسجد، فقال جبريل عليه السلام: من هذا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حارثة بن النعمان. فقال جبريل عليه السلام: هذا أحد المائة الصابرة يوم حنين، لو سلم لرددت عليه السلام. فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقف معك.
وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حين انكشف الناس عنه ولم يبق إلا المائة الصابرة: اللهم، لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان! قال له جبريل: لقد لقنت الكلمات التي لقن الله موسى يوم فلق البحر أمامه وفرعون خلفه.
قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: إن حارثة بن النعمان مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يناجي جبريل عليه السلام وهما قائمان، فسلم عليهما حارثة، فلما كان بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت الرجل؟ قال حارثة: نعم، ولا أدري من هو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو جبريل عليه السلام، وقد رد عليك السلام. ويقال إن المائة الصابرة يومئذ ثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأنصار، والعباس، وأبو سفيان؛ العباس آخذ بلجام بغلته، وأبو سفيان عن يمينه، وحف به المهاجرون والأنصار. وكان ابن عباس يحدث قال: مر جبريل، وحارثة بن النعمان مع النبي صلى الله عليه وسلم واقف، فقال: من هذا أحد الثمانين الصابرة، وقد تكفل الله لهم بأرزاقهم وأرزاق عيالهم في الجنة. وكان ابن عباس يقول: وكان أبو سفيان بن الحارث من الذين تكفل الله بأرزاقهم وأرزاق عيالهم في الجنة.
قالوا: وكان البراء بن عازب يقول: والله الذي لا إله إلا هو، ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه وقف واستنصر، ثم نزل وهو يقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
فأنزل الله عليه نصره، وكبت عدوه، وأفلح حجته.
قالوا: وكان رجل من هوزان على جملٍ أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل أمام الناس، وإذا أدرك طعن، قد أكثر في المسلمين القتل، فيصمد له أبو دجانة فعرقب جمله، فسمع خرخرة جمله واكتسع الجمل، ويشد على وأبو دجانة عليه، فيقطع على يده اليمنى، ويقطع أبو دجانة يده الأخرى، وأقبلا يضربانه بسيفيهما جميعاً حتى تثلم سيفاهما، فكف أحدهما وأجهز الآخر عليه، ثم قال أحدهما لصاحبه: امض، لا تعرج علي سلبه! فمضيا يضربان أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ويعترض لهما فارس من هوازان بيده راية حمراء، فضرب أحدهما يد الفرس ووقع لوجهه، ثم ضرباه بأسيافهما فمضيا على سلبه. ويمر أبو طلحة فسلب الأول ومر بالآخر فسلبه. وكان عثمان بن عفان، وعلي، وأبو طلحة فسلب الأول ومر بالآخر فسلبه. وكان عثمان بن عفان، وعلي، وأبو دجانة، وأيمن بن عبيد يقاتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني سليمان بن بلال، عن عمارة بن غزية، قال: قالت أم عمارة: لما كان يومئذ والناس منهزمون في كل وجه، وأنا وأربع نسوة، في يدي سيف لي صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها - وهي يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة - وأم سليط. وأم الحارث. قالوا: فجعلت تسله وتصيح بالأنصار: أية عادة هذه! ما لكم وللفرار! قالت: وأنظر إلى من هوزان على جمل أورق، معه لواء، يوضع جمله في أثر المسلمين، فأعترض له فأضرب عزقوب الجمل، وكان جملاً مشرفاً، فوقع على عجزه، وأشد عليه، فلم أزل أضربه حتى أثبته، وأخذت سيفاً له وتركت الجمل يخرخر، يتصفق ظهراً لبطن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم مصلت السيف بيده، قد طرح غمده، ينادي: يا أصحاب سورة البقرة! قال: وكر المسلمون، فجعلوا يقولون: يا بني عبد الرحمن! يا بني عبيد الله! يا خيل الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمى خيله خيل الله، وجعل شعار المهاجرين بن عبد الرحمن، وجعل شعرا الأوس بني عبيد الله. فكرت الأنصار، ووقفت هوزان حلب ناقةٍ فتوحٍ، ثم كانت إياها، فو الله ما رأيت هزيمة كانت مثلها، ذهبوا في كل وجه، فرجع ابناى إلى - حبيب وعبد الله ابنا زيد - بأسارى مكتفين، فأقوم إليهم من الغيظ، فأضرب عنق واحد منهم؛ وجعل الناس يأتون بالأسارى، فرأيت في بني مازن بن النجار ثلاثين أسيراً. وكان المسلمون قد بلغ أقصى هزيمتهم مكة، ثم كروا بعد وتراجعوا، فأسهم لهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً.
فكان ا،س بن مالك يقول: إن أم سليم، أمي ابنة ملحان جعلت تقول: يا رسول الله، أرأيت هؤلاء الذين أسلموك وفروا عنك وخذلوك! لا تعف عنهم إذا أمكنك الله منهم، فاقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين! فقال: يا أم سليم، قد كفى الله! عافية الله أوسع! ومعها يومئذ جمل أبي طلحة قد خشيت أن يغلبها، فأدنت رأسه منها فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام، وهي شادة وسطها ببرد لها، ومعها خنجر في يدها، فقال لها أبو طلحة: ما هذا معك يا أم سيم؟ قالت: خنجر أخذته معي، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به. قال أبو طلحة: ما تسمع يا رسول الله، ما تقول أم سليم؟ وكانت أم الحارث الأنصارية أخذت بخطام جمل أبي الحارث زوجها، وكان جمله يسمى المجسار، فقالت: يا حار، تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأخذت بخطام الجمل، والجمل يريد أن يلحق بألافه والناس يولون منهزمين، وهي لا تفارقه. فقالت أم الحارث: فمر بي عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فقالت أم الحارث: يا عمر، ما هذا؟ فقال عمر: أمر الله. وجعلت أم الحارث تقول: يا رسول الله، من جاوز بعيري فأقتله، والله إن رأيت كاليوم ما صنع هؤلاء القوم بنا! تعنى بني سليم وأهل مكة الذين انهزموا بالناس.
حدثني ابن أبي سبرة قال: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة أن سعد بن عبادة يصيح يومئذ بالخزرج: يا للخزرج! يا للخزرج! وأسيد بن حضير: يا للأوس! ثلاثاً. فثابوا والله من كل ناحية كأنهم النحل تأوى إلى يعسوبها. قال: فحنق المسلمون عليهم فقتلوهم حتى أسرع المسلمون في قلت الذرية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالك ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية! ثلاثاً. قال أسيد بن حضير: يا رسول الله، أليس إنما هم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها.
قال: حدثني عبد الله بن علي، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: لما تراءينا نحن والقوم رأينا سواداً لم نر مثله قط. كثرة، وإنما ذلك السواد نعم، فحملوا النساء عليه: قال: فأقبل مثل الظلة السوداء من السماء حتى أظلت علينا وعليهم وسدت الأفق، فنظرت فإذا وادي حنين يسيل بالنمل، نمل أسود مبثوث، لم أشك أنه نصر أيدنا الله به، فهزمهم الله عز وجل.
قال: حدثني ابن أبي سبرة قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم. عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن شيوخ من قومه من الأنصار، قالوا: رأينا يومئذ كالبحد السود هوت من السماء ركاما فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كنا لننفضه عن ثيابنا، فكان نصر أيدنا الله به.
وكان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمراً قد أرخوها بين أكتافهم، وكان الرعب الذي قذف الله في قلوب المشركين يوم حنين كوقع الحصى في الطمست. فكان سويد بن عامر السوائي يحدث، وكان قد حضر يومئذ فسئل عن الرعب، فكان أخذ الحصاة فيرمى بها في الطست فيطن، فقال: إن كنا نجد في اجوافنا مثل هذا.
وكان مالك بن أوس بن الحدثان يقول: حدثني عدة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الكف من الحصيات، فما منا أحد إلا يشكو القذى في عينيه، ولقد كنا نجد في صدورنا خفقاناً كوقع الحصى في الطساس، ما يهدأ ذلك الخفقان عنا؛ ولقد رأينا يومئذ رجالاً بيضاً على خيل بلق، عليهم عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، بين أسماء والأرض كتائب كتائب ما يليقون شيئاً، ولا نستطيع أن نقاتلهم من الرعب منهم.
قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن زهيرن عن عمر بن عبد الله العبسي، عمن أخبره، عن ربيعة، قال: حدثني نفر من قومنا حضروا يومئذ قالوا: كمنا لهم في المضايق والشعاب، ثم حملنا عليهم حملة ركبنا أكتافهم حتى انتهينا إلى صاحب بغلة شهباء، وحوله رجال بيض حسان الوجوه، فقالك شاهت الوجوه، ارجعوا! فانهزمنا، وركب المسلمون أكتافنا وكانت إياها، وجعلنا نلتفت وراءنا ننظر إليهم يكدوننا، فتفرقت جماعتنا في كل وجه، وجعلت الرعدة تسحقنا حتى لحقنا بعلياء بلادنا، فإن كان ليحكى عنا الكلام ما كنا ندري به، مما كان بنا من الرعب، فقذف الله الإسلام في قلوبنا.
وكانت راية الأحلاف من ثقيف يمع قارب بن الأسود بن مسعود، فلما انهزم الناس أسند رايته إلى شجرة وهرب هو وبنو عمه من الأحلاف، فم يقتل منهم إلا رجلان، من نبن غيرة، وهب واللجلاج. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتل اللجلاج: قتل اليوم سيد شبان ثقيف، إلا ما كان من ابن هنيدة. وكانت راية بني مالك مع ذي الخمار، فلما انهزمت هوازان تبعهم المسلمون، يستحصى القتلى من ثقيف ببني مالك، فقتل منهم قريب من مائة رجل تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله، فقاتل بها مليا، وجعل يحث ثقيفاً وهوزان على القتال حتى قتل؛ وكان اللجلاج رجلاً من بني كنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخي بني دنة: هذا سيد شبان كنة إلا ابن هنيدة - الحارث بن عبد الله بن يعمر بن إياس ابن أوس بن ربيعة بن الحارث، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. وكانت كنة امرأة من غامد يمانية قد ولدت في قبائل العرب وكانت أمة، فأعتق الحارث كل مملوك من بني كنة، فقال له عمر بن الخطاب رضى الله عنه في خلافته: أيسرك أن أهل بيت عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة مكان كنة؟ فقالك يا أمير المؤمنين، لوددت أن ذلك كذلك. فقال عمر: ليت أمي كنة وأن الله رزقني من برها ما رزقاك. وكان أبر الناس بأمه، ما كانت تأكل طعاماً إلا من يده، ولا يغسل رأسها إلا هو؛ ولا يسرح رأسها إلا هو.
قالوا: وهبربت ثقيف، فقال شيوخ منهم - أسلموا بعد، كانوا قد حضروا ذلك اليوم - قالوا: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبنا فيما نرى، ونحن مولون حتى إن الرجل منا ليدخل حصن الطائف وإنه ليظن أنه على أثره، من رعب الهزيمة.
وكان أبو قتادة يحدث قال: لما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلين يقتتلان، مسلماً ومشركاً، قد علاه المشرك، فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه، وأقبل على فضمنى ضمة وجدت منها ريح الوت، وكاد أن يقتلني لولا أن الدم نزفه، فسقط. وذففت عليه ومضيت وتركت عليه سلبه، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلاً له عليه ببينة فله سلبه. قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه. فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قيتلاً له عليه بينة فله سلبه.
فقام عبد الله بن أنيس فشهد لي، ثم لقيت الأسود بن الخزاعي فشهد لي، وإذا صاحبي الذي أخذ السلب لا ينكر أني قتلته - وقد قصصت على النبي صلى الله عليه وسلم القصة - فقال: يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي فأرضه مني. فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ها الله إذا لا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله، يعطيك سلبه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، فأعطه إياه. قال أبو قتادة: فأعطانيه، فقال لي حاطب بن أبي بلتعة: يا أبا قتادة، أتبيع السلاح؟ فبعثه منه بسبع أوراقٍ، فأتيت المدينة فاشتريت به مخرفاً في بني سلمة يقال له الرديني، فإنه لأول مالٍ لي نلته في الإسلام، فلم نزل نعيش منه إلى يومنا هذا.
وكان شيبة بن عثمان بن أبي طلحة قد تعاهد هو وصفوان بن أمية حين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين - وكان أمية بن خلف قتل يوم بدر، وكان عثمان بن أبي طلحة قتل يوم أحد - فكاناء تعاهدا إن رأيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دائرة أن يكونا عليه، وهما خلفه. قال شيبة: فأدخل الله الإيمان قلوبنا. قال شيبة: لقد هممت بقتله، فأقبل شئ حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني. ويقال: قال: غشيتني ظلمة حتى لا أبصر، فعرفت أنه ممتنع مني وأيقنت بالإسلام. وقد سمعت في قصة شيبة وجهاً آخر؛ كان شيبة بن عثمان يقول: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا مكة فظفر بها وخرج إلى هوازن، قلت: أخرج لعلى أدرك ثأري! وذكرت قتل أبي يوم أحد، قتله حمزة، وعمى قتله على. قال: فلما انهزم أصحابه جئته عن يمينه، فإذا العباس قائم، عليه درع بيضاء كالفضة ينكشف عنها العجاج، فقلت: عمه لن يخدله! قال: ثم جئته عن يساره فإذا بأبي سفيان ابن عمه، فقلت: ابن عمه لن يخذله! فجئته من خلفه فلم يبق إلا أسوره بالسيف إذ رفع ما بيني وبينه شواظ. من نارٍ كأنه برق، وخفت أن يمحشني ووضعت يدي على بصرى ومشيت القهقرى، والتفت إلى فقال: يا شيب، ادن مني! فوضع يده على صدري وقال: اللهم، أذهب عنه الشيطان! قال: فرفعت إليه رأسي وهو أحب إلى من سمعي وبصري وقلبي، ثم قال: يا شيب، قاتل الكفار! فقالك فتقدمت بين يديه أحب والله أقيه بنفسي وبكل شئ، فلما انهزمت هوازن رجع إلى منزله، ودخلت عليه فقال: الحمد لله الذي أراد بك خيراً مما أردت. ثم حدثني بما هممت به.
فلما كانت الهزيمة حيث كانت، والدائرة على المسلمين، فتكلموا بما في أنفسهم من الكفر والضغن والغش؛ قال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! قال: يقول رجل من أسلم يقال له أبو مقيت: أما والله، لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتلك لقتلتك! وقال: صرخ كلدة بن الحنبل، وهو كلدة بن الحنبل أخو صفوان لأمه، أسود من سودان مكة: ألا بطل السحر اليوم! فقال صفوان: اسكت، فض بالله فاك! لأن يربنى رب من قريش أحب إلى من أن يربني رب من هوازن. قال: وقال سهيل بن عمرو: لا يجتبرها محمد وأصحابه! قال: يقول له عكرمة: هذا ليس بقول، وإنما الأمر بيد الله، وليس إلى محمد من الأمر شئ! إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غدا. قال: يقول سهيل: إن عهدك بخلافه لحديث! قال: يا أبا يزيد، إنا كنا والله نوضع في غير شئ وعقولنا عقولنا، نعبد الحجر لا ينفع ولا يضر! قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن يعقوب بن عتبة، قال: حضرها عثمان بن عبد الله بأفراس وعبيد وموالٍ، فقتلوا يومئذ معه، وقتل معه غلام له نصراني أغرل؛ فبينا طلحة يسلب القتلى من ثقيف أذ مر به فوجده أغرل، فصاح: يا معشر الأنصار، أحلف بالله أن ثقيفاً غرل ما تختتن! قال المغيرة بن شعبة: وسمعتها وخشيت أن يذهب علينا من العرب، فقلت: لا تفعل، فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني! ثم جعلت أكشف له عن قتلى ثقيف، فأقول: ألا تراهم مختتننين؟ ويقال: إن العبد كان لذى الخمار وكان نصرانياً أزرق، فقتل مع سيده يومئذ. وكان أبو طلحة يسلب القتلى، فجرده فإذا هو أغرل، فنادى بأعلى صوته للأنصار فأقبلوا إليه، فقال: أحلف بالله ما تختتن ثقيف! ثم أتى إلى ذي الخمار سيد العبد، فإذا هو مختون. قال المغيرة: وجاءني أمر قطعني، وخشيت أن تسير علينا في العرب، حتى أبصر القوم وعرفوا أنه عبد لهم نصراني. وكان الذي قتل عثمان بن عبد الله عبد الله بن أبي أمية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يرحم الله عبد الله بن أبي أمية! وأبعد الله عثمان بن عبد الله بن ربيعة، فإنه كان يبغض قريشاً! قال: وكان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله برحمة الله، فبلغه فقال: إني لأرجو أن يرزقني الله الشهادة في وجهي هذا! فقتل في حصار الطائف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: لولا ابن جثامة الأصغر لفضحت الخيل اليوم. وقالت امرأة من خزاعة يوم حنين:
إن ماء حنين لنا فخلوه ... إن تشربوا منه فلن تعلوه
هذا رسول الله لن يعلوه
أنشدنيها ابن جعفر. وقالت امرأة من المسلمين...
غلبت خيل الله خيل اللات ... والله أحق بالثبات
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدم سليماً في مقدمته، عليها خالد بن الوليد، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة والناس مجتمعون عيها، فقالك ما هذا؟ قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدرك خالداً فقالك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل امرأة أو عسيفاً. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أخرى فسأل عنها فقال رجل: أنا قتلتها يا رسول الله، أردفتها ورائى فأرادت قتلي فقتلتها. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنت.
قالوا: لما هزم الله تعإلى هوازن اتبعهم المسلمون يقتلونهم، فنادت بنو سليم بينها: ارفعوا عن بني أمكم القتل! فرفعوا الرماح وكفوا عن القتل - وأم سليم؛ بكمة ابنة مرة أخت تميم بن مرة - فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صنعوا قال: اللهم، عليك ببني بكمة - ولا يشعرون أن لهم أما اسمها بكمة - أما في قومي فوضعوا السلاح وضعاً، وأما عن قومهم فرفعوا رفعاً! وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب القوم، ثم قال لخيله: إن قدرتم على بجاد فلا يفلتن منكم! وقد كان أحدث حدثاً عظيماً، وكان من بني سعد، وكان قد أتاه مسلم، فأخذه بجاد فقطعه عضوا ثم حرقه بالنار، فكان قد عرف جرمه فهرب. فأخذته الخيل، فضموه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزي أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق، فجعلت الشيماء بنت الحارث تقول: إني والله أخت صاحبكم! ولا يصدقوها، وأخذها طائفة من الأنصار، وكانوا أشد الناس على هوازن، حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا محمد، إني أختك! قال النبي صلى الله عليه وسلم: وما علامة ذلك؟ فأرته عضة وقالت: عضضتنيها وأنا متور كتك بوادي السرر، ونحن يومئذ برعائهم، أبوك أبي وأمك أمي، قد نازعتك الثدى؛ وتذكر يا رسول الله... فعرف رسول الله عليه وسلم العلامة، فوثب قائماً فبسط. رداءه، ثم قال: اجلسى عليه! ورحب بها، ودمعت عيناه، وسألها عن أمه وأبيه من الرضاعة، فأخبرته بموتهما في الزمان. ثم قال: إن أحببت فأقيمى عندنا محبة مكرمة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك رجعت إلى قومك. قالت: أرجع إلى قومي. وأسلمت فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبدٍ وجارية، أحدهم يقال له: مكحول، فزوجوه الجارية.
قال عبد الصمد: أخبرني أبي أنه أدرك نسلها في بنى سعد؛ ورجعت الشيماء المنزلها وكلمها النسوة في بجادٍ، فرجعتن إليه فكلمته أنه يهبه لها ويعفو عنه. ففعل ثم أمر لها ببعيرٍ أو بعيرين، وسألها: من بقي منهم؟ فأخبرته بأختها وأخيها وبعمها أبي برقان، وأخبرته بقومٍ سألها عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجعي إلى الجعرافنة تكونين مع قومك، فإني أمضي إلى الطائف. فرجعت إلى الجعرانة، وأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم با لجعرانه فأعطاها نعماً وشاء لها ، ولمن بقي من أهل بيتها.
قالوا: ولما انهز الناس أتوا الطائف، وعسكر عسكر بأوطاس؛ وتجه بعضهم نو نخلة ولم يكن فيمن توجه إلى نخلة إلا بنو عنزة من ثقيف. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً تتبع من سلك نخلة، ولم تتبع من سلك الثنايا. ويدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سمال بن عوف بن امرئ القيس من بني سليم دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه كان في شجار له، فإذا هو رجل فأناخ به، وهو شيخ كبير ابن ستين ومائة سنة، فإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام. قال الفتى: ما أريد إلى غبره ممن هو على مثل دينه. قال له دريد: من أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمى. قال: فضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. قال دريد: بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفي من وراء الرحل في الشجار فاضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. قال دريد: بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفي من وراء الرحل في الشجار فاضرب به. وارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ، فإني كنت كذلك أقتل الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة،فرب يومٍ قد منعت فيه نساءك! زعمت بنو سليم أن ربيعة لما ضربه تكشف للموت عجانه، وبطون فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل. فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت: والله لقد أعتق أمهاتٍ لك ثلاثاً في غداةٍ واحدة، وجز ناصية أبيك. قال الفتى: لم أشعر.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أبا عامر الأشعري في آثار من توجه إلى أوطاس، وعقد له لواءً، فكان معه في ذلك البعث سلمة بن الأكوع، فكان يحدث يقول: لما ا - هزمت هوزان عسكروا بأوطاس عسكراً عظيماً، تفرق منهم من تفرق، وقتل من قتل، وأسر من أسر؛ فانتهينا إلى عسكرهم فإذا هم ممتنعون، فبرز رجل فقال: من يبارز؟ فبرز له أبو عامر، فقال: اللهم اشهد! فقتله أبو عامر حتى قتل تسعة كذلك، فلما كان التاسع برز له رجل معلم ينحب للقتال، وبرز له أبو عامر فقتله، فلما كان العاشر برز رجل معلم بعمامةٍ صفراء، فقال أبو عامر: اللهم أشهد! قال: يقول الرجل: اللهم لا تشهد! فضرب أبا عامر فأثبته، فاحتملناه وبه رمق، واستخلف أبا موسى الأشعري، وأخبر أبو عامر أبا موسى أن قاتله صاحب العمامة الصفراء. قالوا: وأوصى أبو عامر إلى أبي موسى، ودفع إليه الراية وقال: ادفع فرسى وسلاحي للنبي صلى الله عليه وسلم.
فقالتلهم أبو موسى حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبي عامر، وجاء بسلاحه وتركته وفرسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أبا عامر أمرني بذلك، وقال: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين ثم قال: اللهم اغفر لأبي عامر، واجعله من أعلى أمتي في الجنة! وأمر بتركة أبي عامر فدفعت إلى ابنه. قال: فقالك أبو موسى: يا رسول الله، إني أعلم أن الله قد غفر لأبي عامر، قتل شهيداً، فادع الله لي. فقال: اللهم اغفر لأبي موسى، واجعله في أعلى أمتي! فيرون أن ذلك وقع يوم الحكمين.
قالوا: واستحر القتل في بني نصر، ثم في بني رباب، فجعل عبد الله بن قيس - وكان مسلماً - يقول: يا رسول الله، هلكت بنور باب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، اجبر مصيبتهم! ووقف مالك بن عوف على ثنيةٍ من الثنايا معه فرسان من أصحابه، فقال. قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم تلتم أخراكم. وقال: انظروا ماذا ترون. قالوا: نرى قوماً على خيولهم واضعين رماحهم على آذان خيولهم. قال: أولئك إخوانكم بنو سليم، وليس عليكم منهم بأس، انظروا ماذا ترون. قالوا: نرى رجالاً أكفالاً، قد وضعوا رماحهم على أكفال خيولهم. قال: تلك الخزرج، وليس عليكم منهم بأس، وهم سالكون طريق إخوانهم. قال: انظروا ماذا ترون. قالوا: نرى أقواماً كأنهم الأصنام على الخيل. قال: تلك كعب بن لؤي، وهم مقاتلوكم! فلما غشيته الخيل نزل عن فرسه مخافة أن يؤسر، ثم طفق يلوذ بالشجر حتى سلك في يسوم، جبلً بأعلى نخلة، فأعجزهم هارباً. ويقال: قال: ما ترون؟ قالوا: نرى رجلاً بين رجلين معلماً بعصابة صفراء، يخبط برجليه في الأرض، واضعاً رمحه على عاتقه. قال: ذلك ابن صفية، الزبير، وايم الله ليزيلنكم عن مكانكم! فلما بصر بهم الزبير حمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية، وهرب مالك بن عوف فتحصن في قصرٍ بلية. ويقال: دخل حصن ثقيف.
وذكر للنب صلى الله عليه وسلم أن رجلاً كان بحنين قاتل قتالاً شديداً حتى اشتد به الجراح. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أهل النار! فارتاب المسلمون من ذلك، ووقع في أنفسهم ما الله به عليم، فلما اشتد به الجراح أخذ مشقصاً من كنانته فانتحر به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي: ألا لا دخل الجنة إلا مؤمن، وأن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر.
قالوا: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم تجمع، ونادى منادية: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يغل! وجعل الناس غنائمهم في موضعٍ حتى استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. وكان عقيل بن أبي طالب دخل على زوجته وسيفه متلطخ دماً، فقالت: إني قد علمت أنك قد قاتلت المشركين، فماذا أصبت من غنائمهم؟ قال: هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك، فدفعها إليها، وهي فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة. فسمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أصاب شيئاً من المغنم فليرده. فرجع عقيل فقال: والله ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت. فألقاها في الغنائم.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن عمارة بن غزية، أن عبد الله بن زيد المازني أخذ يومئذ قوساً فرمى عليها المشركين، ثم ردها في المغنم. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكبة شعرٍ ، فقال: يا رسول الله، اضرب بهذه! أي دعها لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك. وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، هذا الحبل وجدته حيث انهزم العدو فأشد به على رحلي؟ قال: نصيبي منه لك، وكيف تصنع بأنصباء المسلمين؟ قال: فحدثني مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله ابن المغيرة بن أبي بردة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الناس عام حنين في قبائلهم يدعو لهم، وأنه نزل قبيلةً من القبائل وجدوا في برذعة رجل منهم عقداً من جزع غلولاً، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليهم كما يكبر على الميت.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن عمارة بن غزية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في رجل رجلٍ من أصحابه غلولاً فبكته ولامه، ولم يعاقبه ولم يخرق رحله.
قالوا: وأصاب المسلمون سبايا يومئذٍ، فكانوا يكرهون يقعوا عليهن ولهن أزواج، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لا توطأ حامل من السبي حتى تضع حملها، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن العزل، فقال: ليس من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئاً لم يمنعه شئ.
قالوا: و صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوماً بحنين، ثم تنحى إلى شجرةٍ فجلس إليها، فقام إليه عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي - وهو يومئذ سيد قريش - ومعه الأقرع بن حابس، يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف، فاختصما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعيينة يقول: يا رسول الله، لا والله لا أدعه حتى أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأخذ الدية؟ ويأبى عيينة، فارتفعت الأصوات وكثر اللغط. إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له مكيتل، قصير، مجتمع، عليه شكة كاملة، ودرقة في يده، فقال: يا رسول الله، إني لم أجد لما فعل هذا شبهاً في غرة الإسلام غنماً وردت فرميت أولاها، فنفرت أخراها، فاسنن اليوم وغير غدا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: تقبلون الدية خمسين في فورنا هذا وخمسين إذا رجعنا المدينة! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقوم حتى قبلوها. ومحلم بن جثامة القاتل في طرف الناس، فلم يزالوا يرونه ويقولون: آبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغر لك. فقام محلم فقام رجل طويل، آدم، محمر بالحناء، عليه حلة، قد كان تهيأ فيها للقتل للقصاص، حتى جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان، فقال: يا رسول الله، قد كان من الأمر الذي بلغكم، فإني أتوب إلى الله تعإلى فاستغفر لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ فال: أنا محلم بن جثامة. قال: فتلته بسلاحك في غرة الإسلام! اللهم، لا تغفر لمحلم! بصوتٍ عالٍ يتفقد به الناس. قال، فقال: يا رسول الله، قد كان الذي بلغك، وإني أتوب إلى الله تعإلى فاستغفر لي. فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوتٍ عالٍ يتفقد به الناس: اللهم، لا تغفر لمحلم! حتى كانت الثالثة. قال: فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم! فقام من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقى دمعه بفض ردائه. وكان ضمرة السلمى يحدث وكان قد حضر ذلك اليوم، قال: كنا نتحدث فيما بيننا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه باستغفارٍ له. ولكنه أراد أن يعلم قدر الدم عند الله.
قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن الحسن البصري، قال: لما مات محلم بن جثامة دفنه قومه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، فطرحوه بين صخرتين فأكلته السباع.
قال: حدثني محمد بن حرب، عن محمد بن الوليد، عن لقمان ابن عامر، عن سويد بن جبلة، قال: لما حضر محلم بن جثامة الموت أتاه عوف بن مالك الأشجعي، فقالك يا محلم، استطعت أن ترجع إلينا فتخبرنا بما رأيتم ولقيتم. قالك فأتاه بعد ذلك بعامٍ أو ما شاء الله، فقال له: كيف أنتم يا محلم؟ قال: نحن بخير، وجدنا ربا رحيماً غفر لنا. قال عوف: أكلكم؟ قال: كلنا غير الأحراض. قال: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع. والله، ما من شئ استنفقه الله لي إلا وقد وفيت أجره، حتى إن قطة لأهلي هلكت فلقد أعطيت أجرها. قال عوف: فقلت: والله إن تصديق روياي أن أنطلق إلى أهل محلم فأسألهم عن هذه القطة. فأتاهم فقال: عوف يستأذن! فأذنوا، فلما دخل قالوا: والله، ما كنت لنا بزوار! قال: كيف أنتم؟ قالوا: نحن بخير، وهذه بنت أخيك أمست وليس بها بأس، وهي هذه! لما بها، ولقد فارقنا أبوها الليلة. قال: قلت: هل هلكت لكم قطة؟ قالوا: نعم. قال: فهل حستموها يا عوف؟ قال: لقد أنبئت نبأها فاحتسبوها.
قال: حدثني أسامة بن زيد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بحنين بتخلل الرجال يسأل عن منزل خالد بن الوليد، وأنا معه؛ فأتى يومئذ بشاب فأمر من عنده فضربوه بما كان في أيديهم وحثا عليه التراب.
تسمية من استشهد بحنينأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن، وهو من الأنصار من بالحارث بن الخزرج، وموالي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن الأنصار سراقة بن الحارث، ورقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان، وأبو عامر الأشعري أصيب بأوطاس؛ فجميع من قتل أربعة.
شأن غزوة الطائف
قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وابن موهب، وعبد الله بن يزيد، وعبد الصمد بن محمد السعدي، ومحمد بن عبد الله عن الزهري، وأسامة بن زيد، وأبو معشر، وعبد الرحمن بن عدب العزيز، ومحمد بن يحيى بن سهل؛ وغير هؤلاء ممن لم يسم، أهل ثقات؛ فكل قد حدثني بهذا الحديث بطائفة، وقد كتبت كل ما حدثوني به.
قالوا: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً وأراد المسير إلى الطائف. بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين صنعم عمرو بن حممة يهدمه، وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف. فقال الطفيل: يا رسول الله أوصني. قال: أفش السلام، وابذل الطعام، واستحي من الله كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله. إذا أسأت فأحسن؛ " إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكيرين " . قال: فخرج الطفيل سريعاص إلى قومه، فهدم ذا الكفين، وجعل يحشو النار في جوفه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حشوت النار في فؤادكا
وأسرع معه قومه، انحدر معه أربعمائة من قومه، فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد مقامه بأربعة أيام، فقدم بدبابة ومنجنيق، وقال: يا معشر الأزد، من يحمل رايتكم؟ قال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية. قال: أصبتم! وهو النعمان بن الزرافة اللهبي.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من حنين على مقدمته، وأخذ من يسلك به من الأدلأء إلى الطائف، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسبي أن يوجهوا إلى الجعرانة، واستعمل عليهم بديل بن ورقاء الخزاعي، وأمر بالغنائم فسيقت إلى الجعرانة والرثة. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكانت ثقيف قد رموا حصنهم، ودخلوا فيه منهزمين من أوطاس وأغلقوه عليهم - وهو حصن على مدينتهم له بابان - وصنعوا الصنائع للقتال وتهيأوا، وأدخلوا حصنهم ما يصلحهم لسنةٍ لو حصروا. الصنائع للقتال وتهيأوا، وأدخلوا حصنهم ما يصلحهم لسنةٍ لو حصروا. وكان عروة بن مسعود، وغيلان بن سلمة بجرش يتعلمان عمل الدبابات والمنجنيق، يريدان أن ينصباه على حصن الطائف، وكانا لم يحضرا حنيناً ولا حصار الطائف. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوطاس، فسلك على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من ليه، فابتنى بها مسجداً فصلى فيه.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمر، قال: حدثني من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني بيده مسجداً بلية، وأصحابه ينقلون إليه الحجارة. وأتى يومئذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجلٍ من بني ليث قتل رجلاً من هذيل، فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الليثي إلى الهذليين فقدموه فضربوا عنقه، فكان أول دم أقيد به في الإسلام. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بلية، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قصراً فسأل عنه، فقالوا: هذا قصر مالك بن عوف. فقال: أين مالك؟ قالوا: هو يراك الآن في حصن ثقيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من في قصره؟ قالوا: ما فيه أحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرقوه! فحرق من حين العصر إلى أن غابت الشمس. ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر أبي أحيحة سعيد بن العاص، وهو عند ماله وهو قبر مشرف. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لعن الله صاحب هذا القبر، فإنه كان ممن يحاد الله ورسولهّ! فقال ابناه عمرو بن سعيد، وأبان بن عسيد، وهما مع ورسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن الله أبا قحافة، فإنه كان لا يقرى الضيف ولا يمنع الضيم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سب الأموات يؤذي الأحياء، فإن شئتم المشركين فعموا. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من لية فسلك طريقاً يقال لها: الضيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هي اليسرى. ثم خرج على نخب حتى نزل تحت سدرة الصادرة عند مال رجلٍ من ثقيف، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج وإما أن نحرق عليك حائطك! فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحراق حائطه وما فيه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريباً من حصن الطائف، فيضرب عسكره هناك، فساعة حل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاءه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، إنا قد دنونا من الحصن، فإن كان عن أمرٍ سلمنا، وإن كان عن الرأي فالتأخر عن صحنهم. قال: فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد طلع علينا من نبلهم ساعة نزلنا شئ الله به عليم، كأنه رجل من جراد - وترسنا لهم - حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحباب فقال: انظر مكاناً مرتفعاً مستأخراً عن القوم. فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف خارجٍ من القرية، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتحولوا. قال عمرو بن أمية: إني لأنظر إلى بي محجن يرمى من فوق الحصن بعشرته بمعابل كأنها الرماح، ما يسقط . له سهم. قالوا: وارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسجد الطائف اليوم. قالوا: وأخرجوا رأة ساحرةً، فاستقبلت الجيش بعورتها - وذلك حين نزل النبي وأخرجوا رأة ساحرةً، فاستقبلت الجيش بعورتها - وذلك حين نزل النبي صلى الله عليه وسلم - يدفعون بذلك عن حصنهم. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكمة، ومعه أمرتن من نسائه أم سلمة، وزينب، وثار المسلمون إلى الحصن، فخرج قدام الناس يزيد بن زمعة بن الأسود على فرسه، فسأل ثقيفاً الأمان يريد يكلمهم، فأعطوه الأمان، فلما دنا منهم رموه بالنبل فقتلوه. وخرج هذيل بن أبي الصلت أخو أمية بن أبي الصلت من باب الحصن، ولا يرى أن عنده أحداً. ويقال: إن يعقوب بن زمعة كمن له فأسره حتى أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قاتل أخي يا رسول الله! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى به إليه، فأمكنه النبي صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب لزوجتيه قبتين، ثم كان يصلى بين القبتين حصار الطائف كله. وقد اختلف علينا في حصاره، فقال قائل: ثمانية عشر يوماً؛ وقال قائل: تسعة عشر يوماً؛ وقال قائل: خمسة عشر يوماً، وكل ذلك وهو يصلى بين القبتين ركعتين. فلما أسلمت ثقيف، بني أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك على مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد، وكانت فيه سارية لا تطلع الشمس عليها من الدهر إلا يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرارٍ، فكانوا يرون أن ذلك تسبيح.
فنصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق. قال: وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال له سلمان الفارسي: يا رسول الله، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فإنا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون وتنصب علينا، فنصيب من عدونا ويصيب منا بالمنجنيق، على الحصون وتنصب علينا، فنصيب من عدونا ويصيب منا بالمنجنيق، وإن لم يكن المنجنيق طال الثواء. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمل منجنيقاً بيده، فنصبه على حصن الطائف. ويقال: قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودبابتين؛ ويقال: الطفيل بن عمرو؛ ويقال: خالد بن سعيد قدم من جرش بمنجنيق ودبابتين. ونثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسك شقتين - حسك من عيدان - حول حصنهم، ودخل المسلمون تحت الدبابة، وهي من جلود البقر - وذلك يوم يقال له الشدخة.
قيل: وما الشدخة؟ قال: ما قتل من المسلمين - دخلوا تحتها، ثم زحفوا بها إلى جدار الحصن ليحفروه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فحرقت الدبابة، فخرج المسلمون من تحتها وقد أصيب منهم من أصيب، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتل منهم رجال.
قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قطع حبلة فله حبلة في الجنة. فقال عيينة بن بدر ليعلى بن مرة الثقفي: أقطع ذلك أجري؟ ففعل يعلى بن مرة، ثم جاءه فقال يعلى: نعم فقال عيينة: لك النار! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عيينة أولى بالنار من يعلى. وجعل المسلمون يقطعون قطعاً ذريعاً.
قال: ونادى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سفيان بن عبد الله الثقفي: والله لنقطعن أبا عيالك. فقال سفيان: إذا لا تذهبون بالماء والتراب! فلما رأى القطع نادى سفيان: يا محمد، لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإما أن تدعها لله وللرحم كما زعمت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أدعها لله وللرحم. فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدث أبو وجزة السعدي قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع كل رجلٍ من أعنابهم خمس حبلات. فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه عم لم يؤكل ثمره. فأمر أن يقطعوا ما أكلوا ثمره. قال: فجعلوا يقطعون الأول فالأول.
قال: وتقدم أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة إلى ثقيف فقالا: أمنوا حتى نتكلم. فأمنوهما، فدعوا نساء من قريش ليخرجن إليهما - وهم يخافون السباء - منهم ابنة أبي سفيان بن حرب، كانت تحت عروة بن مسعود، لها منه ولد، داود بن عروة، والفراسية بنت سويد بن عمرو بن ثعلبة - كانت عند قارب ابن الأسود، لها منه عبد الرحمن بن قارب - وامرأة أخرى. فلما أبين عليهما قال لهما بنو الأسود بن مسعود: يا أبا سفيان ويا مغيرة، ألا ندلكما على خير مما جئتما له! إن مال بني الأسود حيث قد علمتما - وكان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الطائف نازلاً بوادٍ يقال له العمق - ليس بالطائف مال أبعد رشاءً، ولا أشد مونةً منه، ولا أبعد عمارةً - وإن محمد إن قطعه لم يعمر أبداً، فكلماه ليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم، فإن بيننا وبينه من القرابة مالا يجهل. فكلماه فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رجل يقوم على الحصن فيقول: روحوا رعاء الشاء! روحوا جلابيب محمد! روحوا عبيد محمد! أترونا نتباءس على أحبل أصبتموها من كرومنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، روح مروحاً إلى النار! قال سعد بن أبي وقاص: فأهوى له بسهمٍ فوقع في نحره، وهوى من الحصن ميتا. قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد سر بذلك. قال: وجعلوا يقولون على حصنهم: هذا قبر أبي رغال. قال لعلى عليه السلام: أتدري يا علي ما هذا؟ قبر أبي رغال، وهم قوم ثمود!
قالوا: وكان أبو محجن على رأس الحصن يرمي بمعابل والمسلمون يرامونهم، فقال رجل من زينة لصاحبة: إن افتتحنا الطائف فعليك بنساء يرامونهم، فقال رجل من زينة لصاحبة: إن افتتحنا الطائف فعليك بنساء بني قارب، فإنهن أجمل إن أمسكت، وأكثر فداءً إن فاديت. فسمعه المغيرة بن شعبة فقال: يا أخا مزينة! قال: لبيك! قال: ارم ذلك الرجل. يعني أبا محجن، وإنما غار المغيرة حين ذكر المزنى النساء، وعرف أن أبا محجن رجل رامٍ لا يسقط. له سهم، فرماه المزني فلم يصنع سهمه شيئاً، وفوق له أبو محجن بمعبلة، فتقع في نحره فقتلته. قال، يقول المغيرة: مني الرجال بنساء بني قارب. قال له عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، وهو يسمع كلامه أوله وآخره: قاتلك الله يا مغيرة! أنت والله عرضته لهذا، وإن كان الله تبارك وتعإلى قد ساق له الشهادة. أنت والله منافق، والله لولا الإسلام ما تركتك حتى أغتالك! وجعل المزني يقول: إن معنا الداهية وما نشعر؛ والله لا أكلمك أبداً! قال: فبلغت عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وهو في عمل عمر بالكوفة - فقال: والله، ما كان المغيرة بأهل أن يولى وهذا فعله! قال: ورمى أبو محجن يوم الطائف عبد الله بن أبي بكر الصديق رضى الله عنه بسهم، فدمل الجرح حتى بغى، وخرج السهم من الجرح فأمسكه أبو بكر عنده. وتوفي عبد الله بن أبي بكر في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وقدم أبو محجن في خلافة أبي بكرن فذكر أبو بكر المشقص فأخرجه، فقال: يا أبا محجن، هل تعرف هذا المشقص؟ قال: وكيف لا أعرفه وأنا بريت قدحه وريشته ورصفته، ورميت به ابنك؟ فالحمد لله الذي أكرمه على يدي ولم يهنى على يديه.
ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر! فخرج من الحصن رجال. بضعة عشر رجلاً: أبو بكرة، والمنبعث. وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث حين أسلم، وكان عبداً للكلدة الثفقي من بني مالك، ثم صار حليفاً في بني أمية فنكحوا إليه وأنكحوه؛ ووردان، عبد لعبد الله بن ربيعة الثقفي جد الفرات بن زيد بن وردان؛ ويحنس النبال، وكان عبداً ليسار ابن مالك، فأسلم سيده بعد، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إليه ولاءه؛ فهم أعبد الطائف - وإبراهيم بن جابر، كان عبداً لخرشة الثقفي؛ ويسار، عبد لعثمان بن عبد الله لم يعقب؛ وأبو بكرة نفيع بن مسروح، وكان للحارث بن كالدة، وإنما كنى بأبي بكرة أنه نزل في بكرةٍ من الحصن؛ ونافع أبو السائب، عبد لغيلان بن سلمة، فأسلم غيلان بعد، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إليه ولاءه؛ ومرزوق غلام لعثمان، لا عقب له. كل هؤلاء أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل رجلٍ منهم إلى رجلٍ من المسلمين يمونه ويحمله، فكان أبو بكرة إلى عمرو بن العاص، وكان الأزرق إلى خالد ابن سعيد، وكان وردان إلى أبان بن سعيد، وكان يحنس النبال إلى عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وكان يسار بن مالك إلى سعد بن عبادة، وإبراهيم ابن جابر إلى اسيد بن الحضير، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرئوهم القرآن ويعلموهم السنن. فلما أسلمت ثقيف تكلمت أشرافهم في هؤلاء المعتقين، فيهم الحارث بن كلدة، يردوهم في الرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك عتقاء الله، لا سبيل إليهم! وبلغ ذلك من أهل الطائف مشقة شديدة، واغتاظوا على غلمانهم.
قالوا: وقال عيينة: يا رسول الله، ايذن لي حتى آتى حصن الطائف فأكلمهم. فأذن له، فجاءه فقال: أدنوا منكم وأنا آمن؟ قالوا: نعم. وعرفه أبو محجن فقال: ادن. فدنا. فقال: ادخل. عليهم الحصن، فقال: قداءكم أبي وأمي! والله لقد سرني ما رأيت منكم، والله لو أن في العرب أحداً غيركم! والله ما لاقى محمد مثلكم قط.، ولقد مل المقام قاثبتوا في حصنكم؛ فإن حصنكم حصين، وسلاحكم كثير، وماءكم واتن، لا تخافون قطعه! قال: فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: فإنا كرهنا دخوله، وخشينا أن يخبر محمداً بخللٍ إن رآه فينا أو في حصننا. قال أبو محجن: أنا كنت أعرف له، ليس منا أحد أشد على محمد منه وإن كان معه. فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما قلت لهم؟ قال: قلت ادخلوا في الإسلام، والله لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا، فخذوا لأنفسكم أماناً، قد نزل بساحة أهل الحصون قبلكم؛ والنضير، وقريظة، وخيبر أهل الحلقة والعدة والآطام. فخذلتهم ما استطعت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت عنه، حتى إذا فرغ من حديثه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت! قلت لهم كذا وكذا! للذي قال. قال عيينة: أستغفر الله! فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ، دعني أقدمه فأضرب عنقه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. ويقال: إن أبا بكر رضي الله عنه أغلظ له يومذٍ وقال: ويحك يا عيينة! إنما أنت أبداً توضع في الباطل؛ كم لا منك من يوم بني النضير، وقريظة، وخيبر، تجلب علينا وتقاتلنا بسيفك، ثم أسلمت كما زعمت فتحرض علينا عدونا! قال: أستغفر الله يا أبا بكر وأتوب إليه، لا أعود أبداً! قالوا: وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، يقال له: ماتع، وآخر يقال له: هيت. وكان ماتع يكون في بيوته، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفطن لشئ من أمر النساء مما يفطن له الرجال، ولا يرى أن له في ذلك إربة؛ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخالد بن الوليد، ويقال لعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة: إن افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف غداً فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وإذا جلست تثنت، وإذا تكلمت تغنت، وإذا اضطجعت تمنت، وبين رجليها مثل الإناء المكفوء، مع ثغر كأنه الأقحوان، كما قال الخطيم:
بين شكول النساء خلقتها ... نصب فلا جبلة ولا قضف
تغترق الطرف وهي لاهية ... كأنما شف وجهها نزف
فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه فقال: ألا أرى ذا الخبيث يفطن للجمال إذا خرجت إلى العقيق! والحيل لا يمسك لما أسمع! وقال: لا يدخلن على نساء عبد المطلب! ويقال: قال: لا يدخلن على أحد من نسائكم! وغربهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحمى، فشكيا الحاجة، فإذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان ثم يرجعان إلى مكانهما، إلى أتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلا مع الناس. فلما ولى أبو بكر رضي الله عنه قال: أخرجكما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو ر وأدخلكما؟ اخرجا إلى موضعكما! فأخرجه إلى موضعهما، فلما قتل عمر دخلا مع الناس.
قالوا: قال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وهو على حصن الطائف: يا عبيد محمد، إنكم والله ما لا قيم أحداً يحسن قتالكم غيرنا؛ تقيمون ما أقمتم بشر محبس، ثم تنصرفون لم تدركوا شيئاً مما تريدون؛ نحن قسى وأبونا قسا، والله لا نسلم ما حيينا، وقد بنينا طائفاً حصيناً! فناداه عمر: يا ابن حبيب، والله لنقطعن عليك معاشك حتى تخرج من حجرك هذا، إنما أنت ثعلب في حجرٍ يوشك أن يخرج.
فقال أبو محجن: إن قطعتم يا بان الخطاب حبلات عنب، فإن في الماء والتراب ما يعيد ذلك. فقال عمر: لا تقدر أن تخرج إلى ماء ولا تراب؛ لن نبرح عن باب جحرك حتى تموت! قال: يقول أبو بكر: يا عمر لا تقل هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في فتح الطائف. فقال عمر: وهل قال لك هذا رسول الله؟ فقال: نعم. فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه سلم فقال: لم يؤذن لك يا رسول الله في فتحها؟ قال: لا.
وجاءت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص السلمية، وهي امرأة عثمان بن مظعون، فقالت: يا رسول الله. أعطني إن فتح الله عليك حلى الفارعة بنت الخزاعي، أو بادية بنت غيلان - وكانتا من أجمل نساء ثقيف. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة؟ قال: فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، حدثت خولة ما حدثتني أنك قلته؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قلته. قال: يا رسول الله، أولم يؤذن لك فيهم؟ قال: لا.قال: أفلا أؤذن في الناس بالرحيل! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فأذن عمر بالرحيل، فجعل المسلمون يتكلمون، يمشى بعضهم إلى بعض، فقالوا: ننصرف ولا نفتح الطائف! لا نبرح حتى يفتح الله علينا؛ والله إنهم لأذل وأقل من لا قينا؛ قد لقينا جمع مكة وجمع هوازان، ففرق الله تلك الجموع! وإنما هؤلاء ثعلب في جحر، لو حصرناهم لماتوا في حصنهم هذا! وكثر القول بينهم والاختلاف، فمشوا إلى أبي بكر فتكلموا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: الله ورسوله أعلم، والأمر ينزل عليه من السماء. فكلموا عمر فأبى وقال: قد رأينا الحديبية، ودخلنى في الحديبية من الشك ما لا يعلمه إلا الله، وراجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بكلامٍ ليت أني لم أفعل، وأن أهلي ومالي ذهبا! ثم كانت الخيرة لنا من الله فيما صنع، فلم يكن فتح كان خيراً للناس من صلح الحديبية - بلا سيف، دخل فيه من، أهل الإسلام مثل من كان دخل - من يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم كتب الكتاب. فاتهموا الرأي، والخبرة فيما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن أراجعه في شئ من ذلك الأمر أبداً! والأمر أمر الله، وهو يوحي إلى نبيه ما يشاء! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لأبي بكر: إني رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبداً، فنقرها ديك فأهراق ما فيها. قال أبو بكر رضي الله عنه: ما أظن أن تدرك منهم يا رسول الله يومك هذا ما تريد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا لا أرى ذلك.
قال: حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رياح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما مضت خمس عشرة ليلة من حصارهم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن الديل فقال: يا نوفل ما تقول؟ أو ترى. فقال نوفل: يا رسول الله، ثعلب في جحرٍ، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك شيئاً. قال أبو هريرة: ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتحها. قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وأذن في الناس بالرحيل. قال: فجعل الناس يضجون من ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاغدوا على القتال. فغدوا فأصابت المسلمين جراحات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون إن شاء الله! فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك. فلما استقل الناس لوجههم نادى سعد بن عبيد بن أسيد بن عمرو ابن علاج الثقفي قال: ألا إن الحي مقيم. قال: يقول عيينة بن حصن: أجل والله، مجدة كرام! فقال عمرو بن العاص: قاتلك الله، تمدح قوماً مشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئت تنصره؟ فقال: إني والله ما جئت معكم أقاتل ثقيفاً، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب جارية من ثقيف فأطأها لعلها تلد لي رجلاً، فإن ثقيفاً قوم مباركون. فأخبر عمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقالته، فتبسم صلى الله عليه وسلم ثم قال: هذا الحمق المطاع! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين أرادوا أن يرتحلوا: قولوا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! فلما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا آئبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون! ولما ظعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف قيل: يا رسول الله، ادع الله على ثقيفٍ.قال: اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم!
تسمية من استشهد بالطائفمن بني أمية: سعيد بن أمية، وعرفطة بن الحباب بن حبيب بن عبد مناف بن سعد بن الحارث بن كنانة بن خزيمة بن مازن بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن امرئ القيس، حليف لهم.
ومن بني أسد: يزيد بن زمعة بن الأسود، جمح به فرسه - وكان يقال له: الجناح - إلى حصن الطائف فقتلوه. ويقال: قال لهم: أمنوني حتى أكلمكم. فأمنوه ثم رموه بالنبل حتى قتلوه.
ومن بني تيم: عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة، رمى بسهم فلم يزل منه جريحاً، فمات بالمدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن بني مخزوم: عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، رمى من الحصن.
ومن بني عدي: عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزى، حليف لهم.
ومن بني سهم: السائب بن الحارث بن قيس، وأخوه عبد الله بن الحارث.
ومن بني سعد بن ليث: جليحة بن عبد الله بن محارب بن الضيحان انب ناشب بن سعد بن ليث.
ومن الأنصار: ثابت بن الجذع - واسم الجذع ثعلبة - والحارث بن سهل بن أبي صعصعة، والمنذر بن عبد الله بن نوفل. فذلك اثنا عشر رجلاً.
شأن مسير النبي إلى الجعرانة
على عشرة أميال من مكةقالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف فأخذ على دحنا ثم على قرن المنازل، ثم على نخلة حتى خرج إلى الجعرانة، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير وأبو رهم الغفاري إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقةٍ له، وفي رجليه نعلان له غليظتان، إذ زحمت ناقته ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقع حرف نعله على ساقه فأوجعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجعتني، أخر رجلك! وقرع رجله بالسوط. قال: فأخذني من آمري ما تقدم وما تأخر، وخشيت أن ينزل في القرآن لعظيم ما صنعت؛ فلما أصبحنا با لجعران، خرجت أرعى الظهر وما هو يومي، فرقاً أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبني، فلما روحت الركاب سألت فقالوا: طلبك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئته وأنا أترقب فقال: إنك أوجعتني برجلك فقرعتك بالسوط، فخذ هذه الغنم عوضاً من ضربتي. قال أبو رهم: فرضاه عني كان أحب إلى من الدنيا وما فيها.
وكان عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره وهو يحادثني، فجعلت ناقتي تلصق بناقته، وكانت ناقتي ناقة شهمة، فجعلت أريد أن أنحيها فلا تطاوعني، فلصقت بناقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصيبت رجله فقال: أخ! أوجعتني! فرفع رجله من الغرز كأنها جمارة، ودفع رجلى بمحجنٍ في يده. فمكث ساعة لا يتحدث، فو الله ما نزلت حتى ظننت أن سينزل في عذاب. قال: فلما نزلنا قلت لأصحابي: إني أرعى لكم! ولم يكن ذلك يوم رعيتي، فلما أرحت الظهر عليهم قلت: هل جاء أحد يبغيني؟ فقالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يبغيك. فقلت في نفسي: هي والله هي! قلت: من جاء؟ قالوا: رجل من الأنصار. قال: فكان أكره إلي، وذلك أن الأنصار كانت فيهم علينا غلطة. قال: ثم جاء بعد رجل من قريش يبتغيني. قال: فخرجت خائفاً حتى واجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يبتسم في وجهي وقال: أوجعتك بمحجنى البالاحة. ثم قال: خذ هذه القطعة من الغنم. قال: فأخذتها فوجدتها ثمانين شاة ضائنة.
وكان أبو زرعة الجهني يقول: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يركب من قرن راحلته القصواء وطئت له على يديها، والزمام في يدي مطوى، فركب على الرحل وناولته الزمام، ودرت من خلفه فخلف الناقة بالسوط، كل ذلك يصيبني، فالتفت إلى فقال: أصابك لا سوط؟ قلت: نعم بأبي وأمي! قال: فلما نزل الجعرانة إذا ربضة من الغنم ناحية من الغنائم، فسأل عنها صاحب الغنائم فخبره عنها بشئ لا أحفظه، ثم صاح: أين أبو زرعة؟ قال: قلت: ها أنا ذا! قال: خذ هذه الغنم بالذي أصابك من السوط أمس. قال: فعددتها فوجدتها عشرين ومائة رأس. قال: فتأثلت بها مالاً. لمالي بعينه مصدقاً، قال: وأقبل بريدة فلحق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدق يا رسول الله، هذا من قومي، شريف ينزل با لصفاح.
قال: فما أقدمك إلى نخلة؟ قال: هي أمرع من الصفاح اليوم.
ثم قال: نحن على ظهر كما ترى، فاحقنا بالجعرانة، قال: فخرج يعدو عراض ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا رسول الله، فأسوق الغنم معي إلى الجعرانة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسقها، ولكن تقدم علينا الجعرانة فنعطيك غنماً أخرى إن شاء الله! قال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا في عطن الإبل، أفأصلى فيه؟ قال: لا. قال: فتدركني وأنا في مراح الغنم، أفأصلى فيه؟ قال: نعم. قال: يا رسول الله، ربما تباعد منا الماء ومع الرجل زوجته فيدنو منها؟ قال: نعم، ويتيمم. قال: يا رسول الله، وتكون فينا الحائض، قال: تتيمم. قال: فلحق النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة فأعطاه مائة شاةٍ.
قالوا: وجعلت الأعراب في طريقه يسألونه، وكثروا عليه حتى اضطروه إلى سمرةٍ، فخطفت رداءه فنزعته عن مثل شقة القمر، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أعطوني ردائي! أعطوني ردائي! لو كان عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً! ثم لما كان عند القسم قال: أدوا الخياط والمخيط، وإياكم والغلول فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة! ثم أخذ وبرة من جنب بعير فقال: والله ما يحلى لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.
قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، والسبي والغنائم بها محبوسة، وقد اتخذ السبي حظائر يستظلون بها من الشمس، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلك الحظائر سأل عنها فقالوا: يا رسول الله، هذا سبي هوزان استظلوا من الشمس. وكان السبي ستة آلاف، وكانت الإبل أربعة وعشرين ألف بعير، وكانت الغنم لا يدرى عددها، قد قالوا أربعين ألفاً وأقل وأكثر، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسر بن سفيان الخزاعي يقدم مكة فيشتري للسبي ثياباً يكسوها، ثياب المعقد، فلا يخرج المرء منهم إلا كاسياً، فاشترى بسر كسوة فكسا السبي كلهم، واستأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبي، وقد كان فرق منه، وأعطى رجالاً؛ عبد الرحمن بن عوف كانت عنده امرأة منهن قد وطئها بالملك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهبها له بحنين فردها إلى الجعرانة حتى حاضت فوطئها، وأعطى صفوان ابن أمية أخرى، وأعطى علي بن أبي طالب عليه السلام جاريةً يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة، وأعطى عثمان بن عفان جارية يقال لها: زينب بنت حيان بن عمرو، فوطئها عثمان فكرهته، ولم يكن على وطئ. وأعطى عمر بن الخطاب جاريةً، فأعطاها عمر ابنه عبد الله بن عمر، فبعث بها ابن عمر إلى أخواله بمكة بني جمح ليصلحوا منها حتى يطوف بالبيت ثم يأتيهم، وكانت جارية وضيئةً معجبة. قال عبد الله بن عمر: فقدمت مكة فطفت بالتبيت ثم يأتيهم، وكانت جارية وضيئة معجبة. قال عبد الله بن عمر: فقدمت مكة فطفت بالبيت، فخرجت من المسجد وأنا أريد الجارية أن أصيبها، وأرى الناس يشتدون فقلت: ما لكم؟ قالوا: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء هوزان وأبناءها. قال: قلت: تلك صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها! فذهبوا فأخذوها. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبير بن مطعم جارية من سبي هوازن فلم توطأ. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله جارية فوطئها طلحة. وأعطى سعد بن أبي وقاص جارية، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح جارية فوطئها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام جاريةً؛ وهذا كله بحنين. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة أقام يتربص أن يقدم عليه وفدهم، وبدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس.؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غنم فضة كثير؛ أربعة آلاف أو قية، فجمعت الغنائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو سفيان بن حرب وبين يديه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو سفيان بن حرب وبين يديه الفضة، فقال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطني من هذا المال يا رسول الله! قال: يا بلال، زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني معاوية، يا رسول الله! قال: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: إنك الكريم، فداك أبي وأمي! ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً! وأعطى في بني أسد.
قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، قالا: حدثنا حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنينٍ مائة من الإبل فأعطانيها، ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حكيم ابن حزام، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذ بأشراف نفسٍ لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول! قال: فكان حكيم يقول: والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً! فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعوه إلى عطائه فيأبى يأخذه، فيقول عمر: أيها الناس، إني أشهدكم على حكيم أني أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه. قال: حدثنا ابن أبي الزناد قال: أخذ حكيم المائة الأولى ثم ترك.
وفي بني عبد الدار: النضير، وهو أخو النضر بن الحارث بن كلدة، مائة من الإبل. وفي بني زهرة: أسيد بن حارثة حليف لهم، مائة من الإبل. وأعطى العلاء بن جارية خمسين بعيراً، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيراً. وقد رأيت عبد الله بن جعفر ينكر أن يكون أخذ مخرمة في ذلك، وقال: ما سمعت أحداً من أهلي يذكر أنه أعطى شيئاً. ومن بني مخزوم: الحارث بن هشام مائة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل. وأعطى في بني جمح صفوان بن أمية مائة بعير، ويقال إنه طاف مع النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يتصفح الغنائم إذ مر بشعبٍ مما أفاء الله عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء. فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحدٍ قط إلا نبي، وأشهد أنك رسول الله! وأعطى قيس بن عدي مائة من الإبل، وأعطى عثمان ابن وهب خمسين من الإبل. وفي بني عامر بن لؤي أعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائةً من الإبل، وأعطى هشام بن عمر خمسين من الإبل. وأعطى في العرب الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل. وأعطى عيينة بن بدر الفزارى مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل. وأعطى العباس بن مرداس السلمى أربعاً من الإبل، فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في شعر قاله:
كانت نهاباً تلافيتها ... بكرى على القوم في الأجرع
وحثى الجنود لكي يدلجوا ... إذا هجع القوم لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فرفع أبو بكر رضي الله عنه أبياته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: أنت الذي تقول " أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة " ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس هكذا! قال، قال: كيف؟ قال: فأنشده أبو بكر كنا قال عباس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سواء، ما يضرك بدأت بالأقرع أم عيينة! فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي، ما أنت بشاعرٍ ولا راويةٍ، ولا ينبغي لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا لسانه عني. فأعطوه مائة من الإبل.
ويقال خمسين من الإبل، ففزع منها أناس، وقالوا: أمر بعباس يمثل به. وقد اختلف علينا فيما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الناس.
إبراهيم ويعقوب بن عتبة، قالا: كانت العطايا فارعة من الغنائم.
قال: حدثني موسى بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كانت من الخمس. فأثبت القولين أنها من الخمس.
قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائةً وتركت جعيل بن سراقة الضمري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني تأ لفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ثوب بلال فضة يقبضها للناس على ما أراه الله، فأتاه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر: يا رسول الله، ايذان لي أن أضرب عنقه! قال: دعه، إن له أصحاباً! يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر الرامي في قذذه فلا يرى شيئاً، ثم ينظر في نصله فلا يرى شيئاً، ثم ينظر في رصافه فلا يرى شيئاً، قد سبق الفرث والدم، يخرجون على فرقةٍ من المسلمين، رأيتهم إن فيهم رجلاً أسود، إحدى يديه مثل ثدي المرآة أو كبضعةٍ تدردر. فكان أبو سعيد يقول: أشهد لسمعت عليا يحدث هذا الحديث.
قال عبد الله بن مسعود: سمعت رجلاً من المنافقين يومئذ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي تلك العطايا، وهو يقول: إنها العطايا ما يراد بها وجه الله! قلت: أما والله لأبلغن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت. فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتغير لونه حتى ندمت على ما صنعته، فوددت أني لم أخبره، ثم قال: يرحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر! وكان المتكلم بهذا معتب بن قشير العمري. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم؛ لكل رجلٍ أربع من الإبل أو أربعون شاة، فإن كان فارساً أخذ اثنى عشرة من الإبل، أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرسٍ واحد لم يسهم له.
ذكر وفد هوازنقالوا: فقدم وفد هوازان، وكان في الوفد عم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، قال يومئذ: يا رسول الله،إنما في هذه الحظائر من كان يكفلك من عماتك وخالاتك وحواضنك، وقد حضناك في حجورنا،وأرضعناك بثدينا، ولقد رأيتك مرضعاً فما رأيت مرضعاً خيراً منك، ورأيتك فطيماً فما رأيت فطيماً خيراً منك، ثم رأيتك شاباً فما رأيت شاباً خيراً منك، وقد تكاملت فيك خلال الخير، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك، فامنن علينا من الله عليك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسم السبي، وجرت فيهم السهمان. وقدم عليه أربعة عشر رجلاً من هوزان مسلمين، وجاءوا بإسلام من وراءهم من قومهم، فكان رأس القوم والمتكلم أبو صرد زهير بن صرد، فقال: يا رسول الله، إنا أهلك وعشيرتك، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك. يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر وللنعمان بن المنذر، ثم نزلا منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفهما وعائدتهما، وأنت خير المكفولين. ويقال: إنه قال يومئذ - أبو صرد: إنما في هذه الحظائر أخواتك وعماتك وبنات عماتك وخالاتك وبنات خالاتك، وأبعدهن قريب منك. يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، إنهن حضنك في حجورهن، وأرضعنك بثديهن، وتوركنك على أوراكهن، وأنت خير المكفولين! وقال:
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
أمنن على نسوةٍ قد عاقها قدر ... ممزق شملها في دهرها غير
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك مملوءة من محضها الدرر
اللائي إذ كنت طفلاً كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وماتذر
ألا تداركها نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حتى حين يختبر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر آلاء وإن قدمت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحسن الحديث أصدقه، وعندي من ترون من المسلمين؛ فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا، وما كنا نعدل بالأحساب شيئاً، فرد علينا أبناءنا ونساءنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسال لكم الناس؛ وإذا صليت الظهر بالناس فقولوا: إنا لنشتشفع برسول اله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله! فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس. فلما صلى الله عليه وسلم الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال المهاجرون: فما كان لنا فهو لرسول الله! وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله! قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميمٍ فلا! وقال عيينة بن حصن: أما أنا وفزارة فلا! وقال عباس بن مرداس السلمى: أما أنا وبنو سليم فلا! قالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله! فقال العباس: وهنتموني! ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً فقال: إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بهم فخيرتهم بين النساء والأبناء والأموال. فلم يعدلوا بالنساء والأبناء، فمن كان عنده منهن شئ فطابت نفسه أن يرده فليرسل، ومن أبى منكم وتمسك بحقه فليرد عليهم، وليكن فرضاً علينا ست فرائض من أول ما يفي الله به علينا! قالوا: يا رسول الله، رضينا وسلمنا! قال: فمروا عرفاءكم أن يدفعوا ذلك إلينا حتى نعلم. فكان زيد بن ثابت يطوف على الأنصار يسألهم: هل سلموا ورضوا؟ فخبروه أنهم سلموا ورضوا، ولم يتخلف رجل واحد. وبعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المهاجرين يسألهم عن ذلك، فلم يتخلف منهم رجل واحد. وكان أبو رهم الغفاري يطوف على قبائل العرب، ثم جمعوا العرفاء، واجتمع الأمناء الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتفقوا على قول واحد، تسليمهم ورضاهم، ودفع ما كان في أيديهم من السبي. فكانت المرأة التي عند عبد الرحمن بن عوف قد خيرت تقيم أو ترجع إلى قومها، فاختارت قومها فردت إليهم. والتي عند علي وعثمان وطلحة وصفوان بن أمية وابن عمر، رجعن إلى قومهن. وأما إلى عند سعد بن أبي وقاص فاختارت سعداً ولها منه ولد.
وكان عيينة قد خيروه في السبي فأخذ رأساً منهم، نظر إلى عجوز كبيرة فقال: هذه أم الحي! لعلهم أن يغلوا بفدائها، فإنه عسى أن يكون لها في الحي نسب! فجاء ابنها إلىعيينة فقال: هل لك في مائة من الإبل؟ قال: لا. فرجع عنه وتركه ساعةً، فجعلت العجوز تقول لابنها: ما أربك في نقد مائة ناقة؟ اتركه، فما أسرع ما يتركنى بغير فداء! فلما سمعها عيينة قال: ما رأيت كاليوم خدعة! والله ما أنا من هذه إلا في غرورٍ ولا جرم، والله لأباعدن أثرك مني! قال: ثم مر به ابنها فقالك هل لك في العجوز فيما دعوتني إليه؟ قال ابنها: لا أزيدك على خمسين. قال عيينة: لا أفعل. قال: فلبث ساعة فمر به مرةً أخرى وهو معرض عنه. قال عيينة: هل لك في العجوز في الذي بذلت لي؟ قال الفتى: لا أزيدك على خمس وعشرين فريضة، هذا الذي أقوى عليه. قال عيينة: والله لا أفعل، بعد مائة فريضةٍ خمسة وعشرون! فلما تخوف عيينة أن يتفرق الناس ويرتحلون جاءه عيينة فقال: هل لك إلى ما دعوتني إليه؟ قال الفتى: هل لك إلى عشر فرائض أعطيكها؟ قال عيينة: والله لا أفعل! فلما رحل الناس ناداه عيينة: هل لك إلى ما دعوتني إليه إن شئت؟ قال الفتى: أرسلها وأحملك. قال: لا والله، مالي بحملك حاجة. قال: وأقبل عيينة على نفسه لائماً لها، ويقول: ما رأيت كاليوم أمراً. قال الفتى: أنت صنعت هذا بنفسك، عمدت إلى عجوز كبيرةٍ، والله ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد، ولا صاحبها بواجد، فأخذتها من بين من ترى. فقالعيينة: خذها لا بارك الله لك فيها، ولا حاجة لي فيها! قال، يقول الفتى:
يا عيينة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كسا السبي فأخطأها من بينهم بالكسوة، فما أنت كاسيها ثوباً؟ قال: لا والله، ما ذلك لها عندي! قال: لا تفعل! فما فارقه حتى أخذ منه شمل ثوب، ثن ولى الفتى وهو يقول: إنك لغير بصير بالفرص! وشكا عيينة إلى الأقرع ما لقى، فقال الأقرع: إنك والله ما أخذتها بكراً غريرة، ولا نصفاً وثيرة، ولا عجوزاً أصيلة؛ عمدت إلى أحوج شيخ في هوزان فسبيت امرأته. قال عيينة: هو ذاك.
وتمسكت بنو تميم مع الأقرع بالسبي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء ست فرائض، ثلاث حقاقٍ وثلاث جذاع. وكان معاذ بن جبل يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لو كان ثابتاً على أحدٍ من العرب ولاء أو رق لثبت اليوم، ولكن إنما هو إسار وفدية. وكان أبو حذيفة العدوى على مقاسم المغنم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للوفد: ما فعل مالك؟ قالوا: يا رسول الله، هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أنه إن كان يأتي مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائةً من الإبل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحبس أهل مالك بمكة عند عمتهم أم عبد الله بنت أبي أمية. فقال الوفد: يا رسول الله، أولئك سادتنا وأحبتنا إلينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أريد بهم الخير. فوقف مال مالك فلم يجر فيه السهم، فلما بلغ مالك بن عوف الخبر، وما صنع في قومه، وما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أهله وماله موقوف، وقد خاف مالك ثقيفاً على نفسه أن يعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ما قال فيحبسونه، أمر براحلته فقدمت حتى وضعت بدحنا، وأمر بفرسٍ له فأتى به ليلاً، فخرج من الحصن فجلس على فرسه ليلاً فركضه حتى أتى دحنا، فركب على بعيره فلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدركه قد ركب من الجعرانة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه. ويقال: لحقه بمكة، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه ومن تلك القبائل حول الطائف من هوزان وفهم؛ فكان قد ضوى إليه قوم مسلمون، وعقد له لواءً، فكان يقاتل بهم من كان على الشرك، ويغير بهم على ثقيف، يقاتلهم بهم، ولا يخرج لثقيف سرح إلا أغار عليه. وقد رجع حين رجع وقد سرح الناس مواشيهم، وأمنوا فيما يرون حيث انصرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يقدر على سرح إلا أخذه، ولا على رجلٍ إلا قتله، فكان قد بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالخمس مما يغير به، مرةً مائة بعيرٍ ومرةً ألف شاة، ولقد أغار على سرح لأهل الطائف فاستاق لهم ألف شاة في غداة واحدة. فقال في ذلك أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي:
تهاب الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بنو سلمة
وأتانا مالك بهم ... ناقضاً للعهد والحرمة
وأتونا في منازلنا ... ولقد كانوا أولي نقمه
فقال مالك بن عوف:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها ... بالمشرفي وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر في مرصد
قالوا: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شئ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت القالة حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا! إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك غضباً شديداً، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يقول في قومك؟ قال: وما يقولون يا رسول الله؟ قال: يقولون أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنا نعلم من أين هذا! إن كان من قبل الله صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه. فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال سعد: يا رسول الله، ما أنا إلا كأحدهم، وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة. فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له جاءه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يعرف في وجهه، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم؛ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل! قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وماذا نجيبك يا رسول الله، ولرسول الله المن والفضل؟ قال: أما والله لو شئتم قلم فصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك! وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شئ من الدنيا تألفت به قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؛ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ول سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسكلت شعب الأنصار. أكتب لكن بالبحرين كتاباً من بعدي تكون لكم خاصةً دون الناس! فهو يومئذ أفضل ما فتح الله عليه من الأنصار.
قالوا: وما حاجتنا بالدنيا بعدك يا رسول الله؟ قال: إما لا فسترون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار! قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا يا رسول الله حظا وقسماً. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا.
وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليالٍ خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنى عشرة بقيت من ذي العقدة ليلاً؛ فأحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى، وكان مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالجعرانة - فأما هذا المسجد الأدنى، فبناه رجل من قريش واتخذ ذلك الحائط. عنده - ولم يجز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلا محرماً، فلم يزل يلبي حتى استلم الركن. ويقال: لما نظر إلى البيت قطع التلبية، فلما أتى أناخ راحلته على باب بني شيبة، ودخل وطاف ثلاثة أشواط يرمل من الحجر إلى الحجر؛ ثم خرج فطاف بين الصفا والمروة على راحلته، حتى إذا انتهى إلى المروة في الطواف السابع حلق رآسه. عند المروة، حلقه أبو هند عبد بني بياضة، ويقال حلقه خراش بن أمية، ولم يسق رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هدياً. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة من ليلة فكان كبائتٍ بها، فلما رجع إلى الجعرانة خرج يوم الخميس فسلك في وادي الجعرانة، وسلك معه حتى خرج على سرف، ثم أخذ الطريق حتى انتهى إلى مر الظهران.
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين. وقال له: أتدري على من أستعملك؟ قال: الله ورسوله أعلم! قال: استعملتك على أهل الله، بلغ عني أربعاً: لا يصلح شرطان في بيعٍ، ولا بيع وسلف، ولا بيع ما لم يضمن، ولا تأكل ربح ما ليس عندك! وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد تلك السنة - وهي سنة ثمان - بغير تأمير من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج، ولكنه أمير مكة، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم؛ ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الحج. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة لثلاثٍ بقين من ذي القعدة.
قدوم عروة بن مسعود.قالوا: كان عروة بن مسعود حين حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بجرش، يتعلم عمل الدبابات والمنجنيق، ثم رجع إلى الطائف بعد أن ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمل الدبابات والنجنيق والعرادات وأعد ذلك حتى قذف الله عز وجل في قلبه الإسلام، فقدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم قال: يا رسول الله ايذن لي فآتي قومي فأدعوهم إلى الإسلام، فوالله ما رأيت مثل هذا الدين ذهب عنه ذاهب، فأقدم على أصحابي وقومي بخير قادم، وما قدم وافد قط. على قومه إلا من قدم بمثل ما قدمت به، وقد سبقت يا رسول الله في مواطن كثيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذا قاتلوك! قال: يا رسول الله، لأنا أحب إليهم من أبكار أولادهم. ثم استأذنه الثانية فأعاد عليه الكلام الأول، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذا قاتلوك. قال: يا رسول الله، لو وجدوني نائماً ما أيقظوني.
واستأذنه الثالثة فقال: إن شئت فاخرج! فخرج إلى الطائف فسار إليها خمساً، فقدم على قومه عشاء فدخل منزله، فأنكر قومه دهوله منزله قبل أن يأتي الربة: ثم قالوا: السفر قد حصره. فجاءوا منزله فحيوه تحية الشرك، فكان أول ما أنكر عليهم تحية الشرك، فقال: عليكم تحية أهل الجنة. ثم دعاهم إلى الإسلام، وقال: يا قوم، أتتهمونني؟ ألستم تعلمون أني وأوسطكم نسباً، وأكثركم مالاً، وأعزكم نفراً؟ فما حملني على الإسلام إلا أني رأيت أمراً لا يذهب عنه ذاهب! فاقبلوا نصحي، ولا تستعصوني، فوالله ما قدم وافد على قومٍ بأفضل مما قدمت به عليكم! فاتهموه، واستغشوه، وقالوا: قد واللات وقع في انفسنا حيث لم تقرب الربة، ولم تحلق رأسك عندها أنك قد صبوت! فآذوه، ونالوا منه، وحلم عليهم؛ فخرجوا من عنده يأتمرون كيف يصنعون به، حتى إذا طلع الفجر أوفى على غرفةٍ له فأذن بالصلاة، فرماه رجل من رهطه من الأحلاف يقال له وهب بن جابر - ويقال: رماه أوس بن عوف من بني مالك، وهذا أثبت عندنا - وكان عروة رجلاً من الأحلاف، فأصاب أكحله فلم يرقأ دمه، وحشد قومه في السلاح، وجمع الآخرون وتجايشوا، فلما رأى عروة ما يصنعون قال: لا تقتتلوا في، فإني قد تصدقت بدمي على صاحبه ليصلح بذلك بينكم، فهي كرامة الله أكرمني الله بها، الشهادة ساقها الله إلى؛ أشهد أن محمداً رسول الله، خبرني عنكم هذا أنكم تقتلونني! ثم قال لرهطه: ادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم. قال: فدفنوه معهم. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله فقال: مثل عروة مثل صاحب ياسين. دعا قومه إلى الله عز وجل فقتلوه. ويقال: إن عروة لم يقدم المدينة. وإنما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فأسلم ثم انصرف، والقول الأول أثبت عندنا. فلما قتل عروة، قال ابنه أبو مليح بن عروة بن مسعود، وابن أخيه قارب بن الأسود بن مسعود لأهل الطائف: لا نجامعكم على شئ أبداً، وقد قتلتم عروة. ثم لحقا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: توليا من شئما. قالا: نتولى الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وخالكما أبو سفيان بن حرب، حالفاه. ففعلا، ونزلا على المغيرة بن شعبة، وأقاما بالمدينة حتى قدم وفد ثقيف في رمضان سنة تسع.
قالوا: وكان عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان من أدهى العرب، وأنكرهم، وكان مهاجراً لعبد يا ليل بن عمرو، وتمشى إلى عبد يا ليل ظهراً حتى دخل داره، ثم أرسل إليه: إن عمراً بقول: اخرج إلى! فلما جاء الرسول إلى عبد يا ليل قال: ويحك! عمرو أرسلك؟ قال: نعم، وهو واقف في الدار. وكان عبد يا ليل يجب صلحه ويكره أن يمشي إليه، فقال عبد يا ليل: إن هذا لشئ ما كنت أظنه بعمرو، وما هو إلا عن أمرٍ قد حدث وكان أمراً سوءًا، ما لم يكن من ناحية محمد. فخرج إليه عبد يا ليل، فلما رآه رحب به، فقال عمرو: قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها وليست لكم بهم طاقة؛ وإنما نحن في حصننا هذا، ما بقاؤنا فيه وهذه أطرافنا تصاب! ولا نأمن من أحدٍ منا يخرج شبراً واحداً من حصننا هذا، فانظروا في أمركم! قال عبد يا ليل: قد والله رأيت ما رأيت، فما استطعت أن أتقدم بالذي تقدمت به، وإن الحزم والرأي الذي في يديك. قال: فائتمرت ثقيف بينها، واقل بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟ فائتمروا بينهم، فأرادوا أن يرسلوا رسولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما خرج عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فابعثوا رأسكم عبد يا ليل. فكلموا عبد يا ليل بن عمرو بن حبيب، وكان سن عروة، فأبى أن يفعل، وخشى إن رجع إلى قومه مسلماً أن يصنع به إذا رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع بعروة حتى يبعثوا معه رجالاً. فأجمعوا على رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فبعثوا مع بد يا ليل الحكن بن عمرو بن وهب بن معتب، وشر حبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب، وهؤلاء الأحلاف رهط. عروة. وبعثوا في بني مالك: عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونمير بن خرشة، ستة. ويقال: إن الوفد كانوا بضعة عشر رجلاً، فيهم سفيان بن عبد الله.
قالوا: فخرج بهم عبد يا ليل وهو رأسهم وصاحب أمرهم، ولكنه أحب إن رجعوا أن يسهل كل رجل رهطه، فلما كانوا بوادي قناة مما يلي دار حرض نزلوا، فيجدون نشراً من الإبل، فقال قائلهم: لو سألنا صاحب الإبل لمن الإبل، وخبرنا من خبر محمد. فبعثوا عثمان بن أبي العاص، فإذا هو المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت رعيتها نوباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم سلم عليهم وترك الركاب عندهم، وخرج يشتد، يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم: حتى انتهى إلى باب المسجد فيلقى أبا بكر الصديق رضي الله عنه فأخبره خبر قومه، فقال أبو بكر: أقسمت بالله عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم حتى أكون أنا أخبره - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرهم ببعض الذكر - فأبشره بمقدمهم. فدخل أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره والمغيرة على الباب، ثم خرج إلى المغيرة فدخل المغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسرور، فقال: يا رسول الله، قد قدم قومي يريدون الدخول في الإسلام بأن تشرط لهم شروطاً، ويكتبون كتاباص على من وراءهم من قومهم وبلادهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسألون شرطاً ولا كتاباً أعطيته أحداً من الناس إلا أعطيتهم، فبشرهم! فخرج المغيرة راجعاً فخبرهم ما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرهم وعلمهم كيف يحيون روسل الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما أمرهم المغيرة فعلوا إلا التحية، فإنهم قالوا: أنعم صباحاً! ودخلوا المسجد فقال الناس: يا رسول الله، يدخلون المسجد وهم مشركون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأرض لا ينجسها شئ! وقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله، أنزل قومي على، وأكرمهم، فإني حديث الجرم فيهم. فقال: لا آمنك أن تكرم قومك.
وكان جرم المغيرة أنه خرج في ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك، فقدموا على المقوقس فحيا بني مالك وجفاه وهو من الأحلاف، وكان معه رجلان الشريد ودمون؛ فلما كانوا بسباق وضعوا شراباً لهم فسقاهم المغيرة بيده، فجعل يخفف عن نفسه وينزع لبني مالك حتى ثملوا وناموا، فلما ناموا وثب إليهم ليقتلهم، فشرد الشريد منهم ليلتئذ؛ وفرق دمون أن يكون هذا سكراً منه فتغيب، فجعل يصيح: يا دمون! يا دمون! فلا دمون، فجعل يبكي، وخاف أن يكون قتله بعضهم، فطلع دمون فقال: أين كنت؟ قال: تغيبت حين رأيتك صنعت ببني مالك ما صنعت، فخشيت أن يكون ذلك ذهاب عقل. قال: إنما صنعت ذلك بهم لما حياهم المقوقس وجفاني. ثم أقبل بأموالهم حتى أتبى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخمس هذه الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسنا نغدر، ولا ينبغي لنا الغدر! فأبى أن يخمس أموالهم.
وأنزل المغيرة ثقيفاً في داره بالبقيع، وهي خطة خطها النبي صلى الله عليه وسلم له، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخيمات ثلاثٍ من جريدٍ فضربت في المسجد، فكانوا يسمعون القراءة بالليل وتهجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينظرون إلى الصفوف في الصلاة المكتوبة، ويرجعون إلى منزل المغيرة فيطعمون ويتوضأون، ويكونون فيه ما أرادوا، وهم يختلفون إلى المسجد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجري لهم الضيافة في دار المغيرة، وكانوا يسمعون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمعونه يذكر نفسه، فقالوا: أمرنا بالتشهد أنه رسول الله ولا يشهد به في خطبته! فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم قال: أنا أول من شهد أني رسول الله! ثم قام فخطب وشهد أنه رسول الله في خطبته. فمكثوا على هذا أياماً يغدون على النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم، يخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم، وكان أصغرهم، فكان إذا رجعوا إليه وناموا بالهاجرة خرج فعمد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، وأسلم سراً من أصحابه، فاختلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم مراراً حتى فقه، وسمع القرآن، وقرأ من القرآن سوراً من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً عمد إلى أبي بكر رضي الله عنه فسأله واستقرأه - ويقال: إذا وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائماً جاء إلى أبي بن كعب فاستقرأه - فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام قبل الوفد القضية، وكم ذلك عثمان من أصحابه، وأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وأحبه. فمكث الوفد أياماً يختلفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له عبد يا ليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى أهلنا وقومنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بين وبينكم! قال عبد يا ليل: أرأيت الزنا؟ فإنا قوم عزاب بغربٍ، لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العزبة. قال: هو مما حرم الله على المسلمين؛ يقول الله تعإلى: " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً " .قال: أرأيت الربا؟ قال: الربا حرام! قال: فإن أموالنا كلها رباً. قال: لكم رءوس أموالكم؛ يقول الله تعإلى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " . قال: أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، لابد لنا منها. قال: فإن الله قد حرمها! ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.. " الآية. قال: فارتفع القوم، وخلا بعضهم ببعض، فقال عبد يا ليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال الثلاث! والله، لا تصبر ثقيف عن الخمر أبداً، ولا عن الزنا أبداً. قال سفيان ابن عبد الله: أبها الرجل، إن يرد الله بها خيراً تصبر عنها! قد كان هؤلاء الذين معه على مثل هذا، فصبروا وتركوا ما كانوا عليه؛ مع أنا نخاف هذا الرجل، قد أوطأ الأرض غلبة ونحن في حصنٍ في ناحية من الأرض، والإسلام حولنا فاش، والله لو قام على حصننا شهراً لمتنا جوعاً؛ وما أرى إلا الإسلام، وأنا أخاف يوماً مثل يوم مكة!
===========
ج6. كتاب المغازي الواقدي
وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتبوا الكتاب، كان خالد هو الذي كتبه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم بالطعام، فلا يأكلون منه شيئاً حتى يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا. قالوا: أرأيت الربة، ما ترى فيها؟ قال: هدمها. قالوا: هيهات! لو تعلم الربة أنا أوضعنا في هدمها قتلت أهلنا. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ويحك يا عبد يا ليل! إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده. قال عبد يا ليل: إنا لم نأتك يا عمر! فأسلموا، وكمل الصلح، وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد. فلما كمل الصلح كلموا النبي صلى الله عليه وسلم يدع الربة ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى. قالوا: سنتين! فأبى. قالوا: سنة! فأبى. قالوا: شهراً واحداً! فأبى أن يوقت لهم وقتاً. وإنما يريدون بترك الربة لما يخافون من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا أبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها. واستعفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكسروا أصنامهم بأيديهم. وقال: أنا آمر أصحابي أن يكسروها. وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في دينٍ لا صلاة فيه. فقالوا: يا محمد، أما الصلاة فسنصلى، وأما الصيام فسنصوم. وتعلموا فرائض الإسلام وشرائعه، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصرموا ما بقي من الشهر، وكان بلال يأتيهم بفطرهم. ويخيل إليهم أن الشمس لم تغب فيقولون: يا بلال، ما غاب الشمس بعد. فيقول بلال: ما جئتكم حتى أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان الوفد يحفظون هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعجيل فطره. وكان بلال يأتيهم بسحورهم، قال: فأسترهم من الفجر، فلما أرادوا الخروج قالوا: يا رسول الله، أمر علينا رجلاً منا يؤمنا. فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وهو أصغرهم، لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرصه على الإسلام. قال عثمان: وكان آخر عهدٍ عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً، وإذا أممت قوما فاقدرهم بأضعفهم، وإذا صليت لنفسك فأنت وذاك. ثم خرج الوفد عامدين إلى الطائف، فلما دنوا من ثقيف قال عبد يا ليل: أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموها القضية، وخرفوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أموراً عظمناها فأبيناها عليه، يسألنا تحريم الزنا والخمر، وأن نبطل أموالنا في الربا، وأن نهدم الربة. وخرجت ثقيف حين دنا الوفد، فلما رآهم الوفد ساروا العنق وقطروا الإبل، وتغشوا بثيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا، فلم يرجعوا بخيرٍ. فلما رأت ثقيف ما في وجوه القوم حزنوا وكربوا، فقال بعضهم: ما جاء وفدكم بخير! ودخل الوفد، فكان أول ما بدأوا به على اللات، فقال القوم حين نزل الوفد إليها، وكانوا كذلك يفعلون، فدخل القوم وهم مسلمون فنظروا فيما خرجوا يدرأون به عن أنفسهم، وقالت ثقيف: كأنهم لم يكن لهم بها عهد ولا برؤيتها! ثم رجع كل واحد منهم إلى أهله، وأتى رجالاً منهم جماعة من ثقيف فسألوهم: ماذا رجعتم به؟ وقد كان والوفد قد استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينالوا منه فرخص لهم، فقالوا: جئناكم من عند رجلٍ فظ غليظ، يأخذ من أمره ما شاء، قد ظهر بالسيف، وأداخ العرب، ودان له الناس، ورعبت منه بنو الأصفر في حصونهم، والناس فيه؛ إما راغب في دينه، وإما خائف من السيف، فعرض علينا أموراً شديدة أعظمناها، فتركناها عليه؛ حرم علينا الزنا، والخمر، والربا، وأن نهدم الربة. فقالت ثقيف: لا نفعل هذا أبداً. فقال الوفد: لعمري قد كرهنا ذلك وأعظمناه، ورأينا أنه لم ينصفنا؛ فأصلحوا سلاحكم، ورموا حصنكم، وانصبوا العرادات عليه والمنجنيق، وأدخلوا طعام سنة أو سنتين في حصنكم، لا يحاصركم أكثر من سنتين، واحفروا خندقاً من وراء حصنكم، وعاجلوا ذلك فإن أمره قد ظل لا نأمنه. فمكثوا بذلك يوماً أو يومين يريدون القتال، ثم أدخل الله تبارك وتعإلى في قلوبهم الرعب فقالوا: ما لنا به طاقة، قد لداخ العرب كلها، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه، واكتبوا بينكم وبينه كتاباً قبل أن يسير إلينا ويبعث الجيوش. فلما رأى الوفد أن قد سلموا بالقضية، ورعبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، ورغبوا في الإسلام، واختاروا الأمن على الخوف، قال الوفد: فإنا قد قاضيناه، وأعطانا ما أحببناه، وشرط لنا ما أردنا،ووجدناه أتقى الناس، وأبر الناس، وأوصل الناس، وأوفى الناس، وأصدق الناس، وأرحم الناس، وقد تركنا من هدم الربة وأبينا أن نهدمها، وقال: أبعث من يهدمها، وهو يبعث من يهدمها. قال: يقول شيخ من ثقيف قد بقي في قلبه من الشرك بعد بقية: فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه؛ إن قدر على هدمها فهو محق ونحن مبطلون، وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعد شئ! فقال عثمان بن العاص: منتك نفسك. الباطل وغرتك الغرور! وما الربة؟ وما تدري الربة من عبدها ومن لم يعبدها؟ كما كانت العزى ما تدري من عبدها ومن لم يعبدها؛ جاءها خالد بن الوليد وحده فهدمها؛ وكذلك إساف، ونائلة، وهبل، ومناة، خرج إليها رجل واحد فهدمها؛ وسواع، خرج إليه رجل واحد فهدمه! فهل امتنع شئ منهم؟ قال الثقفي: إن الربة لا تشبه شيئاً مما ذكرت. قال عثمان: سترى!
وأقام أبو سفيان والمغيرة بن شعبة يومين أو ثلاثة، ثم خرجوا وقد تحكم أبو مليح بن عروة، وقارب بن الأسود، وهما يريدان يسيران مع أبي سفيان، والمغيرة إلى هدم الربة، فقال أبو مليح: يا رسول الله، إن أبي قتل وعليه دين، مائتا مثقال ذهب، فإن رأيت أن تقضيه من حلى الربة فعلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فقال قارب بن الأسود: يا رسول الله، وعن الأسود بن مسعود أبي، فإنه قد ترك ديناً مثل دين عروة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأسود مات وهو كافر. فقال قارب: تصل به قرابة، إنما الدين على وأنا مطلوب به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أفعل. فقضي عن عروة، والأسود، دينهما من مال الطاغية. وخرج أبو سفيان والمغيرة وأصحابهما لهدم الربة، فلما دنوا من الطائف قال لأبي سفيان: تقدم فادخل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان بماله ذي الهرم، ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلاً يهدمونها. فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه: لأضحكنكم اليوم من ثقيف. فأخذ المعول واستوى على رأس الربة ومعه المعول، وقام قومه بنو معتب دونه، معهم السلاح مخافة أن يصاب كما فعل بعمه عروة بن مسعود. وجاء أبو سفيان وهو على ذلك فقال: كلا! زعمت تقدمني أنت إلى الطاغية، تراني لو قمت أهدمها كانت بنو معتب تقوم دوني؟ قال المغيرة: إن القوم قد واضعوهم هذا قبل أن تقدم، فأحبوا الأمن على الخوف. وقد خرج نساء ثقيف حسرا يبكين على الطاغية، والعبيد، والصبيان، والرجال منكشفون، والأبكار خرجن. فلما ضرب المغيرة ضربة بالمعول سقط مغشياً عليه يرتكض، فصاح أهل الطائف صيحة واحدة: كلا! زعمتم أن الربة لا تمتنع؛ بلى والله لتمتنعن! وأقام المغيرة مليا وهو على حاله تلك، ثم استوى جالساً فقال: يا معشر ثقيف، كانت العرب تقول: ما من حي من أحياء العرب أعقل من ثقيف، وما من حي من أحياء العرب أحمق منكم! ويحكم، وما اللات والعزى، وما الربة؟ حجر مثل هذا الحجر، لا يدرى من عبده ومن لم يعبده! ويحكم، أتسمع اللات أو تبصر أو تنفع أو تضر؟ ثم هدمها وهدم الناس معه، فجعل السادن يقول وكانت سدنة اللات من ثقيف بنو العجلان بن عتاب بن مالك، وصاحبها منهم عتاب بن مالك بن كعب ثم بنوه بعده - يقول: سترون إذا انتهى إلى أساسها، يغضب الأساس غضباً يخسف بهم. فلما سمع بذلك المغيرة ولى حفر الأساس حتى بلغ نصف قامة، وانتهى إلى الغبغب خزانتها، وانتزعوا حليتها وكسوتها وما فيها من طيب ومن ذهب أو فضة. قال: تقول عجوز منهم: أسلمها الرضاع، وتركوا المصاع! وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما وجد فيها أبا مليح، وقارباً وناساً، وجعل في سبيل الله وفي السلاح منها، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لثقيف: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي رسول الله إلى المؤمنين؛ إن عضاه وج وصيده لا يعضد، ومن وجد يفعل ذلك يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ محمداً، فإن هذا أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وكتب خالد بن سعيد بأمر النبي الرسول محمد ابن عبد الله. فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع عضاه وج وعن صيده، وكان الرجل يوجد يفعل ذلك فتنزع ثيابه. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمى وج سعد بن أبي وقاص.
بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدقين
قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري، وعبد الله ابن يزيد، عن سعيد بن عمرو، قالا: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة قدم المدينة يوم الجمعة لثلاث ليالٍ بقين من ذي القعدة، فأقام بقية ذي القعدة وذي الحجة، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين، فبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار بصدقتهم، ويقال: كعب بن مالك، وبعث عباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة؛ وبعث رافع بن مكيث في جهينة؛ وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة؛ وبعث الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب؛ وبعث بسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب؛ وبعث ابن اللتبية الأزدي إلى نبي ذبيان؛ وبعث رجلاً من بني سعد بن هذيم على صدقاتهم. فخرج بسر بن سفيان على صدقات بني كعب. ويقال إنما سعى عليهم نعيم بن عبد الله النحام العدوى، فجاء وقد حل بنواحيهم بنو جيهم من بني تميم، وبنو عمروا بن جندب بن العتير بن عمرو بن تميم، فهم يشربون معهم على غديرٍ لهم بذات الأشطاط؛ ويقال: وجدهم على عسفان. ثم أمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة. قال: فحشرت خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستنكرت ذلك بنو تميم وقالوا: ما هذا؟ تؤخذ أموالكم منكم بالباطل! وتجيشوا، وتقلدوا القسي، وشهروا السيوف، فقال الخزاعيون: نحن قوم لدين بدين الإسلام، وهذا من ديننا. قال التميميون: والله لا يصل إلى بعيرٍ منها أبداً! فلما رآهم المصدق هرب منهم وانطلق مولياً وهو يخافهم السيف لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وحنين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر مصدقية أن يأخذوا العفو منهم ويتوقوا كرائم أموالهم، فقدم المصدق على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وقال: يا رسول الله، إنما كنت في ثلاثة نفر، فوثبت خزاعة على التميميين فأخرجوهم من محالهم، وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم؛ ليدخلن علينا بلاء من عداوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنفسكم حيث تعرضون لرسل رسول الله، تردونهم عن صدقات أموالن. فخرجوا راجعين إلى بلادهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟ فانتدب أول الناس عيينة بن حصن الفزاري، فقال: أن والله لهم، أتبع آثارهم ولو بلغوا يبرين حتى آتيك بهم إن شاء الله، فترى فيهم رأيك فيهم رأيك أو يسلموا. فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين فارساً من العرب، ليس فيها مهاجر واحد ولا أنصاري، فكان يسير بالليل ويكمن لهم بالنهار، خرج على ركوبة حتى انتهى إلى العرج، فوجد خبرهم أنهم قد عارضوا إلى أرض بني سليم، فخرج في أثرهم حتى وجدهم قد عدلوا من السقيا يؤمون أرض بني سليم في صحراء، قد حلوا وسرحوا مواشيهم، والبيوت خلوف ليس فيها أحد إلا النساء ونفير، فلما رأوا الجمع ولوا وأخذوا منهم أحد عشر رجلاً، ووجدوا في المحلة من النساء إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً، فحملهم إلى المدينة، فأمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فحبسوا في دار ملة بنت الحارث. فقدم منهم عشرة من رؤسائهم، العطارد بن حاجب بن زرارة، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، والأقرع بن حابس، ورياح بن الحارث ابن مجاشع؛ فدخلوا المسجد قبل الظهر، فلما دخلوا سألوا عن سبيهم فأخبروا بهم فجاءوهم، فبكى الذراري والنساء، فرجعوا حتى دخلوا المسجد ثانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في بيت عائشة، وقد أذن بلال بالظهر بالأذان الأول، والناس ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجلوا خروجه، فنادوا: يا محمد، اخرج إلينا! فقام إليهم بلال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج الآن.؟ فاشتهر أهل المسجد أصواتهم فجعلوا يخفقون بأيديهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا به يكلمونه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بعد إقامة بلال الصلاة مليا، وهم يقولون: أتيناك بخطيبنا وشاعرنا فاسمع منا. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مضى فصلى بالناس الظهر، ثم انصرف إلى بيته فركع ركعتين، ثم خرج فجلس في صحن السمجد، وقدموا عليه وقدموا عطارد ابن حاجب التميمي فخطب فقال: الحمد لله الذي له الفضل عينا، والذي جعلنا ملوكاً، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثرهم مالاً وأكثؤهم
عدداً، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم؟. فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا! ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله. أقول قولي هذا لأن يؤتي بقولٍ هو أفضل من قولنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجب خطيبهم! فقالم ثابت وما كان دري من ذلك بشئ، وما هيأ قبل ذلك ما يقول - فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضي فيها أمره، ووسع كل شئ علمه، فلم يك شئ إلا من فضله. ثم كانمما قدر الله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى لنا من خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأحسنهم زياً، وأصدقهم حديثاً. أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان، فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أصبح الناس وجهاً، وأفضل الناس فعالاً. ثم كنا أول الناس إجابةً حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه،ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس، فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له، فأقاموا الزبر قان بن بدر فقال:داً، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم؟. فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا! ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله. أقول قولي هذا لأن يؤتي بقولٍ هو أفضل من قولنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجب خطيبهم! فقالم ثابت وما كان دري من ذلك بشئ، وما هيأ قبل ذلك ما يقول - فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضي فيها أمره، ووسع كل شئ علمه، فلم يك شئ إلا من فضله. ثم كانمما قدر الله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى لنا من خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأحسنهم زياً، وأصدقهم حديثاً. أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان، فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أصبح الناس وجهاً، وأفضل الناس فعالاً. ثم كنا أول الناس إجابةً حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه،ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس، فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له، فأقاموا الزبر قان بن بدر فقال:
نحن الملوك فلا حي يقاربنا ... فينا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل الخير يتبع
ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا ... من السديف إذا لم يؤنس القزع
وننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجبهم يا حسان بن ثابت! فقام فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد شرعوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهن ما رقعوا
ولا يضنون عن جارٍ بفضلهم ... ولا ينالهم في مطمعٍ طبع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
أكرم بقومٍ رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد ببيشة في أرساغها فدع
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أطرافها خشعوا
خذ منهم ما أتى عفواً إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهم ... سما غريضاً عليه الصاب والسلع
أهدى لهم مدحه قلب يؤازره ... فيما أحب لسان حائك صنع
وأنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جدبا لناس جد القول أو شمعوا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بمنبر، فوضع في المسجد ينشد عليه حسان، وقال: إن الله ليويد حسان بروح القدس ما دافع عن نبيه. وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والمسلمون بمقام ثابت وشعر حسان. وخلا الوفد بعضهم إلى بعض، فقال قائل: تعلمن والله أن هذا الرجل مؤيد مصنوع له، والله لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا، ولهم أحلم منا! وكان ثابت بن قيس من أجهر الناس صوتاً. وأنزل الله تعإلى على نبيه في رفع أصواتهم التميميين ويذكر أنهم نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " إلى قوله: " أكثرهم لا يعقلون " ، يعني تميماً حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم. وكان ثابت حين نزلت هذه الآية لا يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم السبي والأسرى.
وقام عمرو بن الأهتم يومئذ يهجو قيس بن عاصم، كانا جميعاً في الوف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر لهم بجوائز، وكان يجيز الوفد إذا قدموا عليه ويفضل بينهم في العطية على قدر ما يرى، فلما أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل بقي منكم من لم نجزه؟ قالوا: غلام في الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوه نجزه! فقال قيس بن عاصم: إنه غلام لا شرف له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن كان! فإنه وافد وله حق! فقال عمرو بن الأهتم شعراً يريد قيس بن عاصم:
ظلت مفترشاً هلباك تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
إنا وسوددنا عود وسوددكم ... مخلف بمكان العجب والذنب
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب
قال: حدثني ربيعة بن عثما، عن شيخ، أخبره أن امرأة من بني النجار قالت: أنا أنظر إلى الوفد يومئذ يأخذون جوائزهم عند بلال، اثنى عشرة أوقية ونش. قالت: وقد رأيت غلاماً أعطاه يومئذ وهو أصغرهم، أعطى خسم أواقي. قلت: وما النش؟ قالت: نصف أوقية.
بعثة الوليد بن عقبة إلى بني المصطلققالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى صدقات بني المصطلق، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد بمساحاتهم. فلما خرج إليها الوليد وسمعوا به قد دنا منهم، خرج منهم عشرون رجلاً يتلقونه بالجزر والنعم فرحاً به، ولم يروا أحداً يصدق بعيراً قط. ولا شاة، فلما رآهم ولى راجعاً إلى المدينة ولم يقربهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دنا منهم لقوة. معهم السلاح يحولون بينه وبين الصدقة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم. وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر وقالوا: يا رسول الله، سله هل ناطقنا أو كلمنا؟ ونزلت هذه الآية ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه ونعتذر، فأخذه البرحاء فسرى عنه، ونزل عليه: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " الآية فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وأخبرنا بعذرنا وما نزل في صاحبنا، ثم قال: من تحبون أبعث إليكم؟ قالوا: تبعث علينا عباد بن بشر. فقال: يا عباد سر معهم فخذ صدقات أموالهم وتوق كرائم أموالهم. قال: فخرجنا مع عباد يقرئنا القرآن ويعلمنا شرائع الإسلام حتى أنزلناه في وسط بيوتنا، فلم يضيع حقاً ولم يعد بنا الحق. وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام عندنا عشراً، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضياً.
باب شأن سرية قطبة بن عامر إلى خثعمفي صفر سنة تسع
حدثنا ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، قال: حدثنا ابن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلاً إلى حي خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة عليهم، وأن يسير الليل ويكمن النهار، وأن يغذ السير، فخرجوا في عشرة أبعرة بعتقبون عليها، قد غيبوا السلاح، فأخذوا على الفتق حتى انتهوا إلى بطن مسحاء، فأخذوا رجلاً فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر. وخبر هذه السرية داخل في سرية شجاع بن وهب.
سرية بني كلاب أميرها الضحاك بن سفيان الكلابيقال: حدثني رشيد أبو موهوب الكلابي، عن حيان بن أبي سلمى، وعنبسة بن أبي سلمى، وحصين بن عبد الله، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى القرطاء؛ فيهم الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر الكلابي، والأصيد بن سلمة بن قرط بن عبد، حتى لقوهم بالزج زج لاوة، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة بن قرط، وسلمة على فرس له على غدير زج، قدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان، فسبه وسب دينه، فضرب الأصيد عرقوبي فرسه، فلما وقع على عرقوبيه ارتكز سلمة على رمحه في الماء ثم استمسك به حتى جاءه أحدهم فقتله ولم يقتله ابنه. وهذه السرية في شهر ربيع الأول سنة تسع.
قال: حدثني رشيد أبو موهوب، عن جابر بن أبي سلمى، وعنبسة بن أبي سلمى قالا: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حارثة بن عمرو ابن قريط. يدعوهم إلى الإسلام، فأخذوا صحيفته فغسلوها ورقعوا بها است دلوهم، وأبوا أن يجيبوا. فقالت أم حبيب بنت عامر بن خالد ابن عمرو بن قريط. بن عبد بن أبي بكرة، وخاصمتهم في بيت لها فقالت:
أيا أبن عسيد لا تكونن ضحكة ... وإياك واستمرر لهم بمرير
أيا ابن سعيد إنما القوم معشر ... عصوا منذ قام الدين كل أمير
إذا ما أتتهم آية من محمد ... محوها بماء البئر فهي عصير
قالوا: فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهم؟ أذهب الله بعقولهم؟ فهم أهل رعدة. وعجلة وكلام مختلط، وأهل سفه! وكان الذي جاءهم بالكتاب رجل من عرينة يقال له: عبد الله ابن عوسجة، لمستهل شهر ربيع الأول سنة تسع. قال الواقدي: رأيت بعضهم عيباً لا يبين الكلام.
شأن سريةٍ أميرها علقمة بن مجزز المدلجي
في ربيع الآخر سنة تسع قال: حدثني موسى بن محمد، عن أبيه. وإسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن أبيه، زاد أحدهما على صاحبه، قالا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً من الحبشة تراياهم أهل الشعيبة - ساحل بناحية مكة - في مراكب؛ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث علقمة بن مجزر المدلجي في ثلاثمائة رجلٍ حتى انتهى إلى جزيرة في البحر فخاض إليهم فهربوا منه، ثم انصرف. فلما كان ببعض المنازل استأذنه بعض الجيش في الانصراف حيث لم يلقوا كيداً، فأذن لهم وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي - وكانت فيه دعابة - فنزلنا عزمت عليكم ألا تواثبتم في هذه النار! فقام بعض القوم فتحاجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا. إنما كنت أضحك معكم! فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه!
سرية على بن أبي طالب عليه السلام إلى الفلسفي ربيع الآخر سنة تسع قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم بقول لموسى بن عمران بن مناح. وهما جالسان بالبقيع: تعرف سرية الفلس؟ قال موسى: ما سمعت بهذه السرية. قال: فضحك ابن حزم ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام في خمسين ومائة رجل على مائة بعير وخمسين فرساً؛ وليس في السرية إلا أنصارى، فيها وجوه الأوس والخزرج، فاجتنبوا الخيل وعتقبوا على الإبل حتى أغاروا على أحياء من العرب، وسأل عن محلة آل حاتم ثم نزل عليها، فشنوا الغارة مع الفجر، فسبوا حتى ملاؤا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وهدموا الفلس وخربوه، وكان صنماً لطيئ، ثم انصرف راجعاً إلى المدينة.
قال عبد الرحمن بن عبد العزيز: فذكرت هذه السرية لمحمد بن عمر بن علي، فقال: ما أرى ابن حزم زاد على أن ينقل من هذه السرية ولم يأتك بها. قلت: فأت بها أنت! فقالك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الفلس ليهدمه، في مائة وخمسين من الأنصار، ليس فيها مهاجر واحد، ومعهم خمسون فرساً وظهراً، فامتطوا الإبل وجنبوا الخيل، وأمره أن يشن الغرات؛ فخرج بأصحابه، معه راية سوداء ولواء أبيض، معهم القنا والسلاح الظاهر، وقد دفع رايته إلى سهل بن حنيف، ولواءه إلى جبار بن صخر السلمى، وخرج بدليلٍ من بني أسد يقال له: حريث، فسلك بهم على طريق فيد، فلما انتهى بهم إلى موضع قال: بينكم وبين الحي الذي تريدون يوم تام، وإن سرناه بالنهار وطئنا أطرافهم ورعاءهم، فأنذروا الحي فتفرقوا، فلم تصيبوا منهم حاجتكم؛ ولكن نقيم يومنا هذا في موضعنا حتى نمسي، ثم نسري ليلتنا على متون الخيل فنجعلها غارة حتى نصبحهم في عماية الصبح. قالوا: هذا الرأي! فعسكروا وسرحوا الإبل، واصطنعوا، وبعثوا نفراً منهم يتقصون ما حولهم، فبعثوا أبا قتادة، والحباب بن المنذر، وأبا نائلة، فخرجوا على متون خيلٍ لهم يطوفون حول المعسكر، فأصابوا غلاماً أسود فقالوا: ما أنت؟ قال: أطلب بغيي. فأتوا به علياً عليه السلام فقال: ما أنت؟ قال: باغ. قال: فشدوا عليه، فقال: أنا غلام لرجل من طيئ من بني نبهان، أمروني بهذا الموضع، وقالوا: إن رأيت خيل محمد فطر إلينا فأخبرنا، وأنا لا أدرك أسراً. فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم. ثم قلت لا أعجل حتى آتي أصحابي بخبر بينٍ من عددكم وعدد خيلكم وركابكم؛ ولا أخشى ما أصابني، فلكأني كنت مقيداً حتى أخذتني طلائعكم. قال علي عليه السلام: اصدقنا ما وراءك! قال: أوائل الحي على مسيرة ليلة طرادةٍ، تصبحهم الخيل ومغارها حين غدوا. قال علي عليه السلام لأصحابه: ما ترون؟ قال جبار بن صخر: نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا حتى نصبح القوم وهم غارون فنغير عليهم؛ ونخرج بالعبد الأسود ليلاً، ونخلف حريثاً مع العسكر حتى يلحقوا إن شاء الله. قال علي: هذا الرأي! فخرجوا بالعبد الأسود، والخيل تعادا، وهو ردف بعضهم عقبة، ثم ينزل فيردف آخر عقبة، وهو مكتوف، فلما انهار الليل كذب العبد وقال: قد أخطأت الطريق وتركتها ورائي. قال علي عليه السلام: فارجع إلى حيث أخطأت! فرجع ميلاً أو أكثر، ثم قال: أنا علي خطأ. فقال علي عليه السلام: إنا منك على خدعة، ما تريد إلا أن تثنينا عن الحي، قدموه! لتصدقنا أو لنضربن عنقك! قال: فقدم وسل السيف على رأسه، فلما رأى الشر قال: أرأيت إن صدقتكم، أينفعني؟ قالوا: نعم. قال: فإني صنعت ما رأيتم؛ إنه أدركني ما يدرك الناس من الحياء فقلت: أقبلت بالقوم أدلهم على الحي من غير محنةٍ ولا حق فآمنهم، فلما رأيت منكم ما رأيت وخفت أن تقتلوني كان لي عدر، فأنا أحملكم على الطريق. قالوا: اصدقنا. قال: الحي منكم قريب. فخرج معهم حتى انتهى إلى أدنى الحي، فسمعوا نباح الكلاب وحركة النعم في المراح والشاء، فقال: هذه الأصرام وهي على فرسخ. فينظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: فأين آل حاتم؟ قال: هم متوسطو الأصرام. قال القوم بعضهم لبعض: إن أفزعنا الحي تصايحوا وأفزعوا بعضهم بعضاً فتغيب عنا أحزابهم في سواد الليل، ولكن نمهل القوم حتى يطلع الفجر معترضاً فقد قرب طلوعه فنغير؛ فإن أنذر بعضهم بعضاً لم يخف علينا أين يأخذون، وليس عند القوم خيل يهربون عليها ونحن على متون الخيل. قالوا: الرأي ما أشرت به. قال: فلما اعترضوا الفجر أغاروا عليها فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا، واستاقوا الذرية والنساء، وجمعوا النعم والشاء، ولم يخف عليهم أحد تغيب فملأ أيديهم. قالك تقول جارية من الحي وهي ترى العبد الأسود - وكان اسمه. أسلم - وهو موثق: ماله هبل! هذا عمل رسولكم أسلم، لا سلم، وهو جلبهم عليكم، ودلهم على عورتكم! قال: يقول الأسود: أقصرى يا ابنة الأكارم، ما دللتهم حتى قدمت ليضرب عنقي! قال: فعسكر القوم، وعزلوا الأسرى وهم ناحية نفير، وعزلوا الذرية وأصابوا من آل حاتم أخت عدي ونسياتٍ معها، فعزلوهن على حدةٍ، فقال أسلم لعلي عليه السلام: ما تنتظر بإطلاقي؟ فقال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
قال: أنا على دين قومي هؤلاء الأسرى، ما صنعوا صنعت! قال: ألا تراهم موثقين، فنجعلك معهم في رباطك؟ قال: نعم، أنا مع هؤلاء موثقاً أحب إلى من أن أكون مع غيرهم مطلقاً، يصيبني ما أصابهم. فضحك أهل السرية منه، فأوثق وطرح مع الأسرى، وقال: أنا معهم حتى ترون منهم ما أنتم راءون. فقائل يقول له من الأسرى: لا مرحباً بك، أنت جئتنا بهم! وقائل يقول: مرحباً بك وأهلاً، ما كان عليك أكثر مما صنعت! لو أصابنا الذي أصابك لفعلنا الذي فعلت وأشد منه، ثم آسيت بنفسك! وجاء العسكر واجتمعوا، فقربوا الأسرى فعرضوا عليهم الإسلام، فمن أسلم ترك ومن أبى ضربت عنقه، حتى أتوا على الأسود فعرضوا عليه الإسلام، فقال: والله إن الجزع من السيف للؤم، وما من خلود! قال: يقول رجل من الحي ممن أسلم: يا عجباً منك، ألا كان هذا حيث أخذت! فلما قتل من قتل، وسبى من سبى منا، وأسلم منا من أسلم راغباً في الإسلام تقول ما تقول! ويحك، أسلم واتبع دين محمد! قال: فإني أسلم وأتبع دين محمد. فأسلم وترك، وكان يعد فلا يفي حتى كانت الردة، فشهد مع خالد بن الوليد اليمامة فأبلى بلاء حسناً.
قال: وسار علي عليه السلام إلى الفلس فهدمه وخربه؛ ووجد في بيته ثلاثة أسياف، رسوب، والمخذم، وسيفاً يقال له اليماني، وثلاثنة أدراع، وكان عليه ثياب يلبونه إياها. وجمعوا السبي، فاستعمل عليهم أبو قتادة، واستعمل عبد الله بن عتيك السلمى على الماشية والرثة، ثم ساروا حتى نزلوا ركك فاقتسموا السبي والغنائم، وعزل النبي صلى الله عليه وسلم صفيا رسوباً والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر؛ وعزل الخمس، وعزل آل حاتم، فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة.
قال الواقدي: فحدثت هذا الحديث عبد الله بن جعفر الزهري فقال: حدثني ابن أبي عون قال: كان في السبي أخت عدي بن حاتم لم تقسم، فأنزلت دار رملة بنت الحارث. وكان عدي بن حاتم قد هرب حين سمع بحركة علي عليه السلام، وكان له عين بالمدينة فحذره فخرج إلى الشام، وكانت أخت عدي إذا مر النبي صلى الله عليه وسلم تقول: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن علينا من الله عليك! كل ذلك يسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وافدك؟ فتقول: عدي بن حاتم! فيقول: الفار من الله ورسوله؟ حتى يئست. فلما كان يوم الرابع مر النبي صلى الله عليه وسلم فلم تكلم فأشار إليها رجل: قومي فكلميه! فلكمته فأذن لها ووصلها، وسألت عن الرجل الذي أشار إليها فقيل: على، وهو الذي سباكم، أما تعرفينه؟ فقالت: لا والله، ما زلت مدينة طرف ثوبي على وجهي وطرف ردائي على برقعي من يوم أسرت حتى دخلت هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه.
غزوة تبوكقرى على أي القاسم بن أبي حية قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع قال: حدثنا الواقدي قال: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن ابن سعيد، وعبد الله بن جعفر الزهري، ومحمد بن يحيى، وابن أبي حبيبة وربيعة بن عثما، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن أبي قتادة، وعبد الله ابن عبد الرحمن الجمحي، وعمر بن سليمان بن أبي حثمة، وموسى بن محمد بن إبراهيم، وعبد الحميد بن جعفر، وأبو معشر، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، وابن أبي سبرة، وأيوب بن النعمان؛ فكل قد حدثني بطائفةٍ من حديث تبوك، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء قد حدثني ممن لم أسم، ثقات، وقد كتبت كل ما قد حدثوني.
قالوا: كانت الساقطة - وهم الأنباط - يقدمون المدينة بالدرمك والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإسلام، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم؛ لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط، فقدمت قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرةً بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم، وجذام، وغسان، وعاملة. وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص. ولم يكن ذلك، إنما ذلك شئ قيل لهم فقالوه. ولم يكن عدون أخوف عند المسلمين منهم، وذلك لما عاينوا منهم - إذ كانوا يقدمون عليهم تجاراً - من العدد والعدة والكراع. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغزو غزوةً إلا ورى بغيرها، لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍ ديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل غزي وعدداً كثيراً، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة غزوهم، وأخبر بالوجه الذي يريد. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى غزوهم، فبعث إلى أسلم بريدة ابن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع. وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه أن يطلبهم ببلادهم، وخرج أبو واقد الليثي في قومه، وخرج أبو الجعد الضمري في قومه بالساحل، وبعث رافع بن مكيث، وجندب بن مكيث في جهينة؛ وبعث نعيم بن مسعود في أشجع؛ وبعث في بني كعب بن عمرو بديل بن ورقاء، وعمرو بن سالم، وبشر بن سفيان؛ وبعث في سليم عدة، منهم العباس بن مرداس. وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على القتال والجهاد، ورغبهم فيه، وأمرهم بالصدقة، فحملوا صدقات كثيرة، فكان أول من حمل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت شيئاً؟ قال: الله ورسوله أعلم! وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت شيئاً؟ قال: نعم، نصف ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر فقال: ما استبقنا إلى الخير قط. صلى الله عليه وسلم مالاً؛ وحمل طلحة بن عبيد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالاً؛ وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مالاً، مائتي أوقية؛ وحمل سعد بن عبادة إليه مالاً، وحمل محمد بن مسلمة إليه مالاً. وتصدق عاصم ابن عدي بتسعين وسقاً ممراً. وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من أكثرهم نفقة، حتى كفى ذلك الجيش مؤونتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت لهم حاجة! حتى كفاهم شنق أسقيتهم. فيقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا! ورغب أهل الغنى في الخير والمعروف، واحتسبوا في ذلك الخير، وقووا أناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم، حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تتعاقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، حتى إن كن النساء ليعن بكل ما قدرن عليه قالت أم سنان الأسلمية: لقد رأيت ثوباً مبسوطاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها فيه مسك، ومعاضد، وخلاخل وأقرطة وخواتيم، وخدمات، مما يبعث به النساء يعن به المسلمين في جهازهم. والناس في عسرةٍ شديدة، وحين طابت الثمار وأحبت الظلال، فالناس يحبون المقام ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالانكماش والجد، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره بثنية الوداع، والناس كثير لا يجمعهم كتاب، قد رحل يريد أن يبعث إلا أنه طن أن ذلك سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجدين قيس: أبا وهب، هل لك العام تخرج معنا لعلك تحتفب من بنات الأصفر؟ فقال الجد: أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله، لقد عرف قومي ما أحد أشد عجباً بالنساء مني، وإني لأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد أذنت لك! فجاءه ابنه عبد الله بن الجد وكان بدريا، وهو أخو معاذ بن جبل لأمه فقال لأبيه: لم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته؟ فو الله ما في بني سلمة أكثر مالاً منك، ولا تخرج ولا تحمل أحدً! قال: يابني، مالي وللخروج في الريح والحر والعسرة إلى بني الأصفر؟ والله، ما آمن خوفاً من بني الأصفر وإني في منزلي بخربي، فأذهب إليهم فأغزوهم، وإني والله يابني عالم بالدوائر! فأغلظ له ابنه، فقال: لا والله، ولكنه النفاق! والله، لينزان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك قرآن يقرأونه. قال: فرفع نعله فضرب بها وجهه، فانصرف ابنه ولم يكلمه. وجعل الخبيث يثبط قومه، وقال لجبار بن صخر ونفرٍ معه من بني سلمة: يا بني سلمة، لا تنفروا في الحر. يقول: لا تخرجوا في الحر زهادةً في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل فيه: وقالوا لا تنفروا في الحر إلى قوله: جزاءً بما كانوا يكسبون. وفيه نزلت: ومنهم من يقول " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " الآية، أي كأنه إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به؛ إنما تعذر بالباطل، فما سقط. فيه من الفتنة أكثر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته بنفسه عن نفسه. يقول الله عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " يقول: إن جهنم لمن ورائه؛ فلما نزلت هذه الآية جاء ابنه إلى أبيه فقال: ألم أقل لك إنه سوف ينزل فيك قرآن يقرأه المسلمون؟ قال: يقول أبوه: اسكت عني يا لكع! والله. لا أنفعك بنافعةٍ أبداً! والله لأنت أشد على من محمد! قال: وجاء البكاءون وهم سبعة يستحملونه، وكانوا أهل حاجة، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع " . الآية. وهم سبعة من بني عمرو بن عوف: سالم ابن عمير، قد شهد بدراً، لا اختلاف فيه عندنا؛ ومن بني واقف هرمي ابن عمرو؛ ومن بني حارثة علبة بن زيد، وهو الذي تصدق بعرضه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة، فجعل الناس يأتون بها، فجاء علبة فقال: يا رسول الله، ما عندي ما أتصدق به وجعلت عرضي حلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قبل الله صدقتك. ومن بني مازن بن النجار أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب؛ ومن بني سلمة عمرو بن عتبة، ومن بني زريق سلمة بن صخر، ومن بني سليم عرباض بن سارية السلمى. وهؤلاء أثبت ما سمعنا. ويقال: عبد الله بن مغفل المزني، وعمرو بن عوف المزني؛ ويقال: هم بنو مقر،، من مزينة. ولما خرج البكاءون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه، وإنما يريدون ظهراً، لقي يامين بن عمير بن كعب بن شبل النضري أبا ليلى المازني، وعبد الله بن مغفل المزني، وهما يبكيان فقال: وما يبكيكما؟ قالا: جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما ننفق به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأعطاهما ناضحاً له، فارتحلاه، وزود كل رجلٍ منهما صاعين من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخرج معنا إلا مقوٍ فخرج رجل على بكرٍ صعب فصرعه، فقال الناس: الشهيد، الشهيد! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن أو إلا نفس مؤمنة ولا يدخل الجنة عاصٍ. وكان الرجل طرحه بعيره بالسويداء.
قالوا: وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير علةٍ فأذن لهم، وكان المنافقون الذين استأذنوا بضعه وثمانين. وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله عز وجل. هم نفر من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة، اثنان وثمانون رجلاً. وأقبل عبد الله بن أبي بعسكره، فضربه على ثنية الوداع بحذاء ذباب، معه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممن اجتمع إليه، فكان يقال: ليس عسكر ابن أبي بأقل العسكرين، وأقام ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم السفر، وأجمع المسير، استخلف على المدينة سباع ابن عرفة الغفاري ويقال: محمد بن مسلمة لم يتخلف عنه غزوة غير هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف ابن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تخلف من المنافقين، وقال: يغزو محمد بنى الأصفر، مع جهد الحال والحر والبلد البعيد، إلى ما لا قبل له به! يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ ونافق معه من هو على مثل رأية، ثم قال ابن أبي: والله لكأني أنظر إلى أصحابه غداً مقرنين في الحبال! إرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية الوداع إلى تبوك، وعقد الآلوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال: إلى الحباب بن المنذر بن الجموح.
قالوا: وإذا عبد لا مرآة من بني ضمرة، لقيه على رأس ثنية النور، والعبد متسلح. قال العبد: أقاتل معك يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنت؟ قال: مملوك لامرأة من بني ضمرة سيئة الملكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى سيدتك، لا تقتل معي فتدخل النار! قال: حدثني رفاعة بن ثعلبة بن أبي مالك، عن أبيه، عن جده، قال: جلست مع زيد بن ثابت فذكرنا غزوة تبوك، فذكر أنه حمل لواء مالك بن النجار في تبوك فقلت: يا أبا سعيد، كرم ترى كان المسلمون؟ قال: ثلاثون ألفاً، لقد كان الناس يرحلون عند ميل الشمس، فما يزالوان يرحلون والساقة مقيمون حتى يرحل العسكر. فسألت بعض من كان بالساقة فقال: ما يرحل آخرهم إلا مساء، ثم نرحل على أثرهم فما ننتهي إلى العسكر إلا مصبحين من كثرة الناس.
قالوا: وتخلف نفر من المسلمين، أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتبابٍ، منهم: كعب بن مالك، وكان كعب يقول: كان من خبري حين تخلفت عن تبوك أني لم أك قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة؛ والله، ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغروة! فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه، وجعلت أعدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك! فلم أزل يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً والمسلمون، وذلك يوم الخميس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يخرج فيه، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحق بهم. فغدوت بعد ما فصلوا أتجهز، فرجعت ولم أفعل شيئاً، ثم غدوت فلم أفعل شيئاً، فلم أزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وقلت: أرتحل فأدركهم، ويا ليتني فعلت! ولم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس فطفت فيهم يحزنني ألا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. والقائل عبد الله بن أنيس، ويقال: الذي رد عليه المقالة أبو قتادة، ومعاذ بن جبل أثبتهما عندنا.
قال هلال بن أمية الوافقي، حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك: والله ما تخلفت شكا ولا ارتباباً، ولكن كنت مقوياً في المال.
قلت: أشتري بعيراً. ولقيني مرارة بن الربيع فقال: أنا رجل مقوٍ، فأبتاع بعيراً وأنطلق به. فقلت: هذا صاحب أرافقه. فجعلنا نقول: نغدو فنشتري بعيرين فنلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يفوت ذلك؛ نحن قوم مخفون على صدر راحلتين فغداً نسير! فلم نزل ندفع ذلك ونوخر الأيام حتى شارف رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد. فقلت: ما هذا بحين خروج. وجعلت لا أرى في الدار ولا في غيرها إلا معذوراً أو منافقاً معلناً، فأرجع مغتما بما أنا فيه. وكان أبو خيثمة قد تخلف معنا، وكان لا يتهم في إسلامه ولا يغمص عليه، فعزم له على ما عزم، وكان أبو خيثمة يسمى عبد الله بن خيثمة السالمي، فرجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام حتى دخل على امرأتين له في يومٍ حار فوجدهما في عريشين لهما، قد رشت كل واحدةٍ منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما انتهى إليهما قام على العريشين فقال: سبحان الله! رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضح والريح والحر، يحمل سلاحه على عنقه، وأبو خيثمة في ظلالٍ باردٍ وطعامٍ مهيأ وامرأتين حسناوين، مقيم في ماله، ما هذا بالنصف! ثم قال: والله، لا أدخل عريش واحدةٍ منكما حتى أخرج فألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأناخ ناضحه وشد عليه قتبه وتزود وارتحل، فجعلت امرأتاه يكلمانه ولا يكلمهما، حتى أدرك عمير بن وهب الجمحى بوادي القرى يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فصحبه فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة: يا عمير! إن لي ذنوباً وأنت لا ذنب لك، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك. ففعل عمير، فسار أبو خيثمة حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب الطريق! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة! فقال الناس: يا رسول الله، هذا أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له.
قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، فصبح ذا خشب فنزل تحت الدومة، وكان دليله إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الدومة، فراح منها ممسياً حيث أبرد، وكان في حر شديد، وكان يجمع من يوم نزل ذا خشب بين الطهر والعصر في منزله، يؤخر الظهر حتى يبرد، ويعجل العصر، ثم يجمع بينهما، فكل ذلك فعله حتى رجع من تبوك. وكانت مساجده في سفره إلى تبوك معروفة؛ صلى تحت دومة بذي خشب، ومسجد الفيفاء، ومسجد بالمروة، ومسجد بالسقيا، ومسجد بوادي القرى، ومسجد بالحجر، ومسجد بذنب حوصاء، ومسجد بذي الجيفة، من صدر حوصاء، ومسجد بشق تاراء مما يلي جوبر، ومسجد بذات الخطمى، ومسجد بسمنة، ومسجد بالأخضر، ومسجد بذات الزراب، ومسجد بالمدران، ومسجد بتبوك.
ولما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية الوداع سائراً، فجعل يتخلف عنه الرجال فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان! فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه! فخرج معه ناس من المنافقين كثير لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة.
وكان أبو ذر يقول: أبطات في غزوة تبوك من أجل بعيري، كان نضوا أعجف، فقلت: أعلفه أباماً ثم ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلفته أياماً ثم خرجت، فلما كنت بذي المروة عجز بي، فتلومت عليه يوماً فلم أر به حركة، فأخذت متاعي فحملته على ظهري، ثم خرجت أبتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً في حر شديد، وقد تقطع الناس فلا أرى أحداً يلحقنا من المسلمين، فطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وقد بلغ مني العطش، فنظر ناظر من الطريق فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كن أبا ذر! فلما تأملني القوم قالوا: يا رسول الله، هذا أبو ذر! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دنوت منه فقال: مرحباً بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده! فقال: ما خلفك يا أبا ذر؟ فأخبره خبر بعيره، ثم قال: إن كنت لمن أعز أهلي على تخلفاً، لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوةٍ ذنباً إلى أن بلغتني. ووضع متاهه عن ظهره ثم استسقى، فأتى بإناء من ماء فشربه، فلما أخرجه عثمان رضي الله عنه إلى الربذة فأصابه قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما فقال: اغسلاني وكنناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق إذا أنا مت. وأقبل ابن مسعود في رهطٍ من العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بالجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطرها، فسلم القوم فقام إليهم غلامه فقال لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينوني عليه! فاستهل ابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبو ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده " . ثم نزل هو وأصحابه حتى وراروه، ثم حدثهم ابن مسعود حديثه، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك.
وكان أبو رهم الغفاري وهو كلثوم بن الحصين، قد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فقال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوكاً. قال: فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وأنا قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقي على النعاس، فطفقت أستيقظ. وقد دنت راحلتي من راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفزعني دنوها منه خشية أن أصيب رجله في الغرز؛ فطفقت أحوز راحلتي حتى غلبتني عيناي في بعض الطريق ونحن في بعض الليل، فزاحمت راحلتي راحلته ورجله في الغرز، فما استيقظت إلا بقوله: حس! فقلت: يا رسول الله، استغفر لي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سر! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألني عمن تخلف من بني غفارٍ، فأخبره بهم، وهو يسألني ما فعل النفر الحمر الطوال النطانط؟ فحدثته بتخلفهم. قال: فما فعل النفر السود القصار الجعاد الحلس؟ فقلت: والله يا رسول الله ما أعرف هؤلاء. قال: بلى، الذين هم بشبكة شدخ. قال: فتذكرتهم في بني غفار فلا أذكرهم، ثم ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا فينا وكانوا يحلون بشبكة شدخ، لهم نعم كثير، فقلت: يا رسول الله، أولئك رهط. من أسلم حلفاء لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعيرٍ من إبله رجلاً نشيطاً في سبيل الله ممن يخرج معنا، فيكون له مثل آجر الخارج! إن كان لمن أعز أهلي على أن يتخلف عني! المهاجرون من قريش والأنصار، وغفار، وأسلم.
قالوأ: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره مر على بعيرٍ من العسكر قد تركه صاحبه من العجف والضعف، فمر به مار فأقام عليه وعلفه أياماً ثم حوله إلى منزله، فصلح البعير فسافر عليه، فرآه صاحبه الأول، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحيى خفا أو كراعاً بمهلكةٍ من الأرض فهو له.
قالوا: وكان الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين ألفاً، ومن الخيل عشرة آلاف فرس. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بطنٍ من الأنصار أن يتخذوا لواءً وراية، والقبائل من العرب فيها الرايات والألوية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفع راية بني مالك بن النجار إلى عمار بن حزم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت فأعطاه الراية. قال عمارة: يا رسول الله، لعلك وجدت علي! قال: لا والله، ولكن قدموا القرآن، وكان أكثر أخذاً للقرآن منك؛ والقرآن يقدم، وإن كان عبداً أسود مجدعاً. وأمر في الأوس والخزرج أن يحمل راياتهم أكثرهم أخذاً للقرآن، وكان أبو زيد يحمل راية بني عمر بن عوف، وكان معاذ بن جبل يحمل راية بني سلمة. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بأصحابه في سفره وعليه جبة صرف وقد أخذ بعنان فرسه أو قال: مقود فرسه وهو يصلى، فبال الفرس فأصاب الجبة فلم يغسله وقال: لا بأس بأبوالها ولعابها وعرقها.
قالوا: وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك، منهم وديعة بن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف، والجلاس ابن سويد بن الصامت، ومخشى بن حمير من أشجع، حليف لبني سلمة، وثعلبة بن حاطب. فقال: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال! إرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وترهيباً للمؤمنين. فقال وديعة بن ثابت: مالي أرى قراءنا هؤلاء أوعبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء؟ وقال الجلاس ابن سويد، وكان زوج أم عمير، وكان ابنها عمير يتيماً في حجره: هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منا! والله، لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير! والله، لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجلٍ منا مائة جلدة وأنا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قد قلم كذا وكذا! فذهب إليهم عمار فقال لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته، وقد أخذ بحقب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ورجلاه تنسفان الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! ولم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل فيه: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " إلى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " . قالوا: ورد عمير على الجلاس ما قال حين قال: لنحن شر من الحمير قال: فأنت شر من الحمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق وأنت الكاذب. وجاء الجلاس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحلف ما قال من ذلك شيئاً، فأنزل الله عز وجل على نبيه فيه: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " ونزلت فيه: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله " الآية قال: وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه، وكان محتاجاً، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذها له فاستغنى بها. وقال مخشى بن حمير: قد والله يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أو عبد الله وسأل الله عز وجل أن يقتل شهيداً ولا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. ويقال في الجلاس بن سويد: إنه كان ممن تخلف من المنافقين في غزوة تبوك، فكان يثبط. الناس عم الخروج، وكانت أم عمير تحته، وكان عمير يتيماً في حجره ولا مال له، فكان يكفله وبحسن إليه، فسمعه وهو يقول: والله، لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحيمر! فقال له عمير: يا جلاس، قد كنت أحب الناس إلى، وأحسنهم عندي أثراً، وأعزهم على أن يدخل عليه شئ نكرهه؛ والله، لقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن كتمتها لأهلكن، وإحداهما أهون على من الأخرى! فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم مقالة الجلاس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى الجلاس مالاً من الصدقة لحاجته وكان فقيراً، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجلاس فسأله عما قال عمير، فحلف بالله ما تكلم به قط. وأن عمير الكاذب. وهو عمر بن سعيد وهو حاضر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام وهو يقول: اللهم، أنزل على رسولك بيان ما تكلمت به! فأنزل الله على نبيه " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " إلى قوله: " أغناهم الله ورسوله من فضله " للصدقة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الجلاس: اسمع! الله قد عرض على التوبة! والله لقد قلت ما قال عمير! ولما اعترف بذنبه وحسنت توبته ولم يمتنع عن خيرٍ كان يصنعه إلى عمير ابن سعيد، فكان ذلك مما قد عرفت به توبته.
قال أبو حميد الساعدي: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فلما جئنا وادي القرى مررنا على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آخر صوها! فخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرصناها معه، عشرة أوساق. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احفظي ما خرج منها حتى نرجع إليك. فلما أمسنا بالحجر قال: إنها ستهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد منكم إلا مع صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله. قال: فهاجت ريح شديدة ولم يقم أحد إلا مع صاحبه، إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره. فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح فطرحته بجبلى طيئ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له؟ ثم دعا الذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الذي وقع بجبلى طيئ فإن طيئاً أهدته للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي القرى أهدى له بنو عريض اليهودى هريساً فأكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمهم أربعين وسقاً، فهي جارية عليهم. تقول امرأة من اليهود: هذا الذي صنع بهم محمد خير مما ورثوه من آبائهم؛ لأن هذا لا يزال جارياً عليهم إلى يوم القيامة.
وكان أبو هريرة يحدث يقول: لما مررنا بالحجر استقى الناس من بئرها وعجنوا، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا من مائها ولا تتوضئا منه للصلاة، وما كان من عجين فاعلفوه الإبل. قال سهل ابن سعد: كنت أصغر أصحابي وكنت مقريهم في تبوك، فلما نزلت عجنت لهم ثم تحينت العجين، وقد ذهبت أطلب حطباً، فإذا منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألا تشبوا من ماء بئرهم. فجعل الناس يهرقون ما في أسقيتها. قالوا: يا رسول الله، قد عجنا. قال: أعلفوه الإبل! قال سهل: فأخذت ما عجنت فعلفت نضوين، فهما كانا أضعف ركابنا.
وتحولنا إلى بئر صالحٍ النبي عليه السلام، فجعلنا نستقي من الأسقية ونغسلها، ثم ارتوينا، فلم نرجع يومئذ إلا ممسين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا نبيكم الآيات! هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم آية، فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفلج، تسقيهم من لبنها يوم وردها ما شربت من مائها، فعقروها فأوعدوا ثلاثاً، وكان وعد الله غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة فلم يبق أحد منهم تحت أديم السماء إلا هلك، إلا رجل في الحرم منعه الحرم من عذاب الله. قالوا: يا نبي الله، من هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو رغال، أبو ثقيف. قالوا: فما له بناحية مكة؟ قال: إن صالحاً بعثه مصدقاً، فانتهى إلى رجل معه مائة شاة شصص، ومعه شاة والد، ومعه صبي ماتت أمه بالأمس. فقال: إن رسول الله أرسلني إليك. فقال: مرحباً برسول الله وأهلاً! خذ قال: فأخذ الشاة اللبون، فقال: إنما هي أم هذا الغلام بعد أمه، خذ مكانها عشراً. قال: لا. قال: عشرين. قال: لا. قال: خمسين. قال: لا. قال: خذها كلها إلا هذه الشاة. قال: لا. قال: إن كنت تحب اللبن فأنا أحبه. فنثر كنانته ثم قال: اللهم تشهد! ثم فوق له بسهم فقتله، فقال: لا يسبق بهذا الخبر إلى نبي الله أول مني! فجاء صالحاً فأخبره الخبر، فرفع صالح يديه مدا فقال: اللهم العن أبا رغال! ثلاثاً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم ما أصابهم. قال أبو سعيد الخدري: رأيت رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين. قال: فأعرض عنه واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: ألقه! فألقاه فما أدرى أين وقع حتى الساعة. وكان انب عمر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين حاذهم: إن هذا وادي النفر! فجعلوا يوضون فيه ركابهم حتى خرجوا منه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن يونس بن يوسف، عن عبيد بن جبير، عن أبي سعيد الخدرى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضع راحلته حتى خلفها. قال: وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة فدعا ولا والله ما أرى في السماء سحاباً فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو حتى إني لأنظر إلى السحاب تأتلف من كل ناحية، فما رام مقامه حتى سحت علينا السماء بالرواء، فكأني أسمع تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المطر. ثم كشف الله السماء عنا من ساعتها وإن الأرض إلا غدر تناخس، فسقى الناس وارتووا عن آخرهم، وأسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشهد أني رسول الله! فقلت لرجلٍ من المنافقين: ويحك، أبعد هذا شئ؟ فقال: سحابة مارة! وهو أوس بن قيظى، ويقال: زيد بن اللصيت.
قال: حدثني يونس بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، أنه قال له: هل كان الناس يعرفون أهل النفاق فيهم؟ فقال: نعم والله، إن كان الرجل ليعرفه من أبيه وأخيه وبني عمه. سمعت جدك قتادة بن النعمان يقول: تبعنا في دارنا قوم منا منافقون. ثم من بعد سمعت زيد بن ثابت يقول في بني النجار: من لا بارك الله فيه! فيقال: من يا أبا سعيد؟ فيقول: سعد بن زرارة، وفيس بن فهر. ثم يقول زيد: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما كان من أمر الماء ما كان دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سحابةً فأمطرت حتى ارتوى الناس، فقلنا: يا ويحك، أبعد هذا شئ؟ فقال: سحابة مارة! وهو والله رجل لك به قرابة يا محمود بن لبيد! قال محمود: قد عرفته! قال: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهاً إلى تبوك، فأصبح في منزل، فضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم القصواء، فخرج أصحابه في طلبها. وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم عمارة بن حزم عقبى بدرى قتل يوم اليمامة شهيداً وكان في رحله زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع كان يهودياً فأسلم فنافق، وكان فيه خبث اليهود وعشهم، وكان مظاهراً لأهل النفاق، فقال زيد وهو في رحل عمارة، وعمارة عند النبي صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن منافقاً يقول إن محمداً يزعم أنه نبي، وأنه يخبركم بأمر السماء ولا يدري أين ناقته! وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا الشعب أشار لهم إليه حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها. فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: العجب من شئ حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنها عن مقالة قائلٍ أخبره الله عنه! قال كذ وكذا الذي قال زيد. قال: فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا! قال: فأقبل عمارة على زيد ابن اللصيت يجأه في عنقه ويقول: والله، إن في رحلى لداهية وما أدري! اخرج يا عدو الله من رحلى! وكان الذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عمرو بن حزم، وكان في الرحل مع رهط. من أصحابه. والذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحارث بن خزمة الأشهلي، وجدها وزمامها قد تعلق في شجرةٍ، فقال زيد بن اللصيت: لكأني لم أسلم إلا اليوم! قد كنت شاكاً في محمد، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرةٍ، وأشهد أنه رسول الله! فزعم الناس أنه تاب، وكان خارجة بن زيد بن ثابت ينكر توبته ويقول: لم يزل فشلا حتى مات.
فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي المشقق سمع حادياً في جوف الليل فقال: أسرعوا بنا نلحقه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ممن الحادي، منكم أو من غيركم؟ قالوا: بلى، من غيرنا. قال: فأدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جماعة، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من مضر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا من مضر. فانتسب حتى بلغ مضر. قال القوم: نحن أول من حدا بالإبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وكيف ذلك؟ قالوا: بلى، إن أهل الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فأغير على رجلٍ منهم ومعه غلام له، فندت إبله فأمر غلامه أن يجمعها، فقال: لا أستطيع! فضرب يده بعصاً، فجعل الغلام يقول: وايداه! وايداه! وتجتمع الإبل، فجعل سيده يقول، قل هكذا بالإبل! وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضحك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: ألا أبشركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! وهم يسيرون على رواحلهم، فقال: إن الله أعطاني الكنزين فارس والروم، وأمدني بالملوك ملوك حمير، يجاهدون في سبيل الله ويأكلون فئ الله.
وكان المغيرة بن شعبة يقول: كنا بين الحجر وتبوك فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، وكان ذا ذهب أبعد، وتبعته بماءٍ بعد الفجر، فأسفر الناس بصلاتهم وهي الصلاة الصبح حتى خافوا الشمس، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم. فحملت مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة فيا ماء، فلما فرغ صببت عليه فغسل وجهه. ثم أراد أن يغسل ذراعيه فضاق كم الجبة وعليه جبة رومية فأخرج يديه من تحت الجبة فغسلهما ومسح خفيه. وانتهينا إلى عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بالناس، فسبح الناس بعبد الرحمن بن عوف حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادوا أن يفتتنوا، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص وراءه، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اثبت، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن ركعة، فلما سلم عبد الرحمن تواثب الناس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الركعة الباقية، ثم سلم بعد فراغه منها، ثم قال: أحسنتم! إنه لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته.
وأتاه يومئذ يعلى بن منبه بأجيرٍ له، قد نازع رجلاً من العسكر، فعضه ذلك الرجل، فانتزع الأجير يده من في العاض فانتزع ثنيته، فلرمه المجروح فبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وقمت مع أجيري لأنظر ما يصنع، فأتيى بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يعمد أحدكم فيعض أخاه كما يعض الفحل، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب من ثنيته.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تنالوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتى. قال معاذ بن جبل: فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الزلال تبض بشئ من ماء، فسألهما: هل مسستما من مائها شيئاً؟ قالا: نعم. فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول. ثم غرفوا بأيديهم قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شن، ثم غسل النبي صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجاءت العين بماء كثيرٍ فاستقى الناس. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً! قالوا: وكان عبد الله ذو البجادين من مزينة، وكان يتيماً لا مال له، قد مات أبوه فلم يورثه شيئاً، وكان عمه ميلا، فأخذه وكفله حتى كان قد أيسر، فكانت له إبل وغنم ورقيق، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام، ولا يقدر عليه من عمه، حتى مضت السنون والمشاهد كلها. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة راجعاً إلى المدينة، فقال عبد الله لعمه: يا عم، قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمداً، فائذن لي في الإسلام! فقال: والله، لئن اتبعت محمدا لا أترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلا نزعنه منك حتى ثوبيك. فقال عبد العزي، وهو يومئذ اسمه: وأنا والله متبع محمداً ومسلم، وتارك عباده الحجر والوثن، وهذا ما بيدي فخذه! فأخذ كل ما أعطاه، حتى جرده من إزاره، فأتى أمه فقطعت بجاداً لها باثنين فائتزر بواحد وارتدى بالآخر، ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان جبل من حمى المدينة - فاضطجع في المسجد في السحر، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه فأنكره، فقال: من أنت؟ فانتسب له، فقال: أنت عبد الله ذو الجادين! ثم قال: انزل مني قريباً. فكان يكون في أضيافه ويعلمه القرآن، حتى قرأ قرآناً كثراً، والناس يتجهزون إلى تبوك. وكان رجلاً صيتاً، فكان يقوم في المسجد فيرفع صوته بالقراءة، فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع إلى هذا الأعرابي يرفع صوته بالقرآن حتى قد منع الناس القراءة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، يا عمر! فإنه خرج مهاجراً إلى الله ورسوله. قال: فلما خرجوا إلى تبوك قال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة. قال: أبلغني لحاء سمرة. فأبلغه لحاء سمرة، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عضده وقال: اللهم إني أحرم دمه على الكفار! ال: يا رسول الله، ليس أردت هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك إذا خرجت غازياً في سبيل الله فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، ووقصتك دابتك فأنت شهيد، لا تبال بأية كان: فلما نزلوا تبوكاً فأقاموا بها أياماً توفي عبد الله ذو البجادين. فكان بلال بن الحارث يقول: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع بلالٍ المؤذن شعلة من نارٍ عند القمر واقفاً بها، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أدنيا إلى أخاكما! فلما هيآه لشقه قال: اللهم إني قد أمسيت عنه راضياً فارض عنه. قال: فقال عبد الله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحد! وقالوا: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره وهو مردف سهيل ابن بيضاء خلفه، فقال سهيل: ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا سهيل! كل ذلك يقول سهيل: يالبيك! ثلاث مرات، حتى عرف الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدهم؛ فانثنى عليه من أمامه، ولحقه من خلفه من الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، حرمه الله على النار.
قالوا: وعارض الناس في مسيرهم حية، ذكر من عظمها وخلقها، وانصاع الناس عنها. فأقبلت حتى واقفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلاً، والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمةً؛ فأقبل الناس حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: فإن هذا أحد الرهط. الثمانية من الجن الذين يريدون أن يسمعوا القرآن، فرأى عليه من الحق - حين ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلده - أن يسلم عليه، وها هو ذا يقرئكم السلام. فسلموا عليه! فقال الناس جميعاً: وعليه السلام ورحمة الله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوا عباد الله من كانوا.
قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوكاً وأقام بها عشرين ليلة يصلى ركعتين، وهرقل يومئذٍ بحمص. وكان عقبة بن عامر يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، حتى إذا كنا منها على ليلةٍ استرقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، ألم أقل لك اكلأ لنا الليل؟ فقال بلال: ذهب بي النوم، ذهب بي الذي ذهب بك! قال: فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك المكان غير بعيد، ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم صلى الفجر، ثم هذب بقية يومه وليلته فأصبح بتبرك، فجمع الناس فحمد لله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس! أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم عليه السلام، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى الضلالة الضلالة بعد الهدي، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما اتبع، وشر العمى عمى القلب؛ واليد العليا خير من السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر الأمور المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة. ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً؛ ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكم مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنم، والسكر كن من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حباله الشيطان، والشباب شعبة من الجنون؛ وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل مال اليتيم. والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقى في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع؛ والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، والربا ربا الكذب. وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه. ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يتبع السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم.
وكان رجل من بني عذرة يقال له عدى يقول: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فرأيته على ناقةٍ حمراس يطوف على الناس يقول: أيها الناس، يد الله فوق يد المعطى، ويد المعطى الوسطى، ويد المعطى السفلى. أيها الناس، اقنعوا ولو بحزم الحطب! اللهم، هل بلغت؟ ثلاثاً. فقلت: يا رسول الله، كان لي امرأتان اقتتلتا فرميت فأصبت إحداهما فرمى في رميتي - يعني ماتت، كما تقول العرب: رمى في جنازته.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعقلها ولا ترثها.
وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع مسجده بتبوك، فنظر نحو اليمين ورفع يديه يشير إلى أهل اليمن فقالك الإيمان يمان! ونظر نحو المشرق وأشار بيده: إن الجفاء وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر من نحو المشرق حيث يطلع الشيطان قرينه.
وقال رجل من بني سعد بن هذيم: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بتبوك - في نفرٍ من أصحابه، هو سابعهم - فوقفت فسلمت، فقال: اجلس! فقلت: يا رسول الله، أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله! قال: أفلح وجهك! ثم قال: يا بلال، أطعمنا!
قال: فبسط بلال نطعاً، ثم جعل يخرج من حميتٍ له، فأخرج خرجات بيده من تمرٍ معجونٍ بالسمن والأقط، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا! فأكلنا حتى شبعنا فقلت: يا رسول الله، إن كنت لآكل هذا وحدي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ والمؤمن يأكل في معي واحد. قال: ثم جئته من الغد متحيناً لغدائه لأزداد في الإسلام يقيناً، فإذا عشرة نفرٍ حوله. قال: فقال هات أطعنا يا بلال. قال: فجعل يخرج من جراب تمرٍ بكلفه قبضة قبضة، فقال: أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتاراً! فجاء بالجراب فنثره. قال: فحزرته مدين. قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على التمر، ثم قال: كلوا باسم الله! فأكل القوم وأكلت معهم، وكنت صاحب تمر. قال: فأكلت حتى ما أجد له مسلكاً. قال: وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال، كأنا لم نأكل منه تمرةً واحدةً. قال: ثم عدت من الغد. قال: وعاد نفر حتى باتوا، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلاً أو رجلين، فقال: يا بلال، أطعمنا! فجاء بذلك الجراب بعينه أعرفه فنثره، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه فقال: كلوا باسم الله، فأكلنا حتى نهلنا، ثم رفع مثل الذي صب، ففعل مثل ذلك ثلاثة أيام.
قال: وكان هرقل قد بعث رجلاً من غسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى صفته وإلى علاماته، إلى حمرة في عينيه، وإلى خاتم النبوة بين كتفيه، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم انصرف إلى هرقل فذكر له ذلك، فدعا قومه إلى التصديقب به؛ فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف. وكان الذي خبر النبي صلى الله عليه وسلم - من بعثته أصحابه ودنوه إلى أدنى الشام - باطلاً، ولم يرد ذلك ولم يهم به. وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في التقدم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن كنت أمرت بالمسير فسر! قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أمرت به ما استشرتكم فيه! قال: يا رسول الله، فإن للروم جموعاً كثيرةً، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث اله عز وجل لك في ذلك أمراً.
قالوا: وهاجت ريح شديدة بتبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لموت منافقٍ عظيم النفاق. قال: فقدموا المدينة فوجدوا منافقاً قد مات عظيم النفاق.
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبنةٍ بتبوك فقالوا: يا رسول الله، إن هذا طعام تصنعه فارس، وإنا نخشى أن يكون فيه ميتة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا فيه السكين واذكروا اسم الله! قال: وأهدى رجل من قضاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرساً، فأعطاه رجلاً من الأنصار، وأمره أن يربطه حياله استئناساً بصهيله، فلم يزل كذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ففقد صهيل الفرس فسأل عنه صاحبه فقال: خصيته يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، اتخذوا من نسلها وباهوا بصهيلها المشركين، أعرافها أدفاؤها، وأذنابها مذابها. والذي نفسي بيده، إن الشهداء ليأتون يوم القيامة بأسيافهم على عواتقهم، لا يمرون بأحد من الأنبياء إلا تنحى عنهم، حتى أنهم ليمرون بإبراهيم الخليل خليل الرحمن فيتنحى لهم حتى يجلسوا على منابر من نور. يقول الناس: هؤلاء الذين أهريقوا دماءهم لرب العالمين، فيكون كذلك حتى يقضي الله عز وجل بين عباده!
قالوا: وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك قام إلى فرسه الظرب فعلق عليه شعاره وجعل يمسح ظهره بردائه. قيل: يا رسول اله تمسح ظهره برداءك؟ قال: نعم، وما يدريك؟ لعل جبريل أمرني بذلك، مع أني قد بت الليلة، وإن الملائكة لتعاتبني في حس الخيل ومسحها. وقال: أخبرني خليل جبريل أنه يكتب لي بكل حسنة أو فيتها إياه حينة، وإن ربي عز وجل يحط. عني بها سيئة. وما من امرئ من المسلمين يربط. فرساً في سبيل اله فيوفيه بعليفه يلتمس به قوته إلا كتب الله له بكل حبة حسنة، وحط عنه بكل حبة سيئة! قيل: يا رسول الله، وأي الخيل خير؟ قال: أدهم، أقرح، وأرثم محجل الثلث، مطلق اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الصفة. قال: وقيل: يا رسول الله، فما في الصوم في سبيل الله؟ قال: من صام يوماً في سبيل الله تباعدت منه جهنم مسيرة مائة سنة كأغذ السير. ولقد فضل نساء المجاهدين على القاعدين في الحرمة كأمهاتهم، وما من أحدٍ من القاعدين يخالف إلى امرأةٍ من نساء المجاهدين فيخونه في أهله إلا وقف يوم القيامة فيقال له: إن هذا خانك في أهلك فخذ من عمله ما شئت؛ فما ظنكم؟ وكان عبد الله بن عمر أو عمرو بن العاص يحدث قال: فزع الناس بتبوك ليلةً، فخرجت في سلاحي حتى جلست إلى سالم مولى أبي حذيفة وعليه سلاحه، فقلت: لأقتدين بهذا الرجل الصالح من أهل بدر! فجلست إلى جنبه قريباً من قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا مغضباً فقال: أيها الناس، ما هذه الخفة؟ ما هذا النزق؟ ألا صنعتم ما صنع هذان الرجلان الصالحان؟ يعنيني وسالماً مولى أبي حذيفة.
قالوا: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وضع حجراً قبلة مسجد تبوك بيده وما يلى الحجر، ثم صلى الظهر بالناس، ثم أقبل عليهم فقال: ما هاهنا شام، وما هاهنا يمن.
وكان عبد الله بن عمر يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فقام يصلي من الليل، وكان يكثر التهجد من الليل، ولا يقوم إلا استاك، وكان إذا قام يصلي صلى بفناء خيمته، فيقوم ناس من المسلمين فيحرسونه. فصلى ليلة من تلك الليالي، فلما فرغ أقبل على من كان عنده فقال: أعطيت خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: بعثت إلى الناس كافة، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك ولا يصلون إلا في كنائسهم والبيع، وأحلت لي الغنائم آ كلها، وكان من كان قبلي يحرمونها، والخامسة هي ما هي، هي ما هي، هي ما هي! ثلاثاً. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: سل، فكل نبي قد سأل، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله.
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك
قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا مالكم ذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم.. " الآية. قالوا: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهد من الناس، وحين طابت الثمار واشتهيت الظلال، فأبطأ الناس فكشفت منهم " براءة " ما كان مستوراً، وأبدت أضغانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " إلا تخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب.. الآية. قال: كان قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البوادي! فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " . " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول: نشاطاً وغير نشاط، ويقال: الخفاف: الشباب؛ والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوكم؛ وجاهدوا، يقول: قاتلوا؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " عشرين ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " يعني المنافقين " لو كان عرضاً قريباً " يقول: غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً لا تبعوك " يعني حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض؛ " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " أنهم أقوياء أصحاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل عذرهم ويأذن لهم. قال الله عز وجل: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب.
" لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر " وصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزة، العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله " يعني المنافقين. ثم ذكر المنافقين فقال: " لقد ابتغوا الفتنة من قبل " من قبل خروجك إلى تبوك وظهور أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين.
" ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " نزلت هذه في الجد بن قيس، وكان أكثر بني سلمة مالاً، وأعدهم عدة في الظهر، وكان رجلاً معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تعزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر. فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس أحد أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول الله عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا " لتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. " إن تصبك حسنة تسوهم " يقول: غنيمة وسلامة، الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل " . " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب. " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة. " قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم " كان رجال من المنافقين من ذي الطول يظهرون النفقة إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله تعإلى: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم " إلى قوله عز وجل: " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: يكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه على نفاق، وما أنفقوا فإنما هو رياء. " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم " وهم البكاؤون وهم سبعة؛ أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر المازني، وثعلبة بن غنمة الأسلمي، وعلبة بن زيد الحارثي، والعرباض بن سارية السلمى من بني سليم، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير العمري، " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " يعني مع النساء، الجد بن قيس. " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم. " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " من صلى القبلتين.
غزوة أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندلفي رجب سنة تسع، وهي على عشرة أميال من المدينة.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن أبن عباس رضي الله عنه، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، ومعاذ بن محمد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وإسماعيل ابن إبراهيم، عن موسى بن عقبة؛ وكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وعماده حديث ابن أبي حبيبة.
قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة وعشرين فارساً إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل - وكان أكيدر من كندة قد ملكهم وكان نصرانياً - فقال خالد: يا رسول الله، كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستجده يصيد البقر فتأخذه. قال: فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرةٍ صائفة، وهو على سطحٍ له ومعه امرأته الرباب بنت أنيف بن عامر من كندة، وصعد على ظهر الحصن من الحر، وقينته تغنيه، ثم دعا بشرابٍ فشرب. فأقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فأقبلت امرأته الرباب فأشرفت على الحصن فرأت البقر فقالت: ما رأيت كالليلة في اللحم! هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا! ثم قالت: من يترك هذا؟ قال: لا أحد! قال: يقول أكيدر: والله، ما رأيت جاءتنا ليلة بقر غير تلك الليلة، ولقد كنت أضمر لها الخيل إذا أردت أخذها شهراً أو أكثر، ثم أركب بالرجال وبالآلة.
فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيت، معه أخوه حسان ومملوكان، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم؛ فلما فصلوا من الحصن، فاستأسر أكيدر وامتنع حسان، فقاتل حتى قتل، وهرب المملوكان ومن كان معه من أهل بيته فدخلوا الحصن. وكان على حسان قباء ديباجٍ مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضمري حتى قدم عليهم فأخبرهم بأخذهم أكيدر.
قال أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله: رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يتلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد: إن ظفرت بأكيدر فلا تقتله وائت به إلى، فإن أبي فاقتلوه، فطاوعهم. فقال بجير بن بجرة من طيئ، ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد " إنك تجده يصيد البقر " وما صنع البقر تلك الليلة بباب الحصن تصديق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال شعراً:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
ومن يك عانداً عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
وقال خالد بن الوليد لأكيدر: هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تفتح لي دومة؟ قال: نعم، ذلك لك. فلما صالح خالد أكيدر، وأكيدر في وثاق، انطلق به خالد حتى أدناه من باب الحصن ونادى أكيدر أهله: افتحوا باب الحصن! فرأوا ذلك، فأبى عليهم مضاد أخو أكيدر لخالد: تعلم والله لا يفتحون لي ما رأوني وثاق، فخل عني فلك الله والأمانة أن أفتح لك الحصن إن أنت صالحتني على أهله. قال خالد: فإني أصالحك. فقال أكيدر: إن شئت حكمتك وإن شئت حكمني. قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت . فصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، على أن ينطلق به وأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهما حكمه. فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله ففتح الحصن، فدخله خالد وأوثق أخاه مضاداً أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح، ثم خرج قافلاً إلى المدينة، ومعه أكيدر ومضاد. فلما قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحه على الجزية وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً فيه أمانهم وما صالحهم، وختمه يومئذ بظفره.
قالوا: وأقبل واثلة بن الأسقع الليثي، وكان ينزل ناحية المدينة، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح انصرف فيتصفح وجوه أصحابه ينظر إليهم.
فلما دنا من واثلة أنكره فقال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: أبايع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أطقت؟ قال واثلة: نعم. فبايعه - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يتجهز إلى تبوك فخرج الرجل إلى أهله، فلقى أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها! قال واثلة: نعم. قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً. فأتى عمه، وهو مولى ظهره الشمس، فسلم عليه فقال: قد فعلتها! قال: نعم. ولا مه لائمة أيسر من لائمة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر، فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه فسلمت عليه بتحية الإسلام، فقال واثلة: أني لك هذا يا أخية؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك. وكان واثلة ذكر الإسلام ووصفه لعمه، فأعجب أخته الإسلام فأسلمت، فقال واثلة: لقد أراد الله بك أخية خيراً! جهزى أخاك جهاز غازٍ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر. فأعطته مدا من دقيق فعجن الدقيق في الدلو، وأعطته تمراً فأخذه. وأقبل إلى المدينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمل إلى تبوك، وبقي عيرات من الناس وهم على الشخوص وإنما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بيومين - فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي! قال: وكنت رجلاً لا رجلة لي، فدعاني كعب بن عجرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار، ويدك أسوة يدي ولي سهمك! قال واثلة: نعم. فقال واثلة بعد ذلك: جزاه الله خيراً! لقد كان يحملني عقبتي، ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر الكندي بدومة الجندل خرج كعب بن عجرة في جيش خالد بن الوليد، وخرجت معه فأصبنا فيها كثراً، فقسمه خالد بيننا، فأصابني ست قلائص، فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها! فخرج إلى وهو يتبسم ويقول: بارك الله لك فيها! ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئاً.
وكان أبو سعيد الخدري رحمه الله يحدث يقول: أسرنا أكيدر فأصابني من السلاح درع وبيضة ورمح، وأصابني عشر من الإبل.
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: أسرنا أكيدر وأخاه، فقدمنا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم وعزل يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم صفى خالص قبل أن يقسم شئ من الفئ، ثم خمس الغنائم فكان للنبي صلى الله عليه وسلم الخمس. وكان عبد الله بن عمرو المزني يقول: كنا أربعين رجلاً من مزينة مع خالد بن الوليد، وكانت سهماننا خمس فرائض، كل رجلٍ مع سلاح، يقسم علينا درع ورماح.
قال: حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: رأيت أكيدر حين قدم به خالد وعليه صليب من ذهب وعليه الديباج ظاهر.
قال الواقدي: حدثني شيخ من أهل دومة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد ابن الوليد سيف الله، في دومة الجندل وأكنافها. وإن لنا الضاحية من الضحل، والبور، والمعامي، وأغفال الأرض، والحلقة، والسلاح، والحافر، والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها. عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين.
قال: الضحل: الذي فيه الماء القليل؛ والبور: ما ليس فيه زرع؛ والمعامي: ما ليست له حدود معلومة؛ وأغفال الأرض: مياه؛ ولا تعد فاردتكم: يقول لا يعد ما يبلغ أربعين شاة؛ والحافر: الخيل؛ والمعين: الماء الظاهر؛ والضامنة من النخل: النبات من النخل التي قد نبتت عروقها في الأرض؛ ولا تحظر عليكم النبات: ولا تمنعوا أن تزرعوه.
قالوا: وأهدي له هدية فيها كسوة، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً آمنه فيه وفيه الصلح، وآمن أخاه ووضع عليه فيه الجزية، فلم يك في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتم فختمه بظفره.
وكانت دومة، وأيلة، وتيماء، قد خافوا النبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا العرب قد أسلمت. وقدم يحنة بن رؤبة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان ملك أيلة، وأشفقوا أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بعث إلى أكيدر. وأقبل معه أهل جرباء وأذرح، فأتوه فصالحهم فقطع عليهم الجزية، جزية معلومة، وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، لسفنهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. ومن أحدث حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر. هذا كتاب جهيم بن الصلت وشر حبيل بن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية على أهل أيلة؛ ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل.
قال: حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: رأيت يحنة بن رؤبة يوم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه صليب من ذهب، وهو معقود الناصية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كفر وأومأ برأسه، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ارفع رأسك! وصالحه يومئذ، وكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردا يمنة، وأمر له بمنزل عند بلال.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل جر باء وأذرح هذا الكتاب: من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح؛ أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة، والله كفيل عليهم.
قال الواقدي: نسخت كتاب أذرح وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة والتعزير إذا خشوا على المسلمين وهم آمنون، حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه.
قالوا: وكتب لأهل مقنا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم ربع غزولهم وربع ثمارهم.
وكان عبيد بن ياسر بن نمير أحد سعد الله، ورجل من جذام أحد بني وائل، قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بتبرك، فأسلما وأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ربع مقنا مما يخرج من البحر ومن الثمر من نخلها، وربع المغزل. وكان عبيد بن ياسر فارساً، وكان الجذامي راجلاً، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس عبيد بن ياسر مائة ضفيرة - والضفيرة: الحلة - فلم يزل يجري ذلك على بني سعد، وبني وائل إلى يوم الناس هذا.
ثم إن عبيد بن ياسر قدم مقنا وبها يهودية، وكانت اليهودية تقوم على فرسه، فأعطاها ستين ضفيرة من ضفاشر فرسه، فلم يزل يجري على اليهودية حتى نزعت آخر زمان بني أمية، فلم ترد إليها ولا إلى ولد عبيد. وكان عبيد قد أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فرساً عتيقاً يقال له مراوح، وقال: يا رسول الله ، سابق! فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل بتبوك فسبق الفرس، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فسأله المقداد بن عمرو الفرس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين سبحة؟ فرس للمقداد قد شهد عليها بدراً. قال: يا رسول الله عندي، وقد كبرت وأنا أضن بها للمواطن التي شهدت عليها؛ وقد خلفتها لبعد هذا السفر وشدة الحر عليها، فأردت أحمل هذا الفرس المعرق عليها فتأتيني بمهر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذاك إذا! فقبضه المقداد، فخبر منه صدقاً، ثم حمله على سبحة فنتجت له مهراً كان سابقاً يقال له الذيال، سبق في عهد عمر وعثمان، فابتاعه منه عثمان بثلاثين ألفاً.
قالوا: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك يريد حاجته، فرأى ناساً مجتمعين فقال: ما لهم؟ قيل: يا رسول اله بعير لرافع بن مكيث الجهني، نحره فأخذ منه حاجته، فخلى بين الناس وبينه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه نهبة لا تحل! قيل: يا رسول الله، إن صاحبه أذن في أخذه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن أذن في أخذه!
قالوا: وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: ظل خباء في سبيل الله، أو خدمة خادمٍ في سبيل الله، أو طروقة فحلٍ في سبيل الله.
وكان جابر بن عبد الله يحدث يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك فقال: اقطعوا قلائد الإبل من الإبل. قيل: يا رسول الله ، فالخيل؟ قال: لا تقلدوها بالأوتار.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على حرسه بتبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عباد بن بشر، فكان عباد بن بشر يطوف على أصحابه في العسكر، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا رسول الله، ما زلنا نسمع صوت تكبيرٍ من ورائنا حتى أصبحنا، فوليت أحدنا يطوف على الحرس؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلتن ولكن عسى أن يكون بعض المسلمين على خيلنا انتدب. فقال سلكان ابن سلامة: يا رسول الله، خرجت في عشرةٍ من المسلمين على خيلنا فكنا نحرس الحرس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله حرس الحرس في سبيل الله! قال: فلكم قيراط من الأجر على كل من حرستم من الناس جميعاً أو دابة.
قالوا: وقدم نفر من بني سعد هذيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا قدمنا عليك وتركنا أهلنا على بئر لنا، قليل ماؤها، وهذا القيظ، ونحن نخاف إن تفرقنا أن نقتطع؛ لأن الإسلام لم يفش حولنا بعد، فادع الله لنا في ماء بئرنا، وإن روينا به فر قوم أعز منا، لا يعبر بنا أحد مخالف لديننا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلغوني حصيات! فتناولت ثلاث حصيات فدفعتهن إليه، ففركهن بيده ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيات إلى بئركم فاطرحوها واحدةً واحدةً وسموا الله. فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك فجاشت بئرهم بالرواء، ونفوا من قاربهم من المشركين ووطئوهم، فما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى أوطأوا من حولهم عليه ودانوا بالإسلام.
قالوا: وكان زيد بن ثابت يحدث يقول: عزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فكنا نشتري ونبيع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرانا ولا ينهانا.
قال: وكان رافع بن خديج يحدث يقول: أقمنا بتبوك المقام فأرملنا من الزاد وقرمنا إلى اللحم ونحن لا نجده، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن اللحم ها هنا، وقد سألت أهل البلد عن الصيد فذكروا لي صيداً قريباً - فأشاروا إلى ناحية المغرب - فأذهب فأصيد في نفرٍ من أصحابي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذهبت فاذهب في عدةٍ من أصحابك، وكونوا على خيلٍ ، فإنكم تتفرقون من العسكر.
قال: فانطلقت في عشرةٍ من الأنصار فيهم أبو قتادة - وكان صاحب طردٍ بالرمح وكنت رامياً - فطلبنا الصيد فأدركنا صيداً، فقتل أبو قتادة خمسة أحمرة بالرمح على فرسه، ورميت قريباً من عشرين ظبياً، وأخذ أصحابنا الظبيين والثلاثة والأربعة، وأخذنا نعامة طردناها على خيلنا. ثم رجعنا إلى العسكر، فجئناهم عشاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنا: ما جاءوا بعد؟ فجئنا إليه فألقينا ذلك الصيد بين يديه فقال: فرقوه في أصحابكم! قلت: يا رسول الله، أنت مر به رجلاً! قال: فأمر رافع بن خديج. قال: فجعلت أعطي القبيلة بأسرها الحمار والظبي، وأفرق ذلك حتى كان الذي صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظبي واحد مذبوح، فأمر به فطبخ، فلما نضج دعا به - وعنده أضياف - فأكلوا. ونهانا بعد أن نعود وقال: لا آمن. أو قال: أخاف عليكم.
حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فرأيتنا ليلة ونحن بتبوك وذهبنا لحاجةٍ، فرجعنا إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تعشى ومن عنده من أضيافه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل في قبته ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية، فلما طلعت عليه قال: أين كنت منذ الليلة؟ فأخبرته، فطلع جعال بن سراقة، وعبد الله بن مغفل المزني - فكنا ثلاثة، كنا جائع، إنما نعيش بباب النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فطلب شيئاً نأكله فلم يجده، فخرج إلينا فنادى بلالاً: يا بلال، هل من عشاء لهؤلاء النفر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لقد نفضنا جربنا وحمتنا. قال: انظر، عسى أن تجد شيئاً فأخذ الجرب ينفضها جراباً جراباً، فتقع التمرة والتمرتان، حتى رأيت بين يديه سبع تمرات، ثم دعا بصحفةٍ فوضع فيها التمر، ثم وضع يده على التمرات وسمى الله وقال: كلوا بسم الله! فأكلنا فأحصيت أربعة وخمسين تمرة أكلتها، أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع، وشبعنا وأكل كل واحدٍ منا خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي، فقال: يا بلال، ارفعها في جرابك، فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعاً. قال: فبينا نحن حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يتهجد من الليل، فقام تلك الليلة يصلي، فلما طلع الفجر ركع ركعتي الفجر، وأذن بلال وأقام فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم انصرف إلى فناء قبته، فجلس وجلسنا حوله فقرأ من " المؤمنين " عشراً، فقال: هل لكم في الغداء؟ قال عرباض: فجعلت أقول في نفسي: أي غداء؟ فدعا بلال بالتمر، فوضع يده عليه في الصفحة ثم قال: كلوا بسم الله! فأكلنا - والذي بعثه بالحق - حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعوا أيديهم منها شبعاً وإذا التمرات كما هي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أني أستحيي من ربي لأكلنا من هذا التمر حتى نرد المدينة عن آخرنا. وطلع غليم من أهل البلد، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم التمرات بيده فدفعها إليه؛ فولى الغلام يلوكهن. فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير من تبوك أرمل الناس إرمالاً شديداً، فشخص على ذلك الحال حتى جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم فيأكلوها، فأذن لهم؛ فلقيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهم على نحرها، فأمرهم أن يمسكوا عن محرها، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمةٍ له فقال: أذنت للناس في نحر حمولتهم يأكلونها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شكوا إلى ما بلغ منهم الجوع فأذنت لهم، ينحر الرفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون فيما فضل من ظهرهم، وهم قافلون الى أهليهم. فقال: يا رسول الله، لا تفعل؟ فإن يكن للناس فضل من ظهرهم يكن خيراً، فالظهر اليوم رقاق، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلت في منصرفنا من الحديبية حيث أرملنا، فإن الله عز وجل يستجيب لك؟! فنادى منادي رسول الله: منكان عنده فضل من زاد فليأت به؟! وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق والتمر، والقبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر. فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق حزراً. ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا الله عز وجل أن .
يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدثون جميعاً حديثاً واحداً، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو زرعة الجهني معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى منادية: هلموا الى الطعام، خذوا منه حاجتكم! وأقبل الناس، فجعل كل من جاء بوعاء ملأه. فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرةً من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت إحداهما سويقاً والآخر خبزاً، وأخذت في ثوبي دقيقاً، ما كفانا الى المدينة. فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم، حتى كان آخر ذلك أن أخذت الأنطاع ونثر ما عليها.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وفاه الله حر النار.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة - وكان فيه وشل يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين أو الثلاثة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا الى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتي! فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق الماء. قال معاذ ابن جبل: والذي نفسي بيده، لقد سمعت له شدةً في انحرافه مثل الصواعق! فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه! قال: واستقى الناس وشربوا. قال سلمة بن سلامة ابن وقش: قلت لوديعة بن ثابت: ويلك، أبعد ما ترى شئ؟ أما تعتبر؟ قال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا! ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبيد الله بن عبد العزيز، أخو عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة المازني، عن خلاد ابن سويد، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسير في الجيش ليلاً، وهو قافل وأنا معه، إذ خفق خفقةً وهو على راحلته، فعال على شقه، فدنوت منه فدعمته فانتبه، فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط. فدعمتك. فقال: حفظك الله كما حفظت رسول الله! ثم سار غير كثير، ثم فعل مثلها، فدعمته فانتبه فقال: يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول الله! فقال: انظر من خلفك! فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم! فقلت: أجيبوا رسول الله! فجاءوا فعرسنا ونحن خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها؛ فنمنا فما انتبهنا إلا بحر الشمس، فقلنا: إنا لله! فاتنا الصبح! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لنغيظن الشيطان كما أغاظنا. فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة فقال: يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والركوة فإن لها شأناً، ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر لرشدوا. وذلك أن أبا بكر وعمر أراد أن ينزلا بالجيش على الماء، فأبوا ذلك عليهما، فنزلوا على غير ماء بفلاةٍ من الأرض. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل عطشأ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه. وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى ترووا، وأرووا خيلهم وركابهم، فإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير ويقال: خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف. وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: احتفظ بالركوة والإداوة!
وكان في تبوك أربعة أشياء: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير منحدراً الى المدينة وهو في قيظ شديد عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشاً شديداً حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل أسيد بن حضير، في يومٍ صائفٍ وهو متلثم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عسى أن تجد لنا ماء. فخرج وهو فيما بين الحجر وتبوك فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء مع امرأةٍ من بلى، وكلمها أسيد فخبرها بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا الماء، فانطلق به الى رسول الله! وقد وضعت لهم الماء وبينهم وبين الطريق هنية، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: هلموا أسقيتكم! فلم يبق معهم سقاء إلا ملأوه، ثم دعا بر كابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت. ويقال: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به أسيد وصبه في قعبٍ عظيمٍ من عساس أهل البادية، فإدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى ركعتين، ثم رفع مدا، ثم انصرف وإن القعب ليفور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: زودوا! فاتسع الماء، وانبسط. الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان، فأرووا، وإن القعب ليجيش بالرواء، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرداً متروياً من الماء.
قال: وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي سهل، عن عكرمة، قال: خرجت الخيل في كل وجهٍ يطلبون الماء، وكان أول من طلع به وبخبره صاحب فرسٍ أشقر، ثم الثاني أشقر، ثم الثالث أشقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، بارك في الشقر! قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة وسعد بن راشد، عن صالح بن كيسان، عن أبي مرة مولى عقيل، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الخيل الشقر.
قالوا: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبةً في الطريق. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع! فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة رواحلهم بمحجن في يده. وظن القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساق به. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة نزل الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حذيفة، هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول الله، عرفت راحلة فلان وفلان، وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمه الليل.
وكانوا قد أنفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فسقط. بعض متاع رحله، فكان حمزة بن عمرو الأسلمي يقول: فنور لي في أصابعي الخمس فأضئن حتى كنا نجمع ما سقط. من السوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شئ إلا جمعناه. وكان لحق النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة.
فلما أصبح قال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله، ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل من العقبة؟ قال: يا أبا يحيى، أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما اهتموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني من راحلتي. فقال أسيد: يا رسول الله، فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطنٍ أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت، والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم، فلا تبرح حتى آتيكم برؤسهم، وإن كانوا في النبيت فكفيتكهم، وأمرت سيد الخزرج فكفال من في ناحيته، فإن مثل هؤلاء يتركون يا رسول الله؟ حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذله، وضرب الإسلام بجرابه! فما يستبقي من هؤلاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسيد: إني أكره أن يقول الناس إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال: يا رسول الله، فهولاء ليسوا بأصحاب! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلىن ولا شهادة لهم! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك.
قال: حدثني يعقوب بن محمد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلاً، قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة وعمار رحمهما الله.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن ابن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: تنازع عمار بن ياسر ورجل من المسلمين في شئ فاستبا، فلما كاد الرجل يعلو عماراً في السباب قال عمار: كم كان أصحاب العقبة؟ قال: الله أعلم. قال: أخبرني عن علمكم بهم! فسكت الرجل، فقال من حضر: بين لصاحبك ما سألك عنه! وإنما يريد عمار شيئاً قد خفي عليهم، فكره الرجل أن يحدثه، وأقبل القوم على الرجل فقال الرجل: كنا نتحدث أنهم كانوا أربعة عشر رجلاً.
قال عمار: فإنك إن كنت منهم فهم خمسة عشر رجلاً! فقال الرجل: مهلاً، أذكرك الله أن تفضحني! فقال عمار: والله ما سميت أحداً، ولكني أشهد أن الخمسة عشر رجلاً، اثنا عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا؛ ويوم يقوم الأشهاد، " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، فأوحى إليه وراحلته باركة، فقامت راحلته تجر زمامها حتى لقيها حذيفة بن اليمان فأخذ بزمامها فاقتادها حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فأناخها ثم جلس عندها حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فقال: من هذا؟ قال: أنا حذيفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني مسر إليك أمراً فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلى على فلان، وفلان رهط عدة من المنافقين ولا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم لأحدٍ غير حذيفة. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذا مات رجل ممن يظن أنه من أولئك الرهط. أخذ بيد حذيفة فقاده الى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلى عيه عمر، وإن انتزع يده وأبي أن يمشي انصرف معه.
قال: حدثني ابن أبي سبرةن عن سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير، قال: لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً إلا حذيفة، وخم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي. وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا.
قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، وقد كان جاءه أصحاب مسجد الضرار، جاءوا خمسة نفر منهم: معتب بن قشير، وثعلبة ابن حاطب، وخذام بن خالد، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبد الله بن نبتل ابن الحارث. فقالوا: يا رسول الله، إنا رسل من خلفنا من أصحابنا، إنا قد بنينا مسجداً لذي القلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، ونحن نحب أن تأتينا فتصلى بنا فيه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز الى تبوك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا بكم فيه. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوانٍ راجعاً من تبوك أناه خبره وخبر أهله من السماء، وكانوا إنما بنوه؛ قالوا بينهم: يأتينا أبو عامرٍ فيتحدث عندنا فيه، فإنه يقول: لا أستطيع آتي مسجد بني عمرو بن عوف، إنما أصحاب رسول الله يلحقوننا بأبصارهم. يقول الله تعالى: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي العجلاني، ومالك بن الدخشم السالمي، فقال: انطلقا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم حرقاه! فخرجا سريعين على أقدامهما حتى أتيا مسجد بني سالم، فقال مالك بن الدخشم لعاصم بن عدي: أنظرني حين أخرج إليك بنارٍ من أهلي. فدخل الى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه النار. ثم خرجا سريعين يعدوان حتى انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه، وإمامهم يومئذ مجمع بن جارية، فقال عاصم: ما أنسى تشرفهم إلينا كأن آذانهم آذان السرحان. فأحرقناه حتى احترق، وكان الذي ثبت فيه من بينهم زيد بن جارية بن عامر حتى احترقت أليته، فهدمناه حتى وضعناه بالأرض. وتفرقوا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عرض على عاصم بن عدي السمجد يتخذه داراً وكان من دار وديعة بن ثابت ودار أبي عامر الى جنبهما فاحرقوهما معه فقال: ما كنت لأتخذ مسجداً قد نزل فيه ما نزل داراً؛ وإن بي عنه لغني يا رسول الله! ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له. فأعطاه ثابتاً. وكان أبو لبابة بن عبد المنذر قد أعانهم فيه بخشب، وكان غير مفموص عليه في النفاق، ولكنه قد كان يفعل أموراً تكره له. فلما هدم المسجد أخذ أبو لبابة خشبة ذلك فبني به منزلاً، وكان بيته الذي بناه الىجنبه. قال: فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، ولم يقف فيه حمام قط، ولم تحضن فيه دجاجة قط. وكان الذين بنوا مسجد الضرار خمسة عشر رجلاً: جارية بن عامر بن العطاف وهو حمار الدار وابنه مجمع بن جارية وهو إمامهم، وابنه زيد بن جارية وهو الذي احترقت أليته فأبى أن يخرج وابنه يزيد بن جارية، ووديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج، وعبد الله بن نبتل، وبجاد بن عثمان، وأبو حبيبة بن الأزعر، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، وثعلبة بن حاطب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زمام خير من خذام، وسوط خير من بجاد! وكان عبد الله بن نبتل وهو المخبر بخبره يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثه ثم يأتي به المنافقين، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، إن رجلاً من المنافقين يأتيك فيسمع حديثك، ثم يذهب به الى المنافقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهم هو؟ قال: الرجل الأسود ذو الشعر الكثير، الأحمر العينين كأنهما قدران من صفر، كبده كبد حمارٍ فينظر بعين شيطان.
وكان عاصم بن عدي يخبر يقول: كنا نتجهز الى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل، وثعلبة بن حاطب قائمين على مسجد الضرار، وهما يصلحان ميزاباً قد فرغا منه، فقالا: يا عاصم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدنا أن يصلى فيه إذا رجع. فقلت في نفسي: والله، ما نبى هذا المسجد إلا منافق معروف بالنفاق، أسسه أبو حبيبة بن الأزعر، وأخرج من دار خذام بن خالد، ووديعة بن ثابت في هؤلاء النفر والمسجد الذي بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوسسه جبريل عليه السلام يؤم به البيت فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه، وذم أهله الذين جمعوا في بنائه وأعانوا فيه: " الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً " الى قوله " يحب المطهرين " . قالوا: كانوا يستنجون بالماء. " لمسجد أسس على التقوى " ؛ قال: يعني مسجد بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: عني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل منهم عويم بن ساعدة! وقيل لعاصم بن عدي: ولم أرادوا بناءه؟ قال: كانوا يجتمعون في مسجدنا، فإنما هم يتناجون فيما بينهم ويلتفت بعضهم الى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشق ذلك عليهم وأرادوا مسجداً يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على مثل رأيهم. فكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا! وذاك أن أصحاب محمد يلحظونني وينالون مني ما أكره. قالوا: نحن نبني مسجداً تتحدث فيه عندنا.
قالوا: قال كعب بن مالك: لما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأىٍ من أهلي، حتى ربما ذكرته للخادم رجاء أن يأتيني شئ أستريح إليه، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم، ويكل سرائرهم الى الله تعالى.
ويقال من غير حديث كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا تكلموا أحداً منهم تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم. فلم يكلموهم، فلما قدم المدينة جاءه المعذون يحلفون له، وأعرض عنهم، وأعرض المؤمنون عنهم حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه. فجعلوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويعتذرون إليه بالحمى والأسقام، فيرحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا فصدقهم واستغفر لهم، ويكل سرائرهم الى الله عز وجل.
قالوا: وقال كعب بن مالك: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فسلمت عليه، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كاذباً لترضى عني ليوشكن الله عز وجل أن يسخط. على، ولئن حدثتك اليوم حديثاً صادقاً تجد على فيه، إني لأرجو عقبي الله فيه. ولا والله ما كان لي عذر؛ والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد صدقت، فقم حتى يقض الله عز وجل فيك! فقمت وقام معي رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا! وقد عجزت ألا تكون اعتذرت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون؛ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فو الله ما زالوا بي ينوبونني حتى أردت أن أرجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. فلقيت معاذ بن جبل وأبا قتادة فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً إن شاء الله! فأما هؤلاء المعذرون، فإن يكونوا صادقين فسيرضى الله ذلك ويعلمه نبيه، وإن كانوا على غير ذلك يذمهم أقبح الذم ويكذب حديثهم. فقلت لهم: هل لقى هذا غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة وقدوة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي، والأرض فما هي الأرض التي كنت أعرف؛ فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا فقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، وكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، حى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا، ثم أصلى قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فنشدته الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، فوثبت فتسورت الجدار، ثم غدوت الى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق فإذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالسوق، يسأل عني يقول: من يدلني على كعب ابن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له، فدفع الى كتاباً من الحارث بن أبي شمر ملك غسان أو قال من جبلة بن الأيهم في سرقةٍ من حرير؛ فإذا في كتابه: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك. قال كعب: فقلت حين قرأته: وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع في رجال من أهل الشرك. فذهبت بها الى تنور فسجرته بها، وأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتين فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها فلا تقربها. وكان الرسول إلي، وإلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، خزيمة بن ثابت. قال كعب: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ماهو قاض. وأما هلال بن أمية فكان رجلاً صالحاً، فبكى حتى إن كان يرى أنه هالك من البكاء، وامتنع من الطعام، فإن كان يواصل اليومين ولثلاثة من الصوم ما يذوق طعاماً، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو من اللبن، ويصلى الليل ويجلس في بيته لا يخرج؛ لأن أحداً لا يكلمه، حتى إن كان الولدان ليهجرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أن أخدمه فعلت. قال: نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك. فقالت: يا رسول الله
ما به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان الى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.ا به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان الى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.
فكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل: يا أم سلمة، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه. فقلت: يا رسول الله، ألا أرسلت إليهم فأبشرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعونك النوم آخر الليل، ولكن لا يرون حتى يصبحوا. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أخبر الناس بما تاب الله على هؤلاء النفر: كعب بن مالك، ومراراة بن الربيع، وهلال بن أمية. فخرج أبو بكر رضي الله عنه فوافى على سلع فصاح: قد تاب الله على كعب! يبشره بذلك. وخرج الزبير على فرسه في بطن الوادي، فسمع صوت أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يأتي الزبير. وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الى هلال يبشره ببني واقف، فلما أخبره سجد. قال سعيد: فظننت أنه لا يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، وكان بالسرور أكثر بكاءً منه بالحزن حتى خيف عليه؛ ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناله من الضعف والحزن والبكاء، حتى ركب حماراً. وكان الذي بشر مرارة بن الربيع سلكان بن سلامة أبو نائلة، وسلمة بن سلامة بن وقش، ووافيا الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، ثم انطلقا الى مرار فأخبراه، فأقبل مرارة حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.
قال كعب: وكان الصوت الذي سمعت على سلع أسرع من الفارس الذي يركض في الوادي وهو الزبير بن العوام والذي صاح على سلع، يقول كعب: كان رجلاً من أسلم يقال له حمزة بن عمرو، وهو الذي يشرني. قال: فلما سمعت صوته نزعت ثوبي فكسوتهما إياه لبشارته؛ والله ما أملك يومئذ غيرهما! ثم استعرت ثوبين من أبي قتادة فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام غالى طلحة بن أبي طلحة فحياني وهنأني، ما قام الى من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي، ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك! ويقال: قال له: تعال الى خير يومٍ ما طلع عليك شرقه قط. قال كعب: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أو من عند الله؟ فقال: من عند الله عز وجل! قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر يستنير حتى كأن وجهه فلقة القمر، وكان يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه، قلت : يا رسول الله، إن من توبتي الى الله وإلي رسوله أن أنخلع من مالي الى الله ورسوله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، هو خير لك!قال قلت: إني ممسك بسهمي الذي بخيبر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ! قلت: النصف! قال: لا! قلت: فالثلث! قال: نعم! قال: إني يا رسول الله أحبس سهمي الذي بخيبر. قال كعب: قلت: يا رسول الله إن الله عز وجل أنجاني بالصدق، فإن توبتي الى الله ألا أحدث إلا صدقاً ما حييت. قال كعب: والله، ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم الى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي. وقال كعب: قال الواقدي: أنشدنيه أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب: سبحان ربي إن لم يعف عن زللي فقد خسرت وتب القول والعمل قال: وأنزل الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " الى قوله: " وكونوا مع الصادقين " . قال كعب: فو الله ما أنعم الله على من نعمه قط. إذ هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أكون كذبته يومئذ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه. قال الله في الذين كذبوه حين أنزل عليه الوحي شر ما قال: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم " الى قوله " الفاسقين " . قال كعب: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضي الله فيه ما قضي. فبذلك قال الله عز وجل: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " . قال: ليس عن الغزوة، ولكن بتخليفه إيانا، وإرجائه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.
قال كعب حين بنى الخيمة على سلع، فيما حدثني أيوب من النعمان ابن عبد الله بن كعب بن أبي القين:
أبعد دور بني القين الكرام وما ... شادوا على تبتيت البيت من سعف
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في رمضان سنة تسع، فقال: الحمد لله على ما رزقنا في سفرنا هذا من أجرٍ وحسنةٍ ومن بعدنا شركاؤنا فيه. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً سرنا من مسيرٍ ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أوليس الله تعالى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القرى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال!
قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً ما سرنا من مسير ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أو ليس الله تعالى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القوى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال! قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليالٍ بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، ليس بحين عتاب! هو الموت، فإن مت فاحضر غسلي وأعطني قميصك أكفن فيه. فإعطاه الأعلى وكان عليه قميصان فقال: الذي يلي جلدك. فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه، ثم قال: صل علي واستغفر لي! قال: وكان جابر بن عبد الله يقول خلاف هذا، يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت ابن أبي إلى قبره، فأمر به فأخرج، فكشف من وجهه ونفث عليه من ريقه؛ وأسنده الى ركبتيه وألبسه قميصه وكان عليه قميصان وألبسه الذي يلي جلده. والأول أثبت عندنا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غسله وحضر كفنه، ثم حمل الى موضع الجنائز فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام وثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا ويوم كذا كذا؟ فعد عليه قوله. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه عمر قال: إني قد خيرت فاخترت، ولو أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له زدت عليها، وهو قوله عز وجل: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " . فيقال إنه قال: سأزيد على السبعين. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يكن إلا يسيراً حتى نزلت هذه الآيات من براءة: " ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره " . ويقال إنه لم تزل قدماه بعد دفنه حتى نزلت عليه هذه الآية، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية المنافقين، فكان من مات لم يصل عليه.
وكان مجمع بن جارية يحدث يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازةٍ قط. ما أطال عليها من الوقت، ثم خرجوا حتى انتهوا الى قبره، وقد حمل على سرير يحمل عليه موتاهم عند آل نبيط. وكان أنس بن مالك يحدث يقول: رأيت ابن أبي على السرير وإن رجليه لخارجتان من السرير من طوله.
وكانت أم عمارة تحدث قالت: شهدنا مأتم ابن أبي، فلم تتخلف امرأة من الأوس والخزرج إلا أتت ابنته جميلة بنت عبد الله بن أبين وهي تقول: واجبلاه! ما ينهاها أحد ولا يعيب عليها واجبلاه! واركناه! قالوا: ولقد انتهى به الى قبره.
فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد جهدنا أن ندنو من سريره فما نقدر عليه، قد غلب عليه هؤلاء المنافقون وكانوا قد أظهروا الإسلام، وهم على النفاق، من بني قينقاع وغيرهم: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وسلامة بن الحمام، ونعمان بن أبي عامر، ورافع بن حرملة، ومالك بن أبي نوفل، وداعس، وسويد. وكانوا أخابث المنافقين، وكانوا هم الذين يعرضونه. وكان ابنه عبد الله ليس شئ أثقل عليه ولا أعظم من رؤيتهم، وكان به بطن، فكان ابنه يغلق دونهم الباب، فكان ابن أبي يقول: لا يلبني غيرهم. ويقول: أنت والله أحب إلي من الماء على الظمأ. ويقولون: ليت أنا نفديك بالأنفس، والأولاد، والأموال! فلما وقفوا على حفرته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف يلحظهم، ازدحموا على النزول في حفرته وارتفعت الأصوات حتى أصيب أنف داعس، وجعل عبادة بن الصامت يذبهم ويقول: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله! حتى أصيب أنف داعس فسال الدم، وكان يريد أن ينزل في حفرته، فنحى ونزل رجال من قومه، أهل فضلٍ وإسلام؛ وكان لما رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وحضوره، ومن القيام عليه. فنزل في حفرته ابنه عبد الله، وسعد بن عبادة بن الصامت، وأوس بن خولي حتى سوى عليه، وإن علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأكابر من الأوس والخزرج يدلونه في اللحد، وهم قيام مع النبي صلى الله عليه وسلم. وزعم مجمع بن جارية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه بيديه إليهم، ثم قام على القبر حتى دفن، وعزى ابنه وانصرف. فكان عمرو بن أمية يقول: مالقي عليه أصحابه هؤلاء المنافقون، إنهم هم الذين كانوا يحثون في القبر التراب ويقولون: ياليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك! وهم يحثوب التراب على رؤوسهم. فكان الذي يحسن أمره يقول: قوم أهل فقر، وكان يحسن إليهم!
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك
" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الأرض " الى آخر الآية. قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهدٍ من الناس، وحين طابت الثمار واشتهبت الظلال، فأبطأ الناس، وكشفت " برآءة " عنهم ما كان مستوراً، وأبدت أضفانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " يقول: في الآخرة؛ " ويستبدل قوماً غيركم ولاتضروه شيئاً " قيل: يا رسول الله، من هؤلاء القوم؟ " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله. " الآية. قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا الى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البدو. فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة " الآية. ونزل فيهم: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة " الآية " إلا تنصروه فقد نصره الله " يعني من نافق من الأوس والخزرج؛ " إذ أخرجه الذين كفروا " يعني مشركي قريش؛ " ثاني اثنين " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه؛ " إذ هما في الغار " حيث كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه " يقول الطمأنينة، " وأيده بجنود لم تروها " يعني الملائكة؛ " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا " يقول: جعل ما جاءت به قريش من آلهتهم باطلاً، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الظاهر العالي. " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول نشاطأ وغير نشاط، ويقال الخفاف: الشباب، والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوتكم، وجاهدوا في سبيل الله: قاتلوا. " لو كان عرضا قريباً " يعني غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً " يعني سفراً قريباً، " لا تبعوك " يعني المنافقين؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " سفر تبوك عشرون ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " بعين المنافقين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " يعني إنهم مقوون أصحاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم ويقبل عذرهم. قال: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب؛ " الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " فتعلم من له قوة ممن لا قوة له، استأذنك رجال لهم قوة. " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين " ووصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزوة العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " يعني المنافقين في شكهم. " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم " يقول: كانوا أقوياء بأبدانهم وأموالهم ولكن كره الله خروجهم فخذلهم؛ " وقيل اقعدوا مع القاعدين " يعني مع النساء. " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً " يعني ابن أبي، وعبد الله بن نبتل، والجد بن قيس، وكل هؤلاء استأذن ورجع، فيقول: لو كانوا فيكم " ما زادوكم إلا خبالاً " إلا شراً؛ " ولأوضعوا خلالكم " يقول: يدخل المنافق بين الراحلتين فيرفض بهما؛ " يبغونكم الفتنة " هؤلاء النفر، يقول: لأظهروا النفاق ولقالوه. " وفيكم سماعون لهم " يقول: من المنافقين ومن دونهم من يأتيهم بالأخبار وهؤلاء من رؤساهم؛ " والله عليم بالظالمين " . ثم ذكر المنافقين " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " يقول: من قبل خروجك وتشاوروا في كل ما يلبس عليك وعلى أصحابك " حتى جاء الحق " يعني ظهر الحق، " وظهر أمر الله " يعني أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين. " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا " نزلت هذه الآية في الجد بن قيس، وكان من أكثر بني سلمة مالاً وأعد عدةً في الظهر؛ وكان معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تغزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر! فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس رجل أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا "
يتخلفه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.ه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.
" قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين " كان رجال من المنافقين من ذوي الطول يظهرون النفقة، إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى " يقول رياء: " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " يريدون أن يظهر أنهم ينفقون. " فلا تعجبك أموالهم " أي ما أعطيناهم؛ " ولا أولادهم " الذين أعطيناهم إياهم؛ " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: تكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه نفاقاً، وما أنفقوا، فإنما هو رياء. يقول: " وتزهق أنفسهم وهم كافرون " أن يلقوا ربهم على نفاقهم. " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون " أي رؤساءهم وأهل الطول منهم مثل ابن أبي، والجد بن قيس وذويه، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون أنهم معه، وإذا خرجوا نقضوا، يقول: يفرقون من أن يقتلوا لقلتهم في المسلمين " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولا إليه وهم يجمحون " يقول: لو وجدوا جماعة أو يقدرون على هربٍ من دارهم الى قومٍ يعزون فيهم، لذهبوا إليهم سراعاً. " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطو منها رضو وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون " نزلت في ثعلبة بن حاطب، كان يقول: إنما يعطى محمد الصدقات من يشاء! يتكلم بالنفاق. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه فرضى، ثم جاءه قلم يعطه فسخط. يقول الله عز وجل: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله " يقول: لم يسخطوا إذا رده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أعطاه قليلاً بقدر ما يجد؛ " وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا الى الله راغبون " يقول: حسب نبيه.
وقال: إن الله سيرزقنا، وإذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أعطانا.
قال الله عز وجل: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله " . ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً سأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يكلها الى ملك مقربٍ ولا نبي مرسلٍ حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت من جزء منها أعطيتك، وإن كنت غنياً فصداع في الرأس وأذى في البطن، والفقراء فقراء المهاجرين الذين كانوا يسألون الناس والمساكين الذين كانوا في الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. " والعاملين عليها " يعطون قدر عمالتهم ونفقتهم في سفرهم؛ " والمؤلفة قلوبهم " ليس في الناس اليوم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أقواماً، يتألفهم على الإسلام، " وفي الرقاب " يعني المكاتبين؛ " والغارمين " يعني الذين عليهم الدين، يقضي عن الرجل دينه؛ " وفي سبيل الله " يعني المجاهدين؛ " وانب السبيل " الرجل المنقطع به في غير بلده فيعان ويحمل وإن كان في أهله موسراً. وهذه الصدقات ينظر فيها، فإن كان أهل الحاجة والفاقة في صنف واحدٍ فوضع ذلك فيه أجزاءه إن شاء الله. " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خيرٍ لكم " نزلت في عبد الله بن نبتل. قال، كان يقول: إني لأنال من محمد ما أشاء، ثم آتى محمداً فأحلف له فيقبل مني. يقول الله عز وجل: " إذن خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " يعني أنه يقبل من المؤمنين؛ " ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله " يعني ابن نبتل؛ " لهم عذاب أليم " . " يحلفون بالله لكم " حلفه للنبي ما قالوا؛ " ليرضوكم " يعني النبي وأصحاب محمد. ثم يقول: " والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " ألا توذوا رسول الله ولا تقولوا إلا خيراً.
" ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله. " الى آخر الآية، يعني عبد الله ابن نبتل. " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بمافي قلوبهم " قال: كان المنافقون يتكلمون برد الكتاب والحق، فإذا نزل على النبي شئ من القرآن خافوا أن يكون فيما قالوا أو فيما تكلموا. " إن الله مخرج ما تحذرون " يعني ما يتكلمون به. كان نفر منهم في غزوة تبوك: وديعة بن ثابت، وجلاس بن سويد، ومخش بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وثعلبة بن حاطب، فقال ثعلبة: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنهم غداً مقرنين في الحبال! وقال وديعة: إن قراءنا هؤلاء أو عبنا بطوناً، وأحدثنا نسبةً، وأجبننا عند اللقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدركهم فقد احترقوا. " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " الى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " فالذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير؛ والذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت، وجاء الى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه؛ فنزل " قد كفرتم بعد إيمانكم " والذي قال كلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت؛ والذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير، فتيب عليه فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وسأله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة شهيداً. قال الله عز وجل: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر " قال: كان نساء منافقات مع رجال. وقوله: " بعضهم من بعض " أولياء بعض؛ " يأمرون بالمنكر " بأذى النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه؛ " وينهون عن المعروف " عن اتباعه؛ " ويقبضون أيديهم " لا يتصدقون على فقراء المسلمين؛ " نسوا الله فنسيهم " يقول: تركوا الله فتركهم الله. " وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم " يقول: هي جزاءهم ؛ " ولعنهم الله " يعين في الدنيا؛ " ولهم عذاب مقيم " في الآخرة. " كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا يخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم " يعين من كان قبلكم من الأمم ممن كذب الأنبياء واستهزى بهم، وقد رزقهم الله الأموال الكثيرة والأولاد، فذكر أنهم استمتعوا بخلاقهم، ثم ذكر هولاء النافقين أنهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع به أولئك، وقال: " وخضتم كالذي خاضوا " يقول: استهزيتم كما استهزي أولئك؛ " أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " يعني الأمم التي كانت قبلهم، وهم المنافقون. " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " يقول: يأمرون بالأسرم وينهون عن الكفر؛ " ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكا " يتصدقون على الفقراء " ويطيعون الله ورسوله " . يقولك " يا أيها النبي جاهد الكفار " يعني المشركين بالسيف؛ " والمنافقين واغلظ عليهم " فأمره أن يغلظ على المنافقين بلسانهح " ومأواهم جهنم " يعني الكافرين والمنافقين. " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " وديعة بن ثابت؛ " وهموا بما لم ينالوا " قالوا: نضع التاج على رأس عبد الله بن أبي فنتوجه إذا رجعنا، ويقال هم الذين هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم في العقبة؛ " وما نقموا إلا ن إغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم " نزلت في الجلاس بن سويد، كانت له دية في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها له وكان محتاجاً. " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " " فلما آتاهم من فضله " الى قوله " وبما كانوا يكذبون " نزلت في ثعلبة ابن حاطب، وكان محتاجاً لا يجد ما يتصدق به، فقال: والله لئن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأكونن من الصالحين. فأصاب دية، اثنى عشر الف درهم، فلم يتصدق ولم يكن من الصالحين. " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين " قال: جاء زيد بن أسلم العجلاني بصدقة ماله، فقال معتب ابن قشير وعبد الله بن نبتل: إنما أراد الرياء من المؤمنين في الصدقات؛ " والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم " نزلت في علبة بن زيد الحارثي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم خميص البطن، فجاء الى رجلٍ من اليهود فقال: أوجرك نفسي أجر الجرير على أن تعطيني صاعاً من تمر لا تعطيني فيه خدرة الخدرة التي فيها الدخان. أو يقال: جديد ولا
حشف. قال: نعم. فعمل معه الى العصر، ثم أخذ التمر فجاء به الى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عبد الله بن نبتل يقول: انظروا الى هذا وما يصنع، ما كان الله يصنع بهذا، أما كان الله غنياً عن هذا؟ " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " الى آخر الآية.؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعي ليصلى على عبد الله بن أبي فقال: لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت؛ إني خيرت فاخترت! " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " الى قوله " بما كانوا يكسبون " قال: نزلت في الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " فإن رجعك الله الى طائفة منهم " يعني من سفرة تبوك، " فاستاذنوك للخروج " يعني المنافقين الذين كانوا استأذنوه للقعود؛ " فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة " أول سفرى حين خرجت؛ " فاقعدوا مع الخالفين " مع النساء. " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره. " الآية. قال: لما مات ابن أبي وضع في موضع الجنائز، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، تصلي عليه وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا؟ فقال: يا عمر بن الخطاب، إني خيرت فاخترت، فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين صلاة غفر له زدت! وذلك قول الله عز وجل: " اتسغفر لهم أولاً تستغفر لهم " . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، فلما فرغ من دفنه فلم يرم مقامه حتى نزلت هذه الآية: " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً " الآية " وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم " الى قوله " بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء؛ " وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " نزلت في الجد بن قيس، وكان ميلاً، كثير المال. " وجاء المعذرون من الأعراب " يعني المعتذرون، وهم أحد وثمانون من غفار؛ " ليؤذن لهم " في القعود، يقول: ويعذروا في الخروج؛ " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يقول: قعد المنافقون الذين تخلفوا، وقالوا: اجلسوا إن أذن لكم أو لم يأذن. يقول الله عز وجل: " ليس على الضعفاء " أهل الزمانة والشيخ الكبير؛ " ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون " يعني المعسر؛ " حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفور رحيم " إذا كانوا هكذا. يقول الله عز وجل: " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما نيفقون " هؤلاء البكاؤون وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمى، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير. يقول الله عز وجل: " إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء، يعني الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " يعني ما أخبره من قصتهم، " وسيرى الله عملكم ورسوله " يعني المنافقين؛ الى قوله " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم " يعني لا تلوموهم؛ " فأعرضوا عنهم " يعني اتركوهم؛ " إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءٍ بما كانوا يكسبون " . " يحلفون لكم لترضوا عنهم " الى آخر الآية. يقول الله عز وجل: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا تعلموا حدود ما أنزل الله. " الى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " أشد كفراً ونفاقاً وأجدرألا يعلموا حدود ما أنزل الله. " الى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " ومن الأعراب من يتخذ ما نيفق مغرماً " الى قوله " وصلوات الرسول " يعني دعاء الرسول " ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته " . يقول الله عز وجل: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " يعني من صلى القبلتين منهم؛ " والذين اتبعوهم بإحسان " الى آخر الآية. يعين من أسلم قبل الفتح. وفي الفح يقول الله عز وجل: " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب، منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك. " ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لا تعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك.
" ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون الىعذاب عظيم " يقول: الى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " الى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار الى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " الى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " الى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " الى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " الى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " . أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون الىعذاب عظيم " يقول: الى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " الى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار الى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " الى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " الى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " الى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " الى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " .
قال: لما مات أبو طالب استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لآستغفر لك حتى أنهي! فاستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين، فنزلت هذه الآية: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " يقول: ماتوا على كفرهم فر يتوبون. يقول الله عز وجل: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه " قال: وعده أن يسلم؛ " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " لما مات على كفره تبرأ منه؛ " إن إبراهيم لأواه حليم " . قال: الأواه الدعاء. قوله عز وجل: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم " الى آخر الآية. يقول الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين ابتعوه في ساعة العسرة " يعين عزوة العسرةن وهي غزوة تبوك، وكانت في زمنٍ شديد الحر؛ " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم " يقول: أبي خيثمة وما حدث نفسه بالتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحر وبعد الشقة، ثم عزم له على الخروج؛ " ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " . " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " الى قوله: " التواب الرحيم " وهو كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وأما قوله: " الذين خلفوا يعين من تعذر الى النبي صلى الله عليه وسلم ممن قبل منهم.؟ قوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب " يعني غفار، وأسلم، وجهينة، ومزينة، وأشجع؛ " أن يتخلفوا عن رسول الله " في غزوة تبوك؛ " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ " يعني عطش؛ " ولا نصب " يعني تعب؛ " ولا مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطؤن موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطون موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح " . قوله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر " الى آخر الآية، يقول: ما كان المؤمنون إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ أن ينفروا كلهم ويتركوا المدينة خلوفاً بها الذراري، ولكن ينفر من كل قبيلة طائفة. يقول: بعضهم لينظروا كيف سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين ويعوا ما سمعوا منه؛ " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " يعني يخافون الله.
يقول: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " الى آخر الآية. قوله عز وجل: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً " يعني يقيناً وتسليماً؛ فيقول الذين آمنوا: زادتنا يقيناً وتسليماً؛ وأما المنافقون فزادتهم شكا وريبة الى ما كانوا فيه. ويقال إنها في المشركين، فزادتهم شكا وثباتاً على دينهم، وماتوا وهم كافرون. يقول الله عز وجل فيهم: " أولا يرون أنهم يفتنون في كل عامٍ مرة أو مرتين " فأما من جعلها في المنافقين فيقول: يكذبون في السنة مرة أو مرتين، وأما من زعم أنها في المشركين يقول: يبتلون بالغزو في السنة مرة أو مرتين؛ " ثم لا يتوبو " يقول: لا يسلمون. " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم الى بعض " الى آخر الآية. وكان عبد الله بن نبتل يجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المنافقون، فإذا خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بعضهم ببعض؛ " هل يراكم من أحد " يعنون المسلمين؛ يقول: " ثم انصرفوا " يعني استهزأوا فكذبوا بالحق؛ " صرف الله قلوبهم " عنه. يقول الله عز وجل وهو يذكر نبيه: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " يقول: منكم؛ " عزيز عليه ما عنتم " يقول: ما أخطأتم " حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم " . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " .
حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع
قال: حدثني معمر، ومحمد بن عبد الله، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وحارثة بن أبي عمران، وعبد الحميد بن جعفر؛ وكل واحد قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم، قالوا: كان قبل أن تنزل " براءة " ،قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المشركين عهداً؛ فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، فخرج أبو بكر رضي الله عنه في ثلاثمائة من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم النعال، وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات. وحج عبد الرحمن بن عوف فأهدى بدناً، وقوم أهل قوة، وأهل أبو بكر رضي الله عنه من ذي الحليفة، وسار حتى إذا كان بالعرج في السحر سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فقال: هذه القصواء! فنظر فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام عليها، فقال: استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم عل الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ الى كل ذي عهدٍ عهده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الى أبي بكر أن يخالف المشركين، فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمعٍ قبل طلوع الشمس. فخرج أبو بكر حتى قدم مكة وهو مفرد بالحج، فخطب الناس قبل التروية بيومٍ بعد الظهر، فلما كان يوم التروية حين زاغت الشمس طاف بالبيت سبعاص، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وصلى الظهر والعصر والغرب والعشاء والصبح بمنى. ثم لم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير، فانتهى الى نمرة، فنزل في قبةٍ من شعرٍ فقال فيها، فلما زاغت الشمس ركب راحلته فخطب ببطن عرنة، ثم أناخ فصلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، فيما فضل من ظهرهم، وهم قافلون إلى أهليهم. فقال: يا رسول الله، لا تفعل؟ فإن يكن للناس فضل من ظهرهم يكن خيراً، فالظهر اليوم رقاق، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلت في منصرفنا من الحديبية حيث أرملنا، فإن الله عز وجل يستجيب لك؟! فنادى منادي رسول الله: من كان عنده فضل من زاد فليأت به؟! وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق والتمر، والقبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر. فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق حزراً. ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا الله عز وجل أن .
يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدثون جميعاً حديثاً واحداً، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو زرعة الجهني معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى منادية: هلموا إلى الطعام، خذوا منه حاجتكم! وأقبل الناس، فجعل كل من جاء بوعاء ملأه. فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرةً من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت إحداهما سويقاً والآخر خبزاً، وأخذت في ثوبي دقيقاً، ما كفانا إلى المدينة. فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم، حتى كان آخر ذلك أن أخذت الأنطاع ونثر ما عليها.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وفاه الله حر النار.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة - وكان فيه وشل يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين أو الثلاثة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتي! فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق الماء. قال معاذ ابن جبل: والذي نفسي بيده، لقد سمعت له شدةً في انحرافه مثل الصواعق! فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه! قال: واستقى الناس وشربوا. قال سلمة بن سلامة ابن وقش: قلت لوديعة بن ثابت: ويلك، أبعد ما ترى شئ؟ أما تعتبر؟ قال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا! ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبيد الله بن عبد العزيز، أخو عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة المازني، عن خلاد ابن سويد، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسير في الجيش ليلاً، وهو قافل وأنا معه، إذ خفق خفقةً وهو على راحلته، فعال على شقه، فدنوت منه فدعمته فانتبه، فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط. فدعمتك. فقال: حفظك الله كما حفظت رسول الله! ثم سار غير كثير، ثم فعل مثلها، فدعمته فانتبه فقال: يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول الله! فقال: انظر من خلفك! فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم! فقلت: أجيبوا رسول الله! فجاءوا فعرسنا ونحن خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها؛ فنمنا فما انتبهنا إلا بحر الشمس، فقلنا: إنا لله! فاتنا الصبح! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لنغيظن الشيطان كما أغاظنا. فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة فقال: يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والركوة فإن لها شأناً، ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر لرشدوا. وذلك أن أبا بكر وعمر أراد أن ينزلا بالجيش على الماء، فأبوا ذلك عليهما، فنزلوا على غير ماء بفلاةٍ من الأرض. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل عطشا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه. وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى ترووا، وأرووا خيلهم وركابهم، فإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير ويقال: خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف. وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: احتفظ بالركوة والإداوة!
وكان في تبوك أربعة أشياء: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير منحدراً إلى المدينة وهو في قيظ شديد عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشاً شديداً حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل أسيد بن حضير، في يومٍ صائفٍ وهو متلثم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عسى أن تجد لنا ماء. فخرج وهو فيما بين الحجر وتبوك فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء مع امرأةٍ من بلى، وكلمها أسيد فخبرها بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا الماء، فانطلق به إلى رسول الله! وقد وضعت لهم الماء وبينهم وبين الطريق هنية، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: هلموا أسقيتكم! فلم يبق معهم سقاء إلا ملأه، ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت. ويقال: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به أسيد وصبه في قعبٍ عظيمٍ من عساس أهل البادية، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى ركعتين، ثم رفع مدا، ثم انصرف وإن القعب ليفور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: زودوا! فاتسع الماء، وانبسط. الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان، فأرووا، وإن القعب ليجيش بالرواء، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرداً متروياً من الماء.
قال: وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي سهل، عن عكرمة، قال: خرجت الخيل في كل وجهٍ يطلبون الماء، وكان أول من طلع به وبخبره صاحب فرسٍ أشقر، ثم الثاني أشقر، ثم الثالث أشقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، بارك في الشقر! قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة وسعد بن راشد، عن صالح بن كيسان، عن أبي مرة مولى عقيل، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الخيل الشقر.
قالوا: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبةً في الطريق. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع! فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة رواحلهم بمحجن في يده. وظن القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساق به. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة نزل الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حذيفة، هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول الله، عرفت راحلة فلان وفلان، وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمه الليل.
وكانوا قد أنفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فسقط. بعض متاع رحله، فكان حمزة بن عمرو الأسلمي يقول: فنور لي في أصابعي الخمس فأضئن حتى كنا نجمع ما سقط. من السوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شئ إلا جمعناه. وكان لحق النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة.
فلما أصبح قال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله، ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل من العقبة؟ قال: يا أبا يحيى، أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما اهتموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني من راحلتي. فقال أسيد: يا رسول الله، فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطنٍ أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت، والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم، فلا تبرح حتى آتيكم برؤسهم، وإن كانوا في النبيت فكفيتكهم، وأمرت سيد الخزرج فكفال من في ناحيته، فإن مثل هؤلاء يتركون يا رسول الله؟ حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذله، وضرب الإسلام بجرابه! فما يستبقي من هؤلاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسيد: إني أكره أن يقول الناس إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال: يا رسول الله، فهولاء ليسوا بأصحاب! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك.
قال: حدثني يعقوب بن محمد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلاً، قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة وعمار رحمهما الله.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن ابن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: تنازع عمار بن ياسر ورجل من المسلمين في شئ فاستبا، فلما كاد الرجل يعلو عماراً في السباب قال عمار: كم كان أصحاب العقبة؟ قال: الله أعلم. قال: أخبرني عن علمكم بهم! فسكت الرجل، فقال من حضر: بين لصاحبك ما سألك عنه! وإنما يريد عمار شيئاً قد خفي عليهم، فكره الرجل أن يحدثه، وأقبل القوم على الرجل فقال الرجل: كنا نتحدث أنهم كانوا أربعة عشر رجلاً.
قال عمار: فإنك إن كنت منهم فهم خمسة عشر رجلاً! فقال الرجل: مهلاً، أذكرك الله أن تفضحني! فقال عمار: والله ما سميت أحداً، ولكني أشهد أن الخمسة عشر رجلاً، اثنا عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا؛ ويوم يقوم الأشهاد، " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، فأوحى إليه وراحلته باركة، فقامت راحلته تجر زمامها حتى لقيها حذيفة بن اليمان فأخذ بزمامها فاقتادها حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فأناخها ثم جلس عندها حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فقال: من هذا؟ قال: أنا حذيفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني مسر إليك أمراً فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلى على فلان، وفلان رهط عدة من المنافقين ولا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم لأحدٍ غير حذيفة. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذا مات رجل ممن يظن أنه من أولئك الرهط. أخذ بيد حذيفة فقاده إلى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلى عيه عمر، وإن انتزع يده وأبي أن يمشي انصرف معه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير، قال: لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً إلا حذيفة، وخم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي. وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا.
قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، وقد كان جاءه أصحاب مسجد الضرار، جاءوا خمسة نفر منهم: معتب بن قشير، وثعلبة ابن حاطب، وخذام بن خالد، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبد الله بن نبتل ابن الحارث. فقالوا: يا رسول الله، إنا رسل من خلفنا من أصحابنا، إنا قد بنينا مسجداً لذي القلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، ونحن نحب أن تأتينا فتصلى بنا فيه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا بكم فيه. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوانٍ راجعاً من تبوك أناه خبره وخبر أهله من السماء، وكانوا إنما بنوه؛ قالوا بينهم: يأتينا أبو عامرٍ فيتحدث عندنا فيه، فإنه يقول: لا أستطيع آتي مسجد بني عمرو بن عوف، إنما أصحاب رسول الله يلحقوننا بأبصارهم. يقول الله تعالي: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي العجلاني، ومالك بن الدخشم السالمي، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم حرقاه! فخرجا سريعين على أقدامهما حتى أتيا مسجد بني سالم، فقال مالك بن الدخشم لعاصم بن عدي: أنظرني حين أخرج إليك بنارٍ من أهلي. فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه النار. ثم خرجا سريعين يعدوان حتى انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه، وإمامهم يومئذ مجمع بن جارية، فقال عاصم: ما أنسى تشرفهم إلينا كأن آذانهم آذان السرحان. فأحرقناه حتى احترق، وكان الذي ثبت فيه من بينهم زيد بن جارية بن عامر حتى احترقت أليته، فهدمناه حتى وضعناه بالأرض. وتفرقوا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عرض على عاصم بن عدي السمجد يتخذه داراً وكان من دار وديعة بن ثابت ودار أبي عامر إلى جنبهما فاحرقوهما معه فقال: ما كنت لأتخذ مسجداً قد نزل فيه ما نزل داراً؛ وإن بي عنه لغني يا رسول الله! ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له. فأعطاه ثابتاً. وكان أبو لبابة بن عبد المنذر قد أعانهم فيه بخشب، وكان غير مفموص عليه في النفاق، ولكنه قد كان يفعل أموراً تكره له. فلما هدم المسجد أخذ أبو لبابة خشبة ذلك فبني به منزلاً، وكان بيته الذي بناه إلى جنبه. قال: فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، ولم يقف فيه حمام قط، ولم تحضن فيه دجاجة قط. وكان الذين بنوا مسجد الضرار خمسة عشر رجلاً: جارية بن عامر بن العطاف وهو حمار الدار وابنه مجمع بن جارية وهو إمامهم، وابنه زيد بن جارية وهو الذي احترقت أليته فأبى أن يخرج وابنه يزيد بن جارية، ووديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج، وعبد الله بن نبتل، وبجاد بن عثمان، وأبو حبيبة بن الأزعر، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، وثعلبة بن حاطب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زمام خير من خذام، وسوط خير من بجاد! وكان عبد الله بن نبتل وهو المخبر بخبره يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثه ثم يأتي به المنافقين، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، إن رجلاً من المنافقين يأتيك فيسمع حديثك، ثم يذهب به إلى المنافقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهم هو؟ قال: الرجل الأسود ذو الشعر الكثير، الأحمر العينين كأنهما قدران من صفر، كبده كبد حمارٍ فينظر بعين شيطان.
وكان عاصم بن عدي يخبر يقول: كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل، وثعلبة بن حاطب قائمين على مسجد الضرار، وهما يصلحان ميزاباً قد فرغا منه، فقالا: يا عاصم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدنا أن يصلى فيه إذا رجع. فقلت في نفسي: والله، ما نبى هذا المسجد إلا منافق معروف بالنفاق، أسسه أبو حبيبة بن الأزعر، وأخرج من دار خذام بن خالد، ووديعة بن ثابت في هؤلاء النفر والمسجد الذي بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوسسه جبريل عليه السلام يؤم به البيت فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه، وذم أهله الذين جمعوا في بنائه وأعانوا فيه: " الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً " إلى قوله " يحب المطهرين " . قالوا: كانوا يستنجون بالماء. " لمسجد أسس على التقوى " ؛ قال: يعني مسجد بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: عني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل منهم عويم بن ساعدة! وقيل لعاصم بن عدي: ولم أرادوا بناءه؟ قال: كانوا يجتمعون في مسجدنا، فإنما هم يتناجون فيما بينهم ويلتفت بعضهم إلى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشق ذلك عليهم وأرادوا مسجداً يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على مثل رأيهم. فكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا! وذاك أن أصحاب محمد يلحظونني وينالون مني ما أكره. قالوا: نحن نبني مسجداً تتحدث فيه عندنا.
قالوا: قال كعب بن مالك: لما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأىٍ من أهلي، حتى ربما ذكرته للخادم رجاء أن يأتيني شئ أستريح إليه، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعإلى.
ويقال من غير حديث كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا تكلموا أحداً منهم تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم. فلم يكلموهم، فلما قدم المدينة جاءه المعذون يحلفون له، وأعرض عنهم، وأعرض المؤمنون عنهم حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه. فجعلوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويعتذرون إليه بالحمى والأسقام، فيرحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا فصدقهم واستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
قالوا: وقال كعب بن مالك: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فسلمت عليه، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كاذباً لترضى عني ليوشكن الله عز وجل أن يسخط. على، ولئن حدثتك اليوم حديثاً صادقاً تجد على فيه، إني لأرجو عقبي الله فيه. ولا والله ما كان لي عذر؛ والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد صدقت، فقم حتى يقض الله عز وجل فيك! فقمت وقام معي رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا! وقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون؛ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فو الله ما زالوا بي ينوبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. فلقيت معاذ بن جبل وأبا قتادة فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً إن شاء الله! فأما هؤلاء المعذرون، فإن يكونوا صادقين فسيرضى الله ذلك ويعلمه نبيه، وإن كانوا على غير ذلك يذمهم أقبح الذم ويكذب حديثهم. فقلت لهم: هل لقى هذا غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة وقدوة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي، والأرض فما هي الأرض التي كنت أعرف؛ فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا فقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، وكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، حى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا، ثم أصلى قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فنشدته الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، فوثبت فتسورت الجدار، ثم غدوت إلى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق فإذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالسوق، يسأل عني يقول: من يدلني على كعب ابن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له، فدفع إلى كتاباً من الحارث بن أبي شمر ملك غسان أو قال من جبلة بن الأيهم في سرقةٍ من حرير؛ فإذا في كتابه: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك. قال كعب: فقلت حين قرأته: وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع في رجال من أهل الشرك. فذهبت بها إلى تنور فسجرته بها، وأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتين فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها فلا تقربها. وكان الرسول إلي، وإلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، خزيمة بن ثابت. قال كعب: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ماهو قاض. وأما هلال بن أمية فكان رجلاً صالحاً، فبكى حتى إن كان يرى أنه هالك من البكاء، وامتنع من الطعام، فإن كان يواصل اليومين ولثلاثة من الصوم ما يذوق طعاماً، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو من اللبن، ويصلى الليل ويجلس في بيته لا يخرج؛ لأن أحداً لا يكلمه، حتى إن كان الولدان ليهجرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أن أخدمه فعلت. قال: نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك. فقالت: يا رسول الله
ما به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.ا به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.
فكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل: يا أم سلمة، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه. فقلت: يا رسول الله، ألا أرسلت إليهم فأبشرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعونك النوم آخر الليل، ولكن لا يرون حتى يصبحوا. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أخبر الناس بما تاب الله على هؤلاء النفر: كعب بن مالك، ومراراة بن الربيع، وهلال بن أمية. فخرج أبو بكر رضي الله عنه فوافى على سلع فصاح: قد تاب الله على كعب! يبشره بذلك. وخرج الزبير على فرسه في بطن الوادي، فسمع صوت أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يأتي الزبير. وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال يبشره ببني واقف، فلما أخبره سجد. قال سعيد: فظننت أنه لا يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، وكان بالسرور أكثر بكاءً منه بالحزن حتى خيف عليه؛ ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناله من الضعف والحزن والبكاء، حتى ركب حماراً. وكان الذي بشر مرارة بن الربيع سلكان بن سلامة أبو نائلة، وسلمة بن سلامة بن وقش، ووافيا الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، ثم انطلقا إلى مرار فأخبراه، فأقبل مرارة حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.
قال كعب: وكان الصوت الذي سمعت على سلع أسرع من الفارس الذي يركض في الوادي وهو الزبير بن العوام والذي صاح على سلع، يقول كعب: كان رجلاً من أسلم يقال له حمزة بن عمرو، وهو الذي يشرني. قال: فلما سمعت صوته نزعت ثوبي فكسوتهما إياه لبشارته؛ والله ما أملك يومئذ غيرهما! ثم استعرت ثوبين من أبي قتادة فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام غإلى طلحة بن أبي طلحة فحياني وهنأني، ما قام إلى من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي، ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك! ويقال: قال له: تعال إلى خير يومٍ ما طلع عليك شرقه قط. قال كعب: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أو من عند الله؟ فقال: من عند الله عز وجل! قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر يستنير حتى كأن وجهه فلقة القمر، وكان يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه، قلت : يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله وإلي رسوله أن أنخلع من مالي إلى الله ورسوله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، هو خير لك!قال قلت: إني ممسك بسهمي الذي بخيبر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ! قلت: النصف! قال: لا! قلت: فالثلث! قال: نعم! قال: إني يا رسول الله أحبس سهمي الذي بخيبر. قال كعب: قلت: يا رسول الله إن الله عز وجل أنجاني بالصدق، فإن توبتي إلى الله ألا أحدث إلا صدقاً ما حييت. قال كعب: والله، ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي. وقال كعب: قال الواقدي: أنشدنيه أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب: سبحان ربي إن لم يعف عن زللي فقد خسرت وتب القول والعمل قال: وأنزل الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " إلى قوله: " وكونوا مع الصادقين " . قال كعب: فو الله ما أنعم الله على من نعمه قط. إذ هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أكون كذبته يومئذ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه. قال الله في الذين كذبوه حين أنزل عليه الوحي شر ما قال: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم " إلى قوله " الفاسقين " . قال كعب: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضي الله فيه ما قضي. فبذلك قال الله عز وجل: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " . قال: ليس عن الغزوة، ولكن بتخليفه إيانا، وإرجائه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.
قال كعب حين بنى الخيمة على سلع، فيما حدثني أيوب من النعمان ابن عبد الله بن كعب بن أبي القين:
أبعد دور بني القين الكرام وما ... شادوا على تبتيت البيت من سعف
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في رمضان سنة تسع، فقال: الحمد لله على ما رزقنا في سفرنا هذا من أجرٍ وحسنةٍ ومن بعدنا شركاؤنا فيه. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً سرنا من مسيرٍ ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أوليس الله تعإلى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القرى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال!
قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً ما سرنا من مسير ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أو ليس الله تعإلى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القوى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال! قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليالٍ بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، ليس بحين عتاب! هو الموت، فإن مت فاحضر غسلي وأعطني قميصك أكفن فيه. فإعطاه الأعلى وكان عليه قميصان فقال: الذي يلي جلدك. فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه، ثم قال: صل علي واستغفر لي! قال: وكان جابر بن عبد الله يقول خلاف هذا، يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت ابن أبي إلى قبره، فأمر به فأخرج، فكشف من وجهه ونفث عليه من ريقه؛ وأسنده إلى ركبتيه وألبسه قميصه وكان عليه قميصان وألبسه الذي يلي جلده. والأول أثبت عندنا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غسله وحضر كفنه، ثم حمل إلى موضع الجنائز فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام وثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا ويوم كذا كذا؟ فعد عليه قوله. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه عمر قال: إني قد خيرت فاخترت، ولو أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له زدت عليها، وهو قوله عز وجل: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " . فيقال إنه قال: سأزيد على السبعين. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يكن إلا يسيراً حتى نزلت هذه الآيات من براءة: " ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره " . ويقال إنه لم تزل قدماه بعد دفنه حتى نزلت عليه هذه الآية، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية المنافقين، فكان من مات لم يصل عليه.
وكان مجمع بن جارية يحدث يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازةٍ قط. ما أطال عليها من الوقت، ثم خرجوا حتى انتهوا إلى قبره، وقد حمل على سرير يحمل عليه موتاهم عند آل نبيط. وكان أنس بن مالك يحدث يقول: رأيت ابن أبي على السرير وإن رجليه لخارجتان من السرير من طوله.
وكانت أم عمارة تحدث قالت: شهدنا مأتم ابن أبي، فلم تتخلف امرأة من الأوس والخزرج إلا أتت ابنته جميلة بنت عبد الله بن أبين وهي تقول: واجبلاه! ما ينهاها أحد ولا يعيب عليها واجبلاه! واركناه! قالوا: ولقد انتهى به إلى قبره.
فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد جهدنا أن ندنو من سريره فما نقدر عليه، قد غلب عليه هؤلاء المنافقون وكانوا قد أظهروا الإسلام، وهم على النفاق، من بني قينقاع وغيرهم: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وسلامة بن الحمام، ونعمان بن أبي عامر، ورافع بن حرملة، ومالك بن أبي نوفل، وداعس، وسويد. وكانوا أخابث المنافقين، وكانوا هم الذين يعرضونه. وكان ابنه عبد الله ليس شئ أثقل عليه ولا أعظم من رؤيتهم، وكان به بطن، فكان ابنه يغلق دونهم الباب، فكان ابن أبي يقول: لا يلبني غيرهم. ويقول: أنت والله أحب إلي من الماء على الظمأ. ويقولون: ليت أنا نفديك بالأنفس، والأولاد، والأموال! فلما وقفوا على حفرته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف يلحظهم، ازدحموا على النزول في حفرته وارتفعت الأصوات حتى أصيب أنف داعس، وجعل عبادة بن الصامت يذبهم ويقول: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله! حتى أصيب أنف داعس فسال الدم، وكان يريد أن ينزل في حفرته، فنحى ونزل رجال من قومه، أهل فضلٍ وإسلام؛ وكان لما رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وحضوره، ومن القيام عليه. فنزل في حفرته ابنه عبد الله، وسعد بن عبادة بن الصامت، وأوس بن خولي حتى سوى عليه، وإن علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأكابر من الأوس والخزرج يدلونه في اللحد، وهم قيام مع النبي صلى الله عليه وسلم. وزعم مجمع بن جارية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه بيديه إليهم، ثم قام على القبر حتى دفن، وعزى ابنه وانصرف. فكان عمرو بن أمية يقول: مالقي عليه أصحابه هؤلاء المنافقون، إنهم هم الذين كانوا يحثون في القبر التراب ويقولون: ياليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك! وهم يحثوب التراب على رؤوسهم. فكان الذي يحسن أمره يقول: قوم أهل فقر، وكان يحسن إليهم!
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك
" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض " إلى آخر الآية. قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهدٍ من الناس، وحين طابت الثمار واشتهبت الظلال، فأبطأ الناس، وكشفت " برآءة " عنهم ما كان مستوراً، وأبدت أضفانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " يقول: في الآخرة؛ " ويستبدل قوماً غيركم ولاتضروه شيئاً " قيل: يا رسول الله، من هؤلاء القوم؟ " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله. " الآية. قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البدو. فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة " الآية. ونزل فيهم: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة " الآية " إلا تنصروه فقد نصره الله " يعني من نافق من الأوس والخزرج؛ " إذ أخرجه الذين كفروا " يعني مشركي قريش؛ " ثاني اثنين " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه؛ " إذ هما في الغار " حيث كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه " يقول الطمأنينة، " وأيده بجنود لم تروها " يعني الملائكة؛ " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا " يقول: جعل ما جاءت به قريش من آلهتهم باطلاً، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الظاهر العالي. " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول نشاطأ وغير نشاط، ويقال الخفاف: الشباب، والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوتكم، وجاهدوا في سبيل الله: قاتلوا. " لو كان عرضا قريباً " يعني غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً " يعني سفراً قريباً، " لا تبعوك " يعني المنافقين؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " سفر تبوك عشرون ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " بعين المنافقين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " يعني إنهم مقوون أصحاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم ويقبل عذرهم. قال: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب؛ " الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " فتعلم من له قوة ممن لا قوة له، استأذنك رجال لهم قوة. " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين " ووصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزوة العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " يعني المنافقين في شكهم. " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم " يقول: كانوا أقوياء بأبدانهم وأموالهم ولكن كره الله خروجهم فخذلهم؛ " وقيل اقعدوا مع القاعدين " يعني مع النساء. " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً " يعني ابن أبي، وعبد الله بن نبتل، والجد بن قيس، وكل هؤلاء استأذن ورجع، فيقول: لو كانوا فيكم " ما زادوكم إلا خبالاً " إلا شراً؛ " ولأوضعوا خلالكم " يقول: يدخل المنافق بين الراحلتين فيرفض بهما؛ " يبغونكم الفتنة " هؤلاء النفر، يقول: لأظهروا النفاق ولقالوه. " وفيكم سماعون لهم " يقول: من المنافقين ومن دونهم من يأتيهم بالأخبار وهؤلاء من رؤساهم؛ " والله عليم بالظالمين " . ثم ذكر المنافقين " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " يقول: من قبل خروجك وتشاوروا في كل ما يلبس عليك وعلى أصحابك " حتى جاء الحق " يعني ظهر الحق، " وظهر أمر الله " يعني أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين. " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا " نزلت هذه الآية في الجد بن قيس، وكان من أكثر بني سلمة مالاً وأعد عدةً في الظهر؛ وكان معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تغزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر! فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس رجل أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا "
يتخلفه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.ه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.
" قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين " كان رجال من المنافقين من ذوي الطول يظهرون النفقة، إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسإلى " يقول رياء: " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " يريدون أن يظهر أنهم ينفقون. " فلا تعجبك أموالهم " أي ما أعطيناهم؛ " ولا أولادهم " الذين أعطيناهم إياهم؛ " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: تكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه نفاقاً، وما أنفقوا، فإنما هو رياء. يقول: " وتزهق أنفسهم وهم كافرون " أن يلقوا ربهم على نفاقهم. " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون " أي رؤساءهم وأهل الطول منهم مثل ابن أبي، والجد بن قيس وذويه، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون أنهم معه، وإذا خرجوا نقضوا، يقول: يفرقون من أن يقتلوا لقلتهم في المسلمين " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولا إليه وهم يجمحون " يقول: لو وجدوا جماعة أو يقدرون على هربٍ من دارهم إلى قومٍ يعزون فيهم، لذهبوا إليهم سراعاً. " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطو منها رضو وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون " نزلت في ثعلبة بن حاطب، كان يقول: إنما يعطى محمد الصدقات من يشاء! يتكلم بالنفاق. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه فرضى، ثم جاءه قلم يعطه فسخط. يقول الله عز وجل: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله " يقول: لم يسخطوا إذا رده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أعطاه قليلاً بقدر ما يجد؛ " وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " يقول: حسب نبيه.
وقال: إن الله سيرزقنا، وإذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أعطانا.
قال الله عز وجل: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله " . ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً سأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يكلها إلى ملك مقربٍ ولا نبي مرسلٍ حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت من جزء منها أعطيتك، وإن كنت غنياً فصداع في الرأس وأذى في البطن، والفقراء فقراء المهاجرين الذين كانوا يسألون الناس والمساكين الذين كانوا في الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. " والعاملين عليها " يعطون قدر عمالتهم ونفقتهم في سفرهم؛ " والمؤلفة قلوبهم " ليس في الناس اليوم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أقواماً، يتألفهم على الإسلام، " وفي الرقاب " يعني المكاتبين؛ " والغارمين " يعني الذين عليهم الدين، يقضي عن الرجل دينه؛ " وفي سبيل الله " يعني المجاهدين؛ " وانب السبيل " الرجل المنقطع به في غير بلده فيعان ويحمل وإن كان في أهله موسراً. وهذه الصدقات ينظر فيها، فإن كان أهل الحاجة والفاقة في صنف واحدٍ فوضع ذلك فيه أجزاءه إن شاء الله. " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خيرٍ لكم " نزلت في عبد الله بن نبتل. قال، كان يقول: إني لأنال من محمد ما أشاء، ثم آتى محمداً فأحلف له فيقبل مني. يقول الله عز وجل: " إذن خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " يعني أنه يقبل من المؤمنين؛ " ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله " يعني ابن نبتل؛ " لهم عذاب أليم " . " يحلفون بالله لكم " حلفه للنبي ما قالوا؛ " ليرضوكم " يعني النبي وأصحاب محمد. ثم يقول: " والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " ألا توذوا رسول الله ولا تقولوا إلا خيراً.
" ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله. " إلى آخر الآية، يعني عبد الله ابن نبتل. " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بمافي قلوبهم " قال: كان المنافقون يتكلمون برد الكتاب والحق، فإذا نزل على النبي شئ من القرآن خافوا أن يكون فيما قالوا أو فيما تكلموا. " إن الله مخرج ما تحذرون " يعني ما يتكلمون به. كان نفر منهم في غزوة تبوك: وديعة بن ثابت، وجلاس بن سويد، ومخش بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وثعلبة بن حاطب، فقال ثعلبة: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنهم غداً مقرنين في الحبال! وقال وديعة: إن قراءنا هؤلاء أو عبنا بطوناً، وأحدثنا نسبةً، وأجبننا عند اللقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدركهم فقد احترقوا. " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " إلى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " فالذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير؛ والذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه؛ فنزل " قد كفرتم بعد إيمانكم " والذي قال كلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت؛ والذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير، فتيب عليه فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وسأله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة شهيداً. قال الله عز وجل: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر " قال: كان نساء منافقات مع رجال. وقوله: " بعضهم من بعض " أولياء بعض؛ " يأمرون بالمنكر " بأذى النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه؛ " وينهون عن المعروف " عن اتباعه؛ " ويقبضون أيديهم " لا يتصدقون على فقراء المسلمين؛ " نسوا الله فنسيهم " يقول: تركوا الله فتركهم الله. " وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم " يقول: هي جزاءهم ؛ " ولعنهم الله " يعين في الدنيا؛ " ولهم عذاب مقيم " في الآخرة. " كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا يخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم " يعين من كان قبلكم من الأمم ممن كذب الأنبياء واستهزى بهم، وقد رزقهم الله الأموال الكثيرة والأولاد، فذكر أنهم استمتعوا بخلاقهم، ثم ذكر هولاء النافقين أنهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع به أولئك، وقال: " وخضتم كالذي خاضوا " يقول: استهزيتم كما استهزي أولئك؛ " أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " يعني الأمم التي كانت قبلهم، وهم المنافقون. " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " يقول: يأمرون بالأسرم وينهون عن الكفر؛ " ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكا " يتصدقون على الفقراء " ويطيعون الله ورسوله " . يقولك " يا أيها النبي جاهد الكفار " يعني المشركين بالسيف؛ " والمنافقين واغلظ عليهم " فأمره أن يغلظ على المنافقين بلسانهح " ومأواهم جهنم " يعني الكافرين والمنافقين. " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " وديعة بن ثابت؛ " وهموا بما لم ينالوا " قالوا: نضع التاج على رأس عبد الله بن أبي فنتوجه إذا رجعنا، ويقال هم الذين هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم في العقبة؛ " وما نقموا إلا ن إغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم " نزلت في الجلاس بن سويد، كانت له دية في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها له وكان محتاجاً. " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " " فلما آتاهم من فضله " إلى قوله " وبما كانوا يكذبون " نزلت في ثعلبة ابن حاطب، وكان محتاجاً لا يجد ما يتصدق به، فقال: والله لئن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأكونن من الصالحين. فأصاب دية، اثنى عشر الف درهم، فلم يتصدق ولم يكن من الصالحين. " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين " قال: جاء زيد بن أسلم العجلاني بصدقة ماله، فقال معتب ابن قشير وعبد الله بن نبتل: إنما أراد الرياء من المؤمنين في الصدقات؛ " والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم " نزلت في علبة بن زيد الحارثي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم خميص البطن، فجاء إلى رجلٍ من اليهود فقال: أوجرك نفسي أجر الجرير على أن تعطيني صاعاً من تمر لا تعطيني فيه خدرة الخدرة التي فيها الدخان. أو يقال: جديد ولا
حشف. قال: نعم. فعمل معه إلى العصر، ثم أخذ التمر فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عبد الله بن نبتل يقول: انظروا إلى هذا وما يصنع، ما كان الله يصنع بهذا، أما كان الله غنياً عن هذا؟ " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " إلى آخر الآية.؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعي ليصلى على عبد الله بن أبي فقال: لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت؛ إني خيرت فاخترت! " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " إلى قوله " بما كانوا يكسبون " قال: نزلت في الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " فإن رجعك الله إلى طائفة منهم " يعني من سفرة تبوك، " فاستاذنوك للخروج " يعني المنافقين الذين كانوا استأذنوه للقعود؛ " فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة " أول سفرى حين خرجت؛ " فاقعدوا مع الخالفين " مع النساء. " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره. " الآية. قال: لما مات ابن أبي وضع في موضع الجنائز، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، تصلي عليه وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا؟ فقال: يا عمر بن الخطاب، إني خيرت فاخترت، فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين صلاة غفر له زدت! وذلك قول الله عز وجل: " اتسغفر لهم أولاً تستغفر لهم " . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، فلما فرغ من دفنه فلم يرم مقامه حتى نزلت هذه الآية: " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً " الآية " وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم " إلى قوله " بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء؛ " وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " نزلت في الجد بن قيس، وكان ميلاً، كثير المال. " وجاء المعذرون من الأعراب " يعني المعتذرون، وهم أحد وثمانون من غفار؛ " ليؤذن لهم " في القعود، يقول: ويعذروا في الخروج؛ " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يقول: قعد المنافقون الذين تخلفوا، وقالوا: اجلسوا إن أذن لكم أو لم يأذن. يقول الله عز وجل: " ليس على الضعفاء " أهل الزمانة والشيخ الكبير؛ " ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون " يعني المعسر؛ " حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفور رحيم " إذا كانوا هكذا. يقول الله عز وجل: " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما نيفقون " هؤلاء البكاؤون وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمى، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير. يقول الله عز وجل: " إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء، يعني الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " يعني ما أخبره من قصتهم، " وسيرى الله عملكم ورسوله " يعني المنافقين؛ إلى قوله " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم " يعني لا تلوموهم؛ " فأعرضوا عنهم " يعني اتركوهم؛ " إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءٍ بما كانوا يكسبون " . " يحلفون لكم لترضوا عنهم " إلى آخر الآية. يقول الله عز وجل: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا تعلموا حدود ما أنزل الله. " إلى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " أشد كفراً ونفاقاً وأجدرألا يعلموا حدود ما أنزل الله. " إلى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " ومن الأعراب من يتخذ ما نيفق مغرماً " إلى قوله " وصلوات الرسول " يعني دعاء الرسول " ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته " . يقول الله عز وجل: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " يعني من صلى القبلتين منهم؛ " والذين اتبعوهم بإحسان " إلى آخر الآية. يعين من أسلم قبل الفتح. وفي الفح يقول الله عز وجل: " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب، منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك. " ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لا تعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك.
" ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون إلىعذاب عظيم " يقول: إلى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " إلى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " إلى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " إلى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " إلى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " إلى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " . أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون إلىعذاب عظيم " يقول: إلى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " إلى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " إلى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " إلى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " إلى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " إلى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " .
قال: لما مات أبو طالب استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لآستغفر لك حتى أنهي! فاستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين، فنزلت هذه الآية: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " يقول: ماتوا على كفرهم فر يتوبون. يقول الله عز وجل: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه " قال: وعده أن يسلم؛ " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " لما مات على كفره تبرأ منه؛ " إن إبراهيم لأواه حليم " . قال: الأواه الدعاء. قوله عز وجل: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم " إلى آخر الآية. يقول الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين ابتعوه في ساعة العسرة " يعين عزوة العسرةن وهي غزوة تبوك، وكانت في زمنٍ شديد الحر؛ " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم " يقول: أبي خيثمة وما حدث نفسه بالتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحر وبعد الشقة، ثم عزم له على الخروج؛ " ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " . " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " إلى قوله: " التواب الرحيم " وهو كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وأما قوله: " الذين خلفوا يعين من تعذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ممن قبل منهم.؟ قوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب " يعني غفار، وأسلم، وجهينة، ومزينة، وأشجع؛ " أن يتخلفوا عن رسول الله " في غزوة تبوك؛ " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ " يعني عطش؛ " ولا نصب " يعني تعب؛ " ولا مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطؤن موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطون موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح " . قوله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر " إلى آخر الآية، يقول: ما كان المؤمنون إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ أن ينفروا كلهم ويتركوا المدينة خلوفاً بها الذراري، ولكن ينفر من كل قبيلة طائفة. يقول: بعضهم لينظروا كيف سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين ويعوا ما سمعوا منه؛ " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " يعني يخافون الله.
يقول: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " إلى آخر الآية. قوله عز وجل: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً " يعني يقيناً وتسليماً؛ فيقول الذين آمنوا: زادتنا يقيناً وتسليماً؛ وأما المنافقون فزادتهم شكا وريبة إلى ما كانوا فيه. ويقال إنها في المشركين، فزادتهم شكا وثباتاً على دينهم، وماتوا وهم كافرون. يقول الله عز وجل فيهم: " أولا يرون أنهم يفتنون في كل عامٍ مرة أو مرتين " فأما من جعلها في المنافقين فيقول: يكذبون في السنة مرة أو مرتين، وأما من زعم أنها في المشركين يقول: يبتلون بالغزو في السنة مرة أو مرتين؛ " ثم لا يتوبو " يقول: لا يسلمون. " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض " إلى آخر الآية. وكان عبد الله بن نبتل يجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المنافقون، فإذا خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بعضهم ببعض؛ " هل يراكم من أحد " يعنون المسلمين؛ يقول: " ثم انصرفوا " يعني استهزأوا فكذبوا بالحق؛ " صرف الله قلوبهم " عنه. يقول الله عز وجل وهو يذكر نبيه: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " يقول: منكم؛ " عزيز عليه ما عنتم " يقول: ما أخطأتم " حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم " . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " .
حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع
قال: حدثني معمر، ومحمد بن عبد الله، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وحارثة بن أبي عمران، وعبد الحميد بن جعفر؛ وكل واحد قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم، قالوا: كان قبل أن تنزل " براءة " ،قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المشركين عهداً؛ فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، فخرج أبو بكر رضي الله عنه في ثلاثمائة من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم النعال، وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات. وحج عبد الرحمن بن عوف فأهدى بدناً، وقوم أهل قوة، وأهل أبو بكر رضي الله عنه من ذي الحليفة، وسار حتى إذا كان بالعرج في السحر سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فقال: هذه القصواء! فنظر فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام عليها، فقال: استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم عل الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ إلى كل ذي عهدٍ عهده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أبي بكر أن يخالف المشركين، فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمعٍ قبل طلوع الشمس. فخرج أبو بكر حتى قدم مكة وهو مفرد بالحج، فخطب الناس قبل التروية بيومٍ بعد الظهر، فلما كان يوم التروية حين زاغت الشمس طاف بالبيت سبعاص، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وصلى الظهر والعصر والغرب والعشاء والصبح بمنى. ثم لم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير، فانتهى إلى نمرة، فنزل في قبةٍ من شعرٍ فقال فيها، فلما زاغت الشمس ركب راحلته فخطب ببطن عرنة، ثم أناخ فصلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب راحلته، فوقف بالهضاب - الهضاب: عرفة، والمصلى منعرفة فلما أفطر الصائم دفع، فكان يسير العنق حتى انتهى إلى جميعٍ، فنزل قريباً منالنار التي على قزح. فلما طلع الفجر صلى الفجر، ثم وقف، فلما أسفر دفع، وجعل يقول في وقوفه: يا أيها الناس، أسفروا! يا أيها الناس، أسفروا! ثم دفع قبل الشمس، فكان يسير العنق حتى انتهى إلى محسر فأوضع راحلته، فلما جاز وادي محسر عاد إلى مسيره الأول، حتى رمى الجمرة راكباً؛ سبع حصيات، ثم رجع إلى المنحر فنحر، ثم حلق. وقرأ على بن أبي طالب رضوان الله عليه يوم النحر عند الجمرة " براءة " ونبذ إلى كل ذي عهد عهده. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان وكان أبو هريرة يقول: حضرت ذلك اليوم - فكان يقول: هو يوم الحج الأكبر - فخطب أبو بكر رضي الله عنه يوم النحر بعد الظهر على راحلته. فكان أبو بكر قد خطب في حجته ثلاثة أيام لم يزد عليها؛ قبل التروية بيومٍ بمكة بعد الظهر، وبعرفة قبل الظهر، وبمنى يوم النحر بعدالظهر. وأقام أبو بكر رضي الله عنه يرمي الجمار ماشياً، ذاهباً وجائياً، فلما كان يوم الصدر - قالوا: رمى ماشياً - فلما جاوز العقبة ركب ويقال: رمى يومئذ راكباً، فلما انتهى إلى الأبطح صلى به الظهر، ودخل مكة فصلى بها المغرب والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلاً إلى المدينة.
سرية على بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمنقالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب عليه السلام في رمضان سنة عشر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعسكر بقباء، فعسكر بها حتى تتام أصحابه، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لواء، أخذ عمامةً فلفها مثنية مربعة فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه وقال: هكذا اللواء! وعممه عمامةً، ثلاثة أكوار، وجعل ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه، ثم قال: هكذا العمة!
قال: فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع، قال: لما وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: امض ولا تلتفت! فقال علي عيه السلام: يا رسول الله، كيف أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فر تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً، فإن قتلوا منكم قتيلاً فلا تقاتلهم، تلومهم ترهم أناه، ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا نعم فقل: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا نعم فقل: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردونها على فقرائكم؟ فإن قالوا نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك. والله، لأن يهدي الله علي يدك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت! قال: فخرج في ثلاثمائة فارس، فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد، فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد - وهي أرض مذحج - فرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك. فجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقاهم جمع، ثم لقي جمعاً فدعاهم إلى الإسلام وحرض بهم، فأبوا ورموا في أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السلمى فتقدم به، فبرز ورجل من مذحجٍ يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن الخزاعي السلمى، فتجاولا ساعة وهما فارسان، فقتله الأسود وأخذ سلبه. ثم حمل عليهم علي بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً، فكف عن طلبهم ودعاهم إلىالإسلام، فسارعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام، فسارعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله! قال: فحدثني عمر بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، قال: وجمع علي عليه السلام ما أصاب من تلك الغنائم فجزأها خمسة أجزاء؛ فأقرع عليهان فكتب في سهم منها لله فخرج أول السهام سهم الخمس، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً. فكان من قبله يعطون أصحابهم الحاضر دون غيرهم من الخمس. ثم يخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فر يرده عليهم، فطلبوا ذلك من علي عليه السلام فأبى وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى فيه رأيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم، ونلقاه ويصنع فيها ما أراه الله. فانصرف راجعاً، وحمل الخمس وساق معه ما كان ساق، فلما كان بالفتق تعجل. وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع، فكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن، أحمال معكومة، ونعم تساق مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم.
قال أبو سعيد الخدري وكان معه في تلك الغزوة قال: وكان علي عليه السلام ينهانا أن نركب على إبل الصدقة؛ فسأل أصحاب علي عليه السلام أبا رافع أن يكسوهم ثياباً فكساهم ثوبين ثوبين. فلما كانوا بالسدرة داخلين مكة، خر علي عليه السلام يتلقاهم ليقدم بهم فينزلهم، فرأى علي أصحابنا ثوبين ثوبين على كل رجل، فعرف الثياب فقال لأبي رافع: ما هذا؟ قال: كلموني ففرقت من شكايتهم، وظننت أن هذا يسهل عليك، وقد كان من كان قبلك يفعل هذا بهم. فقال رأيت إبائي عليهم ذلك! وقد أعطيتهم، وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت، فتعطيهم! قال: فأبى علي عليه السلام أن يفعل ذلك حتى جرد بعضهم من ثوبيه، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا، فدعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ فقال: ما أشكيتهم؟ قسمت عليهم ما غنموا، وحبست الخمس حتى يقدم عليك وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أموراً، ينفلون من أرادوا من الخمس، فرأيت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فحدثني سالم مولى ثابت، عن سالم مولى أبي جعفر، قال:
لما ظهر علي عليه السلام على عدوه ودخلوا في الإسلام، جمع ماغنم واستعمل عليه بريدة بن الحصيب، وأقام بين أظهرهم، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره أنه لقى جمعاً من زبيد وغيرهم، وأنه دعاهم إلى الإسلام وأعلمهم أنهم إن أسلموا كف عنهم، فأبوا ذلك وقاتلهم. قال علي عليه السلام: فرزقني الله الظفر عليهم حتى قتل منهم من قبل. ثم أجابوا إلى ما كان عرض عليهم، فدخلوا في الإسلام وأطاعوا بالصدقة، وأتى بشر منهم للدين، وعلمهم قراءة القرآن. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافيه في الموسم، فانصرف عبد لله بن عمرو بن عوف إلى علي عليه السلام بذلك.
قال: فحدثني سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن يونس بن ميسرة ابن حليس، قال: لما قدم علي بن أبي طالب عليه السلام اليمن خطب به، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته، فأقبل على راحلته في حلة، معه حبر من أحبار اليهود، حتى استمعا له فواقفاه، وهو يقول: إن من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. قال كعب: صدق! فقال علي: وفيهم من لايبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. فقال كعب: صدق! فقال علي عليه السلام: ومن يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة. فقال كعب: صدق! فقال الحبر: وكيف تصدقه؟ قال: أما قوله: " من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار " فهو المؤمن بالكتاب الأول ولا يومن بالكتاب الآخر.
وأما قوله: منهم من ريبصر بالليل ولا يبصر بالنهار فهو الذي لا يؤمن بالكتاب الأول ولا الآخر. وأما قوله: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة فهو ما يقبل الله من الصدقات. قال: وهو مثل رأيته بين! قالوا: وجاء كعباً سائل فأعطاه حلته، ومضى الحبر مغضباً؟ ومثلت بين يدي كعب امرأة تقول: من يبادل راحلةً براحلة؟ فقال كعب: وزيادة حلة؟ قالت نعم! فأخذ كعب وأعطى، وركب الراحلة ولبس الحلة، وأسرع السير حتى لحق الحبر وهو يقول: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة! قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن نسطاس، عن عمرو بن عبد الله العبسي، قال: قال كعب الأحبار: لما قدم علي عليه السلام اليمن، لقيته فقلت: أخبرني عن صفة محمد. فجعل يخبرني عنه،وجعلت أتبسم فقال: مم تتبسم فقلت: مما يوافق ما عندنا من صفته. فقال: ما يحل وما يحرم، فقلت: فهو عندنا كما وصفت! وصدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به. ودعوت من قبلنا من أحبارنا، وأخرجت إليهم سفراً فقلت: هذا كان أبي يختمه على ويقول: لا تفتحه حتى تسمع بنبى يخرج بيثرب. قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، فقدمت في خلافه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وياليت أني كنت تقدمت في الهجرة!
باب ما جاء يؤخذ من الصدقاتأخبرنا ابن أبي حية قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني سالم مولى ثابت، عن يحيى بن شبل، قال: قرأت كتاباً عند أبي جعفر فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به محمد رسول الله، أن يؤخذ من صدقات المسلمين من سوائم مواشيهم من كل أربعين شاةٍ شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاة إلى المائتين، فإذا زادت ففيها ثلاث إلى ثلاثمائة، فإذا زادت شاة ففي كل مائة شاةٍ شاة. وفي صدقة الإبل، في أربع وعشرين فما دونها الغنم في كل خمس شاة، وفي صدقة الإبل، في أربع وعشرين فما دونها الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم يوجد بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ ستا وأربعين، ففيها حقة إلى أن تبلغ إحدى وتسعين، ففيها حقتان طروقتا الفحل، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا يتس، ولا ذات عوار، إلا أن يشاء المصدق، ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرقين، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين نت لبون، وليس فيما دون ثلاثين من البقر صدقة، وفي كل ثلاثين جذع أو جذعة، وفي كل أربعين مسنة. وفيما سقت السماء أو سقى بالغيل العشر، ما سقى بالغرب نصف العشر، ومن كان على يهودية أو نصرانية لم يفتن عنها، وأخذ منه دينار على كل حالم، أو عدله من المعافري.
قال: حدثنا إبراهيم بن أبي بكر بن المكيدر، عن حسين بن أبي بشير المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا مع علي عليه السلام باليمن، فرأيته يأخذ الحب من الحب، والبعير من الإبل، والشاء من الغنم، والبقرة من البقر، والزبيب من الزبيب، وكان لا يكلف الناس مشقة، وكان يأتيهم في أفنيتهم فيصدق مواشيهم ويأمر من يسقب بذلك، وكان لا يفرق الماشية، كان يقعد فما أتى به من شاةٍ فيها وفاء له أخذها، ويأمر من يسقب بذلك ويقسم على فقرائهم يسقب: يسعى عليهم يأخذ الصدقة من ها هنا ومن ها هنا؛ يعرفهم.
قال: حدثنا الحارث بن محمد الفهري، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رجاء بن حيوة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن سعيد بن العاص مع رسل حمير، وبعث علياً عليه السلام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اجتمعتما في مكيدةٍ فعلى على الناس، وإن افترقما فكل على حدة. قال رجاء: وكان قد قضي بها قضية؛ دية النفس مائة من الإبل على أهل الإبل، وألفى شاة على أهل الغنم؛ مائتي جذعة أي ثم ضالع الشاة جذعة، ثم ثنية ومائتي بقرة نصفها تبيع قالوا: احتفر قوم باليمن بشراً، فأصبحوا وقد سقط فيها أسد، فأصبح الناس ينظرون إليه، فسقط إنسان في البئر، فتعلق بآخر فتعلق الآخر بآخر حتى كانوا في البئر أربعة؛ فحرب الأسد بهم فقتلهم، فأهوى له رجل برمحه فقتله. فقال الناس: الأول عليه ديتهم فهو قتلهم.
فأرادوا يقبلون، فمر بهم على عليه السلام فقال: أنا أقضي بينكم بقضاء، فمن رضي فهو إلى قضائه، ومن تجاوز إلى غيره فر حق له حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فيكم؛ اجمعوا من حضر البئر من الناس! فجمعوا كل من حضر البئر، ثم قال: ربع دية، وثلث دية، ونصف دية، ودية تامة؛ فالأسفل ربع دية، من أجل أنه هلك من فوقه ثلاثة؛ وللثاني ثلث الدية، لأنه هلك اثنان، وللثالث نصف الدية، من أنه هلك فوقه واحد؛ وللأعلى الدية كاملة. فإن رضيتم فهو بينكم قضاءن وإن لم ترضوا فلا حق لكم حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقضي بينكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته وهم عشرة نفر، فجلسوا بين يديه وقصوا عليه خبرهم، فقال: أنا أقضي بينكم إن شاء الله! فقام أحد النفر فقال: يا رسول لله، إن عليا قد قضى بيننا. فقالك فيم قضى بينكم؟ فأخبروه بما فضى به، فقال: هو ماقضى به. فقام القوم فقالوا: هذا قضاء من رسول الله. فلزم المقضى عليهم وسألهم عن الأسد، أهي في بلادهم. فقالوا: يا رسول الله، إنها لكثيرة تغير على ماشيتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم عن الأسد؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنه غدا على ابن لحواء فأكله، فأقبلت عليه حواء فقالت: ويلك، أكلت ابني! قال: وما يمنعني أن آكل رزقاً ساقه الله إلي. فأقبل آدم فقال: ويلك، تخاطبها وقد أكلت ابنها؟ اخسأ! فطأطأ رأسه، فلذلك لا يمشي إلا غيرها، وإن شئتم تركته يجالسكم وتحذرون منه. فخلا بعضهم ببعض فقالوا: وظف له وظيفة. فقال بعضهم: نخشى ألا يحملها قومنا ولا يطيعون بها، فنكون قد قلنا لرسول اله صلى الله عليه وسلم قولاً لا نفي به. فقالوا: يا رسول الله، دعه يجالسنا ونتحذر منه. فقال: فذاك! فولى القوم راجعين إلى قومهم، فلما قدموا على قومهم أخبروهم فقالوا: والله ماهديتم لرشدكم، لو قبلتم ما وظف له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنتم منه. فهيأوا رجلاً يبعثونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقاه الرسول.
قال: وحدثني أبو بكر بن عبد الله، وحاتم بن إسماعيل مولى لآل الحارث بن كعب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: قدم علي عليه السلام من اليمن، فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك على عليها فقالت: أمرني بهذا أبي! قال علي، وهو بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ذكرت عنه، وأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقالت أبي أمرني بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت! ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال، قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك! قال: فإن معي الهدي فر تحل! فكانت جماعة الهدي الذي جاء به علي عليه السلام والذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مائة بدنة، فحل الناس وقص من لم يكن معه هدى، ثم نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وأشرك علياً عليه السلام في هديه.
حجة الوداعقال: حدثني معمر بن راشد، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وموسى ابن محمد، وابن أبي ذئب، وأبو حموة عبد الواحد بن ميمون، وحزام ابن هشام، وابن جريج، وعبد الله بن عامر، فكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفةٍ، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير من سميت قد حدثنا أيضاً، قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام يضحى بالمدينة كل عام، لا يحلق ولا يقصره ويغزو المغزي، ولم يحج حتى كان في ذي القعدة سنة عشر من مهاجره، فأجمع الخروج وآذن الناس بالحج، وقدم المدينة بشر كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بعمله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاث عمر، أولها عمرة الحديبية، نحر بالحديبية وحلق في ذي القعدة سنة ست، ثم عمرة القضية سنة سبع في ذي القعدة، وأهدى ستين بدنة، ونحر عند المروة وحلق، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: سألت سعيد بن المسيب: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن نبي إلى أن توفي؟ قال: حجة واحدة من المدينة. قال الحارث: فسألت أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، قال: حج حجة بمكة قبل الهجرة وبعد النبوة، وحجته من المدينة. وكان مجاهد يقول: حجتين، قبل الهجرة والأمر المعروف عندنا الذي اجتمع عليه أهل بلدنا، إنما حج حجة واحدة من المدينة، وهي الحجة التي يقول الناس إنها حجة الوداع.
قال: فحدثني الثورى، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كره أن يقال حجة الوداع. فقيل: حجة الإسلام؟ قال: نعم.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين، وأحرم عند صلاة الظهر من يومه ذلك، وهذا الثبت عندنا. قال: فحدثنا عاصم بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى ذي الحليفة عند الظهر، فبات لأن يجتمع إليه أصحابه والهدي حتى أحرم عند الظهر من الغد.
قال: فحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن أبيه، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته مدهناً مترجلاً متجرداً حتى أتى ذا الحليفة.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في ثوبين صحاريين، إزار ورداء، وأبدلهما بالتنعيم بثوبين من جنسهما.
قالوا: لما اجتمع إليه نساؤه وكان حج بهن جميعاً في حجته في الهوادج وانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماع أصحابه والهدي، دخل مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى الظهر وصلى ركعتين، ثم خرج فدعا بالهدى فأشعره في الجانب الأيمن، وقلد نعلين. ثم ركب ناقته، فلما استوى بالبيداء أحرم.
فقال: فحدثني خالد بن إلياس، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة قالت: انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة ليلاً، ومعنا عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، فبتنا بذي الحليفة، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت الهدي يعرض عليه، فلما صلى الله عليه وسلم الظهر أشعر هديه وقلده قبل أن يحرم. ولاقول الأول أثبت عندنا أنه لم يبت.
قال محمد بن نعيم المجمر، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشعر بدنه أتى ببدنة فأشعرها هو بنفسه وقلدها. وكان ابن عباس يقول: أشعرها ووجهه إلى القبلة؛ وساق مائة بدنة. ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يشعر ما فضل من البدن ناجية بن جندب، فاستعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهدي.
قال: فحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن ناجية بن جندب، قال: كنت على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، وكان معي فتيان من أسلم، كنا نسوقها سوقاً نبتغير بها الرعي، وعليها الجلال، فقلت: يا رسول الله، أرأيت ما عطب منها، كيف أصنع به؟ قال: تنحره وتلقى قلائده في دمه، ثم تضرب به صفحته اليمنى، ثم لا تأكل منها ولا أحد من أهل رفقتك.
قال: ثم قدمنا مكة بعد يوم، ثم رحلنا يوم التروية إلى عرفة بالهدي، ثم انحدرنا من عرفة حتى انتهينا إلى جمع، ثم انتهينا من جمعٍ إلى منزل النبي صلى الله عليه وسلم أن سق الهدي إلى المنحر! فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحر الهدي بيديه وأنا أقدمها إليه تعتب في العقل.
قالوا: ومر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يسوق بدنه فقال: اركبها ويلك! قال: إنهابدنة! قال: اركبها! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المشاة أن يركبوا على بدنه.
قالوا: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: طيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إحرامه بيدي. وكانت تقول: أحرمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيبت، فلما كنا بالقاحة سال من الصفرة على وجهي فقال: ما أحسن لونك الآن يا شقيراء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بين مكة والمدينة ركعتين، آمنا لا يخاف إلا اله تعإلى، فلما قدم مكة صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم سلم، ثم قال: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا سفر! وقد اختلف علينا فيما أهل به صلى الله عليه.
قال: فحدثني ابن أبي طوالة، عن حبيب بن عبد الرحمن، عن محمود ابن لبيد، عن أبي طلحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن مع حجته عمرة.
قال: وحدثني مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت، قلت: يا رسول الله، تأمر الناس أن يحلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هدبي، فلا أحل حتى أنحر هدبي.
حدثني سعمر، عن الزهري، عن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث، عن سعد بن أبي وقاص؛ ومعمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: قالا. أخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة وساق الهدي.
قال: فحدثني مالك بن أنس، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فكان هذا الأمر الذي أخذ به أهل المدينة وثبت عندهم. قالت عائشة: وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحد بملل، ثم راح فتعش بشرف السيالة، وصلى بالشرف الغرب والعشاء، وصلى الصبح بعرق الظبية بين الروحاء والسيالة وهو دون الروحاء، في المسجد الذي عن يمين الطريق. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الروحاء، فإذا بحمارٍ عقيرٍ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، هذا حمار عقير، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، هذا حمار عقير. قال: دعوه حتى يأتي صاحبه. فجاء النهدى وهو صاحبه فأهداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين أصحابه، وقال: صيد البر لكم حلال، إلا ما صدتم أو صيد لكم. ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلممن الروحاء فصلى العصر بالمنصرف، ثم صلى المغرب والعشاء وتعشى به، وصلى الصبح بالأثاية وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج.
قال: فحدثني أبو حمزة عبد الواحد بن مصون، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: وكان أبو بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: إن عندي بعيراً نحمل عليه زادنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إذا! قالت: فكانت زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بزاد، دقيقٍ وسويق، فجعل على بعير أبي بكر. وكان غلامه يركب عليه عقبة، فلما كان بالأثاية عرس الغلام وأناخ بعيره فغلبته عيناه، فقام البعير يجر خطامه آخذاً في الشعب، وقام الغلام فلزم الطريق، يظن أنه سلكها، وهو ينشده فلا يسمع له بذكر. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبيات بالعرج، فجاء الغلام مظهراً. فقال أبو بكر رضي الله عنه: أين بعيرك؟ قال: ضل مني! قال: ويحك، لو لم يكن إلا أنا لهان الأمر علي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله! فلم يلبث أن طلع به صفوان بن المعطل، وكان صفوان على ساقة الناس، وأناخه على باب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: انظر هل تفقد شيئاً من متاعك! فنظر فقال: مانفقد شيئاً إلا قعباً كنا نشرب به، فقال الغلام: هذا القعب معي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: أدى الله عنك الأمانة! قال: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن أسماء بنت أبي بكر رضي اله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل العرج جلس بفناء منزله، ثم جاء أبو بكر رضي الله عنه فجلس إلى جنبه، فجاءت عائشة رضي الله عنها فجلست إلى جنبه الآخر، وجاءت أسماء فجلست إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه، وأقبل غلام أبي بكر متسربلاً، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أين بعيرك؟ قال: أضلني. فقام إليه أبو بكر رضي الله عنه يضربه ويقول: بعي واحد يضل منك؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: ألا ترون إلى هذا المحرم وما يصنع؟ وما ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فحدثني أبو حمزة، عن عبد الله بن سعد الأسلمي، عن آل نضلة الأسلمي، أنهم خبروا أن زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت، فحملوا جفنة من حيس فأقبلوا بها حتى وضعوها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: " هلم يا أبا بكر، فقد جاءك الله بغداء طيب " ! وجعل أبو بكر رضي الله عنه يغتاظ على الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هون عليك، فإن الأمر ليس إليك، ولا إلينا معك " ! قد كان الغلام حريصاً ألا يضل بعيره، وهذا خلف مما كان معه. فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله وأبو بكر، وكل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شبعوا.
قال: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد بزاملة تحمل زاداً، يومان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يجدا الرسول صلى الله عليه وسلم واقفاً عند باب منزله قد أتى الله بزاملته، فقال سعد: يا رسول الله، قد بلغنا أن زاملتك أضلت مع الغلام، وهذه زاملة مكانها. فقال رسول الله، قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله عليكما! أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟ قال سعد: يا رسول الله، المنة لله ولرسوله، والله يا رسول الله، للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الذي تدع. قال: صدقتم يا أبا ثابت، أبشر فقد أفلحت! إن الأخلاق بيد الله عز وجل، ومن أراد الله أن يمنحه منها خلقاً صالحاً منحه، ولقد منحك الله خلقاً صالحاً. فقال سعد: الحمد لله الذي هو فعل ذلك! قال ثابت بن قيس: يا رسول الله، إن أهل بيت سعد في الجاهلية سادتنا والمطعون في المحل منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لهم ما أسلموا عليه " .
قال ابن أبي الزناد، يقول له جميل ذكره، قال: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيى جمل، وهو محرم، في وسط رأسه قال: حدثني بذلك محمد، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وسليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن الأعرج، عن ابن بحينة، قالوا: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم السقيا يوم الأربعاء، ثم أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء، فأهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار يقطر دماً، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنا حرم فكان معاوية يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بالأبواء لياء مقشى أهدى له من ودان، ثم قام فصلى ولم يتوضأ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي ينظر وادي الأبواء، على يسارك وأنت موجه إلى مكة. ثم راح النبي صلى الله عليه وسلم من الأبواء فصلى بتلعات اليمن، وكان هناك سمرة. كان ابن عمر يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها، وكان ابن عمر يصب الإداوة تحتها إذا مر بها، يسقيها.
قال: حدثني أفلح بن حميد، عن أبيه، قال: كان ابن عمر يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها، وأن ابن عمر كان يصب الإداوة تحتها في أصل السمرة، يريد بقاءها.
قال: فحدثني أفلح بن حميد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي هناك حين يهبط. من ثنية أراك على الجحفة، ونزل يوم الجمعة الجحفة، ثم راح منها فصلى في المسجد الذي يحرم منه مشرفاً خارجاً من الجحفة، والمسجد الذي دون خم عن يسار الطريق، فكان يوم السبت بقديد، فصلى في المسجد المشلل، وصلى في المسجد الذي أسفل من لفت.
قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن أبيه، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بامرأة في محفتها، ومعها ابن لها صغير، فأخذت بعضده فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ فقال: نعم، ولك أجر وكان يوم الأحد بعسفان، ثم راح فلما كان بالغميم اعترض المشاة، فصفوا له صفوفاً فشكوا إليه المشي، فقال: استعينوا بالنسلان. ففعلوه فوجدوا لذلك راحة. وكان يوم الاثنين بمر الظهران، فلم يبرح منها حتى أمسى، وغربت له الشمس، فلم يصل المغرب حتى دخل مكة. فلما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما، بين كدى وكداء، ثم أصبح فاغتسل، ودخل مكة نهاراً.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعد، عن عكرمة. عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة نهاراً من كدى على راحلته القصواء إلى الأبطح، حتى دخل من أعلى مكة حتى انتهى إلى الباب الذي يقال له باب بني شيبة. فلما رأى البيت رفع يديه، فوقع زمام ناقته فأخذه بشماله. قالوا: ثم قال حين رأى البيت: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً! قال: فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المسجد بدأ بالطواف قبل الصلاة. قالوا: ولما انتهى إلى الركن اسلمه وهو مضطبع بردائه، وقال بسم الله، والله أكبر! ثم رمل ثلاثة من الحجر. وكان يأمر من يستلم الركن أن يقول: بسم الله، والله أكبر! إيماناً بالله، وتصديقاً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني ابن جريج، عن يحيى بن عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن السائب المخزومي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والأسود: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " .
قال: فحدثني عبد الله بن جعفر، عن عاصم بن عبد الله، عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستلم من الأركان إلا اليماني والأسود، ومشى أربعة. قالوا: ثم انتهى إلى خلف المقام فصلى ركعتين، يقرأ فيهما: " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " ، ثم عاد إلى الركن فاستلمه. وقد قال لعمر: إنك رجل قوي؛ إن وجدت الركن خالياً فاستلمه، وإلا فلا تزاحم الناس عليه فتؤذي وتؤذى. وقال لعبد الرحمن بن عوف: وكيف صنعت بالركن يا أبا محمد؟ قال: استلمت وتركت. قال: أصبت! ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وقال: أبدأ بما بدأ الله به.
قال: فحدثني عبد الله بن وفدان، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الله بن ثعلبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة على راحلته من فوره ذلك.
قال: حدثني الثوري، عن حماد. عن سعيد بن جبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد، وهو ساكن، فطاف بين الصفا والمروة على راحلته.
قال: حدثني ابن أبي جريج، عن مجاهد، قال: طاف يومئذ على بغلته. والأول أثبت عندنا، وهو المعروف على راحلته.
قالوا: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فكبر سبع تكبيرات، وقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! ثم دعا بين ذلك، ثم نزل إلى المروة، فلما انصبت قدماه في الوادي رمل.
قال: فحدثني علي بن محمد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن برة بنت أبي تجراة قالت: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسعى قال: أيها الناس، إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا! فسعى حتى رأيت إزاره انكشف عن فخذه. وقالوا: قال في الوادي: رب اغفر وارحم، وأنت الأعز الأكرم! فلما انتهى إلى المروة فعل عليها مثل ما فعل على الصفا، فبدأ بالصفا وختم بالمروة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اضطرب بالأبطح.
قال: فحدثني برد أن إبراهيم بن أبي النضر حدثه، عن أبيه، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ، قالت، قلت: يا رسول الله، ألا تنزل في بيوت مكة؟ فأبى واضطرب بالأبطح حتى خرج يوم التروية، ثم رجع من منى فنزل بالأبطح حتى خرج إلى المدينة، ولم ينزل بيتاً ولم يظله. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، فلما انتهى إلى بابها خلع نعليه؛ ودخل مع عثمان بن أبي طالحة، وبلال، وأسامة بن زيد، فأغلقوا عليهم الباب طويلاً ثم فتحوه. قال ابن عمر: فكنت أول الناس سبق إليه، فسألت بلالاً: أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؟ قال: نعم، ركعتين بني الأسطوانتين المقدمتين وكان على ستة أعمدة.
فحدثني ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في نواحيه ولم يصل.
قالوا: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: فعلت اليوم أمراً ليتني لم أك فعلته! دخلت البيت فعسى الرجل من أمتي لا يقدر أن يدخله، فتكون في نفسه حرارة، وإنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول. وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله بن موسى، قال: سمعت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يقول: كسا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت في حجته الحبرات.
قالوا: وكانت الكعبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعاً.
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهو يوم التروية، فيما اجتمع لنا عليه وخطب رسو لاله صلى الله عليه وسلم قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة.
قال: فحدثني هشام بن عمارة، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن عمارة بن حارثة الظفري، عن عمرو بن يثربي الضمري، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، ويوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، والغد من يوم النحر بمنى بعد الظهر. قال الواقدي: هذا الأمر المأخوذ به المعروف. ويقال: إن يوم الجمعة وافق يوم التروية، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الركن والمقام، فوعظ الناس وقال: من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل. وركب حين زاغت الشمس بعد أن طاف بالبيت أسبوعاً، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، ونزل بموضع دار الإمارة اليوم. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، ألا نبني لك كنيفاً؟ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: منى منزل من سبق!
قال: حدثني ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركب من منى حتى رأى الشمس قد طلعت، ثم ركب فانتهى إلى عرفة فنزل بنمرة، وقد ضرب له بها قبة من شعر. ويقال: إنما قال إلى فيء صخرة، وميمونة زوجته تتبع ظلها حتى راح، وأزواجه في قباب أو في قبة حوله. فلما كان حين زاغت الشمس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم براحلته القصواء، فرحلت إلى بطن الوادي بطن عرنة.
قالوا: وكانت قريش لا تشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجاوز المزدلفة يقف بها، فقال له نوفل بن معاوية الديلي، وهو يسير إلى جنبه: يا رسول الله، ظن قومك أنك تقف بجمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كنت أقف بعرفة قبل النبوة خلافاً لهم! وقال جبير بن مطعم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف بعرفة قبل النبوة، وكانت قريش كلها تقف بجمع إلا شيبة بن ربيعة. وإن موسى بن يعقوب حدثني، عن عمه، عن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: كان شيبة بن ربيعة من بين قريش يقف بعرفة، عليه ثوبان أسودان، وزمام بعيره من شعر بين غرزين أسودين، حتى يقف مع الناس بعرفة ثم يدفع بدفعهم، فإننا لا نتكلم مع الناس يعني العرب كانت تقف بعرفة: وقريش بجمع تقول: نحن أهل الله.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس ببطن عرفة على ناقته القصواء، فلما كان آخر الخطبة أذن بلال وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، فلما فرغ بلال من أذانه تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات وأناخ راحلته؛ وأقام فصلى العصر، جمع بينهما بأذان وإقامتين.
فحدثني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يومئذ في وادي عرفة، ثم ركب. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده إلى الناس أن يقفوا إلى عرفة.
خطبة النبي بعرفة قبل الصلاتينوكان من خطبته يومئذ: " أيها الناس، إني والله ما أدري لعلي لا ألقاكم بمكاني هذا بعد يومكم هذا! رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه! واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا! واعلموا أن الصدور لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أهل الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم! ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول دماء الجاهلية أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضع كله، وأول رباً أضه ربا العباس بن عبد المطلب. اتقوا الله في النساء، فإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح؛ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله تبارك وتعإلى! وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون " ؟ قالوا: نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت! ثم قال، بإصبعه السبابة إلى السماء، يرفعها ويكبها ثلاثاً: " اللهم، اشهد " ! قال: فحدثني محمد بن عبد الله. عن عمه الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بالهضاب من عرفة فقال: كل عرفة موقف إلا بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف إلا بطن محسر، وكل منى منحر إلا خلف العقبة.
قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من هو بأقصى عرفة فقال: الزموا مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم.
قال: فحدثني إسحاق بن حازم، عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: عرفة أول جبل مما يلي عرنة إلى جبل عرفة، كله من عرفة. قال: وقال ابن عباس: نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، وهو ماد يديه، يقبل براحتيه على وجهه.
وقالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أفضل دعائي ودعاء من كان قبلي من الأنبياء: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير " !
قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التومة، عن ابن عباس، أن ناساً اختلفوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة. فقالت أم الفضل: أنا أعلم لكم عن ذلك! فأرسلت إليه بعس من لبن، فشرب وهو يخطب. قالوا:: ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته حتى غربت الشمس يدعو. وكان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كهيئة العمائم على رؤوس الرجال. فظنت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع كذلك، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه حتى غربت الشمس، وكذلك كانت دفعة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن أسمامة بن زيد، قال: سمعته يسأل عن سير النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: كان يسير العنق، وإذا وجد فجوة نص والنص: فوق العنق.
قال: فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس، على رسلكم! عليكم بالسكينة، ليكف قويكم عن ضعيفكم " .
قال: فحدثني معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: ما رفعت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يديها في شيء من الدفعتين واضعة حتى رمى جمرة.
قال: فحدثني محمد بن مسلم الجهني، عن عييم بن جبير بن كليب الجهني، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دفع من عرفة إلى جمع، والنار توقد بالمزدلفة وهو يؤمها حتى نزل قريباً منها.
قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن خارجة، عن أبيه، قال: لما أبصر سليمان بن عبد الملك النار، قال لخارجة بن زيد: متى كانت هذه النار يا أبا يزيد؟ قال: كانت في الجاهلية، وضعتها قريش؛ لا تخرج من الحرم إلى عرفة إلا تقول: نحن أهل الله! وقد أخبرني حسان بن ثابت وغيره في نفر من قومي أنهم كانوا يحجون في الجاهلية فيرون تلك النار.
قال: فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن عمر بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى الشعب! قال: وهو شعب الإذخر يسار الطريق بين المأزمين، ولم يصل.
قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة، ومل يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر، قال: صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذان وإقامتين.
قالوا: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من النار والنار على قزح، وهو الجبل، وهو المشعر الحرام فلما كان في السحر أذن لمن استأذنه من أهل الضعف من الذرية والنساء.
قال: حدثني أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، أن سودة بنت ربيعة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في التقدم من جمع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها وحبس نساءه حتى دفعن بدفعه حين أصبح. قالت عائشة رضي الله عنها: فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلي من مفروج به.
قال: فحدثني ابن أبي سبره، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمران ابن أبي أنس، عن أمه، قالت: تقدمت مع سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حجته فرمينا قبل الفجر.
قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه كان يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله فرموا الجمرة مع الفجر.
قال: فحدثني جبير بن زيد، عن أبي جعفر، قال: لما برق الفجر، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم ركب على راحلته القصواء، ثم وقف على قزح. وكان أهل الجاهلية لا يدفعون من جمع حتى تطلع الشمس على ثبير، ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قريشاً خالفت عهد إبراهيم! فدفع قبل طلوع الشمس، وقال: هذا المقف، وكل المزدلفة موقف! قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: جمع من أقصى المأزمين إلى القرن الذي خلف وداي محسر.
قال: فحدثني الثوري، عن ابن الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر.
حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عثمان بن أبي سليمان، قال: كانت قريشٌ قد توافدوا وجمعوا الأموال يطعمون بها من ضوى إليهم من الأحابيش، فكان يطعم في أربعة أمكنة: في دار الندوة لجماعتهم، وكان صفوان بن أمية يطعم في داره، وكان سهيل بن عمرو يطعم في داره، وكان عكرمة بن أبي جهل يطعم في داره، وكان حويطب بن عبد العزى يطعم في داره.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قال: ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصف خيله فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين القبلة، وهي في مائتي فرس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله فقام بإزائه فصف أصحابه.
قال داود: فحدثني عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: فحانت صلاة الظهر فأذن بلال وأقام، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وصف الناس خلفه يركع بهم ويسجد، ثم سلم فقاموا على ما كانوا عيه من التعبية. فقال خالد بن الوليد: قد كانوا على غرة، و كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاةً هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم! قال: فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم.. " الآية. قال: فحانت العصر فأذن بلال، وأقام فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهاً القبلة، والعدو أمامه، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر الصفان جميعاً، ثم ركع وركع الصفان جميعاً، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود بالصف الأول وقاموا معه سجد الصف المؤخر السجدتين، ثم استأخر الصف يلونه، وتقدم الصف المؤخر، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا جميعاً، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع الصفان جميعاً، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الصف الذي يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونه مقبلين على العدو، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من السجدتين سجد الصف المؤخر السجدتين اللتين بقيتا عليهم، واستوى رضي الله عنه جالساً فتشهد، ثم سلم عليهم. فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: هذه أول صلاةٍ صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف.
حدثني سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش الزرقي، أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا، وذكر أبو عياش أنه أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف.
حدثين ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان، بينهما أربع سنين؛ وهذا أثبت عندنا.
قالوا: فلما أمسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تيامنوا في هذا العصل ، فإن عيون قريش بمر الظهران أو بضجنان، فأيكم يعرف ثنية ذات الحنظل ؟ فقال بريدة بن الحصيب الأسلمي: أنا يا رسول الله عالمٌ بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسلك أمامنا، فاخذ به بريدة في العصل قبل جبال سراوع قبل المغرب، فسار قليلاً تنكبه الحجارة وتعلقه الشجر، وحار حتى كأنه لم يعرفها قط. قال: فوالله إن كنت لأسلكها في الجمعة مراراً. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوجه قال: اركب! فركبت فقال صلى الله عليه وسلم: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل حمزة بن عمرو الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك. فسار قليلاً ثم سقط في خمر الشجر، فلا يدري أين يتوجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركب. ثم قال: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل عمرو بن عبد نهم الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك. فقال: انطلق أمامنا. فانطلق عمرو أمامهم حتى نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الثنية فقال: هذه ثنية ذات الحنظل؟ فقال عمرو: نعم يا رسول الله. فلما وقف على رأسها تحدر به. قال عمرو: والله إن كان ليهمني نفسي وجدي، إنما كانت مثل الشراك ، فاتسعت لي حتى برزت وكانت محدة لاحبة . ولقد كان النفر يسيرون تلك الليلة جميعاً معطفين من سعتها يتحدثون، وأضاءت تلك الليلة حتى كأنا في قمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده، ما مثل هذه الثنية الليلة إلا مثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: " وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ " .
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلمة التي عرضت على بني إسرائيل: " لا إله إلا الله وادخلوا الباب سجداً " . قال: باب بيت المقدس، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا: " حبة في شعيرةٍ " .
وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلمة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوا: " نستغفر الله ونتوب إليه " . فكلا هذين الحديثين قد روي.
قالوا: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجوز هذه الثنية أحدٌ إلا غفر الله له. قال أبو سعيد الخدري: وكان أخي لأمي قتادة بن النعمان في آخر الناس، قال: فوقفت على الثنية فجعلت أقول للناس: إن رسول الله قال: " لا يجوز هذه الثنية أحدٌ إلا غفر له " . فجعل الناس يسرعون حتى جاز أخي في آخر الناس، وفرقت أن يصبح قبل أن نجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل: من كان معه ثقلٌ فليصطنع. قال أبو سعيد: وإنما معه صلى الله عليه وسلم ثقل - الثقل: الدقيق - وإنما كان عامة زادنا التمر. فقلنا: يا رسول الله، إنا نخاف من قريشٍ أن ترانا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم لن يروكم، إن الله سيعينكم عليهم. فأوقدوا النيران، واصطنع من أراد أن يصطنع. فلقد أوقدوا أكثر من خمسمائة نار. فلما أصبحنا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم قال: والذي نفسي بيده، لقد غفر الله للركب أجمعين إلا رويكباً واحداً على جملٍ أحمر، التقت عليه رجال القوم ليس منهم. فطلب في العسكر وهو يظن أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا به ناحيةً إلى ذرى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل من بني ضمرة من أهل سيف البحر، فقيل لسعيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. قال سعيد: ويحك! اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك! قال: بعيري والله أهم إلى أن يستغفر لي - وإذا هو قد أضل بعيراً له يتبع العسكر يتوصل بهم ويطلب بعيره - وإنه لفي عسكركم، فأدوا إلي بعيري. فقال سعيد: تحول عني لا حياك الله! ألا لا أرى قربي إلا داهيةً وما أشعر به! فانطلق الأعرابي يطلب بعيره بعد أن استبرأ العسكر، فبينا هو في جبال سراوع إذ زلقت نعله فتردى فمات، فما علم بن حتى أكلته السباع.
وحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي قومٌ تحقرون أعمالكم مع أعمالهم. فقيل: يا رسول الله، قريش. قال: لا، ولكن أهل اليمن، فإنهم أرق أفئدةً وألين قلوباً. قلنا: يا رسول الله، هم خيرٌ منا؟ فقال بيده هكذا - ويصف هشام في الصفة كأنه يقول سواء - ألا إن فضل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " حديثني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذٍ: أتاكم أهل اليمن كأنهم قطع السحاب، هم خير من على الأرض. قال رجلٌ من الأنصار: ولا نحن يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم الرابعة قال قولاً ضعيفاً: إلا أنتم.
حدثني معمر وعبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة قال: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دنا من الحديبية وقعت يد راحلته على ثنيةٍ تهبطه على غائط القوم، فبركت راحلته فقال المسلمون: حل! حل! فأبت أن تنبعث فقالوا: خلأت القصواء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ما خلأت، ولا هو لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل. أما والله لا يسألونني اليوم خطةً في تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرناها فقامت، فولى راجعاً عوده على بدئه حتى نزل بالناس على ثمدٍ من ثماد الحديبية ظنون قليل الماء، يتبرض ماؤه تبرضاً ، فاشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فانتزع سهماً من كنانته فأمر به فغرز في الثمد، فجاشت لهم بالرواء حتى صدروا عنه بعطن. قال: وإنهم ليغرقون بآنيتهم جلوساً على شفير البئر. والذي نزل بالسهم ناجية بن الأعجم من أسلم. وقد روي أن جاريةً من الأنصار قالت لناجية بن جندب وهو في القليب:
يا أيها الماتح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجدونكا
فقال ناجية وهو في القليب:
قد علمت جاريةٌ يمانيه ... أنى أنا الماتح واسمي ناجيه
وطعنةٍ مني رشاشٍ واهيه ... طعنتها تحت صدور العاليه
أنشدنيها رجلٌ من ولد ناجية بن الأعجم يقال له عبد الملك بن وهب الأسلمي. فحدثني موسى بن عبيد، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: الذي نزل بالسهم ناجية بن جندب.
وحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، قال: حدثني رجلٌ من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ناجية بن الأعجم - وكان ناجية بن الأعجم يحدث - يقول: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكى إليه قلة الماء، فأخرج سهماً من كنانته ودفعه إلي ودعاني بدلوٍ من ماء البئر، فجئته به فتوضأ، فقال: مضمض فاه، ثم مج في الدلو، والناس في حرٍّ شديدٍ وإنما هي بئر واحدة، وقد سبق المشركون إلى بلدح فغلبوا على مياهه، فقال: انزل بالماء فصبه في البئر وأثر ماءها بالسهم. ففعلت، فوالذي بعثه بالحق ما كنت أخرج حتى كاد يغمرني، وفارت كما تفور القدر حتى طمت، واستوى بشفيرها يغترفون ماء جانبها حتى نهلوا من آخرهم. قال: وعلى الماء يومئذ نفرٌ من المنافقين؛ الجد بن قيس، وأوس، وعبد الله بن أبي، وهم جلوسٌ ينظرون إلى الماء، والبئر تجيش بالرواء وهم جلوسٌ على شفيرها. فقال أوس بن خولي: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيءٌ؟ وردنا بئراً يتبرض ماؤها - يتبرض: يخرج في القعب جرعة ماءٍ - فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضمض فاه في الدلو، ثم أفرغ الدلو فيها ونزل بالسهم فحثحثها فجاشت بالرواء. قال: يقول ابن أبي: قد رأيت مثل هذا. فقال أوس: قبحك الله وقبح رأيك! فيقبل ابن أبي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أبا الحباب، أين رأيت مثل ما رأيت اليوم؟ فقال: ما رأيت مثله قط. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلم قلت ما قلت؟ قال ابن أبي: أستغفر الله! قال ابنه: يا رسول الله، استغفر له! فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد، عن جده عبدي بن أبي عبيد، قال: سمعت خالد بن عباد الغفاري يقول: أنا نزلت بالسهم يومئذٍ في البئر.
حدثني سفيان بن سعيد، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: أنا نزلت بالسهم.
قالوا: ومطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية مراراً فكثرت المياه.
حدثني سفيان بن سعيد، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح الهذلي، عن أبيه، قال: مطرنا بالحديبية ل الله صلى الله عليه وسلم: بلى، آيةٌ بينك وبينه أن تجد له قشعريرةً إذا رأيته. واستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أقول، فقال: قل ما بدا لك. قال: فأخذت سيفي لم أزد عليه، وخرجت أعتزي إلى خزاعة، فأخذت على الطريق حتى انتهيت إلى قديد، فأجد بها خزاعة كثيراً، فعرضوا علي الحملان والصحابة، فلم أرد ذلك وخرجت حتى أتيت بطن سرف، ثم عدلت حتى خرجت على عرنة، وجعلت أخبر من لقيت أني أريد سفيان بن خالد لأكون معه، حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي، ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه. فلما رأتيه هبته، وعرفته بالنعت الذي نعتثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي سلمة الحضرمي، قال: سمعت أبا قتادة يقول، سمعت ابن أبي يقول - ونحن بالحديبية ومطرنا بها - فقال ابن أبي: هذا نوء الخريف، مطرنا بالشعرى! وحدثني محمد بن الحجازي، عن أسيد بن أبي أسيد، عن أبي قتادة، قال: لما نزلنا على الحديبية، والماء قليل، سمعت الجد بن قيس يقول: ما كنا خروجنا إلى هؤلاء القوم بشيء! نموت من العطش عن آخرنا! فقلت: لا تقل هذا يا أبا عبد الله، فلم خرجت؟ قال: خرجت مع قومي. قلت: فلم تخرج معتمراً؟ قال: لا والله، ما أحرمت. قال أبو قتادة: ولا نويت العمرة؟ قال: لا! فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل فنزل بالسهم، وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلو ومج فاه فيه، ثم رده في البئر، فجاشت البئر بالرواء. قال أبو قتادة: فرأيت الجد ماذاً رجليه على شفير البئر في الماء، فقلت: أبا عبد الله! أين ما قلت؟ قال: إنما كنت أمزح معك، لا تذكر لمحمد مما قلت شيئاً. قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرته قبل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فغضب الجد وقال: بقينا مع صبيانٍ من قومنا لا يعرفون لنا شرفاً ولا سناً، لبطن الأرض اليوم خيرٌ من ظهرها! قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرت قوله للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابنه خيرٌ منه! قال أبو قتادة: فلقيني نفرٌ من قومي فجعلوا يؤنبونني ويلومونني حين رفعت مقالته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لهم: بئس القوم أنتم! ويحكم! عن الجد بن قيس تذبون؟ قالوا: نعم، كبيرنا وسيدنا. فقلت: قد والله طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤدده عن بني سلمة، وسود علينا بشر بن البراء بن معرور ، وهدمنا المنامات التي كانت على باب الجد وبنيناها على باب بشر بن البراء، فهو سيدنا إلى يوم القيامة. قال أبو قتادة: فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة فر الجد بن قيس فدخل تحت بطن البعير، فخرجت أعدو وأخذت بيد رجلٍ كان يكلمني فأخرجناه من تحت بطن البعير، فقلت: ويحك! ما أدخلك ها هنا؟ أفراراً مما نزل به روح القدس؟ قال: لا، ولكني رعبت وسمعت الهيعة . قال الرجل: لا نضحت عنك أبداً، وما فيك خير. فلما مرض الجد بن قيس ونزل به الموت لزم أبو قتادة بيته فلم يخرج حتى مات ودفن، فقيل له في ذلك فقال: والله، ما كنت لأصلي عليه وقد سمعته يقول يوم الحديبية كذا وكذا، وقال في غزوة تبوك كذا وكذا، واستحييت من قومي يرونني خارجاً ولا أشهده. يوقال: خرج أبو قتادة إلى ماله بالواديين فكان فيه حتى دفن، ومات الجد في خلافة عثمان
وقالوا: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية أهدى له عمرو ابن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان غنماً وجزوراً، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جزراً، وكان صديقاً له، فجاء سعد بالغنم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن عمراً أهداها له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعمرو قد أهدى لنا ما ترى، فبارك الله في عمرو! ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزر، تنحر وتقسم في أصحابه، وفرق الغنم على أصحابه من آخرها. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت معه: فدخل علينا من لحم الجزر كنحوٍ مما دخل على رجلٍ من القوم، وشركنا في شاةٍ فدخل علينا بعضها. وكان الذي جاءنا بالهدية غلامٌ منهم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، والغلام في بردةٍ له بلية ، فقال: يا غلام، أين تركت أهلك؟ قال: تركتهم قريباً بضجنان وما والاه. فقال: وكيف تركت البلاد؟ فقال الغلام: تركتها وقد تيسرت، قد أمشر عضاهها ، وأعذق إذخرها ، واسلب ثمامها ، وابقل حمضها ، وانبلت الأرض فتشبعت شاتها إلى الليل، وشبع بعيرها إلى الليل مما جمع من خوصٍ وضمد الأرض وبقل، وتركت مياههم كثيرةً تشرع فيها الماشية، وحاجة الماشية إلى الماء قليلٌ لرطوبة الأرض. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لسانه، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسوةٍ فكسي الغلام، وقال الغلام: إني أريد أن أمس يدك أطلب بذلك البركة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن! فدنا فأخذ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه وقال: بارك الله فيك! فكان قد بلغ سناً، وكان له فضلٌ وحالٌ في قومه حتى توفي زمن الوليد بن عبد الملك.
قالوا: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية جاءه بديل ابن ورقاء وركبٌ من خزاعة، وهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، منهم المسلم ومنهم الموادع، لا يخفون عليه بتهامة شيئاً، فأناخوا رواحلهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا فسلموا عليه، فقال بديل: جئناك من عند قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العوذ المطافيل - النساء والصبيان - يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؛ وقريشٌ قومٌ قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاءوا ماددتهم مدةً يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس، والناس أكثر منهم، فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو يقاتلوا وقد جمعوا! والله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو ينفذ الله أمره! فوعى بديلٌ مقالته وركب، ثم ركبوا إلى قريش، وكان في الركب عمرو ابن سالم، فجعل يقول: والله لا تنصرون على من يعرض هذا أبداً، حتى هبطوا على كفار قريش. فقال ناسٌ منهم: هذا بديل وأصحابه، إنما جاءوا يريدون أن يستخبروكم، فلا تسألوهم عن حرفٍ واحدٍ! فلما رأى بديل وأصحابه أنهم لا يستخبرونهم قال بديل: إنا جئنا من عند محمد، أتحبون أن نخبركم؟ قال عكرمة بن أبي جهل والحكم بن العاص: لا والله، ما لنا حاجةٌ بأن تخبرنا عنه! ولكن أخبروه عنا أنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبداً حتى لا يبقى منا رجلٌ. فقال عروة بن مسعود: والله ما رأيت كاليوم رأياً أعجب! وما تكرهون أن تسمعوا من بديل وأصحابه؟ فإن أعجبكم أمرٌ قبلتموه، وإن كرهتم شيئاً تركتموه؛ لا يفلح قومٌ فعلوا هذا أبداً! وقال رجالٌ من ذوي رأيهم وأشرافهم، صفوان ابن أمية والحارث بن هشام: أخبرونا بالذي رأيتم والذي سمعتم. فأخبروهم بمقالة النبي صلى الله عليه وسلم التي قال، وما عرض على قريشٍ من المدة، فقال عروة: يا معشر قريش تتهمونني؟ ألست الوالد وأنا الولد؟ وقد استنفرت أهل عكاظٍ لنصركم، فلما بلحوا علي نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني! فقالوا: قد فعلت! فقال: وإني ناصحٌ لكم شفيقٌ عليكم، لا أدخر عنكم نصحاً، وإن بديلاً قد جاءكم بخطة رشدٍ لا يردها أحد أبداً إلا أخذ شراً منها، فاقبلوها منه وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده، وأنظر إلى من معه وأكون لكم عيناً آتيكم بخبره. فبعثته قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عروة بن مسعود حتى أناخ راحلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى جاءه، ثم قال: يا محمد، إني تركت قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، قد استنفروا لك أحابيشهم ومن أطاعهم، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم. وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين، أن تجتاح قومك، ولم نسمع برجلٍ اجتاح أصله قبلك؛ أو بين أن يخذلك من نرى معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم. فغضب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: امصص بظر اللات! أنحن نخذله؟ فقال عروة: أما والله لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك! وكان عروة بن مسعود قد استعان في حمل ديةٍ، فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث وأعانه أبو بكر بعشر فرائض، فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود. فطفق عروة وهو يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس لحيته - والمغيرة قائمٌ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، على وجهه المغفر - فطفق المغيرة كلما مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قرع يده ويقول: اكفف يدك عن مس لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك! فلما أكثر عليه غضب عروة فقال: ليت شعري من أنت يا محمد من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: وأنت بذلك يا غدر؟ والله ما غسلت عنك عذرتك إلا بعلابط أمس! لقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر! يا محمد، أتدري كيف صنع هذا؟ إنه خرج في ركبٍ من قومه، فلما كانوا بيننا وناموا فطرقهم فقتلهم وأخذ حرائبهم وفر منهم. وكان المغيرة خرج مع نفرٍ من بني مالك بن حطيط بن جشم بن قسي
- والمغيرة أحد الأحلام - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده فسمي الشريد. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا ببيسان شربوا خمراً، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه، هذا غدر! وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم. وأسلم المغيرة، وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان ابن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر ابن مسعود بن معتب - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: أين أسلك؟ إن سلكت ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب. فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود بن عمرو المالكين فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه. قال: فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعودٌ إلينا وهو يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟ بل طرقت بداهية! أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك يا مسعود، انظر ما أنت فاعل! فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتاً. قال: فانصرفنا عنه، فلما أصبح غدا مسعود فقال: بني مالك، إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا تقرك الأحلاف أبداً حين تقبلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهمٍ مفوقٍ بآخر، لا يسير إلى أحدٍ بسهمه إلا وضعه حيث يريد! فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً بآخر. قال مسعود: يا بني مالك أطيعوني! قالوا: الأمر إليك! قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود اخر إلي! فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة ديةً، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي! قال: فاصطلح الناس. قال الأعشى أخو بني بكر بن وائل: والمغيرة أحد الأحلام - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده فسمي الشريد. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا ببيسان شربوا خمراً، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه، هذا غدر! وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم. وأسلم المغيرة، وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان ابن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر ابن مسعود بن معتب - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: أين أسلك؟ إن سلكت ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب. فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود بن عمرو المالكين فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه. قال: فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعودٌ إلينا وهو يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟ بل طرقت بداهية! أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك يا مسعود، انظر ما أنت فاعل! فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتاً. قال: فانصرفنا عنه، فلما أصبح غدا مسعود فقال: بني مالك، إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا تقرك الأحلاف أبداً حين تقبلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهمٍ مفوقٍ بآخر، لا يسير إلى أحدٍ بسهمه إلا وضعه حيث يريد! فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً بآخر. قال مسعود: يا بني مالك أطيعوني! قالوا: الأمر إليك! قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود اخر إلي! فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة ديةً، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي! قال: فاصطلح الناس. قال الأعشى أخو بني بكر بن وائل:
تحمل عروة الأحلاف لما ... رأى أمراً تضيق به الصدور
ثلاث مئين عاديةً والفاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور
قال الواقدي: فلما فرغ عروة بن مسعود من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال لبديل بن ورقاء وأصحابه وكما عرض عليهم من المدة، ركب عروة بن مسعود حتى أتى قريشاً فقال: يا قوم، إني قد وفدت على الملوك، على كسرى وهرقل والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكاً قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمدٍ في أصحابه؛ والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمرٍ فيفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجلٍ منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيءٍ؛ وقد حرزت القوم، واعلموا أنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم؛ وقد رأيت قوماً ما يبالون ما يصنع بهم إذا منعوا صاحبهم؛ والله لقد رأيت نسياتٍ معه إن كن ليسلمنه أبداً على حال؛ فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع الرأي ، وقد عرض عليكم خطةً فمادوه! يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه! رجلٌ أتى هذا البيت معظماً له، معه الهدي ينحره وينصرف! فقالت قريش: لا تلكم بهذا يا أبا يعفور ! لو غيرك تكلم بهذا للمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع إلى قابلٍ.
قالوا: ثم جاء مكرز بن حفص بن الأخيف، فلما طلع ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا رجلٌ غادر! فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلمه بنحوٍ مما كلمه أصحابه، فلما انتهى إلى قريشٍ أخبرهم بما رد عليه. فبعثوا الجليس بن علقمة - وهو يومئذٍ سيد الأحابيش - فلما طلع الحليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من قوم يعظمون الهدي ويتألهون ، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه. فبعثوا الهدي، فلما نظر إلى الهدي يسيل في الوادي عليه القلائد، قد أكل أوباره يرجع الحنين. واستقبله القوم في وجهه يلبون، قد أقاموا نصف شهر قد تفلوا وشعثوا، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، حتى رجع إلى قريش فقال: إني قد رأيت ما لا يحل صده، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره، معكوفاً عن محله، والرجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت! أما والله ما على هذا حالفناكم، ولا عاقدناكم على أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظماً لحرمته مؤدياً لحقه، وساق الهدي معكوفاً أن يبلغ محله؛ والذي نفسي بيده لتخلن بينه وبين ما جاء به، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد! قالوا: إنما كل ما رايت مكيدةٌ من محمدٍ وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به. وكان أول من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريشٍ خراش بن أمية الكعبي على جملٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء له، ويقول: إنما جئنا معتمرين، معنا الهدي معكوفاً، فنطوف بالبيت ونحل وننصرف. فعقروا جمل النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ولي عقره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله، فمنعه من هناك من قومه حتى خلوا سبيل خراش، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكد ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما لقي فقال: يا رسول الله ابعث رجلاً أمنع مني! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريشٍ، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، قد عرفت قريشٌ عداوتي لها، وليس بها من بني عديٍّ من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً. قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجلٍ أعز بمكة مني، وأكثر عشيرةً وأمنع، عثمان بن عفان. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه فقال: اذهب إلى قريشٍ فخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زواراً لهذا البيت، معظيمن لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف. فخرج عثمان حتى أتى بلدح، فيجد قريشاً هنالك فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافةً، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه! وأخرى تكفون، ويلي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمدٍ فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمدٌ كنتم بالخيار، أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون؛ إن الحرب قد نهكتكم وأذهبت بالأماثل منكم! وأخرى، إن رسول الله يخبركم أنه لم يأت لقتال أحد، إنما جاء معتمراً، معه الهدي عليه القلائد ينحره وينصرف. فجعل عثمان رضي الله عنه يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذاأبداً، ولا دخلها علينا عنوةً، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا. فقام إليه أبان ابن سعد بن العاص، فرحب به وأجازه وقال: لا تقصر عن حاجتك! ثم نزل عن فرسٍ كان عليه فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان بن حرب، وصفوان ابن أمية وغيرهم، منهم من لقي ببلدح ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إنم محمداً لا يدخلها علينا أبداً! قال عثمان رضي الله عنه: ثم كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجالٍ ونساءٍ مستضعفين فأقول: إن رسول الله يبشركم بالفتح ويقول: " أظلكم حتى لا يستخفى بمكة الإيمان " . فقد كنت أرى الرجل منهم والمرأة نتتحب حتى أظن أنه يموت فرحاً بما خبرته، فيسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخفي المسألة، ويشتد ذلك على أنفسهم، ويقولون: أقرأ على رسول الله منا السلام؛ إن الذي أنزله بالحديبيية لقادرٌ على أن يدخله بطن مكة! وقال المسلمون: يا رسول الله، وصل عثمان إلى البيت فطاف! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن عثمان يطوف بالبيت ونحن محصورون. قالوأ: يا رسول الله، وما يمنعه وقد
وصل إلى البيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف، فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.صل إلى البيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف، فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل، وكان الرجل من أصحابه يبيت على الحرس حتى يصبح يطيف بالعسكر، فكان ثلاثةٌ من أصحابه يتناوبون الحراسة: أوس بن خولي، وعباد بن بشر، ومحمد بن مسلمة. فكان محمد بن مسلمة على فرس النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً من تلك الليالي وعثمان بمكة بعد، وقد كانت قريشٌ بعثت ليلاً خمسين رجلاً، عليهم مكرز بن حفص، وأمروهم أن يطيفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يصيبوا منهم أحداً أو يصيبوا منهم غرة، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان بمكة قد أقام بها ثلاثاً يدعو قريشاً، وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهليهم؛ فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان وأصحابه قد قتلوا، فذلك حين دعا إلى البيعة. وبلغ قريشاً حبس أصحابهم، فجاء جمعٌ من قريشٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة، واسروا أيضاً من المشركين حينئذٍ أسرى؛ ثم إن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يؤم منازل بني مازن بن النجار، وقد نزلت في ناحية من الحديبية جميعاً. قالت أم عمارة: والرسل تختلف بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً في منزلنا. قالت: فظننت أنه يريد حاجةً فإذا هو قد بلغه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد قتل، فجلس في رحالنا ثم قال: إن الله أمرني بالبيعة. قالت: فأقبل الناس يبايعونه في رحالنا حتى تدارك الناس، فما بقي لنا متاعٌ إلا وطىء! وزوجها غزية بن عمرو. وقالت: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يومئذٍ. قالت: فكأني أنظر إلى المسلمين قد تلبسوا السلاح، وهو معنا قليلٌ؛ إنما خرجنا عماراً، فأنا أنظر إلى غزية ابن عمرو وقد توشح بالسيف، فقمت إلى عمودٍ كنا نستظل به فأخذته في يدي، ومعي سكين قد شددته في وسطي، فقلت: إن دنا مني أحدٌ رجوت أن أقتله. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يبايع الناس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه آخذٌ بيده، فبايعهم على ألا يفروا. وقال قائل: بايعهم على الموت. ويقال: أول الناس بايع سنان بن أبي سنان ابن محصن، فقال: يا رسول الله، أبايعك على ما في نفسك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على بيعة سنان بن أبي سنان، وكان المسلمون الذين دخلوا على أهليهم عشرةً من المهاجرين؛ كرز بن جابر الفهري، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد الشمس، وعبد الله بن حذافة، وأبو الروم بن عمير، وعمير بن وهب الجمحي، وعبد الله بن أمية بن وهب حليف سهيل في بني أسد بن عبد العزى.
فلما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: سهل أمرهم! قال: من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا ولا ذوي الأحلام منا؛ بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا! فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت آخر مرة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني غير مرسلهم حتى ترسل أصحابي. قال سهيل: أنصفتنا! فبعث سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص إلى قريشٍ الشتيم بن عبد مناف التيمي: إنكم حبستم رجالاً من أصحاب محمدٍ بينكم وبينهم أرحام، لم تقتلوهم وقد كنا لذلك كارهين! وقد أبى محمد أن يرسل من أسر من أصحابكم حتى ترسلوا أصحابه، وقد أنصفنا، وقد عرفتم أن محمداً يطلق لكم أصحابكم. فبعثوا إليه بمن كان عندهم، وكانوا أحد عشر رجلاً، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهم الذين أسروا أول مرة وآخر مرة، فكان فيمن أسر أول مرة عمرو بن أبي سفيان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يومئذٍ تحت شجرةٍ خضراء، وقد كان مما صنع الله للمسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديه فنادى: إن روح القدس قد نزل على الرسول وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا. قال ابن عمر: فخرجت مع أبي وهو ينادى للبيعة، فلما فرغ من النداء أرسلني أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أني قد أذنت الناس. قال عبد الله: فأرجع فأجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، فبايعته الثانية. قال عبد الله لعمر أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له فرجع؛ وكان يمسك بيد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع. فلما نظرت قريش - سهيل بن عمرو، وحويطب ابن عبد العزى ومن كان معه، وعيون قريش - إلى ما رأت من سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب، اشتد رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية. فلما رجع عثمان رضي الله عنه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشجرة فبايعه؛ وقد كان قبل ذلك حين بايع الناس قال: إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله، فأنا أبايع له! فضرب يمينه على شماله.
قال الواقدي: حدثني جابر بن سليم، عن صفوان بن عثمان، قال: فكانت قريش قد أرسلت إلى عبد الله بن أبي: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل. وابنه جالس عنده فقال له ابنه: يا أبت، أذكرك الله أن تفضحنا في كل موطن؛ تطوف بالبيت ولم يطف رسول الله؟ فأبى ابن أبي وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ذلك فسر به. ورجع حويطب بن عبد العزى وسهيل بن عمرو ومكرز بن حفص إلى قريش، فأخبروهم بما رأوا من سرعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وما جعلوا له، فقال أهل الرأي منهم: ليس خيرٌ من أن نصالح محمداً على أن ينصرف عنا عامة هذا ويرجع قابل، فيقيم ثلاثاً وينحر هديه وينصرف، ويقيم ببلدنا ولا يدخل علينا. فأجمعوا على ذلك، فلما أجمعت قريشٌ على الصلح والموادعة بعثوا سهيل بن عمرو ومعه حويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص وقالوا: ائت محمداً فصالحه، وليكن في صلحك لا يدخل في عامه هذا، فوالله لا يتحدث العرب أنك دخلت علينا عنوةً. فأتى سهيل للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حين طلع قال: أراد القوم الصلح. فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال الكلام، وتراجعوا، وترافعت الأصوات وانخفضت.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن الحارث ابن عبد الله بن كعب، قال: سمعت أم عمارة تقول: إني لأنطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً يومئذٍ متربعاً، وإن عباد بن بشر وسلمة بن أسلم بن حريش مقنعان بالحديد، قائمان على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رفع سهيل بن عمرو صوته قالا: اخفض من صوتك عند رسول الله! وسهيل باركٌ على ركبتيه، رافعٌ صوته كأني أنظر إلى علم في شفته وإلى أنيابه، وإن المسلمين لحول رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس.
قالوا: فلما اصطلحوا فلم يبق إلا الكتاب، وثب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني. فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، ألسنا بالمسلمين؟ فقال: بلى! فقال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غرزه ! فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيعه الله! ولقي عمر من القضية أمراً كبيراً، وجعل يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام ويقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا رسول الله ولن يضيعني قال: فجعل يرد على النبي صلى الله عليه وسلم الكلام. قال: يقول أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول؟ تعوذ بالله من الشيطان واتهم رأيك! قال عمر رضي الله عنه: فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم حياءً، فما أصابني قط شيءٌ مثل ذلك اليوم، ما زلت أصوم وأتصدق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذٍ. فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: قال لي عمر في خلافته، وذكر القضية: ارتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذٍ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعةً تخرج عنهم رغبةً عن القضية لخرجت. ثم جعل الله تبارك وتعالى عاقبتها خيراً ورشداً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم.
قال أبو سعيد الخدري: جلست عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً، فذكر القضية فقال: لقد دخلني يومئذٍ من الشك، وراجعت النبي صلىالله عليه وسلم يومئذٍ مراجعةً ما رجعته مثلها قط، ولقد عتقت فيما دخلني يومئذٍ رقاباً، وصمت دهراً، وإني لأذكر ما صنعت خالياً فيكون أكبر همي، ثم جعل الله عاقبة القضية خيراً، فينبغي للعباد أن يتموا الرأي؛ والله لقد دخلني يومئذٍ من الشك حتى قلت في نفسي: لو كنا مائة رجلٍ على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبداً! فلما وقعت القضية أسلم في الهدنة أكثر ممن كان أسلم من يوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الحديبية، وما كان في الإسلام فتحٌ أعظم من الحديبية. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصلح، لأنهم خرجوا لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حلق رأسه، وأنه دخل البيت، فأخذ مفتاح الكعبة، وعرف مع المعرفين! فلما رأوا الصلح دخل الناس من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا يهلكون. فبينا الناس على ذلك قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب، أقبل أبو جندل بن سهيل، قد أفلت يرسف في القيد متوشح السيف خلا له أسفل مكة؛ فخرج من أسفلها حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكاتب سهيلاً، فرفع سهيلٌ رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه سهيل فضرب وجهه بغصن شوكٍ وأخذ بلبته وصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شراً إلى ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. قال: يقول حويطب بن عبد العزى لمكرز بن حفص: ما رأيت قوماً قط اشد حباً لمن دخل معهم من أصحاب محمدٍ لمحمد وبعضهم لبعض! أما إني أقول لك لا تأخذ من محمدٍ نصفاً أبداً بعد هذا اليوم، حتى يدخلها عنوةً! فقال مكرز: أنا أرى ذلك. وقال سهيل: هذا أول ما قاضيتك عليه، ردوه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شيءٍ حتى ترده إلي. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلاً أن يتركه فأبى سهيل، فقال مكرز بن حفص وحويطب: يا محمد، نحن نجيره لك. فأدخلاه فسطاطاً فأجاراه، وكف أبوه عنه. ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً! إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهداً، وإنا لا نغدر! وعاد عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال رسول الله: إني رسول الله، ولن أعصيه ولن يضيعني. فانطلق عمر حتى جاء إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يعصيه ولن يضيعه، ودع عنك ما ترى يا عمر! قال عمر: فوثبت إلى أبي جندل أمشي إلى جنبه. وسهيل بن عمرو يدفعه، وعمر يقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، وإنما هو رجل وأنت رجل ومعك السيف! فرجوت أن يأخذ السيف ويضرب أباه، فضن الرجل بأبيه. فقال عمر: يا أبا جندل، إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فرجلٌ برجلٍ! قال: وأقبل أبو جندل على عمر فقال: مالك لا تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله وقتل غيره. قال أبو جندل: ما أنت بأحق بطاعة رسول الله مني! وقال عمر ورجالٌ معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف مع المعرفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلق رأسي ورءوسكم ببطن مكة، وأعرف مع المعرفين! ثم أقبل على عمر فقال: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؟ أنسيتم يوم كذا؟ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم أموراً - أنسيتم يوم كذا؟
فقال المسلمون: صدق الله ورسوله يا نبي الله، ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم بالله وبأمره منا! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: أي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: أي رسول الله، ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من صلح الحديبية! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه؛ والعباد يعجلون، والله تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد الله. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجه قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيلٍ يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب أن محمداً رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام؛ وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة!قال المسلمون: صدق الله ورسوله يا نبي الله، ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم بالله وبأمره منا! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: أي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: أي رسول الله، ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من صلح الحديبية! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه؛ والعباد يعجلون، والله تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد الله. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجه قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيلٍ يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب أن محمداً رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام؛ وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة! فلما حضرت الدواة والصحيفة بعد طول الكلام والمراجعة فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو، ولما التأم الأمر وتقارب، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يكتب الكتاب بينهم، ودعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا أحد الرجلين، ابن عمك علي أو عثمان بن عفان! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً يكتب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب كما نكتب باسمك اللهم. فضاق المسلمون من ذلك وقالوا: هو الرحمن. وقالوا: لا تكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذاً لا أقاضيه على شيءٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم! هذا ما اصطلح عليه رسول الله. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فضج المسلمون منها ضجةً هي أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجالٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: لا نكتب إلا محمدٌ رسول الله!
فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي فروة، عن واقد بن عمرو، قال: حدثني من نظر إلى أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذا بيد الكاتب فأمسكاها وقالا : لا تكتب إلا محمدٌ رسول الله، وإلا فالسيف بيننا! علام نعطي هذه الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومىء بيده إليهم: اسكتوا! وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقبل على مكرز بن حفص ويقول: ما رأيت قوماً أحوط لدينهم من هؤلاء القوم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. فنزلت هذه الآية في سهيل حين أبي أن يقر بالرحمن: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا محمدٌ بن عبد الله، فاكتب! فكتب: باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا عيبةً مكفوفة ؛ وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمدٍ وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريشٍ وعقدها فعل؛ وأنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه رده إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمدٍ لم ترده؛ وأن محمداً يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثاً، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب. شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفا، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد ابن مسلمة، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف؛ وكتب ذلك على صدر هذا الكتاب، فلما كتب الكتاب قال سهيل: يكون عندي! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عندي! فاختلفا فكتب له نسخةً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب الأول وأخذ سهيل نسخته، وكان عنده. ووثبت من هناك خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمدٍ وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا. ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل مع قريشٍ في عهدها وعقدها، ونحن على من وراءنا من قومنا. فقال حويطب لسهيل: بادأنا أخوالك بالعداوة وقد كانوا يستترون منا، قد دخلوا في عهد محمدٍ وعقده! قال سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمنا قد دخلوا مع محمد، قومٌ اختاروا لأنفسهم أمراً فما نصنع بهم؟ قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر. قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر! فإنهم أهل شؤم، فيقعوا بخزاعة فيغضب محمدٌ لحلفائه، فينقض العهد بيننا وبينه. قال حويطب: حظوت والله أخوالك بكل وجه! فقال سهيل: ترى أخوالي أعز علي من بني بكر؟ ولن والله لا تفعل قريش شيئاً إلا فعلته، فإذا أعانت بني بكر على خزاعة فإنما أنا رجلٌ من قريش، وبنو بكر أقرب إلي في قدم النسب، وإن كان لهؤلاء لخؤولة، وبنو بكر من قد عرفت، لنا منهم مواطن كلها ليست بحسنةٍ، منها يوم عكاظ.
قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب وانطلق سهيل بن عمرو وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا واحلقوا! فلم يجبه منهم رجلٌ إلى ذلك، فقالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك يأمرهم، فلم يفعل واحدٌ منهم ذلك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على أم سلمة زوجته مغضباً شديد الغضب، وكانت معه في سفره ذلك، فاضطجع فقالت: ما لك يا رسول الله؟ مراراً لا تجيبني . ثم قال: عجباً يا أم سلمة! إني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مراراً، فلم يجبني أحدٌ من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون في وجهي! قالت، فقلت: يا رسول الله، انطلق أنت إلى هديك فانحره، فإنهم سيقتدون بك. قالت: فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه، ثم خرج وأخذ الحربة ينهم هديه. قالت أم سلمة: فكأني أنظر إليه حين يهوي بالحربة إلى البدنة رافعاً صوته: بسم الله والله أكبر! قالت: فما هذا إلا أن رأوه نحر، فتواثبوا إلى الهدي، فازدحموا عليه حتى خشيت أن يغم بعضهم بعضاً.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبعاً بثوبه والحربة في يديه ينحر بها.
حدثني مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: وأشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان الهدي سبعين بدنة. وكان جمل أبي جهل قد غنمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فكان المسلمون يغزون عليه المغازي، وكان قد ضرب في لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم التي استاق عيينة بن حصن، ولقاحه التي كانت بذي الجدر التي كان ساقها العرنيون، وكان جمل أبي جهل نجيباً مهرياً كان يرعى مع الهدي، فشرد قبل القضية فلم يقف حتى انتهى إلى دار أبي جهل وعرفوه، وخرج في أثره عمرو بن عنمة السلمي فأبى أن يعطيه له سفهاءٌ من سفهاء مكة، فقال سهيل بن عمرو: ادفعوه إليه. فأعطوا به مائة ناقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أنا سميناه في الهدي فعلنا. فنحر الجمل عن سبعة، أحدهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وكان ابن المسيب يقول: كان الهدي سبعين، وكان الناس سبعمائة، وكان كل بدنةٍ عن عشرة. والقول الأول أثبت عندنا أنه ست عشرة مائة. قال: وقام طلحة بن عبيد الله ينحر بدناتٍ له ساقها من المدينة، وعبد الرحمن أيضاً، وعثمان بن عفان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل، وكان يصلي في الحرم. وحضره يومئذٍ من يسأل من لحوم البدن معتراً غير كبير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيم من لحوم البدن وجلودها. قالت أم كرز الكعبية: جئت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لحوم الهدي حين نحر بالحديبية، فسمعته يقول: عن الغلام شاتان مكافئتان والجارية شاة. وأكل المسلمون من هديهم الذي نحروا يومئذٍ وأطعموا المساكين ممن حضرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بعشرين بدنةً لتنحر عند المروة مع رجل من أسلم، فنحرها عند المروة وقسم لحمهها.
وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، عن أم عمارة، قالت: فأنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من نحر البدن فدخل قبةً له من أدمٍ حمراء، فيها الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إليه قد أخرج رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين! قيل: يا رسول الله، والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين - ثلاثاً. ثم قال: والمقصرين.
فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: وأنا أنظر إليه حين حلق رأسه، ورمى بشعره على شجرةٍ كانت إلى جنبه من سمرة خضراء. قالت أم عمارة: فجعل الناس يأخذون الشعر من فوق الشجرة فيتحاصون فيه، وجعلت أزاحم حتى أخذت طاقاتٍ من شعرٍ. فكانت عندها حتى ماتت تغسل للمريض. قال: وحلق يومئذٍ ناسٌ، وقصر آخرون. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: وقصرت يومئذٍ أطراف شعري. وكانت أم عمارة تقول: قصرت يومئذ - بمقص معي - الشعر وما شد.
حدثني خراش بن هنيد، عن أبيه، قال: كان الذي حلقه خراش ابن أمية.
قالوا: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال عشرين ليلة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزل بمر الظهران ثم نزل عسفان، فأرملوا من الزاد، فشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد بلغوا من الجوع - وفي الناس ظهر - وقالوا: فننحر يا رسول الله وندهن من شحومه، ونتخذ من جلوده حذاءً! فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لا تفعل فإن يك في الناس بقية ظهرٍ يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم ثم ادع الله فيها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنطاع فبسطت، ثم نادى مناديه: من كان عنده بقيةٌ من زاد فلينثره على الأنطاع. قال أبو شريح الكعبي: فلقد رأيت من يأتي بالتمرة الواحدة، وأكثرهم لا يأتي بشيءٍ، ويأتي بالكف من الدقيق، والكف من السويق، وذلك كله قليل. فلما اجتمعت أزوادهم وانقطعت موادهم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فدعا بالبركة، ثم قال: قربوا أوعيتكم! فجاءوا بأوعيتهم. قال أبو شريح: فأنا حاضرٌ، فيأتي الرجل فيأخذ ما شاء من الزاد حتى إن الرجل ليأخذ ما لا يجد له محملاً؛ ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا وهم صائفون. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا معه، فشربوا من الماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم، فجاء ثلاثة نفرٍ، فجلس اثنان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب واحدٌ معرضاً، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فتاب، فتاب الله عليه، وأما الثالث فأعرض، فأعرض الله عنه.
فحدثني معاذ بن محمد قال، سمعت شعبة مولى ابن عباس قال: سمعت ابن عباس يقول، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منصرفه من الحديبية، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني. قال عمر: فقلت: ثكلتك أمك يا عمر! نذرت رسول الله ثلاثاً، كل ذلك لا يجيبني! قال: فحركت بعيري حتى تقدمت الناس، وخشيت أن يكون نزل في قرآنٌ، فأخذني ما قرب وما بعد، ولما كنت راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وكراهتي القضية، فإني لأسير مهموماً متقدماً للناس، فإذا منادٍ! ينادي: يا عمر بن الخطاب! فوقع في نفسي ما الله به أعلم، ثم أقبلت حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت فرد علي السلام وهو مسرور، ثم قال: أنزلت علي سورةٌ هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس؛ فإذا هو يقرأ " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " . فبشره بمغفرته، وإتمام نعمته ونصره، وطاعة من أطاع الله تعالى، ونفاق من نافق؛ فأنزل الله على ذلك عشر آيات.
وحدثني مجمع بن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن جارية، قال: لما كنا بضجنان راجعين من الحديبية رأيت الناس يركضون فإذا هم يقولون: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن، فركضت مع الناس، حتى توافينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، فلما نزل بها جبريل عليه السلام قال: يهنيك يا رسول الله! فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون.
وكان مما نزل في الحديبية: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " قال: قضينا لك قضاءً مبيناً؛ فالفتح قريش وموادعتهم، فهو أعظم الفتح. " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك " قال: ما كان قبل النبوة وما تأخر. قال: ما كان قبل الموت إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم. " ويتم نعمته عليك " ، بصلح قريش؛ " ويهديك صراطاً مستقيماً " ، قال: الحق؛ " وينصرك الله نصراً عزيزاً " حتى تظهر فلا يكون شرك. " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " ، قال: الطمأنينة؛ " ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم " ، قال: يقيناً وتصديقاً؛ " ولله جنود السموات والأرض " . قال عز وجل: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم " ، قال: ما اجترحوا؛ " وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً " ، يقول: فوزاً لهم أن يغفر لهم سيئاتهم؛ " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء " ، يعني الذين مر عليهم بين مكة والمدينة؛ من مزينة وجهينة وبني بكر، واستنفرهم إلى الحديبية فاعتلوا وتشاغلوا بأهليهم وأموالهم: يقول: عليهم ما تمنوا وظنوا، وذلك أنهم قالوا: إنما خرج محمدٌ في أكلة رأس ، يقدم على قومٍ موتورين، فأبوا أن ينفروا معه. " إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً " ، قال: شاهداً عليهم ومبشراً لهم بالجنة ونذيراً لهم من النار. " وتعزروه " ، قال: تنصروهه وتوقره وتعظموه؛ " وتسبحوه بكرةً وأصيلاً " ، قال: تصلوا لله بكرةً وعشياً. " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايعوه يومئذٍ على ألا يفروا، ويقال: على الموت؛ " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " ، يقول: من بدل أو غير ما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما ذلك على نفسه، ومن أوفى فإن له الجنة، " سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " ، قال: هم الذين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنفرهم واستعان بهم في بدايته فتشاغلوا بأهليهم وأموالهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إلى المدينة جاءوه يقولون استغفر لنا إباءنا أن نسير معك. يقول الله عز وجل: " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " ، يقول: سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً " ، إلى قوله عز وجل: " وكنتم قوماً بوراً " ، قال: قولهم حين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما محمد في أكلة رأس، يخرج إلى قوم موتورين معدين، ومحمد لا سلاح معه ولا عدة " فأبوا أن ينفروا، " وزين ذلك في قلوبكم " ، قال: كان يقيناً في قلوبهم. وقوله عز وجل: " وكنتم قوماً بوراً " ، يقول: هلكى. وقوله: " سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها... " إلى آخر الآية. قال: هم الذين تخلفوا عنه وأبوا أن ينفروا معه، هؤلاء العرب من مزينة وجهينة وبكر، لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم التوجه إلى خيبر قالوا: نحن نتبعكم. يقول الله عز وجل، " يريدون أن يبدلوا كلام الله " . قال: الذي قضى الله، قضى ألا تتبعونا، وهو كلام الله، يقال قضاءه: يقول: " قل للمخلفين من الأعراب " يعني هؤلاء الذين تخلفوا عنك في عمرة الحديبية. " ستدعون إلى قومٍ أولي باسٍ شديد " . قال: هم فارس والروم؛ ويقال: هوازن، ويقال: بني حنيفة يوم اليمامة؛ " تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً اليماً " ، قال: إن أبيتم أن تقاتلوا كما أبيتم أن تخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة الحديبية.
" ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرجٌ " قال: لما نزلت العورات الثلاث. " ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم " أخرجوا العميان والمرضى والعرجان من بيوتهم. فأنزل الله عز وجل: " ليس على الأعمى حرجٌ " ، ويقال: هذا في الغزو.
وحدثني محمد ومعمر، عن الزهري، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: نزلت هذه الآية في قومٍ من المسلمين كانوا إذا نفروا للغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الزمنى من ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك رخصةً لهم بالإذن في كل. " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " ، قال: وهي سمرة خضراء؛ " فعلم ما في قلوبهم " ، قال: صدق نياتهم. " فأنزل السكينة عليهم " ، يعني الطمأنينة، وهو بيعة الرضوان؛ " فتحاً قريباً " ، قال: صلح قريش، " ومغانم كثيرةً تأخذونها " إلى يوم القيامة. وفي قوله عز وجل: " فعجل لكم هذه " ، قال: فتح خيبر؛ " وكف أيدي الناس عنكم " ، قال: الذين كانوا طافوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من المشركين رجاء أن يصيبوا من المسلمين غرة، فأسرهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسراً؛ " ولتكون آيةً للمؤمنين " . قال: عبرة ، صلح قريش وحكمٌ لم يكن فيه سيفٌ، وكان فتحاً عظيماً. " وأخرى لم تقدروا عليها " ، قال: فارس والروم، ويقال مكة. " ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً " ، يقول: لو قاتلتكم قريش انهزموا ثم لم يكن لهم من الله ولي، يعني حافظ، ولا نصير من العرب. " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً " ، قال: قضاء الله الذي قضى ولا تبديل أن رسله يظهرون ويغلبون. " وهو الذي طف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " ، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسروا من المشركين بالحديبية أسرى، فكف الله أيدي المسلمين عن قتلهم؛ " وأيديهم عنكم " ، من كانوا حبسوا بمكة، فذلك الظفر. " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله " ، يقول: حيث لم يصل إلى البيت وحبس بالحديبية؛ " ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرةٌ بغير علمٍ ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً " ، يقول: لولا رجال ونساءٌ مستضعفون بمكة؛ " أن تطؤهم " ، يقول: أن تقتلوهم ولا تعرفوهم فيصيبكم من ذلك بلاءٌ عظيمٌ؛ حيث قتلتم المسلمين وأنتم لا تعلمون؛ " لو تزيلوا " ، يقول: لو خرجوا من عندهم؛ " لعذبنا الذين كفروا " ، يقول: سلطناكم عليهم بالسيف. " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " حيث أبى سهيل بن عمرو أن يكتب " محمدٌ رسول الله " وحيث أبى أن يكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " . " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " ، يقول: بينهم؛ " وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " ، يقول: لا إله إلا الله هم أحق بها وأولى من المشركين. " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام " إلى قوله: " فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً " ، والفتح القريب صلح الحديبية. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فحلق وحلق معه قومٌ، وقصر من قصر، ودخل في حجته ومعه أصحابه آمنين لا يخاف إلا الله عز وجل. " محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " قال: يبتغون بذلك الركوع والسجود الفضل من الله والرضوان. " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ، قال: أثر الخشوع والتواضع؛ " مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع " ، فهذا في الإنجيل، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، ثم ازدادوا، ثم كثروا، ثم استغلظوا، وقال: " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " ، قال: هي مفصولة بأنهم آمنوا بالله ورسله يصدقونهم. قال بعد: " والشهداء عند ربهم " وفي قوله عز وجل: " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعةٌ " يعني ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية.
كانت الحرب قد حجزت بين الناس وانقطع الكلام، وإنما كان القتال حيث التقوا، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وآمن الناس بعضهم بعضاً، فلم يكن أحدٌ تكلم بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل في الإسلام، حتى دخل في تلك الهدنة صناديد المشركين الذين يقومون بالشرك وبالحرب - عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وأشباهٌ لهم، وإنما كانت الهدنة حتى نقضوا العهد اثنين وعشرين شهراً، دخل فيها مثل ما دخل في الإسلام قبل ذلك وأكثر، وفشا الإسلام في كل ناحيةٍ من نواحي العرب.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير - وهو عتبة بن أسيد بن جارية حليف بني زهرة - مسلماً، قد انفلت من قومه فسار على قدميه سعياً، فكتب الأخنس بن شريق، وأزهر ابن عبد عوف الزهري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، استأجراه ببكرٍ؛ ابن لبون - وهو خنيس بن جابر - وخرج مع العامري مولىً له يقال له كوثر، وحملا خنيس بن جابر على بعيرٍ، وكتبا يذكران الصلح بينهم، وأن يرد إليهم ابا بصير، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام فقال خنيس: يا محمد، هذا كتابٌ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فقرأ عليه الكتاب فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه، وأشهدنا بيننا وبينك، من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير أن يرجع معهم ودفعه إليهما، فقال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً، قال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق يا أبا بصير، فإن الله سيجعل لك مخرجاً. فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العامري وصاحبه؛ فخرج معهما؛ وجعل المسلمون يسرون إلى أبي بصير: يا أبا بصير، أبشر! فإن الله جاعلٌ لك مخرجاً، والرجل يكون خيراً من ألف رجل، فافعل وافعل! يأمرونه بالذين معه. فخرجوا حتى كانوا بذي الحليفة - انتهوا إليها عند صلاة الظهر - فدخل أبو بصير مسجد ذي الحليفة فصلى ركعتين صلاة المسافر؛ ومعه زا دٌ له يحمله من تمر، فمال إلى أصل جدار المسجد فوضع زاده فجعل يتغدى، وقال لصاحبيه: ادنوا فكلا! فقالا: لا حاجة لنا في طعامك. فقال: ولكن لو دعوتموني إلى طعامكم لأجبتكم وأكلت معكم. فاستحييا فدنوا ووضعا أيديهما في التمر معه، وقدما سفرةً لهما فيها كسرٌ، فأكلوا جميعاً، وآنسهم، وعلق العامري بسيفه على حجرٍ في الجدار، فقال أبو بصير للعامري: يا أخا بني عامر، ما اسمك؟ فقال: خنيس. قال: ابن من؟ قال: ابن جابر. فقال: يا أبا جابر أصارمٌ سيفك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله العامري وكان أقرب إلى السيف من أبي بصير، فأخذ أبو بصير بقائم السيف، والعامري ممسكٌ بالجفن، فعلاه به حتى برد، وخرج كوثر هارباً يعدو نحو المدينة، وخرج أبو بصير في أثره، فأعجزه حتى سبقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو بصير: والله لو أدركته لأسلكته طريق صاحبه! فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في أصحابه بعد العصر إذ طلع المولى يعدو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجلٌ قد رأى ذعراً! فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك، مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، وأفلت منه ولم أكد! وكان الذي حبس أبا بصير احتمال سلبهما على بعيرهما، فلم يبرح مكانه قائماً حتى طلع أبو بصبر، فأناخ البعير بباب المسجد فدخل متوشحاً بالسيف - سيف العامري - فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله: وفت ذمتك وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، وتبغيت بي أن أكذب بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلٌ أمه، محش حربٍ لو كان معه رجال!
وجاء أبو بصير بسلب العامري خنيس بن جابر ورحله وسيفه، فقال: خمسه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه؛ ولكن شأنك بسلب صاحبك! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكوثر: ترجع به إلى أصحابك. فقال: يا محمد، قد أهمتني نفسي، ما لي به قوةٌ ولا يدان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: اذهب حيث شئت! فخرج أبو بصير حتى أتى العيص، فنزل منه ناحيةً على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام. قال أبو بصير: فخرجت وما معي من الزاد إلا كفٌّ من تمرٍ فأكلتها ثلاثة أيام، وكنت آتي الساحل فأصيب حيتاناً قد ألقاها البحر فآكلها. وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة، وأرادوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير " ويل أمه، محش حربٍ لو كان له رجال " فجعلوا يتسللون إلى أبي بصير. وكان الذي كتب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فلما جاءهم كتاب عمر فأخبرهم أنه بالساحل على طريق عير قريش، فلما ورد عليهم كتاب عمر جعلوا يتسللون رجلاً رجلاً حتى انتهوا إلى أبي بصير فاجتمعوا عنده، قريب من سبعين رجلاً، فكانوا قد ضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحدٍ منهم إلا قتلوه، ولا تمر عيرٌ إلا اقتطعوها، حتى أحرقوا قريشاً، لقد مر ركبٌ يريدون الشام معهم ثلاثون بعيراً، وكان هذا آخر ما اقتطعوا، لقد أصاب كل رجلٍ منهم، ما قيمته ثلاثون ديناراً. فقال بعضهم: ابعثوا بالخمس إلى رسول الله. فقال أبو بصير: لا يقبله رسول الله؛ قد جئت بسلب العامري، فأبى أن يقبله، وقال " إني إذا فعلت هذا لم أف لهم بعهدهم " . وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير، فكان يصلي بهم ويفرضهم ويجمعهم، وهم سامعون له مطيعون. فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير للعامري اشتد ذلك عليه وقال: والله ما صالحنا محمداً على هذا. قالت قريش: قد برىء محمدٌ منه، قد أمكن صاحبكم فقتله بالطريق، فما على محمدٍ في هذا؟ فقال سهيل: قد والله عرفت أن محمداً قد أوفى، وما أوتينا إلا من قبل الرسولين. قال: فأسند ظهره إلى الكعبة وقال: والله، لا أؤخر ظهري حتى يودي هذا الرجل. قال أبو سفيان: إن هذا لهو السفه! والله لا يود! ثلاثاً. وأنى قريش تديه، وإنما بعثته بنو زهرة؟ فقال سهيل: قد والله صدقت، ما ديته إلا على بني زهرة، وهم بعثون ولا يخرج ديته غيرهم قصرةً ؛ لأن القاتل منهم، فهم أولى من عقله. فقال الأخنس: والله لا نديه، ما قتلنا ولا أمرنا بقتله، قتله رجل مخالف لديننا متبع لمحمد فأرسلوا إلى محمدٍ يديه. قال أبو سفيان: لا، ما على محمد دية ولا غرم؛ قد برىء محمد؛ ما كان على محمدٍ أكثر مما صنع، لقد أمكن الرسولين منه. فقال الأخنس: إن ودته قريشٌ كلها كانت زهرة بطناً من قريشٍ تديه معهم، وإن لم تده قريشٌ فلا نديه أبداً. فلم تخرج له دية حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح. فقال موهب بن رياح، فيما قال سهيل في بني زهرة، وما أراد أن يغرمهم من الدية:
أتاني عن سهيلٍ ذرو قولٍ ... ليوقظني وما بي من رقاد
فإن كنت العتاب تريد مني ... فما بيني وبينك من بعاد
متى تغمز قناتي لا تجدني ... ضعيف الرأي في الكرب الشداد
يسامي الأكرمين بعز قومٍ ... هم الرأس المقدم في العباد
أنشدنيها عبد الله بن أبي عبيدة، وسمعتهم يثبتونها.
فلما بلغ أبو بصير من قريش ما بلغ من الغيظ، بعثت قريش رجلاً، وكتبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يسألونه بأرحامهم: الا تدخل أبا بصير وأصحابه، فلا حاجة لنا بهم؟ وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير أن يقدم بأصحابه معه؛ فجاءه الكتاب وهو يموت، فجعل يقرأ وهو يموت، فمات وهو في يديه، فقبره أصحابه هناك وصلوا عليه، وبنوا على قبره مسجداً، وأقبل أصحابه إلى المدينة وهم سبعون رجلاً، فيهم الوليد بن الوليد بن المغيرة. فلما دخل الحرة عثر فانقطعت إصبعه فربطها وهو يقول:
هل أنت إلا إصبعٌ دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
فدخل المدينة فمات بها. فقالت أم سلمة: يا رسول الله، ايذن لي أبكي على الوليد. قال: ابكي عليه! قال: فجمعت النساء وصنعت لهن طعاماً، فكان مما ظهر من بكائها:
يا عين فابكي للولي ... د بن الوليد بن المغيره
مثل الوليد بن الولي ... د أبي الوليد كفى العشيره
فحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ترداد الوليد قال: ما اتخذوا إلا حناناً.
وقالوا: لا نعلم قرشيةً خرجت بين أبويها مسلمةً مهاجرةً إلى الله إلا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، كانت تحدث تقول: كنت أخرج إلى بادية لنا بها أهلي فأقيم فيهم الثلاث والأربع، وهي من ناحية التنعيم - أو قالت بالحصحاص - ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي، حتى أجمعت السيرن فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية التي كنت فيها، فلما رجع من تبعني خرجت حتى انتهيت إلى الطريق، فإذا رجلٌ من خزاعة فقال: أين تريدين؟ فقلت: حاجتي؛ فما مسألتك ومن أنت؟ فقال: رجلٌ من خزاعة. فلما ذكر خزاعة اطمأننت إليه؛ لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقده، فقلت: إني امرأةٌ من قريشٍ أريد اللحوق برسول الله، ولا علم لي بالطريق. فقال: أهل الليل والنهار ، أنا صاحبك حتى أوردك المدينة. ثم جاءني ببعيرٍ فركبته، فكان يقود بي البعير، لا والله ما يكلمني كلمةً، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده في الشجرة وتنحى عني في الشجرة، حتى إذا كان الرواح جذع البعير فقربه وولى عني، فإذا ركبته أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى تنزل؛ فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله خيراً من صاحب! فكانت تقول: نعم الحي خزاعة! قالت: فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متنقبة فما عرفتني حتى انتسبت، وكشفت النقاب فالتزمتني وقالت: هاجرت إلى الله وإلى رسوله؟ فقلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين كما رد غيري من الرجال؛ أبا جندل بن سهيل، وأبا بصير، وحال الرجال يا أم سلمة ليس كحال النساء؛ والقوم مصبحي، قد طالت غيبتي عنهم اليوم ثمانية أيامٍ منذ فارقتهم، فهم يبحثون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني، فإن لم يجدوني رحلوا إلي فساروا ثلاثاً. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته أم سلمة خبر أم كلثوم، فرحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، إني فررت بديني إليك فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، فلا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة وضعف النساء إلى ما تعرف؛ وقد رأيتك رددت رجلين إلى المشركين حتى امتنع أحدهما، وأنا امرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله نقض العهد في النساء. وأنزل الله فيهن " الممتحنة " ، وحكم في ذلك بحكمٍ رضوه كلهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد من جاء من الرجال، ولا يرد من جاءه من النساء. وقدم أخواها من الغد، الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط، فقالا: يا محمد، فِ لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض الله! فانصرفا.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: دخلت على عروة بن الزبير وهو يكتب إلى هنيد صاحب الوليد بن عبد الملك، وكان كتب يسأله عن قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " ، فكتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد إليهم من جاء بغير إذن وليه، فكان يرد الرجال، فلما هاجر النساء أبى الله ذلك أن يردهن إذا امتحن بمحنة الإسلام، فزعمت أنها جاءت راغبةً فيه، وأمره أن يرد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم ، وأن يردون عليهم إن فعلوا، فقال: " وليسئلوا ما أنفقوا " وصبحها أخواها من الغد فطلباها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها إليهم، فرجعا إلى مكة، فأخبرا قريشاً، فلم يبعثوا في ذلك أحداً، ورضوا بأن تحبس النساء " وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليمٌ حكيمٌ " " وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " ، قال: فإن فات أحداً منهم أهله إلى الكفار، فإن أتتكم امرأةٌ منهم فأصبتم فعوضوهم مما أصبتم صداق المرأة التي أتتكم؛ فأما المؤمنون فأقروا بحكم الله، وأبى المشركون أن يقروا بذلك، وأن ما ذاب للمشركين على المسلمين من صداق من هاجر من أزاواج المشركين " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم " من مال المشركين في أيديكم. ولسنا نعلم امرأةً من المسلمين فاتت زوجها باللحوق بالمشركين بعد إيمانها، ولكنه حكم حكم الله به لأمرٍ كان، والله عليمٌ حكيم. " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " ، يعني من غير أهل الكتاب، فطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه زينب بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وطلق عمر أيضاً بنت جرول الخزاعية، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة، وطلق عياض ابن غنم الفهري أم الحكم بنت أبي سفيان يومئذٍ، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي فولدت له عبد الرحمن بن أم الحكم.
غزوة خيبرحدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن حيويه لفظاً، سنة سبعٍ وسبعين وثلثمائة، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب ابن عيسى بن أبي حية، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي، قال: حدثني محمد بن عبد الله، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وابن أبي حبيبة، وعبد الرحمن ابن عبد العزيز، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل، وعائذ ابن يحيى، وعبد الحميد بن جعفر، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، وأسامة بن زيد الليثي، وأبو معشر، ومعاذ بن محمد، وإبراهيم بن جعفر، ويونس ويعقوب ابنا محمد الظفريان، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، وسعيد بن أبي زيد بن المعلى الزرقي، وربيعة بن عثمان، ومحمد بن يعقوب، وعبد الله بن يزيد، وعبد الملك وعبد الرحمن ابنا محمد بن أبي بكر، ومعمر بن راشد، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة؛ فكلٌّ قد حدثني من حديث خيبر بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء المسمين قد حدثني من حديث خيبر، فكتب ما حدثوني.
قالوا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية في ذي الحجة تمام سنة ست ، فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، وخرج في صفر سنة سبعٍ - ويقال خرج لهلال ربيع الأول - إلى خيبر. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتهيؤ للغزو فهم مجدون، وتجلب من حوله يغزون معه، وجاءه المخلفون يريدون أن يخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقالوا: نخرج معك! وقد كانوا تخلفوا عنه في غزوة الحديبية، وأرجفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، فقالوا: نخرج معك إلى خيبر، إنها ريف الحجاز طعاماً وودكاً وأموالاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا. وبعث منادياً فنادى: لا يخرجن معنا إلا راغبٌ في الجهاد، فأما الغنيمة فلا! فلما تجهز الناس إلى خيبر شق ذلك على يهود المدينة الذين هم موادعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنهم إذا دخلوا خيبر أهلك الله خيبر كما أهلك بني قينقاع والنضير وقريظة. قال: فلما تجهزنا لم يبق أحدٌ من يهود المدينة له على أحدٍ من المسلمين حقٌّ إلا لزمه، وكان لأبي الشحم اليهودي عند عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي خمسة دراهم في شعيرٍ أخذه لأهله، فلزمه، فقال: أجلني فإني أرجو أن أقدم عليك فأقضيك حقك إن شاء الله، إن الله عز وجل قد وعد نبيه خيبر أن يغنمه إياها. وكان عبد الله بن أبي حدرد ممن شهد الحديبية، فقال: يا أبا الشحم، إنا نخرج إلى ريف الحجاز في الطعام والأموال. فقال أبو الشحم حسداً وبغياً: تحسب أن قتال خيبر مثل ما تلقونه من الأعراب؟ فيها والتوراة عشرة آلاف مقاتل! قال ابن أبي حدرد: أي عدو الله! تخوفنا بعدونا وأنت في ذمتنا وجوارنا؟ والله لأرفعنك إلى رسول الله! فقلت: يا رسول الله ألا تسمع إلى ما يقول هذا اليهودي؟ وأخبرته بما قال أبو الشحم. فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إليه شيئاً، إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه بشيءٍ لم أسمعه، فقال اليهودي: يا أبا القاسم، هذا قد ظلمني وحبسني بحقي وأخذ طعامي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطه حقه. قال عبد الله: فخرجت فبعت أحد ثوبي بثلاثة دراهم، وطلبت بقية حقه فقضيته، ولبست ثوبي الآخر، وكانت علي عمامةٌ فاستدفأت بها. وأعطاني سلمة بن أسلم ثوباً آخر، فخرجت في ثوبين مع المسلمين، ونفلني الله خيراً، وغنمت امرأةً بينها وبين أبي الشحم قرابةٌ فبعتها منه بمال.
وجاء أبو عبس بن جبر فقال: يا رسول الله، ما عندنا نفقة ولا زاد ولا ثوب أخرج فيه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيقةٌ سنبلانيةٌ، فباعها بثمانية دراهم، فابتاع تمراً بدرهمين لزاده وترك لأهله نفقةً درهمين، وابتاع بردةً بأربعة دراهم. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق خيبر في ليلةٍ مقمرةٍ إذ أبصر برجل يسير أمامه، عليه شيءٌ يبرق في القمر كأنه في الشمس وعليه بيضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقيل: أبو عبس بن جبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدركوه! قال: فأدركوني فحبسوني، وأخذني ما تقدم وما تأخر، وظننت أنه قد نزل في أمرٌ من السماء، فجعلت أتذكر ما فعلت حتى لحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك تقدم الناس لا تسير معهم؟ قلت: يا رسول الله، إن ناقتي نجيبة. قال: فأين الشقيقة التي كسوتك؟ فقلت: بعتها بثمانية دراهم، فتزودت بدرهمين تمراً، وتركت لأهلي نفقةً درهمين، واشتريت بردةً بأربعة دراهم. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أنت والله يا أبا عبس وأصحابك من الفقراء! والذي نفسي بيده لئن سلمتم وعشتم قليلاً ليكثرن زادكم، وليكثرن ما تتركون لأهليكم، ولتكثرن دراهمكم وعبيدكم، وما ذاك بخيرٍ لكم! قال أبو عبس: فكان والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري. قال أبو هريرة رضي الله عنه: قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتاً من دوس، فقال قائل: رسول الله بخيبر وهو قادمٌ عليكم. فقلت: لا أسمع به ينزل مكاناً أبداً إلا جئته. فتحملنا حتى جئناه بخيبر فنجده قد فتح النطاة وهو محاصرٌ أهل الكتيبة، فأقمنا حتى فتح الله علينا. وكنا قدمنا المدينة فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة بالمدينة، فقرأ في الركعة الأولى سورة مريم وفي الآخرة: " ويلٌ للمطففين " ، فلما قرأ " إذا اكتالوا على الناس يستوفون " قلت: تركت عمي بالسراة له مكيالان، مكيال يطفف به ومكيال يتبخس به . ويقال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر، والثبت عندنا سباع بن عرفطة.
وكانت يهود خيبر لا يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم لمنعتهم وحصونهم وسلاحهم وعددهم؛ كانوا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفاً ثم يقولون: محمدٌ يغزونا؟ هيهات! هيهات! وكان من كان بالمدينة من اليهود يقولون حين تجهز النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر: ما أمنع والله خيبر منكم! لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم؛ حصون شامخات في ذرى الجبال، والماء فيها واتن ، إن بخيبر لألف دارع، ما كانت أسدٌ وغطفان يمتنعون من العرب قاطبةً إلا بهم، فأنتم تطيقون خيبر؟ فجعلوا يوحون بذلك إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قد وعدها الله نبيه أن يغنمه إياها. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فعمى الله عليهم مخرجه إلا بالظن حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحاتهم ليلاً. وكانوا قد اختلفوا فيما بينهم حيث أحسوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشار عليهم الحارث أبو زينب اليهودي بأن يعسكروا خارجاً من حصونهم ويبرزوا له، فإني قد رأيت من سار إليه من الحصون، لم يكن لهم بقاء بعد أن حاصرهم حتى نزلوا على حكمه، ومنهم من سبي ومنهم من قتل صبراً. فقالت اليهود: إن حصوننا هذه ليست مثل تلك، هذه حصون منيعة في ذرى الجبال. فخالفوه وثبتوا في حصونهم، فلما صبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاينوه أيقنوا بالهلكة.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة فسلك ثنية الوداع، ثم أخذ على الزغابة، ثم على نقمي، ثم سلك المستناخ، ثم كبس الوطيح ، ومعهم دليلان من أشجع يقال لأحدهما حسيل بن خارجة، والآخر عبد الله بن نعيم، خرج على عصر وبه مسجد، ثم على الصهباء . فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره قال لعامر بن سنان: انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك . فاقتحم عامر عن راحلته، ثم ارتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله! فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجبت والله يا رسول الله! فقال رجل من القوم: لولا متعتنا به يا رسول الله! فاستشهد عامر يوم خيبر. فكان سلمة بن الأكوع يقول: لما كنا دون خيبر نظرت إلى ظبيٍ حاقفٍ في ظل شجرة، فأتفرد له بسهمٍ فارميه فلم يصنع سهمي شيئاً، وأذعر الظبي فيلحقني عامر ففوق له السهم فوضع السهم في جنب الظبي، وينقطع وتر القوس فيعلق رصافه بجنبه، فلم يخلصه إلا بعد شد. ووقع في نفسي يومئذٍ طيرةٌ ورجوت له الشهادة فبصرت رجلاً من اليهود فيصيب نفسه فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة: ألا تحرك بنا الركب! فنزل عبد الله عن راحلته فقال:
والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمه! فقال عمر رضي الله عنه: وجبت يا رسول الله. قال الواقدي: قتل يوم مؤتة شهيداً.
قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصهباء فصلى بها العصر ثم دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق والتمر، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلوا معه، ثم قام إلى المغرب فصلى بالناس ولم يتوضأ، ثم صلى العشاء بالناس، ثم دعا بالأدلاء فجاء حسيل بن خارجة الأشجعي، وعبد الله بن نعيم الأشجعي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسيل: امض أمامنا حتى تأخذنا صدور الأودية، حتى نأتي خيبر من بينها وبين الشام، فأحول بينهم وبين الشام وبين حلفائهم من غطفان. فقال حسيل: أنا أسلك بك. فانتهى به إلى موضع له طرق، فقال له: يا رسول الله، إن لها طرقاً يؤتى منها كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمها لي! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن، ويكره الطيرة والاسم القبيح. فقال الدليل: لها طريق يقال لها حزن. قال: لا تسلكها! قال: لها طريق يقال لها شاش. قال لا تسلكها! قال: لها طريق يقال لها حاطب. قال: لا تسلكها! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما رأيت كالليلة أسماء أقبح! سم لرسول الله! قال: لها طريقٌ واحدةٌ لم يبق غيرها. فقال عمر: سمها. قال: اسمها مرحب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم اسلكها! قال عمر: ألا سميت هذا الطريق أول مرة!
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر في فوارس طليعةً، فأخذ عيناً لليهود من أشجع فقال: من أنت؟ قال: باغٍ أبتغي أبعرةً ضلت لي، أنا على أثرها. قال له عباد: ألك علمٌ بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود. قال: نعم، كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنةً، فجاءوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيها عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاحٌ وطعامٌ كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، وماءٌ واتنٌ يشربون في حصونهم، ما أرى لأحدٍ بهم طاقة. فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات وقال: ما أنت إلا عينٌ لهم، اصدقني وإلا ضربت عنقك! فقال الأعرابي: أفتؤمني على أن أصدقك؟ قال عباد: نعم. فقال الأعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود، وإن يهود يثرب بعثوا ابن عمٍّ لي وجدوه بالمدينة، قد قدم بسلعةٍ يبيعها، فبعثوه إلى كنانة بن أبي الحقيق يخبرونه بقلتكم وقلة خيلكم وسلاحكم. ويقولون له: فاصدقوهم الضرب ينصرفوا عنكم، فإنه لم يلق قوماً يحسنون القتال! وقريش والعرب قد سروا بمسيره إليكم لما يعلمون من موادكم وكثرة عددكم وسلاحكم وجودة حصونكم! وقد تتابعت قريش وغيرهم ممن يهوى هوى محمد، تقول قريش: إن خيبر تظهر! ويقول آخرون: يظهر محمد، فإن ظفر محمد فهو ذل الدهر! قال الأعرابي: وأنا أسمع كل هذا، فقال لي كنانة: اذهب معترضاً للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك، واحزرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم ما تقوى به، ثم ألق إليهم كثرة عددنا ومادتنا فإنهم لن يدعوا سؤالك، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم. فأتى به عباد النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال عمر بن الخطاب: اضرب عنقه. قال عباد: جعلت له الأمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكه معك يا عباد! فأوثق رباطاً. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر عرض عليه الإسلام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني داعيك ثلاثاً، فإن لم تسلم لم يخرج الحبل عن عنقك إلا صعداً! فأسلم الأعرابي، وخرج الدليل يسير برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى به، فيسلك بين حياض والسرير ، فاتبع صدور الأودية حتى هبط به الخرصة ، ثم نهض به حتى سلك بين الشق والنطاة. ولما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه: قفوا! ثم قال: قولوا: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت، ورب الرياح وما ذرت، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها. ثم قال: ادخلوا على بركة الله! فسار حتى انتهى إلى المنزلة، وعرس بها ساعةً من الليل، وكان اليهود يقومون كل ليلة قبل الفجر فيتلبسون السلاح ويصفون الكتائب، وهم عشرة آلاف مقاتل. وكان كنانة بن أبي الحقيق قد خرج في ركبٍ إلى غطفان يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمر خيبر سنةً، وذلك أنه بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرٌ إليهم. وكان رجلٌ من بني فزارة حليفٌ لهم قدم بسلعةٍ إلى المدينة فباعها، ثم رجع فقدم عليهم فقال: تركت محمداً يعبىء أصحابه إليكم. فبعثوا إلى حلفائهم من غطفان، فخرج كنانة بن أبي الحقيق في أربعة عشر رجلاً من اليهود يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمرٍ خيبر سنةً. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديلكٌ حتى طلعت الشمس، فأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم معهم المساحي والكرازين والمكاتل ، فلما نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل بساحتهم قالوا: محمدٌ والخميس ! فولوا هاربين حتى رجعوا إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الله أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنزلة جعل مسجداً فصلى إليه من آخر الليل نافلةً. فثارت راحلته تجر زمامها، فأدركت توجه إلى الصخرة لا تريد تركب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها مأمورة! حتى بركت عند الصخرة، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة، وأمر برحله فحط ، وأمر الناس بالتحول إليها، ثم ابتنى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عليها مسجداً، فهو مسجدهم اليوم. فلما أصبح جاءه الحباب ابن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمرٍ أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي. فقال: يا رسول الله، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدىً منهم؛ ولا أعدل منهم، وهم مرتفعون علينا. وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل؛ تحول يا رسول الله إلى موضعٍ بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقالتهم هذا اليوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله. وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك إلى الليل يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها. وحشدت اليهود يومئذٍ، فقال له الحباب: لو تحولت يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجزٌ ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.لله عليه وسلم عليها مسجداً، فهو مسجدهم اليوم. فلما أصبح جاءه الحباب ابن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمرٍ أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي. فقال: يا رسول الله، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدىً منهم؛ ولا أعدل منهم، وهم مرتفعون علينا. وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل؛ تحول يا رسول الله إلى موضعٍ بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقالتهم هذا اليوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله. وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك إلى الليل يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها. وحشدت اليهود يومئذٍ، فقال له الحباب: لو تحولت يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجزٌ ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.
وحدثني محمد بن يحيى، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت نخلاً بخيبر في النطاة مقطعةً، فكان ذلك مما قطع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة قال: قطع المسلمون في النطاة أربعمائة عذق، ولم تقطع في غير النطاة.
فكان محمد بن مسلمة ينظر إلى صور من كبيس، قال: أنا قطعت هذا الصور بيدي حتى سمعت بلالاً ينادي عزمةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع النخل! فأمسكنا. قال: وكان محمود بن مسلمة يقاتل مع المسلمين يومئذٍ، وكان يوماً صائفاً شديد الحر، وهو أول يومٍ قاتل فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل النطاة وبها بدأ، فلما اشتد الحر على محمود وعليه أداته كاملةً جلس تحت حصن ناعم يبتغي فيئه، وهو أآول حصنٍ بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن محمود أن فيه أحداً من المقاتلة، إنما ظن أن فيه أثاثاً ومتاعاً - وناعم يهودي، وله حصون ذوات عدد فكان هذا منها - فدلى عليه مرحب رحى فأصاب رأسه. فهشمت البيضة رأسه حتى سقطت جلدة جبينه على وجهه، وأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرد الجلدة فرجعت كما كانت، وعصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول إلى الرجيع وخاف على أصحابه البيات، فضرب عسكره هناك وبات فيه، وكان مقامه بالرجيع سبعة أيام، يغدو كل يوم بالمسلمين على راياتهم متسلحين ويترك العسكر بالرجيع، ثم إذا أمسى رجع إلى الرجيع. وكان قاتل أول يومٍ من أسفل النطاة، ثم عاد بعد فقاتلهم من أعلاها حتى فتح الله عليه. وكان من جرح من المسلمين حمل إلى المعسكر فدووي، وإن كان به انلاق انطلق إلى معسكر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان أول يوم قاتلوا فيه جرح من المسلمين خمسون رجلاً من نبلهم، فكانوا يداوون من الجراح. ويقال: إن قوماً شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وباء المنزل فأمرهم بالتحول إلى الرجيع، وقدموا خيبر على ثمرة خضراء وهي وبئةٌ وخيمة، فأكلوا من تلك الثمرة، وأهمدتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قرسوا الماء في الشنان، فإذا كان بين الأذانين فاحدروا الماء عليكم حدراً واذكروا اسم الله. ففعلوا فكأنما أنشطوا من عقال .
وكان كعب بن مالك يحدث: إن رجلاً من اليهود من أهل النطاة نادانا بعد ليلٍ ونحن بالرجيع: أنا آمنٌ وأبلغكم؟ قلنا: نعم. قال: فابتدرناه فكنت أول من سبق إليه فقلت: من أنت؟ فقال: رجلٌ من اليهود. فأدخلناه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اليهودي: يا أبا القاسم: تؤمني وأهلي على أن أدلك على عورة من عورات اليهود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فدله على عورة اليهود. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه تلك الساعة فحضهم على الجهاد، وخبرهم أن اليهود قد أسلمها حلفاؤها وهربوا، وأنها قد تجادلت واختلفوا بينهم. قال كعب: فغدونا عليهم فظفرنا الله بهم، فلم يكن في النطاة شيءٌ غير الذرية فلما انتهينا إلى الشق وجدنا فيه ذرية، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودي زوجته وكانت في الشق، فدفعها إليه فرأيته أخذ بيد امرأةٍ حسناء.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام. فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل عمر بن الخطاب على العسكر، فطاف عمر بأصحابه حول العسكر وفرقهم أو فرق منهم، فأتي برجلٍ من اليهود في جوف الليل فامر به عمر أن يضرب عنقه، فقال اليهودي: اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسكه عمر وانتهى به إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عمر فسلم وأدخله عليه، ودخل عمر باليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي: ما وراءك ومن أنت ؟ فقال اليهودي: تؤمني يا أبا القاسم وأصدقك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال اليهودي: خرجت من حصن النطاة من عند قومٍ ليس لهم نظام، تركتهم يتسللون من الحصن في هذه الليلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين يذهبون؟ قال: إلى أذل مما كانوا فيه، إلى الشق، وقد رعبوا منك حتى إن أفئدتهم لتخفق. وهذا حصن اليهود فيه السلاح والطعام والودك، وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضاً، قد غيبوا ذلك في بيتٍ من حصونهم تحت الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو؟ قال: منجينق مفككة ودبابتان وسلاح من دروع وبيضٍ وسيوف، فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله. قال اليهودي: إن شاء الله أوقفك عليه، فإنه لا يعرفه أحدٌ من اليهود غيري. وأخرى! قيل: ما هي؟ قال: تستخرجه، ثم أنصب المنجنيق على حصن الشق، وتدخل الرجال تحت الدبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من يومك، وكذلك تفعل بحصن الكتيبة. فقال عمر: يا رسول الله، إني أحسبه قد صدق. قال اليهودي: يا أبا القاسم، احقن دمي. قال: أنت آمن قال: ولي زوجة في حصن النزار فهبها لي. قال: هي لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لليهود حولوا ذراريهم من النطاة؟ قال: جردوها للمقاتلة، وحولوا الذراري إلى الشق والكتيبة.
قالوا: ثم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: أنظرني أياماً، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا بالمسلمين إلى النطاة، ففتح الله الحصن، واستخرج ما كان قال اليهودي فيه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق أن تصلح وتنصب على الشق على حصن النزار، فهيئوا، فما رموا عليها بحجرٍ حتى فتح الله عليهم حصن النزار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إليه حصب الحصن فساخ في الأرض حتى أخذ أهله أخذاً، وأخرجت زوجته، يقال لها نفيلة، فدفعها إليه. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الوطيح وسلالم أسلم اليهودي، ثم خرج من خيبر فلم يسمع له بذكر، وكان اسمه سماك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى حصن ناعم في النطاة وصف أصحابه نهى عن القتال حتى يأذن لهم، فعمد رجلٌ من أشجع فحمل على يهودي، وحمل عليه مرحب فقتله. فقال الناس: يا رسول الله، استشهد فلان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبعد ما نهيت عن القتال؟ فقالوا: نعم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: لا تحل الجنة لعاصٍ. ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال وحث عليه، ووطن المسلمون أنفسهم على القتال. وكان يسار الحبشي - عبدٌ أسود لعامر اليهودي - في غنم مولاه، فلما رأى أهل خيبر يتحصنون ويقاتلون سألهم، فقالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي. قال: فوقعت تلك الكلمة في نفسه، فأقبل بغنمه يسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ما تقول؟ ما تدعو إليه؟ قال: أدعو إلى الإسلام، فاشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: فما لي؟ قال: الجنة إن ثبت على ذلك. قال: فأسلم. وقال: إن غنمي هذه وديعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات، فإن الله عز وجل سيؤدي عنك أمانتك. ففعل العبد فخرجت الغنم إلى سيدها، وعلم اليهودي أن عبده قد أسلم. ووعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وفرق بينهم الرايات، وكانت ثلاث رايات، ولم تكن راية قبل يوم خيبر، إنما كانت الألوية، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من بردٍ لعائشة، تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، ودفع رايةً إلى عليٍّ رضي الله عنه بالراية وتبعه العبد الأسود فقاتل حتى قتل، فاحتمل فأدخل خباءً من أخبية العسكر، فاطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخباء فقال: لقد كرم الله هذا العبد الأسود وساقه إلى خيبر، وكان الإسلام من نفسه حقاً، قد رأيت عند رأسه زوجتين من الحور العين.
قالوا: وكان رجلٌ من بني مرة يقال له أبو شييم يقول: أنا في الجيش الذين كانوا مع عيينة من غطفان؛ أقبل مدد اليهود، فنزلنا بخيبر ولم ندخل حصناً. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وهو رأس غطفان وقائدهم أن ارجع بمن معك ولك نصف تمر خيبر هذه السنة، إن الله قد وعدني خيبر. فقال عيينة: لست بمسلمٍ حلفائي وجيراني. فأقمنا فبينا نحن على ذلك مع عيينة إذ سمعنا صائحاً، لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم، أهلكم بحيفاء - صيح ثلاثة - فإنكم قد خولفتم إليهم! ويقال: إنه لما سار كنانة بن أبي الحقيق فيهم حلفوا معه، وارتأسهم عيينة بن حصن وهم أربعة آلاف، فدخلوا مع اليهود في حصون النطاة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أرسل إليهم سعد بن عبادة وهم في الحصن، فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم: إني أريد أن أكلم عيينة بن حصن. فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب: لا تدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها، ولكن تخرج إليه. فقال عيينة: لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً. فأبى مرحب أن يدخله، فخرج عيينة إلى باب الحصن، فقال سعد: إن رسول الله أرسلني إليك يقول: إن الله قد وعدني خيبر فارجعوا وكفوا، فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنةً. فقال عيينة: إنا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشيءٍ، وإنا لنعلم ما لك ولمن معك مما ها هنا طاقة، هؤلاء قومٌ أهل حصونٍ منيعة، ورجالٍ عددهم كثير، وسلاح. إن أقمت هلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله، ما هؤلاء كقريش، قوم ساروا إليك، إن أصابوا غرة منك فذاك الذي أرادوا وإلا انصرفوا، وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم. فقال سعد بن عبادة: أشهد ليحضرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك، فلا نعطيك إلا السيف، وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب، كيف مزقوا كل ممزق! فرجع سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال، وقال سعد: يا رسول الله، لئن أخذه السيف ليسلمنهم وليهربن إلى بلاده كما فعل ذلك قبل اليوم في الخندق. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يوجهوا إلى حصنهم الذي فيه غطفان، وذلك عشيةً وهم في حصن ناعم، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان. قال: فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحاً يصيح، لا يدرون من السماء أو من الأرض: يا معشر غطفان، أهلكم أهلكم! الغوث، الغوث بحيفاء - صيح ثلاثة - لا تربة ولا مال! قال: فخرجت غطفان على الصعب والذلول، وكان أمراً صنعه الله عز وجل لنبيه. فلما أصبحوا أخبر كنانة بن أبي الحقيق وهو في الكتيبة بانصرافهم، فسقط في يديه ، وذل وأيقن بالهلكة وقال: كنا من هؤلاء الأعراب في باطل، إنا سرنا فيهم فوعدونا النصر وغرونا، ولعمري لولا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمداً بالحرب، ولم نحفظ كلام سلام بن أبي الحقيق إذ قال: لا تستنصروا بهؤلاء الأعراب أبداً فإنا قد بلوناهم. وجلبهم لنصر بني قريظة ثم غروهم. فلم نر عندهم وفاءً لنا، وقد سار فيهم حيي بن أخطب وجعلوا يطلبون الصلح من محمد، ثم زحف محمد إلى بني قريظة وانكشفت غطفان راجعةً إلى أهلها.
قالوا: فلما انتهى الغطفانيون إلى أهلهم بحيفاء وجدوا أهلهم على حالهم فقالوا: هل راعكم شيء؟ قالوا: لا والله. فقالوا: لقد ظننا أنكم قد غنمتم، فما نرى معكم غنيمةً ولا خيراً! فقال عيينة لأصحابه: هذا والله من مكائد محمد وأصحابه، خدعنا والله! فقال له الحارث بن عوف: بأي شيءٍ؟ قال عيينة: إنا في حصن النطاة بعد هدأةٍ إذ سمعنا صائحاً يصيح، لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم أهلكم بحيفاء - صيح ثلاثةً - فلا تربة ولا مال! قال الحارث بن عوف: يا عيينة، والله لقد غبرت إن انتفعت. والله إن الذي سمعت لمن السماء! والله ليظهرن محمد على من ناوأه، حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد. فأقام عيينة أياماً في أهله ثم دعا أصحابه للخروج إلى نصر اليهود، فجاءه الحارث بن عوف فقال: يا عيينة أطعني وأقم في منزلك ودع نصر اليهود، مع أني لا أراك ترجع إلى خيبر إلا وقد فتحها محمد ولا آمن عليك. فأبى عيينة أن يقبل قوله وقال: لا أسلم حلفائي لشيءٍ. ولما ولى عيينة إلى أهله هجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحصون حصناً حصناً، فلقد انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصن ناعم ومعه المسلمون، وحصون ناعم عدة، فرمت اليهود يومئذ بالنبل، وترس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ درعان ومغفرٌ وبيضة، وهو على فرسٍ يقال له الظرب ، في يده قناةٌ وترس، وأصحابه محدقون به، وقد كان دفع لواءه إلى رجلٍ من أصحابه من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً، ثم دفعه إلى آخر فرجع ولم يصنع شيئاً، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء الأنصار إلى رجلٍ منهم، فخرج ورجع ولم يعمل شيئاً، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وسالت كتائب اليهود، أمامهم الحارث أبو زينب يقدم اليهود يهد الأرض هداً، فأقبل صاحب راية الأنصار فلم يزل يسوقهم حتى انتهوا إلى الحصن فدخلوه، وخرج أسير اليهودي يقدم أصحابه معه عاديته وكشف راية أصحاب الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه حدةً شديدة، وقد ذكر لهم الذي وعدهم الله، فأمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهموماً، وقد كان سعد بن عبادة رجع مجروحاً وجعل يستبطىء أصحابه، وجعل صاحب راية المهاجرين يستبطىء أصحابه ويقول: أنتم، وأنتم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود جاءهم الشيطان فقال لهم: إن محمداً يقاتلكم على أموالكم! نادوهم: قولوا لا إله إلا الله، ثم قد أحرزتم بذلك أموالكم ودماءكم، وحسابكم على الله. فنادوهم بذلك فنادت اليهود: إنا لا نفعل ولا نترك عهد موسى والتوراة بيننا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية غداً يحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار، أبشر يا محمد بن مسلمة غداً، إن شاء الله يقتل قاتل أخيك وتولى عادية اليهود. فلما أصبح أرسل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أرمد، فقال: ما أبصر سهلاً ولا جبلاً. قال: فذهب إليه فقال: افتح عينيك. ففتحهما فتفل فيهما. قال علي رضي الله عنه: فما رمدت حتى الساعة. ثم دفع إليه اللواء ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر، فكان أول من خرج إليهم الحارث أخو مرحب في عاديته، فانكشف المسلمون وثبت علي رضي الله عنه فاضطربا ضرباتٍ فقتله علي رضي الله عنه، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن فدخلوه وأغلقوا عليهم، فرجع المسلمون إلى موضعهم، وخرج مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أضرب أحياناً وحيناً أضرب
فحمل علي رضي الله عنه فقطره على الباب وفتح الباب. وكان للحصن بابان.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن شيوخٍ من بني ساعدة قالوا: قتل أبو دجانة الحارث أبا زينب، وكان يومئذٍ معلماً بعمامة حمراء، والحارث معلمٌ فوق مغفره، وياسر وأسير وعامر معلمين.
حدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيٌّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر، قتله يوم خيبر رجلٌ من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة يوم نزل محمد خيبر، وكنا ممن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أعير، تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابن سيد اليهود لم يترك اليهودية، قتل عليها أبوك وتخالفه؟ وقال أبو رافع: كنا مع علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بالراية، فلقي علي رضي الله عنه رجلاً على باب الحصن، فضرب علياً واتقاه بالترس عليٌّ، فتناول عليٌ باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده حتى فتح الله عليه الحصن. وبعث رجلاً يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الحصن؛ حصن مرحب ودخولهم الحصن. ويقال: إن مرحب برز وهو كالفحل الصؤول يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أضرب أحياناً وحيناً أضرب
يدعو للبراز. فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس فائذن لي في قتال مرحب وهو قاتل أخي. فأذن له رسولالله صلى الله عليه وسلم في مبارزته، ودعا له بدعوات، وأعطاه سيفه، فخرج محمد فصاح: يا مرحب، هل لك في البراز؟ فقال: نعم. فبرز إليه مرحب وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب
وخرج محمد بن مسلمة وهو يقول:
قد علمت خيبر أني ماض ... حلوٌ إذا شئت وسمٌّ قاض
ويقال: إنه جعل يومئذٍ يرتجز ويقول:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... لا صبر لي بعد أبي النبيت
وكان أخوه محمود يكنى بأبي النبيت. قال: وبرز كل واحد منهما إلى صاحبه. قال: فحال بينهما عشرات أصلها كمثل أصل الفحل من النخل وأفنانٌ منكرة، فكلما ضرب أحدهما صاحبه استتر بالعشر حتى قطعا كل ساقٍ لها، وبقي أصلها قائماً كأنه الرجل القائم. وأفضى كل واحد منهما إلى صاحبه، وبدر مرحب محمداً، فيرفع السيف ليضربه، فاتقاه محمد بالدرفة فلحج سيفه، وعلى مرحب درعٌ مشمرة، فيضرب محمد ساقي مرحب فقطعهما. ويقال: لما اتقى محمدٌ بالدرفة وشمرت الدرع عن ساقي مرحب حين رفع يديه بالسيف، فطأطأ محمد بالسيف فقطع رجليه ووقع مرحب، فقال مرحب: أجهز يا محمد! قال محمد: ذق الموت كما ذاقه أخي محمود! وجاوزه ومر به عليٌّ فضرب عنقه وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، والله ما قطعت رجليه ثم تركته إلا ليذوق مر السلاح وشدة الموت كما ذاق أخي؛ مكث ثلاثاً يموت، وما منعني من الإجهاز عليه شيء، قد كنت قادراً بعد أن قطعت رجليه أن أجهز عليه. فقال علي رضي الله عنه: صدق، ضربت عنقه بعد أن قطع رجليه. فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه فيه كتاب لا يدرى ما هو حتى قرأه يهوديٌّ من يهود تيماء فإذا فيه:
هذا سيف مرحب ... من يذقه يعطب
حدثني محمد بن الفضل، عن أبيه، عن جابر، وحدثني زكريا بن زيد، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن سلمة بن سلامة، ومجمع ابن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن حارثة، قالوا جميعاً: محمد بن مسلمة قتل مرحباً.
قالوا: وبرز أسير، وكان رجلاً أيداً، وكان إلى القصر، فجعل يصيح؛ من يبارز؟ فبرز له محمد بن مسلمة فاختلفا ضربات، ثم قتله محمد ابن مسلمة. ثم برز ياسر وكان من أشدائهم، وكانت معه حربةٌ يحوش بها المسلمين حوشاً، فبرز له علي رضي الله عنه فقال الزبير: أقسمت عليك ألا خليت بيني وبينه. ففعل عليٌّ وأقبل ياسر بحربته يسوق بها الناس، فبرز له الزبير، فقالت صفية: يا رسول الله واحزني! ابني يقتل يا رسول الله! فقال: بل ابنك يقتله. قال: فاقتتلا فقتله الزبير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فداك عمٌّ وخال! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري وحواري الزبير وابن عمتي. فلما قتل مرحب وياسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا، قد ترحبت خيبر وتيسرت! وبرز عامر وكان رجلاً طويلاً جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلع عامر: أترونه خمسة أذرع؟ وهو يدعو إلى البراز، يخطر بسيفه وعليه درعان، مقنع في الحديد يصيح: من يبارز؟ فأحجم الناس عنه، فبرز إليه عليٌّ رضي الله عنه فضربه ضرباتٍ، كل ذلك لا يصنع شيئاً، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم ذفف عليه فأخذ سلاحه.
فلما قتل الحارث، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، مع ناسٍ من اليهود كثير - ولكن إنما سمي هؤلاء المذكورين لأنهم كانوا أهل شجاعة، وكان هؤلاء في حصن ناعم جميعاً. ولما رمي محمود بن مسلمة من حصن ناعم حمل إلى الرجيع فمكث ثلاثة أيام يموت، وكان الذي دلى عليه الرحا مرحب، فجعل محمود يقول لأخيه: يا أخي، بنات أخيك لا يتبعن الأفياء ؛ يسألن الناس. فيقول محمد بن مسلمة: لو لم تترك مالاً لكان لي مال. ومحمود كان أكثرهما مالاً - ولم ينزل يومئذٍ فرائض البنات - فلما كان اليوم الذي مات فيه محمود وهو اليوم الثالث، وهو اليوم الذي قتل فيه مرحب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يبشر محمود بن مسلمة أن الله قد أنزل فرائض البنات، وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله؟ فخرج جعال بن سراقة إليه فأخبره فسر بذلك، وأمره أن يقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام منه. قال: فاقرأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال محمود. لا أراه يذكرني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت في موضعه بالرجيع فمات خلافه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلة، وقد جرح عامر بن الأكوع نفسه، حمل إلى الرجيع فمات، فقبر عامر بن الأكوع معه في غار. فقال محمد: يا رسول الله اقطع لي عند قبر أخي. قال: لك حضر الفرس فإن عملت فلك حضر فرسين.
وكان حصن الصعب بن معاذ في النطاة، وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع، وكان فيه خمسمائة مقاتل، وكان الناس قد أقاموا أياماً يقاتلون وليس عندهم طعامٌ إلا العلف . قال معتب الأسلمي: أصابنا معشر أسلم خصاصةٌ حين قدمنا خيبر، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام، فأجمعت أسلم أن يرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: ايت محمداً رسول الله فقل: إن أسلم يقرئونك السلام ويقولون إنا قد جهدنا من الجوع والضعف. فقال بريدة بن الحصيب: والله إن رأيت كاليوم قط أمراً بين العرب يصنعون فيه هذا! فقال عند بن حارثة: والله إنا لنرجو أن تكون البعثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الخير. فجاءه أسماء بن حارثة فقال: يا رسول الله، إن أسلم تقول: إنا قد جهدنا من الجوع والضعف فادع الله لنا. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما بيدي ما أقريهم . ثم صاح بالناس فقال: اللهم افتح عليهم أعظم حصن فيه، أكثره طعاماً وأكثره ودكاً. ودفعوا باللواء إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وندب الناس، فما رجعنا حتى فتح الله علينا الحصن - حصن الصعب بن معاذ. فقالت أم مطاع الأسلمية، وكانت قد شهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء، قالت: لقد رأيت أسلم حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكوا من شدة الحال، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهضوا، فرأيت أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب بن معاذ، وإن عليه لخمسمائة مقاتل، فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله، وكان عليه قتال شديد. برز رجلٌ من اليهود يقال له يوشع يدعو إلى البراز، فبرز إليه الحباب بن المنذر فاختلفا ضرباتٍ فقتله الحباب. وبرز آخر يقال له الزيال، فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري فبدره الغفاري فيضربه ضربةً على هامته، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الغفاري! فقال الناس: بطل جهاده. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بأسٌ به، يؤجر ويحمد.
وكان أبو اليسر يحدث أنهم حاصروا حصن الصعب بن معاذ ثلاثة أيام، وكان حصناً منيعاً، وأقبلت غنمٌ لرجلٍ من اليهود ترتع وراء حصنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجلٌ يطعمنا من هذه الغنم؟ فقلت: أنا يا رسول الله، فخرجت أسعى مثل الظبي، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال: اللهم متعنا به! فأدركت الغنم وقد دخل أولها الحصن، فأخذت شاتين من آخرها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت أعدو كأن ليس معي شيء حتى أتيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحتا ثم قسمهما، فما بقي أحدٌ من أهل العسكر الذين هم معه محاصرين الحصن إلا أكل منها. فقيل لأبي اليسر: وكم كانوا؟ قال: كانوا عدداً كثيراً. فيقال: أين بقية الناس؟ فيقول: في الرجيع بالمعسكر. فسمع أبو اليسر - وهو شيخ كبير - وهو يبكي في شيءٍ غاظه من بغض ولده، فقال: لعمري بقيت بعد أصحابي ومتعوا بي وما أمتع بهم! لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم متعنا به! فبقي فكان من آخرهم.
وكان أبو رهم الغفاري يحدث قال: أصابنا جوعٌ شديدٌ، ونزلنا خيبر زمان البلح، وهي أرض وخيمة حارةٌ شديدٌ حرها. فبينا نحن محاصرون حصن الصعب بن معاذ فخرج عشرون حماراً منه أو ثلاثون، فلم يقدر اليهود على إدخالها، وكان حصنهم له منعةٌ، فأخذها المسلمون فانتحروها، وأوقدوا النيران وطبخوا لحومها في القدور والمسلمون جياع، ومر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على تلك الحال فسأل فأخبر فأمر منادياً: إن رسول الله ينهاكم عن الحمر الإنسية - قال: فكفوا القدور - وعن متعة النساء، وعن كل ذي ناب ومخلب.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن الفضيل بن مبشر، قال: كان جابر بن عبد الله يقول: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، فذبح قومٌ من المسلمين خيلاً من خيلهم قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ، فقيل لجابر: أرأيت البغال، أكنتم تأكلونها؟ قال: لا.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: ذبحنا بخيبر لبني مازن بن النجار فرسين، فكنا نأكل منهما قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ.
وحدثني ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر يقول: حرامٌ أكل الحمر الأهلية والخيل والبغال. قالوا: وكل ذي نابٍ من السباع، ومخلب من الطير. قال الواقدي: الثبت عندنا أن خالداً لم يشهد خيبر، وأسلم قبل الفتح هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة أول يومٍ من صفر سنة ثمان.
وكان ابن الأكوع يقول: كنا على حصن الصعب بن معاذ، أسلم بأجمعها، والمسلمون قد حصروا أهل الحصن، فلقد رأيتنا وصاحب رايتنا سعد بن عبادة، فانكشف المسلمون، فأخذ الراية فغدونا معه. وغدا عامر ابن سنان فلقي رجلاً من اليهود، وبدره اليهودي فضرب عامراً، قال عامر: فاتقيته بدرقتي فنبا سيف اليهودي عنه. قال عامر: فأضرب رجل اليهودي فأقطعها، ورجع السيف على عامر فأصابه ذبابه فنزف فمات. فقال أسيد ابن حير: حبط عمله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب من قال ذلك! إن له لأجرين، إنه جاهدٌ مجاهدٌ، وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص .
حدثني خالد بن إلياس، عن جعفر بن محمود بن محمد، عن محمد ابن مسلمة قال: كنت فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت أصيح بأصحابه: تراموا بالحجف! ففعلوا فرمونا حتى ظننت ألا يقلعوا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسهم، فما أخطأ رجلاً منهم،وتبسم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفرجوا ودخلوا الحصن.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما انتهينا إلى حصن الصعب بن معاذ، والمسلمون جياع والأطعمة فيه كلها، وغزا بنا الحباب ابن المنذر بن الجموح ومعه رايتنا وتبعه المسلمون، وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال، فلما كان اليوم الثالث بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في يده حربةٌ له، وخرج وعاديته معه فرموا بالنبل ساعةً سراعاً، وترسنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمطروا علينا بالنبل، فكان نبلهم مثل الجراد حتى ظننت ألا يقلعوا، ثم حملوا علينا حملة رجلٍ واحدٍ، فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف، قد نزل عن فرسه ومدعم يمسك فرسه. وثبت الحباب برايتنا، والله ما يزول، يراميهم على فرسه، وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها. قال: فأقبل الناس جميعاً حتى عادوا إلى صاحب رايتهم، ثم زحف بهم الحباب فلم يزل يدنو قليلاً قليلاً، وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر فانكشفوا سراعاً، ودخلوا الحصن وغلقوا عليهم، ووافوا على جدره - وله جدر دون جدر - فجعلوا يرموننا بالجندل رمياً كثيراً، ونحونا عن حصنهم بوقع الحجارة حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول. ثم إن اليهود تلاومت بينها وقالت: ما نستبقي لأنفسنا؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم. فخرجوا مستميتين، ورجعنا إليهم فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال، وقتل يومئذٍ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو صياح، وقد شهد بدراً، ضربه رجلٌ منهم بالسيف فأطن قحف رأسه؛ وعدي بن مرة بن سراقة، طعنه أحدهم بالحربة بين ثديه فمات؛ والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدراً، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه. وقد قتلنا منهم على الحصن عدة، كلما قتلنا منهم رجلاً حملوه حتى يدخلوه الحصن. ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم، فقتلنا من أشرف لنا، وأسرنا منهم، وهربوا في كل وجهٍ يركبون الحرة يريدون حصن قلعة الزبير، وجعلنا ندعهم يهربون، وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً، ففتتنا أعضاد اليهود بالتكبير، لقد رأيت فتيان أسلم وغفار فوق الحصن يكبرون، فوجدنا والله من الأطعمة ما لم نظن أن هناك؛ من الشعير، والتمر، والسمن، والعسل، والزيت، والودك. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا واعلفوا ولا تحتملوا. يقول: لا تخرجوا به إلى بلادكم. فكان المسلمون يأخذون من ذلك الحصن مقامهم طعامهم وعلف دوابهم، لا يمنع أحد أن يأخذ حاجته ولا يخمس الطعام. ووجدوا فيه من البز والآنية، ووجدوا خوابي، السكر، فأمروا فكسروها، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن، والخوابي كبار لا يطاق حملها. وكان أبو ثعلبة الخشني يقول: وجدنا فيه آنيةً من نحاسٍ وفخارٍ كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا. وقال: أسخنوا فيها الماء ثم اطبخوا بعد، وكلوا واشربوا. وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً، وأخرجنا منه آلةً كثيرةً للحرب، ومنجنيقاً ودبابات وعدة، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً، فعجل الله خزيهم.
فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لقد خرج من أطمٍ من حصن الصعب بن معاذ من البز عشرون عكماً محزومةً من غليظ متاع اليمن، وألفٌ وخمسمائة قطيفة؛ يقال: قدم كل رجل بقطيفةٍ على أهله، ووجدوا عشرة أحمال خشب، فأمر به فأخرج من الحصن ثم أحرق، فمكث أياماً يحترق، وخوابي سكرٍ كسرت، وزقاق خمر فأهريقت. وعمد يومئذٍ رجل من المسلمين فشرب من الخمر، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكره حين رفع إليه فخفقه بنعليه؛ ومن حضره، فخفقوه بنعالهم. وكان يقال له عبد الله الخمار، وكان رجلاً لا يصبر عن الشراب قد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم العنه! ما أكثر ما يضرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل يا عمر، فإنه يحب الله ورسوله. قال: ثم راح عبد الله فجلس معهم كأنه أحدهم حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة قالت: لقد وجدنا في حصن الصعب بن معاذ من الطعام ما كنت أظن أنه لا يكون بخيبر، جعل المسلمون يأكلون مقامهم شهراً وأكثر من ذلك الحصن، فيعلفون دوابهم، ما يمنع أحدهم ولم يكن فيه خمس، وأخرج من البزور شيءٌ كثيرٌ يباع في المقسم، ووجد فيه خرز من خرز اليهود. فقيل لها: فمن الذي يشتري ذلك في المقسم؟ قالت: المسلمون، واليهود الذين كانوا في الكتيبة فآمنوا، ومن حضر من الأعراب، فكل هؤلاء يشتري، فأما من يشتري من المسلمين فإنما يحاسب به مما يصيبه من المغنم.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، قال: لما نظر عيينة بن حصن إلى حصن الصعب بن معاذ والمسلمون ينقلون منه الطعام والعلف والبز قال: ما أحدٌ يعلف لنا دوابنا ويطعمنا من هذا الطعام الضائع، فقد كان أهله عليه كراماً! فشتمه المسلمون وقالوا: لك الذي جعل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذو الرقيبة ، فاسكت! وبينما المسلمون يجولون في حصن الصعب بن معاذ، وله مداخل، فأخرجوا رجلاً من اليهود فضربوا عنقه فتعجبوا لسواد دمه، ويقول قائلهم: ما رأينا مثل سواد هذا الدم قط - قال: يقول متكلم: في رفٍّ من تلك الرفاف الثوم والثريد - وأنزل فقدموه فضربوا عنقه.
قال: وتحولت اليهود من حصن ناعم كلها، ومن حصن الصعب ابن معاذ، ومن كل حصون النطاة، إلى حصنٍ يقال له قلعة الزبير، فزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم والمسلمون، فحاصروهم وغلقوا عليهم حصنهم وهو حصين منيع، وإنما هو في رأس قلعة لا تقدر عليه الخيل ولا الرجال لصعوبته وامتناعه، وبقيت بقايا لا ذكر لهم في بعض حصون النطاة، الرجل والرجلان. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزائهم رجالاً يحرسونهم، لا يطلع أحدٌ عليهم إلا قتلوه. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على محاصرة الذين في قلعة الزبير ثلاثة أيام، فجاء رجلٌ من اليهود يقال له غزال فقال: أبا القاسم، تؤمني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق، فإن أهل الشق قد هلكوا رعباً منك؟ قال: فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله وماله. فقال اليهودي: إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، لهم دبولٌ تحت الأرض، يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، وإن قطعت مشربهم عليهم ضجوا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم لم يطيقوا المقام على العطش، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، وقتل من المسلمين يومئذٍ نفرٌ، وأصيب من اليهود ذلك اليوم عشرةٌ، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخر حصون النطاة. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النطاة أمر بالانتقال، والعسكر أن يحول من منزله بالرجيع إلى مكانه الأول بالمنزلة، وأمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيات ومن حرب اليهود وما يخاف منهم، لأن أهل النطاة كانوا أحد اليهود وأهل النجدة منهم. ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشق.
فحدثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير محمد بن سهل بن أبي حثمة قال: لما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشق، وبه حصونٌ ذات عدد، كان أول حصنٍ بدأ منها حصن أبي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعةٍ يقال لها سمران ، فقاتل عليها أهل الحصن قتالاً شديداً. وخرج رجلٌ من اليهود يقال له غزال فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر فاختلفا ضربات، ثم حمل عليه الحباب فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فوقع السيف من يد غزال فكان أعزل، ورجع مبادراً منهزماً إلى الحصن، وتبعه الحباب فقطع عرقوبه، فوقع فذفف عليه. وخرج آخر فصاح: من يبارز؟ فبرز إليه رجلٌ من المسلمين من آل جحش فقتل الجحشي. وقام مكانه يدعو إلى البراز ويبرز له أبو دجانة قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر يختال في مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجليه، ثم ذفف عليه وأخذ سلبه، درعه وسيفه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وأحجموا عن البراز، فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثاً ومتاعاً وغنماً وطعاماً، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجدر كأنهم الظباء حتى صاروا إلى حصن النزار بالشق، وجعل يأتي من بقي من قلل النطاة إلى حصن النزار فعلقوه وامتنعوا فيه أشد الامتناع. وزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في أصحابه فقاتلوهم، فكانوا أشد أهل الشق قتالاً، رموا المسلمين بالنبل والحجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، حتى أصابت النبل ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقت به، فأخذ النبل فجمعها ثم أخذ لهم كفاً من حصا فحصب به حصنهم، فرجف بهم ثم ساخ في الأرض.
قال إبراهيم بن جعفر: استوى بالأرض حتى جاء المسلمون، فأخذوا أهله أخذاً . وكانت فيه صفية بنت حيي وابنة عمها. فكان عمير مولى آبى اللحم يقول: شهدت صفية أخرجت وابنة عمها وصبياتٌ من حصن النزار، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن النزار بقيت حصونٌ في الشق، فهرب أهلها منها حتى انتهوا إلى أهل الكتيبة والوطيح وسلالم. وكان محمد بن مسلمة يقول: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصن النزار فقال: هذا آخر حصون خيبر كان فيه قتال؛ لما فتحنا هذا الحصن لم يكن بعده قتالٌ حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر.
فحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر قال، قلت لجعفر بن محمود: كيف صارت صفية في حصن النزار في الشق وحصن آل أبي الحقيق بسلالم، ولم يسب في حصون النطاة من النساء والذرية أحدٌ ولا بالشق، إلا في حصن النزار، فإنه قد كان فيه ذرية ونساء؟ فقال: إن يهود خيبر أخرجوا النساء والذرية إلى الكتيبة وفرغوا حصن النطاة للمقاتلة فلم يسب أحدٌ منهم إلا من كان في حصن النزار، صفية وابنة عمها ونسيات معها. وكان كنانة قد رأى أن حصن النزار أحصن ما هنالك، فأخرجها في الليلة التي تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبيحتها إلى الشق حتى أسرت وبنت عمها ومن كان معهما من ذراري اليهود، وبالكتيبة من اليهود ومن نسائهم وذراريهم أكثر من ألفين؛ فلما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتيبة أمن الرجال والذرية، ودفعوا إليه الأموال، والبيضاء والصفراء، والحلقة، والثياب، إلا ثوباً على إنسان. فلقد كان من اليهود حين أمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلون ويدبرون، ويبيعون ويشترون، لقد أنفقوا عامة المغنم مما يشترون من الثياب من الثياب والمتاع، وكانوا قد غيبوا نقودهم وعين مالهم.
قالوا: ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكتيبة والوطيح وسلالم، حصن ابن أبي الحقيق الذي كانوا فيه، فتحصنوا أشد التحصن، وجاءهم كل فل كان قد انهزم من النطاة والشق، فتحصنوا معهم في القموص وهو في الكتيبة، وكان حصناً منيعاً، وفي الوطيح وسلالم. وجعلوا لا يطلعون من حصونهم مغلقين عليهم، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب المنجنيق عليهم لما رأى من تغليقهم، وأنه لا يبرز منهم بارز. فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح. قال أبو عبد الله، قلت لإبراهيم بن جعفر: وجد في الكتيبة خمسمائة قوس عربية. وقال: أخبرني أبي عمن رأى كنانة بن أبي الحقيق يرمي بثلاثة أسهم في ثلثمائة - يعني ذراع - فيدخلها في هدف شبراً في شبر، فما هو إلا أن قيل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل من الشق في أصحابه، وقد تهيأ أهل القموص وقاموا على باب الحصن بالنبل، فنهض كنانة إلى قوسه فما قدر أن يوترها من الرعدة، وأومأ إلى أهل الحصون: لا ترموا! وانقمع في حصنه، فما رئي منهم أحدٌ، حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب. فأرسل كنانة رجلاً من اليهود يقال له شماخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنزل إليك أكلمك! فلما نزل شماخ أخذه المسلمون فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره برسالة كنانة. فأنعم له، فنزل كنانة في نفر من اليهود، فصالحه على ما صالحه، فأحلفه على ما أحلفه عليه. قال إبراهيم: تلك القسي والسلاح إنما كان لآل أبي الحقيق جماعة يعيرونه العرب، والحلي يعيرونه العرب. ثم يقول: كانوا شر يهود يثرب.
قالوا: وأرسل كنانة بن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مالٍ أو أرضٍ، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، وعلى البز، إلا ثوباً على ظهر إنسان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئاً. فصالحه على ذلك، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأموال فقبضها، الأول فالأول، وبعث إلى المتاع والحلقة فقبضها، فوجد من الدروع مائة درع، ومن السيوف أربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية بجعابها. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبي الحقيق عن كنز آل أبي الحقيق وحليٍ من حليهم، كان يكون في مسك الجمل، كان أسراهم يعرف به، وكان العرس يكون بمكة فيقدم عليهم، فيستعار ذلك الحلي الشهر فيكون فيهم، وكان ذلك الحلي يكون عند الأكابر فالأكابر من آل أبي الحقيق. فقال: يا أبا القاسم، أنفقناه في حربنا فلم يبق منه شيء، وكنا نرفعه لمثل هذا اليوم، فلم تبق الحرب واستنصار الرجال من ذلك شيئاً. وحلفا على ذلك فوكدا الأيمان واجتهدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : برئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إن كان عندكما! قالا: نعم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكل ما أخذت من أموالكما وأصبت من دمائكما فهو حلٌّ لي ولا ذمة لكما! قالا: نعم. وأشهد عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعمر، وعلياً، والزبير رضوان الله عليهم وعشرةً من اليهود. فقام رجلٌ من اليهود إلى كنانة بن أبي الحقيق فقال: إن كان عندك ما يطلب منك محمدٌ أو تعلم علمه فأعلمه فإنك تأمن على دمك، وإلا فوالله ليظهرن عليه، قد اطلع على غير ذلك بما لم نعلمه. فزبره ابن أبي الحقيق فتنحى اليهودي فقعد. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق - وكان رجلاً ضعيفاً - عن كنزهما، فقال: ليس لي علم غير أني قد كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة - قال: وأشار إلى خربة - فإن كان شيءٌ دفنه فهو فيها. وكان كنانة بن أبي الحقيق لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على النطاة أيقن بالهلكة - وكان أهل النطاة أخذهم الرعب - فذهب بمسك الجمل، فيه حليهم، فحفر له في خربةٍ ليلاً ولا يراه أحد، ثم سوى عليه التراب بالكتيبة، وهي الخربة التي رآه ثعلبة يدور بها كل غداة. فأرسل مع ثعلبة الزبير بن العوام ونفراً من المسلمين إلى تلك الخربة، فحفر حيث أراه ثعلبة فاستخرج منه ذلك الكنز. ويقال: إن الله عز وجل دل رسوله على ذلك الكنز. فلما أخرج الكنز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أن يعذب كنانة بن أبي الحقيق حتى يستخرج كل ما عنده. فعذبه الزبير حتى جاءه بزندٍ يقدحه في صدره، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى محمد بن مسلمة يقتله بأخيه، فقتله محمد بن مسلمة. وأمر بابن ابي الحقيق الآخر، فعذب ثم دفع إلى ولاة بشر بن البراء فقتل به، ويقال: ضرب عنقه. واستحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أموالهما وسبى ذراريهما.
فحدثني خالد بن الربيعة بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عمن نظر إلى ما في مسك الجمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به، فإذا جله أسورة الذهب، ودمالج الذهب، وخلاخل الذهب، وقرطة الذهب، ونظمٌ من جوهرٍ وزمردٍ، وخواتم ذهب، وفتخٌ بجزع ظفار مجزعٌ بالذهب. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظاماً من جوهرٍ فأعطاه بعض أهله، إما عائشة أو إحدى بناته، فانصرفت فلم تمكث إلا ساعةً من نهارٍ حتى فرقته في أهل الحاجة والأرامل، فاشترى أبو الشحم ذرةً منها. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار إلى فراشه لم ينم، فغدا في السحر حتى أتى عائشة، ولم تكن ليلتها، أو بنته، فقال: ردي علي النظام فإنه ليس لي، ولا لك فيه حق. فخبرته كيف صنعت به، فحمد الله وانصرف.
وكانت صفية بنت حيي تقول: كان ذلك النظام لبنت كنانة. وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سباها قبل أن ينتهي إلى الكتيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل بها مع بلال إلى رحله. فمر بها وبابنة عمها على القتلى، فصاحت ابنة عمها صياحاً شديداً، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع بلال فقال: أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السن على القتلى!، فقال بلال: يا رسول الله ما ظننت أنك تكره ذلك، وأحببت أن ترى مصارع قومها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنة عم صفية: ما هذا إلا شيطان. وكان دحية الكلبي قد نظر إلى صفية فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال إنه وعده جاريةً من سبي خيبر، فأعطاه ابنة عمها.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن أبي حرملة، عن أخته أم عبد الله، عن ابنة أبي القين المزني، قالت: كنت آلف صفية من بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تحدثني عن قومها وما كانت تسمع منهم قالت: خرجنا من المدينة حيث أجلانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمنا بخيبر، فتزوجني كنانة بن أبي الحقيق فأعرس بي قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيام، وذبح جزراً ودعا باليهود، وحولني في حصنه بسلالم، فرأيت في النوم كأن قمراً أقبل من يثرب يسير حتى وقع في حجري. فذكرت ذلك لكنانة زوجي فلطم عيني فاخضرت، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلت عليه فسألني فأخبرته. قالت: وجعلت اليهود ذراريها في الكتيبة، وجردوا حصن النطاة للمقاتلة، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وافتتح حصون النطاة، ودخل علي كنانة فقال: قد فرغ محمدٌ من النطاة، وليس ها هنا أحدٌ يقاتل، قد قتلت اليهود حيث قتل أهل النطاة وكذبتنا العرب. فحولني إلى حصن النزار بالشق، - قال: وهو أحصن مما عندنا - فخرج حتى أدخلني وابنة عمي ونسيات معنا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا قبل الكتيبة فسبيت في النزار قبل أن ينتهي النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكتيبة، فأرسل بي إلى رحله، ثم جاءنا حين أمسى فدعاني، فجئت وأنا مقنعة حيية، فجلست بين يديه فقال: إن أقمت على دينك لم أكرهك، وإن اخترت الله ورسوله فهو خيرٌ لك. قالت: أختار الله ورسوله والإسلام. فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني وعل عتق مهري، فلما أراد أن يخرج إلى المدينة قال أصحابه: اليوم نعلم أزوجةٌ أم سريةٌ، فإن كانت امرأته فسيحجبها وإلا فهي سرية. فلما خرج أمر بستر فسترت به فعرف أنى زوجة، ثم قدم إلى البعير وقدم فخذه لأضع رجلي عليها، فأعظمت ذلك ووضعت فخذي على فخذه، ثم ركبت. وكنت ألقى من أزواجه، يفخرن علي يقلن: يا بنت اليهودي. وكنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلطف بي ويكرمني، فدخل علي يوماً وأنا أبكي فقال: ما لك؟ فقلت: أزواجك يفخرن علي ويقلن: يا بنت اليهودي. قالت: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب ثم قال: إذا قالوا لك أو فاخروك فقولي: أبي هرون وعمي موسى
قالوا: وكان أبو شييم المزني - قد أسلم فحسن إسلامه - يحدث يقول: لما نفرنا أهلها بحيفاء مع عيينة - قدمنا عليهم وهم قارون هادئون لم يهجهم هائج - رجع بنا عيينة، فلما كان دون خيبر بمكانٍ يقال له الحطام عرسنا من الليل ففزعنا، فقال عيينة: أبشروا إني أرى الليلة في النوم أني أعطيت ذا الرقيبة - جبلاً بخيبر - قد والله قد أخذت برقبة محمد. قال: فلما قدمنا خيبر قدم عيينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر وغنمه الله ما فيها، فقال عيينة: أعطني يا محمد مما غنمت من حلفائي فإني انصرفت عنك وعن قتالك وخذلت حلفائي ولم أكثر عليك، ورجعت عنك بأربعة آلاف مقاتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، ولكن الصياح الذي سمعت أنفرك إلى أهلك. قال: أجزني يا محمد. قال: لك ذو الرقيبة. قال عيينة: وما ذو الرقيبة؟ قال: الجبل الذي رأيت في النوم أنك أخذته. فانصرف عيينة فجعل يتدسس إلى اليهود ويقول: ما رأيت كاليوم أمراً؛ والله ما كنت أرى أحداً يصيب محمداً غيركم. قلت: أهل الحصون والعدة والثروة، أعطيتم بأيديكم وأنتم في هذه الصحون المنيعة، وهذا الطعام الكثير ما يوجد له آكل، والماء الواتن. قالوا: قد أردنا الامتناع في قلعة الزبير ولكن الدبول قطعت عنا، وكان الحر، فلم يكن لنا بقاءٌ على العطش. قال: قد وليتم من حصون ناعم منهزمين حتى صرتم إلى حصن قلعة الزبير. وجعل يسأل عمن قتل منهم فيخبر، قال: قتل والله أهل الجد والجلد، لا نظام ليهود بالحجاز أبداً. ويسمع كلامه ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق، وكانوا يقولون إنه ضعيف العقل مختلط، فقال: عيينة، أنت غررتهم وخذلتهم وتركتهم وقتال محمد، وقبل ذلك ما صنعت ببني قريظة! فقال عيينة: إن محمداً كادنا في أهلنا، فنفرنا إليهم حيث سمعنا الصريخ ونحن نظن أن محمداً قد خالف إليهم، فلم نر شيئاً فكررنا إليكم لننصركم. قال ثعلبة: ومن بقي تنصره؟ قد قتل من قتل وبقي من بقي فصار عبداً لمحمد، وسبانا، وقبض الأموال! قال: يقول رجل من غطفان لعيينة: لا أنت نصرت حلفاءك فلم يعدوا عليك حلفنا! ولا أنت حيث وليت - كنت أخذت تمر خيبر من محمدٍ سنةً! والله إني لأرى أمر محمدٍ أمراً ظاهراً، ليظهرن على من ناوأه. فانصرف عيينة إلى أهله يفتل يديه، فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف، قال: ألم أقل لك إنك توضع في غير شيء؟ والله ليظهرن محمدٌ على من بين المشرق والمغرب، اليهود كانوا يخبروننا هذا. أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا نحسد محمداً على النبوة حيث خرجت من بني هرون، وهو نبي مرسل واليهود لا تطاوعني على هذا، ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر. قال الحارث، قلت لسلام: يملك الأرض جميعاً؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى، وما أحب أن تعلم اليهود بقولي فيه!
قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر واطمأن جعلت زينب بنت الحارث تسأل: أي الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون: الذراع والكتف. فعمدت إلى عنزٍ لها فذبحتها، ثم عمدت إلى سمٍّ لابطى ، قد شاورت اليهود في سموم فأجمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتفين. فلما غابت الشمس صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب وانصرف إلى منزله، ويجد زينب جالسةً عند رحله فيسأل عنها فقالت: أبا القاسم، هدية أهديتها لك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدية فقبضت منها ووضعت بين يديه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم حضور، أو من حضر منهم: ادنوا فتعشوا! فدنوا فمدوا أيديهم، وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، وتناول بشر بن البراء عظماً، وأنهش رسول الله صلى الله عليه وسلم نهشاً وانتهش بشر، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلته ازدرد بشر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة. فقال بشر بن البراء: قد والله يا رسول الله وجدت ذلك من أكلتي التي أكلتها، فما منعني أن ألفظها إلا كراهية أنغص إليك طعامك، فلما تسوغت ما في يدك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت ألا تكون ازدردتها وفيها نعى . لم يرم بشرٌ من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان، وماطله وجعه سنةً لا يتحول إلا ما حول، ثم مات منه. ويقال لم يقم من مكانه حتى مات، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب فقال: سممت الذراع؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: الذراع: قالت: نعم. قال: وما حملك على ذلك؟ قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبياً فستخبره الشاة ما صنعت، وإن كان ملكاً استرحنا منه. فاختلف علينا فيها، فقال قائلٌ رواية: أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ثم صلبت. وقال قائلٌ رواية: عفا عنها. وكان نفرٌ ثلاثةٌ قد وضعوا أيديهم في الطعام ولم يسيغوا منه شيئاً. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاحتجموا أوساط رءوسهم من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كتفه اليسرى. ويقال: احتجم على كاهله، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة.
وقالوا: وكانت أم بشر بن البراء تقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو محموم فمسسته فقلت: ما وجدت مثل ما وعك عليك على أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما يضاعف لنا الأجر كذلك يضاعف لنا البلاء؛ زعم الناس أن برسول الله ذات الجنب! ما كان الله ليسلطها علي، إنما هي همزةٌ من الشيطان، ولكنه من الأكلة التي أكلت أنا وابنك يوم خيبر. ما زال يصيبني منها عدادٌ حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري . فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً. ويقال: إن الذي مات في الشاة مبشر بن البراء. وبشر أثبت عندنا، وهو المجتمع عليه.
قال عبد الله: سألت إبراهيم بن جعفر عن قول زينب ابنة الحارث قتلت أبي قال: قتل يوم خيبر أبوها الحارث وعمها يسار، وكان أخبر الناس، هو الذي أنزل من الشق، وكان الحارث أشجع اليهود، وأخوه زبير قتل يومئذٍ، فكان زوجها سيدهم وأشجعهم سلام بن مشكم، كان مريضاً وكان في حصون النطاة فقيل له: إنه لا قتال فيكم فكن في الكتيبة. قال: لا أفعل أبداً. فقتل وهو مريض، وهو أبو الحكم الذي يقول فيه الربيع بن أبي الحقيق:
ولما تداعوا بأسيافهم ... فكان الطعان دعونا سلاما
وكنا إذا ما دعونا به ... سقينا سراة العدو السماما
وهو كان صاحب حربهم ولكن الله شغله بالمرض.
قالوا: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم يوم خيبر فروة بن عمرو البياضي، وكان قد جمع ما غنم المسلمون في حصون النطاة وحصون الشق وحصون الكتيبة، لم يترك على أحدٍ من أهل الكتيبة إلا ثوباً على ظهره من الرجال والنساء والصبيان، وجمعوا أثاثاً كثيراً وبزاً وقطائف وسلاحاً كثيراً، وغنماً وبقراً، وطعاماً وأدماً كثيراً. فأما الطعام والأدم والعلف فلم يخمس، يأخذ منه الناس حاجتهم، وكان من احتاج إلى سلاحٍ يقاتل به أخذه من صاحب المغنم، حتى فتح الله عليهم فرد ذلك المغنم. فلما اجتمع ذلك كله أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزىء خمسة أجزاء، وكتب في سهمٍ منها لله وسائر السهمان أغفال. فكان أول ما خرج سهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخير في الأخماس، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيع الأربعة الأخماس فيمن يريد، فجعل فروة يبيعها فيمن يريد، فدعا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة وقال: اللهم ألق عليها النفاق! قال فروة بن عمرو: فلقد رأيت الناس يتداركون علي ويتواثبون حتى نفق في يومين، ولقد كنت أرى أنا لا نتخلص منه حيناً لكثرته. وكان الخمس الذي صار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغنم يعطى منه على ما أراد الله من السلاح والكسوة، فأعطى منه أهل بيته من الثياب والخرز والأثاث، وأعطى رجالاً من بني عبد المطلب ونساءً، وأعطى اليتيم والسائل. وجمعت يومئذٍ مصاحف فيها التوراة من المغنم، فجاءت اليهود تطلبها وتكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ترد عليهم. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عارٌ وشنارٌ ونارٌ يوم القيامة. فباع يومئذٍ فروة المتاع، فأخذ عصابةً فعصب بها رأسه ليستظل بها من الشمس، ثم رجع إلى منزله وهي عليه فذكر فخرج فطرحها. وأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عصابةٌ من نارٍ عصبت بها رأسك. وسأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ من الفيء شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لي من الفيء خيطٌ ولا مخيطٌ، لا آخذ ولا أعطي. فسأله رجلٌ عقالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى نقسم الغنائم ثم أعطيك عقالاً، وإن شئت مراراً . وكاىن رجلٌ أسود مع النبي صلى الله عليه وسلم يمسك دابته عند القتال يقال له كركرة، فقتل يومئذ، فقيل: يا رسول الله استشهد كركرة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه الآن ليحرق في النار على شملة غلها. فقال رجلٌ من القوم: يا رسول الله، أخذت شراكين يومئذٍ كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراكان من نار. وتوفي يومئذٍ رجل من أشجع، وإنهم ذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم. فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم غل في سبيل الله. قال زيد بن خالد الجهني: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يسوى درهمين. وكان نفرٌ من المسلمين أصابوا خرزاً من خرز اليهود وكانوا رفقاء؛ فقال المحدث لهذا الحديث: لو كان الخرز عندكم اليوم لم يسو درهمين. فأتي بذلك الخرز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من المقسم، فقالوا: يا رسول الله، نسينا! هذا الخرز عندنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم يحلف بالله أنه نسيه؟ قالوا: نعم. فحلفوا بالله جميعاً أنهم نسوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرير الموتى فسجن عليهم بالربطان، ثم صلى عليهم صلاة الموتى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد الغلول في رحل الرجل فلا يعاقبه، ولم يسمع أنه أحرق رحل أحدٍ وجد في رحله، ولكنه يعنف ويؤنب ويؤذي ويعرف الناس به.
قالوا: واشترى يوم خيبر تبراً بذهبٍ جزافاً، فلهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان فضالة بن عبيد يحدث يقول: اصبت يومئذٍ قلادةً فبعتها بثمانية دنانير، فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللهعليه وسلم، فقال: بع الذهب وزناً بوزنٍ. وكان في القلادة ذهبٌ وغيره فرجعت فيها. واشترى السعدان تبراً بذهب أحدهما أكثر وزناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربيتما فردا! ووجد رجلٌ يومئذٍ في خربةٍ مائتي درهم، فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ودفعها إليه.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره، ولا يبع شيئاً من المغنم حتى يعلم، ولا يركب دابةً من المغنم حتى إذا براها ردها، ولا يلبس ثوباً من المغنم حتى إذا أخلقه رده، ولا يأت من السبي حتى تستبرىء وتحيض حيضة، وإن كانت حبلى حتى تضع حملها. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ على امرأةٍ مجح فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان. قال: فلعله يطؤها؟ قالوا: نعم. قال: كيف بولدها يرثه وليس بابنه، أو يسترقه وهو يعدو في سمعه وبصره؟ لقد هممت أن ألعنه لعنةً تتبعه في قبره.
قالوا: وقدم أهل السفينتين من عند النجاشي بعد أن فتحت خيبر، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر قال: ما أدري بأيهما أنا أسر، بقدوم جعفر أو فتح خيبر! ثم ضمه رسول الله وقبل بين عينيه.
وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو وأصحابهم ونفرٌ من الأشجعيين، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة. قالوا: نعم يا رسول الله. ونظر أبان بن سعيد بن العاص إلى أبي هريرة فقال: أما أنت فلا. فقال أبو هريرة: يا رسول الله، هذا قاتل ابن قوقل. قال أبان بن سعيد: يا عجباه لوبرٍ تدلى علينا من قدوم ضأنٍ ! ينعى علي قتل امرىءٍ مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهنى على يده.
قالوا: وكان الخمس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل مغنم غنمه المسلمون، شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غاب عنه. وكان لا يقسم لغائبٍ في مغنمٍ لم يشهده، إلا أنه في بدرٍ ضرب لثمانية لم يشهدوا، كلهم مستحقٌّ فيها. وكانت خيبر لأهل الحديبية، من شهدها منهم أو غاب عنها قال الله عز وجل: " وعدكم الله مغانم كثيرةً تأخذونها فعجل لكم هذه " يعني خيبر. وقد تخلف عنها رجال: مري بن سنان، وأيمن بن عبيد، وسباع بن عرفطة الغفاري، خلفه على المدينة، وجابر بن عبد الله وغيرهم. ومات منهم رجلان، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تخلف منهم ومن مات، وأسهم لمن شهد خيبر من الناس ممن لم يشهد الحديبية. وأسهم لرسلٍ كانوا يختلفون إلى أهل فدك، محيصة بن مسعود الحارثي وغيره، فأسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحضروا. وأسهم لثلاثة مرضى لم يحضروا القتال: سويد بن النعمان، وعبد الله بن سعد بن خيثمة، ورجل من بني خطامة، وأسهم للقتلى الذين قتلوا من المسلمين.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة ذلك. وقد قال قائل: إنما كانت خيبر لأهل الحديبية، لم يشهدها غيرهم ولم يسهم فيها لغيرهم. والقول الأول أثبت عندنا أن قوماً شهدوا خيبر فأسهم لهم ولم يكونوا شهدوا الحديبية.
حدثني ابن أبي سبرة، عن قطير الحارثي، عن حزام بن سعد بن محيصة قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة غزا بهم إلى خيبر، فأسهم لهم كسهمان المسلمين. ويقال: أحذاهم ولم يسهم لهم، وكان معهم مملوكون، منهم عمير مولى آبي اللحم. قال عمير: ولم يسهم لي وأعطاني خرثى متاع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محذيهم . وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عشرون امرأة: أم سلمة زوجته، وصفية بنت عبد المطلب، وأم أيمن، وسلمى امرأة أبي رافع مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وامرأة عاصم بن عدي ولدت سهلة بنت عاصم بخيبر، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، وأم منيع وهي أم شباث، وكعيبة بنت سعد الأسلمية، وأم متاع الأسلمية، وأم سليم بنت ملحان، وأم الضحاك بنت مسعود الحارثية، وهند بنت عمرو ابن حزام، وأم العلاء الأنصارية، وأم عامر الأشهلية، وأم عطية الأنصارية، وأم سليط.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت الحكم، عن أمية بنت قيس بن أبي الصلت الغفارية، قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلنا: إنا نريد يا رسول الله أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله! قالت: فخرجنا معه وكنت جارية حديثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، فنزل الصبح فأناخ وإذا أنا بالحقيبة عليها دمٌ مني؛ وكانت أول حيضة حضتها، فتقبضت إلى الناقة واستحييت. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: لعلك نفست! قلت: نعم قال: فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناءً من ماءٍ، ثم اطرحي فيه ملحاً واغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي. ففعلت، فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيء ولم يسهم، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبداً. وكانت في عنقها حتى ماتت وأوصت أن تدفن معها، وكانت لا تطهر إلا وجعلت في طهورها ملحاً، وأوصت أن يجعل في غسلها ملحٌ حين غسلت.
حدثني عبد السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن أنيس، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ومعي زوجي حبلى، فنفست بالطريق فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقع لها تمراً فإذا أنعم بله فامرثه ثم تشربه. ففعلت فما رأت شيئاً تكرهه. فلما فتحنا خيبر أحذى النساء ولم يسهم لهن، فأحذى زوجتي وولدي الذي ولد. قال عبد السلام: لست أدري غلام أم جارية.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، عن أم العلاء الأنصارية قالت: فأصابني ثلاث خرزات، وكذلك أصاب صواحبي، وأتي يومئذٍ برعاث من ذهب، فقال: هذا لبنات أخي سعد بن زرارة، فقدم بها عليهن فرأيت ذلك الرعاث عليهن، وذلك من خمسه يوم خيبر.
حدثني عبد الله بن أبي يحيى، عن ثبيتة بنت حنظلة الأسلمية، عن أمها أم سنان قالت: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج جئته فقلت: يا رسول الله، أخرج معك في وجهك هذا، أخرز السقاء، وأداوي المرضى والجريح إن كانت جراح - ولا يكون - وأنظر الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجي على بركة الله فإن لك صواحب قد كلمنني وأذنت لهن من قومك ومن غيرهم، فإن شئت فمع قومك وإن شئت فمعنا. قلت: معك! قال: فكوني مع أم سلمة زوجتي. قالت: فكنت معها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو من الرجيع كل يومٍ عليه الدرع، فإذا أمسى رجع إلينا، فمكث على ذلك سبعة أيام حتى فتح الله النطاة، فلما فتحها تحول إلى الشق وحولنا إلى المنزلة، فلما فتح خيبر رضخ لنا من الفيء، فأعطاني خرزاً وأوضاحاً من فضة أصيبت في المغنم، وأعطاني قطيفةً فدكية، وبرداً يمانياً، وخمائل ، وقدراً من صفر . وكان رجالٌ من أصحابه قد جرحوا فكنت أداويهم بدواءٍ كان عند أهلي فيبرأون، فرجعت مع أم سلمة فقالت لي حين أردنا ندخل المدينة، وكنت على بعيرٍ من إبل النبي صلى الله عليه وسلم منحه لي، فقالت: بعيرك الذي تحتك لك رقبته أعطاكيه رسول الله. قالت: فحمدت الله وقدمت بالبعير فبعته بسبعة دنانير. قالت: فجعل الله في وجهي ذلك خيراً.
قالوا: فأسهم للنساء، وأسهم لسهلة بنت عاصم، ولدت بخيبر، وولد لعبد الله بن أنيس بخيبر، فأسهم للنساء والصبيان. ويقالك رضخ للنساء والصبيان ولم يجعلهم كأهل الجهاد.
وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، قال: رأيت في رقبة أم عمارة خرزاً حمراً فسألتها عن الخرز فقالت: أصاب المسلمون خرزاً في حصن الصعب بن معاذ دفن في الأرض، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به بمن معه من النساء فأحصين، فكنا عشرين امرأة، فقسم ذلك الخرز بيننا هذا وأرضخ لنا من الفيء، قطيفةً وبرداً يمانياً ودينارين، وكذلك أعطى صواحبي. قلت: فكم كانت سهمان الرجال؟ قالت: ابتاع زوجي غزية بن عمرو متاعاً بأحد عشر ديناراً ونصف، فلم يطالب بشيءٍ، فظننا أن هذه سهمان الفرسان - وكان فارساً - وباع ثلاثة أسهم في الشق زمن عثمان بثلاثين ديناراً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاد في خيبر ثلاثة أفراس، لزاز والظرب والسكب ؛ وكان الزبير بن العوام قد قاد أفراساً، وكان خراش بن الصمة قد قاد فرسين، وكان البراء ابن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف - أبو إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم أرضعه - قد قاد فرسين؛ وكان أبو عمرو الأنصاري قد قاد فرسين. قال: فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من كان له فرسان خمسة أسهم، اربعة لفرسيه وسهماً له، وما كان أكثر من فرسين لم يسهم له. ويقال إنه لم يسهم إلا لفرسٍ واحد، واثبت ذلك أنه أسهم لفرسٍ واحد. ويقال: إنه عرب العربي يوم خيبر وهجن الهجين؛ فأسهم للعربي وألقى الهجين. وقال بعضهم: لم يكن الهجين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كانت العراب حتى كان زمن عمر بن الخطاب وفتح العراق والشام، ولم يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لمن كان معه من الخيل لنفسه إلا لفرسٍ واحد، هو معروف، سهم الفرس. وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في النطاة ثلاثة أسهم، لفرسه سهمان وله سهم، كان مع عاصم بن عدي.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: خرج سويد بن النعمان على فرس، فلما نظر إلى بيوت خيبر في الليل وقع به الفرس، فعطب الفرس وكسرت يد سويد، فلم يخرج من منزله حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم فارس.
قالوا: وكانت الخيل مائتي فرس. ويقال: ثلاثمائة، ومائتان أثبت عندنا. وكان الذي ولي إحصاء المسلمين زيد بن ثابت، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم الذين غنموا من المتاع الذي بيع، ثم أحصاهم ألفاً وأربعمائة، والخيل مائتي فرس. فكانت السهمان على ثمانية عشر سهماً، وهم الذين ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسهمان، ولخيلهم أربع عشرة مائة، والخيل مائتي فارس لها أربعمائة سهم. فكانت سهمان المسلمين التي أسهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في النطاة أو في الشق ثلاثة أسهمٍ فوضى لم تعرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحد ولم تقسم، إنما لها رؤساءٌ مسمون، لكل مائةٍ رأسٌ يعرف يقسم على أصحابه ما خرج من غلتها، فكان رؤساؤهم في الشق والنطاة: عاصم بن عدي، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله رضوان الله عليهم. وسهم بني ساعدة، وسهم بني النجار لهم رأس، وسهم حارثة بن الحارث، وسهم أسلم وغفار، وسهم بني سلمة - وكانوا أكثر ورأسهم معاذ بن جبل - وسهم عبيدة رجل من اليهود، وسهم أوس، وسهم بني الزبير، وسهم أسيد بن حضير، وسهم بلحارث بن الخزرج، رأسه عبد الله بن رواحة، وسهم بياضة، رأسه فروة بن عمرو، وسهم ناعم. فهذه ثمانية عشر سهماً في الشق والنطاة فوضى يقبض رؤساءهم الغلة منه، ثم يفض عليهم، ويبيع الرجل سهمه فيجوز ذلك. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من رجلٍ من بني غفار سهمه بخيبر ببعيرين ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعلم أن الذي آخذ منك خير من الذي أعطيك، والذي أعطيك دون الذي أخذ منك، وإن شئت فخذ وإن شئت فأمسك! فأخذ الغفاري. وكان عمر بن الخطاب يشتري من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهم، وأخذ من أصحابه وهم مائة، وهو سهم أوس كان يسمى سهم اللفيف حتى صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابتاع محمد بن مسلمة من سهم أسلم سهماناً، ويقال: إن أسلم كانوا بضعة وسبعين، وغفار بضعة وعشرين فكانوا مائة، ويقال: كانت أسلم مائة وسبعين، وغفار بضعة وعشرين، وهذا مائتا سهم، والقول الأول أثبت عندنا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر سأله اليهود فقالوا: يا محمد، نحن أرباب النخل وأهل المعرفة بها. فساقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على شطرٍ من التمر والزرع، وكان يزرع تحت النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقركم على ما أقركم الله. فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، وأبي بكر، وصدرٍ من خلافة عمر، وكان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص عليهم النخل، فكان يخرصها فإذا خرص قال: إن شئتم فلكم وتضمنون نصف ما خرصت، وإن شئتم فلنا ونضمن لكم ما خرصت. وإنه خرص عليهم أربعين ألف وسقٍ، فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك، وتجاوز في القسم. فقال: يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك يحملني أن أحيف عليكم. قالوا: بهذا قامت السموات والأرض! فكان عبد الله بن رواحة يخرص عليهم، فلما قتل يوم مؤتة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا الهيثم بن التيهان يخرص عليهم، ويقال: جبار بن صخر، فكان يصنع بهم مثل ما كان يصنع عبد الله بن رواحة، ويقال: الذي خرص بعد ابن رواحة عليهم فروة بن عمرو. قالوا: وجعل المسلمون يقعون في حرثهم وبقلهم بعد المساقاة وبعد أن صار ليهود نصفه، فشكت اليهود ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، ويقال: عبد الرحمن بن عوف، فنادى: إن الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم. فاجتمع الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن اليهود شكوا إلي أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم وعلى أموالهم والذي في أيديهم من أراضيهم، وعاملناهم، وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها. وكان المسلمون لا يأخذون من بقولهم شيئاً إلا بثمن، فربما قال اليهودي للمسلم: أنا أعطيكه باطلاً ! فيأبى المسلم إلا بثمن.
قال ابن واقد: وقد اختلف علينا في الكتيبة، فقال قائل: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خالصةً ولم يوجف! عليها المسلمون، إنما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الله بن نوح، عن ابن غفير، وموسى بن عمرو بن عبد الله ابن رافع، عن بشير بن يسار. وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، أنهم كانوا يقولون ذلك. وقال قائل: هي خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، من الشق والنطاة. وحدثني قدامة بن موسى، عن ابي بكر بن محمد بن محمد بن عمرو بن حزام، قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز في خلافته أن افحص لي عن الكتيبة. قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق والكتيبة خمسة أجزاء، وكانت الكتيبة جزءاً منها، ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بعراتٍ، وأعلم في بعرةٍ منها، فجعل لله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل سهمك في الكتيبة. فكان أول ما خرج منها الذي فيه مكتوبٌ على الكتيبة، فكانت الكتيبة خمس النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السهمان أغفالاً ليس عليها علامات، وكانت فوضى للمسلمين على ثمانية عشر سهماً. قال أبو بكر: فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز بذلك.
وحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي مالك، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: لما خرج سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان الشق والنطاة أربعة الأخماس للمسلمين فوضى.
وحدثني عبد الله بن عون، عن أبي مالك الحميري، عن سعيد بن المسيب، وحدثني محمد ، عن الزهري، قال: الكتيبة خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم من أطعم في الكتيبة وينفق على أهله منها. قال ابن واقد: والثبت عندنا أنها خمس النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطعم من الشق والنطاة أحداً وجعلها سهماناً للمسلمين، وكانت الكتيبة التي أطعم فيها. كانت الكتيبة تخرص ثمانية آلاف وسق تمر، فكان لليهود نصفها أربعة آلاف، وكان يزرع في الكتيبة شعير، فكان يحصد منها ثلاثة آلاف صاع، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم نصفه؛ ألف وخمسمائة صاع شعير، وكان يكون فيها نوى فربما اجتمع ألف صاع فيكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصفه، فكل هذا قد أعطى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من الشعير والتمر والنوى.
تسمية سهمان الكتيبةخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وسلالم، والجاسمين، وسهما النساء، وسهما مقسم - وكان يهودياً - وسهما عوان، وسهم غريث، وسهم نعيم، وهو اثنا عشر سهماً.
ذكر طعم النبي في الكتيبة أزواجه وغيرهمأطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل امرأةٍ من نسائه ثمانين وسقاً تمراً وعشرين وسقاً شعيراً. وللعباس بن عبد المطلب مائتي وسق، ولفاطمة وعلي رضي الله عنهما من الشعير والتمر ثلاثمائة وسق، والشعير من ذلك خمسة وثمانين وسقاً، لفاطمة من ذلك مائتا وسق. ولأسامة بن زيد مائة وخمسون، منها أربعون شعيراً وخمسون وسقاً نوىً، ولأم رمثة بنت عمر بن هاشم بن المطلب خمسة أوساق شعير، وللمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً شعيراً.
وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، قالت: بعنا طعمة المقداد بن عمرو من خيبر خمسة عشر وسقاً شعيراً من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى محمد رسول الله لأبي بكر بن أبي قحافة مائة وسق. ولعقيل بن أبي طالب مائة وأربعين، ولبني جعفر بن أبي طالب خمسين وسقاً، ولربيعة بن الحارث مائة وسق، ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مائة وسق، وللصلت بن مخرمة بن المطلب ثلاثين وسقاً، ولأبي نبقة خمسين وسقاً، ولركانة بن عبد يزيد خمسين وسقاً، وللقاسم بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقاً، ولمسطح بن أثاثة بن عباد وأخته هند ثلاثين وسقاً، ولصفية بنت عبد المطلب أربعين وسقاً، ولبحينة بنت الحارث بن المطلب ثلاثين وسقاً، ولضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أربعين وسقاً، وللحصين، وخديجة، وهند بن عبيدة بن الحارث مائة وسق، ولأم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب ثلاثين وسقاً، ولأم هانىء بنت أبي طالب أربعين وسقاً، ولجمانة بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً، ولأم طالب بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً، ولقيس بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقاً، ولأبي أرقم خمسين وسقاً، ولعبد الرحمن ابن أبي بكر أربعين وسقاً، ولأبي بصرة أربعين وسقاً، ولابن أبي حبيش ثلاثين وسقاً، ولعبد الله بن وهب وابنيه خمسين وسقاً، لابنيه أربعين وسقاً، ولنميلة الكلبي من بني ليث خمسين وسقاً، ولأم حبيبة بنت جحش ثلاثين وسقاً، ولملكان بن عبدة ثلاثين وسقاً، ولمحيصة بن مسعود ثلاثين وسقاً، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم للرهاويين بطعمةٍ من خمس خيبر بجاد مائة وسق، وللداريين بجاد مائة وسق، وهم عشرة من الداريين قدموا من الشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى لهم بطعمة مائة وسق: هانىء بن حبيب، والفاكه بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند بن بر وأخوه الطيب بن بر، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وتميم بن أوس، ونعيم بن أوس، ويزيد بن قيس، وعزيز بن مالك، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وأخوه مرة بن مالك، وأوصى للأشعريين بجاد مائة وسق.
أخبرنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: حدثنا ابن الثلجي قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بثلاثة أشياء، للداريين بجاد مائة وسق، وللأشعريين بجاد مائة وسق، وللرهاويين بجاد مائة وسق، وأن ينفذ جيش أسامة بن زيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد له إلى مقتل أبيه، والا يترك بجزيرة العرب دينان.
قالوا: ثم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في قسم خمس خيبر فأشار عليه أن يقسمه في بني هاشم وبني المطلب وبني عبد يغوث.
وحدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال جبير ابن مطعم: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بخيبر من بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني المطلب لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أفرأيت إخواننا من بني المطلب، إنما نحن وهم منك بمنزلةٍ واحدة، أعطيتهم وتركتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني المطلب لم يفارقوني في الجاهلية والإسلام؛ دخلوا معنا في الشعب، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ! وشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
قالوا: وكان عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث يحدث قال: اجتمع العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث فقالا: لو بعثنا هذين الغلامين - لي وللفضل بن عباس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدى الناس، وأصابا ما يصيبون من المنفعة. فبعث بي والفضل فخرجنا حتى جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقناه، وانصرف إلينا من الظهر وقد وقفنا له عند حجرة زينب، فأخذ بمناكبهما فقال: أخرجا ما تسران ! فلما دخل دخلا عليه فكلماه فقالا: يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنؤدى ما يؤدى الناس، ونصيب ما يصيبون من المنفعة. فسكت ورفع رأسه إلى سقف البيت ثم أقبل علينا فقال: إن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس. ادع لي محمية بن جزء الزبيدي وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال لمحمية: زوج هذا ابنتك - للفضل . وقال لأبي سفيان: زوج هذا ابنتك - لعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث. وقال لمحمية: أصدق عنهما مما عندك من الخمس! وكان يكون على الخمس. فكان ابن عباس يقول: قد دعانا عمر إلى أن ينكح فيه أيامانا ويخدم منه عائلنا، ويقضي منه غارمنا، فأبينا عليه إلا أن يسلمه كله، وابى ذلك علينا.
حدثني مصعب بن ثابت، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير أن أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنهم جعلوا هذين السهمين على اليتامى والمساكين. وقال بعضهم: في السلاح والعدة في سبيل الله. وكانت تلك الطعمة تؤخذ بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وفي خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، رضي الله عنهم، حتى كان يحيى بن الحكم فزاد في الصاع سدس المد، فأعطى الناس بالصاع الذي زاد، ثم كان أبان ابن عثمان فزاد فيه فأعطاهم بذلك، وكان من مات من المطعمين أو قتل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فإنه يرثه تلك الطعمة من ورث ماله. فلما ولي عمر بن الخطاب قبض طعمة كل من مات ولم يورثه، فقبض طعمة زيد بن حارثة، وقبض طعمة جعفر بن أبي طالب، وكلمه فيه علي بن أبي طالب فأبى؛ وقبض طعمة صفية بنت عبد المطلب، فكلمه الزبير في ذلك حتى غالظه فأبى عليه برده، فلما ألح عليه قال: أعطيك بعضه. قال الزبير: لا والله، لا تخلف تمرةً واحدةً تحبسها عني! فأبى عمر تسليمه كله إليه. قال الزبير: لا آخذه إلا جميعاً! فأبى عمر وأبى أن يرد على المهاجرين. وقبض طعمة فاطمة، فكلم فيها فأبى أن يفعل. وكان يجيز لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعن، فماتت زينب بنت جحش في خلافته فخلى بين ورثتها وبين تلك الطعمة، وأجاز ما صنعن فيه من بيع أو هبة، وورث ذلك كل من ورثهن ولم يفعل بغيرهن. وأبى أن يجيز بيع من باع تلك الطعمة، وقال: هذا شيء لا يعرف، إذا مات المطعم بطل حقه فكيف يجوز بيعه؟ إلا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أجاز ما صنعن، فلما ولي عثمان كلم في تلك الطعمة فرد على أسامة ولم يرد على غيره. فكلمه الزبير في طعمة صفية أمه فأبى يرده وقال: أنا حاضرك حين تكلم عمر، وعمر يأبى عليك يقول خذ بعضه، فأنا أعطيك بعضه الذي عرض عليك عمر، أنا أعطيك الثلثين وأحتبس الثلث. فقال الزبير: لا والله، لا تمرة واحدة حتى تسلمه كله أو تحتبسه.
حدثني شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: لما توفي أبو بكر رضي الله عنه كان ولده ورثته يأخذون طعمته من خيبر؛ مائة وسق في خلافة عمر وعثمان، ورثت امرأته أمر ومان بنت عامر بن عويمر الكنانية ، وحبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، فلم يزل جارياً عليهن حتى كان زمن عبد المللك أو بعده فقطع.
قال أبو عبد الله: سألت إبراهيم بن جعفر عمن أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خمس خيبر فقال: لا تسأل عنه أحداً أبداً أعلم مني؛ كان من أعطي منه طعمةً جرت عليه حتى يموت، ثم يرثه من ورثته، يبيعون ويطعمون ويهبون؛ كان هذا على عهد أبي بكر وعمر وعثمان. قلت: ممن سمعت ذلك. قال: من أبي وغيره من قومي. قال أبو عبد الله: فذكرت لعبد الرحمن بن عبد العزيز هذا الحديث فقال: أخبرني من أثق به أن عمر كان يقبض تلك الطعمة إذا مات الميت في حياة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن. ثم يقول: توفيت زينب بنت جحش في سنة عشرين في خلافة عمر فقبض طعمتها، فكلم فأبى أن يعطيها الورثة. قال: إنما كانت من النبي صلى الله عليه وسلم طعمةً ما كان المرء حياً، فإذا مات فلا حق لورثته. قال: فكان الأمر على ذلك في خلافة عمر حتى توفي، ثم ولي عثمان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أطعم زيد بن حارثة طعمةً من خيبر لم يكن له بها كتاب، فلما توفي زيد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد. قلت: فإن بعض من يروي يقول: كلم أسامة بن زيد عمر وعثمان في طعمة أبيه فأبى، قال: ما كان إلا كما أخبرتك. قال أبو عبد الله: هذا الأمر.
تسمية من استشهد بخيبر مع رسول اللهمن بني أمية من حلفائهم: ربيعة بن أكثم، قتل بالنطاة، قتله الحارث اليهودي؛ وثقف بن عمرو بن سميط، قتله أسير اليهودي؛ ورفاعة بن مسروح، قتله الحارث اليهودي. ومن بني أسد بن عبد العزى: عبد الله بن أبي أمية بن وهب حليفٌ لهم وهو ابن أختهم، قتل بالنطاة. ومن الأنصار محمود بن مسلمة دلى عليه مرحب رحىً من حصن ناعم بالنطاة. ومن بني عمرو بن عوف: أبو الضياح بن النعمان، شهد بدراً؛ والحارث بن حاطب قد شهد بدراً، وعدي بن مرة بن سراقة؛ وأوس بن حبيب، قتل على حصن ناعم؛ وأنيف بن وائلة ، قتل على حصن ناعم. ومن بني زريق: مسعود بن سعد، قتله مرحب. ومن بني سلمة: بشر بن البراء بن معرور، مات من الشاة المسمومة؛ وفضيل بن النعمان، وهو من العرب، من أسلم؛ وعامر بن الأكوع، أصاب نفسه على حصن ناعم فدفن هو ومحمود بن مسلمة في غارٍ واحدٍ بالرجيع. ومن بني غفار: عمارة بن عقبة بن عباد بن مليل، ويسار، العبد الأسود، ورجلٌ من أشجع؛ فجميع من استشهد خمسة عشر رجلاً. وقد اختلف في الصلاة عليهم فقال قائلٌ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال قائلٌ: لم يصل عليهم. وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلاً. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبلة بن جوال الثعلبي كل داجن بخيبر، ويقال: أعطاه كل داجن في النطاة، ولم يعطه من الكتيبة ولا من الشق شيئاً.
ذكر ما قيل من الشعر في خيبرقال ناجية بن جندب الأسلمي:
يا عباد الله فيما نرغب ... ما هو إلا مأكلٌ مشرب
وجنةٌ فيها نعيمٌ معجب
وقال أيضاً:
أنا لمن أبصرني ابن جندب ... يا رب قرنٍ قد تركت أنكب
طاح عليه أنسرٌ وثعلب
أنشدني هذا عبد الملك بن وهب من ولد ناجية قال: مازلت أرويها لأبي وأنا غلام.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، أنه سئل عن الرهان التي كانت بين قريش حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال: كان حويطب بن عبد العزى يقول: انصرفت من صلح الحديبية وأنا مستيقن أن محمداً سيظهر على الخلق، وتأبى حمية الشيطان إلا لزوم ديني، فقدم علينا عباس بن مرداس السلمي فخبرنا أن محمداً سار إلى خيابر، وأن خيابر قد جمعت الجموع فمحمدٌ لا يفلت، إلى أن قال عباس: من شاء بايعته لا يفلت محمد. فقلت: أنا أخاطرك. فقال صفوان بن أمية: أنا معك يا عباس. وقال نوفل بن معاوية: أنا معك يا عباس. وضوى إلي نفرٌ من قريش، فتخاطرنا مائة بعير خماساً إلى مائة بعير، أقول أنا وحيزي يظهر محمد. ويقول عباس وحيزه: تظهر غطفان. فاضطرب الصوت، فقال أبو سفيان بن حرب: خشيت واللات حيز عباس بن مرداس، فغضب صفوان وقال: أدركتك المنافية! فأسكت أبو سفيان، وجاءه الخبر بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حويطب وحيزه الرهن.
قالوا: وكانت الأيمن تحلف عن خيبر؛ وكان أهل مكة حين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر قد تبايعوا بينهم، منهم من يقول: يظهر الحليفان أسد وغفار واليهود بخيبر، وذلك أن اليهود أوعبت في حلفاءها، فاستنصروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنة، فكانت بينهم في ذلك بيوعٌ عظامٌ.
وكان الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي قد خرج يغير في بعض غاراته، فذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسلم وحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وكانت أم شيبة بنت عمير بن هاشم أخت مصعب العبدي امرأته، وكان الحجاج مكثراً، له مال كثير، معادن الذهب التي بأرض بني سليم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي حتى أذهب فآخذ ما لي عند امرأتي، فإن علمت بإسلامي لم آخذ منه شيئاً، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لابد لي يا رسول الله من أن أقول. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء. قال الحجاج: فخرجت فلما انتهيت إلى الحرم هبطت فوجدتهم بالثنية البيضاء، وإذا بهم رجالٌ من قريش يتسمعون الأخبار، قد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر، وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعة ورجالاً وسلاحاً، فهم يتحسبون الأخبار مع ما كان بينهم من الرهان، فلما رأوني قالوا: الحجاج ابن علاط عنده والله الخبر! يا حجاج، إنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر بلد اليهود وريف الحجاز. فقلت: بلغني أنه قد سار إليها وعندي من الخبر ما يسركم. فالتبطوا بجانبي راحلتي يقولون: يا حجاج أخبرنا. فقلت: لم يلق محمدٌ وأصحابه قوماً يحسنون القتال غير أهل خيبر. كانوا قد ساروا في العرب يجمعون له الجموع وجمعوا له عشرة آلاف، فهزم هزيمة لم يسمع قط بمثلها، وأسر محممد أسراً، فقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فنقتله بين أظهرهم بمن قتل منا ومنهم! ولهذا فإنهم يرجعون إليكم يطلبون الأمان في عشائرهم ويرجعون إلى ما كانوا عليه، فلا تقبلوا منهم وقد صنعوا بكم ما صنعوا. قال: فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما ينتظر أن يقدم به عليكم. وقلت: أعينوني على جمع مالي على غرمائي فأنا أريد أن أقدم فأصيب من محمد وأصحابه قبل أن تسبقني التجار إلى ما هناك. فقاموا فجمعوا إلي مالي كأحث جمعٍ سمعت به، وجئت صاحبتي وكان لي عندها مال فقلت لها: مالي، لعلي ألحق بخيبر فأصيب من البيع قبل أن يسبقني التجار إلى من انكسر هناك من المسلمين . وسمع ذلك العباس فقام، فانخذل ظهره فلم يستطع القيام، فأشفق أن يدخل داره فيؤذى، وعلم أن سيؤذى عند ذلك، فأمر بباب داره يفتح وهو مستلق، فدعا بابنه قثم وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يرتجز ويرفع صوته ألا يشمت به الأعداء. وحضر باب العباس بين مغيظ محزون، وبين شامت، وبين مسلم ومسلمة، مقهورين بظهور الكفر والبغي، فلما رأى المسلمون العباس طيبةً نفسه طابت أنفسهم واشتدت منتهم ، ودعا غلاماً له يقال له أبو زبينة فقال له: اذهب إلى الحجاج فقل، يقول العباس: الله أعلى وأجل من أن يكون الذي تخبر حقاً. فجاءه فقال الحجاج: قل لأبي الفضل: أحلني في بعض بيوتك حتى آتيك ظهراً ببعض ما تحب، فاكتم عني. فأقبل أبو زبينة يبشر العباس أبشر بالذي يسرك فكأنه لم يمسه شيءٌ، ودخل عليه أبو زبينة فاعتنقه العباس وأعتقه وأخبره بالذي قال، فقال العباس: لله علي عتق عشر رقاب! فلما كان ظهراً جاءه الحجاج فناشده الله: لتكتمن علي ثلاثة أيام. فواثقه العباس على ذلك، قال: فإني قد أسلمت ولي مال عند امرأتي ودين على الناس، ولو علموا بإسلامي لم يدفعوا إلي؛ تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، وجرت سهام الله ورسوله فيها وانتثل ما فيها، وتركته عروساً بابنة حيي بن أخطب، وقتل ابن أبي الحقيق. قال: فلما أمسى الحجاج من يومه خرج، وطال على العباس تلك الليالي، ويقال: إنما استنظر العباس يوماً وليلة، وجعل العباس يقول: يا حجاج، انظر ما تقول فإني عارف بخيبر؛ هي ريف الحجاز أجمع، وأهل المنعة والعدة في الرجال. أحقاً ما تقول؟ قال: إي والله، فاكتم عني يوماً وليلة. حتى إذا مضى الأجل والناس يموجون في شأن ما تبايعوا عليه، عمد العباس إلى حلةٍ فلبسها، وتخلق الخلوق وأخذ في يده قضيباً، ثم أقبل يخطر حتى وقف على باب الحجاج بن علاط، فقرعه فقالت زوجته: لا تدخل، أبا الفضل! قال: فأين الحجاج. قالت: انطلق إلى غنائم محمد ليشتري منها التي أصابت اليهود منهم قبل أن تسبقه التجار إليها. فقال لها العباس: فإن الرجل ليس لك بزوجٍ إلا أن تتبعي دينه؛ إنه قد أسلم وحضر الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب بماله
هارباً منك ومن أهلك أن يأخذوه. قالت: أحقاً يا أبا الفضل؟ قال: إي والله! قالت: والثواقب إنك لصادق. ثم قامت تخبر أهلها، وانصرف العباس إلى المسجد وقريش يتحدثون بما كان من حديث الحجاج، فلما نظروا إليه وإلى حاله تغامزوا وعجبوا من تجلده، ثم دخل في الطواف بالبيت، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة! أين كنت منذ ثلاث لا تطلع؟ قال العباس: كلا والذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم حيي بن أخطب، وضرب أعناق بني أبي الحقيق البيض الجعاد الذين رأيتموهم سادة النضير من يثرب، وهرب الحجاج بماله الذي عند امرأته. قالوا: من خبرك بهذا؟ قال العباس: الصادق في نفسي، الثقة في صدري، فابعثوا إلى أهله! فبعثوا فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله حتى يصبح، فسألوا عن ذلك كله فوجدوه حقاً، فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون، ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك.ً منك ومن أهلك أن يأخذوه. قالت: أحقاً يا أبا الفضل؟ قال: إي والله! قالت: والثواقب إنك لصادق. ثم قامت تخبر أهلها، وانصرف العباس إلى المسجد وقريش يتحدثون بما كان من حديث الحجاج، فلما نظروا إليه وإلى حاله تغامزوا وعجبوا من تجلده، ثم دخل في الطواف بالبيت، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة! أين كنت منذ ثلاث لا تطلع؟ قال العباس: كلا والذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم حيي بن أخطب، وضرب أعناق بني أبي الحقيق البيض الجعاد الذين رأيتموهم سادة النضير من يثرب، وهرب الحجاج بماله الذي عند امرأته. قالوا: من خبرك بهذا؟ قال العباس: الصادق في نفسي، الثقة في صدري، فابعثوا إلى أهله! فبعثوا فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله حتى يصبح، فسألوا عن ذلك كله فوجدوه حقاً، فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون، ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك.
باب شأن فدكقالوا: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدكٍ يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحل بساحتهم. قال محيصة: جئتهم فأقمت عندهم يومين، وجعلوا يتربصون ويقولون: بالنطاة عامر، وياسر، وأسير، والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمداً يقرب حراهم ، إن بها عشرة آلاف مقاتل. قال محيصة: فلما رأيت خبثهم أردت أرحل راجعاً، فقالوا: نحن نرسل معك رجالاً يأخذون لنا الصلح - ويظنون أن اليهود تمتنع. فلم يزالوا كذلك حتى جاءهم قتل أهل حصن ناعم وأهل النجدة منهم، ففت ذلك أعضادهم وقالوا لمحيصة: اكتم عنا ما قلنا لك ولك هذا الحلي! لحلي نسائهم، جمعوه كثيراً. فقال محيصة: بل أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي سمعت منكم. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوا. قال محيصة: وقدم معي رجلٌ من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع في نفرٍ من اليهود، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويجليهم ويخلوا بينه وبين الأموال. ففعل، ويقال: عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم عليهم من الأموال شيءٌ، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذوها، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل ذلك وقال لهم محيصة: ما لكم منعة ولا رجال ولا حصون، لو بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم مائة رجل لساقوكم إليه. فوقع الصلح بينهم أن لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نصفها، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذا أثبت القولين. فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يبلغهم، فلما كان عمر ابن الخطاب وأجلى يهود خيبر، بعث عمر إليهم من يقوم أرضهم، فبعث أبا الهيثم بن التيهان وفروة بن عمرو بن حيان بن صخر، وزيد بن ثابت، فقوموها لهم؛ النخل والأرض، فأخذها عمر بن الخطاب ودفع إليهم نصف قيمة النخل بتربتها، فبلغ ذلك خمسين ألف درهم أو يزيد - كان ذلك المال جاءه من العراق - وأجلاهم عمر إلى الشام. ويقال: بعث أبا خيثمة الحارثي فقومها.
انصراف رسول الله من خيبر إلى المدينة
قال أنس: انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وهو يريد وادي القرى، ومعه أم سلمة بنت ملحان، وكان بعض القوم يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية حتى مر بها فألقى عليها رداءه، ثم عرض عليها الإسلام فقال: إن تكوني على دينك لم نكرهك، فإن اخترت الله ورسوله اتخذتك لنفسي. قالت: بل أختار الله ورسوله. قال: فأعتقها فتزوجها وجعل عتقها مهرها. فلما كان بالصهباء قال لأم سليم: انظري صاحبتك هذه فامشطيها! وأراد أن يعرس بها هناك، فقامت أم سليم - قال أنس: وليس معنا فساطيط ولا سرادقات - فأخذت كسائين وعباءتين فسترت بهما عليها إلى شجرة فمشطتها وعطرتها، وأعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من خيبر، وقرب بعيرها وقد سترها النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه، أدنى فخذه لتضع رجلها عليه، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه، فلما بلغ ثباراً أراد أن يعرس بها هناك، فأبت عليه حتى وجد في نفسه، حتى بلغ الصهباء فمال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت حين أردت أن أنزل بثبار - وثبار على ستة أميال والصهباء على اثني عشر ميلاً - قالت: يا رسول الله خفت عليك قرب اليهود، فلما بعدت أمنت. فزادها عند النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وعلم أنها قد صدقته، ودخلت عليه مساء تلك الليلة، وأولم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عليها بالحيس والسويق والتمر، وكان قصاعهم الأنطاع قد بسطت، فرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معهم على تلك الأنطاع. قالوا: وبات أبو أيوب الأنصاري قريباً من قبته آخذاً بقائم السيف حتى أصبح، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فكبر أبو أيوب فقال: ما لك يا أبا أيوب؟ فقال: يا رسول الله، دخلت بهذه الجارية وكنت قد قتلت أباها وإخوتها وعمومتها وزوجها وعامة عشيرتها، فخفت أن تغتالك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له معروفاً.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل صفية في منزل الحارثة بن النعمان، وانتقل حارثة عنها. وكانت عائشة وحفصة يداً واحدةً فأرسلت عائشة بريرة إلى أم سلمة تسلم عليها - وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر - وتسألها عن صفية أظريفةٌ هي؟ فقالت أم سلمة: من أرسلك، عائشة؟ فسكتت فعرفت أم سلمة أنها أرسلتها، فقالت أم سلمة: لعمري إنها لظريفة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لمحبٌّ. فجاءت بريرة فأخبرت عائشة خبرها، فخرجت عائشة متنكرةً حتى دخلت على صفية وعندها نسوةٌ من الأنصار، فنظرت إليها وهي منتقبة، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرجت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فقال: يا عائشة كيف رأيت صفية؟ قالت: ما رأيت طائلاً، رأيت يهودية بين يهوديات - تعني عماتها وخالاتها - ولكني قد أخبرت أنك تحبها، فهذا خيرٌ لها من لو كانت ظريفةً. قال: يا عائشة، لا تقولي هذا فإني عرضت عليها الإسلام فأسرعت وأسلمت وحسن إسلامها. قال: فرجعت عائشة فأخبرت حفصة بظرفها، فدخلت عليها حفصة فنظرت إليها ثم رجعت إلى عائشة فقالت: إنها لظريفة وما هي كما قلت.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصهباء سلك على برمة حتى انتهى إلى وادي القرى يريد من بها من اليهود. وكان أبو هريرة يحدث قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أسود يقال له مدعم ، وكان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضوى إليها أناسٌ من العرب، فبينا مدعم يحط رحل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبيةٍ وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهمٌ عائرٌ فأصاب مدعماً فقتله، فقال الناس: هنيئاً لك الجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم يصبها المقسم تشتعل عليه ناراً. فلما سمع بذلك الناس جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشراكٍ أو بشراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شراك من نار! أو شراكان من نار.
وعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، ورايةً إلى الحباب بن المنذر، ورايةً إلى سهل بن حنيف، ورايةً إلى عباد بن بشر. ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأخبرهم إن أسلمواأحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. فبرز رجلٌ منهم وبرز إليه الزبير بن العوام فقتله؛ ثم برز آخر فبرز إليه الزبير فقتله؛ ثم برز آخر فبرز له علي رضي الله عنه فقتله؛ ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله، ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله؛ حتى قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل رجلٌ دعا من بقي إلى الإسلام. ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذٍ فيصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً، وغنمه الله أموالهم وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك النخل والأرض بأيدي اليهود وعاملهم عليها. فلما بلغ يهود تيماء ما وطىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم. فلما كان زمن عمر رضي الله عنه أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجازٌ، وأن ما وراء ذلك من الشام. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وادي القرى راجعاً بعد أن فرغ من خيبر ومن وادي القرى وغنمه الله، فلما كان قريباً من المدينة سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته، حتى إذا كان قبيل الصبح بقليلٍ نزل وعرس. وقال: ألا رجلٌ صالحٌ حافظٌ لعينه يحفظ لنا صلاة الصبح؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله! قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ووضع الناس رءوسهم، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول لبلال: يا بلال احفظ عينك! قال: فاحتبيت بعباءتي واستقبلت الفجر، فما أدري متى وضعت جنبي إلا أني لم أستيقظ إلا باسترجاع الناس وحر الشمس، وأخذتني الألسنة باللوم؛ وكان أشدهم علي أبو بكر. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أهون لائمةً من الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له حاجة فليقضها. فتفرق الناس في أصول الشجر، وقال صلى الله عليه وسلم: أذن يا بلال بالأذان الأول. قال بلال: وكذلك كنت أفعل في أسفاره، فأذنت فلما اجتمع الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركعوا ركعتي الفجر. فركعوا ثم قال: أقم يا بلال! فأقمت فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس. قال بلال: فما زال يصلي بنا حتى إن الرجل ليسلت العرق من جبينه من حر الشمس، ثم سلم فأقبل على القوم فقال: كانت أنفسنا بيد الله، ولو شاء قبضها وكان أولى بها، فلما ردها إلينا صلينا. ثم أقبل على بلال فقال: مه يا بلال! فقال: بأبي وأمي، قبض نفسي الذي قبض نفسك. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم.
ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبنا ونحبه؛ اللهم إني أحرم ما بين لابتي المدينة! قال: وانتهى إلى الجرف ليلاً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله بعد صلاة العشاء.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بالجرف: لاتطرقوا الناسء بعد صلاة العشاء. قالت: فذهب رجلٌ من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره فخلى سبيله ولم يهجه ، وضن بزوجته أن يفارقها وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى ما يكره.
حدثني عبد الله بن نوح الحارثي، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن سعد بن حزام بن محيصة، عن أبيه، قال: كنا بالمدينة والمجاعة تصيبنا، فنخرج إلى خيبر فنقيم بها ما أقمنا ثم نرجع، وربما خرجنا إلى فدك وتيماء. وكانت اليهود قوماً لهم ثمار لا يصيبها قطعة ، أما تيماء فعينٌ جاريةٌ تخرج من أصل جبلٍ لم يصبها قطعه منذ كانت، وأما خيبر فماءٌ واتنٌ، فهي مغفرة في الماء، وأما فدك فمثل ذلك. وذلك قبل الإسلام، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وفتح خيبر قلت لأصحابي: هل لكم في خيبر فإنا قد جهدنا وقد أصابنا مجاعة؟ فقال أصحابي: إن البلاد ليس كما كانت، نحن قوم مسلمون وإنما نقدم على قومٍ أهل عداوةٍ وغشٍّ للإسلام وأهله، وكنا قبل ذلك لا نعبد شيئاً. قالوا: قد جهدنا، فخرجنا حتى قدمنا خيبر، فقدمنا على قومٍ بأيديهم الأرض والنخل ليس كما كانت؛ قد دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم على النصف؛ فأما سراة اليهود وأهل السعة منهم قد قتلوا - بنو أبي الحقيق وسلام بن مشكم، وابن الأشرف - وإنما بقي قومٌ لا أموال لهم وإنما هم عمال أيديهم. وكنا نكون في الشق يوماً وفي النطاة يوماً وفي الكتيبة يوماً، فرأينا الكتيبة خيراً لنا فأقمنا بها أياماً، ثم إن صاحبي ذهب إلى الشق فبات عني وقد كنت أحذره اليهود، فغدوت في أثره أسأل عنه حتى انتهيت إلى الشق فقال لي أهل أبيات منهم: مر بنا حين غابت الشمس يريد النطاة. قال: فعمدت إلى النطاة، إلى أن قال لي غلام منهم: تعال أدلك على صاحبك! فانتهى بي إلى منهر فأقامني عليه، فإذا الذباب يطلع من المنهر. قال: فتدليت في المنهر فإذا صاحبي قتيل، فقلت لأهل الشق: أنت قتلتموه! قالوا: لا والله، ما لنا به علم! قال: فاستعنت عليه بنفرٍ من اليهود حتى أخرجته وكفنته ودفنته، ثم خرجت سريعاً حتى قدمت على قومي بالمدينة فأخبرتهم الخبر. ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عمرة القضية، فخرج معي من قومي ثلاثون رجلاً، أكبرنا أخي حويصة، فخرج معنا عبد الرحمن ابن سهل أخو المقتول - والمقتول عبد الله بن سهل - وكان عبد الرحمن ابن سهل أحدث مني، فهو مستعبرٌ على أخيه رقيقٌ عليه، فبرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال عبد الرحمن: يا رسول الله إن أخي قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر، كبر! فتكلمت فقال: كبر، كبر! فسكت. وتكلم أخي حويصة فتكلم بكلمات وذكر أن اليهود تهمتنا وظنتنا ثم سكت، فتكلمت وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحربٍ من الله ورسوله، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك فكتبوا إليه: ما قتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن ولمن معهم: تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله، لم نحضر ولم نشهد. قال: فتحلف لكم اليهود؟ قالوا: يا رسول الله، ليسوا بمسلمين. فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مائة ناقة، خمسة وعشرين جذعة، وخمسة وعشرين حقة، وخمسة وعشرين بنت لبون، وخمسة وعشرين بنت مخاض. قال سهل بن أبي حثمة: رأيتها أدخلت عليهم مائة ناقة، فركضتني منها ناقةٌ حمراء وأنا يومئذٍ غلام.
حدثني ابن أبي ذئب، ومعمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: كانت القسامة في الجاهلية ثم أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وقضى بها في الأنصاري الذي وجد بخيبر قتيلاً في جب من جباب اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: تحلف لكم اليهود؛ خمسين رجلاً خمسين يميناً بالله ما قتلنا؟ قالوا: يا رسول الله، كيف تقبل أيمان قوم كفار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتحلفون خمسين رجلاً خمسين يميناً بالله أنهم قتلوا صاحبكم وتستحقوا الدم؟ قالوا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته على اليهود لأنه قتل بحضرتهم.
حدثني مخرمة بن بكير، عن خالد بن يزيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته على اليهود، فإن لم يعطوا فليأذنوا بحربٍ من الله ورسوله. وأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببضعة وثلاثين بعيراً - فهي أول ما كانت القسامة. وكان الناس يطلعون إلى أموالهم بخيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: خرجت أنا والزبير، والمقداد بن عمرو، وسعيد بن زيد بن عمر بن نفيل إلى أموالنا بخيبر فطلعنا نتعاهدها، وكان أبو بكر يبعث من يطلعها وينظر إليها، وكان عمر يفعل ذلك أيضاً، فلما قدمنا خيبر تفرقنا في أموالنا. فعدى علينا من جوف الليل وأنا نائمٌ على فراشي فصرعت يداي فسالوني: من صنع هذا بك؟ فقلت: لا أدري، فاصلحوا أمر يدي! وقال غير سالم، عن ابن عمر، قال: سحروه بالليل وهو نائمٌ على فراشه فكوع حتى أصبح كأنه كان في وثاقٍ، وجاء أصحابه فأصلحوا من يديه، فقدم ابن عمر المدينة فأخبر أباه بما صنع به.
حدثني محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: أقبل مظهر بن رافع الحارثي بأعلاج من الشام يعملون بأرضه وهم عشرة، فأقبل حتى نزل بهم خيبر فأقام بها ثلاثة أيام، فيدخل بهم رجلٌ من اليهود فقال: أنتم نصارى ونحن يهود وهؤلاء قوم عرب قد قهرونا بالسيف، وأنتم عشرة رجال أقبل رجلٌ واحدٌ منهم يسوقكم من أرض الخمر والخير إلى الجهد والبؤس، وتكونون في رقٍّ شديد، فإذا خرجتم من قريتنا فاقتلوه. قالوا: ليس معنا سلاح. فدسوا إليهم سكينين أو ثلاثة. قال: فخرجوا فلما كانوا بثبار قال لأحدهم، وكان الذي يخدمه منهم: ناولني كذا وكذا. فأقبلوا إليه جميعاً قد شهروا سكاكينهم، فخرج مظهر يعدو إلى سيفه وكان في قراب راحلته، فلما انتهى إلى القراب لم يفتحه حتى بعجوا بطنه، ثم انصرفوا سراعاً حتى قدموا خيبر على اليهود فآووهم وزودوهم وأعطوهم قوة فلحقوا بالشام. وجاء عمر الخبر بمقتل مظهر بن رافع وما صنعت اليهود، فقام عمر خطيباً بالناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن اليهود فعلوا بعبد الله ما فعلوا، وفعلوا بمظهر بن رافع مع عدوتهم على عبد الله بن سهل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أشك أنهم أصحابه ليس لنا عدو هناك غيرهم؛ فمن كان له بها مالٌ فليخرج فأنا خارج، فقاسمٌ ما كان بها من الأموال، وحادٌّ حدودها، ومورفٌ أرفها ومجلي اليهود منها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: " أقركم ما أقركم الله " وقد أذن الله في جلائهم إلا أن يأتي رجلٌ منهم بعهدٍ أو بينةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقره فأقره. فقام طلحة بن عبيد الله فقال: قد والله أصبت يا أمير المؤمنين ووفقت! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقركم ما أقركم الله " ، وقد فعلوا ما فعلوا بعبد الله بن سهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما حرضوا على مظهر بن رافع حتى قتله أعبده، وما فعلوا بعبد الله بن عمر، فهم أهل تهمتنا وظنتنا . فقال عمر رضي الله عنه: من معك على مثل رأيك؟ قال: المهاجرون جميعاً والأنصار. فسر بذلك عمر.
حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: " لا يجتمع بجزيرة العرب دينان " . ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى وجد عليه الثبت من لا يتهم، فأرسل إلى يهود الحجاز فقال: من كان منكم عنده عهد من النبي صلى الله عليه وسلم فإني مجليه، فإن الله عز وجل قد أذن في جلائهم. فأجلى عمر يهود الحجاز.
قالوا: فخرج عمر بأربعة قسام: فروة بن عمرو البياضي، قد شهد بدراً، وحباب بن صخر السلمي، قد شهد بدراً، وأبو الهيثم بن التيهان، قد شهد بدراً، وزيد بن ثابت؛ فقسموا خيبر على ثمانية عشر سهماً، على الرءوس التي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سمى ثمانية عشر سهماً وسمى رؤساءها. ويقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمى الرؤساء ثم جزأوا الشق والنطاة، فجزأوها على ثمانية عشر سهماً، جعلوا ثمانية عشر بعرة فألقين في العين جميعاً، ولكل رأس علامةٌ في بعرته، فإذا خرجت أول بعرة قيل سهم فلان وسهم فلان. وكان في الشق ثلاثة عشر سهماً، وفي النطاة خمسة أسهم. حدثني بذلك حكيم بن محمد من آل مخرمة، عن أبيه. فكان أول سهم خرج في النطاة سهم الزبير بن العام؛ ثم سهم بياضة، يقال: إن رأسه فروة بن عمرو؛ ثم سهم أسيد بن حضير؛ ثم سهم بلحارث بن الخزرج، يقال: رأسه عبد الله بن رواحة؛ ثم سهم ناعم؛ يهودي. ثم ضربوا في الشق، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عاصم بن عدي، إنك رجلٌ محدود، فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهمك. فخرج سهم عاصم أول سهم في الشق، ويقال: إنه سهم النبي صلى الله عليه وسلم كان في بني بياضة، والثبت أنه كان مع عاصم بن عدي. ثم خرج سهم علي رضي الله عنه على أثر سهم عاصم؛ ثم سهم عبد الرحمن بن عوف؛ ثم سهم طلحة بن عبيد الله؛ ثم سهم بني ساعدة، يقال: رأسهم سعد ابن عبادة؛ ثم سهم بني النجار؛ ثم سهم بني حارثة بن الحارث؛ ثم سهم أسلم وغفار، يقال: رأسهم بريدة بن الحصيب؛ ثم سهما سلمة جميعاً؛ ثم سهم عبيد السهام؛ ثم سهم عبيد؛ ثم سهم أوس، صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن واقد: فسألت ابن أبي حبيبة: لم سمى عبيد السهام؟ قال: أخبرني داود بن الحصين قال: كان اسمه عبيد، ولكنه جعل يشتير من السهام بخيبر فسمي عبيد السهام.
حدثني إسماعيل بن عبد الملك ابن نافع مولى بني هاشم، عن يحيى ابن شبل، عن أبي جعفر قال: أول ما ضرب في الشق خرج سهم عاصم ابن عدي فيه سهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب: كنت أحب أن يخرج سهمي مع سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخطأني قلت: اللهم اجعل سهمي في مكانٍ معتزلٍ لا يكون لأحدٍ على طريق. فكان سهمه معتزلاً وكان شركاؤه أعراباً، فكان يستخلص منهم سهامهم؛ يأخذ حق أحدهم بالفرس والشيء اليسير حتى خلص له سهم أوس كله.
حدثني عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما قسم عمر رضي الله عنه خيبر خيروا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في طعمهن الذي أطعمهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة، إن أحببن أن يقطع لهن من الأرض و الماء مكان طعمهن، أو يمضى لهن الوسوق وتكون مضمونة لهن. فكانت عائشة رضي الله عنها وحفصة رضي الله عنها ممن اختار الأرض والماء، وكان سائرهن أخذن الوسوق مضمونة.
حدثني أفلح بن حميد قال: سمعت القاسم بن محمد يقول، سمعت عائشة رضي الله عنها تقول يوماً: رحم الله ابن الخطاب! قد خيرني فيما صنع، خيرني في الأرض والماء وفي الطعمة، فاخترت الأرض والماء، فهن في يدي، وأهل الطعم مرة ينقصهم مروان، ومرة لا يعطيهم شيئاً، ومرة يعطيهم. ويقال: إنما خير عمر رضي الله عنه أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: خير عمر رضي الله عنه الناس كلهم؛ فمن شاء أخذ الطعمة كيلاً، ومن شاء أخذ الماء والتراب، وأذن لمن شاء باع، ومن أحب أن يمسك أمسك من الناس كلهم، فكان من باع الأشعريين، من عثمان بن عفان مائة وسق بخمسة آلاف دينار، وباع الرهاويون من معاوية بن أبي سفيان بمثل ذلك. قال أبو عبد الله: هذا الثبت عندنا والذي رأيت عليه أهل المدينة.
وحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: خير عمر رضي الله عنه من كانت له طعمة أن يعطيه من الماء والأرض أو الطعم مضمونةً، فكان أسامة ابن زيد اختار الطعمة مضمونة. ولما فرغ عمر رضي الله عنه من القسمة أخرج يهود خيابر، ومضى عمر رضي الله عنه من خيبر في المهاجرين والأنصار إلى وادي القرى. وخرج معاوية بالقسام الذين قسموا: جبار بن صخر، وأبو الهيثم بن التيهان، وفروة بن عمرو، وزيد بن ثابت، فقسموها على أعداد السهام، وأعلموا أرفها، وحدوا حدودها، وجعلوها السهام تجرى. فكان ما قسم عمر من وادي القرى لعثمان بن عفان خطر، ولعبد الرحمن ابن عوف خطر، ولعمر بن أبي سلمة خطر - الخطر هو السهم - ولعامر بن ربيعة خطر، ولمعيقب خطر، ولعبد الله بن الأرقم خطر، ولبني جعفر خطر، ولعمرو بن سراقة خطر، ولعبد الله وعبيد الله خطران، ولشييم خطر، ولابن عبد الله بن جحش خطر، ولابن أبي بكر خطر، ولعمر خطر، ولزيد ابن ثابت خطر، ولأبي بن كعب خطر، ولمعاذ بن عفراء خطر، ولأبي طلحة وجبير خطر، ولجبار بن صخر خطر، ولجبار بن عبد الله بن رباب خطر، ولمالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله بن عمر خطر، ولسلمة بن سلامة خطر، ولعبد الرحمن بن ثابت وابن أبي شريق خطر، ولأبي عبس بن جبر خطر، ولمحمد بن مسلمة خطر، ولعباد بن طارق خطر، ولجبر بن عتيك نصف خطر، ولابن الحارث بن قيس نصف خطر، ولابن جرمة والضحاك خطر.
حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن مكنف الحارثي، قال: إنما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القسام برجلين، جبار بن صخر وزيد بن ثابت، هما قاسما المدينة وحاسباها، فقسما خيبر وأقاما نخل فدك وأرضها، ودفع عمر إلى يهود فدك نصف القيمة؛ وقسما السهمان بوادي القرى، ثم أجلى عمر رضي الله عنه يهود الحجاز، وكان زيد بن ثابت قد تصدق بالذي صار له من وادي القرى مع غيره.
سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة
في شعبان سنة سبعحدثنا أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في ثلاثين رجلاً إلى عجز هوازن بتربة ، فخرج عمر رضي الله عنه ومعه دليلٌ من بني هلال، فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، وأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحداً. وانصرف راجعاً إلى المدينة حتى سلك النجدية، فلما كان بالجدر قال الهلالي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هل لك في جمعٍ آخر تركته من خثعم، جاءوا سائرين قد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، إنما أمرني أصمد لقتال هوازن بتربة. فانصرف عمر راجعاً إلى المدينة.
سرية أبي بكر إلى نجد
في شعبان سنة سبعحدثني حمزة بن عبد الواحد، عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه وأمره علينا، فبيتنا ناساً من هوازن، فقتلت بيدي سبعةً أهل أبيات ، وكان شعارنا: أمت! أمت!
سرية بشير بن سعد إلى فدك
في شعبان سنة سبعحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مرة بفدك. فخرج فلقي رعاء الشاء فسأل: أين الناس؟ فقالوا: هم في بواديهم . والناس يومئذٍ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء وعاد منحدراً إلى المدينة، فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركه الدهم منهم عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير، وأصبحوا وحمل المريون عليهم فأصابوا أصحاب بشير وولى منهم من ولى. وقاتل بشير قتالاً شديداً حتى ضرب كعبه، وقيل: قد مات، ورجعوا بنعمهم وشاءهم. وكان أول من قدم بخبر السرية ومصابها علبة بن زيد الحارثي. وأمهل بشير بن سعد وهو في القتلى، فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقم عند يهودي بفدك أياماً حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة.
وهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال: سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير، فإن ظفرك الله بهم فلا تبق فيهم. وهيأ معه مائتي رجلٍ وعقد له اللواء، فقدم غالب بن عبد الله من سرية قد ظفر الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام: اجلس! وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل، فخرج أسامة بن زيد في السرية حتى انتهى إلى مصاب بشير وأصحابه، وخرج معه علبة بن زيد.
حدثني أفلح بن سعيد، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: كان مع غالب عقبة بن عمرو أبو مسعود، وكعب بن عجرة، واسامة بن زيد، وعلبة بن زيد؛ فلما دنا غالب منهم بعث الطلائع، فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظر إلى جماعة محالهم، حتى أوفى على جماعةٍ منهم ثم رجع إلى غالب فأخبره. فأقبل غالب يسير حتى إذا كان منهم بمنظر العين ليلاً، وقد اجتلبوا وعطنوا وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا لي أمراً، فإنه لا رأي لمن لا يطاع. ثم ألف بينهم فقال: يا فلان أنت وفلان، يا فلان أنت وفلان - لا يفارق كل رجلٍ زميله - وإياكم أن يرجع إلي أحدكم فأقول: أين فلان صاحبك؟ فيقول: لا أدري؛ وإذا كبرت فكبروا. قال: فكبر وكبروا، وأخرجوا السيوف. قال: فأحطنا بالحاضر وفي الحاضر نعمٌ وقد عطنوا مواشيهم، فخرج إلينا الرجال فقاتلوا ساعةً، فوضعنا السيوف حيث شئنا منهم ونحن نصيح بشعارنا: أمت! أمت! وخرج أسامة بن زيد في إثر رجلٍ منهم يقال له نهيك بن مرداس فأبعد، وحوينا على الحاضر وقتلنا من قتلنا، ومعنا النساء والماشية، فقال أميرنا: أين أسامة بن زيد؟ فجاء بعد ساعة من الليل، فلامه أمرينا لائمةً شديدةً وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك؟ فقال: إني خرجت في إثر رجلٍ جعل يتهكم بين حتى إذا دنوت ولحمته بالسيف قال: لا إله إلا الله! فقال أميرنا: أغمدت سيفك؟ قال: لا والله ما فعلت حتى أوردته شعوب. قال: قلنا: والله بئس ما فعلت وما جئت به، تقتل امرءاً يقول لا إله إلا الله! فندم وسقط في يديه. قال: واستقنا النعم والشاء والذرية، وكانت سهامهم عشرة أبعرةٍ كل رجلٍ، أو عدلها من الغنم. وكان يحسب الجزور بعشرة من الغنم.
وحدثني شبل بن العلاء، عن إبراهيم بن حويصة، عن أبيه عن أسامة بن زيد، قال: كان أميرنا آخى بيني وبين أبي سعيد الخدري. قال أسامة: فلما أصبته وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى رأيتني وما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلني واعتنقني واعتنقته، ثم قال لي: يا أسامة، خبرني عن غزاتك. قال: فجعل أسامة يخبره الخبر حتى انتهى إلى صاحبه الذي قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتلته يا أسامة، وقد قال لا إله إلا الله؟ قال: فجعلت أقول: يا رسول الله، إنما قالها تعوذاً من القتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققت قلبه فتعلم أصادقٌ هو أم كاذب ؟ قال أسامة: لا أقتل أحداً يقول لا إله إلا الله. قال أسامة: وتمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الجبار، عن المقداد بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت رجلاً من الكفار يقاتلني، وضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله، أقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله! قال: فإني قتلته فماذا؟ قال: فإنه بمنزلتك التي كنت بها قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال.
سرية بني عبد بن ثعلبة
عليها غالب بن عبد الله إلى الميفعة في رمضان سنة سبع
حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الكدر أقام أياماً ما شاء الله أن يقيم، فقال له يسار مولاه: يا رسول الله، إني قد علمت غرةً من بني عبد بن ثعلبة، فأرسل معي إليهم. فأرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله في مائة وثلاثين رجلاً، خرج بهم يسار، فظعن بهم في غير الطريق حتى فنيت أزوادهم وجهدوا، واقتسموا التمر عدداً، فبينا القوم ذات ليلة بعد ما ساء ظنهم بيسار، وظن القوم أن إسلامه لم يصح، وقد انتهوا إلى مكان قد فحصه السيل، فلما رآه يسار كبر قال: والله قد ظفرتم بحاجتكم، اسلكوا في هذا الفحص حتى ينقطع بكم. فسار القوم فيه ساعة بحسٍّ خفي لا يتكلمون إلا همساً حتى انتهوا إلى ضرس من الحرة، فقال يسار لأصحابه: لو صاح رجلٌ شديد الصوت لأسمع القوم، فارتأوا رأيكم! قال غالب: انطلق بنا يا يسار أنا وأنت، وندع القوم كميناً، ففعلا، فخرجنا حتى إذا كنا من القوم بمنظر العين سمعنا حس الناس والرعاء والحلب، فرجعا سريعين فانتهيا إلى أصحابهما، فأقبلوا جميعاً حتى إذا كانوا من الحي قريباً، وقد وعظهم أميرهم غالب ورغبهم في الجهاد، ونهاهم عن الإمعان في الطلب، وألف بينهم وقال: إذا كبرت فكبروا. فكبر وكبروا جميعاً معه، ووقعوا وسط محالهم فاستاقوا نعماً وشاءً، وقتلوا من أشرف لهم، وصادفوهم تلك الليلة على ماءٍ يقال له الميفعة. قال: واستاقوا النعم فحدروه إلى المدينة، ولم يسمع أنهم جاءوا بأسرى.
سرية بشير بن سعد إلى الجناب
سنة سبعحدثني يحيى بن عبد العزيز، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: قدم رجلٌ من أشجع يقال له حسيل بن نويرة، وقد كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين يا حسيل؟ قال: قدمت من الجناب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال: تركت جمعاً من غطفان بالجناب، قد بعث إليهم عيينة يقول لهم: إما تسيروا إلينا وإما نسير إليكم. فأرسلوا إليه أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد جميعاً، وهم يريدونك أو بعض أطرافك. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعاً: ابعث بشير بن سعد! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً فعقد له لواء؛ وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار، وخرج معهم حسيل بن نويرة دليلاً؛ فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا أسفل خيبر فنزلوا بسلاح ، ثم خرجوا من سلاح حتى دنوا من القوم، فقال لهم الدليل: بينكم وبين القوم ثلثا نهارٍ أو نصفه، فإن أحببتم كمنتم وخرجت طليعةً لكم حتى آتيكم بالخبر، وإن أحببتم سرنا جميعاً. قالوا: بل نقدمك. فقدموه، فغاب عنهم ساعةً ثم كر عليهم فقال: هذا أوائل سرحهم فهل لكم أن تغيروا عليهم؟ فاختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: إن أغرنا الآن حذرنا الرجال والعطن. وقال آخرون: نغنم ما ظهر لنا ثم نطلب القوم. فشجعوا على النعم، فأصابوا نعماً كثيراً ملأوا منه أيديهم، وتفرق الرعاء وخرجوا سراعاً، ثم حذروا الجمع فتفرق الجمع وحذروا، ولحقوا بعلياء بلادهم، فخرج بشير بأصحابه حتى أتى محالهم فيجدها وليس بها أحد. فرجع بالنعم حتى إذا كانوا بسلاح راجعين لقوا عيناً لعيينة فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة، وعيينة لا يشعر بهم فناوشوهم، ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأصابوا منهم رجلاً أو رجلين فأسروهما أسراً، فقدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما فأرسلهما النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وكان الحارث بن عوف المري حليفاً لعيينة ولقيه منهزماً على فرسٍ له عتيقٍ يعدو به عدواً سريعاً، فاستوقفه الحارث فقال: لا، ما أقدر! الطلب خلفي! أصحاب محمد! وهو يركض. قال الحارث بن عوف: أما لك بعد أن تبصر ما أنت عليه؟ إن محمداً قد وطىء البلاد وأنت موضعٌ في غير شيءٍ. قال الحارث: فتنحيت عن سنن خيل محمد حتى أراهم ولا يروني، فأقمت من حين زالت الشمس إلى الليل، ما أرى أحداً - وما طلبوه إلا الرعب الذي دخله. قال: فلقيته بعد ذلك، فقال الحارث: فلقد أقمت في موضعٍ حتى الليل، ما رأيت من طلب. قال عيينة: هو ذاك، إني خفت الإسار وكان أثري عند محمد ما تعلم في غير موطن. قال الحارث: أيها الرجل، قد رأيت ورأينا معك أمراً بيناً في بني النضير، ويوم الخندق وقريظة، وقبل ذلك قينقاع، وفي خيبر، إنهم كانوا أعز يهود الحجاز كله، يقرون لهم بالشجاعة والسخاء، وهم أهل حصون منيعة وأهل نخل؛ والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم. لقد سارت حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان فامتنعوا بهم من الناس، ثم قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة وكيف أديل عليهم. فقال عيينة: هو والله ذاك، ولكن نفسي لا تقرني. قال الحارث: فادخل مع محمد. قال: أصير تابعاً! قد سبق قوم إاليه فهم يزرون بمن جاء بعدهم يقولون: شهدنا بدراً وغيرها. قال الحارث: وإنما هو على ما ترى، فلو تقدمنا إليه لكنا من علية أصحابه، قد بقي قومه بعدهم منه في موادعة وهو موقعٌ بهم وقعةً، ما وطىء له الأمر. قال عيينة: أرى والله! فاتعدا يريدان الهجرة والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مر بهما فروة ابن هبيرة القشيري يريد العمرة وهما يتقاولان، فأخبراه بما كانا فيه وما يريدان. قال فروة: لو استأنيتم حتى تنظروا ما يصنع قومه في هذه المدة التي هم فيها وآتيكم بخبرهم! فأخروا القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى فروة حتى قدم مكة فتحسب من أخبارهم، فإذا القوم على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يريدون أن يدخلوا طائعين أبداً، فخبرهم بما أوقع محمد بأهل خيابر. قال فروة: وقد تركت رؤساء الضاحية على مثل ما أنتم عليه من العداوة لمحمد. قالت قريش: فما الرأي، فأنت سيد أهل الوبر؟ قال: نقضي هذه المدة التي بينكم وبينه ونستجلب العرب ، ثم نغزوه في عقر داره. وأقام أياماً يجول في مجالس قريش، ويسمع به نوفل بن معاوية الديلي، فنزل من باديته فأخبره بما قال لقريش، فقال نوفل: إذاً لأجد عندكم شيئاً! قدمت الآن لمقدمك حيث بلغني، ولنا عدوٌ قريبٌ داره، وهم عيبة نصح محمد لا يغيبون عليه حرفاً من أمورنا. قال: من هم؟ قال: خزاعة. قال: قبحت خزاعة؛ قعدت بها يمينها! قال فروة: فماذا؟ قال: استنصر قريشاً أن يعينونا عليهم. قال فروة: فأنا أكفيكم. فلقي رؤساءهم، صفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال: ألا ترون ماذا نزل بكم! إنكم رضيتم أن تدافعوا محمداً بالراح. قالوا: فما نصنع؟ قال: تعينون نوفل بن معاوية على عدوه وعدوكم. قالوا: إذاً يغزونا محمدٌ في ما لا قبل لنا به فيوطئنا غلبةً، وننزل على حكمه، ونحن الآن في مدة وعلى ديننا. فلقي نوفل بن معاوية فقال: ليس عند القوم شيء. ورجع فلقي عيينة والحارث فأخبرهم وقال: رأيت قومه قد أيقنوا عليه فقاربوا الرجل وتدبروا الأمر. فقدموا رجلاً وأخروا أخرى.
غزوة القضيةحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، ومعاذ بن محمد، عن محمد بن يحيى بن حباب، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وأبو معشر؛ فكلٌّ قد حدثني بطائفةٍ من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، فكتبت كل ما حدثوني قالوا: لما دخل هلال ذي القعدة سنة سبع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا - قضاء عمرتهم - وألا يتخلف أحدٌ ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف أحدٌ شهدها إلا رجالٌ استشهدوا بخيبر ورجالٌ ماتوا. وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من المسلمين سوى أهل الحديبية ممن لم يشهد صلح الحديبية عماراً، فكان المسلمون في عمرة القضية ألفين.
فحدثني خارجة بن عبد الله، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع، بعد مقدمه بأربعة أشهر، وهو الشهر الذي صدته المشركون، لقول الله عز وجل: " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاصٌ " يقول: كما صدوكم عن البيت فاعتمروا في قابلٍ. فقال رجال من حاضر المدينة من العرب: والله يا رسول الله، ما لنا من زادٍ وما لنا من يطعمنا . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدقوا، وألا يكفوا أيديهم فيهلكوا. قالوا: يا رسول الله، بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بما كان، ولو بشق تمرةٍ، ولو بمشقصٍ يحمل به أحدكم في سبيل الله. فأنزل الله عز وجل في ذلك: " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " . قال: نزلت في ترك النفقة في سبيل الله.
حدثني الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: متع في سبيل الله ولو بمشقص، ولا تلق بيدك إلى التهلكة.
حدثني الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: نزلت هذه الآية في ترك النفقة في سبيل الله.
وحدثني ابن موهب، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضية ستين بدنة.
حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبيد الله بن ينار، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب الأسلمي على هديه، يسير بالهدي أمامه يطلب الرعي في الشجر، معه أربعة فتيانٍ من أسلم.
فحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عبيد بن أبي رهم، قال: أنا كنت ممن يسوق الهدي وأركب على البدن.
حدثني محمد بن نعيم، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنت ممن صاحب البدن أسوقها.
حدثني يونس بن محمد، عن شعبة مولى ابن عباس، قال: قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه بيده هو بنفسه.
حدثني معاذ بن محمد، عن عاصم بن عمر، قال: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، وهي مائة فرسٍ عليها محمد ابن مسلمة. وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد، فقيل: يا رسول الله! حملت السلاح وقد شرطوا علينا ألا ندخل عليهم إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندخلها عليهم الحرم، ولكن تكون قريباً منا، فإن هاجنا هيجٌ من القوم كان السلاح قريباً منا. قيل: يا رسول الله! تخاف قريشاً على ذلك؟ فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم البدن.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن جابر بن عبد الله، قال: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب المسجد لأنه سلك إلى طريق الفرع، ولولا ذلك لأهل من البيداء.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: سلكنا في عمرة القضية على الفرع، وقد أحرم أصحابي غيري، فرأيت حماراً وحشياً فشددت عليه فعقرته، فأتيت أصحابي، فمنهم الآكل والتارك. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كل! قال أبو قتادة: ثم حج حجة الوداع. فأحرم من البيداء، وهذه العمرة من المسجد؛ لأن طريقه ليس على البيداء. قال ابن واقد: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي، والمسلمون يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، فيجد عليها نفراً من قريش فسألوا محمد بن مسلمة فقال: هذا رسول الله، يصبح هذا المنزل غداً إن شاء الله. فرأوا سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعاً حتى أتوا قريشاً فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش فقالوا: والله ما أحدثنا حدثاً، ونحن على كتابنا ومدتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريشٌ مكرز بن حفص بن الأحنف في نفرٍ من قريشٍ حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح، قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد! والله ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخلها إلا كذلك. ثم رجع سريعاً بأصحابه إلى مكة فقال: إن محمداً لا يدخل بسلاحٍ، وهو على الشرط الذي شرط لكم. فلما جاء مكرز بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قريشٌ من مكة إلى رءوس الجبال، وخلوا مكة، وقالوا: ولا ننظر إليه ولا إلى أصحابه. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمهم الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، وأصحابه محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشحو السيوف يلبون؛ فلما انتهى إلى ذي طوى وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء والمسلمون حوله، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون على راحلته القصواء، وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته.
فحدثني سعيد بن مسلم، عن زيد بن قسيط، عن عبيد بن خديج، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع التلبية حتى جاء عروش مكة.
حدثني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى استلم الركن.
حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، قال: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي رجل على السلاح، عليهم أوس بن خولي.
حدثني يعقوب بن محمد بن عدب الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: شهدت عمرة القضية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت قد شهدت الحديبية، فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى البيت، وهو على راحلته وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته - وقد صف له المسلمون - حين دنا من الركن حتى انتهى إليه، فاستلم الركن بمحجنه مضطبعاً بثوبه، على راحلته، والمسلمون يطوفون معه قد اضطبعوا بثيابهم، وعبد الله بن رواحة يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... إني شهدت أنه رسوله
حقاً وكل الخير في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر بن الخطاب: يا ابن رواحة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر، إن أسمع! فأسكت عمر.
فحدثني إسماعيل بن عباس، عن ثابت بن العجلان، عن عطاء بن أبي رباح، قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن المشركين على الجبل وهم يرونكم، امشوا ما بين اليماني والأسود. ففعلوا.
وحدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند المروة عند فراغه، وقد وقف الهدي عند المروة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر! فنحر عند المروة. وقال ابن واقد: وكان قد اعتمر مع النبي صلى الله عليه وسلم قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا، فأما من كان شهد الحديبية وخرج في القضية فإنهم شركوا في الهدي.
حدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، عن أم عمارة، قالت: لم يتخلف أحدٌ من أهل الحديبية إلا اعتمر عمرة القضية، إلا من مات أو قتل؛ فخرجت ونسوةٌ معي في الحديبية فلم نصل إلى البيت، فقصرن من أشعارهن بالحديبية ثم اعتمرن مع النبي صلى الله عليه وسلم، قضاءً لعمرتهن، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة. وكان ممن شهد الحديبية وقتل بخيبر ولم يشهد عمرة القضية: ربيعة بن أكثم، ورفاعة بن مسروح ، وثقف بن عمرو، وعبد الله بن أبي أمية بن وهب الأسدي، وأبو صياح، والحارث بن حاطب، وعدي بن مرة بن سراقة، وأوس بن حبيب، وأنيف ابن وائل، ومسعود بن سعد الزرفي، وبشر بن البراء، وعامر بن الأكوع.
وكان ابن عباس رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم في القضية أن يهدوا، فمن وجد بدنة من الإبل نحرها، ومن لم يجد بدنة رخص لهم في البقرة؛ فقدم فلان ببقرٍ اشتراه الناس منه.
حدثني حزام بن هشام، عن أبيه، أن خراش بن أمية حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن الذي حلقه معمر بن عدب الله العدوي.
حدثني علي بن عمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن سعيد ابن المسيب، قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلالٌ بالظهر فوق ظهر الكعبة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك. فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول! وقال صفوان بن أمية: الحمد الله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا! وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حين يقوم بلال بن أم بلال ينهق فوق الكعبة! وأما سهيل بن عمرو ورجالٌ معه، فحين سمعوا ذلك غطوا وجوههم.
حدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، قال: لم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة في القضية، قد أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك. وأمر بلالاً فأذن فوق الكعبة يومئذٍ مرةً ولم يعد بعد، وهو الثبت.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ميمونة وهو محرم، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
حدثني هشام بن سعد، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، قال: لما حل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمةً بين ظهري المشركين؟ فلم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها؛ فتكلم زيد بن حارثة، وكان وصى حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق بها، ابنة أخي! فلما سمع ذلك جعفر قال: الخالة والدةٌ، وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي، أسماء بنت عميس. فقال علي رضي الله عنه: ألا أراكم في ابنة عمي ، وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها نسبٌ دوني، وأنا أحق بها منكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحكم بينكم! أما أ،ت يا زيد فمولى الله ورسوله، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي، وأنت يا جعفر أحق بها! تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها فقضى بها لجعفر. قال ابن واقد: فلما قضى بها لجعفر قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جعفر؟ قال: يا رسول الله، كان النجاشي إذا أرضى أحداً قام فحجل حوله. فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: تزوجها! فقال: ابنة أخي من الرضاعة! فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هل جزيت سلمة؟ حدثني عبيد الله بن محمد قال: فلما كان عند الظهر يوم الرابع، أتى سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى - ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ من مجالس الأنصار يتحدث معه سعد بن عبادة - فقال: قد انقضى أجلك، فاخرج عنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، فصنعت لكم طعاماً؟ فقالا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا! ننشدك الله يا محمد والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا؛ فهذه الثلاث قد مضت! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل بيتاً، وضربت له قبةٌ من الأدم بالأبطح، فكان هناك حتى خرج منها، لم يدخل تحت سقف بيت من بيوتها. فغضب سعد ابن عبادة لما رأى من غلظة كلامهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لسهيل: كذبت لا أم لك، ليست بأرضك ولا أرض أبيك! والله لا يبرح منها إلا طائعاً راضياً. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد، لا تؤذ قوماً زارونا في رحالنا. قال: وأسكت الرجلان عن سعد. قال: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالرحيل، وقال: لا يميسين بها أحدٌ من المسلمين. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل سرف، وتتام الناس، وخلف أبا رافع ليحمل إليه زوجته حين يمسي، وأقام أبو رافع حتى أمسى، فخرج بميمونة ومن معها، فلقوا عناءً من سفهاء المشركين، آذوا بألسنتهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال لها أبو رافع - وانتظر أن يبطش أحدٌ منهم فيستخلى به ، فلم يفعلوا - ألا إني قد قلت لهم: " ما شئتم! هذه والله الخيل والسلاح ببطن يأجج! " وإذا الخيل قد قربت فوقفت لنا هنالك والسلاح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مائتين من أصحابه حين طافوا بالبيت أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا، فلما انتهينا إلى بطن يأجج ساروا معنا، فلم نأت سرف حتى ذهب عامة الليل، ثم أتينا سرف، فبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أدلج حتى قدم المدينة.
سرية ابن أبي العوجاء السلمي
في ذي الحجة سنة سبع
حدثني محمد، عن الزهري، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء سنة سبع - رجع في ذي الحجة سنة سبع - بعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين رجلاً، فخرج إلى بني سليم. وكان عين لبني سليم معه، فلما فصل من المدينة خرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم، فجمعوا جمعاً كثيراً. وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون له، فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم بالنبل ولم يسمعوا قولهم، وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه. فراموهم ساعة، وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل ناحية، فقاتل القوم قتالاً شديداً حتى قتل عامتهم، وأصيب صاحبهم ابن أبي العوجاء جريحاً مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إسلام عمرو بن العاصحدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمرو بن العاص: كنت للإسلام مجانباً معانداً، فحضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً فنجوت، ثم حضرت الخندق فقلت في نفسي: كم أوضع ؟ والله ليظهرن محمد على قريش! فخلفت مالي بالرهط وأفلت - يعني من الناس - فلم أحضر الحديبية ولا صلحها، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح ورجعت قريش إلى مكة، فجعلت أقول: يدخل محمد قابلاً مكة بأصحابه؛ ما مكة بمنزلٍ ولا الطائف، وما من شيءٍ خير من الخروج. وأنا بعد ناتٍ عن الإسلام، أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم. فقدمت مكة فجمعت رجالاً من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدمونني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟ قالوا: ذو رأينا ومدرهنا ، مع يمن نفسٍ وبركة أمر . قال، قلت: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد أمراً يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت رأياً. قالوا: ما هو؟ قال: نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن كان يظهر محمدٌ كنا عند النجاشي، فنكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد؛ وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. قالوا: هذا الرأي. قال: فاجمعوا ما تهدونه له. وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم. قال: فجمعنا أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتابٍ كتبه إليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي! أهديت لي من بلادك شيئاً؟ قال: فقلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدماً كثيراً. ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويحتفظ به. فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا؛ قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله! فرفع يده فضرب بها أنفي ضربةً ظننت أنه كسره، وابتدر منخاري، فجعلت أتلقى الدم بثيابي، وأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقاً منه. ثم قلت له: أيها الملك، لو ظننت أنك تكره ما فعلت ما سألتك. قال: واستحيى وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول رسول الله - من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى بن مريم - لتقتله؟
قال عمرو: وغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت؟ قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني واتبعه؛ والله إنه لعلى الحق، وليظهرن على كل دينٍ خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أفتبايعني على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ودعا لي بطستٍ فغسل عني الدم وكساني ثياباً، وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فألقيتها، ثم خرجت إلى أصحابي فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل أدركت صاحبك ما أردت؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت أعود إليه. قالوا: الرأي ما رأيت! وفارقتهم كأني أعمد لحاجة فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينةً قد شحنت برقعٍ ، فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعيبة ، وخرجت من الشعيبة ومعي نفقةٌ، فابتعت بعيراً وخرجت أريد المدينة حتى خرجت على مر الظهران، ثم مضيت حتى كنت بالهدة، إذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلاً، وأحدهما داخلٌ في خيمة، والآخر قائمٌ يمسك الراحلتين، فنظرت وإذا خالد بن الوليد، فقلت: أبا سليمان؟ قال: نعم. قلت: أين تريد؟ قال: محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طمعٌ ؛ والله لو أقمنا لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها. قلت: وأنا والله قد أردت محمداً وأردت الإسلام. وخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعاً في المنزل، ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة، فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح! يا رباح! فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين! فظننت أنه يعنيني وخالد بن الوليد، ثم ولى مدبراً إلى المسجد سريعاً فظننت أنه يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت. وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونودي بالعصر فانطلقنا جميعاً حتى طلعنا عليه صلوات الله عليه، وإن لوجهه تهللاً، والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا. فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياءً منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر. فقال: إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها. قال: فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمرٍ حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب.
قال عبد الحميد: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب فقال: أخبرني راشدٌ مولى حبيب بن أبي أويس، عن حبيب بن أوس الثقفي، عن عمرو، نحو ذلك. قال عبد الحميد: فقلت ليزيد: فلم يوقت لك متى قدم عمرو وخالد؟ قال: لا، إلا أنه قبيل الفتح، قلت: وإن أبي أخبرني أن عمراً، وخالداً، وعثمان بن طلحة، قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان.
وأخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أبي حبيبة، قراءةً عليه، حدثنا محمد بن شجاع قال، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال، فحدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال، سمعت أبي يحدث يقول: قال خالد بن الوليد: لما أراد اللهبي من الخير ما أراد قذف في قلبي حب الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمدٍ، فليس موطنٌ اشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيءٍ وأن محمداً سيظهر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيلٍِ من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان؛ فقمت بإزاءه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر آمناً منا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرةٌ - فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعاً وقلت: الرجل ممنوع! وافترقنا وعدل عن سنن خيلنا وأخذ ذات اليمين؛ فلما صالح قريشاً بالحديبية ودافعته قريشٌ بالرواح قلت في نفسي: أي شيءٍ بقي؟ أين المذهب إلى النجاشي؟ فقد اتبع محمداً، وأصحابه آمنون عنده، فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى نصرانيةٍ أو يهودية، فأقيم مع عجمٍ تابعاً، أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثله جهل الإسلام! ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين، لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة. قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبةً في الإسلام وسرني مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال خالد: وارى في النوم كأني في بلادٍ ضيقةٍ جديبة، فخرجت إلى بلدٍ أخضر واسع، فقلت إن هذه لرؤيا. فلما قدمت المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر. قال: فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك. فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأسٍ ، وقد ظهر محمدٌ على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمدٍ فاتبعناه فإن شرف محمدٍ لنا شرفٌ. فأبى أشد الإباء وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعته أبداً. فافترقنا وقلت: هذا رجلٌ موتور يطلب وتراً، قد قتل أبوه وأخوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل الذي قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان، قلت: فاطو ما ذكرت لك. قال: لا أذكره وخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي تخرج إلي، فخرجت بها إلى أن ألقى عثمان بن طلحة فقلت: إن هذا لي لصديقٌ ولو ذكرت له ما أريد! ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحلٌ من ساعتي. فذكرت له ما صار الأمر إليه فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحرٍ، لو صب عليه ذنوب من ماءٍ لخرج. قال: وقلت له نحواً مما قلت لصاحبيه، فاسرع الإجابة وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخٍ مناخةٌ. قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه. قال: فأدلجنا سحراً فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج؛ فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فنجد عمرو بن العاص بها فقال: مرحباً بالقوم! فقلنا: وبك! قال: فأين مسيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك الذي أقدمني. قال: فاصطحبنا جميعاً حتى قدمنا المدينة فأنخنا بظاهر الحرة ركابنا، فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا؛ فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم. فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يبتسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد على السلام
بوجهٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير. قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه .هٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير. قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه .
قال أبو عبد الله: سألت عبد الله بن عمرو بن زهير الكعبي: متى كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزاعة كتابه؟ فقال: أخبرني أبي، عن قبيصة بن ذؤيب أنه كتب لهم في جمادة الآخرة سنة ثمان. وذلك أنه أسلم قوم من العرب كثيرٌ، ومنهم من هو بعد مقيمٌ على شركه، ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية لم يبق من خزاعة أحدٌ إلا مسلمٌ مصدق بمحمد، قد أتوا بالإسلام وهو فيمن حوله قليلٌ، حتى قدم علقمة بن علاثة وابنا هوذة وهاجروا، فذلك حيث كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزاعة: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بديل، وبشر ، وسروات بني عمرو، سلامٌ عليكم، فإني أحمد الله إليكم، الله لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإني لم آثم بإلكم، ولم أضع في جنبكم، وإن أكرم تهامة علي أنتم، وأقربهم رحماً أنتم ومن تبعكم من المطيبين. فإني قد أخذت لمن قد هاجر منكم مثل ما أخذت لنفسي - ولو هاجر بأرضه - غير ساكن مكة إلا معتمراً أو حاجاً؛ وإني لم أضع فيكم إذ سالمت ، وإنكم غير خائفين من قبلي ولا محصورين. أما بعد: فإنه قد أسلم علقمة بن علاثة وابناه، وتابعا وهاجرا على من تبعهما من عكرمة؛ أخذت لمن تبعني منكم ما آخذ لنفسي، وإن بعضنا من بعض أبداً في الحل والحرم، وإنني والله ما كذبتكم وليحبكم ربكم.
حدثني عبد الله بن بديل، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن مسلمة، عن أبيه، عن بديل بن ورقاء مثل ذلك.
سريةٌ أميرها غالب بن عبد الله بالكديد
في صفر سنة ثمان
حدثنا الواقدي قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب ابن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي أحد بني كلب بن عوف، في سريةٍ كنت فيهم ، وأمره أن يشن الغارة على بني الملوح بالكديد، وهم من بني ليث. فخرجنا حتى إذا كنا بقديدٍ لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء، فأخذناه فقال: إنما جئت أريد الإسلام. فقلنا: لا يضرك رباط ليلةٍ إن كنت تريد الإسلام، وإن يكن غير ذلك نستوثق منك. فشددناه وثاقاً، وخلفنا عليه رجلاً منا يقال له سويد بن صخر، وقلنا: إن نازعك فاحتز رأسه. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكمن ناحية الوادي، فبعثني أصحابي ربيئةً لهم، فخرجت فأتيت تلاً مشرفاً على الحاضر يطلعني عليهم، حتى إذا أسندت فيه وعلوت على رأسه انبطحت، فوالله إني لأنظر إذ خرج رجل منهم، من خباءٍ له فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سواداً ما رأيته عليه صدر يومي هذا، فانظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب أخذت منها شيئاً. فنظرت فقالت: والله ما أفقد من أوعيتي شيئاً. فقال: ناوليني قوسي ونبلي! فناولته قوسه وسهمين معها، فأرسل سهماً، فوالله ما أخطأ به جنبي، فانتزعته فوضعته وثبت مكاني. ثم رماني الآخر فخالطني به أيضاً، فأخذته فوضعته وثبت مكاني. فقال لامرأته: والله لو كان زائلةً لتحرك بعد، لقد خالطه سهماي، لا أبا لك! إذا أصبحت فاتبعيهما؛ لا تمضغهما الكلاب. ثم دخل خباءه وراحت ماشية الحي من غبلهم وأغنامهم، فحلبوا وعطنوا ، فلما اطمأنوا وهدأوا شننا عليهم الغارة، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، واستقنا النعم والشاء فخرجنا نحدرها قبل المدينة حتى مررنا بأبي البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا. وخرج صريخ القوم في قومهم فجاءنا ما لا قبل لنا به، ونظروا إلينا وبيننا وبينهم الوادي وهم موجهون إلينا، فجاء الله الوادي من حيث شاء بماءٍ ملأ جنبيه؛ وأيم الله ما رأينا قبل ذلك سحاباً ولا مطراً، فجاء بما لا يستطيع أحدٌ أن يجوزه، فلقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا وقد أسندنا في المشلل وفتناهم، فهم لا يقدرون على طلبنا، فما أنسى رجز أميرنا غالب:
أبى أبو القاسم أن تعز بي ... وذاك قول صادقٍ لم يكذب
في خضلٍ نباته مغلولب ... صفرٍ أعاليه كلون المذهب
ثم قدمنا المدينة.
فحدثني عبد العزيز بن عقبة، عن محمد بن حمزة بن عمر الأسلمي، عن أبيه، قال: كنت معهم ونا بضعة عشر رجلاً، شعارنا: أمت! أمت!
سرية كعب بن عمير إلى ذات أطلاح
في شهر ربيع الأول سنة ثمانقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل. فلما رأى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فأفلت منهم رجلٌ جريحٌ في القتلى، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم.
حدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: كان كعب يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم، فرآه عينٌ لهم فأخبرهم بقلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوا على الخيول فقتلوهم.
سرية شجاع بن وهب
إلى السي من أرض بني عامر من ناحية ركبة
في ربيع الأول سنة ثمان؛ وسرية إلى خثعم بتبالةحدثني الواقدي قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمعٍ من هوازي بالسي، وأمره أن يغير عليهم، فخرج؛ فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم وهم غارون، وقد أوعز إلى أصحابه قبل ذلك ألا يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعماً كثيراً وشاءً، فاستاقوا ذلك كله حتى قدموا المدينة واقتسموا الغنيمة ، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيراً؛ كل رجلٍ، وعدلوا البعير بعشرة من الغنم، وغابت السرية خمس عشرة ليلة.
قال ابن أبي سبرة: فحدثت هذا الحديث محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان فقال: كانوا قد أصابوا في الحاضر نسوةً فاستاقوهن، وكانت فيهن جاريةٌ وضيئةٌ فقدموا بها المدينة. ثم قدم وفدهم مسلمين، فلما قدموا كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم شجاعاً وأصحابه في ردهن، فسلموهن وردوهن إلى أصحابهن.
قال ابن أبي سبرة: فأخبرت شيخاً من الأنصار بذلك فقال: أما الجارية الوضيئة فكان شجاع بن وهب قد أخذها لنفسه بثمنٍ فأصابها، فلما قدم الوفد خيرها، فاختارت المقام عند شجاع بن وهب، فلقد قتل يوم اليمامة وهي عنده، ولم يكن له منها ولدٌ. فقلت لابن أبي سبرة: ما سمعت أحداً قط يذكر هذه السرية. فقال ابن أبي سبرة: ليس كل العلم سمعته. قال: أجل والله.
فقال ابن أبي سبرة: لقد حدثني إسحاق بن عبد الله سريةً أخرى، قال إسحاق: حدثني ابن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلاً إلى حيٍّ من خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة عليهم، وأن يسير الليل ويكمن النهار، وأمره أن يغذ السير. فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، قد غيبوا السلاح؛ فأخذوا على الفتق حتى انتهوا إلى بطن مسحب ، فأخذوا رجلاً فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر، فقدمه قطبة فضرب عنقه ثم أقاموا حتى كان ساعة من الليل، فخرج رجلٌ منهم طليعةً فيجد حاضر نعمٍ، فيه النعم والشاء؛ فرجع إلى أصحابه فأخبرهم، فأقبل القوم يدنون دبيباً يخافون الحرس، حتى انتهوا إلى الحاضر وقد ناموا وهدأوا؛ فكبروا وشنوا الغارة، فخرج إليهم رجال الحاضر، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت الجراح في الفريقين. وأصبحوا وجاء الخثعميون الدهم ، فحال بينهم سيلٌ أتى، فما قدر رجلٌ واحدٌ منهم يمضي حتى أتى قطبة على أهل الحاضر، فأقبل بالنعم والشاء والنساء إلى المدينة، فكان سهامهم أربعة أربعة، والبعير بعشرة من الغنم بعد أن خرج الخمس. وكان في صفر سنة تسع
غزوة مؤتةحدثنا الواقدي قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي ثم أحد بني لهب، إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلك من رسل محمدٍ؟ قال: نعم، أنا رسول رسول الله. فأمر به فأوثق رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه صبراً. ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ غيره، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف، ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر،فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر جلس وجلس أصحابه، وجاء النعمان بن فنحص اليهودي، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم. فقال النعمان بن فنحص: أبا القاسم، إن كنت نبياً فسميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان، فلو سمى مائة أصيبوا جميعاً. ثم جعل اليهودي يقول لزيد ابن حارثة: اعهد، فلا ترجع إلى محمد أبداً إن كان نبياً! فقال زيد: فأشهد أنه نبيٌّ صادقٌ بارٌ. فلما أجمعوا المسير وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم اللواء ودفعه إلى زيد بن حارثة - لواء أبيض - مشى الناس إلى أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونهم ويدعون لهم، وجعل المسلمون يودع بعضهم بعضاً، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين. قال ابن رواحة عند ذلك:
لكني أسال الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرعٍ تقذف الزبدا
وهي أبياتٌ أنشدنيها شعيب بن عبادة.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن رافع بن إسحاق، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً. أو قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لاتغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث؛ فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم؛ ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين؛ وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الفيء ولا في القسمة شيءٌ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين؛ فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم؛ وإن أنت حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا. وإن حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذمتكم وذمم آبائكم خيرٌ لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله.
حدثني أبو صفوان، عن خالد بن يزيد، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مشيعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف ووقفوا حوله فقال: اغزوا بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين للناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان، في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأةً ولا صغيراً ولا مرضعاً ولا كبيراً فانياً، لا تغرقن نخلاً ولا تقطعن شجراً، ولا تهدموا بيتاً.
حدثني أبو القاسم بن عمارة بن غزية، عن أبيه، عن عطاء بن أبي مسلم؛ قال: لما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيءٍ أحفظه عنك! قال: إنك قادمٌ غداً بلداً، السجود به قليلٌن فأكثر السجود. قال عبد الله: زدني يا رسول الله! قال: اذكر الله، فإنه عون لك على ما تطلب. فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهباً رجع إليه فقال: يا رسول الله، إن الله وتر يحب الوتر! قال: يا ابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدةً. فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيءٍ بعدها. قال أبو عبد الله: وكان زيد بن أرقم يقول: كنت في حجر عبد الله بن رواحة فلم أر والي يتيمٍ كان خيراً منه؛ خرجت معه في وجهه إلى مؤتة، وصب بي وصببت به فكان يردفني خلف رحله، فقال ذات ليلة وهو على راحلته بين شعبتي الرحل، وهو يتمثل أبيات شعر
إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسافة أربعٍ بعد الحساء
فزادك أنعمٌ وخلاك ذمٌّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشتهى الثواء
هنالك لا أبالي طلع نخلٍ ... ولا نخلٍ أسافلها رواء
فلما سمعت هذه الأبيات بكيت، فخفقني بيده وقال: ما يضرك يا لكع أن يرزقن الله الشهادة فأستريح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها وأحداثها. ويرجع بين شعبتي الرحل، ثم نزل نزلة من الليل فصلى ركعتين وعاقبهما دعاءً طويلاً ثم قال لي: يا غلام! فقلت: لبيك! قال: هي إن شاء الله الشهادة.
ومضى المسلمون من المدينة، فسمع العدو بمسيرهم عليهم قبل أن ينتهوا إلى مقتل الحارث بن عمير، فلما فصل المسلمون من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا الجموع. وقام فيهم رجلٌ من الأزد يقال له شرحبيل بالناس، وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون وادي القرى وأقاموا أياماً، وبعث أخاه سدوس وقتل سدوس وخاف شرحبيل بن عمرو فتحصن، وبعث أخاً له يقال له وبر بن عمرو. فسار المسلمون حتى نزلوا أرض معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام في مائة ألفٍ، عليهم رجلٌ من بلى يقال له مالكٌ. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالاً. فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجعهم ثم قال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاحٍ، ولا بكثرة خيولٍ، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. انطلقوا والله لقد رأيتنا يوم بدرٍ ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد فرسٌ واخدٌ؛ وإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهورٌ عليهم فذلك ما وعدنا الله ووعدنا نبينا، وليس لوعده خلفٌ، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان! فشجع الناس على مثل قول ابن رواحة.
فحدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: شهدت مؤتة، فلما رأينا المشركين راينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت ابن أرقم. يا أبا هريرة، ما لك؟ كأنك ترى جموعاً كثيرةً. قلت: نعم، قال: تشهدنا ببدر؟ إنا لم ننصر بالكثرة! حدثني بكير بن مسمار، عن ابن كعب القرظي، وابن أبي سبرة، عن عمارة بن غزية، أحدهما يزيد على الآخر في الحديث، قال: لما التقى المسلمون والمشركون، وكان الأمراء يومئذٍ يقاتلون على أرجلهم، أخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل الناس معه، والمسلمون على صفوفهم، فقتل زيد بن حارثة. قال ابن كعب القرظي، أخبرني من حضر يومئذٍ قال: لا، ما قتل إلا طعناً بالرمح. ثم أخذه جعفر، فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها ، ثم قاتل حتى قتل.
وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: ضربه رجلٌ من الروم فقطعه، نصفين، فوقع أحد نصفيه في كرمٍ، فوجد في نصفه ثلاثون أو بضعٌ وثلاثون جرحاً.
حدثني أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وجد مما قتل من بدن جعفر ما بين منكبيه اثنان وسبعون ضربةً بسيف أو طعنةٍ برمح.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن صالح، عن عاصم بن عمر، قال: وجد في بدن جعفر أكثر من ستين جرحاً، ووجد به طعنةٌ قد أنفذته.
حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن عبد الله بن أبي بكر، زاد أحدهما على صاحبه في الحديث قالا: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت وحبب إليه الدنيا! فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا! فمضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: استغفروا له، فقد دخل الجنة وهو يسعى! ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا! ثم مضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له، ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيدٌ، دخل الجنة فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة. ثم أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة، فاستشهد ودخل الجنة معترضاً. فشق ذلك على الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصابه الجراح. قيل: يا رسول الله، ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فشجع، فاستشهد فدخل الجنة. فسري عن قومه.
حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت جعفراً ملكاً يطير في الجنة تدمى قادمتاه، ورأيت زيداً دون ذلك فقلت: ما كنت أظن أن زيداً دون دعفر. فأتى جبريل عليه السلام فقال: إن زيداً ليس بدون جعفر، ولكنا فضلنا جعفر لقرابته منك.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن المقبري، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الفرسان أبو قتادة، وخير الرجالة سلمة بن الأكوع.
حدثني نافع بن ثابت، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، أن رجلاً من بني مرة كان في الجيش. قيل له: إن الناس يقولون إن خالداً انهزم من المشركين. فقال: لا والله ما كان ذلك! لما قتل ابن رواحة نظرت إلى اللواء قد سقط، واختلط المسلمون والمشركون، فنظرت إلى اللواء في يد خالد منهزماً، واتبعناه فكانت الهزيمة.
حدثني محمد بن صالح، عن رجل من العرب، عن أبيه، قال: لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمةٍ رأيتها قط. في كل وجهٍ. ثم إن المسلمين تراجعوا. فأقبل رجلٌ من الأنصار يقال له ثابت بن أرقم، فأخذ اللواء وجعل يصيح بالأنصار، فجعل الناس يثوبون إليه من كل وجهٍ وهم قليل وهو يقول: إلي أيها الناس! فاجتمعوا إليه. قال: فنظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه، أنت أحق به. أنت رجلٌ لك سنٌّ، وقد شهدت بدراً. قال ثابت: خذه أيها الرجل! فوالله ما أخذته إلا لك! فأخذه خالدٌ فحمله ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه. فثبت حتى تكركر المشركون. وحمل بأصحابه ففض جمعاً من جمعهم، ثم دهمه منهم بشرٌ كثيرٌ. فانحاش المسلمون فانكشفوا راجعين.
حدثني ابن أبي سبرة. عن إسحاق بن عبد الله. عن ابن كعب بن مالك. قال: حدثني نفرٌ من قومي حضروا يومئذٍ قالوا: لما أخذ اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة. وقتل المسلمون. واتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم. يقتل الرجل مقبلاً أحسن أن يقتل مدبراً! يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد، هي الهزيمة، ويتبعون صاحب الراية منهزماً.
حدثني إسماعيل بن مصعب، عن إبراهيم بن يحيى بن زيد، قال: لما أخذ اللواء ثابت بن أرقم، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، قال ثابت: اصطلحتم على خالد؟ قالوا: نعم. فأخذه خالد فانكشف بالناس.
حدثني عطاف بن خالد قال: لما قتل ابن رواحة مساءً بات خالد بن الوليد، فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم وقالوا: قد جاءهم مددٌ! فرعبوا فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قومٌ.
حدثني عبد الله بن الفضيل، عن أبيه، قال: لما أخذ خالد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن حمي الوطيس! قال أبو عبد الله: والأول أثبت عندنا؛ أن خالداً انهزم بالناس. قال ابن أبي الزناد: بلغت الدماء بين الخيل موضع الأشاعر من الحافر ؛ والوطيس أيضاً ذاك، وإذا حمي ذلك الموضع من الدابة كان أشد لعدوها.
حدثني داود بن سنان قال: سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد يومئذٍ حتى عيروا بالفرار، وتشاءم الناس به.
حدثني خالد بن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدري، قال: أقبل خالد بن الوليد بالناس منهزماً، فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون: يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار، ولكنهم كرارٌ إن شاء الله! حدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن عتبة، يقول: ما لقي جيش بعثوا معنا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة؛ لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له، يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك؟ فأما من كان كبيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في بيته استحياءً حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم رجلاً رجلاً، يقول: أنتم الكرار في سبيل الله!
حدثني مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: كان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة، فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة: ما لي لا أرى سلمة بن هشام؟ آشتكى شيئاً؟ قالت امرأته: لا والله، ولكنه لا يستطيع الخروج؛ إذا خرج صاحوا به وبأصحابه يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟. حتى قعد في البيت. فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، هم الكرار في سبيل الله، فليخرج! فخرج.
حدثني خالد بن إلياس، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس، لقد كان بيني وبين ابن عمرٍّ لي كلام، فقال: إلا فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شيء أقول له.
حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أم عيسى بن الحزار، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد هيأت أربعين منا من أدم ، وعجنت عجيني، وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم؟ فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أسماء، أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه فضمهم وشمهم، ثم ذرفت عيناه فبكى، فقلت: أي رسول الله، لعلك بلغك عن جعفر شيءٌ؟ فقال: نعم، قتل اليوم. قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أسماء، لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً! قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على ابنته فاطمة وهي تقول: واعماه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على مثل جعفر فلتبك الباكية! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم.
حدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن أبي يعلى، قال: سمعت عبد الله ابن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته. ثم قال: اللهم، إن جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته! ثم قال: يا أسماء، ألا أبشرك؟ قالت: بلى، بأبي أنت وأمي! قال: فإن الله عز وجل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة! قالت: بأبي وأمي يا رسول الله، فأعلم الناس ذلك! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيدي، يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم فقال: إن المرء كثيرٌ بأخيه وابن عمه، ألا إن جعفراً قد استشهد، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وأدخلني، وأمر بطعامٍ فصنع لأهلي، وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده والله غداءً طيباً مباركاً؛ عمدت سلمى خادمته إلى شعيرٍ فطحنته، ثم نسفته، ثم أنضجته وأدمته بزيت. وجعلت عليه فلفلاً. فتغديت أنا وأخي معه فأقمنا ثلاثة أيام في بيته، ندور معه كلما صار في إحدى بيوت نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أساوم بشاة أخٍ لي، فقال: اللهم بارك في صفقته. قال عبد الله: فما بعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه.
حدثني عمر بن أبي عاتكة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما قدم نعي جعفر عرفنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن. قالت: قديماً ما ضر الناس التكلف ؛ فأتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن النساء قد عنيننا بما يبكين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارجع إليهن فأسكتهن، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب. فقلت في نفسي: أبعدك الله! ما تركت نفسك، وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: أنا أطلع من صير الباب فأسمع هذا.
حدثني عبد الله بن محمد، عن ابن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: أصيب بها ناسٌ من المسلمين، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين، فكان مما غنموا خاتماً جاء به رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلت صاحبه يومئذٍ!فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
==============
ج5. كتاب المغازي الواقدي
وقال عوف بن مالك الأشجعي: لقيناهم في جماعة من قضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فصافونا فجعل رجلٌ من الروم يسل على المسلمين ويغري بهم على فرسٍ أشقر، عليه سلاحٌ مذهبٌ ولجامٌ مذهبٌ، فجعلت أقول في نفسي: من هذا؟ وقد رافقني رجلٌ من أمداد حمير، فكن معنا في مسيرنا ذلك ليس معه سيفٌ، إذ نحر رجلٌ من القوم جزوراً فسأله المددي طائفةً من جلده، وهبه له فبسطه في الشمس وأوتد على أطرافه أوتاداً، فلما جف اتخذ منه مقبضاً وجعله درقةً. فلما رأى ذلك المددي ما يفعل ذلك الرومي بالمسلمين كمن له خلف صخرة، فلما مر به خرج عليه فعرقب فرسه، فقعد الفرس على رجليه وخر عنه العلج ، وشد عليه فعلاه بسيفه فقتله.
حدثني بكير بن مسمار، عن عمارة بن غزية ، عن أبيه، قال: حضرت مؤتة، فبارزت رجلاً يومئذٍ فأصبته، وعليه يومئذٍ بيضةٌ له فيها ياقوتةٌ، فلم يكن همي إلا الياقوتة فأخذتها؛ فلما انكشفنا وانهزمنا رجعت بها المدينة، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفلنيها فبعتها زمن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بمائة دينارٍ، فاشتريت بها حديقة نخل ببني خطمة.
ذكر من استشهد بمؤتة من بني هاشم وغيرهماستشهد من بني هاشم: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة. ومن بني عدي بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة. ومن بني عامر ابن لؤي، ثم من بني مالك بن حسيل: وهب بن سعد بن أبي سرح. وقتل من الأنصار، ثم من بني النجار من بني مازن: سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء. ومن بني النجار: الحارث بن النعمان بن يساف بن نضلة بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك. ومن بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، وعبادة بن قيس. ثم رجعوا إلى المدينة.
غزوة ذات السلاسلحدثني ربيعة بن عثمان، عن ابن رومان؛ وحدثني أفلح بن سعد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش، عن أبي بكر بن حزم؛ وحدثني عبد الحميد بن جعفر؛ فكلٌّ قد حدثني منه طائفةً، وبعضهم أوعى للحديث من بعض، فجمعت ما حدثوني، وغير هؤلاء المسمين قد حدثني أيضاً، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعاً من بليٍّ وقضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواءً أبيض، وجعل معه رايةً سوداء، وبعثه في سراة المهاجرين والأنصار - في ثلاثمائة - عامر بن ربيعة، وصهيب بن سنان، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وسعد بن أبي وقاص؛ ومن الأنصار: أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، وسلمة بن سلامة، وسعد بن عبادة. وأمره أن يستعين بمن مر به من العرب، وهي بلاد بليٍّ وعذرة وبلقين، وذلك أن عمرو بن العاص كان ذا رحمٍ بهم؛ كانت أم العاص بن وائل بلويةً، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بعمرٍو. فسار، وكان يكمن النهار ويسير الليل، وكانت معه ثلاثون فرساً، فلما دنا من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فنزل قريباً منهم عشاءً وهم شاتون، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يصطلوا - وهي أرضٌ باردةٌ - فمنعهم؛ فشق ذلك عليهم حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه، فقال عمرو: أمرت أن تسمع لي وتطيع! قال: فافعل!
وبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن لهم جمعاً كثيراً ويستمده بالرجال، فبعث أبا عبيدة بن الجراح وعقد له لواءً، وبعث معه سراة المهاجرين - أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - والأنصار، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق عمرو بن العاص. فخرج أبو عبيدة في مائتين، وأمره أن يكونا جميعاً ولا يختلفا. فساروا حتى لحقوا بعمرو بن العاص، فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمراً، فقال له عمرو: إنما قدمت علي مدداً لي، وليس لك أن تؤمني، وأنا الأمير؛ وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلي مدداً. فقال المهاجرون: كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه! فقال عمرو: لا، بل أنتم مددٌ لنا! فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف - وكان حسن الخلق، لين الشيمة - قال: لتطمئن يا عمرو، وتعلمن أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا " . وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك! فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. فآب إلى عمرو جمعٌ - فصاروا خمسمائة - فسار الليل والنهار حتى وطىء بلاد بليٍّ ودوخها ، وكلما انتهى إلى موضعٍ بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا به تفرقوا، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بليٍّ وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعاً ليس بالكثير، فقاتلوا ساعةً وتراموا بالنبل، ورمي يومئذٍ عامر بن ربيعة بسهمٍ فأصيب ذراعه. وحمل المسلمون عليهم فهربوا، وأعجزوا هرباً في البلاد وتفرقوا، ودوخ عمرو ما هناك وأقام أياماً لا يسمع لهم بجمعٍ ولا بمكانٍ صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، وكانوا ينحرون ويذبحون، لم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن غنائم تقسم إلا ما ذكر له.
وكان رافع بن أبي رافع الطائي يقول: كنت فيمن نفر مع أبي عبيدة ابن الجراح، وكنت رجلاً أغير في الجاهلية على أموال الناس، فكنت أجمع الماء في البيض - بيض النعام - فأجعله في أماكن أعرفها، فإذا مررت بها وقد ظمئت استخرجتها فشربت منها. فلما نفرت في ذلك البعث قلت: والله لأختارن لنفسي صاحباً ينفعني الله به. فاخترت أبا بكر الصديق فصحبته، وكانت له عباءةٌ فدكية ، فإذا ركب خلها عليه بخلالٍ، وإذا نزلنا بسطها. فلما قفلنا قلت: يا أبا بكر، رحمك الله! علمني شيئاً ينفعني الله به. قال: قد كنت فاعلاً ولو لم تسألني؛ لا تشرك بالله، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت واعتمر، ولا تتأمر على اثنين من المسلمين. قال: قلت: أما ما أمرتني به من الصلاة والصوم والحج فأنا فاعله، وأما الإمارة فإني رأيت الناس لا يصيبون هذا الشرف وهذا الغنى وهذه المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الناس إلا بها. قال: إنك استنصحتني فجهدت لك نفسي؛ إن الناس دخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً فأجارهم الله من الظلم، وهم عواد الله وجيران الله، وفي أمانته، فمن أخفر فإنما يخفر الله في جيرانه؛ وإن شاة أحدكم أو بعيره ليذهب فيظل ناتثاً عضله غضباً لجاره، والله من وراء جاره. قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه جئته فقلت: يا أبا بكر، ألم تنهني أن أتامر على اثنين؟ قال: بلى، وأنا على ذلك! قال: فما لك تأمرت على أمة محمد؟ قال: اختلف الناس وخشيت عليهم الهلاك، ودعوا إلي فلم أجد لذلك بداً.
قال: وكان عوف بن مالك الأشجعي رفيقاً لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما معهما في رحلهما، فخرج عوف يوماً في العسكر فمر بقومٍ بأيديهم جزورٌ قد عجزوا عن عملها، فكان عوف عالماً بالجزر فقال: أتعطوني عليها وأقسمها بينكم. قالوا: نعم نعطيك عشيراً منها. فنحرها ثم جزأها بينهم، وأعطوه منها جزأً فأخذه فأتى به أصحابه، فطبخوه وأكلوا منه. فلما فرغوا قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: من أين لك هذا اللحم؟ فأخبرهما فقالا: والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا. ثم قاما يتقيآن، فلما فعل ذلك أبو بكر وعمر فعل ذلك الجيش، وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لعوف: تعجلت أجرك! ثم أتى أبا عبيدة فقال له مثل ذلك.
وكان عمرو بن العاص حين قفلنا احتلم في ليلةٍ باردةٍ كأشد ما يكون من البرد، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قد والله احتلمت، وإن اغتسلت مت! فدعا بماءٍ فتوضأ وغسل فرجه وتيمم، ثم قام فصلى بهم؛ فكان أول من بعث عوف بن مالك بريداً. قال عوف بن مالك: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر وهو يصلي في بيته، فسلمت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عوف بن مالك؟ قلت: عوف بن مالك يا رسول الله! قال: صاحب الجزور؟ قلت: نعم. ولم يزد على هذا شيئاً، ثم قال: أخبرني! فأخبرته بما كان في مسيرنا وما كان بين أبي عبيدة بن الجراح وبين عمرو بن العاص ومطاوعة أبي عبيدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح! ثم أخبرته أن عمراً صلى بنا وهو جنبٌ ومعه ماءٌ لم يزد على أن غسل فرجه بماءٍ وتيمم، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته فأخبره فقال: والذي بعثك بالحق لو اغتسلت لمت، لم أجد قط برداً مثله، وقد قال الله: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً " . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أنه قال شيئاً
سرية الخبط أميرها أبو عبيدةقال الواقدي: حدثني داود بن قيس، ومالك بن أنس، وإبراهيم بن محمد الأنصاري من ولد ثابت بن قيس بن شماس، وخارجة بن الحارث؛ وبعضهم قد زاد في الحديث، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في سريةٍ فيها المهاجرون والأنصار، وهم ثلثمائة رجل، إلى ساحل البحر إلى حيٍّ من جهينة؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ، فأمر أبو عبيدة بالزاد فجمع حتى إذا كانوا ليقتسمون التمرة، فقيل لجابر: فما يغني ثلث تمرة؟ قال: لقد وجدوا فقدها. قال: ولم تكن معهم حمولة ، إنما كانوا على أقدامهم، وأباعر يحملون عليها زادهم. فأكلوا الخبط، وهو يومئذٍ ذو مشرة ، حتى إن شدق أحدهم بمنزلة مشفر البعير العضة، فمكثنا على ذلك حتى قال قائلهم: لو لقينا عدواً ما كان بنا حركةٌ إليه، لما بالناس من الجهد. فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمراً بجزر، يوفيني الجزر ها هنا وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: واعجباه لهذا الغلام، لا مال له يدان في مال غيره! فوجد رجلاً من جهينة، فقال قيس بن سعد: بعني جزراً وأوفيك سقةً من تمرٍ بالمدينة. قال الجهني: والله ما أعرفك، ومن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم . قال الجهني: ما أعرفتني بنسبك أما إن بيني وبين سعد خلة، سيد أهل يثرب. فابتاع منهم خمس جزر كل جزور بوسقين من تمرٍ يشرط عليه البدوي، تمرٍ ذخيرةٍ مصلبةٍ من تمر آل دليم. قال: يقول قيس: نعم. فقال الجهني: فاشهد لي. فأشهد له نفراً من الأنصار ومعهم نفرٌ من المهاجرين. قال قيس: أشهد من تحب. فكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: لا أشهد! هذا يدان ولا مال له، إنما المال لأبيه. قال الجهني: والله، ما كان سعدٌ ليخني بابنه في سقةٍ من تمر! وأرى وجهاً حسناً وفعالاً شريفاً. فكان بين عمر وبين قيس كلام حتى أغلظ له قيس الكلام؛ وأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة، كل يوم جزوراً، فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره وقال: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟
حدثني محمد بن يحيى بن سهل، عن أبيه، عن رافع بن خديج، قال: أقبل أبو عبيدة بن الجراح ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فقال: عزمت عليك ألا تنحر؛ أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟ فقال قيس: يا أبا عبيدة، أترى أبا ثابت وهو يقضي دين الناس، ويحمل الكل ، ويطعم في المجاعة، لا يقضي سقة تمرٍ لقومٍ مجاهدين في سبيل الله! فكاد أبو عبيدة أن يلين له ويتركه حتى جعل عمر يقول: اعزم عليه! فعزم عليه فأبى عليه أن ينحر. فبقيت جزوران معه حتى وجد القوم الحوت، فقدم بهما قيس المدينة ظهراً يتعاقبون عليها، وبلغ سعد ما كان أصاب القوم من المجاعة فقال: إن يكن قيسٌ كما أعرفه فسوف ينحر للقوم. فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابهم؟ قال: نحرت. قال: أصبت، انحر! قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت! قال: ثم ماذا؟ قال: ثم نحرت. قال: أصبت، انحر! قال: ثم ماذا؟ قال: نهيت. قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح أميري. قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك، فقلت: أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل ، ويطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي! قال: فلك أربع حوائط . قال: وكتب له بذلك كتاباً. قال: وأتى بالكتاب إلى أبي عبيدة فشهد فيه، وأتى عمر فأبى أن يشهد فيه - وأدنى حائطٍ منها يجذ خمسين وسقاً. وقدم البدوي مع قيس فأوفاه سقته وحمله وكساه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فعل قيس فقال: إنه في بيت جود.
حدثني مالك بن أنس، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، فألقى لنا حوتاً مثل الظرب ، فأكل الجيش منه اثنتي عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعٍ من أضلاعه فنصب، ثم أمر براحلةٍ فرحلت، ثم مر تحتها فلم يصبها.
حدثني ابن أبي ذئبٍ، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: إن كان الرجل ليجلس في وقب عينه، وإن كان الراكب ليمر بين ضلعين من أضلاعه على راحلته.
حدثني عبد الله بن الحجازي، عن عمر بن عثمان بن شجاع، قال: لما قدم الأعرابي على سعد بن عبادة قال: يا أبا ثابت! والله، ما مثل ابنك صنعت ولا تركت بغير مال؛ فابنك سيد من سادة قومه، نهاني الأمير أن أبيعه. قلت: لم؟ قال: لا مال له! فلما انتسب إليك عرفته فتقدمت لما عرفت أنك تسمو على معالي الأخلاق وجسيمها، وأنك غير مذم بمن لا معرفة له لديك. قال: فأعطى ابنه يومئذٍ أموالاً عظاماً.
سرية خضرة، أميرها أبو قتادة
في شعبان سنة ثمان
حدثنا الواقدي قال: حدثني محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: قال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي: تزوجت ابنة سراقة بن حارثة اللجاري وكان قتل ببدر، فلم أصب شيئاً من الدنيا كان أحب إلي من مكانها، فأصدقتها مائتي درهم، فلم أجد شيئاً أسوقه إليها فقلت:على الله ورسوله المعول. فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: كم سقت إليها! قلت: مائتي درهم. فقال: لو كنتم تغترفونه من ناحية بطحان ما زدتم. فقلت: يا رسول الله، أعني في صداقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وافقت عندنا شيئاً أعينك به، ولكني قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلاً في سرية، فهل لك أن تخرج فيها؟ فإني أرجو أن يغنمك الله مهر امرأتك. فقلت: نعم. فخرجنا فكنا ستة عشر رجلاً بابي قتادة وهو أميرنا، وبعثنا إلى غطفان نحو نجد فقال: سيروا الليل واكمنوا النهار، وشنوا الغارة، ولا تقتلوا النساء والصبيان. فخرجنا حتى جئنا ناحية غطفان، فهجمنا على حاضرٍ منهم عظيمٍ. قال: وخطبنا أبو قتادة وأوصانا بتقوى الله عز وجل، وألف بين كل رجلين وقال: لا يفارق كل رجلٍ زميله حتى يقتل أو يرجع إلي فيخبرني خبره، ولا يأتني رجلٌ فأسأل عن صاحبه فيقول، لا علم لي به! وإذا كبرت فكبروا، وإذا حملت فاحملوا، ولا تمعنوا في الطلب. فأحطنا بالحاضر فسمعت رجلاً يصرخ: يا خضرة! فتفاءلت وقلت: لأصيبن خيراً ولأجمعن إلي امرأتي! وقد أتيناهم ليلاً. قال: فجرد أبو قتادة سيفه وجردنا سيوفنا، وكبر وكبرنا معه، فشددنا على الحاضر فقاتل رجالٌ، وإذا برجلٍ طويلٍ قد جرد سيفه صلتاً، وهو يمشي القهقرى ويقول: يا مسلم، هلم إلى الجنة! فاتبعته ثم قال: إن صاحبكم لذو مكيدة، وإن أمره هو الأمر. وهو يقول: الجنة! الجنة! يتهكم بنا. فعرفت أنه مستقبل فخرجت في أثره، فيناديني صاحبي: لا تبعد، فقد نهانا أميرنا أن نمعن في الطلب! فأدركته فرميته على جريداء متنه ، ثم قال: ادن يا مسلم إلى الجنة! فرميته حتى قتلته بنبلي، ثم وقع ميتاً فأخذت سيفه. وجعل زميلي ينادي: أين تذهب؟ إني والله إن ذهبت إلى أبي قتادة فسألني عنك أخبرته. قال: فلقيته قبل أبي قتادة فقلت: أسأل أميري عني؟ فقال: نعم، وقد تغيظ علي وعليك. وأخبرني أنهم جمعوا الغنائم - وقتلوا من أشرف لهم - فجئت أبا قتادة فلامني فقلت: قتلت رجلاً كان من أمره كذا وكذا، فأخبرته بقوله كله. ثم استقنا النعم، وحملنا النساء، وجفون السيوف معلقة بالأقتاب . فأصبحت - وبعيري مقطور - بامرأة كأنها ظبيٌ، فجعلت تكثر الالتفات خلفها وتبكي، قلت: إلى أي شيءٍ تنظرين؟ قالت: أنظر والله إلى رجلٍ لئن كان حياً ليستنقذنا منكم. فوقع في نفسي أنه الذي قتلته فقلت: قد والله قتلته، وهذا سيفه معلق بالقتب إلى غمده، فقالت: هذا والله غمد سيفه، فشمه إن كنت صادقاً. قال: فشمته فطبق . قال: فبكت ويئست. قال ابن أبي حدرد: فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بالنعم والشاء.
فحدثني أبو مودود، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد ، عن أبيه، قال: لما رجعت من غزوة خضرة وقد أصبنا فيئاً، سهم كل رجل اثنا عشر بعيراً، دخلت بزوجتني فرزقني الله خيراً.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن جعفر بن عمرو، قال: غابوا خمس عشرة ليلة، وجاءوا بمائتي بعير وألف شاة، وسبوا سبياً كثيراً. وكان الخمس معزولاً، وكان سهمانهم اثني عشر بعيراً، يعدل البعير بعشر من الغنم.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه، قال: أصبنا في وجهنا أربع نسوة، فيهن فتاة كأنها ظبيٌ، من الحداثة والحلاوة شيءٌ عجب، وأطفال من غلمان وجوار، فاقتسموا السبي وصارت تلك الجارية الوضيئة لأبي قتادة. فجاء محمية بن جزء الزبيدي فقال: يا رسول الله، إن أبا قتادة قد أصاب في وجهه هذا جاريةً وضيئةً، وقد كنت وعدتني جاريةً من أول فيءٍ يفيء الله عليك. قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي قتادة فقال: ما جاريةٌ صارت في سهمك؟ قال: جاريةٌ من السبي هي أوضأ ذلك السبي، أخذتها لنفسي بعد أن أخرجنا الخمس من المغنم. قال: هبها لي. فقال: نعم، يا رسول الله. فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إلى محمية بن جزء الزبيدي.
شأن غزوة الفتح
حدثني محمد بن عبد الله، وموسى بن محمد، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن يزيد، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ويونس بن محمد، ومحمد بن يحيى بن سهل، وابن أبي حثمة، ومحمد بن صالح بن دينار، ونجيح، وأسامة بن زيد، وحزام بن هشام، ومعاذ بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، ومعمر بن راشد؛ فكلٌّ قد حدثني من حديث الفتح بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعضٍ، وغير هؤلاء قد حدثني أيضاً، فكتبت كل ما سمعت منهم، قالوا: كانت خزاعة في الجاهلية قد أصابوا رجلاً من بني بكر أخذوا ماله؛ فمر رجلٌ من خزاعة على بني الديل بعد ذلك فقتلوه، فوقعت الحرب بينهم، فمر بنو الأسود بن رزن - ذؤيب، وسلمى، وكلثوم - على خزاعة فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم. وكان قوم الأسود يؤدون في الجاهلية ديتين بفضلهم في بين بكر، فتجاوزوا وكف بعضهم عن بعض من أجل الإسلام، وهم على ما هم عليه من العداوة في أنفسهم، إلا أنه قد دخل الإسلام عليهم جميعاً فأمسكوا، فلما كان صلح الحديبية دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً، ولقد جاءته يومئذٍ خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه. قال ابن واقد: وهو " باسمك اللهم، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة، إذ قدم عليه سراتهم وأهل الرأي، غائبهم مقرٌّ بما قضى عليه شاهدهم. إن بيننا وبينكم عهود الله وعقوده، ما لا ينسى أبداً، ولا يأتى بلدٍّ ، اليد واحدةٌ والنصر واحدٌ، ما أشرف ثبير، وثبت حراء، وما بل بحرٌ صوفة ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبداً، الدهر سرمداً " . فقرأه عليه ابي بن كعب فقال: ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف! فكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام. وجاءته أسلم وهو بغدير الأشطاط ، جاء بهم بريدة بن الحصيب فقال: يا رسول الله، هذه أسلم وهذه محالها، وقد هاجر إليك من هاجر منها وبقي قومٌ منهم في مواشيهم ومعاشهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم مهاجرون حيث كنتم. ودعا العلاء بن الحضرمي فأمره أن يكتب لهم كتاباً، فكتب: " هذا كتابٌ من محمد رسول الله لأسلم، لمن آمن منهم بالله، وشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ فإنه آمنٌ بأمان الله، وله ذمة الله وذمة رسوله. وإن أمرنا وأمركم واحدٌ على ما دهمنا من الناس بظلمٍ، اليد واحدة والنصر واحدٌ، ولأهل باديتهم مثل ما لأهل قرارهم، وهم مهاجرون حيث كانوا " . وكتب العلاء بن الحضرمي. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، نعم الرجل بريدة بن الحصيب لقومه، عظيم البركة عليهم؛ مررنا به ليلة، مررنا ونحن مهاجرون إلى المدينة، فأسلم معه من قومه من أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل بريدة لقومه وغير قومه يا أبا بكر، إن خير القوم من كان مدافعاً عن قومه ما لم يأثم، فإن الإثم لا خير فيه.
حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن محجن بن وهب ، قال: كان آخر ما كان بين خزاعة وبين كنانة أن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعه غلامٌ من خزاعة فوقع به فشجه، فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها. فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهراً من صلح الحديبية تكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش - واعتزلت بنو مدلجٍ فلم ينقضوا العهد - أن يعينوا بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة؛ وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة لهم، وضربوهم بأرحامهم، وأخبروهم بدخولهم معهم في عقدهم وعهدهم، وذهاب خزاعة إلى محمدٍ في عقده وعهده، فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً إلا أبا سفيان، لم يشاور في ذلك ولم يعلم؛ ويقال: إنهم ذاكروه فأبى عليهم. وجعلت بنو نفاثة وبكر يقولون: إنما نحن! فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال ودسوا ذلك سراً لئلا تحذر خزاعة، فهم آمنون غارون بحال الموادعة وما حجز الإسلام بينهم. ثم اتعدت قريش الوتير موضعاً بمن معها، فوافوا للميعاد، فيهم رجالٌ من قريش من كبارهم متنكرون متنقبون؛ صفوان بن أمية، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وحويطب بن عدب العزى، وأجلبوا معهم أرقاءهم، ورأس بني بكر نوفل بن معاوية الدؤلي؛ فبيتوا خزاعة ليلاً وهم غارون آمنون من عدوهم، ولو كانوا يخافون هذا لكانوا على حذرٍ وعدةٍ، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم، فقالوا: يا نوفل، إلهك، إلهك! قد دخلت الحرم! قال: لا إله لي اليوم، يا بني بكر! قد كنتم تسرقون الحاج، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم؟ لا يريد أحدكم يأتي امرأته حتى يستأذني، لا يؤخر أحدٌ منك اليوم بعد يومه هذا من ثأره. فلما انتهت خزاعة إلى الحرم، دخلت دار بديل بن ورقاء ودار رافع الخزاعيين وانتهوا بهم في عماية الصبح، ودخلت رؤساء قريش في منازلهم وهم يظنون ألا يعرفوا، وألا يبلغ هذا محمداً صلى الله عليه وسلم.
حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال: قتلوا منهم عشرين رجلاً، وحضروا خزاعة في دار رافع وبديل، وأصبحت خزاعة مقتلين على باب بديل - ورافع مولى لخزاعة. وتنحت قريش وندموا على ما صنعوا، وعرفوا أن هذا الذي صنعوا نقض للمدة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الحارث بن هشام، قال: وجاء الحارث بن هشام وابن أبي ربيعة إلى صفوان بن أمية، وإلى سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فلاموهم فيما صنعوا من عونهم بني بكر، وأن بينكم وبين محمد مدة، وهذا نقضٌ لها. وانصرف ذلك القوم ودسوا إلى نوفل بن معاوية، وكان الذي ولى كلامه سهيل بن عمرو، فقال: قد رأيت الذي صنعنا بك وأصحابك وما قتلت من القوم، وأ،ت قد حضرتهم تريد قتل من بقي منهم، وهذا ما لا نطاوعك عليه فاتركهم لنا. قال: نعم. فتركهم فخرجوا. فقال ابن قيس الرقيات يذكر سهيل بن عمرو:
خالط أخواله خزاعة لما ... كثرتهم بمكة الأحياء
وقال في ذلك ابن لعط الديلي :
ألا هل أتى قصوى العشيرة أننا ... رددنا بني كعبٍ بأفوق ناصل
حبسناهم في دارة العبد رافعٍ ... وعند بديلٍ محبساً غير طائل
حبسناهم حتى إذا طال يومهم ... نفخنا لهم من كل شعبٍ بوابل
ذبحناهم ذبح التيوس كأننا ... أسودٌ تبارى فيهم بالقواصل
قال: ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان فقالا: هذا أمرٌ لابد له من أن يصلح؛ والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه! قال أبو سفيان: قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها وخفت من شرها. فقال القوم: ما هي؟ قال: رأت دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة ملياً، ثم كان ذلك الدم لم يكن، فكره القوم هذا، وقالوا: هذا شرٌّ.
فحدثني مجمع بن يعقوب، عن أبيه، قال: لما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال: هذا والله أمرٌ لم أشهده ولم أغب عنه، لا حمل هذا إلا علي؛ ولا والله ما شوورت ولا هويت حيث بلغن! والله ليغزونا محمدٌ إن صدقني ظني وهو صادقي، وما لي بدٌّ أن آتي محمداً فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر. فقالت قريش: قد والله أصبت الرأي! وندمت قريش على ما صنعت من عون بني بكرٍ على خزاعة، وعرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدعهم حتى يغزوهم. فخرج أبو سفيان، وخرج معه مولىً له على راحلتين، فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عبد الله: وقد سمعنا وجهاً من أمر خزاعة لم أر عليه الناس قبلنا ولا يعرفونه، وقد رواه ثقةٌ، ومخرجه الذي رد إليه ثقةٌ مقنعٌ، فلم أر أحداً يعرف له وجهاً! إلا أن الناس قبلنا ينفونه ويقولون: لم يكن؛ وذكرته لابن جعفر ومحمد بن صالح ولأبي معشر وغيرهم ممن له علم بالسرية فكلهم ينكره ولا يأتي له بوجهٍ.
وكان أول الحديث، أنه حدثني الثقة عندي، أنه سمع عمرو بن دينار، يخبر عن ابن عمر، أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بمن قتل منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن تهمتكم وظنتكم؟ قالوا: بنو بكر. قال: كلها؟ قالوا: لا، ولكن تهمتنا بنو نفاثة قصرةً، ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي. قال: هذا بطنٌ من بني بكر وأنا باعثٌ إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال. فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث خلال، بين أن يدوا خزاعة أو يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء. فأتاهم ضمرة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبرهم بالذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذوا إليهم على سواء. فقال قرطة بن عبد عمرو الأعجمي: أما أن ندي قتلى خزاعة؛ فإن نفاثة قوم فيهم عرامٌ فلا نديهم حتى لا يبقى لنا سبدٌ ولا لبدٌ ، وأما أن نبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة في العرب تحج هذا البيت أشد تعظيماً لهذا البيت من نفاثة، وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم، ما بقي لنا سيدٌ ولا لبدٌ ، ولكنا ننبذ إليه على سواء. فرجع ضمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك من قولهم، فبعثت قريش أبا سفيان بن حرب تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجدد العهد، وندمت قريش على رد الرسول بما ردوه.
قال أبو عبد الله: فكل أصحابنا أننكروا هذا الحديث. وقال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنقاب وعمى عليهم الأخبار حتى دخلها فجاءةً - حتى ذكرت هذا الحديث لحزام بن هشام الكعبي فقال: لم يضيع الذي حدثك شيئاً، ولكن الأمر على ما أقول لك - ندمت قريش على عون نفاثة وقالوا: محمدٌ غازينا! قال عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وهو عندهم يومئذٍ كافرٌ مرتدٌ - إن عندي رأياً؛ أن محمداً لن يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيركم في خصالٍ كلها أهون عليكم من غزوه. قالوا: ما هي؟ قال: يرسل أن أدوا قتلى خزاعة وهم ثلاثة وعشرون قتيلاً، أو تبرأوا من حلف من نقض العهد بيننا - بنو نفاثة - أو ننبذ إليكم الحرب ؛ فما عندكم في هذه الخصال؟ قال القوم: آخر ما قال ابن أبي السرح! وقد كان به عالماً. فقال سهيل بن عمرو: ما خصلةٌ أيسر علينا من التبرؤ من حلف بني نفاثة. قال شيبة ابن عثمان العبدري: حفظت أخوالك وغضبت لهم! قال سهيل: وابو قريش لم تلده خزاعة. قال شيبة: لا، ولكنا ندي قتلى خزاعة، فهو أهون علينا. فقال قرطة بن عبد عمرو: لا والله، لا يودون ولا نبرأ من حلف نفاثة، ابن الغوث بنا وأعمدة لشدتنا، ولكن ننبذ إليه على سواء! فقال أبو سفيان: ما هذا بشيء! وما الرأي لنا إلا جحد هذا الأمر، أن تكون قريش دخلت في نقض عهدٍ وقطع مدة، فإن قطعه قومٌ بغير هوىً منا ولا مشورة فما علينا. قالوا: هذا الرأي، لا رأي غيره؛ الجحد لكل ما كان من ذلك! قال: وإني لم أشهده ولم أوامر فيه، وأنا في ذلك صادقٌ؛ لقد كرهت ما صنعتم وعرفت أن سيكون له يوم عماس . قالت قريش لأبي سفيان: واخرج أنت بذلك! حتى خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله: فذكرت حديث حزام لابن جعفر وغيره من أصحابنا فلم ينكروه، وقالوا: هذا وجهه! وكتبه مني عبد الله بن جعفر.
حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: قد حرت في أمر خزاعة. قال ابن واقد: فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أترى قريشاً تجترىء على نقض العهد بينكم وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينقضون العهد لأمرٍ يريده الله تعالى بهم. قالت عائشة: خيرٌ أو شرٌّ يا رسول الله؟ قال: خيرٌ! فحدثني حزام بن هشام بن خالد الكعبي، عن أبيه، قال: وخرج عمرو ابن سالم الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بالذي أصابهم وما ظاهرت عليه قريش - فأعانوهم بالرجال والسلاح والكراع، وحضر ذلك صفوان بن أمية في رجالٍ من قومهم متنكرين، فقتلوا بأيديهم - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجد في أصحابه؛ ورأس خزاعة عمرو بن سالم، وقام ينشد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمع منه فقال:
اللهم إني ناشدٌ محمدا ... حلف أبينا وأبيك الأتلدا
قد كنتم ولداً وكنا والدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
فانصر هداك الله نصراً اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... في فيلقٍ كالبحر يجري مزبدا
قرمٌ لقرمٌ من قرومٍ أصيدا ... هم بيتونا بالوتير هجدا
نتلو القران ركعاً وسجدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل ... وأقل عددا
فلما فرع الركب قالوا: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك. فهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، فبلغ أنس بن زنيم، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذراً مما بلغه، فقال:
أأنت الذي تهدى معدٌّ بأمره ... بل الله يهديهم وقال لك اشهد
فما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمةً من محمد
أحث على خيرٍ وأوسع نائلا ... إذا راح يهتز اهتزاز المهند
وأكسى لبرد الخال قبل اجتذابه ... وأعطى برأس السابق المتجرد
تعلم رسولالله أنك مدركي ... وأن وعيداً منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادرٌ ... على كل سكنٍ من تهامٍ ومنجد
ونبي رسول ا أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي
سوى أنني قد قلت يا ويح فتيةٍ ... أصيبوا بنحسٍ يوم طلقٍ وأسعد
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاءً فعزت عبرتي وتبلدي
ذؤيبٌ وكلثومٌ وسلمى تتابعوا ... جميعاً فإلا تدمع العين أكمد
على أن سلمى ليس فيهم كمثله ... وإخوته أو هل ملوكٌ كأعبد
وإني لا عرضاً خرقت ولا دماً ... هرقت ففكر عالم الحق واقصد
أنشدنيها حزام. وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته واعتذاره، وكلمه نوفل بن معاوية الديلي فقال: يا رسول الله، أنت أولى الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ويؤذك، ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك من الهلكة، وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك. فقال: دع الركب، فإنا لم نجد بتهامة أحداً من ذي رحمٍ ولا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة. فأسكت نوفل بن معاوية، فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عفوت عنه. قال نوفل: فداك أبي وأمي! وحدثني عبد الحميد بن جعفر بن عمران بن أبي أنس؛ عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر طرف ردائه، وهو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي!
وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول: " جدد العهد وزد في الهدنة " وهو راجعٌ بسخطه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم وأصحابه: راجعوا وتفرقوا في الأودية! وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على عائشة وهو مغضب، فدعا بماءٍ فدخل يغتسل. قالت عائشة: فأسمعه يقول وهو يصب الماء عليه: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب! وخرج أبو سفيان من مكة وهو متخوف الذي صنع عمرو بن سالم وأصحابه أن يكونوا جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان القوم لما أتوا الأبواء راجعين تفرقوا، وذهبت طائفةٌ إلى الساحل تعارض الطريق، ولزم بديل بن أم أصرم في نفيرٍ معه الطريق، فلقيه أبو سفيان، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء محمداً، بل كان اليقين عنده، فقال للقوم: أخبروني عن يثرب، منذ كم عهدكم بها؟ فقالوا: لا علم لنا بها. فعرف أنهم كتموه، فقال: أما معكم من تمر يثرب شيءٌ تطعموناه؟ فإن لتمر يثرب فضلاً على تمر تهامة. قالوا: لا. قال: ثم أبت نفسه أن تقره حتى قال: يا بديل، هل جئت محمداً؟ قال: لا! ما فعلت، ولكني سرت في بلاد كعب وخزاعة من هذا الساحل في قتيلٍ كان بينهم، فأصلحت بينهم. قال: يقول أبو سفيان: إنك والله - ما علمت - برٌّ واصلٌ. ثم قايلهم أبو سفيان حتى راح بديل وأصحابه، ثم جاء منزلهم ففت أبعار أباعرهم فوجد فيها نوىً، ووجد في منزلهم نوىً من تمر عجوة كأنها ألسنة الطير، فقال أبو سفيان: أحلف بالله لقد جاء القوم محمداً! وكان القوم لما كانت الوقعة خرجوا من صبح ذلك اليوم، فساروا إلى حيث لقيهم أبو سفيان ثلاثاً.
وكانت بنو بكر قد حبست خزاعة في دار بديل ورافع ثلاثة أيام لم يكلموا فيهم، وائتمرت قريش أن يخرج أبو سفيان، فأقام يومين ثم خرج، فهذا خمس بعد مقتل خزاعة. وأقبل أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إني كنت غائباً في صلح الحديبية، فاشدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان قبلكم حدثٌ؟ قال: معاذ الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية، لا نغير ولا نبدل. ثم قام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته دونه، فقال: أرغبت بهذا الفراش عني أو بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤٌ نجسٌ مشرك! قال: يا بنية، لقد أصابك بعلمك شرٌّ! قالت: هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام، وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر؟ قال: يا عجباه، وهذا منك أيضاً؟ أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمدٍ؟ ثم قام من عندها فلقي أبا بكر الصديق رضي الله عنه فكلمه وقال: تكلم محمداً وتجير أنت بين الناس؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لقي عمر رضي الله عنه فكلمه بمثل ما كلم به أبو بكر، فقال عمر: والله، لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم! قال أبو سفيان: جزيت من ذي رحمٍ شراً. ثم دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: إنه ليس في القوم أحدٌ أقرب بي رحماً منك، فزد في الهدنة وجدد العهد؛ فإن صاحبك لن يرده عليك أبداً؛ والله ما رأيت رجلاً قط أكثر إكراماً لصاحبٍ من محمدٍ لأصحابه! قال عثمان رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: دخل على فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمها فقال: أجيري بين الناس! فقالت: إنما أنا امرأة. قال: إن جوارك جائزٌ، قد أجازت أختك أبا العاص بن الربيع، فأجاز ذلك محمدٌ. قالت فاطمة: ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأبت ذلك عليه. فقال: مري أحد بنيك يجير بين الناس! قالت: إنهما صبيان، وليس مثلهما يجير. فلما أبت عليه أتى علياً رضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن، أجر بين الناس وكلم محمداً يزيد في المدة! قال علي ويحك يا أبا سفيان! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم ألا يفعل، وليس أحدٌ يستطيع أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيءٍ يكرهه. قال أبو سفيان: فما الرأي؟ يسر لي أمري ، فإنه قد ضاق علي، فمر لي بأمرٍ ترى أنه نافعي! فقال علي رضي الله عنه: ما أجد لك شيئاً أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس، فإنك سيد كنانة. قال: ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال علي رضي الله عنه: لا أظن ذلك والله، ولكني لا أجد لك غيره. فقام بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس، ولا أظن محمداً يخفرني! ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، ما أظن أن ترد جواري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! حدثني ابن أبي حبيبة، عن واقد عن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: جاء أبو سفيان إلى سعد بن عبادة فقال: يا أبا ثابت، قد عرفت الذي كان بيني وبينك، وأني قد كنت لك في حرمنا جاراً، وكنت لي بيثرب مثل ذلك، وأنت سيد هذه البحرة ، فأجر بين الناس ورد في المدة. فقال سعد: يا أبا سفيان، جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجير أحدٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال: خرج أبو سفيان على أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! يقال: لما صاح لم يقرب النبي صلى الله عليه وسلم، وركب راحلته وانطلق إلى مكة، وكان قد حبس وطالت غيبته، وكانت قريش قد اتهمته حين أبطأ أشد التهمة وقالوا: والله إنا نراه قد صبأ، واتبع محمداً سراً وكتم إسلامه. فلما دخل على هندٍ ليلاً قالت: لقد حبست حتى اتهمك قومك، فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجحٍ فأنت الرجل! ثم دنا منها فجلس مجلس الرجل من المرأة، فجعلت تقول: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما قال لي عليٌّ. فضربت برجليها في صدره، وقالت: قبحت من رسول قوم! حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، قال: فلما أصبح حلق رأسه عند الصنمين، إساف ونائلة، وذبح لهما، وجعل يمسح بالدم رءوسهما، ويقول: لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي! أبرأ لقريش مما اتهموه.
وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: وقالت له قريش: ما وراءك؟ هل جئتنا بكتاب من محمد، أو زيادة في مدة؟ ما نأمن أن يغزنا! فقال: والله لقد أبى علي، ولقد كلمت علية أصحابه فما قدرت على شيءٍ منهم، إلا أنهم يرمونني بكلمةٍ واحدة؛ إلا أن علياً قد قال لما ضاقت بي الأمور: أنت سيد كنانة، فأجر بين الناس! فناديت بالجوار ثم دخلت على محمد فقلت: إني قد أجرت بين الناس، وما أظن أن ترد جواري. فقال محمد: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! لم يزدني على ذلك. قالوا: ما زاد على أن تلعب بك تلعباً! قال: والله ما وجدت غير ذلك.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: لما ولي أبو سفيان راجعاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: جهزينا وأخفي أمرك! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم خذ على قريشٍ الأخبار والعيون حتى نأتيهم بغتةً. ويقال قال: اللهم خذ على قريشٍ أبصارهم فلا يروني إلا بغتةً، ولا يسمعون بي إلا فجأةً. قالوا: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنقاب، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف على الأنقاب قيماً بهم فيقول: لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه - وكانت الأنقاب مسلمة - إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه، أو ناحية مكة.
قالوا: فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعمل قمحاً سويقاً ودقيقاً وتمراً، فدخل عليها أبو بكر فقال: يا عائشة، أهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوٍ؟ قالت: ما أدري. قال: إن كان رسول الله هم بسفرٍ فآذنينا نتهيأ له. قالت: ما أدري، لعله يريد بني سليم، لعله يريد ثقيفاً، لعله يريد هوازن! فاستعجمت عليه حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو بكر: يا رسول الله، أردت سفراً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: أفأتجهز؟ قال: نعم. قال أبو بكر: وأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشاً، وأخف ذلك يا أبا بكر! وأمر رسول الله بالجهاز، قال: أو ليس بيننا وبينهم مدةٌ؟ قال: إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم. وقال لأبي بكر: اطو ما ذكرت لك! فظانٌّ يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام، وظانٌّ يظن ثقيفاً، وظانٌّ يظن هوازن. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفرٍ إلى بطن إضم ليظن ظانٌّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار.
حدثني عبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، عن اب أبي حدرد، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بطن إضم، أميرنا أبو قتادة في تلك السرية وفيها محلم بن جثامة الليثي وأنا فيهم، فبينا نحن ببعض وادي إضم إذ مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، وسلبه بعيراً له ومتاعاً ووطباً من لبنٍ كان معه، فلما لحقنا النبي صلى الله عليه وسلم نزل فينا القرآن " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا.. " الآية. فانصرف القوم ولم يلقوا جمعاً حتى انتهوا إلى ذي خشب فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة، فأخذوا على بين حتى لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالسقيا.
حدثني المنذر بن سعد، عن يزيد بن رومان، قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى قريش، وعلم بذلك الناس، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأعطى الكتاب امرأةً من مزينة، وجعل لها جعلاً على أن توصله قريشاً، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها، فخرجت. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والزبير فقال: أدركا امرأةً من مزينة، قد كتب معها حاطب كتاباً يحذر قريشاً فخرجا فأدركاها بالخليفة، فاستنزلاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا شيئاً، فقالا لها: إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك! فلما رأت منهما الجد قالت: أعرضا عني! فأعرضها عنها، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب فدفعته إليهما، فجاءا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، إني لمؤمنٌ بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت! ولكني كنت امرءاً ليس لي في القوم أصلٌ ولا عشيرةٌ، وكان لي بين أظهرهم أهلٌ وولدٌ فصانعتهم. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قاتلك الله! ترى رسول الله يأخذ بالأنقاب وتكتب الكتب إلى قريش تحذرهم. دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد نافق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع يوم بدرٍ على أهل بدرٍ. فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم! وأنزل الله عز وجل في حاطب: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة.. " إلى آخر الآية.
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كتب حاطب إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل: " إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يدٌ بكتابي إليكم " . ودفع الكتاب إلى امرأةٍ من مزينة من أهل العرج يقال لها كنود، وجعل لها ديناراً على أن تبلغ الكتاب، وقال: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فإن عليها محرساً. فسلكت على غير نقب، عن يسار المحجة في الفلوق ، حتى لقيت الطريق بالعقيق.
حدثني عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرة بن سعد، قال: هي سارة؛ جعل لها عشرة دنانير.
قالوا: فما أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم الغزو، أرسل إلى أهل البادية وإلى من حوله من المسلمين، يقول لهم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة. وبعث رسولاً في كل ناحيةٍ حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع. وبعث إلى بني سليم، فأما بنو سليم فلقيته بقديد؛ وأما سائر العرب فخرجوا من المدينة.
قال: وحدثني سعيد بن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن جده، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بن حارثة، وهند بن حارثة إلى أسلم يقولان لهم: إن رسول الله يأمركم أن تحضروا رمضان بالمدينة. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جندباً ورافعاً ابني مكيث إلى جهينة يأمرهم أن يحضروا رمضان بالمدينة؛ وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماء بن رخصة وابا رهم كلثوم بن الحصين إلى بني الحصين إلى بني غفار وضمرة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أشجع معقل بن سنان، ونعيم بن مسعود؛ وبعث إلى مزينة بلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو المزني؛ وبعث إلى بني سليم الحجاج بن علاط السلمي، ثم البهزي ، وعرباض بن سارية؛ وبعث إلى بني كعب بني عمرة بشر بن سفيان وبديل بن ورقاء، فلقيه بنو كعب بقديد وخرج معه من بني كعب من كان بالمدينة. وعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر أبي عنبة، وعقد الألوية والرايات؛ فكان في المهاجرين ثلاث رايات - رايةٌ مع الزبير، ورايةٌ مع علي رضي الله عنه، ورايةٌ مع سعد بن أبي وقاص. وكان في الأوس بني عبد الأشهل رايةٌ مع أبي نائلة، وفي بني ظفر رايةٌ مع قتادة بن النعمان، وفي بني حارثة رايةٌ مع أبي بردة بن نيار، وفي بني معاوية راية مع جبر بن عتيك، وفي بني خطمة رايةٌ مع أبي لبابة بن عبد المنذر، وفي بني أمية رايةٌ مع مبيض - قال ابن حيويه: نبيض في كتاب أبي حية، فتركته أنا على ما هناك مبيض. وفي بني ساعدة رايةٌ مع أبي أسيد الساعدي، وفي بني الحارث بن الخزرج رايةٌ مع عبد الله بن زيد، وفي بني سلمة رايةٌ مع قطبة ابن عامر بن حديدة، وفي بني مالك بن النجار رايةٌ مع عمارة بن حزم، وفي بني مازن رايةٌ مع سليط بن قيس، وفي بني دينار رايةٌ يحملها . وكان المهاجرون سبعمائة، ومعهم من الخيل ثلثمائة فرس؛ وكانت الأنصار أربعة آلاف، معهم من الخيل خمسمائة؛ وكانت مزينة ألفاً، فيها من الخيل مائة فرس ومائة درع، وفيها ثلاثة ألوية؛ لواءٌ مع النعمان بن مقرن، ولواءٌ مع بلال بن الحارث، ولواءٌ مع عبد الله بن عمرو. وكانت أسلم أربعمائة، فيها ثلاثون فرساً، ولواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب والآخر ناجية بن الأعجم. وكانت جهينة ثمانمائة، معها من الخيل خمسون فرساً، فيها أربعة ألوية، لواءٌ مع سويد بن صخر، ولواءٌ مع ابن بكيث، ولواءٌ مع أبي زرعة، ولواءٌ مع عبد الله بن بدر. وكانت بنو كعب ابن عمرو خمسمائة، فيهم ثلاثة ألوية، لواءٌ مع بشر بن سفيان، ولواءٌ مع ابن شريح، ولواءٌ مع عمرو بن سالم، ولم يكن خرج معه من المدينة، لقيه قومه بقديد.
قال: حدثني عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن، قال: لم يعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الألوية والرايات حتى انتهى إلى قديد، ثم جعل رايات المهاجرين والأنصار على ما ذكرنا. وقال: كانت راية أشجع مع عوف بن مالك. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لعشرٍ خلون من رمضان بعد العصر، فما حل عقدةً حتى انتهى إلى الصلصل . وخرج المسلمون وقادوا الخيل وامتطوا الإبل، وكانوا عشرة آلاف. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه الزبير بن العوام، في مائتين من المسلمين، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيداء - قال: فحدثني يحيى بن خالد بن دينار، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس قال: وحدثني داود بن خالد، عن المقبري، عن أبي هريرة، قالا - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة فنادى مناديه: من أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر! وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وحدثني مالك بن أنس، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث، عن رجل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه ووجهه من العطش.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله، قال: لما كنا بالكديد بين الظهر والعصر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إناءً من ماءٍ في يده حتى رآه المسلمون، ثم أفطر تلك الساعة. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوماً صاموا فقال: أولئك العصاة! وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم! قال ذلك بمر الظهران. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم العرج، والناس لا يدرون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى قريش، أو إلى هوازن، أو إلى ثقيف! فهم يحبون أن يعلموا، فجلس في أصحابه بالعرج وهو يتحدث، فقال كعب بن مالك: آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلم لكم علم وجهه. فجاء كعب فبرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، ثم قال :
قضينا من تهامة كل ريبٍ ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نسائلها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فلست لحاضر إن لم تروها ... بساحة داركم منها ألوفا
فننتزع الخيام ببطن وجٍّ ... ونترك دورهم منهم خلوفا
أنشدنيها أيوب بن النعمان، عن أبيه. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزد على ذلك. فجعل الناس يقولون: والله ما بين لك رسول الله شيئاً، ما ندري بمن يبدى، بقريش أو ثقيف أو هوازن.
قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقديد قيل: هل لك في بيض النساء وأدم الإبل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرمها علي بصلة الرحم ووكزهم في لبات الإبل.
قال: حدثني الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله حرمهم علي ببر الوالد ووكزهم في لبات الإبل.
قال: وحدثني قران بن محمد، عن عيسى بن عميلة الفزاري، قال: كان عيينة في أهله بنجد فأتاه الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد وجهاً، وقد تجمعت العرب إليه، فخرج في نفر من قومه حتى قدم المدينة، فيجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج قبله بيومين، فسلك عن ركوبه فسبق إلى العرج، فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم العرج أتاه فقال: يا رسول الله، بلغني خروجك ومن يجتمع إليك فأقبلت سريعاً ولم أشعر فأجمع قومي فيكون لنا جلبة كثيرة، ولست أرى هيأة حرب، لا أرى ألويةً ولا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيأة الإحرام! فأين وجهك يا رسول الله؟ قال: حيث يشاء الله. وذهب وسار معه، ووجد الأقرع بن حابس بالسقيا، قد وافاها في عشرة نفرٍ من قومه، فساروا معه، فلما نزل قديد عقد الألوية وجعل الرايات. فلما رأى عيينة القبائل تأخذ الرايات والألوية عض على أنامله، فقال أبو بكر: علام تندم؟ قال: على قومي ألا يكونوا نفروا مع محمد، فأين يريد محمد يا أبا بكر؟ قال: حيث يشاء الله. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ مكة بين الأقرع وعيينة.
قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرج، فكان فيما بين العرج والطلوب ، نظر إلى كلبةٍ تهر على أولادها وهم حولها يرضعونها، فأمر رجلاً من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها، لا يعرض لها أحدٌ من الجيش ولأولادها.
قال: حدثني معاذ بن محمد، عن عبد الله بن سعد، قال: لما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرج تقدمت أمامه جريدة من خيلٍ طليعة، تكون أمام المسلمين، فلما كانت بين العرج والطلوب أتوا بعينٍ من هوازن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، رأيناه حين طلعنا عليه وهو على راحلته، فتغيب عنا في وهدةٍ ، ثم جاء فأوفى على نشزٍ فقعد عليه، فركضنا إليه فأراد يهرب منا، وإذا بعيره قد عقله أسفل من النشز وهو يغيبه، فقلنا: ممن أنت؟ قال: رجلٌ من بني غفار. فقلنا: هم أهل هذا البلد. فقلنا: من أي بني غفار أنت؟ فعيى ولم ينفذ لنا نسباً، فازددنا به ريبةً وأسأنا به الظن، فقلنا: فأين أهلك؟ قال: قريباً! وأومأ بيده إلى ناحية. قلنا: على أي ماءٍ، ومن معك هنالك؟ فلم ينفذ لنا شيئاً، فلما رأينا ما خلط قلنا: لتصدقنا أو لنضربن عنقك! قال: فإن صدقتكم ينفعني ذلك عندكم؟ قلنا: نعم. قال: فإني رجلٌ من هوازن من بني نضر، بعثني هوازن عيناً. وقالوا: ائت المدينة حتى تلقى محمداً فتستخبر لنا ما يريد في أمر حلفائه، أيبعث إلى قريش بعثاً أو يغزوهم بنفسه، ولا نراه غلا يستغورهم، فإن خرج سائراً أو بعث بعثاً فسر معه حتى تنتهي إلى بطن سرف، فإن كان يريدنا أولاً فيسلك في بطن سرف حتى يخرج إلينا، وإن كان يريد قريشاً فسيلزم الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأين هوازن؟ قال: تركتهم ببقعاء وقد جمعوا الجمعوع، وأجلبوا في العرب، وبعثوا إلى ثقيفٍ فأجابتهم، فتركت ثقيفاً على ساقٍ قد جمعوا الجموع، وبعثوا إلى الجرش في عمل الدبابات والمنجنيق، وهم سائرون إلى جمع هوازن فيكونون جمعاًز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإلى من جعلوا أمرهم؟ قال: إلى فتاهم مالك بن عوف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكل هوازن قد أجاب إلى ما دعا إليه مالك؟ قال: قد أبطأ من بني عامر أهل الجد والجلد. قال: من؟ قال: كعبٌ وكلابٌ. قال: ما فعلت هلال؟ قال: ما أقل من ضوى إليه منهم، وقد مررت بقومك أمس بمكة وقد قدم عليهم أبو سفيان بن حرب فرأيتهم ساخطين لما جاء به، وهم خائفون وجلون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، ما أراه إلا صدقني! قال الرجل: فلينفعني ذلك؟ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يحبسه، وخافوا أن يتقدم ويحذر الناس، فلما نزل العسكر مر الظهران أفلت الرجل، فطلبه خالد بن الوليد فأخذه عند الأراك ، وقال: لولا وليت عهداً لك لضربت عنقك. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به يحبس حتى يدخل مكة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفحتها أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن فقتل بأوطاس .
قال: حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عبد الرحمن بن سابط وغيره، قال كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعته حليمة أياماً، وكان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له ترباً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه عدواةً لم يعاد أحدٌ قط، ولم يكن دخل الشعب، وهجا رسول الله، وهجا أصحابه، وهجا حسان فقال:
ألا مبلغٌ حسان عني رسالةً ... فخلتك من شر الرجال الصعاليك
أبوك أبو سوءٍ وخالك مثله ... فلست بخيرٍ من أبيك وخالك
فقال المسلمون لحسان: اهجه! قال: لا أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف آذن لك في ابن عمي أخي أبي؟ قال: أسلك منه كما تسل الشعرة من العجين. فقال حسان شعراً، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذاكر أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعض ذلك، فذاكره. قال: فمكث أبو سفيان عشرين سنة عدواً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يهجو المسلمين ويهجونه، ولا يتخلف عن موضعٍ تسير فيه قريش لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله ألقى في قلبه الإسلام. قال أبو سفيان، فقلت: من أصحب ومع من أكون؟ قد ضرب الإسلام بجرانه ! فجئت زوجتي وولدي، فقلت: تهيأوا للخروج فقد أظل قدوم محمد عليكم. قالوا: قد آن لك تبصر أن العرب والعجم قد تبعت محمداً وأنت موضعٌ في عداوته، وكنت أولى الناس بنصره! فقلت لغلامي مذكور: عجل بأبعرةٍ وفرس. قال: ثم سرنا حتى نزلنا الأبواء، وقد نزلت مقدمته الأبواء، فتنكرت وخفت أن أقتل، وكان قد هدر دمي؛ فخرجت، وأجد ابني جعفر على قدمي نحواً من ميل، في الغداة التي صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الأبواء، فأقبل الناس رسلاً رسلاً ، فتنحيت فرقاً من أصحابه؛ فلما طلع مركبه تصديت له تلقاء وجهه، فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى، وأعرض عني مراراً، فأخذني ما قرب وما بعد، وقلت: أنا مقتول قبل أن أصل إليه. وأتذكر بره ورحمته وقرابتي فيمسك ذلك مني، وقد كنت لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سيفرحون بإسلامي فرحاً شديداً؛ لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المسلمون إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عني أعرضوا عني جميعاً، فلقيني ابن أبي قحافة معرضاً، ونظرت إلى عمر ويغري بي رجلاً من الأنصار، فألز بي رجلٌ يقول: يا عدو الله، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتؤذي أصحابه، قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته! فرددت بعض الرد عن نفسي، فاستطال علي، ورفع صوته حتى جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي. قال: فدخلت على عمي العباس فقلت: يا عباس، قد كنت أرجو أن سيفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي وشرفي، وقد كان منه ما كان رأيت، فكلمه ليرضى عني! قال: لا والله، لا أكلمه كلمةً فيك أبداً بعد الذي رأيت منه إلا أن أرى وجهاً، إني أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهابه. فقلت: يا عمي إلى من تكلني؟ قال: هو ذاك. قال: فلقيت علياً رحمة الله عليه فكلمته فقال لي مثل ذلك، فرجعت إلى العباس فقلت: يا عم فكف عني الرجل الذي يشتمني. قال: صفه لي. فقلت: هو رجلٌ آدم شديد الأدمة، قصير، دحداد ، بين عينيه شجة. قال: ذاك نعمان بن الحارث النجاري. فأرسل إليه، فقال: يا نعمان، إن ابا سفيان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أخي، وإن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخطاً فسيرضى، فكف عنه، فبعد لأيٍ ما كف. وقال: لا أعرض عنه. قال أبو سفيان: فخرجت فجلست على باب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج إلى الجحفة، وهو لا يكلمني ولا أحدٌ من المسلمين. وجعلت لا ينزل منزلاً إلا أنا على بابه ومعي ابني جعفر قائم، فلا يراني إلا أعرض عني، فخرجت على هذه الحال حتى شهدت معه فتح مكة وأنا على حيلة تلازمه حتى هبط من أذاخر حتى نزل الأبطح ، فدنون من باب قبته فنظر إلي نظراً هو ألي من ذلك النظر الأول، قد رجوت أن يتبسم، ودخل عليه نساء بني المطلب، ودخلت معهن زوجتي فرققته علي. وخرج إلى المسجد وأنا بين يديه لا أفارقه على حالٍ حتى خرج إلى هوازن، فخرجت معه، وقد جمع العرب جمعاً لم يجمع مثله قط، وخرجوا بالنساء والذرية والماشية، فلما لقيتهم قلت: اليوم يرى أثري إن شاء الله، ولما لقيتهم حملوا الحملة التي ذكر الله: " ثم وليتم مدبرين " . وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء وجرد سيفه، فأقتحم عن فرسي وبيدي السيف صلتاً، قد كسرت جفنه، والله أعلم أني أريد الموت دونه وهو ينظر إلي، فأخذ العباس بن عبد المطلب بلجام البغلة، فأخذت بالجانب الآخر، فقال: من هذا؟ فذهبت أكشف المغفر، فقال العباس: يا رسول الله، أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث! فارض عنه، أي رسول الله! قال: قد فعلت، فغفر الله
كل عداوةٍ عادانيها! فأقبل رجله في الركاب، ثم التفت إلي فقال: أخي لعمري! ثم أمر العباس فقال: ناد يا أصحاب البقرة ! يا أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار يا للخزرج! فأجابوا: لبيك داعي الله! وكروا كرة رجلٍ واحد، قد حطموا الجفون، وشرعوا الرماح، وخفضوا عوالي الأسنة، وأرقلوا إرقال الفحول؛ فرأيتني وإني لأخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدم فضارب القوم! فحملت حملةً أزلتهم عن موضعهم، وتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قدماً في نحور القوم، ما نالوا ما تقدم، فما قامت لهم قائمة حتى طردتهم قدر فرسخ، وتفرقوا في كل وجهٍ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه على الطلب، فبعث خالد بن الوليد على وجهٍ، وبعث عمرو بن العاص في وجهٍ، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكرٍ بأوطاس فقتل، وقتل أبو موسى قاتله .كل عداوةٍ عادانيها! فأقبل رجله في الركاب، ثم التفت إلي فقال: أخي لعمري! ثم أمر العباس فقال: ناد يا أصحاب البقرة ! يا أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار يا للخزرج! فأجابوا: لبيك داعي الله! وكروا كرة رجلٍ واحد، قد حطموا الجفون، وشرعوا الرماح، وخفضوا عوالي الأسنة، وأرقلوا إرقال الفحول؛ فرأيتني وإني لأخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدم فضارب القوم! فحملت حملةً أزلتهم عن موضعهم، وتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قدماً في نحور القوم، ما نالوا ما تقدم، فما قامت لهم قائمة حتى طردتهم قدر فرسخ، وتفرقوا في كل وجهٍ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه على الطلب، فبعث خالد بن الوليد على وجهٍ، وبعث عمرو بن العاص في وجهٍ، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكرٍ بأوطاس فقتل، وقتل أبو موسى قاتله .
قال أبو عبد الله: وقد سمعت في إسلام أبي سفيان بن الحارث وجهاً آخر، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وعبد الله بن أبي أمية بنيق العقاب ، فطلبنا الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى يدخلهما عليه، فكلمته أم سلمة زوجته فقالت: يا رسول الله، صهرك وابن عمتك وابن عمك وأخوكم من الرضاعة! وقد جاء الله بهما مسلمين، لا يكونان أشقى الناس بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لي بهما؛ أما أخي فالقائل لي بمكة ما قال؛ لن يؤمن لي حتى أرقى في السماء! وذلك قول الله عز وجل: " أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه.. " إلى آخر الآية. فقالت: يا رسول الله، إنما هو من قومك ما هو، وقد تكلم وكل قريش قد تكلم ونزل القرآن فيه بعينه، وقد عفوت عمن هو أعظم جرماً منه؛ وابن عمك وقرابته بك، وأنت أحق الناس عفواً من جرمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الذي هتك عرضي، فلا حاجة لي بهما! فلما خرج إليهما الخبر قال أبو سفيان بن الحارث، ومعه ابنه: والله، ليقبلني أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبن في الأرض حتى أهلك عطشاً وجوعاً، وأنت أحلم الناس وأكرم الناس مع رحمي بك. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته فرق له.
وقال عبد الله بن أمية: إنما جئت لأصدقك، ولي من القرابة ما لي والصهر بك. وجعلت أم سلمة تكلمه فيهما، فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما فأذن لهما ودخلا، فأسلما وكانا جميعاً حسني الإسلام؛ قتل عبد الله ابن أبي أمية بالطائف، ومات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة في خلافة عمر لم يغمص عليه في شيءٍ، وكان أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه قبل أن يلقاه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث يوم نيق العقاب: أنت الذي تقول: " طردتني كل مطرد؟ " بل الله طردك كل مطرد. قال أبو سفيان: يا رسول الله، هذا قول قلته بجهالةٍ وأنت أولى الناس بالعفو والحلم. وأما قوله: " وأدعى وإن لم أنتسب من محمد " فإنه هرب وقدم على قيصر ملك الروم، فقال: ممن أنت؟ فانتسب له أبو سفيان ابن الحارث ابن عبد المطلب. قال قيصر: أنت ابن عم محمد إن كنت صادقاً، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قال: قلت: نعم، أنا ابن عمه. فقلت: لا أراني عند ملك الروم وقد هربت من الإسلام، لا أعرف إلا بمحمد! فدخلني الإسلام وعرفت أن ما كنت فيه باطلٌ من الشرك، ولكنا كنا مع قومٍ أهل عقولٍ باسقةٍ ، وارى فاضل الناس يعيش في عقولهم ورأيهم، فسلكوا فجاً فسلكناه. ولما جعل أهل الشرف والسن يقتحمون عن محمدٍ، وينصرون آلهتهم، ويغضبون لآبائهم، فاتبعناهم. ولقيه العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل بالسقيا، فدخل عليه العباس فلم يخرج حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينزل معه في كل منزلٍ حتى دخل مكة. ولما كانت الليلة التي نزل فيها بالجحفة، رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما دنوا من مكة، خرجت عليهم كلبةٌ تهر، فلما دنوا منها استلقت على ظهرها، وإذا أطباؤها تشخب لبناً. فذكرت أبو بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهب كلبهم وأقبل درهم! سائلوكم بأرحامكم، وأنتمن لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه.
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قديداً لقيته سليم، وذلك أنهم نفروا من بلادهم فلقوه، وهم تسعمائة على الخيول جميعاً، مع كل رجلٍ رمحه وسلاحه، وقدم معهم الرسولان اللذان كان أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فذكرا أنهم أسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نزلا عليهم، وحشدوا - ويقال إنهم ألف - فقالت سليم: يا رسول الله، إنك تقصينا وتستغشنا ونحن أخوالك - أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان من بين سليم - فقدمنا يا رسول الله حتى تنظر كيف بلاؤنا، فإنا صبرٌ عند الحرب صدقٌ عند اللقاء، فرسانٌ على متون الخيل. قال: ومعهم لواءان وخمس رايات، والرايات سودٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيروا! فجعلهم مقدمته، وكان خالد بن الوليد على مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم حين لقيته بنو سليم بقديدٍ، حتى نزلوا مر الظهران وبنو سليم معه.
قال: حدثني شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: خرجت بنو سليم تسعمائة على الخيول، والقنا والدروع الظاهرة، قد طووا ألويتهم وراياتهم، وليس معهم لواءٌ ولا رايةٌ معقودة، فقالوا: يا رسول الله، اعقد لنا وضع رايتنا حيث رأيت. فقال: يحمل رايتكم اليوم من كان يحملها في الجاهلية! ما فعل فتى كان قدم مع وفدكم علي، حسن الوجه، جيد اللسان؟ قالوا: توفي حديثاً.
قال: حدثني عكرمة بن فروخ، عن معاوية بن جاهمة بن عباس بن مرداس السلمي، قال: قال عباس: لقيته وهو يسير حتى هبط من المشلل في آلة الحرب، والحديد ظاهرٌ علينا، والخيل تنازعنا الأعنة، فصففنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أبو بكر وعمر، فنادى عيينة من خلفه فقال: أنا عيينة ! هذه بنو سليم، قد حضرت بما ترى من العدة والعدد والسلاح: وإنهم لأحلاس الخيل، ورجال الحرب، ورعاة الحدق . فقال العباس بن مرداس: أقصر أيها الرجل! والله إنك لتعلم لنحن أفرس على متون الخيل، وأطعن بالقنا، وأضرب بالمشرفية منك ومن قومك. فقال عيينة: كذبت ولومت ! لنحن أولى بما ذكرت منك، قد عرفته لنا العرب قاطبةً. فأومأ إليهما النبي صلى الله عليه وسلم بيده حتى سكتا.
واجتمع المسلمون بمر الظهران، ولم يبلغ قريشاً حرفٌ واحدٌ من مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقد اغتموا وهم يخافون يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران عشاءً، أمر أصحابه أن يوقدوا النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار، فأجمعت قريش بعثة أبي سفيان بن حرب يتحسب الأخبار، وقالوا: إن لقيت محمداً فخذ لنا منه جوراً إلا أن ترى رقةً من أصحابه فآذنه بالحرب. فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام، فلقيا بديل بن ورقاء فاستتبعاه فخرج معهما، فلما بلغوا الأراك من مر الظهران رأوا الأبنية والعسكر والنيران، وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الإبل، فأفزعهم ذلك فزعاً شديداً وقالوا: هؤلاء بنو كعب حاشتها الحرب! فقال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب! قالوا: فتنجعت هوازن على أرضنا! والله ما نعرف هذا! إن هذا العسكر مثل حاج الناس! قالوا: وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب. وقد ركب العباس بن عبد المطلب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدلدل، عسى أن يصيب رسولاً إلى قريش يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلٌ عليهم مع عشرة آلاف، فسمع صوت أبي سفيان فقال: أبا حنظلة! فقال أبو سفيان: يا لبيك، أبو الفضل! قال العباس: نعم! قال أبو سفيان: فما وراءك؟ قال العباس: هذا رسول الله في عشرة آلاف من المسلمين، فأسلم، ثكلتك أمك وعشيرتك! ثم أقبل على حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقال: أسلما، فإني لكما جارٌ حتى تنتهوا إلى رسول الله، فإني أخشى أن تقتطعوا دون النبي صلى الله عليه وسلم! قالوا: فنحن معك. قال: فخرج بهم العباس حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه فقال: يا رسول الله، أبو سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، قد أجرتهم وهم يدخلون عليك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلهم. فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام، وقال: تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله! فأما حكيم وبديل فشهدا، وأما أبو سفيان فشهد أن لا إله إلا الله، فلما قال " وأني رسول الله " قال: والله يا محمد، إن في النفس من هذا لشيئاً يسيراً بعد، فأرجئها. ثم قال للعباس: قد أجرناهم، اذهب بهم إلى منزلك. فلما أذن الصبح أذن العسكر كلهم، فلزع أبو سفيان من أذانهم وقال: ما يصنعون؟ قال العباس: فقلت: الصلاة. قال أبو سفيان: كم يصلون في اليوم والليلة؟ قال العباس: يصلون خمس صلوات. قال أبو سفيان: كثيرٌ والله! قال: ثم رآهم يبتدرون وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما رأيت يا أبا الفضل ملكاً هكذا قط، لا ملك كسرى، ولا ملك بني الأصفر! فقال العباس: ويحك، آمن! قال: أدخلني عليه يا أبا الفضل! فأدخله العباس عليه وقال: يا محمد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فلا والله ما لقيتك من مرةٍ إلا ظفرت علي، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً غلبتك! فتشهد أبو سفيان أن محمداً رسول الله. ثم قال أبو سفيان: يا محمد، جئت بأوباش الناس، من يعرف ومن لا يعرف، إلى عشيرتك وأصلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أظلم وأفجر، غدرتم بعهد الحديبية وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه! فقال أبو سفيان: وحيكم يا رسول الله! لو كنت جعلت حدتك ومكيدتك بهوازن، فهم أبعد رحماً وأشد لك عداوةً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو من ربي أن يجمع ذلك لي كله بفتح مكة، وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن! وأن يغنمني الله أموالهم وذراريهم، فإني راغبٌ إلى الله تعالى في ذلك!
قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، قال: سمعت يعقوب بن عتبة يخبر عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب: واصباح قريش! والله لئن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوةً إنه لهلاك قريش آخر الدهر. قال: فأخذت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء فركبتها، وقلت: ألتمس إنساناً أبعثه إلى قريش؛ فيلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها عليهم عنوةً. قال: فوالله إني لفي الأراك أبتغي إنساناً إذ سمعت كلاماً يقول: والله إن رأيت كالليلة من النيران. قال: يقول بديل بن ورقاء: هذه والله خزاعة حاشتها الحرب! قال أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم وعسكرهم. قال: وإذا بأبي سفيان فقلت: أبا حنظلة! فقال: يا لبيك، أبا الفضل - وعرف صوتي - ما لك، فداك أبي وأمي؟ فقلت: ويلك، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف. فقال: بأبي وأمي! ما تأمرني، هل من حيلة؟ قلت: نعم، تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه والله إن ظفربك دون رسول الله، لتقتلن. قال أبو سفيان: وأنا والله أرى ذلك. قال: ورجع بديل وحكيم، ثم ركب خلفي، ثم وجهت به، كلما مررت بنارٍ من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوني قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رآني قام فقال: من هذا؟ فقلت: العباس. قال: فذهب ينظر، فرأى أبا سفيان خلفي فقال: أبو سفيان، عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بلا عهدٍ ولا عقدٍ! ثم خرج نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد، وركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعاً على باب قبة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل عمر على إثري، فقال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله، قد أمكن الله منه بلا عهدٍ ولا عقدٍ، فدعني أضرب عنقه. قال: قلت. يا رسول الله، إني قد أجرته! قال: ثم التزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحدٌ غيري - أو دوني. فلما أكثر عمر فيه قلت: مهلاً يا عمر! فإنه لو كان رجلٌ من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنه أحد بني عبد مناف. فقال عمر: مهلاً، يا أبا الفضل! فوالله لإسلامك كان أحب إلي من غسلام رجلٍ من آل الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به، فقد أجرته لك فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت. فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك، يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إلهٌ لقد أغنى عني شيئاً بعد. قال: يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أما هذه، فوالله إن في النفس منها لشيئاً بعد. فقال العباس: فقلت: ويحك، أشهد أن لا إله إلا الله! وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قبل - والله - أن تقتل! فقال: فشهد شهادة الحق، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فقال العباس: يا رسول الله، إنك عرفت أبا سفيان وحبه الشرف والفخر، اجعل له شيئاً! قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، ومن أغلق داره فهو آمنٌ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بعد ما خرج: احبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. قال العباس: فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل، فلما حبست أبا سفيان قال: غدراً بني هاشم؟ فقال العباس: إن أهل النبوة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجةٌ. فقال أبو سفيان: فهلا بدأت بها أولاً! فقلت: إن لي إليك حاجةً فكان أفرخ لروعي. قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب. وعبا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومرت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها، فكان أول من قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف، فيهم لواءٌ يحمله عباس بن مرداس السلمي، ولواءٌ يحمله خفاف بن ندبة، وراية يحملها الحجاج بن علاط .
قال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام؟ قال: نعم. فلما حاذى خالد العباس، وإلى جنبه أبو سفيان، كبر ثلاثاً، ثم مضوا. ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمسمائة - منهم مهاجرون وأفناء العرب - ومعه رايةٌ سوداء، فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثاً وكبر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أختك؟ قال: نعم. ومر بنو غفار في ثلاثمائة، يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري - ويقال إيماء بن رحضة - فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. وقال: يا أبا الفضل، من هؤلاء؟ قال: بنو غفار. قال: ما لي ولبني غفار! ثم مضت أسلم في أربعمائة، فيها لواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر نا جية بن الأعجم، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. قال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال: يا أبا الفضل، ما لي ولأسلم! ما كان بيننا وبينها مرةٌ قط. قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو عمرو بن كعب في خمسمائة، يحمل رايتهم بسر بن سفيان. قال: من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد! فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. ثم مرت مزينة في ألفٍ، فيها ثلاثة ألوية وفيها مائة فرس، يحمل ألويتها النعمان بن مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو؛ فلما حاذوه كبروا، فقال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: يا أبا الفضل ما لي ولمزينة! قد جاءتني تقعقع من شواهقها . ثم مرت جهينة في ثمانمائة مع قادتها، فيها أربعة ألوية، لواءٌ مع أبي روعة معبد بن خالد، ولواءٌ مع سويد بن صخر، ولواءٌ مع رافع بن مكيث، ولواءٌ مع عبد الله بن بدر . قال: فلما حاذره كبروا ثلاثاً. ثم مرت كنانة، بنو ليث، وضمرة، وسعد بن بكر في مائتين، يحمل لواءهم أبو واقدٍ الليثي، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم، أهل شؤم والله! الذين غزانا محمد بسببهم، أما والله ما شوورت فيه ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث بلغني، ولكنه أمرٌ حم! قال العباس: قد خار الله لك في غزو محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ودخلتم في الإسلام كافة.
قال: وحدثني عبد الله بن عامر، عن أبي عمرة بن حماس قال: مرت بنو ليث وحدها، وهم مائتان وخمسون، يحمل لواءها الصعب بن جثامة، فلما مر كبروا ثلاثاً فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو ليث. ثم مرت أشجع - وهم آخر من مر وهم ثلثمائة، معهم لواءان، لواءٌ يحمله معقل بن سنان، ولواءٌ مع نعيم بن مسعود. فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمدٍ. فقال العباس: أدخل الله الإسلام في قلوبهم، فهذا من فضل الله عز وجل! فسكت ثم قال: ما مضى بعد محمد! قال العباس: لم يمض بعد، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صلى الله عليه وسلم رأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحدٍ به طاقة، قال: أظن والله يا أبا الفضل؛ ومن له بهؤلاء طاقة سوادٌ وغبرةٌ من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، كل ذلك يقول: ما مر محمدٌ! فيقول العباس: لا. حتى مر يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير وهو يحدثهما، فقال العباس: هذا رسول الله في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطنٍ من الأنصار رايةٌ ولواءٌ، في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها زجلٌ - وعليه الحديد - بصوتٍ عالٍ وهو يزعجها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم؟ قال: عمر ابن الخطاب. قال: لقد أمر أمر بني عدي بعد - والله - قلةٍ وذلةٍ! فقال العباس: يا أبا سفيان، إن الله يرفع من يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام. ويقال: كان في الكتيبة ألف دارعٍ. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة، فلما مر سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم نادى: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشاً! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشاً! وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله، ما نأمن سعداً أن يكون منه في قري صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم يوم المرحمة! اليوم أعز الله فيه قريشاً! قال: وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعدٍ فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج من سعدٍ حين صار لابنه. فأبى سعدٌ أن يسلم اللواء إلا بأمارةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته، فعرفها سعدٌ فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل، عن أهله، قالوا: دخل والله سعد بلوائه حتى غرزه بالحجون. وقال ضرار بن الخطاب الفهري: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضي الله عنه فأخذ اللواء، فذهب علي رضي الله عنه بها حتى دخل بها مكة فغرزها عند الركن. وقال أبو سفيان: ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط، ولا خبرنيه مخبر! سبحان الله، ما لأحدٍ بهذه طاقةٌ ولا يدان! ثم قال: لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً! قال، قلت: ويحك يا أبا سفيان، ليس بملكٍ ولكنها نبوةٌ. قال: نعم! قال: فحدثني عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن ساعدة، قال: قال له العباس: فانج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم. قال: فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل من كداءٍ وهو يقول: من أغلق بابه فهو آمن! حتى انتهى إلى هند بنت عتبة، فأخذت برأسه فقالت: ما وراءك؟ قال: هذا محمد في عشرة آلافٍ عليهم الحديد، وقد جعل لي: من دخل داري فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمنٌ، ومن طرح السلاح فهو آمنٌ. قالت: قبحك الله رسول قوم. قال: وجعل يصرخ بمكة: يا معشر قريش، ويحكم! إنه قد جاء ما لا قبل لكم به! هذا محمد في عشرة آلافٍ عليهم الحديد، فأسلموا! قالوا: قبحك الله وافد قومٍ! وجعلت هند تقول: اقتلوا وافدكم هذا، قبحك الله وافد قومٍ. قال: يقول أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم! رأيت ما لم تروا! رأيت الرجال والكراع والسلاح، فلا لأحدٍ بهذا طاقة!
قالوا: وانتهى المسلمون إلى ذي طوى، فوقفوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاحق الناس. وقد كان صفوان بن أمية، وعكرمة ابن أبي جهل، وسهيل بن عمرو قد دعوا إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضوى إليهم ناسٌ من قريش وناسٌ من بني بكر وهذيل، وتلبسوا السلاح، ويقسمون بالله لا يدخلها محمدٌ عنوةً أبداً. فكان رجل من بني الديل يقال له: حماس بن قيس بن خالد الديلي، لما سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يصلح سلاحه، فقالت له امرأته: لمن تعد هذا؟ قال: لمحمدٍ وأصحابه، فإني أرجو أن أخدمك منهم خادماً فإنك إليه محتاجة. قالت: ويحك، لا تفعل ولا تقاتل محمداً! والله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمداً وأصحابه. قال: سترين. قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء، معتجراً بشقة برد حبرة.
قال: فحدثني محمد بن عبد الله، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ وعليه عمامة سوداء، ورايته سوداء، ولواؤه أسود، حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس وإن عشنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه، تواضعاً لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين. ثم قال: العيش عيش الآخرة! قال: وجعلت الخيل تمعج بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت حيث توسطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: وصعد أبو قحافة يومئذٍ بصغرى بناته، قريبة بنت أبي قحافة، تقوده حتى ظهرت به إلى أبي قبيس - وقد ذهب بصره - فلما أشرفت به على أبي قبيس قال: يا بنية، ماذا ترين؟ قالت: أرى رجلاً يسعى بين ذلك السواد مقبلاً ومدبراً. قال: ذلك الوازع يا بنية، انظري ما ترين! قالت: تفرق السواد. قال: قد تفرقت الجيوش! البيت! البيت! قالت: فنزلت به. قال: فجعلت الجارية ترعب لما ترى، فيقول: يا بنية، لا تخافي! فوالله إن أخاك عتيقاً لآثر أصحاب محمد عند محمد. قال: وعليها طوق من فضة، فاختلسه بعض من دخل.
قالوا: فما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أبو بكر رضي الله عنه: أنشد بالله طوق أختي! ثلاث مرات. ثم قال: يا أخية احتسبي طوقك، فإن الأمانة في الناس قليل.
قالوا: ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ من الأنصار إلى جنبه، فقال: كيف قال حسان بن ثابت؟ فقال :
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع من كتفي كداء
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل من كدىً ، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء، والراية مع ابنه قيس، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل من أذاخر. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال، وأمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نقيذ ، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي، وهند بنت عتبة بن ربيعة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وقينتين لأبي خطل: قرينا وقريبة؛ ويقال: فرتنا وأرنبة. فكل الجنود دخل فلم يلق جمعاً، فلما دخل خالد بن الوليد وجد جمعاً من قريش وأحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح، ورموا بالنبل، وقالوا: لا تدخلها عنوةً أبداً! فصاح خالد بن الوليد في أصحابه وقاتلهم، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلاً من قريشٍ، وأربعةً من هذيل، وانهزموا أقبح الانهزام حتى قتلوا بالحزورة وهم مولون في كل وجهٍ. وانطلقت طائفةٌ منهم فوق رءوس الجبال، واتبعهم المسلمون، فجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمنٌ، ومن وضع السلاح فهو آمن. فجعل الناس يقتحمون الدور، ويغلقون عليهم، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذها المسلمون. ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية أذاخر نظر إلى البارقة فقال: ما هذه البارقة، ألم أنه عن القتال؟ قيل: يا رسول الله، خالد بنالوليد قوتل، ولو لم يقاتل ما قاتل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى الله خيراً! قال: وجعل يتمثل بهذه الأبيات، وهو يقاتل خارجة بن خويلد الكعبي، أنشدنيها عن أبيه:
إذا ما رسول الله فينا رأيتنا ... كلجة بحرٍ نال فيها سريرها
إذا ما ارتدينا الفارسية فوقها ... ردينيةٌ يهدي الأصم خريرها
وإن محمداً ... لها ناصرٌ عزت وعز نصيرها
وأقبل ابن خطل جائياً من مكة، مدججاً في الحديد، على فرس ذنوب ، بيده قناةٌ. وبنات سعيد بن العاص قد ذكر لهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل، فخرجن قد نشرن رءوسهن، يضربن بخمرهن وجوه الخيل، فضربهن ابن خطل جائياً من أعلى مكة فقال لهن: أما والله لا يدخلها حتى ترين ضرباً كأفواه المزاد ! ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة، فرأى خيل المسلمين ورأى القتال، ودخله الرعب حتى ما يستمسك من الرعدة، حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه، وطرح سلاحه، فأتى البيت فدخل بين أستاره.
قال: وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: أخذ رجلٌ من بني كعب درعه، وصففه ، ومغفره، وبيضته، وسيفه، وأدرك فرسه غائراً فأدركه فاستوى عليه، ولحق النبي صلى الله عليه وسلم بالحجون. قالوا: وأقبل حماس بن خالد منهزماً حتى أتى بيته، فدقه ففتحت له امرأته فدخل، وقد ذهبت روحه، فقالت: أين الخادم الذي وعدتني؟ ما زلت منتظرتك منذ اليوم تسخر به! قال: دعي عنك، أغلقي بابي! فإنه من أغلق بابه فهو آمنٌ! قالت: ويحك! ألم أنهك عن قتال محمد؟ وقلت لك: " ما رأيته يقاتلكم من مرة إلا ظهر عليكم " ، وما بابنا؟ قال: إنه لا يفتح على أحدٍ بابه. ثم قال - أنشدنيها ابن أبي الزناد:
وأنت لو شهدتنا بالخندمه ... إذ فر صفوانٌ وفر عكرمه
وأبو يزيدٍ كالعجوز المؤتمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وضربتنا بالسيوف المسلمه ... لهم زئيرٌ خلفنا وغمغمه
قال: وأقبل الزبير بن العوام بمن معه من المسلمين حتى انتهى بهم إلى الحجون، فغرز الراية عند منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يقتل من المسلمين أحدٌ إلا رجلان من أصحابه، أخطآ طريقه فسلكا غيرها فقتلا؛ كرز بن جابر الفهري، فقام عليه خالد الأشقر وهو جد حزام بن خالد حتى قتل، وكان الذي قتل خالداً ابن أبي الجذع الجمحي.
قال: فحدثني قدامة بن موسى، عن بشير مولى المازنيين، عن جابر بن عبد الله، قال: كنت ممن لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر، فلما أشرف على أذاخر نظر إلى بيوت مكة، ووقف عليها فحمد الله وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قبته فقال: هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت علينا قريشٌ في كفرها. قال جابر: فذكرت حديثاً كنت أسمعه منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالمدينة: منزلنا غداً إن شاء الله إذا فتح الله علينا مكة في الخيف حين تقاسموا علي الكفر. وكنا بالأبطح وجاه شعب أبي طالب حيث حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم ثلاث سنين.
قال: حدثني عبد الله بن زيد، عن أبي جعفر، قال: كان أبو رافع قد ضرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة بالحجون من أدمٍ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى القبة، ومعه أم سلمة وميمونة.
قال: حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي رافع، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: فهل ترك لنا عقيلٌ منزلاً؟ وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة. فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أدخل البيوت. فلم يزل مضطرباً بالحجون لم يدخل بيتاً، وكان يأتي إلى المسجد من الحجون.
قال: وحدثنا ابن خديج، عن عطاء، قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يدخل بيوت مكة، فاضطرب بالأبطح في عمرة القضية، وعام الفتح، وفي حجته.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً بالحجون في الفتح، ويأتي لكل صلاة.
قالوا: وكانت أم هانىء بنت أبي طالبٍ تحت هبيرة بن أبير وهب المخزومي، فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها - عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، والحارث بن هشام - فاستجارا بها وقالا: نحن في جوارك! فقالت: نعم، أنتما في جواري. قالت أم هانىء: فهما عندي إذ دخل علي فارساً، مدججاً في الحديد، ولا أعرفه، فقلت له: أنا بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فكف عني وأسفر عن وجهه، فإذا علي رضي الله عنه، فقلت: أخي! فاعتنقته وسلمت عليه، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما. قلت: أخي من بين الناس يصنع بي هذا! قالت: وألقيت عليهما ثوباً، وقال: تجيرين المشركين؟ وحلت دونهما فقلت: والله لتبدأن بي قبلهما! قالت: فخرج ولم يكد، فأغلقت عليهما بيتاً، وقلت: لا تخافا! قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانىء، قالت: فذهبت إلى خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فلم أجده، ووجدت فيه فاطمة فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما! قالت: فكانت أشد علي من زوجها وقالت: تجيرين المشركين؟ قالت: إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار، فقال: مرحباً بفاختة أم هانىء! وعليه ثوبٌ واحدٌن فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ ما كدت أنفلت منه! أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان ذاك، قد أمنا من أمنت، وأجرنا من أجرت. ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلاً فاغتسل، ثم صلى ثمان ركعاتٍ في ثوبٍ واحد ملتحفاً به، وذلك ضحىً في فتح مكة.
قالوا: قالت: فرجعت إليهما فأخبرتهما وقلت لهما: إن شئتما فأقيما وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما. قالت: فأقاما عندي يومين في منزلي، ثم انصرفا إلى منازلهما. قالت: فكنت أكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في خبائه بالأبطح حتى خرج إلى حنين. قالت: فأتى آتٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الحارث بن هشام وابن أبي ربيعة جالسان في ناديهما متفضلان في الملاء المزعفر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سبيل إليهما، قد أمناهما! قال: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله ساعةً من النهار واطمأن واغتسل، ثم دعا براحلته القصواء فأدنيت إلى باب قبته، ودعا للبس السلاح، والمغفر على رأسه، وقد صف له الناس، فركب براحلته والخيل تمعج بين الخندمة إلى الحجون، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه يسير يحادثه، فمر ببنات أبي أحيحة بالبطحاء حذاء منزل أبي أحيحة وقد نشرن رءوسهن، يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فتبسم، وذكر بيت حسان بن ثابت فأنشده أبو بكر رضي الله عنه .
تظل جيادنا متمطراتٍ ... يلطمهن بالخمر النساء
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فرآها، ومعه المسلمون، تقدم على راحلته فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره، فرجعوا التكبير حتى ارتجت مكة تكبيراً حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليهم: اسكتوا! والمشركون فوق الجبال ينظرون. ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت على راحلته، آخذٌ بزمامها محمد بن مسلمة، وحول الكعبة ثلاثمائة صنمٍ، وستون صنماً مرصصةٌ بالرصاص وكان هبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما مر بصنمٍ منها يشير بقضيبٍ في يده ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " . فيقع الصنم لوجهه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: ما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشير بالقضيب إلى الصنم فيقع لوجهه، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً على راحلته يستلم الركن الأسود بمحجنه في كل طوافٍ، فلما فرغ من سبعة نزل عن راحلته، وجاء معمر بن عبد الله بن نضلة فأخرج راحلته؛ ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقام، وهو يومئذٍ لاصقٌ بالكعبة، والدرع عليه والمغفر، وعمامته بين كتفيه، فصلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها، وقال: لولا أن يغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلواً. فنزع له العباس بن عبد المطلب دلواً فشرب منه. ويقال: الذي نزع الدلو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وأمر بهبل فكسر وهو واقفٌ عليه. فقال الزبير بن العوام لأبي سفيان بن حرب: يا أبا سفيان، قد كسر هبل! أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم! فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان!
قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ناحيةً من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالاً إلى عثمان فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة. قال عثمان: نعم. فخرج عثمان إلى أمه وهي بنت شيبة، ورجع بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال نعم، ثم جلس بلال مع الناس. فقال عثمان لأمه، والمفتاح يومئذٍ عندها: يا أمه، أعطني المفتاح فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل وأمرني أن آتي به إليه. فقالت أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه. قال: فوالله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجزتها وقالت: أي رجل يدخل يده ها هنا؟ فبينا هم على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر في الدار، ومر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان، اخرج إلي! فقالت أمه: يا بني، خذ المفتاح فأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيمٌ وعدي. قال: فأخذه عثمان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناوله إياه، فلما ناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده فقال: يا نبي الله، بأبي أنت اجمع لنا الحجابة والسقاية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم ما ترزءون فيه، ولا أعطيكم ما ترزءون منه. وقد سمعت أيضاً في قبض المفتاح بوجهٍ آخر.
قال: حدثني إسمعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح على بعيرٍ لأسامة بن زيد، وأسامة رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، فلما بلغ رأس الثنية أرسل عثمان فجاءه بالمفتاح فاستقبله به. قالوا: وكان عثمان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص مسلماً قبل الفتح، فخرج معنا من المدينة. قال أبو عبد الله: وهذا أثبت الوجوه.
وقالوا: إن عمر بن الخطاب بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم من البطحاء ومعه عثمان بن طلحة ، وأمره أن يتقدم فيفتح البيت، فلا يدع فيه صورة إلا محاها، ولا تمثالاً، إلا صورة إبراهيم. فلما دخل الكعبة رأى صورة إبراهيم شيخاً كبيراً يستقسم بالأزلام. ويقال: أمره ألا يدع صورة إلا محاها، فترك عمر صورة إبراهيم، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صورة إبراهيم عليه السلام، فقال: يا عمر، ألم آمرك ألا تدع فيها صورة إلا محوتها؟ فقال عمر: كانت صورة إبراهيم. قال: فامحها.
فكان الزهري يقول: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم فرأى فيها صورة الملائكة وغيرها، ورأى صورة إبراهيم عليه السلام، قال: قاتلهم الله، جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام! ثم رأى صورة مريم، فوضع يده عليها ثم قال: امسحوا ما فيها من الصور إلا صورة إبراهيم.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فرأى فيها صوراً، فأمرني أن آتيه في الدلو بماءٍ، فيبل الثوب ويضرب به الصور، ويقول: قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون! قالوا: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة فغلقت عليه، ومعه أسامة بن زيد، وبلال بن رباح، وعثمان بن طلحة، فمكث فيها ما شاء الله؛ وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة. قال ابن عمر: فسألت بلالاً كيف صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت؟ قال: جعل عمودين عن يمينه وعموداً عن يساره وثلاثة وراءه، ثم صلى ركعتين، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتاح في يده، وقف على الباب خالد بن الوليد يذب الناس عن الباب حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فحدثني علي بن محمد بن عبيد الله، عن منصور الحجبي، عن أمه صفية بنت شيبة، عن برة بنت أبي تجراة ، قالت: أنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت، فوقف على الباب وأخذ بعضادتي الباب، فأشرف على الناس وبيده المفتاح، ثم جعله في كمه.
قالوا: فلما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وقد ليط بهم حول الكعبة فهم جلوس، قال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيراً ونظن خيراً، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم، وقد قدرت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقول كما قال أخي يوسف: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " . ألا إن كل رباً في الجاهلية، أو دمٍ، أو مالٍ، أو مأثرةٍ، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج؛ ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد، الدية مغلظةً مائة ناقةٍ، منها أربعون في بطونها أولادها. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم من آدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرامٌ بحرمة الله، لم تحل لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ كائنٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من النهار - يقصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا - لا ينفر صديها ولا يعضد عضاهها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها . فقال العباس، وكان شيخاً مجرباً: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لابد منه، إنه للقبر وطهور البيوت. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال. ولا وصية لوارث، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ولا يحل لامرأةٍ تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوةٌ، والمسلمون يدٌ واحدةٌ على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومشدهم على مضعفهم وميسرتهم على قاعدهم؛ ولا يقتل مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده. ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب ؛ ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها، والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأةٌ مسيرة ثلاثٍ إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين، يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لبستين! لا يحتب أحدكم في ثوبٍ واحدٍ يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء ، ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها.
قال: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية المسجد فجلس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قيض السقاية من العباس وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: ادعوا إلي عثمان! فدعي له عثمان بن أبي طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوماً، وهو يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان المفتاح، فقال: لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت! فقال عثمان: لقد هلكت إذاً قريشٌ وذلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذٍ. فلما دعاني بعد أخذه المفتاح ذكرت قولة ما كان قال، فأقبلت فاستقبلته ببشرٍ واستقبلني ببشرٍ، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدةً خالدةً، لا ينزعها إلا ظالمٌ؛ يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف. قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله! فأعطاه المفتاح، والنبي صلى الله عليه وسلم مضطجعٌ بثوبه، وقال: أعينوه! وقال: قم على الباب وكل بالمعروف. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم السقاية إلى العباس، فكان العباس يليها دون بني عبد المطلب في الجاهلية وولده بعدهم. فكان محمد بن الحنفية كلم فيها ابن عباس، فقال ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها في الجاهلية، وقد كان أبوك كلم فيها فأقمت البينة؛ طلحة بن عبيد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عبد عوف، ومخرمة بن نوفل، أن العباس كان يليها في الجاهلية وأبوك في ناديته بعرنة في إبله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها العباس يوم الفتح، فعرف ذلك من حضر، فكانت بيد عبد الله بن عباسٍ بعد أبيه، لا ينازعهم فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم. وكان للعباس مالٌ بالطائف، كرمٌ كان يحمل زبيبه إليها فينبذ في الجاهلية والإسلام، ثم كان عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك، ثم كان علي بن عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك إلى اليوم.
قال: وجاء خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ فقال: هم يا رسول الله بدأونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا، حتى إذا لم أجد بداً قاتلتهم، فظفرنا الله عليهم وهربوا في كل وجهٍ يا رسول الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى الله خيراً! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر المسلمين، كفوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر فخبطوهم ساعةً، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحل لأحدٍ قبله؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقتل من خزاعة أحدٌ. قال أبو اليسر: فدخلنا مع خالد بن الوليد من الليط، فكانوا هم الذين بدأونا بالقتال وأبوا أن يدعونا ندخل ، وكلمهم خالد بن الوليد وأعذر إليهم، فأبوا. قال خالد: احملوا عليهم! فحملنا فما قاموا لنا فواق ناقة حتى هربوا، ونهانا عن الطلب. قال أبو اليسر: فجعلت أحذم بسيفي، وهويت إلى رجلٍ فضربته فاعتزل إلى خزاعة، فسقط في يدي فجعلت أسأل عنه، فقيل لي: إنه من الحيا - أخو خزاعة. فحمدت الله ألا أقتل أحداً من خزاعة.
قالوا: وأقام أبو أحمد عبد الله بن جحش على باب المسجد على جملٍ له حين فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، وهو يصيح: أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي، وأنشد بالله يا بني عبد مناف داري ! قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ابن عفان، فسار عثمان بشيءٍ، فذهب عثمان إلى أبي أحمد فساره، فنزل أبو أحمد عن بعيره وجلس مع القوم، فما سمع أبو أحمد ذاكرها حتى لقي الله، فقيل لعثمان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن تقوله لأبي أحمد؟ فقال: لم أذكره في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأذكره بعد وفاته؟ وكان أبو أحمد قد حالف إلى حرب ابن أمية، وكان المطلب بن الأسود قد دعاه إلى أن يحالفه وقال: دمي دون دمك ومالي دون مالك! وحالف حرب بن أمية فقال أبو أحمد في ذلك:
أبني أمية كيف أخذل فيكم ... وأنا ابنكم وحليفكم في العشر
ولقد دعاني غيركم فأبيته ... وخبأتكم لنوائب الدهر
وكانوا يتحالفون في العشر من ذي الحجة قياماً، يتماسحون كما يتماسح البيعان ، وكانوا يتواعدون قبل العشر، وكان أبو سفيان قد باع داره من ابن علقمة العامري بأربعمائة دينار، فجعل له مائة دينار، ونجم عليه ما فضل.
قال: فحدثني أهل أبي أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لك بها دارٌ في الجنة. وقال أبو أحمد في بيع داره لأبي سفيان، أنشدنيها عمرو بن عثمان الجحشي:
أقطعت عقدك بيننا ... والحادثات إلى ندامه
ألا ذكرت ليالي ال ... عشر التي فيها القيامه
عقدي وعقدك قائمٌ ... لا عوق فيه ولا أثامه
دار ابن عمك بعتها ... تشرى بها عنك الغرامه
اذهب بها إذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه
ولقد جريت إلى العقو ... ق وأسوأ الخلق الرغامه
قد كنت آوي في ذرى ... فيه المقامة والسلامه
ما كان عقدك مثل عق ... د ابن عمرو لابن مامه
قالوا: وكان إساف ونائلة رجلاً وامرأة، الرجل إساف بن عمرو والمرأة نائلة بنت سهيل من جرهم، فزنيا في جوف الكعبة فمسخا حجرين، فاتخذتهما قريش يعبدونهما، فخرج من أحدهما امرأة شمطاء سوداء تخمش وجهها، عريانة، ناشرة الشعر، تدعو بالويل. فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: تلك نائلة يئتست أن تعبد في بلادكم أبداً. ويقال إن إبليس رن ثلاث رناتٍ، رنةً حين لعن فتغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورنةً حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قائماً بمكة، ورنةً حين افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة. فاجتمعت ذريته، فقال إبليس: ايئسوا أن تردوا أمة محمد على الشرك بعد يومهم هذا، ولكن افشوا فيهم النوح والشعر.
وكان أول من نصب أنصاب الحرم إبراهيم، وجبريل يريه، ثم لم تحرك حتى كان إسماعيل فجددها، ثم لم تحرك حتى كان قصي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان يوم الفتح، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاىعي فجدد أنصاب الحرم، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب، فبعث أربعةً من قريش كانوا يبدون في بواديها؛ مخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وأبو هود سعيد بن يربوع المخزومي. ثم كان عثمان بن عفان فبعث هؤلاء النفر، ثم كان معاوية عام حج فبعث هؤلاء النفر.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة، قال: لما حج عبد الملك بن مروان أرسل إلى أكبر شيخٍ يعلمه يومئذٍ من خزاعة، وشيخ من قريش، وشيخ من بني بكر، ثم أمرهم بتجديده، وكل وادٍ في الحرم فهو يسيل في الحل ولا يسيل وادٍ من الحل في الحرم إلا في موضعٍ واحدٍ عند التنعيم. وكان يقال: ولا ينفر صيدها. قال: لا يخرج من الظل إلى الشمس، ويقال: لا يذعر.
قال: حدثني عبد الملك بن نافع، عن أبيه، قال: كان ابن عمر يغشاه الحمام على رحله، وثيابه، وطعامه، ما يطرد؛ وكان ابن عباس يرخص أن يكشكش . وقوله: لا تحل لقطة ضالتها إلا لمنشد؛ يقول: لا يأكلها كما يأكل اللقطة في غيرها من البلدان.
قالوا: خرج غزيٌّ من هذيل في الجاهلية وفيهم جنيدب بن الأدلع يريدون حي أحمر بأساً، وكان أحمر بأساً رجلاً من أسلم شجاعاً لا يرام، وكان لا ينام في حيه؛ إنما ينام خارجاً من حاضره، وكان إذا نام غط غطيطاً منكراً لا يخفى مكانه، وكان الحاضر إذا أتاهم فزعٌ صرخوا بأحمر بأساً فيثوب مثل الأسد. فلما جاءهم ذلك الغزي من هذيل قال لهم جنيدب بن الأدلع: إن كان أحمر بأساً في الحاضر فليس إليهم سبيل، وإن كان له غطيطٌ لا يخفى، فدعوني أتسمع. فتسمع الحس فتسمعه، فأمه حتى وجده نائماً فقتله، ووضع السيف في صدره ثم اتكأ عليه فقتله، ثم حملوا على الحي، فصاح الحي: يا أحمر بأساً! فلا شيء، لا أحمر بأساً قد قتل. فنالوا من الحاضر حاجتهم ثم انصرفوا، فتشاغل الناس بالإسلام، فلما كان بعد الفتح بيومٍ دخل جنيدب بن الأدلع معه يرتاد وينظر - والناس آمنون - فرآه جندب بن الأعجم الأسلمي، فقال: جنيدب بن الأدلع، قاتل أحمر بأساً! فقال: نعم. فخرج جندب يستجيش عليه، وكان أول من لقي خراش بن أمية الكعبي، فأخبره، فاشتمل خراشٌ على السيف ثم أقبل إليه، والناس حوله وهو يحدثهم عن قتل أحمر بأساً، فبينا هم مجتمعون عليه إذ أقبل خراش بن أمية مشتملاً على السيف، فقال: هكذا عن الرجل! فوالله ما ظن الناس إلا أنه يفرج عنه الناس لينصرفوا عنه، فانفرجوا عنه، فلما انفرج الناس عنه حمل عليه خراش بن أمية بالسيف فطعنه به في بطنه، وابن الأدلع مستندٌ إلى جدار من جدر مكة، فجعلت حشوته تسايل من بطنه، وإن عينيه لتبرقان في رأسه وهو يقول: قد فعلتموها يا معشر خزاعة! فوقع الرجل فمات، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقام خطيباً - وهذه الخطبة الغد من يوم الفتح بعد الظهر - فقال: أيها الناس، إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، فهي حرامٌ إلى يوم القيامة. لا يحل لمؤمنٍ بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً؛ لم تحل لأحدٍ كان قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من نهار، ثم رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم. فإن قال قائل: قد قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم! يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد والله كثر القتل إن نفع؛ وقد قتلتم هذا القتيل، والله لأدينه! فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار، إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله.
فدخل أبو شريح على عمرو بن سعيد بن العاص، وهو يريد قتال ابن الزبير، فحدثه هذا الحديث وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن يبلغ الشاهد الغائب، وكنت شاهداً وكنت غائباً، وقد أديت إليك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، فقال عمرو بن سعيد: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنه لا يمنع من ظالمٍ ولا خالع طاعة، ولا سافك دم. فقال أبو شريح: قد أديت إليك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، فأنت وشأنك!
قال: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، أنه أخبر ابن عمر ما قال أبو شريح لعمو بن سعيد، فقال ابن عمر: رحم الله أبا شريح! قد قضى الذي عليه، قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكلم يومئذٍ في خزاعة حين قتلوا الهذلي بأمرٍ لا أحفظه، إلا أني سمعت المسلمين يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأديه " .
قال: حدثني عمرو بن عمير بن عبد الملك بن عبيد، عن جويرية بنت الحصين، عن عمران بن الحصين، قال: قتله خراش بعد ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القتل، فقال: لو كنت قاتلاً مؤمناً بكافرٍ لقتلت خراشاً بالهذلي. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة يخرجون ديته، فكانت خزاعة أخرجت ديته. قال عمران بن الحصين: فكأني أنظر إلى غنمٍ عفرٍ جاءت بها بنو مدلج في العقل، وكانوا يعاقلونها في الجاهلية ثم شده الإسلام، وكان أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيب، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني كعب، فأعطوا القتيل مائةً من الإبل. قالوا: وجاءت الظهر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة يومئذٍ، وقريش فوق رءوس الجبال، وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفاً أن يقتلوا، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أومن. فلما أذن بلالٌ ورفع صوته كأشد ما يكون، فلما بلغ أشهد أن محمداً رسول الله، تقول جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك! أما الصلاة فسنصلي، والله لا نحب من قتل الأحبة أبداً؛ ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمداً من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه. وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام: واثكلاه! ليتني مت قبل هذا اليوم، أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة! وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم أن يصيح عبد بني جمح على بنية أبي طلحة. قال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخط الله فسيغيره، وإن كن رضاء الله فسيقره. وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول شيئاً، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصاء! فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم.
قال: فحدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: قال سهيل بن عمرو: ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وظهر، انقحمت بيتي وأغلقت علي بابي، وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جواراً من محمدٍ، وإنلا لا آمن أن أقتل. وجعلت أتذكر أثري عند محمدٍ وأصحابه، فليسأحدٌ أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحدٌ، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت فيها. فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تؤمنه؟ فقال: نعم، هو آمنٌ بأمان الله، فليظهر! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فليخرج؛ فلعمري إن سهيلاً له عقلٌ وشرف، وما مثل سهيلٍ جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافعٍ! فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل: كان واله براً؛ صغيراً وكبيراً! فكان سهيل يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة.
وهرب هبيرة بن أبي وهب - وهو يومئذٍ زوج أم هانىء بنت أبي طالب - وهو وابن الزبعري جميعاً حتى انتهى إلى نجران، فلم يأمنا من الخوف حتى دخلا حصن نجران، فقيل لهما: ما وراءكما؟ قالا: أما قريش فقد قتلت، ودخل محمدٌ مكة، ونحن والله نرى أن محمداً سائرٌ إلى حصنكم هذا! فجعلت بلحارث وكعب يصلحون ما رث من حصنهم، وجمعوا ماشيتهم، فأرسل حسان بن ثابت أبياتاً يريد بها ابن الزبعري، أنشدنيها ابن أبي الزناد:
لا تعدمن رجلاً أحلك بغضه ... نجران في عيشٍ أحد لئيم
بليت قناتك في الحروب فألقيت ... خمانةً خوفاء ذات وصوم
غضب الإله على الزبعري وابنه ... وعذاب سوءٍ في الحياة مقيم
فلما جاء ابن الزبعري شعر حسان تهيأ للخروج، فقال هبيرة بن أب وهب: أين تريد يا ابن عم؟ قال: أردت والله محمداً. قال: أتريد أن تتبعه؟ قال: إي والله! قال: يقول هبيرة: يا ليت أني رافقت غيرك! والله، ما ظننت أنك تتبع محمداً أبداً! قال ابن الزبعري: هو ذاك، فعلى أي شيءٍ نقيم مع بني الحارث بن كعب وأترك ابن عمي وخير الناس وأبرهم ، ومع قومي وداري. فانحدر ابن الزبعري حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في أصحابه، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه قال: هذا ابن الزبعري، ومعه وجهٌ فيه نور الإسلام. فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السلام عليكم، أي رسول الله؟ شهدت أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والحمد لله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأجلبت عليك، وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك إلى نجران، وأنا أريد ألا أقرب الإسلام أبداً، ثم أراد بي الله عز وجل منه بخيرٍ، فألقاه في قلبي وحببه إلي، وذكرت ما كنت فيه من الضلالة، واتباع ما لا ينفع ذا عقل، من حجر يعبد ويذبح له، لا يدري من عبده ومن لا يعبده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداك للإسلام، إن الإسلام يجب ما كان قبله! وأقام هبيرة بنجران، وأسلمت أم هانىء، فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح
أشاقتك هندٌ أم نآك سؤالها ... كذاك النوى أسبابها وانفتالها
وقد أرقت في رأس حصنٍ ممنعٍ ... بنجران يسري بعد ليلٍ خيالها
وإني من قومٍ إذا جد جدهم ... على أي حالٍ أصبح اليوم حالها
وإني لحامٍ من وراء عشيرتي ... إذا كرهت نحو العوالي فحالها
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
وإن كنت قد تابعت دين محمدٍ ... وقطعت الأرحام منك حبالها
فكوني على أعلى سحيقٍ بهضبةٍ ... ململمةٍ حمراء يبسٍ تلالها
أقام بنجران حتى مات مشركاً.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عن المنذر بن جهم قال: لما كان يوم فتح مكة هرب حويطب بن عبد العزى حتى انتهى إلى حائط عوف فدخل هناك، وخرج أبو ذر لحاجته وكان داخله، فلما رآه هرب حويطب فناداه أبو ذر: تعال، أنت آمن! فرجع إليه فسلم عليه، ثم قال: أنت آمن، فإن شئت أدخلتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت فاذهب إلى منزلك. قال: وهل لي سبيلٌ إلى منزلي؟ ألقى فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي، أو يدخل علي منزلي فأقتل. قال: فأنا أبلغ معك منزلك. فبلغ معه منزله، ثم جعل ينادي على بابه: إن حويطباً آمنٌ، فلا يهجم عليه! ثم انصرف أبو ذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أو ليس قد أمنا كل الناس إلا من أمرت بقتله؟
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال: لما كان يوم الفتح، أسلمت هند بنت عتبة، وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، البغوم بنت المعذل، من كنانة، وأسلمت فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وأسلمت هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، في عشر نسوةٍ من قريش، فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، فبايعنه فدخلن عليه، وعنده زوجته وابنته فاطمة، ونساءٌ من نساء بني عبد المطلب، فتكلمت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأةٌ مؤمنةٌ بالله مصدقة. ثم كشفت عن نقابها فقالت: هند بنت عتبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحباً بك. فقالت: والله يا رسول الله، ما على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وزيادة أيضاً! ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن القرآن وبايعهن، فقالت هند من بينهن: يا رسول الله، نماسحك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إن قولي لمائة امرأة مثل قولي لامرأةٍ واحدة. ويقال: وضع على يده ثوباً ثم مسحن على يده يومئذٍ. ويقال: كان يؤتى بقدحٍ من ماءٍ، فيدخل يده فيه ثم يدفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه. والقول الأول أثبت عندنا: " إني لا أصافح النساء " . ثم قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو آمن. فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حيٍّ من عك ، فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطاً، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحلٍ من سواحل تهامة فركب البحر، فجعل نوتي السفينة يقول له: أخلص! فقال: أي شيءٍ أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله. قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا. فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلح إليه وتقول: يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك. فوقف لها حتى أدركته فقالت: إني قد استأمنت لك محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك. فرجع معها وقال: ما لقيت من غلامك الرومي؟ فخبرته خبره فقتله عكرمة، وهو يومئذٍ لم يسلم. فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبوا أباه ، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت. قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها، فتأبى عليه وتقول: إنك كافر وأنا مسلمة. فيقول: إن أمراً منعك مني لأمرٌ كبير. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عكرمة وثب إليه - وما على النبي صلى الله عليه وسلم رداء - فرحاً بعكرمة، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف بين يديه، وزوجته منتقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فأنت آمن! فقال عكرمة: فإلى ما تدعو يا محمد؟ قال: أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة - وتفعل، وتفعل، حتى عد خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق وأمرٍ حسنٍ جميلٍ؛ قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً وأبرنا براً. ثم قال عكرمة: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال: يا رسول الله، علمني خير شيءٍ أقوله. قال: تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. قال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقول: أشهد الله وأشهد من حضر أني مسلمٌ مهاجرٌ مجاهدٌ. فقال عكرمة ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني اليوم شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتكه. فقال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسيرٍ وضعت فيه، أو مقامٍ لقيتك فيه، أو كلامٍ قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر له كل عداوةٍ عادانيها، وكل مسيرٍ سار فيه إلى موضعٍ يريد بذلك
المسير إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه! فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله. ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدٍّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته بذلك النكاح الأول.ر إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه! فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله. ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدٍّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته بذلك النكاح الأول.
وأما صفوان بن أمية، فهرب حتى أتى الشعيبة ، وجعل يقول لغلامه يسار وليس معه غيره: ويحك، انظر من ترى! قال: هذا عمير بن وهب. قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمداً علي. فلحقه فقال: يا عمير، ما كفاك ما صنعت بي؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي! قال: أبا وهب، جعلت فداك! جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس. وقد كان عمير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، سيد قومي خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه، فأمنه فداك أبي وأمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أمنته. فخرج في أثره، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنك. فقال صفوان: لا والله، لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامةٍ أعرفها. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، جئت صفوان هارباً يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته: فقال: لا أرجع حتى تأتي بعلامةٍ أعرفها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عمامتي. قال: فرجع عمير إليه بها، وهو البرد الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلميومئذٍ معتجحراً به، برد حبرة . فخرج عمير في طلبه الثانية، حتى جاء بالبرد فقال: أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، ابن أمك وأبيك، أذكرك الله في نفسك. قال له: أخاف أن أقتل. قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام؛ فإن رضيت وإلا سيرك شهرين؛ فهو أوفى الناس وأبرهم ، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجراً، تعرفه؟ قال: نعم. فأخرجه، فقال: نعم، هو هو! فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالمسلمين العصر في المسجد، فوقفا، فقال صفوان: كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات. قال: يصلي بهم محمد؟ قال: نعم. فلما سلم صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمراً وإلا سيرتني شهرين. قال: انزل أبا وهب. قال: لا والله، حتى تبين لي. قال: بل تسير أربعة أشهر. فنزل صفوان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن، وخرج معه صفوان وهو كافر، وأرسل إليه يستعيره سلاحه، فأعاره سلاحه؛ مائة درعٍِ بأداتها، فقال: طوعاً أو كرهاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عارية مؤداة. فأعاره، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملها إلى حنين، فشهد حنيناً والطائف ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها، ومعه صفوان بن أمية، جعل صفوان ينظر إلى شعبٍ ملىء نعماً وشاءً ورعاءً، فأدام إليه النظر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال: أبا وهب، يعجبك هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحدٍ بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله! وأسلم مكانه.
قال: فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أسلم أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل قبل نسائهم، ثم قدموا على نسائهم في العدة، فردهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك النكاح. وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة قبل أزواجهما، ثم أسلما فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم عليهم، وذلك أن إسلامهم كان في عدتهم.
قالوا: وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " سميعٌ عليمٌ " فيكتب عليمٌ حكيمٌ؛ فيقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: كذلك الله، ويقره. وافتتن وقال: ما يدري محمد ما يقول! إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد. وخرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتداً، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فلما كان يومئذٍ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، فقال: يا أخي، إني والله اخترتك فاحتبسني ها هنا، واذهب إلى محمد فكلمه في، فإن محمداً إن رآني ضرب الذي فيه عيناي؛ إن جرمي أعظم الجرم، وقد جئت تائباً. فقال: بل اذهب معي. قال عبد الله: والله لئن رآني ليضربن عنقي ولا يناظرني، قد أهدر دمي، وأصحابه يطلبونني في كل موضع. فقال عثمان: انطلق معي، فلا يقتلك إن شاء الله، فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعثمان، أخذ بيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح واقفين بين يديه، فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمه كانت تحملني وتمشيه، وترضعني وتقطعه، وكانت تلطفني وتتركه، فهبه لي. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل عثمان كلما أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام، فإنما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه إرادة أن يقوم رجلٌ فيضرب عنقه، لأنه لم يؤمنه؛ فلما رأى ألا يقدم أحدٌ، وعثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه وهو يقول: يا رسول الله، تبايعه فداك أبي وأمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما منعكم أن يقوم رجلٌ منكم إلى هذا الكلب فيقتله؟ أو قال: الفاسق. فقال عباد بن بشر: ألا أومأت إلي يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه. ويقال: قال هذا أبو اليسر؛ ويقال: عمر بن الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أقتل بالإشارة. وقائل يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ: إن النبي لا تكون له خائنة الأعين . فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما رآه، فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك! فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أو لم أبايعه وأؤمنه؟ قال: بلى أي رسول الله! ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الإسلام يجب ما كان قبله " . فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره، فكان يأتي فيسلم على النبي مع الناس.
وأما الحويرث بن نقيذ من ولد قصي، فإنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه، فبينا هو في منزله يوم الفتح قد أغلق بابه عليه، وأقبل علي رضي الله عنه يسأل عنه، فقيل هو في البادية. فأخبر الحويرث أنه يطلب، وتنحى علي رضي الله عنه عن بابه، فخرج الحويرث يريد أن يهرب من بيتٍ إلى بيتٍ آخر، فتلقاه علي فضرب عنقه.
وأما هبار بن الأسود، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلما بعث سرية أمرها بهبار إن أخذ أن يحرق بالنار. ثم قال: إنما يعذب بالنار رب النار؛ اقطعوا يديه ورجليه إن قدرتم عليه، ثم اقتلوه. فلم يقدر عليه يوم الفتح، وكان جرمه أنه عس بابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب وضرب ظهرها بالرمح - وكانت حبلى - حتى سقطت، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة في أصحابه إذ طلع هبار بن الأسود، وكان لسناً، فقال: يا محمد! سب من سبك؛ إني قد جئت مقراً بالإسلام، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنعم الله بك عيناً! أنت الذي فعلت وفعلت. فقال: إن الإسلام محا ذلك. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه والتعريض له.
قال: حدثني هشام بن عمارة، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه ف مسجده، منصرفه من الجعرانة، فطلع هبار بن الأسود من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر القوم إليه قالوا: يا رسول الله، هبار ابن الأسود! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رأيته. فأراد بعض القوم القيام إليه، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أن اجلس، ووقف عليه هبار فقال: السلام عليك يا رسول الله، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد وأردت اللحوق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وبرك وصفحك عمن جهل عليك؛ وكنا يا رسول الله أهل شرك، فهدانا الله عز وجل بك، وأنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإني مقر بسوء فعلي، معترف بذنبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عفوت عنك، وقد أحسن الله بك حيث هداك للإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله.
قال: حدثني واقد بن أبي ياسر، عن يزيد بن رومان، قال: قال الزبير ابن العوام: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هباراً قط إلا تغيظ عليه، ولا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قط إلا قال: إن ظفرتم بهبار فاقطعوا يديه ورجليه ثم اضربوا عنقه. والله لقد كنت أطلبه وأسأل عنه، والله يعلم لو ظفرت به قبل أ يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلته. ثم طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده جالسٌ، فجعل يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: سب يا محمد من سبك وأوذي من آذاك، فقد كنت موضعاً في سبك وأذاك، وكنت مخذولاً، وقد نصرني الله وهداني للإسلام. قال الزبير: فجعلت أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنه ليطأطىء رأسه استحياءً مما يعتذر هبار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قد عفوت عنك، الإسلام يجب ما كان قبله. وكان لسناً، وكان يسب حتى يبلغ منه، فلا ينتصف من أحد. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلمه وما يحمل عليه من الأذى، فقال: هبار، سب من سبك! قالوا: وأما ابن خطل، فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة.
فحدثني يعقوب بن عبد الله، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد ابن عبد الرحمن بن أبزي، قال: سمعت أبا برزة الأسلمي يقول: في نزلت هذه الآية: " لا أقسم بهذا البلد " . " وأنت حلٌّ بهذا البلد " ؛ أخرجت عبد الله بن خطل وهو معلق بأستار الكعبة، فضربت عنقه بين الركن والمقام. ويقال: قتله سعيد بن حريث المخزومي؛ ويقال: عمار بن ياسر، ويقال: شريك بن عبدة العجلاني، وأثبته عندنا أبو برزة. وكان جرمه أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً، وبعث معه رجلاً من خزاعة، فكان يصنع طعامه ويخدمه، فنزلا في مجمع فأمره يصنع له طعاماً، ونام نصف النهار، فاستيقظ والخزاعي نائمٌ ولم يصنع له شيئاً، فاغتاظ عليه، فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله، فلما قتله قال: والله ليقتلني محمد به إن جئته. فارتد عن الإسلام، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة، فقال له أهل مكة: ما ردك إلينا؟ قال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم. فأقام على شركه، وكانت له قينتان، إحداهما فرتنا، والأخرى أرنب، وكانتا فاسقتين، وكان يقول الشعر يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهما تغنيان به، ويدخل عليه وعلى قينتيه المشركون فيشربون الخمر، وتغني القينتان بذلك الهجاء. وكانت سارة مولاة عمرو ابن هاشم مغنيةً نواحة بمكة، فيلقى عليها هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغني به، وكانت قد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب أن يصلها وشكت الحاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان لك في غنائك ونياحك ما يغنيك! فقالت: يا محمد، إن قريشاً منذ قتل من قتل منهم ببدرٍ تركوا سماع الغناء. فوصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقر لها بعيراً طعاماً، فرجعت إلى قريش وهي على دينها، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن تقتل فقتلت يومئذٍ. وأما القينتان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما، فقتلت إحداهما؛ أرنب أوفرتنا، وأما فرتنا فاستؤمن لها حتى آمنت، وعاشت حتى كسر ضلع من أضلاعها زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فماتت منه، فقضى فيها عثمان ثمانية آلاف درهم؛ ستة آلاف ديتها، وألفين تغليظاً للجرم.
قالوا: وأما مقيس بن صبابة فإنه كان مع أخواله بني سهم - كانت أمه سهمية - فاصطبح الخمر يوم الفتح في ندامى له، فأتى نميلة بن عبد الله الليثي، وعلم بمكانه، فدعاه فخرج إليه وهو ثمل، يتمثل بهذه الأبيات؛ أنشدنيها ابن جعفر وغيره:
دعيني أصطبح يا بكر إني ... رأيت الموت نقب عن هشام
ونقب عن أبيك أبي يزيد ... أخي القينات والشرب الكرام
بهم أرست رواسٍ من ثبيرٍ ... ومن ثور ولم تصمم صمام
تغنيني الحمام كأن رهطي ... خزاعة أو أناسٌ من جذام
فضربه بالسيف حتى برده. ويقال: خرج وهو ثملٌ فيما بين الصفا والمروة، فرآه المسلمون فهبتوه بأسيافهم حتى قتلوه، وقال شاعرهم :
لعمري لقد أخزى نميلة رهطه ... وفجع إخوان السناء بمقيس
فلله عينا من رأى مثل مقيسٍ ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس
وكان جرمه أن أخاه هاشم بن صبابة كان قد أسلم وشهد المريسيع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله رجلٌ من بني عمرو بن عوف خطأ ولا يدري، فظن أنه من المشركين، فقدم مقيس بن صبابة، فقضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على بني عمرو بن عوف، فأخذها وأسلم ثم عدا على قاتل أخيه العمري فقتله، وهرب مرتداً كافراً يقول شعراً. ويقال: قتله أوس بن ثابت، من رهط عبادة بن الصامت، وهو لا يشعر به، وذلك أنه كان في رهج العدو، فخرج يطلبهم فرجع ولقيه أوس وهو يظن أنه من المشركين فقتله، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بديته على رهط عبادة ابن الصامت - وهذا أثبت القولين - فقال:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع
ثأرت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حملت به وترى وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه.
قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي بن كعب بن مالك، قال: لما رجع مقيس بن صبابة إلى قريشٍ إلى مكة قالوا: ما ردك إلينا وقد اتبعت محمداً؟ قال: فانطلق إلى الصنمين فحلق رأسه، وقال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم ولا أقدم. ثم أخبرهم كيف صنع وكيف قتل قاتل أخيه.
قال: وحدثني عبد الله بن يزيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي، قال: لما قتل النفر الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم سمع النوح عليهم بمكة، وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي، البقية في قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا تقتل قريشٌ صبراً بعد اليوم! يعني على الكفر.
قال: وحدثني يزيد بن فراس، عن عراك بن مالك، عن الحارث بن البرصاء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تغزى قريش بعد اليوم إلى يوم القيامة! يعني على الكفر.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل وحشي مع النفر، ولم يكن المسلمون على أحد أحرص منهم على وحشي. وهرب وحشي إلى الطائف، فلم يزل به مقيماً حتى قدم في وفد الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فقال: وحشي؟ قال: نعم. قال: اجلس، حدثني كيف قتلت حمزة. فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيب عني وجهك! قال: فكنت إذا رأيته تواريت عنه. ثم خرج الناس إلى مسيلمة ، فدفعت إلى مسيلمة فزرقته بالحربة، وضربه رجلٌ من الأنصار، فربك أعلم أينا قتله.
قال: وحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيع، عن أبيه، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فاستسلف من عبد الله ابن أبي ربيعة أربعين ألف درهم فأعطاه، فلما فتح الله عليهم هوازن وغنمه أموالها ردها وقال: إنما جزاء السلف الحمد والأداء. وقال: بارك الله لك في مالك وولدك! قال: وحدثني عبد الله بن زيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي، قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثلاثة نفرٍ من قريشٍ: من صفوان ابن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه، واستقرض من عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم، واستقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فكانت ثلاثين ومائة ألف، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من أهل الضعف.
قال: فأخبرني رجلٌ من بني كنانة - كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح، أنه قسم فيهم دارهم، فيصيب الرجل خمسين درهماً أو أقل أو أكثر، ومن ذلك المال بعث إلى بني جذيمة.
قال: وحدثني سفيان بن سعيد، عن الكلبي، عن صالح، عن المطلب ابن أبي وداعة، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في يومٍ صائفٍ، وعطش فاستسقى. فقال رجلٌ: يا رسول الله، عندنا شرابٌ من هذا الزبيب، أفلا أسقيك منه؟ قال: بلى. قال: فبعث الرجل إلى بيته فأتى بقدحٍ عظيمٍ، فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم من فيه، فوجد له ريحاً شديدة فكرهه فرده. قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماءٍ، ثم دعا به. قال: وأتي بماءٍ من زمزم فصبه عليه حتى رأيت الماء يفيض من جانبه، وشرب منه حاجته، ثم ناوله الذي عن يمينه وقال: من أرابه من شرابه ريبٌ فليكسره بالماء.
قال: حدثني أسامة بن زيد، عن أسلم، وهشام بن سعد، عن زيد ابن أسلم، عن أبي وعلة، عن ابن عباس، قال: أهدى صديقٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف راوية خمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله تعالى حرمها؟ فسار الرجل غلامه: اذهب بها إلى الحزورة فبعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم أمرته؟ قال: ببيعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها! فبلغني أنها فرغت في البطحاء.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عن ثمن الخمر، وثمن الخنزير، وثمن الميتة، وثمن الأصنام، وحلوان الكاهن .
قال: وحدثني سعيد بن بشير، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: ما ترى في شحوم الميتة يدهن بها السقاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود! حرم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا ثمنها.
قال: وحدثني معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عن ثمن الخمر، فقال: قاتل الله اليهود! حرم عليهم الشحم فباعوه فأكلوا ثمنه.
قال: وحدثني معمر، وابن أبي ذئب، عن الزهري، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم متعة النساء يومئذٍ.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، ومعمر، عن الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الفتح وهو بالحزورة: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت! قال: حدثني سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وقال: لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.
قال: وحدثني شيخٌ من خزاعة، عن جابر بن عبد الله، قال: كان لبني عبد الدار غلامٌ يقال له جبر، وكان يهودياً، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة يقرأ سورة يوسف، فعرف الذي ذكر في ذلك، فاطمأن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فلما ارتد عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن إسلامه رجع إلى مكة فأخبر أهله بإسلامه، وكان العبد يكتم إسلامه من أهله قبل أن يدخل بيته، فعذبوه أشد العذاب حتى قال لهم الذي يريدون، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه، وأخبره ما لقي في سبب عبد الله بن سعد. قال: فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنه فاشترى نفسه فعتق، واستغنى ونكح امرأةً لها شرف.
قال: حدثني إبراهيم بن يزيد، عن عطاء بن أبي رباح، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح الله عليك مكة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ها هنا أفضل. فرد ذلك عليه ثلاثاً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لصلاةٌ ها هنا أفضل من ألفٍ فيما سواه من البلدان! وقالت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقدرين على ذلك، يحول بينك وبينه الروم. فقالت: آتي بخفيرٍ يقبل ويدبر. فقال: لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيتٍ يستصبح لك به فيه، فكأنك أتيته. فكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمالٍ يشتري به زيتٌ يستصبح به في بيت المقدس، حتى ماتت فأوصت بذلك.
قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن بن عوف، وإبراهيم بن عبد الله بن محرز، قالا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جلس عبد الرحمن بن عوف في مجلسٍ فيه جماعةٌ، منهم سعد بن عبادة، فمر نسوةٌ من قريشٍ على ذلك المجلس، فقال سعد بن عبادة: قد كان يذكر لنا من نساء قريش حسنٌ وجمالٌ ؛ ما رأيناهن كذلك! قال: فغضب عبد الرحمن حتى كاد أن يقع بسعد وأغلظ عليه، ففر منه سعدٌ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ماذا لقيت من عبد الرحمن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما له؟ فأخبره بما كان. قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى كأن وجهه ليتوقد، ثم قال: رأيتهن وقد أصبن بآبائهن وأبنائهن وإخوانهن وأزواجهن؛ خير نساءٍ ركبن الإبل نساء قريش! أحناه على ولدٍ، وأبذله لزوجٍ بما ملكت يدٌ! وكان أبو الطفيل عامر عامر بن واثلة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، فما أنسى شدة بياضه وسواد شعره، وإن من الرجال لمن هو أطول منه، ومنهم من هو أقصر منه، يمشي ويمشون حوله. قال: فقلت لأمي: من هذا؟ فقالت: رسول الله. قيل له: ما ثيابه؟ قال: لا أدري.
قال: وحدثني عبد الله بن يزيد، عن ربيعة بن عباد، قال: دخلنا بعد فتحها بأيام ننظر ونرتاد وأنا مع أبي، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساعة رأيته عرفته وذكرت رؤيتي إياه بذي المجاز، وأبو لهب يتبع أثره يومئذٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا حلف في الإسلام، ولن يزيد حلف الجاهلية الإسلام إلا شدة. وكانت أم هانىء تحدث تقول: ما رأيت أحداً كان أحسن ثغراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ذكرت القراطيس المثنية بعضها على بعض - تعني عكنه - وقد رأيته دخل يوم الفتح قد ضفر رأسه بضفائر أربع.
قال: وحدثني علي بن يزيد، عن أبيه، عن عمته، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ضفرت رأس النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة أربع ضفائر، فلم يحله حتى فتح مكة ومقامه بمكة، حتى حين أراد أن يخرج إلى حنين حله وغسلت رأسه بسدر.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن أبي حصين الهذلي، قال: لما أسلمت هند بنت عتبة أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية - وهو بالأبطح - مع مولاةٍ لها، بجديين مرضوفين وقدٍّ . فانتهت الجارية إلى خيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت واستأذنت، فأذن لها فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بين نسائه أم سلمة زوجته وميمونة، ونساء من نساء بني عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرةٌ غليك وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكم في غنمكم، وأكثر والدتها! فرجعت المولاة إلى هند فأخبرتها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرت بذلك، فكانت المولاة تقول: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتنا ما لم نكن نرى قبل قبل ولا قريباً، فتقول هند: هذا دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركته، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام! ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أني في الشمس أبداً قائمة، والظل مني قريبٌ لا أقدر عليه، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منا رأيت كأني دخلت الظل. قال أبو حصين: وقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم إحدى نساء بني سعد بن بكر - إما خالةٌ أو عمةٌ - بنحيٍ مملوء سمناً وجراب أقط ، فدخلت عليه وهو في الأبطح، فلما دخلت انتسبت له، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت وصقدت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبول هديتها، وجعل يسائلها عن حليمة فأخبرته أنها توفيت في الزمان. قال: فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سألها: من بقي منهم؟ فقالت: أخواك وأختاك، وهم والله محتاجون إلى برك وصلتك، ولقد كان لهم موئل فذهب. وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أهلك؟ فقالت: بذنب أوطاس. فأمر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسوة، وأعطاها جملاً ظعينةً ، وأعطاها مائتي درهم، وانصرفت وهي تقول: نعم والله المكفول كنت صغيراً، ونعم المرء كنت كبيراً، عظيم البركة.
قال: فحدثني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بث السرايا، فبعث خالد بن الوليد إلى العزى، وبعث إلى ذي الكفين - صنم عمرو بن حممة - الطفيل بن عمرو الدوسي، فجعل يحرقه بالنار ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حششت النار في فؤادكا
وبعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة بالمشلل فهدمه، وبعث عمرو بن العاص إلى صنم هذيل - سواع - فهدمه، فكان عمرو يقول: انتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت: هدم سواع. فقال: ما لك وله؟ فقلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: لا تقدر على هدمه. قلت: لم؟ قال: يمتنع. قال عمرو: حتى الآن أنت في الباطل! ويحك هل يسمع أو يبصر؟ قال عمرو: فدنوت إليه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، ولم يجدوا فيها شيئاً، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: من كان يؤمن بالله وبرسوله فلا يدعن في بيته صنماً إلا كسره. قال: فجعل المسلمون يكسرون تلك الأصنام، وكان عكرمة بن أبي جهل حين أسلم لا يسمع بصنمٍ في بيتٍ من بيوت قريش إلا مشى إليه حتى يكسره، وكان أن بتجراة يعملها في الجاهلية ويبيعها. قال سعد بن عمرو: أخبرني أنه كان يراه يعملها ويبيعها. ولم يكن رجل من قريش بمكة إلا وفي بيته صنمٌ.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن بعض آل جبير بن مطعم، عن جبير بن مطعم، قال: لما كان يوم الفتح نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله فلا يتركن في بيته صنماً إلا كسره أو حرقه، وثمنه حرام. قال جبير: وقد كنت أرى قبل ذلك الأصنام يطاف بها مكة، فيشتريها أهل البدو فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما من رجل من قريشٍ إلا وفي بيته صنمٌ، إذا دخل مسحه وإذا خرج مسحه تبركاً به.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد المجيد بن سهيل، قال: لما أسلمت هند بنت عتبة جعلت تضرب صنماً في بيتها بالقدوم، فلذةً فلذةً، وهي تقول: كنا منك في غرور! قال: وحدثني محمد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة، يصلي ركعتين.
قال: حدثني مخرمة بن بكير، عن أبيه عراك بن مالك، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ليلة، يصلي ركعتين.
تم بعون الله تعالى الجزء الثاني من مغازي الواقدي، ويليه الجزء الثالث وأوله " شأن هدم العزى " .
الجزء الثالث
شأن هدم العزىقال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الجمعة لعشر ليالٍ بقين من رمضان؛ فبث السرايا في كل وجه. أمرهم أنيغيروا على من لم يكن على الإسلام. فخرج هشام بن العاص في مائتين قبل يلملم.وخرج خالد ابن سعيد بن العاص في ثلثمائة، قبل عرنة. وبعث خالد بن الوليد إلي العزى يهدمها. فخرج خالد في ثلاثين فارساً من أصحابه حتى انتهى إليها وهدمها. ثم رجع إلي النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: هدمت؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئاً ما؟ قال: لا. قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها. فرجع خالد وهو متغيظ. فلما انتهى إليها جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة سوداء، عريانة، ناشرة الرأس. فجعل السادن يصيح بها. قال خالد: وأخذني اقشعرارا في ظهري، فجعل يصيح:
أيا عز شدي شدة لا تكذبي ... على خالد ألقى القناع وشمرى
أيا عز إن لم تقتلي المرء خالداً ... فبوئي بذنب عاجل أو تنصري
قال: وأقبل خالد بالسيف إليها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني ودجدت الله قد أهانك
قال: فضربها بالسيف فجزلها باثنين، ثم رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: نعم، تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبداً. ثم قال خالد: أي رسول الله، الحمد لله الذي أكرمنا وأنقذنا من الهلكة! إني كنت أرى أبي يأتي إلي العزى بحتره؛ مائة من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثاً ثم ينصرف إلينا مسروراً، فنظرت إلي ما مات عليه أبي، وذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله، كيف خدع حتى صار يذبح لحجر ل يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأمر إلي الله، فمن يسره للهدى تيسر، ومن يسره للضلالة كان فيها. وكان هدمها لخمس ليالٍ بقين من رمضان سنة ثمان. وكان سادنها أفلح بن نضر الشيباني من بني سليم، فلما حضرته الوفاة دخل عليه وهو حزين، فقال له أبو لهب مالي أراك حزيناً؟ قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدى. قال له أبو لهب: فلا تحزن، فأنا أقوم عليها بعدك. فجعل كل من لقى قال: إن تظهر العزى كنت قد اتخذت يداً عندها بقيامي عليها ، وإن يظهر محمد على العزى - ولا أراخ يظهر - فابن أخي! فأنزل الله عز وجل: " تبت يدا أبي لهب " ؛ ويقال إنه قال هذا في اللات . وقال حسان بن ثابت .
باب ذكر من قتل من المسلمين يوم الفتحرجلان آخطآ الطريق، كرز بن جابر الفهري، وخالد الأشعر، من بني كعب.
عزوة بني جذيمةقال : حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر، قال: لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مقيم بمكة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة، وبعثه داعياً لهم إلي الإسلام ولم ببعثه مقاتلاً فخرج في المسلمين من المهاجرين والأنصار وبني سليم؛ فكانوا ثلثمائة وخمسين رجلاً، فانتهى إليهم بأسفل مكة، فقيل لبني جذيمة: هذا خالد بن الوليد معه المسلمون. قالوا: ونحن قوم مسلمون، قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد وأذنا فيها. فانتهى إليهم خالد فقال: الإسلام! قالوا: نحن مسلمون! قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين قومٍ من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم، فأخذنا السلاح لأن ندفع عن أنفسنا من خالف دين الإسلام. قال: فضعوا السلاح! فقال لهم رجل منهم يقال له جحدم: يا بني جذيمة، إنه والله خالد! وما يطلب محمد من أحد أكثر من أن يقر بالإسلام، ونحن مقرون با لإسلام؛ وهو خالد لا يريد بنا ما يراد بالمسلمين، وإنه ما يقدر مع السلاح إلا الإسار، ثم بعد الإسار السيف! قالوا: نذكرك الله، تسومنا. فأبى يلقي سيفه حتى كلموه جميعاً فألقى سيفه وقالوا: إنا مسلمون والناس قد أسلموا، وفتح محمد مكة، فما نخاف من خالد؟ فقال: أما والله ليأخذنكم بما تعلمون من الأحقاد القديمة. فوضع القوم السلاح، ثم قال لهم خالد: استأسروا! فقال جحدم: يا قوم، ما يريد من قومٍ مسلمين يستأ سرون! إنما يريد ما يريد، فقد خالفتموني وعصيتم أمري، وهو والله السيف. فاستأ سر القوم، فأمر بعضهم يكتف بعضاً، فلما كتفوا دفع إلي كل رجلٍ من المسلمين الرجل والرجلين؛ وباتوا في وثاقٍ، فكانوا إذا جاء وقت الصلاة يكلمون المسلمين فيصلون ثم يربطون. فلما كان في السحر، والمسلمون قد احتفلوا بينهم، فقائلٍ يقول: ما نريد بأسرهم، نذهب بهم إلي النبي صلى الله عليه وسلم. وقائل يقول: ننظر هل يسمعون أو يطيعون، ونبلوهم ونخبرهم. والناس على هذين القولين، فلما كان في السحر نادى خالد بن الوليد: من كان معه أسير فليذافه - والمذافة: الإجهاز عليه بالسيف. فأما بنو سليم فقتلوا كا من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا آسراهم.
قال: فجد ثني موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: كنت مع خالد بن الوليد وكان في يدي أسير، فأرسلته وقلت: اذهب حيث شئت! وكان مع أناس من الأنصار أسارى فأرسلوهم.
قال: وحدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: وأرسلت أسيري، وما احب أني قتلته وأن لي ما طلعت عليه شمس أو غربت، وأرسل قومي معي من الأنصار أسراهم.
قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: لما نادى خالد من كان معه أسير فليذافه أرسلت أسيري.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن ضمرة بن سعيد، قال: سمعت أبا بشير يا لمازني يقول: كان معي أسير منهم. قال: فلما نادى خالد من كان معه أسير فليذافه أخرجت سيفي لأضرب عنقه، فقال لي الأسير: يا أخا الأنصار، إن هذا لا يفوتك، انظر إلى قومك! قال: فنظرت فإذا الأنصار طرا قد أرسلوا آسراهم. قال: قلت انطلق حيث شئت! فقال: بارك الله عليكم، ولكن من كان أقرب رحماً منكم قد قتلونا! بنو سليم.
قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله، عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: لما نادى خالد بن الوليد في الأسرى يذافون، وثبت بنو سليم على أسراهم فذافوهم - وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم - غضب خالد على من أرسل من الأنصار، فكلمه يومئذ أبو أسيد الساعدي وقال: اتق الله يا خالد، والله ما كنا لنقتل قوماً مسلمين! قال: وما يدريك؟ قال: نسمع إقرارهم بالإسلام، وهذه المساجد بساحتهم.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد قسيط، عن أبيه،عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن أبي حد رد، عن أبيه، قال: إنا في الجيش وقد كتفت بنو جذيمة، أمر بعضهم فكتف بعضاً. فقال رجل من الأسرى: يا فتى! فقلت: ما تريد؟ قال: هل أنت آخذ برمتى هذه فمقدمي إلى النسيات، ثم رادى ففاعل بي ما فعل بأصحابي؟ قال: قد سألت يسيراً . قال: وأخذت برمته فانتهيت به إلى النسوة. فلما انتهى إليهن كلم امرأة منهن ببعض ما يريد. قال: ثم رجعت به حتى رددته في الأسرى، فقام بعضهم فضرب عنقه.
ويقال: إن فتى من بني جذيمة أدركه الجيش عشية، فنادى في القوم فكف عنه، وكان الذين يطلبونه بنو سليم، وكانوا عليه متغيظين في حروب كانت بينهم ببرزة وغيرها، وكانت بنو جذيمة قد أصابوهم ببرزة وهم موتورون يريدون القود منهم. فشجعوا عليه، فلما لم ير إلا أنهم يقتلونه شد عليهم فقتل منهم رجلاً، ثم شد عليهم ثانية فقتل منهم آخر، ثم جاء الظلام فحال بينهم، ووجد الفتى فرجة، حتى إذا كان الغداة جاء وقد قتل من القوم رجلين، والنساء والذرية في يد خالد، فاستأمن فعرض فرسه، فلما نظروا إليه قالوا: هذا الذي صنع بالأمس ما صنع، فناوشوه عامة النهار ثم أعجزهم وكر عليهم، فقال: هل لكن أن أنزل، على أن تعطوني عهداً وميثاقاً لتصنعن بي ما تصنعون بالظعن؛ إن استحييتموهن استحييت وإن قتلتموهن قتلت؟ قالوا: لك ذلك. فنزل بعهد اله وميثاقه، فلما نزل قالت بنو سليم: هذا صاحبنا الذي فعل بالأمس ما فعل. قالوا: انطلقوا به إلى الأسرى من الرجال، فإن قتله خالد فهو إمام ونحن له تبع، وإن عفا عنه كان كأحدهم. فقال بعضهم: إنما جعلنا له العهد والميثاق أن يكون مع الظعن، وأنتم تعلمون أن خالداً لا يقتل، إما يقسمهن وإما يعفو عنهن. قال الفتى: فإذا فعلتم بي ما فعلتم، فانطلقوا بي إلى نسياتٍ هناك، ثم اصنعوا بي مابدا لكم. قال: ففعلوا، وهو مكتوف برمة، حتى وقف على امرأة منهن، فأخلد إلى الأرض وقال: أسلمى جيش على نفد العيش! لا ذنب لي قد قلت شعراً:
أثيبى بود قبل أن تشحط النوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق
ألم يك حقاً أن ينول علاشق ... تكلف أدراج السرى والودائق
ألم أك قد طالبتكم فلقيتكم ... بحلية أو أدراكتكم با لخوانق
فإني لا ضيعت سر أمانة ... ولا راق عني بعدك اليوم رائق
سوى أن ما نال العشيرة شاغل ... لنا عنك إلا أن يكون التواثق
أنشدنيها ابن قسيط وابن أبي الزناد.
قال: فحدثني عبد الله بن أبي حرة، عن الوليد، عن سعيد، عن حنظلة بن علي، قال: أقبلت امرأة يومئذ بعد أن ضربت عنقه. يقول: ثم وضعت فاها على فيه فالتقمته، فلم تزل تقبله حتى ماتت.
قال: حدثني عبد الله بن زيد، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: لما قدم خالد بن الوليد على النبي صلى الله عليه وسلم عاب عبد الرحمن بن عوف على خالدٍ ما صنع، قال: يا خالد، أخذت بأمر الجاهلية! قتلتهم بعملك الفاكه، قاتلك الله! قال: وأعانه عمر بن الخطاب على خالد، فقال خالد: أخذتهم بقتل أبيك! فقال عبد الرحمن: كذبت والله، لقد قتلت قاتل أبي بيدي وأشهدت على قتله عثمان بن عفان. ثم التفت إلى عثمان فقال: أنشدك الله، هل علمت أني قتلت قاتل أبي؟ فقال عثمان: اللهم، نعم. ثم قال عبد الرحمن: ويحك يا خالد، ولو لم أقتل قاتل أبي كنت تقتل قوماً مسلمين بأبي في الجاهلية؟ قال خالد: ومن أخبرك أنهم أسلموا؟ فقال: أهل السرية كلهم يخبروننا أنك وجدتهم قد بنوا المساجد وأقروا بالإسلام، ثم حملتهم على السيف. قال: جائني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أغير عليهم، فأغرت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عبد الرحمن: كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد وغضب عليه، وبلغه ما صنع بعبد الرحمن فقال: يا خالد، ذروا لي أصحابي! متى ينك أنف المرء ينك! لو كان أحد ذهباً تنفقه قيراطاً قيراطاً في سبيل يا لله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن بن عوف! قال: حدثني عبد الله بن عمر، عن نافعٍ ، عن ابن عمر، قال: قال عمر لخالد: ويحك يا خالد، أخذت بني جذيمة بالذي كان من أمر الجاهلية! أو ليس الإسلام قد محا ما كان قبله في الجاهلية؟ فقالك يا أبا حفص، و الله ما أخذتهم إلا بالحق! أغرت على قوم مشركين وامتنعوا، فلم يكن لي بد - إذا امتنعوا - من قتلهم، فأسرتهم ثم حملتهم على السيف. فقال عمر: أي رجلٍ تعلم عبد الله بن عمر؟ قال: أعلمه والله رجلاً صالحاً. قال: فهو أخبرني غير الذي أخبرتني، وكان معك في ذلك الجيش. قال خالد: فإني أستغفر الله وأتوب إليه. قال: فانكسر عنه عمر، وقال: ويحك، ايت رسول الله يستغفر لك! قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أهله، عن أبي قتادة، وكان في القوم، قال: لما نادى خالد في السحر من كان معه أسير فليذافه أرسلت أسيرى وقلت لخالد: اتق الله، فإنك ميت! وإن هؤلاء قوم مسلمون! قال: يا أبا قتادة، إنه لا علم لك بهولاء.
قال أبو قتادة: فإنما يكلمني خالد على مافي نفسه من الترة عليهم.
قالوا: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد بن الوليد رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وهو يقول: اللهم، إني أبرأ إليك مما صنع خالد! وقدم خالد والنبي صلى الله عليه وسلم عاتب.
قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، قال: كان بين عبد الرحمن بن عوف وخالدٍ كلام، فأعرض عنه عبد الرحمن، فمشى خالد بعثمان بن عفان إلى عبد الرحمن، فاعتذر إليه حتى رضى عنه فقال: استغفر لي يا أبا محمد! قالوا: ودخل عمار على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد حمش قوماً قد صلوا وأسلموا. ثم وقع بخالدٍ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وخالد جالس لا يتكلم، فلما قام عمار وقع به خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه يا خالد! لا تقع بأبي اليقظان، فإنه من يعاده الله، ومن يبغضه الله، ومن يسفهه الله.
قالوا: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استقرض مالاً بمكة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فأعطاه مالاً، فقالك انطلق إلى بني جذيمة واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فد لهم ما أصاب خالد بن الوليد. فخرج علي عليه السلام بذلك المال حتى جاءهم، فودى لهم ما أصاب خالدً، ودفع إليهم مالهم، وبقي لهم بقية المال، فبعث علي عليه السلام أبا رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستزيده، فزاده مالاً، فودى لهم كل ما أصاب، حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق لهم شئ يطلبونه بقي مع علي عليه السلام بقية من المال. فقال علي عليه السلام: هذه البقية من هذا المال لكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أصاب خالدن مما لا يعلمه ولا تعلمونه. فأعطاهم ذلك المال، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. ويقال إنما المال الذي بعث به مع علي عليه السلام كان أتقرضه النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبي ربيعة، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، فبعث مع علي عليه السلام، فلما رجع علي دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعت يا علي؟ فأخبره وقال: يا رسول الله، قدمنا على قوم مسلمين، قد بنوا المساجد بساحتهم، فوديت لهم كل من قتل خالد حتى ميلغة الكلاب، ثم بقي معي بقية من المال فقلت: هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلمه ولا تعلمونه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبت! ما أمرت خالداً بالقتل، إنما أمرته بالدعاء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل على خالد، ويعرض عنه، وخالد يتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحلف ما قتلهم على تره ولا عداوة. فلما قدم على ووداهم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد، فلم يزل عنده من علية أصحابه حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسى، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا خالد بن الوليد، فإنما هو سيف من سيوف الله، سله على المشركين!! قال: وحدثني محمد بن حرب، عن أبي بكر بن عبد الله، عن أبي الأحوص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم عبد الله خالد بن الوليد، وأخو العشيرة، وسيف من سيوف الله، سله على الكفار والمنافقين!
قال: وحدثني يوسف بن يعقوب بن عتبة، عن عثمان بن محمد الأخنسى، عن عبد الملك بن عبد الرحمن بن الحارث، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد يغير على بني كنانة، إلا أن يسمع أذاناً أو يعلم إسلاماً، فخرج حتى انتهى إلى بني جذيمة فامتنعوا أشد الامتناع، وقاتلوا وتلبسوا السلاح؛ فانتظر بهم صلاة العصر والمغرب والعشاء لا يسمع أذاناً، ثم حمل عليهم فقتل من قتل وأسر من أسر، فادعوا بعد الإسلام. قال عبد الملك: وما عتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك على خالد ولقد كان المقدم حتى مات. ولقد خرج معه بعد ذلك إلى حنين على مقدمته، وإلى تبوك، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكيدر ودوم الجندل، فسبى من سبى ثم صالحهم؛ ولقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بالحارث بن كعب إلى نجران أميراً وداعياً إلى الله، ولقد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فلما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه تعظاه ناصيته، فكانت في مقدم قلنسوته. فكان لا يلقى أحداً إلا هزمه الله تعإلى؛ ولقد قاتل يوم اليرموك فوقعت قلنسوته، فجعل يقول: القلنسوة! القلنسوة! فقيل له بعد ذلك: يا أب سليمان، عجباً لطلبك القلنسوة وأنت في حومة القتال! فقال: إن فيها ناصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ألقى بها أحداً إلا ولى. ولقد توفي خالد يوم توفي، وهو مجاهد في سبيل الله، وقبره بحمص؛ فأخبرني من غسله وحضر موته، ونظر إلى ما تحت ثيابه، مافية مصح؛ ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رميةٍ بسهمٍ. ولقد كان عمر بن الخطاب الذي بينه وبينه ليس بذلك، ثم يذكره بعد فيترحم عليه ويتندم على ما كان صنع في أمره، ويقول: سيف من سيوف الله تعإلى! ولقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال الرجل: فلان. قال: بئس عبد الله فلان! ثم طلع خالد بن الوليد فقال: من هذا؟ قال: خالد ابن الوليد. قال: ثعم عبد الله خالد بن الوليد! وقال رجلف من بني جذيمة مبيض قال: سمعت خالد بن إلياس يقول: بلغنا أنه قتل منهم قريباً من ثلاثين رجلاً.
غزوة حنينحدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي قال: حدثنا الوادي قال: حدثنا محمد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، ومحمد بن صالحن وأبو معشر، وابن أبي حبيبة، ومحمد بن يحيى بن سهل، وعبد الصمد بن محمد السعدي، ومعاذ بن محمد، وبكير بن مسمار، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة؛ فكل قد حدثنا بطائفةٍ، وغير هؤلاء حدثنا ممن لم أسم، أهل ثقة، فكل قد حدثنا بطائفةٍ من هذا الحديق، وبعضهم أوعى له من بعض، وقد جمعت كل ما قد حدثوني به.
قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مشت أشراف هوزان بعضها إلى بعض، وثقيف بعضها إلى بعض، وحشدوا وبغوا وأطهروا أن قالوا: والله ما لاقى محمد قوماً يحسنون القتال، فأجمعوا أمركم فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم. فأجمعت هوزان أمرها وجمعها مالك بن عوف وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة - وكان سيداً فيها، وكان مسبلاً، يفعل في ماله ويحمد. فاجتمعت هوزان كلها، وكان في تكيف سيدان لها يومئذ: قارب بن الأسود بن مسعود في الأحلاف، هو الذي قادها؛ وفي بني مالك ذو الخمار أبيع بن الحراث - ويقال الأحمر بن الحارث - وهو الذي قادها موالياً ثقيفاً؛ فأوبت كلها مع هوزان، وقد أجمعوا المسير إلى محمد، فوجد ثقيفاً إلى ذلك سراعاً، فقالوا: قد كنا نهم بالمسير إليه، ونكره أن يسير إلينا، ومع ذلك لو سار إلينا لوجد حصناً حصيناً نقاتل دونه، وطعاماً كثيراً، حتى نصيبه أو ينصرف، ولكنا لا نريد ذلك، ونسير معكم ونكون يداً واحدة. فخرجوا معهم. قال غيلان بن سلمة الثقفي لبنيه، وهم عشرة: أني أريد أمراً كائنه له أمور، لا يشهدها رجل منكم إلا على فرسه. فشهدها عشرة من ولده على عشرة أفراس، فلما انهزموا بأوطاس هربوا، فدخلوا حصن الطائف فغلقوه. وقال كنانة بن عبد يا ليل: يا معشر ثقيف، إنكم تخرجون من حصنكم وتسيرون إلى رجل لا تدرون أيكون لكم أم عليكم؛ فمروا بحصنكم أن يرم مارث منه، فإنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه. فأمروا به أن يصلح، وخلفوا على حرمته رجلاً وساروا، وشهدها ناس من بني هلال ليسوا بكثيرٍ، ما يبلغون مائة، ولم يحضرها من هوزان كعب ولا كلاب، ولقد كانت كلاب قريبة، فقيل لبعضهم: لم تركتها كلاب فلم تحضرها؟ فقال: أما والله إن كانت لقريبة، ولكن ابن أبي إبراء مشى فنهاها عن الحضور فأطاعته، وقال: والله، لو ناوأ محمداً من بين المشرق والمغرب لظهر عليه.
ونصرها دريد بن الصمة في بني جشم، وهو يومئذٍِ ابن ستين ومائة سنة، شيخ كبير ليس فيه شئ إلا التيمن به ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وقد ذهب بصره يومئذ. وجماع الناس، ثقيف وغيرها من هوزان. إلى مالك بن عوف النصري، فلما أجمع مالك المسير بالناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا بأوطاس، واجتمع الناس به فعسكروا وأقاموا به، وجعلت الأمداد تأتيهم من كل ناحية. ودريد بن الصمة يومئذ في شجار يقاد به على بعير، فمكث على بعيره، فلما نزل الشيخ لمس الأرض بيده، فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس ولا سهل دهس! مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وثغاء الشاء، وخوار البقر، وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك من الناس أبناءهم نساءهم وأموالهم. قال: يا معشر هوزان، أممعكم من بني كلاب بن ربيعة أحد؟ قالوا: لا. قال: فمعكم من بني كعب بن ربييعة أحد؟ قالوا: لا. قال: فهل معكم من بني هلال بن عامر أحد؟ قالوا: لا. قال دريد: لو كان خيراً ما سبقتموهم إليه، ولو كان ذكراً أو شرفاً ما تخلفوا عنه؛ فأطيعوني يا معشر هوزان، وارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء! فأبوا عليه. قال: فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان من عامر، لا يضران ولا ينفعان! ثم قال: أين مالك؟ قالوا: هذا مالك فدعا له فقال: يا مالك، إنك تقاتل رجلاً كريماً؛ وقد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا اليوم كائن لما بعده من الأيام! يا مالك، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وخوار البقر، وبكاء الصغير، وثغاء الشاء؟ قال مالك سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم نساءهم. قال دريد: ولم؟ قال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجلٍ أهله وماله وولده ونساءه حتى يقاتل عنهم. قال: فأنقض بيده، ثم قال: راعى ضأن، ما له واللحرب؟ وهل يرد المنهزم شئ؟ أنها إن كانت لكم لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الجد والحد، ولو كان يوم رفعةٍ وعلاء لم تغب عنه كعب ولا كلاب. يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئاً، فإذا صنعت ما صنعت فلا تعصى في هذه الخطة؛ ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعليا قومهم وعزهم، ثم الق القوم على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك؛ وكان أهلك لا خوف عليهم، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. فغضب مالك من قوله وقال: والله لا أفعل، ولا إير أمراً صنعته، إنك قد كبرت وكبر علمك، وحدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك؟ قال دريد: يا معشر هوزان، والله ما هذا لكم برأي هذا فاضحكم في عورتكم وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه؟! فسل مالك سيفه، ثم نكسه، ثم قال يا معشر هزان، والله لتطيعنني أو لأتكئن على السيف حتى يخرج من ظهري! وكره مالك أن يكون لدر يد فيها ذكر ورأى، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: والله، لئن عصينا مالكاً، وهو شاب، ليقتلن نفسه ونبقى مع دريد، شيخ كبير لا قتال فيه، ابنستين ومائة سنة. واجمعوا أمرهم مع مالك، فلما رأى ذلك دريد وأنهم قد خالفوه، قال: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
وكان دريد قد ذكر با لفوسية والشجاعة، ولم يكن له عشرون سنة، وكان سيد بني جشم وأوسطهم نسباً، ولكن السن أدركته حتى فنى فناء وهو دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة.
قال: حدثني معمر، عن الزهري، قال: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الله تعإلى: إذا جاء نصر الله والفتح قالوا: وكان فتح مكة يوم الجمعة لعشرٍ بقين من رمضان، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة يصلى ركعتين، ثم غدا يوم اسبت لست ليال خلون من شوال، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد يصلى بهم، ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه.
قالوا: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثنى عشر ألفاً من المسلمين، عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفين من أهل مكة، فلما فصل قال رجل من أصحابه: لو لقينا بني شيبان ما بالينا، ولا يغلبنا اليوم أحد من قلة. فأنزل الله عز وجل في ذلك: لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم الآية.
قال : حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن موسى بن عقبة، عن الزهري، عن سعيد بن السيب، قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، لا نغلب اليوم من قلة. فأنزل الله عز وجل في ذاك: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة.. " الآية.
قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة - كلمتهم واحدة.
قالوا: وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المشركين كثير، منهم صفوان بن أمية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعار منه مائة درع بأداتها كاملة، فقال: يا محمد، طوعاً أو كرهاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عارية موداة! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان: اكفنا حملها. فحملها صفوان على إبله حتى انتهوا إلى أوطس، فدفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا معمر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي - وهو الحارث بن مالك - قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة يعلقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها، يعكفون عليها يوماً. قال: فرأينا يوماً، ونحن نسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، شجرة عظيمة خضراء، فسترتنا من جانب الطريق، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! الله أكبر! قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " إنها للسنن، سنن من كان قبلكم.
حدثني ابن حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كانت ذات أنواط شجرة عظيمة، أهل الجاهلية يذبحون بها ويعكفون عليها يوماً، وكان من حج منهم وضع رداءه عندها، ويدهل بغير رداء تعظيماً لها، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين قال له رهط. من أصحابه، فيهم الحارث بن مالك: يا رسول الله. اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وقال: هكذا فعل قوم موسى بموسى.
قال: قال أبو بردة بن نيار: لما كنا دون أوطاس نزلنا تحت شجرة ونظرنا إلى شجرة عظيمة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، وعلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه وقوسه. قال: وكنت من أقرب أصحابه إليه. قال: فما أفزعني إلا صوته: يا أبا بردة! فقلت: لبيك! فأقبلت سريعاً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه وقوسه. قال: وكنت من أقرب أصحابه إليه. قال: فما أفزعني إلا صوته: يا أبا بردة! فقلت: لبيك! فأقبلت سريعاً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده رجل جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الرجل جاء وأنا نائم، فسل سيفي ثم قام به على رأس ففزعت به، وهو يقول: يا محمد، من يومنك مني اليوم؟ قلت: الله ! قال أبو بردة: فوثبت إلى سيفي فسللته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شم سيفك! قال: قلت: يا رسول الله، دعني أضرب عنق عدو الله؛ فإن هذا من عيون المشركين. قال: فقال لي: اسكت يا أبا بردة. قال: فما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا عاقبة. قال: فجعلت أصيح به في العسكر ليشهده الناس فيقتله قاتل بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كفني عن قتله. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اله عن الرجل يا أبا بردة!، إن الله مانعي وحافظي حتى يظهر دينه على الدين كله.
قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليالً خلون من شوال. وبعث مالك بن عوف رجالاً من هوازان ينظرون إلى محمد وأصحابه - ثلاثة نفر - وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ما شأنكم ويلكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيلً بلقٍ، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! وقالوا له: ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلا أهل السموات - وإن أفئدة عيونه تخفق - وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل ما رأينا أصابهم مثل الذي أصابنا. قال: أف لكم! بل أنتم قوم أجبن أهل العسكر. فجسهم عنده فرقاً أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجلٍ شجاع. فأجمعوا له على رجلٍ، فخرج، ثم رجع إليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم، فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالاً بيضاً على خيلٍ بلقٍ، ما يطاق النظر إليهم؛ فو الله ما تماسكت أن أصابني ما ترى! فلم يثنه ذلك عن وجهه.
قالوا: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي حدرد الأسلمي فقال: انطلق فادخل في الناس حتى تأتى بخير منهم، وما يقول مالك. فخرج عبد الله فطاف في عسكرهم، ثم انتهى إلى ابن عوف فيجد عنده رؤساء هوزان، فسمعه يقول لأصحابه: إن محمداً لم يقاتل قط. قبل هذه المرة، وإنما كان يلقي قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فينصر عليهم؛ فإذا كان في السحر فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم، ثم صفوا صفوفكم، ثم تكون الحملة منكم، واكسروا جفون سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسور الجفن، واحملوا حملة رجلٍ واحدٍ، واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولاً! فلما وعى ذلك عبد الله بن أبي حدرد رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بكل ما سمع، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره بما قال، فقال: كذب ابن أبي حدرد. فقال ابن أبي حدرد: لئن كذبتني لربما كذبت بالحق! فقال: يا رسول الله، اسمع ما يقول ابن أبي حدرد! قال: صدق، كنت ضالاً فهداك الله! قالوا: وكان سهل بن الحنظلية الأنصاري يقول: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة هوزان، فأسرع السير حتى أتاه رجل فقال: يا رسول الله، قد تقطعوا من ورائك! فنزل فصلى العصر، وأوى إليه الناس فأمرهم فنزلوا، وجاءه فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت من بين أيديكم على جبل كذا وكذا، فإذا بهوزان على بكرة أبيها بظعنها ونسائها ونعمها في وادي حنين. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا فارس يحرسنا الليلة؟ إذا أقبل أنيس بن أبي مرثد الغنوى على فرسه، فقال: أنا ذا يا رسول الله. فقال انطلق حتى تقف على جبل كذا وكذا فلا تنزلن إلا مصليا أو قاضي حاجة، ولا تغرن من خلفك! قال وبتنا حتى أضاء الفجر، وحضرنا الصلاة، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أأحسستم فارسكم الليلة؟ قلنا: لا والله!فأقيمت الصلاة فصلى بنا، فلما سلم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر خلال الشجر، فقال: أبشروا، قد جاء فارسكم! وجاء فقال: يا رسول الله ، إني وقفت على الجبل كما أمرتني، فلم أنزل عن فرسى إلا مصلياً أو قاضي حاجة حتى أصبحت، فلم أحس أحداً. قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فانزل عن فرسك، وأقبل علينا. فقال: ما على هذا ألا يعمل بعد هذا عملاً؟ قالوا: وخرج رجال من مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يغادر منهم أحداً - على غير دين - ركباناً ومشاة، ينظرون لمن تكون الدرئة فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وخرج أبو سفيان بن حرب في أثر العسكر، كلما مر بترس ساقط. أو رمح أو متاع النبي صلى الله عليه وسلم حمله، والأزلام في كنانته، حتى أوقر جمله. وخرج صفوان ولم سلم، وهو في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطرب خلف الناس، ومعه حكيم بن حزام. وحويطب بن عبد العزي، وسهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب. والحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، ينظرون لمن تكون الدائرة. واضطربوا خلف الناس والناس يقتلون، فمر به رجل فقال: أبشر أبا وهب! هزم محمد وأصحابه! فقال له صفوان: إن ربا من قريش أحب إلى من رب من هزان إن كنت مربوباً.
قالوا: ولما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم في وادي حنين - وهو واد أجوف، ذو شعابٍ ومضايق - وفرق الناس فيه، وأعوعز إلى الناس أن يحملوا على محمد وأصحابه حملة واحدة. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وصفهم صفوفاً في السحر، ووضع الألوية والرايات في أهلها؛ مع المهاجرين لواء يحمله على عليه السلام، وراية يحملها سعد بن أبي وقاص، وراية يحملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وفي الأنصار رايات، مع الخزرج لواء يحمله الحباب بن المنذر - ويقال لواء الخزرج الأكبر مع سعد بن عبادة - ولواء الأوس مع أسيد بن حضير، وفي كل بطن من الأوس والخزرج لواء أو راية. وفي بني عبد الأشهل راية يحملها أبو نائلة، وفي بني حارثة راية يحملها أبو بردة بن نيار، وفي ظفر راية يحملها قتادة بن النعمان، وراية يحملها جبر بن عتيك في بني معاوية، وراية يحملها هلال بن أمية في بني واقف، وراية يحملها أبو لبابة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف. وراية يحملها أبو أسيد الساعدي في بني ساعدة، وراية يحملها عمارة بن حزم في بني مالك بن النجار، وراية يحملها أبو سليط. في بني عدى بن النجار، وراية يحملها سليط. بن قيس في بني مازن. وكانت رايات الأوس والخزرج في الجاهلية خضر وحمر، فلما كان الإسلام أقروها على ما كانت عليه؛ وكانت رايات المهاجرين سود والألوية بيض. وكان في قبائل العرب في أسلم رايتان، إحداهما مع بريدة بن الحصيب، والأخرى مع جندب بن الأعجم. وكان في بني غفار راية يحملا أبو ذر، ومع بني ضمرة، وليث، وسعد بن ليث راية يحملها أبو واقد الليثي الحارث بن سفيان، والأخرى أبو شريح. وكان في بني مزينة ثلاث رايات؛ راية يحملها بلال بن الحارث، وراية يحملها النعمان بن مقرن، وراية يحملها بلال بن الحارث، وراية يحملها النعمان بن مقرن، وراية يحملها عبد الله بن عمرو بن عوف. وكان في جهينة أربع رايات؛ راية مع رافع بن مكيث، وراية مع عبد الله بن يزيد. وراية مع أبي زرعة معبد بن خالد، وراية مع سويد بن صخر. وكانت في بني أشجع رايتان؛ واحدة مع نعيم بن مسعود، والأخرى مع معقل بن سنان. وكانت في بني سليم ثلاث رايات؛ راية مع العباس بن مرداس، وراية مع خفاف بن ندبة، وراية مع الحجاج بن علاط. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدم سليماً من يوم خرج من مكة فجعلهم مقدمة الخيل، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فلم يزل على مقدمته حتى ورد الجعرانة.
قالوا: وانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وقد مضت مقدمته وهو على تعبئة في وادي حنين، فانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم انحداراً - وهو وادٍ حدور - وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء دلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة، واستقبل الصفوف، وطاف عليها بعضها خلف بعض ينحدرون في الوادي، فحضهم على القتال وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، فبيناهم على ذلك ينحدرون في غلس الصبح.
فكان أنس بن مالك يحدث يقول: لما انتهينا إلى وادي حنين - وهو وادٍ من أودية تهامة له مضايق وشعاب - فاستقبلنا من هوزان شئ، لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط. من السواد والكثرة! قد ساقوا نساءهم وأموالهم وأبناءهم وذراريهم ثم صفوا صفوفاً، فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاءوا بالإبل والبقر والغنم فجعلوها وراء ذلك؛ لئلا يفروا بزعمهم. فلما رأينا ذلك السواد حسبناه رجالاً كلهم، فلما تحدرنا في الوادي، فبينا نحن فيه غلس الصبح، إن شعرنا إلا بالكتائب قد خرجب علينا من مضيق الوادي وشعبه فحملوا حملة واحدة، فانكشف أول الخيل - خيل سليم - مولية فولوا، وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين، ما يلوون على شئ. قال أنس: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفت عن يمينه ويساره والناس منهزمون، وهو يقول: يا أنصار الله وأنصار رسوله! أنا عبد الله ورسوله صابر! قال: ثم تقدم بحربته أمام الناس، فوالذي بعته بالحق، ما ضربنا بسيف ولا طعنا برمح حتى هزمهم الله، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العسكر وأمر أن يقتل من قدر عليه منهم، وجعلت هوزان تولى وثاب من انهزم من المسلمين.
قال: حدثني معمر، ومحمد بن عبد الله، عن الزهري، عن كثير بن العباس بن عبد المطلب، عن أبيه، قال: لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون، فولى المسلمون يومئذ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذاً بثفر بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يألو ما أسرع نحو المشركين. قالك فأتيته حتى أخذت بحكمة بغلته، وهو على بغلة له شهباء، فشجرتها بالحكمة، وكنت رجلاً صيتاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى من الناس ما رأى؛ لا يلوون على شئ، قالك يا عباس، اصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! فناديت: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! قال: فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت إلى أولادها، يقولون: يا لبيك! يا لبيك! فيذهب الرجل منهم فيثنى بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقدمها في عنقه، ويأخذ ترسه وسيفه ثم يقتحم عن بعيره فيخلى سبيله في الناس، ويوم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ثاب إليه الناس اجتمعوا، فكانت الدعوة أولاً: يا للأنصار! ثم قصرت الدعوة فنادوا: يا للخزرج! قال: وكانوا صبرا عند اللقاء، صدقاً عند الحرب. قال: فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كالمتطاول في ركائبه، فنظر إلى قتالهم فقالك الآن حمى الوطيس! ثم أخذ بيده من الحصى فرماهم، ثم قال: انهزموا، ورب الكعبة! فو الله مازلت أرى أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله، وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته. ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: ناد " يا أصحاب السمرة! فرجعت الأنصار وهم يقولون: الكرة بعد الفرة. قال: فعطفوا عطفة البقر على أولادها، قد شرعوا الرماح حتى إني لأخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم رماحهم أشد من خوفي رماح المشركين، يؤمون الصفوف ويقولون: يا لبيك! يا لبيك! فلما اختلطوا واجتلدوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على بغلته في ركائبه، يقول: اللهم، إني أسلك وعدك، لا ينبغي لهم أن يظهروا. ثم قال للعباس: ناولني حصيات! فناوله حصيات من الأرض، ثم قال: شاهدت الوجوه! ورمى بها وجوه المشركين، وقال: انهزموا، ورب الكعبة! قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما انكشف الناس والله ما رجعت راجعة هزيمتهم حتى وجد الأسرى عند النبي صلى الله عليه وسلم مكتفين. قال: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ إلى أبي سفيان بن الحارث وهو مقنع في الحديد، وكان ممن صبر يومئذ، وهو آخذ بثفر بغلة النبي صلى الله عليه وسلم قال: من هذا؟ قال: ابن أمك يا رسول الله. ويقال إنه قال: من أنت؟ قال: أخوك - فداك أبي وأمي - أو سفيان بن الحارث. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أخي، ناولني حصى من الأرض! فناولته فرمى بها في أعينهم كلهم، وانهزموا.
قالوا: فلما انكشف الناس انحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، وهو واقف على دابته لم ينزل، إلا أنه قد جرد سيفه وطرح غمد وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفرٍ من المهاجرين والأنصار وأهل بيته؛ العباس، وعلى، الفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة ابن الحارث، وأيمن بن عبدي الخزرجي، وأسامة بن زيد، وأبو بكر، وعمر عليهم السلام. ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انكشف الناس، قال لحارثة بن النعمان: يا حارثة، كم ترى الذين ثبتوا؟ قال: فلما التفت ورائي تحرجا، فنظرت عن يميني وشمالي فحزرتهم مائة، فقلت: يا رسول الله، هم مائة! حتى كان يوم مررت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يناجي جبريل عليه السلام عند باب المسجد، فقال جبريل عليه السلام: من هذا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حارثة بن النعمان. فقال جبريل عليه السلام: هذا أحد المائة الصابرة يوم حنين، لو سلم لرددت عليه السلام. فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقف معك.
وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حين انكشف الناس عنه ولم يبق إلا المائة الصابرة: اللهم، لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان! قال له جبريل: لقد لقنت الكلمات التي لقن الله موسى يوم فلق البحر أمامه وفرعون خلفه.
قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: إن حارثة بن النعمان مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يناجي جبريل عليه السلام وهما قائمان، فسلم عليهما حارثة، فلما كان بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت الرجل؟ قال حارثة: نعم، ولا أدري من هو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو جبريل عليه السلام، وقد رد عليك السلام. ويقال إن المائة الصابرة يومئذ ثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأنصار، والعباس، وأبو سفيان؛ العباس آخذ بلجام بغلته، وأبو سفيان عن يمينه، وحف به المهاجرون والأنصار. وكان ابن عباس يحدث قال: مر جبريل، وحارثة بن النعمان مع النبي صلى الله عليه وسلم واقف، فقال: من هذا أحد الثمانين الصابرة، وقد تكفل الله لهم بأرزاقهم وأرزاق عيالهم في الجنة. وكان ابن عباس يقول: وكان أبو سفيان بن الحارث من الذين تكفل الله بأرزاقهم وأرزاق عيالهم في الجنة.
قالوا: وكان البراء بن عازب يقول: والله الذي لا إله إلا هو، ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه وقف واستنصر، ثم نزل وهو يقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
فأنزل الله عليه نصره، وكبت عدوه، وأفلح حجته.
قالوا: وكان رجل من هوزان على جملٍ أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل أمام الناس، وإذا أدرك طعن، قد أكثر في المسلمين القتل، فيصمد له أبو دجانة فعرقب جمله، فسمع خرخرة جمله واكتسع الجمل، ويشد على وأبو دجانة عليه، فيقطع على يده اليمنى، ويقطع أبو دجانة يده الأخرى، وأقبلا يضربانه بسيفيهما جميعاً حتى تثلم سيفاهما، فكف أحدهما وأجهز الآخر عليه، ثم قال أحدهما لصاحبه: امض، لا تعرج علي سلبه! فمضيا يضربان أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ويعترض لهما فارس من هوازان بيده راية حمراء، فضرب أحدهما يد الفرس ووقع لوجهه، ثم ضرباه بأسيافهما فمضيا على سلبه. ويمر أبو طلحة فسلب الأول ومر بالآخر فسلبه. وكان عثمان بن عفان، وعلي، وأبو طلحة فسلب الأول ومر بالآخر فسلبه. وكان عثمان بن عفان، وعلي، وأبو دجانة، وأيمن بن عبيد يقاتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني سليمان بن بلال، عن عمارة بن غزية، قال: قالت أم عمارة: لما كان يومئذ والناس منهزمون في كل وجه، وأنا وأربع نسوة، في يدي سيف لي صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها - وهي يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة - وأم سليط. وأم الحارث. قالوا: فجعلت تسله وتصيح بالأنصار: أية عادة هذه! ما لكم وللفرار! قالت: وأنظر إلى من هوزان على جمل أورق، معه لواء، يوضع جمله في أثر المسلمين، فأعترض له فأضرب عزقوب الجمل، وكان جملاً مشرفاً، فوقع على عجزه، وأشد عليه، فلم أزل أضربه حتى أثبته، وأخذت سيفاً له وتركت الجمل يخرخر، يتصفق ظهراً لبطن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم مصلت السيف بيده، قد طرح غمده، ينادي: يا أصحاب سورة البقرة! قال: وكر المسلمون، فجعلوا يقولون: يا بني عبد الرحمن! يا بني عبيد الله! يا خيل الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمى خيله خيل الله، وجعل شعار المهاجرين بن عبد الرحمن، وجعل شعرا الأوس بني عبيد الله. فكرت الأنصار، ووقفت هوزان حلب ناقةٍ فتوحٍ، ثم كانت إياها، فو الله ما رأيت هزيمة كانت مثلها، ذهبوا في كل وجه، فرجع ابناى إلى - حبيب وعبد الله ابنا زيد - بأسارى مكتفين، فأقوم إليهم من الغيظ، فأضرب عنق واحد منهم؛ وجعل الناس يأتون بالأسارى، فرأيت في بني مازن بن النجار ثلاثين أسيراً. وكان المسلمون قد بلغ أقصى هزيمتهم مكة، ثم كروا بعد وتراجعوا، فأسهم لهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً.
فكان ا،س بن مالك يقول: إن أم سليم، أمي ابنة ملحان جعلت تقول: يا رسول الله، أرأيت هؤلاء الذين أسلموك وفروا عنك وخذلوك! لا تعف عنهم إذا أمكنك الله منهم، فاقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين! فقال: يا أم سليم، قد كفى الله! عافية الله أوسع! ومعها يومئذ جمل أبي طلحة قد خشيت أن يغلبها، فأدنت رأسه منها فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام، وهي شادة وسطها ببرد لها، ومعها خنجر في يدها، فقال لها أبو طلحة: ما هذا معك يا أم سيم؟ قالت: خنجر أخذته معي، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به. قال أبو طلحة: ما تسمع يا رسول الله، ما تقول أم سليم؟ وكانت أم الحارث الأنصارية أخذت بخطام جمل أبي الحارث زوجها، وكان جمله يسمى المجسار، فقالت: يا حار، تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأخذت بخطام الجمل، والجمل يريد أن يلحق بألافه والناس يولون منهزمين، وهي لا تفارقه. فقالت أم الحارث: فمر بي عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فقالت أم الحارث: يا عمر، ما هذا؟ فقال عمر: أمر الله. وجعلت أم الحارث تقول: يا رسول الله، من جاوز بعيري فأقتله، والله إن رأيت كاليوم ما صنع هؤلاء القوم بنا! تعنى بني سليم وأهل مكة الذين انهزموا بالناس.
حدثني ابن أبي سبرة قال: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة أن سعد بن عبادة يصيح يومئذ بالخزرج: يا للخزرج! يا للخزرج! وأسيد بن حضير: يا للأوس! ثلاثاً. فثابوا والله من كل ناحية كأنهم النحل تأوى إلى يعسوبها. قال: فحنق المسلمون عليهم فقتلوهم حتى أسرع المسلمون في قلت الذرية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالك ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية! ثلاثاً. قال أسيد بن حضير: يا رسول الله، أليس إنما هم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها.
قال: حدثني عبد الله بن علي، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: لما تراءينا نحن والقوم رأينا سواداً لم نر مثله قط. كثرة، وإنما ذلك السواد نعم، فحملوا النساء عليه: قال: فأقبل مثل الظلة السوداء من السماء حتى أظلت علينا وعليهم وسدت الأفق، فنظرت فإذا وادي حنين يسيل بالنمل، نمل أسود مبثوث، لم أشك أنه نصر أيدنا الله به، فهزمهم الله عز وجل.
قال: حدثني ابن أبي سبرة قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم. عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن شيوخ من قومه من الأنصار، قالوا: رأينا يومئذ كالبحد السود هوت من السماء ركاما فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كنا لننفضه عن ثيابنا، فكان نصر أيدنا الله به.
وكان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمراً قد أرخوها بين أكتافهم، وكان الرعب الذي قذف الله في قلوب المشركين يوم حنين كوقع الحصى في الطمست. فكان سويد بن عامر السوائي يحدث، وكان قد حضر يومئذ فسئل عن الرعب، فكان أخذ الحصاة فيرمى بها في الطست فيطن، فقال: إن كنا نجد في اجوافنا مثل هذا.
وكان مالك بن أوس بن الحدثان يقول: حدثني عدة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الكف من الحصيات، فما منا أحد إلا يشكو القذى في عينيه، ولقد كنا نجد في صدورنا خفقاناً كوقع الحصى في الطساس، ما يهدأ ذلك الخفقان عنا؛ ولقد رأينا يومئذ رجالاً بيضاً على خيل بلق، عليهم عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، بين أسماء والأرض كتائب كتائب ما يليقون شيئاً، ولا نستطيع أن نقاتلهم من الرعب منهم.
قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن زهيرن عن عمر بن عبد الله العبسي، عمن أخبره، عن ربيعة، قال: حدثني نفر من قومنا حضروا يومئذ قالوا: كمنا لهم في المضايق والشعاب، ثم حملنا عليهم حملة ركبنا أكتافهم حتى انتهينا إلى صاحب بغلة شهباء، وحوله رجال بيض حسان الوجوه، فقالك شاهت الوجوه، ارجعوا! فانهزمنا، وركب المسلمون أكتافنا وكانت إياها، وجعلنا نلتفت وراءنا ننظر إليهم يكدوننا، فتفرقت جماعتنا في كل وجه، وجعلت الرعدة تسحقنا حتى لحقنا بعلياء بلادنا، فإن كان ليحكى عنا الكلام ما كنا ندري به، مما كان بنا من الرعب، فقذف الله الإسلام في قلوبنا.
وكانت راية الأحلاف من ثقيف يمع قارب بن الأسود بن مسعود، فلما انهزم الناس أسند رايته إلى شجرة وهرب هو وبنو عمه من الأحلاف، فم يقتل منهم إلا رجلان، من نبن غيرة، وهب واللجلاج. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتل اللجلاج: قتل اليوم سيد شبان ثقيف، إلا ما كان من ابن هنيدة. وكانت راية بني مالك مع ذي الخمار، فلما انهزمت هوازان تبعهم المسلمون، يستحصى القتلى من ثقيف ببني مالك، فقتل منهم قريب من مائة رجل تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله، فقاتل بها مليا، وجعل يحث ثقيفاً وهوزان على القتال حتى قتل؛ وكان اللجلاج رجلاً من بني كنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخي بني دنة: هذا سيد شبان كنة إلا ابن هنيدة - الحارث بن عبد الله بن يعمر بن إياس ابن أوس بن ربيعة بن الحارث، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. وكانت كنة امرأة من غامد يمانية قد ولدت في قبائل العرب وكانت أمة، فأعتق الحارث كل مملوك من بني كنة، فقال له عمر بن الخطاب رضى الله عنه في خلافته: أيسرك أن أهل بيت عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة مكان كنة؟ فقالك يا أمير المؤمنين، لوددت أن ذلك كذلك. فقال عمر: ليت أمي كنة وأن الله رزقني من برها ما رزقاك. وكان أبر الناس بأمه، ما كانت تأكل طعاماً إلا من يده، ولا يغسل رأسها إلا هو؛ ولا يسرح رأسها إلا هو.
قالوا: وهبربت ثقيف، فقال شيوخ منهم - أسلموا بعد، كانوا قد حضروا ذلك اليوم - قالوا: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبنا فيما نرى، ونحن مولون حتى إن الرجل منا ليدخل حصن الطائف وإنه ليظن أنه على أثره، من رعب الهزيمة.
وكان أبو قتادة يحدث قال: لما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلين يقتتلان، مسلماً ومشركاً، قد علاه المشرك، فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه، وأقبل على فضمنى ضمة وجدت منها ريح الوت، وكاد أن يقتلني لولا أن الدم نزفه، فسقط. وذففت عليه ومضيت وتركت عليه سلبه، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلاً له عليه ببينة فله سلبه. قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه. فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قيتلاً له عليه بينة فله سلبه.
فقام عبد الله بن أنيس فشهد لي، ثم لقيت الأسود بن الخزاعي فشهد لي، وإذا صاحبي الذي أخذ السلب لا ينكر أني قتلته - وقد قصصت على النبي صلى الله عليه وسلم القصة - فقال: يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي فأرضه مني. فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ها الله إذا لا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله، يعطيك سلبه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، فأعطه إياه. قال أبو قتادة: فأعطانيه، فقال لي حاطب بن أبي بلتعة: يا أبا قتادة، أتبيع السلاح؟ فبعثه منه بسبع أوراقٍ، فأتيت المدينة فاشتريت به مخرفاً في بني سلمة يقال له الرديني، فإنه لأول مالٍ لي نلته في الإسلام، فلم نزل نعيش منه إلى يومنا هذا.
وكان شيبة بن عثمان بن أبي طلحة قد تعاهد هو وصفوان بن أمية حين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين - وكان أمية بن خلف قتل يوم بدر، وكان عثمان بن أبي طلحة قتل يوم أحد - فكاناء تعاهدا إن رأيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دائرة أن يكونا عليه، وهما خلفه. قال شيبة: فأدخل الله الإيمان قلوبنا. قال شيبة: لقد هممت بقتله، فأقبل شئ حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني. ويقال: قال: غشيتني ظلمة حتى لا أبصر، فعرفت أنه ممتنع مني وأيقنت بالإسلام. وقد سمعت في قصة شيبة وجهاً آخر؛ كان شيبة بن عثمان يقول: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا مكة فظفر بها وخرج إلى هوازن، قلت: أخرج لعلى أدرك ثأري! وذكرت قتل أبي يوم أحد، قتله حمزة، وعمى قتله على. قال: فلما انهزم أصحابه جئته عن يمينه، فإذا العباس قائم، عليه درع بيضاء كالفضة ينكشف عنها العجاج، فقلت: عمه لن يخدله! قال: ثم جئته عن يساره فإذا بأبي سفيان ابن عمه، فقلت: ابن عمه لن يخذله! فجئته من خلفه فلم يبق إلا أسوره بالسيف إذ رفع ما بيني وبينه شواظ. من نارٍ كأنه برق، وخفت أن يمحشني ووضعت يدي على بصرى ومشيت القهقرى، والتفت إلى فقال: يا شيب، ادن مني! فوضع يده على صدري وقال: اللهم، أذهب عنه الشيطان! قال: فرفعت إليه رأسي وهو أحب إلى من سمعي وبصري وقلبي، ثم قال: يا شيب، قاتل الكفار! فقالك فتقدمت بين يديه أحب والله أقيه بنفسي وبكل شئ، فلما انهزمت هوازن رجع إلى منزله، ودخلت عليه فقال: الحمد لله الذي أراد بك خيراً مما أردت. ثم حدثني بما هممت به.
فلما كانت الهزيمة حيث كانت، والدائرة على المسلمين، فتكلموا بما في أنفسهم من الكفر والضغن والغش؛ قال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! قال: يقول رجل من أسلم يقال له أبو مقيت: أما والله، لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتلك لقتلتك! وقال: صرخ كلدة بن الحنبل، وهو كلدة بن الحنبل أخو صفوان لأمه، أسود من سودان مكة: ألا بطل السحر اليوم! فقال صفوان: اسكت، فض بالله فاك! لأن يربنى رب من قريش أحب إلى من أن يربني رب من هوازن. قال: وقال سهيل بن عمرو: لا يجتبرها محمد وأصحابه! قال: يقول له عكرمة: هذا ليس بقول، وإنما الأمر بيد الله، وليس إلى محمد من الأمر شئ! إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غدا. قال: يقول سهيل: إن عهدك بخلافه لحديث! قال: يا أبا يزيد، إنا كنا والله نوضع في غير شئ وعقولنا عقولنا، نعبد الحجر لا ينفع ولا يضر! قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن يعقوب بن عتبة، قال: حضرها عثمان بن عبد الله بأفراس وعبيد وموالٍ، فقتلوا يومئذ معه، وقتل معه غلام له نصراني أغرل؛ فبينا طلحة يسلب القتلى من ثقيف أذ مر به فوجده أغرل، فصاح: يا معشر الأنصار، أحلف بالله أن ثقيفاً غرل ما تختتن! قال المغيرة بن شعبة: وسمعتها وخشيت أن يذهب علينا من العرب، فقلت: لا تفعل، فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني! ثم جعلت أكشف له عن قتلى ثقيف، فأقول: ألا تراهم مختتننين؟ ويقال: إن العبد كان لذى الخمار وكان نصرانياً أزرق، فقتل مع سيده يومئذ. وكان أبو طلحة يسلب القتلى، فجرده فإذا هو أغرل، فنادى بأعلى صوته للأنصار فأقبلوا إليه، فقال: أحلف بالله ما تختتن ثقيف! ثم أتى إلى ذي الخمار سيد العبد، فإذا هو مختون. قال المغيرة: وجاءني أمر قطعني، وخشيت أن تسير علينا في العرب، حتى أبصر القوم وعرفوا أنه عبد لهم نصراني. وكان الذي قتل عثمان بن عبد الله عبد الله بن أبي أمية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يرحم الله عبد الله بن أبي أمية! وأبعد الله عثمان بن عبد الله بن ربيعة، فإنه كان يبغض قريشاً! قال: وكان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله برحمة الله، فبلغه فقال: إني لأرجو أن يرزقني الله الشهادة في وجهي هذا! فقتل في حصار الطائف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: لولا ابن جثامة الأصغر لفضحت الخيل اليوم. وقالت امرأة من خزاعة يوم حنين:
إن ماء حنين لنا فخلوه ... إن تشربوا منه فلن تعلوه
هذا رسول الله لن يعلوه
أنشدنيها ابن جعفر. وقالت امرأة من المسلمين...
غلبت خيل الله خيل اللات ... والله أحق بالثبات
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدم سليماً في مقدمته، عليها خالد بن الوليد، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة والناس مجتمعون عيها، فقالك ما هذا؟ قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدرك خالداً فقالك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل امرأة أو عسيفاً. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أخرى فسأل عنها فقال رجل: أنا قتلتها يا رسول الله، أردفتها ورائى فأرادت قتلي فقتلتها. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنت.
قالوا: لما هزم الله تعإلى هوازن اتبعهم المسلمون يقتلونهم، فنادت بنو سليم بينها: ارفعوا عن بني أمكم القتل! فرفعوا الرماح وكفوا عن القتل - وأم سليم؛ بكمة ابنة مرة أخت تميم بن مرة - فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صنعوا قال: اللهم، عليك ببني بكمة - ولا يشعرون أن لهم أما اسمها بكمة - أما في قومي فوضعوا السلاح وضعاً، وأما عن قومهم فرفعوا رفعاً! وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب القوم، ثم قال لخيله: إن قدرتم على بجاد فلا يفلتن منكم! وقد كان أحدث حدثاً عظيماً، وكان من بني سعد، وكان قد أتاه مسلم، فأخذه بجاد فقطعه عضوا ثم حرقه بالنار، فكان قد عرف جرمه فهرب. فأخذته الخيل، فضموه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزي أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق، فجعلت الشيماء بنت الحارث تقول: إني والله أخت صاحبكم! ولا يصدقوها، وأخذها طائفة من الأنصار، وكانوا أشد الناس على هوازن، حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا محمد، إني أختك! قال النبي صلى الله عليه وسلم: وما علامة ذلك؟ فأرته عضة وقالت: عضضتنيها وأنا متور كتك بوادي السرر، ونحن يومئذ برعائهم، أبوك أبي وأمك أمي، قد نازعتك الثدى؛ وتذكر يا رسول الله... فعرف رسول الله عليه وسلم العلامة، فوثب قائماً فبسط. رداءه، ثم قال: اجلسى عليه! ورحب بها، ودمعت عيناه، وسألها عن أمه وأبيه من الرضاعة، فأخبرته بموتهما في الزمان. ثم قال: إن أحببت فأقيمى عندنا محبة مكرمة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك رجعت إلى قومك. قالت: أرجع إلى قومي. وأسلمت فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبدٍ وجارية، أحدهم يقال له: مكحول، فزوجوه الجارية.
قال عبد الصمد: أخبرني أبي أنه أدرك نسلها في بنى سعد؛ ورجعت الشيماء المنزلها وكلمها النسوة في بجادٍ، فرجعتن إليه فكلمته أنه يهبه لها ويعفو عنه. ففعل ثم أمر لها ببعيرٍ أو بعيرين، وسألها: من بقي منهم؟ فأخبرته بأختها وأخيها وبعمها أبي برقان، وأخبرته بقومٍ سألها عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجعي إلى الجعرافنة تكونين مع قومك، فإني أمضي إلى الطائف. فرجعت إلى الجعرانة، وأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم با لجعرانه فأعطاها نعماً وشاء لها ، ولمن بقي من أهل بيتها.
قالوا: ولما انهز الناس أتوا الطائف، وعسكر عسكر بأوطاس؛ وتجه بعضهم نو نخلة ولم يكن فيمن توجه إلى نخلة إلا بنو عنزة من ثقيف. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً تتبع من سلك نخلة، ولم تتبع من سلك الثنايا. ويدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سمال بن عوف بن امرئ القيس من بني سليم دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه كان في شجار له، فإذا هو رجل فأناخ به، وهو شيخ كبير ابن ستين ومائة سنة، فإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام. قال الفتى: ما أريد إلى غبره ممن هو على مثل دينه. قال له دريد: من أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمى. قال: فضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. قال دريد: بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفي من وراء الرحل في الشجار فاضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. قال دريد: بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفي من وراء الرحل في الشجار فاضرب به. وارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ، فإني كنت كذلك أقتل الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة،فرب يومٍ قد منعت فيه نساءك! زعمت بنو سليم أن ربيعة لما ضربه تكشف للموت عجانه، وبطون فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل. فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت: والله لقد أعتق أمهاتٍ لك ثلاثاً في غداةٍ واحدة، وجز ناصية أبيك. قال الفتى: لم أشعر.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أبا عامر الأشعري في آثار من توجه إلى أوطاس، وعقد له لواءً، فكان معه في ذلك البعث سلمة بن الأكوع، فكان يحدث يقول: لما ا - هزمت هوزان عسكروا بأوطاس عسكراً عظيماً، تفرق منهم من تفرق، وقتل من قتل، وأسر من أسر؛ فانتهينا إلى عسكرهم فإذا هم ممتنعون، فبرز رجل فقال: من يبارز؟ فبرز له أبو عامر، فقال: اللهم اشهد! فقتله أبو عامر حتى قتل تسعة كذلك، فلما كان التاسع برز له رجل معلم ينحب للقتال، وبرز له أبو عامر فقتله، فلما كان العاشر برز رجل معلم بعمامةٍ صفراء، فقال أبو عامر: اللهم أشهد! قال: يقول الرجل: اللهم لا تشهد! فضرب أبا عامر فأثبته، فاحتملناه وبه رمق، واستخلف أبا موسى الأشعري، وأخبر أبو عامر أبا موسى أن قاتله صاحب العمامة الصفراء. قالوا: وأوصى أبو عامر إلى أبي موسى، ودفع إليه الراية وقال: ادفع فرسى وسلاحي للنبي صلى الله عليه وسلم.
فقالتلهم أبو موسى حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبي عامر، وجاء بسلاحه وتركته وفرسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أبا عامر أمرني بذلك، وقال: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين ثم قال: اللهم اغفر لأبي عامر، واجعله من أعلى أمتي في الجنة! وأمر بتركة أبي عامر فدفعت إلى ابنه. قال: فقالك أبو موسى: يا رسول الله، إني أعلم أن الله قد غفر لأبي عامر، قتل شهيداً، فادع الله لي. فقال: اللهم اغفر لأبي موسى، واجعله في أعلى أمتي! فيرون أن ذلك وقع يوم الحكمين.
قالوا: واستحر القتل في بني نصر، ثم في بني رباب، فجعل عبد الله بن قيس - وكان مسلماً - يقول: يا رسول الله، هلكت بنور باب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، اجبر مصيبتهم! ووقف مالك بن عوف على ثنيةٍ من الثنايا معه فرسان من أصحابه، فقال. قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم تلتم أخراكم. وقال: انظروا ماذا ترون. قالوا: نرى قوماً على خيولهم واضعين رماحهم على آذان خيولهم. قال: أولئك إخوانكم بنو سليم، وليس عليكم منهم بأس، انظروا ماذا ترون. قالوا: نرى رجالاً أكفالاً، قد وضعوا رماحهم على أكفال خيولهم. قال: تلك الخزرج، وليس عليكم منهم بأس، وهم سالكون طريق إخوانهم. قال: انظروا ماذا ترون. قالوا: نرى أقواماً كأنهم الأصنام على الخيل. قال: تلك كعب بن لؤي، وهم مقاتلوكم! فلما غشيته الخيل نزل عن فرسه مخافة أن يؤسر، ثم طفق يلوذ بالشجر حتى سلك في يسوم، جبلً بأعلى نخلة، فأعجزهم هارباً. ويقال: قال: ما ترون؟ قالوا: نرى رجلاً بين رجلين معلماً بعصابة صفراء، يخبط برجليه في الأرض، واضعاً رمحه على عاتقه. قال: ذلك ابن صفية، الزبير، وايم الله ليزيلنكم عن مكانكم! فلما بصر بهم الزبير حمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية، وهرب مالك بن عوف فتحصن في قصرٍ بلية. ويقال: دخل حصن ثقيف.
وذكر للنب صلى الله عليه وسلم أن رجلاً كان بحنين قاتل قتالاً شديداً حتى اشتد به الجراح. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أهل النار! فارتاب المسلمون من ذلك، ووقع في أنفسهم ما الله به عليم، فلما اشتد به الجراح أخذ مشقصاً من كنانته فانتحر به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي: ألا لا دخل الجنة إلا مؤمن، وأن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر.
قالوا: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم تجمع، ونادى منادية: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يغل! وجعل الناس غنائمهم في موضعٍ حتى استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. وكان عقيل بن أبي طالب دخل على زوجته وسيفه متلطخ دماً، فقالت: إني قد علمت أنك قد قاتلت المشركين، فماذا أصبت من غنائمهم؟ قال: هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك، فدفعها إليها، وهي فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة. فسمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أصاب شيئاً من المغنم فليرده. فرجع عقيل فقال: والله ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت. فألقاها في الغنائم.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن عمارة بن غزية، أن عبد الله بن زيد المازني أخذ يومئذ قوساً فرمى عليها المشركين، ثم ردها في المغنم. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكبة شعرٍ ، فقال: يا رسول الله، اضرب بهذه! أي دعها لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك. وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، هذا الحبل وجدته حيث انهزم العدو فأشد به على رحلي؟ قال: نصيبي منه لك، وكيف تصنع بأنصباء المسلمين؟ قال: فحدثني مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله ابن المغيرة بن أبي بردة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الناس عام حنين في قبائلهم يدعو لهم، وأنه نزل قبيلةً من القبائل وجدوا في برذعة رجل منهم عقداً من جزع غلولاً، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليهم كما يكبر على الميت.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن عمارة بن غزية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في رجل رجلٍ من أصحابه غلولاً فبكته ولامه، ولم يعاقبه ولم يخرق رحله.
قالوا: وأصاب المسلمون سبايا يومئذٍ، فكانوا يكرهون يقعوا عليهن ولهن أزواج، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لا توطأ حامل من السبي حتى تضع حملها، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن العزل، فقال: ليس من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئاً لم يمنعه شئ.
قالوا: و صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوماً بحنين، ثم تنحى إلى شجرةٍ فجلس إليها، فقام إليه عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي - وهو يومئذ سيد قريش - ومعه الأقرع بن حابس، يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف، فاختصما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعيينة يقول: يا رسول الله، لا والله لا أدعه حتى أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأخذ الدية؟ ويأبى عيينة، فارتفعت الأصوات وكثر اللغط. إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له مكيتل، قصير، مجتمع، عليه شكة كاملة، ودرقة في يده، فقال: يا رسول الله، إني لم أجد لما فعل هذا شبهاً في غرة الإسلام غنماً وردت فرميت أولاها، فنفرت أخراها، فاسنن اليوم وغير غدا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: تقبلون الدية خمسين في فورنا هذا وخمسين إذا رجعنا المدينة! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقوم حتى قبلوها. ومحلم بن جثامة القاتل في طرف الناس، فلم يزالوا يرونه ويقولون: آبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغر لك. فقام محلم فقام رجل طويل، آدم، محمر بالحناء، عليه حلة، قد كان تهيأ فيها للقتل للقصاص، حتى جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان، فقال: يا رسول الله، قد كان من الأمر الذي بلغكم، فإني أتوب إلى الله تعإلى فاستغفر لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ فال: أنا محلم بن جثامة. قال: فتلته بسلاحك في غرة الإسلام! اللهم، لا تغفر لمحلم! بصوتٍ عالٍ يتفقد به الناس. قال، فقال: يا رسول الله، قد كان الذي بلغك، وإني أتوب إلى الله تعإلى فاستغفر لي. فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوتٍ عالٍ يتفقد به الناس: اللهم، لا تغفر لمحلم! حتى كانت الثالثة. قال: فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم! فقام من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقى دمعه بفض ردائه. وكان ضمرة السلمى يحدث وكان قد حضر ذلك اليوم، قال: كنا نتحدث فيما بيننا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه باستغفارٍ له. ولكنه أراد أن يعلم قدر الدم عند الله.
قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن الحسن البصري، قال: لما مات محلم بن جثامة دفنه قومه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، فطرحوه بين صخرتين فأكلته السباع.
قال: حدثني محمد بن حرب، عن محمد بن الوليد، عن لقمان ابن عامر، عن سويد بن جبلة، قال: لما حضر محلم بن جثامة الموت أتاه عوف بن مالك الأشجعي، فقالك يا محلم، استطعت أن ترجع إلينا فتخبرنا بما رأيتم ولقيتم. قالك فأتاه بعد ذلك بعامٍ أو ما شاء الله، فقال له: كيف أنتم يا محلم؟ قال: نحن بخير، وجدنا ربا رحيماً غفر لنا. قال عوف: أكلكم؟ قال: كلنا غير الأحراض. قال: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع. والله، ما من شئ استنفقه الله لي إلا وقد وفيت أجره، حتى إن قطة لأهلي هلكت فلقد أعطيت أجرها. قال عوف: فقلت: والله إن تصديق روياي أن أنطلق إلى أهل محلم فأسألهم عن هذه القطة. فأتاهم فقال: عوف يستأذن! فأذنوا، فلما دخل قالوا: والله، ما كنت لنا بزوار! قال: كيف أنتم؟ قالوا: نحن بخير، وهذه بنت أخيك أمست وليس بها بأس، وهي هذه! لما بها، ولقد فارقنا أبوها الليلة. قال: قلت: هل هلكت لكم قطة؟ قالوا: نعم. قال: فهل حستموها يا عوف؟ قال: لقد أنبئت نبأها فاحتسبوها.
قال: حدثني أسامة بن زيد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بحنين بتخلل الرجال يسأل عن منزل خالد بن الوليد، وأنا معه؛ فأتى يومئذ بشاب فأمر من عنده فضربوه بما كان في أيديهم وحثا عليه التراب.
تسمية من استشهد بحنينأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن، وهو من الأنصار من بالحارث بن الخزرج، وموالي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن الأنصار سراقة بن الحارث، ورقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان، وأبو عامر الأشعري أصيب بأوطاس؛ فجميع من قتل أربعة.
شأن غزوة الطائف
قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وابن موهب، وعبد الله بن يزيد، وعبد الصمد بن محمد السعدي، ومحمد بن عبد الله عن الزهري، وأسامة بن زيد، وأبو معشر، وعبد الرحمن بن عدب العزيز، ومحمد بن يحيى بن سهل؛ وغير هؤلاء ممن لم يسم، أهل ثقات؛ فكل قد حدثني بهذا الحديث بطائفة، وقد كتبت كل ما حدثوني به.
قالوا: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً وأراد المسير إلى الطائف. بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين صنعم عمرو بن حممة يهدمه، وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف. فقال الطفيل: يا رسول الله أوصني. قال: أفش السلام، وابذل الطعام، واستحي من الله كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله. إذا أسأت فأحسن؛ " إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكيرين " . قال: فخرج الطفيل سريعاص إلى قومه، فهدم ذا الكفين، وجعل يحشو النار في جوفه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حشوت النار في فؤادكا
وأسرع معه قومه، انحدر معه أربعمائة من قومه، فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد مقامه بأربعة أيام، فقدم بدبابة ومنجنيق، وقال: يا معشر الأزد، من يحمل رايتكم؟ قال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية. قال: أصبتم! وهو النعمان بن الزرافة اللهبي.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من حنين على مقدمته، وأخذ من يسلك به من الأدلأء إلى الطائف، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسبي أن يوجهوا إلى الجعرانة، واستعمل عليهم بديل بن ورقاء الخزاعي، وأمر بالغنائم فسيقت إلى الجعرانة والرثة. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكانت ثقيف قد رموا حصنهم، ودخلوا فيه منهزمين من أوطاس وأغلقوه عليهم - وهو حصن على مدينتهم له بابان - وصنعوا الصنائع للقتال وتهيأوا، وأدخلوا حصنهم ما يصلحهم لسنةٍ لو حصروا. الصنائع للقتال وتهيأوا، وأدخلوا حصنهم ما يصلحهم لسنةٍ لو حصروا. وكان عروة بن مسعود، وغيلان بن سلمة بجرش يتعلمان عمل الدبابات والمنجنيق، يريدان أن ينصباه على حصن الطائف، وكانا لم يحضرا حنيناً ولا حصار الطائف. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوطاس، فسلك على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من ليه، فابتنى بها مسجداً فصلى فيه.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمر، قال: حدثني من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني بيده مسجداً بلية، وأصحابه ينقلون إليه الحجارة. وأتى يومئذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجلٍ من بني ليث قتل رجلاً من هذيل، فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الليثي إلى الهذليين فقدموه فضربوا عنقه، فكان أول دم أقيد به في الإسلام. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بلية، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قصراً فسأل عنه، فقالوا: هذا قصر مالك بن عوف. فقال: أين مالك؟ قالوا: هو يراك الآن في حصن ثقيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من في قصره؟ قالوا: ما فيه أحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرقوه! فحرق من حين العصر إلى أن غابت الشمس. ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر أبي أحيحة سعيد بن العاص، وهو عند ماله وهو قبر مشرف. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لعن الله صاحب هذا القبر، فإنه كان ممن يحاد الله ورسولهّ! فقال ابناه عمرو بن سعيد، وأبان بن عسيد، وهما مع ورسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن الله أبا قحافة، فإنه كان لا يقرى الضيف ولا يمنع الضيم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سب الأموات يؤذي الأحياء، فإن شئتم المشركين فعموا. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من لية فسلك طريقاً يقال لها: الضيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هي اليسرى. ثم خرج على نخب حتى نزل تحت سدرة الصادرة عند مال رجلٍ من ثقيف، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج وإما أن نحرق عليك حائطك! فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحراق حائطه وما فيه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريباً من حصن الطائف، فيضرب عسكره هناك، فساعة حل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاءه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، إنا قد دنونا من الحصن، فإن كان عن أمرٍ سلمنا، وإن كان عن الرأي فالتأخر عن صحنهم. قال: فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد طلع علينا من نبلهم ساعة نزلنا شئ الله به عليم، كأنه رجل من جراد - وترسنا لهم - حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحباب فقال: انظر مكاناً مرتفعاً مستأخراً عن القوم. فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف خارجٍ من القرية، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتحولوا. قال عمرو بن أمية: إني لأنظر إلى بي محجن يرمى من فوق الحصن بعشرته بمعابل كأنها الرماح، ما يسقط . له سهم. قالوا: وارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسجد الطائف اليوم. قالوا: وأخرجوا رأة ساحرةً، فاستقبلت الجيش بعورتها - وذلك حين نزل النبي وأخرجوا رأة ساحرةً، فاستقبلت الجيش بعورتها - وذلك حين نزل النبي صلى الله عليه وسلم - يدفعون بذلك عن حصنهم. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكمة، ومعه أمرتن من نسائه أم سلمة، وزينب، وثار المسلمون إلى الحصن، فخرج قدام الناس يزيد بن زمعة بن الأسود على فرسه، فسأل ثقيفاً الأمان يريد يكلمهم، فأعطوه الأمان، فلما دنا منهم رموه بالنبل فقتلوه. وخرج هذيل بن أبي الصلت أخو أمية بن أبي الصلت من باب الحصن، ولا يرى أن عنده أحداً. ويقال: إن يعقوب بن زمعة كمن له فأسره حتى أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قاتل أخي يا رسول الله! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى به إليه، فأمكنه النبي صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب لزوجتيه قبتين، ثم كان يصلى بين القبتين حصار الطائف كله. وقد اختلف علينا في حصاره، فقال قائل: ثمانية عشر يوماً؛ وقال قائل: تسعة عشر يوماً؛ وقال قائل: خمسة عشر يوماً، وكل ذلك وهو يصلى بين القبتين ركعتين. فلما أسلمت ثقيف، بني أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك على مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد، وكانت فيه سارية لا تطلع الشمس عليها من الدهر إلا يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرارٍ، فكانوا يرون أن ذلك تسبيح.
فنصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق. قال: وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال له سلمان الفارسي: يا رسول الله، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فإنا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون وتنصب علينا، فنصيب من عدونا ويصيب منا بالمنجنيق، على الحصون وتنصب علينا، فنصيب من عدونا ويصيب منا بالمنجنيق، وإن لم يكن المنجنيق طال الثواء. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمل منجنيقاً بيده، فنصبه على حصن الطائف. ويقال: قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودبابتين؛ ويقال: الطفيل بن عمرو؛ ويقال: خالد بن سعيد قدم من جرش بمنجنيق ودبابتين. ونثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسك شقتين - حسك من عيدان - حول حصنهم، ودخل المسلمون تحت الدبابة، وهي من جلود البقر - وذلك يوم يقال له الشدخة.
قيل: وما الشدخة؟ قال: ما قتل من المسلمين - دخلوا تحتها، ثم زحفوا بها إلى جدار الحصن ليحفروه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فحرقت الدبابة، فخرج المسلمون من تحتها وقد أصيب منهم من أصيب، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتل منهم رجال.
قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قطع حبلة فله حبلة في الجنة. فقال عيينة بن بدر ليعلى بن مرة الثقفي: أقطع ذلك أجري؟ ففعل يعلى بن مرة، ثم جاءه فقال يعلى: نعم فقال عيينة: لك النار! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عيينة أولى بالنار من يعلى. وجعل المسلمون يقطعون قطعاً ذريعاً.
قال: ونادى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سفيان بن عبد الله الثقفي: والله لنقطعن أبا عيالك. فقال سفيان: إذا لا تذهبون بالماء والتراب! فلما رأى القطع نادى سفيان: يا محمد، لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإما أن تدعها لله وللرحم كما زعمت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أدعها لله وللرحم. فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدث أبو وجزة السعدي قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع كل رجلٍ من أعنابهم خمس حبلات. فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه عم لم يؤكل ثمره. فأمر أن يقطعوا ما أكلوا ثمره. قال: فجعلوا يقطعون الأول فالأول.
قال: وتقدم أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة إلى ثقيف فقالا: أمنوا حتى نتكلم. فأمنوهما، فدعوا نساء من قريش ليخرجن إليهما - وهم يخافون السباء - منهم ابنة أبي سفيان بن حرب، كانت تحت عروة بن مسعود، لها منه ولد، داود بن عروة، والفراسية بنت سويد بن عمرو بن ثعلبة - كانت عند قارب ابن الأسود، لها منه عبد الرحمن بن قارب - وامرأة أخرى. فلما أبين عليهما قال لهما بنو الأسود بن مسعود: يا أبا سفيان ويا مغيرة، ألا ندلكما على خير مما جئتما له! إن مال بني الأسود حيث قد علمتما - وكان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الطائف نازلاً بوادٍ يقال له العمق - ليس بالطائف مال أبعد رشاءً، ولا أشد مونةً منه، ولا أبعد عمارةً - وإن محمد إن قطعه لم يعمر أبداً، فكلماه ليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم، فإن بيننا وبينه من القرابة مالا يجهل. فكلماه فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رجل يقوم على الحصن فيقول: روحوا رعاء الشاء! روحوا جلابيب محمد! روحوا عبيد محمد! أترونا نتباءس على أحبل أصبتموها من كرومنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، روح مروحاً إلى النار! قال سعد بن أبي وقاص: فأهوى له بسهمٍ فوقع في نحره، وهوى من الحصن ميتا. قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد سر بذلك. قال: وجعلوا يقولون على حصنهم: هذا قبر أبي رغال. قال لعلى عليه السلام: أتدري يا علي ما هذا؟ قبر أبي رغال، وهم قوم ثمود!
قالوا: وكان أبو محجن على رأس الحصن يرمي بمعابل والمسلمون يرامونهم، فقال رجل من زينة لصاحبة: إن افتتحنا الطائف فعليك بنساء يرامونهم، فقال رجل من زينة لصاحبة: إن افتتحنا الطائف فعليك بنساء بني قارب، فإنهن أجمل إن أمسكت، وأكثر فداءً إن فاديت. فسمعه المغيرة بن شعبة فقال: يا أخا مزينة! قال: لبيك! قال: ارم ذلك الرجل. يعني أبا محجن، وإنما غار المغيرة حين ذكر المزنى النساء، وعرف أن أبا محجن رجل رامٍ لا يسقط. له سهم، فرماه المزني فلم يصنع سهمه شيئاً، وفوق له أبو محجن بمعبلة، فتقع في نحره فقتلته. قال، يقول المغيرة: مني الرجال بنساء بني قارب. قال له عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، وهو يسمع كلامه أوله وآخره: قاتلك الله يا مغيرة! أنت والله عرضته لهذا، وإن كان الله تبارك وتعإلى قد ساق له الشهادة. أنت والله منافق، والله لولا الإسلام ما تركتك حتى أغتالك! وجعل المزني يقول: إن معنا الداهية وما نشعر؛ والله لا أكلمك أبداً! قال: فبلغت عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وهو في عمل عمر بالكوفة - فقال: والله، ما كان المغيرة بأهل أن يولى وهذا فعله! قال: ورمى أبو محجن يوم الطائف عبد الله بن أبي بكر الصديق رضى الله عنه بسهم، فدمل الجرح حتى بغى، وخرج السهم من الجرح فأمسكه أبو بكر عنده. وتوفي عبد الله بن أبي بكر في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وقدم أبو محجن في خلافة أبي بكرن فذكر أبو بكر المشقص فأخرجه، فقال: يا أبا محجن، هل تعرف هذا المشقص؟ قال: وكيف لا أعرفه وأنا بريت قدحه وريشته ورصفته، ورميت به ابنك؟ فالحمد لله الذي أكرمه على يدي ولم يهنى على يديه.
ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر! فخرج من الحصن رجال. بضعة عشر رجلاً: أبو بكرة، والمنبعث. وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث حين أسلم، وكان عبداً للكلدة الثفقي من بني مالك، ثم صار حليفاً في بني أمية فنكحوا إليه وأنكحوه؛ ووردان، عبد لعبد الله بن ربيعة الثقفي جد الفرات بن زيد بن وردان؛ ويحنس النبال، وكان عبداً ليسار ابن مالك، فأسلم سيده بعد، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إليه ولاءه؛ فهم أعبد الطائف - وإبراهيم بن جابر، كان عبداً لخرشة الثقفي؛ ويسار، عبد لعثمان بن عبد الله لم يعقب؛ وأبو بكرة نفيع بن مسروح، وكان للحارث بن كالدة، وإنما كنى بأبي بكرة أنه نزل في بكرةٍ من الحصن؛ ونافع أبو السائب، عبد لغيلان بن سلمة، فأسلم غيلان بعد، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إليه ولاءه؛ ومرزوق غلام لعثمان، لا عقب له. كل هؤلاء أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل رجلٍ منهم إلى رجلٍ من المسلمين يمونه ويحمله، فكان أبو بكرة إلى عمرو بن العاص، وكان الأزرق إلى خالد ابن سعيد، وكان وردان إلى أبان بن سعيد، وكان يحنس النبال إلى عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وكان يسار بن مالك إلى سعد بن عبادة، وإبراهيم ابن جابر إلى اسيد بن الحضير، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرئوهم القرآن ويعلموهم السنن. فلما أسلمت ثقيف تكلمت أشرافهم في هؤلاء المعتقين، فيهم الحارث بن كلدة، يردوهم في الرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك عتقاء الله، لا سبيل إليهم! وبلغ ذلك من أهل الطائف مشقة شديدة، واغتاظوا على غلمانهم.
قالوا: وقال عيينة: يا رسول الله، ايذن لي حتى آتى حصن الطائف فأكلمهم. فأذن له، فجاءه فقال: أدنوا منكم وأنا آمن؟ قالوا: نعم. وعرفه أبو محجن فقال: ادن. فدنا. فقال: ادخل. عليهم الحصن، فقال: قداءكم أبي وأمي! والله لقد سرني ما رأيت منكم، والله لو أن في العرب أحداً غيركم! والله ما لاقى محمد مثلكم قط.، ولقد مل المقام قاثبتوا في حصنكم؛ فإن حصنكم حصين، وسلاحكم كثير، وماءكم واتن، لا تخافون قطعه! قال: فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: فإنا كرهنا دخوله، وخشينا أن يخبر محمداً بخللٍ إن رآه فينا أو في حصننا. قال أبو محجن: أنا كنت أعرف له، ليس منا أحد أشد على محمد منه وإن كان معه. فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما قلت لهم؟ قال: قلت ادخلوا في الإسلام، والله لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا، فخذوا لأنفسكم أماناً، قد نزل بساحة أهل الحصون قبلكم؛ والنضير، وقريظة، وخيبر أهل الحلقة والعدة والآطام. فخذلتهم ما استطعت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت عنه، حتى إذا فرغ من حديثه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت! قلت لهم كذا وكذا! للذي قال. قال عيينة: أستغفر الله! فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ، دعني أقدمه فأضرب عنقه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. ويقال: إن أبا بكر رضي الله عنه أغلظ له يومذٍ وقال: ويحك يا عيينة! إنما أنت أبداً توضع في الباطل؛ كم لا منك من يوم بني النضير، وقريظة، وخيبر، تجلب علينا وتقاتلنا بسيفك، ثم أسلمت كما زعمت فتحرض علينا عدونا! قال: أستغفر الله يا أبا بكر وأتوب إليه، لا أعود أبداً! قالوا: وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، يقال له: ماتع، وآخر يقال له: هيت. وكان ماتع يكون في بيوته، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفطن لشئ من أمر النساء مما يفطن له الرجال، ولا يرى أن له في ذلك إربة؛ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخالد بن الوليد، ويقال لعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة: إن افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف غداً فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وإذا جلست تثنت، وإذا تكلمت تغنت، وإذا اضطجعت تمنت، وبين رجليها مثل الإناء المكفوء، مع ثغر كأنه الأقحوان، كما قال الخطيم:
بين شكول النساء خلقتها ... نصب فلا جبلة ولا قضف
تغترق الطرف وهي لاهية ... كأنما شف وجهها نزف
فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه فقال: ألا أرى ذا الخبيث يفطن للجمال إذا خرجت إلى العقيق! والحيل لا يمسك لما أسمع! وقال: لا يدخلن على نساء عبد المطلب! ويقال: قال: لا يدخلن على أحد من نسائكم! وغربهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحمى، فشكيا الحاجة، فإذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان ثم يرجعان إلى مكانهما، إلى أتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلا مع الناس. فلما ولى أبو بكر رضي الله عنه قال: أخرجكما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو ر وأدخلكما؟ اخرجا إلى موضعكما! فأخرجه إلى موضعهما، فلما قتل عمر دخلا مع الناس.
قالوا: قال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وهو على حصن الطائف: يا عبيد محمد، إنكم والله ما لا قيم أحداً يحسن قتالكم غيرنا؛ تقيمون ما أقمتم بشر محبس، ثم تنصرفون لم تدركوا شيئاً مما تريدون؛ نحن قسى وأبونا قسا، والله لا نسلم ما حيينا، وقد بنينا طائفاً حصيناً! فناداه عمر: يا ابن حبيب، والله لنقطعن عليك معاشك حتى تخرج من حجرك هذا، إنما أنت ثعلب في حجرٍ يوشك أن يخرج.
فقال أبو محجن: إن قطعتم يا بان الخطاب حبلات عنب، فإن في الماء والتراب ما يعيد ذلك. فقال عمر: لا تقدر أن تخرج إلى ماء ولا تراب؛ لن نبرح عن باب جحرك حتى تموت! قال: يقول أبو بكر: يا عمر لا تقل هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في فتح الطائف. فقال عمر: وهل قال لك هذا رسول الله؟ فقال: نعم. فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه سلم فقال: لم يؤذن لك يا رسول الله في فتحها؟ قال: لا.
وجاءت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص السلمية، وهي امرأة عثمان بن مظعون، فقالت: يا رسول الله. أعطني إن فتح الله عليك حلى الفارعة بنت الخزاعي، أو بادية بنت غيلان - وكانتا من أجمل نساء ثقيف. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة؟ قال: فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، حدثت خولة ما حدثتني أنك قلته؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قلته. قال: يا رسول الله، أولم يؤذن لك فيهم؟ قال: لا.قال: أفلا أؤذن في الناس بالرحيل! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فأذن عمر بالرحيل، فجعل المسلمون يتكلمون، يمشى بعضهم إلى بعض، فقالوا: ننصرف ولا نفتح الطائف! لا نبرح حتى يفتح الله علينا؛ والله إنهم لأذل وأقل من لا قينا؛ قد لقينا جمع مكة وجمع هوازان، ففرق الله تلك الجموع! وإنما هؤلاء ثعلب في جحر، لو حصرناهم لماتوا في حصنهم هذا! وكثر القول بينهم والاختلاف، فمشوا إلى أبي بكر فتكلموا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: الله ورسوله أعلم، والأمر ينزل عليه من السماء. فكلموا عمر فأبى وقال: قد رأينا الحديبية، ودخلنى في الحديبية من الشك ما لا يعلمه إلا الله، وراجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بكلامٍ ليت أني لم أفعل، وأن أهلي ومالي ذهبا! ثم كانت الخيرة لنا من الله فيما صنع، فلم يكن فتح كان خيراً للناس من صلح الحديبية - بلا سيف، دخل فيه من، أهل الإسلام مثل من كان دخل - من يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم كتب الكتاب. فاتهموا الرأي، والخبرة فيما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن أراجعه في شئ من ذلك الأمر أبداً! والأمر أمر الله، وهو يوحي إلى نبيه ما يشاء! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لأبي بكر: إني رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبداً، فنقرها ديك فأهراق ما فيها. قال أبو بكر رضي الله عنه: ما أظن أن تدرك منهم يا رسول الله يومك هذا ما تريد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا لا أرى ذلك.
قال: حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رياح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما مضت خمس عشرة ليلة من حصارهم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن الديل فقال: يا نوفل ما تقول؟ أو ترى. فقال نوفل: يا رسول الله، ثعلب في جحرٍ، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك شيئاً. قال أبو هريرة: ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتحها. قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وأذن في الناس بالرحيل. قال: فجعل الناس يضجون من ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاغدوا على القتال. فغدوا فأصابت المسلمين جراحات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون إن شاء الله! فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك. فلما استقل الناس لوجههم نادى سعد بن عبيد بن أسيد بن عمرو ابن علاج الثقفي قال: ألا إن الحي مقيم. قال: يقول عيينة بن حصن: أجل والله، مجدة كرام! فقال عمرو بن العاص: قاتلك الله، تمدح قوماً مشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئت تنصره؟ فقال: إني والله ما جئت معكم أقاتل ثقيفاً، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب جارية من ثقيف فأطأها لعلها تلد لي رجلاً، فإن ثقيفاً قوم مباركون. فأخبر عمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقالته، فتبسم صلى الله عليه وسلم ثم قال: هذا الحمق المطاع! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين أرادوا أن يرتحلوا: قولوا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! فلما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا آئبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون! ولما ظعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف قيل: يا رسول الله، ادع الله على ثقيفٍ.قال: اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم!
تسمية من استشهد بالطائفمن بني أمية: سعيد بن أمية، وعرفطة بن الحباب بن حبيب بن عبد مناف بن سعد بن الحارث بن كنانة بن خزيمة بن مازن بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن امرئ القيس، حليف لهم.
ومن بني أسد: يزيد بن زمعة بن الأسود، جمح به فرسه - وكان يقال له: الجناح - إلى حصن الطائف فقتلوه. ويقال: قال لهم: أمنوني حتى أكلمكم. فأمنوه ثم رموه بالنبل حتى قتلوه.
ومن بني تيم: عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة، رمى بسهم فلم يزل منه جريحاً، فمات بالمدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن بني مخزوم: عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، رمى من الحصن.
ومن بني عدي: عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزى، حليف لهم.
ومن بني سهم: السائب بن الحارث بن قيس، وأخوه عبد الله بن الحارث.
ومن بني سعد بن ليث: جليحة بن عبد الله بن محارب بن الضيحان انب ناشب بن سعد بن ليث.
ومن الأنصار: ثابت بن الجذع - واسم الجذع ثعلبة - والحارث بن سهل بن أبي صعصعة، والمنذر بن عبد الله بن نوفل. فذلك اثنا عشر رجلاً.
شأن مسير النبي إلى الجعرانة
على عشرة أميال من مكةقالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف فأخذ على دحنا ثم على قرن المنازل، ثم على نخلة حتى خرج إلى الجعرانة، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير وأبو رهم الغفاري إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقةٍ له، وفي رجليه نعلان له غليظتان، إذ زحمت ناقته ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقع حرف نعله على ساقه فأوجعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجعتني، أخر رجلك! وقرع رجله بالسوط. قال: فأخذني من آمري ما تقدم وما تأخر، وخشيت أن ينزل في القرآن لعظيم ما صنعت؛ فلما أصبحنا با لجعران، خرجت أرعى الظهر وما هو يومي، فرقاً أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبني، فلما روحت الركاب سألت فقالوا: طلبك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئته وأنا أترقب فقال: إنك أوجعتني برجلك فقرعتك بالسوط، فخذ هذه الغنم عوضاً من ضربتي. قال أبو رهم: فرضاه عني كان أحب إلى من الدنيا وما فيها.
وكان عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره وهو يحادثني، فجعلت ناقتي تلصق بناقته، وكانت ناقتي ناقة شهمة، فجعلت أريد أن أنحيها فلا تطاوعني، فلصقت بناقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصيبت رجله فقال: أخ! أوجعتني! فرفع رجله من الغرز كأنها جمارة، ودفع رجلى بمحجنٍ في يده. فمكث ساعة لا يتحدث، فو الله ما نزلت حتى ظننت أن سينزل في عذاب. قال: فلما نزلنا قلت لأصحابي: إني أرعى لكم! ولم يكن ذلك يوم رعيتي، فلما أرحت الظهر عليهم قلت: هل جاء أحد يبغيني؟ فقالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يبغيك. فقلت في نفسي: هي والله هي! قلت: من جاء؟ قالوا: رجل من الأنصار. قال: فكان أكره إلي، وذلك أن الأنصار كانت فيهم علينا غلطة. قال: ثم جاء بعد رجل من قريش يبتغيني. قال: فخرجت خائفاً حتى واجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يبتسم في وجهي وقال: أوجعتك بمحجنى البالاحة. ثم قال: خذ هذه القطعة من الغنم. قال: فأخذتها فوجدتها ثمانين شاة ضائنة.
وكان أبو زرعة الجهني يقول: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يركب من قرن راحلته القصواء وطئت له على يديها، والزمام في يدي مطوى، فركب على الرحل وناولته الزمام، ودرت من خلفه فخلف الناقة بالسوط، كل ذلك يصيبني، فالتفت إلى فقال: أصابك لا سوط؟ قلت: نعم بأبي وأمي! قال: فلما نزل الجعرانة إذا ربضة من الغنم ناحية من الغنائم، فسأل عنها صاحب الغنائم فخبره عنها بشئ لا أحفظه، ثم صاح: أين أبو زرعة؟ قال: قلت: ها أنا ذا! قال: خذ هذه الغنم بالذي أصابك من السوط أمس. قال: فعددتها فوجدتها عشرين ومائة رأس. قال: فتأثلت بها مالاً. لمالي بعينه مصدقاً، قال: وأقبل بريدة فلحق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدق يا رسول الله، هذا من قومي، شريف ينزل با لصفاح.
قال: فما أقدمك إلى نخلة؟ قال: هي أمرع من الصفاح اليوم.
ثم قال: نحن على ظهر كما ترى، فاحقنا بالجعرانة، قال: فخرج يعدو عراض ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا رسول الله، فأسوق الغنم معي إلى الجعرانة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسقها، ولكن تقدم علينا الجعرانة فنعطيك غنماً أخرى إن شاء الله! قال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا في عطن الإبل، أفأصلى فيه؟ قال: لا. قال: فتدركني وأنا في مراح الغنم، أفأصلى فيه؟ قال: نعم. قال: يا رسول الله، ربما تباعد منا الماء ومع الرجل زوجته فيدنو منها؟ قال: نعم، ويتيمم. قال: يا رسول الله، وتكون فينا الحائض، قال: تتيمم. قال: فلحق النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة فأعطاه مائة شاةٍ.
قالوا: وجعلت الأعراب في طريقه يسألونه، وكثروا عليه حتى اضطروه إلى سمرةٍ، فخطفت رداءه فنزعته عن مثل شقة القمر، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أعطوني ردائي! أعطوني ردائي! لو كان عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً! ثم لما كان عند القسم قال: أدوا الخياط والمخيط، وإياكم والغلول فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة! ثم أخذ وبرة من جنب بعير فقال: والله ما يحلى لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.
قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، والسبي والغنائم بها محبوسة، وقد اتخذ السبي حظائر يستظلون بها من الشمس، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلك الحظائر سأل عنها فقالوا: يا رسول الله، هذا سبي هوزان استظلوا من الشمس. وكان السبي ستة آلاف، وكانت الإبل أربعة وعشرين ألف بعير، وكانت الغنم لا يدرى عددها، قد قالوا أربعين ألفاً وأقل وأكثر، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسر بن سفيان الخزاعي يقدم مكة فيشتري للسبي ثياباً يكسوها، ثياب المعقد، فلا يخرج المرء منهم إلا كاسياً، فاشترى بسر كسوة فكسا السبي كلهم، واستأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبي، وقد كان فرق منه، وأعطى رجالاً؛ عبد الرحمن بن عوف كانت عنده امرأة منهن قد وطئها بالملك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهبها له بحنين فردها إلى الجعرانة حتى حاضت فوطئها، وأعطى صفوان ابن أمية أخرى، وأعطى علي بن أبي طالب عليه السلام جاريةً يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة، وأعطى عثمان بن عفان جارية يقال لها: زينب بنت حيان بن عمرو، فوطئها عثمان فكرهته، ولم يكن على وطئ. وأعطى عمر بن الخطاب جاريةً، فأعطاها عمر ابنه عبد الله بن عمر، فبعث بها ابن عمر إلى أخواله بمكة بني جمح ليصلحوا منها حتى يطوف بالبيت ثم يأتيهم، وكانت جارية وضيئةً معجبة. قال عبد الله بن عمر: فقدمت مكة فطفت بالتبيت ثم يأتيهم، وكانت جارية وضيئة معجبة. قال عبد الله بن عمر: فقدمت مكة فطفت بالبيت، فخرجت من المسجد وأنا أريد الجارية أن أصيبها، وأرى الناس يشتدون فقلت: ما لكم؟ قالوا: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء هوزان وأبناءها. قال: قلت: تلك صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها! فذهبوا فأخذوها. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبير بن مطعم جارية من سبي هوازن فلم توطأ. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله جارية فوطئها طلحة. وأعطى سعد بن أبي وقاص جارية، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح جارية فوطئها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام جاريةً؛ وهذا كله بحنين. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة أقام يتربص أن يقدم عليه وفدهم، وبدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس.؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غنم فضة كثير؛ أربعة آلاف أو قية، فجمعت الغنائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو سفيان بن حرب وبين يديه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو سفيان بن حرب وبين يديه الفضة، فقال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطني من هذا المال يا رسول الله! قال: يا بلال، زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني معاوية، يا رسول الله! قال: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: إنك الكريم، فداك أبي وأمي! ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً! وأعطى في بني أسد.
قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، قالا: حدثنا حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنينٍ مائة من الإبل فأعطانيها، ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حكيم ابن حزام، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذ بأشراف نفسٍ لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول! قال: فكان حكيم يقول: والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً! فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعوه إلى عطائه فيأبى يأخذه، فيقول عمر: أيها الناس، إني أشهدكم على حكيم أني أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه. قال: حدثنا ابن أبي الزناد قال: أخذ حكيم المائة الأولى ثم ترك.
وفي بني عبد الدار: النضير، وهو أخو النضر بن الحارث بن كلدة، مائة من الإبل. وفي بني زهرة: أسيد بن حارثة حليف لهم، مائة من الإبل. وأعطى العلاء بن جارية خمسين بعيراً، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيراً. وقد رأيت عبد الله بن جعفر ينكر أن يكون أخذ مخرمة في ذلك، وقال: ما سمعت أحداً من أهلي يذكر أنه أعطى شيئاً. ومن بني مخزوم: الحارث بن هشام مائة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل. وأعطى في بني جمح صفوان بن أمية مائة بعير، ويقال إنه طاف مع النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يتصفح الغنائم إذ مر بشعبٍ مما أفاء الله عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء. فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحدٍ قط إلا نبي، وأشهد أنك رسول الله! وأعطى قيس بن عدي مائة من الإبل، وأعطى عثمان ابن وهب خمسين من الإبل. وفي بني عامر بن لؤي أعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائةً من الإبل، وأعطى هشام بن عمر خمسين من الإبل. وأعطى في العرب الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل. وأعطى عيينة بن بدر الفزارى مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل. وأعطى العباس بن مرداس السلمى أربعاً من الإبل، فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في شعر قاله:
كانت نهاباً تلافيتها ... بكرى على القوم في الأجرع
وحثى الجنود لكي يدلجوا ... إذا هجع القوم لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فرفع أبو بكر رضي الله عنه أبياته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: أنت الذي تقول " أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة " ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس هكذا! قال، قال: كيف؟ قال: فأنشده أبو بكر كنا قال عباس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سواء، ما يضرك بدأت بالأقرع أم عيينة! فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي، ما أنت بشاعرٍ ولا راويةٍ، ولا ينبغي لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا لسانه عني. فأعطوه مائة من الإبل.
ويقال خمسين من الإبل، ففزع منها أناس، وقالوا: أمر بعباس يمثل به. وقد اختلف علينا فيما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الناس.
إبراهيم ويعقوب بن عتبة، قالا: كانت العطايا فارعة من الغنائم.
قال: حدثني موسى بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كانت من الخمس. فأثبت القولين أنها من الخمس.
قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائةً وتركت جعيل بن سراقة الضمري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني تأ لفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ثوب بلال فضة يقبضها للناس على ما أراه الله، فأتاه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر: يا رسول الله، ايذان لي أن أضرب عنقه! قال: دعه، إن له أصحاباً! يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر الرامي في قذذه فلا يرى شيئاً، ثم ينظر في نصله فلا يرى شيئاً، ثم ينظر في رصافه فلا يرى شيئاً، قد سبق الفرث والدم، يخرجون على فرقةٍ من المسلمين، رأيتهم إن فيهم رجلاً أسود، إحدى يديه مثل ثدي المرآة أو كبضعةٍ تدردر. فكان أبو سعيد يقول: أشهد لسمعت عليا يحدث هذا الحديث.
قال عبد الله بن مسعود: سمعت رجلاً من المنافقين يومئذ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي تلك العطايا، وهو يقول: إنها العطايا ما يراد بها وجه الله! قلت: أما والله لأبلغن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت. فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتغير لونه حتى ندمت على ما صنعته، فوددت أني لم أخبره، ثم قال: يرحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر! وكان المتكلم بهذا معتب بن قشير العمري. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم؛ لكل رجلٍ أربع من الإبل أو أربعون شاة، فإن كان فارساً أخذ اثنى عشرة من الإبل، أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرسٍ واحد لم يسهم له.
ذكر وفد هوازنقالوا: فقدم وفد هوازان، وكان في الوفد عم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، قال يومئذ: يا رسول الله،إنما في هذه الحظائر من كان يكفلك من عماتك وخالاتك وحواضنك، وقد حضناك في حجورنا،وأرضعناك بثدينا، ولقد رأيتك مرضعاً فما رأيت مرضعاً خيراً منك، ورأيتك فطيماً فما رأيت فطيماً خيراً منك، ثم رأيتك شاباً فما رأيت شاباً خيراً منك، وقد تكاملت فيك خلال الخير، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك، فامنن علينا من الله عليك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسم السبي، وجرت فيهم السهمان. وقدم عليه أربعة عشر رجلاً من هوزان مسلمين، وجاءوا بإسلام من وراءهم من قومهم، فكان رأس القوم والمتكلم أبو صرد زهير بن صرد، فقال: يا رسول الله، إنا أهلك وعشيرتك، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك. يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر وللنعمان بن المنذر، ثم نزلا منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفهما وعائدتهما، وأنت خير المكفولين. ويقال: إنه قال يومئذ - أبو صرد: إنما في هذه الحظائر أخواتك وعماتك وبنات عماتك وخالاتك وبنات خالاتك، وأبعدهن قريب منك. يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، إنهن حضنك في حجورهن، وأرضعنك بثديهن، وتوركنك على أوراكهن، وأنت خير المكفولين! وقال:
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
أمنن على نسوةٍ قد عاقها قدر ... ممزق شملها في دهرها غير
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك مملوءة من محضها الدرر
اللائي إذ كنت طفلاً كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وماتذر
ألا تداركها نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حتى حين يختبر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر آلاء وإن قدمت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحسن الحديث أصدقه، وعندي من ترون من المسلمين؛ فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا، وما كنا نعدل بالأحساب شيئاً، فرد علينا أبناءنا ونساءنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسال لكم الناس؛ وإذا صليت الظهر بالناس فقولوا: إنا لنشتشفع برسول اله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله! فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس. فلما صلى الله عليه وسلم الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال المهاجرون: فما كان لنا فهو لرسول الله! وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله! قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميمٍ فلا! وقال عيينة بن حصن: أما أنا وفزارة فلا! وقال عباس بن مرداس السلمى: أما أنا وبنو سليم فلا! قالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله! فقال العباس: وهنتموني! ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً فقال: إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بهم فخيرتهم بين النساء والأبناء والأموال. فلم يعدلوا بالنساء والأبناء، فمن كان عنده منهن شئ فطابت نفسه أن يرده فليرسل، ومن أبى منكم وتمسك بحقه فليرد عليهم، وليكن فرضاً علينا ست فرائض من أول ما يفي الله به علينا! قالوا: يا رسول الله، رضينا وسلمنا! قال: فمروا عرفاءكم أن يدفعوا ذلك إلينا حتى نعلم. فكان زيد بن ثابت يطوف على الأنصار يسألهم: هل سلموا ورضوا؟ فخبروه أنهم سلموا ورضوا، ولم يتخلف رجل واحد. وبعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المهاجرين يسألهم عن ذلك، فلم يتخلف منهم رجل واحد. وكان أبو رهم الغفاري يطوف على قبائل العرب، ثم جمعوا العرفاء، واجتمع الأمناء الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتفقوا على قول واحد، تسليمهم ورضاهم، ودفع ما كان في أيديهم من السبي. فكانت المرأة التي عند عبد الرحمن بن عوف قد خيرت تقيم أو ترجع إلى قومها، فاختارت قومها فردت إليهم. والتي عند علي وعثمان وطلحة وصفوان بن أمية وابن عمر، رجعن إلى قومهن. وأما إلى عند سعد بن أبي وقاص فاختارت سعداً ولها منه ولد.
وكان عيينة قد خيروه في السبي فأخذ رأساً منهم، نظر إلى عجوز كبيرة فقال: هذه أم الحي! لعلهم أن يغلوا بفدائها، فإنه عسى أن يكون لها في الحي نسب! فجاء ابنها إلىعيينة فقال: هل لك في مائة من الإبل؟ قال: لا. فرجع عنه وتركه ساعةً، فجعلت العجوز تقول لابنها: ما أربك في نقد مائة ناقة؟ اتركه، فما أسرع ما يتركنى بغير فداء! فلما سمعها عيينة قال: ما رأيت كاليوم خدعة! والله ما أنا من هذه إلا في غرورٍ ولا جرم، والله لأباعدن أثرك مني! قال: ثم مر به ابنها فقالك هل لك في العجوز فيما دعوتني إليه؟ قال ابنها: لا أزيدك على خمسين. قال عيينة: لا أفعل. قال: فلبث ساعة فمر به مرةً أخرى وهو معرض عنه. قال عيينة: هل لك في العجوز في الذي بذلت لي؟ قال الفتى: لا أزيدك على خمس وعشرين فريضة، هذا الذي أقوى عليه. قال عيينة: والله لا أفعل، بعد مائة فريضةٍ خمسة وعشرون! فلما تخوف عيينة أن يتفرق الناس ويرتحلون جاءه عيينة فقال: هل لك إلى ما دعوتني إليه؟ قال الفتى: هل لك إلى عشر فرائض أعطيكها؟ قال عيينة: والله لا أفعل! فلما رحل الناس ناداه عيينة: هل لك إلى ما دعوتني إليه إن شئت؟ قال الفتى: أرسلها وأحملك. قال: لا والله، مالي بحملك حاجة. قال: وأقبل عيينة على نفسه لائماً لها، ويقول: ما رأيت كاليوم أمراً. قال الفتى: أنت صنعت هذا بنفسك، عمدت إلى عجوز كبيرةٍ، والله ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد، ولا صاحبها بواجد، فأخذتها من بين من ترى. فقالعيينة: خذها لا بارك الله لك فيها، ولا حاجة لي فيها! قال، يقول الفتى:
يا عيينة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كسا السبي فأخطأها من بينهم بالكسوة، فما أنت كاسيها ثوباً؟ قال: لا والله، ما ذلك لها عندي! قال: لا تفعل! فما فارقه حتى أخذ منه شمل ثوب، ثن ولى الفتى وهو يقول: إنك لغير بصير بالفرص! وشكا عيينة إلى الأقرع ما لقى، فقال الأقرع: إنك والله ما أخذتها بكراً غريرة، ولا نصفاً وثيرة، ولا عجوزاً أصيلة؛ عمدت إلى أحوج شيخ في هوزان فسبيت امرأته. قال عيينة: هو ذاك.
وتمسكت بنو تميم مع الأقرع بالسبي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء ست فرائض، ثلاث حقاقٍ وثلاث جذاع. وكان معاذ بن جبل يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لو كان ثابتاً على أحدٍ من العرب ولاء أو رق لثبت اليوم، ولكن إنما هو إسار وفدية. وكان أبو حذيفة العدوى على مقاسم المغنم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للوفد: ما فعل مالك؟ قالوا: يا رسول الله، هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أنه إن كان يأتي مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائةً من الإبل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحبس أهل مالك بمكة عند عمتهم أم عبد الله بنت أبي أمية. فقال الوفد: يا رسول الله، أولئك سادتنا وأحبتنا إلينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أريد بهم الخير. فوقف مال مالك فلم يجر فيه السهم، فلما بلغ مالك بن عوف الخبر، وما صنع في قومه، وما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أهله وماله موقوف، وقد خاف مالك ثقيفاً على نفسه أن يعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ما قال فيحبسونه، أمر براحلته فقدمت حتى وضعت بدحنا، وأمر بفرسٍ له فأتى به ليلاً، فخرج من الحصن فجلس على فرسه ليلاً فركضه حتى أتى دحنا، فركب على بعيره فلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدركه قد ركب من الجعرانة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه. ويقال: لحقه بمكة، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه ومن تلك القبائل حول الطائف من هوزان وفهم؛ فكان قد ضوى إليه قوم مسلمون، وعقد له لواءً، فكان يقاتل بهم من كان على الشرك، ويغير بهم على ثقيف، يقاتلهم بهم، ولا يخرج لثقيف سرح إلا أغار عليه. وقد رجع حين رجع وقد سرح الناس مواشيهم، وأمنوا فيما يرون حيث انصرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يقدر على سرح إلا أخذه، ولا على رجلٍ إلا قتله، فكان قد بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالخمس مما يغير به، مرةً مائة بعيرٍ ومرةً ألف شاة، ولقد أغار على سرح لأهل الطائف فاستاق لهم ألف شاة في غداة واحدة. فقال في ذلك أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي:
تهاب الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بنو سلمة
وأتانا مالك بهم ... ناقضاً للعهد والحرمة
وأتونا في منازلنا ... ولقد كانوا أولي نقمه
فقال مالك بن عوف:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها ... بالمشرفي وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر في مرصد
قالوا: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شئ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت القالة حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا! إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك غضباً شديداً، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يقول في قومك؟ قال: وما يقولون يا رسول الله؟ قال: يقولون أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنا نعلم من أين هذا! إن كان من قبل الله صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه. فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال سعد: يا رسول الله، ما أنا إلا كأحدهم، وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة. فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له جاءه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يعرف في وجهه، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم؛ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل! قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وماذا نجيبك يا رسول الله، ولرسول الله المن والفضل؟ قال: أما والله لو شئتم قلم فصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك! وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شئ من الدنيا تألفت به قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؛ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ول سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسكلت شعب الأنصار. أكتب لكن بالبحرين كتاباً من بعدي تكون لكم خاصةً دون الناس! فهو يومئذ أفضل ما فتح الله عليه من الأنصار.
قالوا: وما حاجتنا بالدنيا بعدك يا رسول الله؟ قال: إما لا فسترون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار! قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا يا رسول الله حظا وقسماً. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا.
وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليالٍ خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنى عشرة بقيت من ذي العقدة ليلاً؛ فأحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى، وكان مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالجعرانة - فأما هذا المسجد الأدنى، فبناه رجل من قريش واتخذ ذلك الحائط. عنده - ولم يجز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلا محرماً، فلم يزل يلبي حتى استلم الركن. ويقال: لما نظر إلى البيت قطع التلبية، فلما أتى أناخ راحلته على باب بني شيبة، ودخل وطاف ثلاثة أشواط يرمل من الحجر إلى الحجر؛ ثم خرج فطاف بين الصفا والمروة على راحلته، حتى إذا انتهى إلى المروة في الطواف السابع حلق رآسه. عند المروة، حلقه أبو هند عبد بني بياضة، ويقال حلقه خراش بن أمية، ولم يسق رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هدياً. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة من ليلة فكان كبائتٍ بها، فلما رجع إلى الجعرانة خرج يوم الخميس فسلك في وادي الجعرانة، وسلك معه حتى خرج على سرف، ثم أخذ الطريق حتى انتهى إلى مر الظهران.
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين. وقال له: أتدري على من أستعملك؟ قال: الله ورسوله أعلم! قال: استعملتك على أهل الله، بلغ عني أربعاً: لا يصلح شرطان في بيعٍ، ولا بيع وسلف، ولا بيع ما لم يضمن، ولا تأكل ربح ما ليس عندك! وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد تلك السنة - وهي سنة ثمان - بغير تأمير من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج، ولكنه أمير مكة، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم؛ ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الحج. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة لثلاثٍ بقين من ذي القعدة.
قدوم عروة بن مسعود.قالوا: كان عروة بن مسعود حين حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بجرش، يتعلم عمل الدبابات والمنجنيق، ثم رجع إلى الطائف بعد أن ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمل الدبابات والنجنيق والعرادات وأعد ذلك حتى قذف الله عز وجل في قلبه الإسلام، فقدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم قال: يا رسول الله ايذن لي فآتي قومي فأدعوهم إلى الإسلام، فوالله ما رأيت مثل هذا الدين ذهب عنه ذاهب، فأقدم على أصحابي وقومي بخير قادم، وما قدم وافد قط. على قومه إلا من قدم بمثل ما قدمت به، وقد سبقت يا رسول الله في مواطن كثيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذا قاتلوك! قال: يا رسول الله، لأنا أحب إليهم من أبكار أولادهم. ثم استأذنه الثانية فأعاد عليه الكلام الأول، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذا قاتلوك. قال: يا رسول الله، لو وجدوني نائماً ما أيقظوني.
واستأذنه الثالثة فقال: إن شئت فاخرج! فخرج إلى الطائف فسار إليها خمساً، فقدم على قومه عشاء فدخل منزله، فأنكر قومه دهوله منزله قبل أن يأتي الربة: ثم قالوا: السفر قد حصره. فجاءوا منزله فحيوه تحية الشرك، فكان أول ما أنكر عليهم تحية الشرك، فقال: عليكم تحية أهل الجنة. ثم دعاهم إلى الإسلام، وقال: يا قوم، أتتهمونني؟ ألستم تعلمون أني وأوسطكم نسباً، وأكثركم مالاً، وأعزكم نفراً؟ فما حملني على الإسلام إلا أني رأيت أمراً لا يذهب عنه ذاهب! فاقبلوا نصحي، ولا تستعصوني، فوالله ما قدم وافد على قومٍ بأفضل مما قدمت به عليكم! فاتهموه، واستغشوه، وقالوا: قد واللات وقع في انفسنا حيث لم تقرب الربة، ولم تحلق رأسك عندها أنك قد صبوت! فآذوه، ونالوا منه، وحلم عليهم؛ فخرجوا من عنده يأتمرون كيف يصنعون به، حتى إذا طلع الفجر أوفى على غرفةٍ له فأذن بالصلاة، فرماه رجل من رهطه من الأحلاف يقال له وهب بن جابر - ويقال: رماه أوس بن عوف من بني مالك، وهذا أثبت عندنا - وكان عروة رجلاً من الأحلاف، فأصاب أكحله فلم يرقأ دمه، وحشد قومه في السلاح، وجمع الآخرون وتجايشوا، فلما رأى عروة ما يصنعون قال: لا تقتتلوا في، فإني قد تصدقت بدمي على صاحبه ليصلح بذلك بينكم، فهي كرامة الله أكرمني الله بها، الشهادة ساقها الله إلى؛ أشهد أن محمداً رسول الله، خبرني عنكم هذا أنكم تقتلونني! ثم قال لرهطه: ادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم. قال: فدفنوه معهم. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله فقال: مثل عروة مثل صاحب ياسين. دعا قومه إلى الله عز وجل فقتلوه. ويقال: إن عروة لم يقدم المدينة. وإنما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فأسلم ثم انصرف، والقول الأول أثبت عندنا. فلما قتل عروة، قال ابنه أبو مليح بن عروة بن مسعود، وابن أخيه قارب بن الأسود بن مسعود لأهل الطائف: لا نجامعكم على شئ أبداً، وقد قتلتم عروة. ثم لحقا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: توليا من شئما. قالا: نتولى الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وخالكما أبو سفيان بن حرب، حالفاه. ففعلا، ونزلا على المغيرة بن شعبة، وأقاما بالمدينة حتى قدم وفد ثقيف في رمضان سنة تسع.
قالوا: وكان عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان من أدهى العرب، وأنكرهم، وكان مهاجراً لعبد يا ليل بن عمرو، وتمشى إلى عبد يا ليل ظهراً حتى دخل داره، ثم أرسل إليه: إن عمراً بقول: اخرج إلى! فلما جاء الرسول إلى عبد يا ليل قال: ويحك! عمرو أرسلك؟ قال: نعم، وهو واقف في الدار. وكان عبد يا ليل يجب صلحه ويكره أن يمشي إليه، فقال عبد يا ليل: إن هذا لشئ ما كنت أظنه بعمرو، وما هو إلا عن أمرٍ قد حدث وكان أمراً سوءًا، ما لم يكن من ناحية محمد. فخرج إليه عبد يا ليل، فلما رآه رحب به، فقال عمرو: قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها وليست لكم بهم طاقة؛ وإنما نحن في حصننا هذا، ما بقاؤنا فيه وهذه أطرافنا تصاب! ولا نأمن من أحدٍ منا يخرج شبراً واحداً من حصننا هذا، فانظروا في أمركم! قال عبد يا ليل: قد والله رأيت ما رأيت، فما استطعت أن أتقدم بالذي تقدمت به، وإن الحزم والرأي الذي في يديك. قال: فائتمرت ثقيف بينها، واقل بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟ فائتمروا بينهم، فأرادوا أن يرسلوا رسولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما خرج عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فابعثوا رأسكم عبد يا ليل. فكلموا عبد يا ليل بن عمرو بن حبيب، وكان سن عروة، فأبى أن يفعل، وخشى إن رجع إلى قومه مسلماً أن يصنع به إذا رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع بعروة حتى يبعثوا معه رجالاً. فأجمعوا على رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فبعثوا مع بد يا ليل الحكن بن عمرو بن وهب بن معتب، وشر حبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب، وهؤلاء الأحلاف رهط. عروة. وبعثوا في بني مالك: عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونمير بن خرشة، ستة. ويقال: إن الوفد كانوا بضعة عشر رجلاً، فيهم سفيان بن عبد الله.
قالوا: فخرج بهم عبد يا ليل وهو رأسهم وصاحب أمرهم، ولكنه أحب إن رجعوا أن يسهل كل رجل رهطه، فلما كانوا بوادي قناة مما يلي دار حرض نزلوا، فيجدون نشراً من الإبل، فقال قائلهم: لو سألنا صاحب الإبل لمن الإبل، وخبرنا من خبر محمد. فبعثوا عثمان بن أبي العاص، فإذا هو المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت رعيتها نوباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم سلم عليهم وترك الركاب عندهم، وخرج يشتد، يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم: حتى انتهى إلى باب المسجد فيلقى أبا بكر الصديق رضي الله عنه فأخبره خبر قومه، فقال أبو بكر: أقسمت بالله عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم حتى أكون أنا أخبره - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرهم ببعض الذكر - فأبشره بمقدمهم. فدخل أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره والمغيرة على الباب، ثم خرج إلى المغيرة فدخل المغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسرور، فقال: يا رسول الله، قد قدم قومي يريدون الدخول في الإسلام بأن تشرط لهم شروطاً، ويكتبون كتاباص على من وراءهم من قومهم وبلادهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسألون شرطاً ولا كتاباً أعطيته أحداً من الناس إلا أعطيتهم، فبشرهم! فخرج المغيرة راجعاً فخبرهم ما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرهم وعلمهم كيف يحيون روسل الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما أمرهم المغيرة فعلوا إلا التحية، فإنهم قالوا: أنعم صباحاً! ودخلوا المسجد فقال الناس: يا رسول الله، يدخلون المسجد وهم مشركون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأرض لا ينجسها شئ! وقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله، أنزل قومي على، وأكرمهم، فإني حديث الجرم فيهم. فقال: لا آمنك أن تكرم قومك.
وكان جرم المغيرة أنه خرج في ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك، فقدموا على المقوقس فحيا بني مالك وجفاه وهو من الأحلاف، وكان معه رجلان الشريد ودمون؛ فلما كانوا بسباق وضعوا شراباً لهم فسقاهم المغيرة بيده، فجعل يخفف عن نفسه وينزع لبني مالك حتى ثملوا وناموا، فلما ناموا وثب إليهم ليقتلهم، فشرد الشريد منهم ليلتئذ؛ وفرق دمون أن يكون هذا سكراً منه فتغيب، فجعل يصيح: يا دمون! يا دمون! فلا دمون، فجعل يبكي، وخاف أن يكون قتله بعضهم، فطلع دمون فقال: أين كنت؟ قال: تغيبت حين رأيتك صنعت ببني مالك ما صنعت، فخشيت أن يكون ذلك ذهاب عقل. قال: إنما صنعت ذلك بهم لما حياهم المقوقس وجفاني. ثم أقبل بأموالهم حتى أتبى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخمس هذه الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسنا نغدر، ولا ينبغي لنا الغدر! فأبى أن يخمس أموالهم.
وأنزل المغيرة ثقيفاً في داره بالبقيع، وهي خطة خطها النبي صلى الله عليه وسلم له، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخيمات ثلاثٍ من جريدٍ فضربت في المسجد، فكانوا يسمعون القراءة بالليل وتهجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينظرون إلى الصفوف في الصلاة المكتوبة، ويرجعون إلى منزل المغيرة فيطعمون ويتوضأون، ويكونون فيه ما أرادوا، وهم يختلفون إلى المسجد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجري لهم الضيافة في دار المغيرة، وكانوا يسمعون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمعونه يذكر نفسه، فقالوا: أمرنا بالتشهد أنه رسول الله ولا يشهد به في خطبته! فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم قال: أنا أول من شهد أني رسول الله! ثم قام فخطب وشهد أنه رسول الله في خطبته. فمكثوا على هذا أياماً يغدون على النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم، يخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم، وكان أصغرهم، فكان إذا رجعوا إليه وناموا بالهاجرة خرج فعمد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، وأسلم سراً من أصحابه، فاختلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم مراراً حتى فقه، وسمع القرآن، وقرأ من القرآن سوراً من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً عمد إلى أبي بكر رضي الله عنه فسأله واستقرأه - ويقال: إذا وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائماً جاء إلى أبي بن كعب فاستقرأه - فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام قبل الوفد القضية، وكم ذلك عثمان من أصحابه، وأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وأحبه. فمكث الوفد أياماً يختلفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له عبد يا ليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى أهلنا وقومنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بين وبينكم! قال عبد يا ليل: أرأيت الزنا؟ فإنا قوم عزاب بغربٍ، لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العزبة. قال: هو مما حرم الله على المسلمين؛ يقول الله تعإلى: " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً " .قال: أرأيت الربا؟ قال: الربا حرام! قال: فإن أموالنا كلها رباً. قال: لكم رءوس أموالكم؛ يقول الله تعإلى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " . قال: أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، لابد لنا منها. قال: فإن الله قد حرمها! ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.. " الآية. قال: فارتفع القوم، وخلا بعضهم ببعض، فقال عبد يا ليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال الثلاث! والله، لا تصبر ثقيف عن الخمر أبداً، ولا عن الزنا أبداً. قال سفيان ابن عبد الله: أبها الرجل، إن يرد الله بها خيراً تصبر عنها! قد كان هؤلاء الذين معه على مثل هذا، فصبروا وتركوا ما كانوا عليه؛ مع أنا نخاف هذا الرجل، قد أوطأ الأرض غلبة ونحن في حصنٍ في ناحية من الأرض، والإسلام حولنا فاش، والله لو قام على حصننا شهراً لمتنا جوعاً؛ وما أرى إلا الإسلام، وأنا أخاف يوماً مثل يوم مكة!
===========
ج6. كتاب المغازي الواقدي
وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتبوا الكتاب، كان خالد هو الذي كتبه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم بالطعام، فلا يأكلون منه شيئاً حتى يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا. قالوا: أرأيت الربة، ما ترى فيها؟ قال: هدمها. قالوا: هيهات! لو تعلم الربة أنا أوضعنا في هدمها قتلت أهلنا. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ويحك يا عبد يا ليل! إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده. قال عبد يا ليل: إنا لم نأتك يا عمر! فأسلموا، وكمل الصلح، وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد. فلما كمل الصلح كلموا النبي صلى الله عليه وسلم يدع الربة ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى. قالوا: سنتين! فأبى. قالوا: سنة! فأبى. قالوا: شهراً واحداً! فأبى أن يوقت لهم وقتاً. وإنما يريدون بترك الربة لما يخافون من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا أبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها. واستعفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكسروا أصنامهم بأيديهم. وقال: أنا آمر أصحابي أن يكسروها. وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في دينٍ لا صلاة فيه. فقالوا: يا محمد، أما الصلاة فسنصلى، وأما الصيام فسنصوم. وتعلموا فرائض الإسلام وشرائعه، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصرموا ما بقي من الشهر، وكان بلال يأتيهم بفطرهم. ويخيل إليهم أن الشمس لم تغب فيقولون: يا بلال، ما غاب الشمس بعد. فيقول بلال: ما جئتكم حتى أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان الوفد يحفظون هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعجيل فطره. وكان بلال يأتيهم بسحورهم، قال: فأسترهم من الفجر، فلما أرادوا الخروج قالوا: يا رسول الله، أمر علينا رجلاً منا يؤمنا. فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وهو أصغرهم، لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرصه على الإسلام. قال عثمان: وكان آخر عهدٍ عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً، وإذا أممت قوما فاقدرهم بأضعفهم، وإذا صليت لنفسك فأنت وذاك. ثم خرج الوفد عامدين إلى الطائف، فلما دنوا من ثقيف قال عبد يا ليل: أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموها القضية، وخرفوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أموراً عظمناها فأبيناها عليه، يسألنا تحريم الزنا والخمر، وأن نبطل أموالنا في الربا، وأن نهدم الربة. وخرجت ثقيف حين دنا الوفد، فلما رآهم الوفد ساروا العنق وقطروا الإبل، وتغشوا بثيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا، فلم يرجعوا بخيرٍ. فلما رأت ثقيف ما في وجوه القوم حزنوا وكربوا، فقال بعضهم: ما جاء وفدكم بخير! ودخل الوفد، فكان أول ما بدأوا به على اللات، فقال القوم حين نزل الوفد إليها، وكانوا كذلك يفعلون، فدخل القوم وهم مسلمون فنظروا فيما خرجوا يدرأون به عن أنفسهم، وقالت ثقيف: كأنهم لم يكن لهم بها عهد ولا برؤيتها! ثم رجع كل واحد منهم إلى أهله، وأتى رجالاً منهم جماعة من ثقيف فسألوهم: ماذا رجعتم به؟ وقد كان والوفد قد استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينالوا منه فرخص لهم، فقالوا: جئناكم من عند رجلٍ فظ غليظ، يأخذ من أمره ما شاء، قد ظهر بالسيف، وأداخ العرب، ودان له الناس، ورعبت منه بنو الأصفر في حصونهم، والناس فيه؛ إما راغب في دينه، وإما خائف من السيف، فعرض علينا أموراً شديدة أعظمناها، فتركناها عليه؛ حرم علينا الزنا، والخمر، والربا، وأن نهدم الربة. فقالت ثقيف: لا نفعل هذا أبداً. فقال الوفد: لعمري قد كرهنا ذلك وأعظمناه، ورأينا أنه لم ينصفنا؛ فأصلحوا سلاحكم، ورموا حصنكم، وانصبوا العرادات عليه والمنجنيق، وأدخلوا طعام سنة أو سنتين في حصنكم، لا يحاصركم أكثر من سنتين، واحفروا خندقاً من وراء حصنكم، وعاجلوا ذلك فإن أمره قد ظل لا نأمنه. فمكثوا بذلك يوماً أو يومين يريدون القتال، ثم أدخل الله تبارك وتعإلى في قلوبهم الرعب فقالوا: ما لنا به طاقة، قد لداخ العرب كلها، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه، واكتبوا بينكم وبينه كتاباً قبل أن يسير إلينا ويبعث الجيوش. فلما رأى الوفد أن قد سلموا بالقضية، ورعبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، ورغبوا في الإسلام، واختاروا الأمن على الخوف، قال الوفد: فإنا قد قاضيناه، وأعطانا ما أحببناه، وشرط لنا ما أردنا،ووجدناه أتقى الناس، وأبر الناس، وأوصل الناس، وأوفى الناس، وأصدق الناس، وأرحم الناس، وقد تركنا من هدم الربة وأبينا أن نهدمها، وقال: أبعث من يهدمها، وهو يبعث من يهدمها. قال: يقول شيخ من ثقيف قد بقي في قلبه من الشرك بعد بقية: فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه؛ إن قدر على هدمها فهو محق ونحن مبطلون، وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعد شئ! فقال عثمان بن العاص: منتك نفسك. الباطل وغرتك الغرور! وما الربة؟ وما تدري الربة من عبدها ومن لم يعبدها؟ كما كانت العزى ما تدري من عبدها ومن لم يعبدها؛ جاءها خالد بن الوليد وحده فهدمها؛ وكذلك إساف، ونائلة، وهبل، ومناة، خرج إليها رجل واحد فهدمها؛ وسواع، خرج إليه رجل واحد فهدمه! فهل امتنع شئ منهم؟ قال الثقفي: إن الربة لا تشبه شيئاً مما ذكرت. قال عثمان: سترى!
وأقام أبو سفيان والمغيرة بن شعبة يومين أو ثلاثة، ثم خرجوا وقد تحكم أبو مليح بن عروة، وقارب بن الأسود، وهما يريدان يسيران مع أبي سفيان، والمغيرة إلى هدم الربة، فقال أبو مليح: يا رسول الله، إن أبي قتل وعليه دين، مائتا مثقال ذهب، فإن رأيت أن تقضيه من حلى الربة فعلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فقال قارب بن الأسود: يا رسول الله، وعن الأسود بن مسعود أبي، فإنه قد ترك ديناً مثل دين عروة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأسود مات وهو كافر. فقال قارب: تصل به قرابة، إنما الدين على وأنا مطلوب به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أفعل. فقضي عن عروة، والأسود، دينهما من مال الطاغية. وخرج أبو سفيان والمغيرة وأصحابهما لهدم الربة، فلما دنوا من الطائف قال لأبي سفيان: تقدم فادخل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان بماله ذي الهرم، ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلاً يهدمونها. فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه: لأضحكنكم اليوم من ثقيف. فأخذ المعول واستوى على رأس الربة ومعه المعول، وقام قومه بنو معتب دونه، معهم السلاح مخافة أن يصاب كما فعل بعمه عروة بن مسعود. وجاء أبو سفيان وهو على ذلك فقال: كلا! زعمت تقدمني أنت إلى الطاغية، تراني لو قمت أهدمها كانت بنو معتب تقوم دوني؟ قال المغيرة: إن القوم قد واضعوهم هذا قبل أن تقدم، فأحبوا الأمن على الخوف. وقد خرج نساء ثقيف حسرا يبكين على الطاغية، والعبيد، والصبيان، والرجال منكشفون، والأبكار خرجن. فلما ضرب المغيرة ضربة بالمعول سقط مغشياً عليه يرتكض، فصاح أهل الطائف صيحة واحدة: كلا! زعمتم أن الربة لا تمتنع؛ بلى والله لتمتنعن! وأقام المغيرة مليا وهو على حاله تلك، ثم استوى جالساً فقال: يا معشر ثقيف، كانت العرب تقول: ما من حي من أحياء العرب أعقل من ثقيف، وما من حي من أحياء العرب أحمق منكم! ويحكم، وما اللات والعزى، وما الربة؟ حجر مثل هذا الحجر، لا يدرى من عبده ومن لم يعبده! ويحكم، أتسمع اللات أو تبصر أو تنفع أو تضر؟ ثم هدمها وهدم الناس معه، فجعل السادن يقول وكانت سدنة اللات من ثقيف بنو العجلان بن عتاب بن مالك، وصاحبها منهم عتاب بن مالك بن كعب ثم بنوه بعده - يقول: سترون إذا انتهى إلى أساسها، يغضب الأساس غضباً يخسف بهم. فلما سمع بذلك المغيرة ولى حفر الأساس حتى بلغ نصف قامة، وانتهى إلى الغبغب خزانتها، وانتزعوا حليتها وكسوتها وما فيها من طيب ومن ذهب أو فضة. قال: تقول عجوز منهم: أسلمها الرضاع، وتركوا المصاع! وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما وجد فيها أبا مليح، وقارباً وناساً، وجعل في سبيل الله وفي السلاح منها، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لثقيف: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي رسول الله إلى المؤمنين؛ إن عضاه وج وصيده لا يعضد، ومن وجد يفعل ذلك يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ محمداً، فإن هذا أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وكتب خالد بن سعيد بأمر النبي الرسول محمد ابن عبد الله. فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع عضاه وج وعن صيده، وكان الرجل يوجد يفعل ذلك فتنزع ثيابه. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمى وج سعد بن أبي وقاص.
بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدقين
قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري، وعبد الله ابن يزيد، عن سعيد بن عمرو، قالا: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة قدم المدينة يوم الجمعة لثلاث ليالٍ بقين من ذي القعدة، فأقام بقية ذي القعدة وذي الحجة، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين، فبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار بصدقتهم، ويقال: كعب بن مالك، وبعث عباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة؛ وبعث رافع بن مكيث في جهينة؛ وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة؛ وبعث الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب؛ وبعث بسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب؛ وبعث ابن اللتبية الأزدي إلى نبي ذبيان؛ وبعث رجلاً من بني سعد بن هذيم على صدقاتهم. فخرج بسر بن سفيان على صدقات بني كعب. ويقال إنما سعى عليهم نعيم بن عبد الله النحام العدوى، فجاء وقد حل بنواحيهم بنو جيهم من بني تميم، وبنو عمروا بن جندب بن العتير بن عمرو بن تميم، فهم يشربون معهم على غديرٍ لهم بذات الأشطاط؛ ويقال: وجدهم على عسفان. ثم أمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة. قال: فحشرت خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستنكرت ذلك بنو تميم وقالوا: ما هذا؟ تؤخذ أموالكم منكم بالباطل! وتجيشوا، وتقلدوا القسي، وشهروا السيوف، فقال الخزاعيون: نحن قوم لدين بدين الإسلام، وهذا من ديننا. قال التميميون: والله لا يصل إلى بعيرٍ منها أبداً! فلما رآهم المصدق هرب منهم وانطلق مولياً وهو يخافهم السيف لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وحنين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر مصدقية أن يأخذوا العفو منهم ويتوقوا كرائم أموالهم، فقدم المصدق على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وقال: يا رسول الله، إنما كنت في ثلاثة نفر، فوثبت خزاعة على التميميين فأخرجوهم من محالهم، وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم؛ ليدخلن علينا بلاء من عداوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنفسكم حيث تعرضون لرسل رسول الله، تردونهم عن صدقات أموالن. فخرجوا راجعين إلى بلادهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟ فانتدب أول الناس عيينة بن حصن الفزاري، فقال: أن والله لهم، أتبع آثارهم ولو بلغوا يبرين حتى آتيك بهم إن شاء الله، فترى فيهم رأيك فيهم رأيك أو يسلموا. فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين فارساً من العرب، ليس فيها مهاجر واحد ولا أنصاري، فكان يسير بالليل ويكمن لهم بالنهار، خرج على ركوبة حتى انتهى إلى العرج، فوجد خبرهم أنهم قد عارضوا إلى أرض بني سليم، فخرج في أثرهم حتى وجدهم قد عدلوا من السقيا يؤمون أرض بني سليم في صحراء، قد حلوا وسرحوا مواشيهم، والبيوت خلوف ليس فيها أحد إلا النساء ونفير، فلما رأوا الجمع ولوا وأخذوا منهم أحد عشر رجلاً، ووجدوا في المحلة من النساء إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً، فحملهم إلى المدينة، فأمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فحبسوا في دار ملة بنت الحارث. فقدم منهم عشرة من رؤسائهم، العطارد بن حاجب بن زرارة، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، والأقرع بن حابس، ورياح بن الحارث ابن مجاشع؛ فدخلوا المسجد قبل الظهر، فلما دخلوا سألوا عن سبيهم فأخبروا بهم فجاءوهم، فبكى الذراري والنساء، فرجعوا حتى دخلوا المسجد ثانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في بيت عائشة، وقد أذن بلال بالظهر بالأذان الأول، والناس ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجلوا خروجه، فنادوا: يا محمد، اخرج إلينا! فقام إليهم بلال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج الآن.؟ فاشتهر أهل المسجد أصواتهم فجعلوا يخفقون بأيديهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا به يكلمونه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بعد إقامة بلال الصلاة مليا، وهم يقولون: أتيناك بخطيبنا وشاعرنا فاسمع منا. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مضى فصلى بالناس الظهر، ثم انصرف إلى بيته فركع ركعتين، ثم خرج فجلس في صحن السمجد، وقدموا عليه وقدموا عطارد ابن حاجب التميمي فخطب فقال: الحمد لله الذي له الفضل عينا، والذي جعلنا ملوكاً، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثرهم مالاً وأكثؤهم
عدداً، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم؟. فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا! ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله. أقول قولي هذا لأن يؤتي بقولٍ هو أفضل من قولنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجب خطيبهم! فقالم ثابت وما كان دري من ذلك بشئ، وما هيأ قبل ذلك ما يقول - فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضي فيها أمره، ووسع كل شئ علمه، فلم يك شئ إلا من فضله. ثم كانمما قدر الله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى لنا من خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأحسنهم زياً، وأصدقهم حديثاً. أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان، فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أصبح الناس وجهاً، وأفضل الناس فعالاً. ثم كنا أول الناس إجابةً حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه،ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس، فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له، فأقاموا الزبر قان بن بدر فقال:داً، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم؟. فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا! ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله. أقول قولي هذا لأن يؤتي بقولٍ هو أفضل من قولنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجب خطيبهم! فقالم ثابت وما كان دري من ذلك بشئ، وما هيأ قبل ذلك ما يقول - فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضي فيها أمره، ووسع كل شئ علمه، فلم يك شئ إلا من فضله. ثم كانمما قدر الله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى لنا من خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأحسنهم زياً، وأصدقهم حديثاً. أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان، فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أصبح الناس وجهاً، وأفضل الناس فعالاً. ثم كنا أول الناس إجابةً حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه،ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس، فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له، فأقاموا الزبر قان بن بدر فقال:
نحن الملوك فلا حي يقاربنا ... فينا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل الخير يتبع
ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا ... من السديف إذا لم يؤنس القزع
وننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجبهم يا حسان بن ثابت! فقام فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد شرعوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهن ما رقعوا
ولا يضنون عن جارٍ بفضلهم ... ولا ينالهم في مطمعٍ طبع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
أكرم بقومٍ رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد ببيشة في أرساغها فدع
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أطرافها خشعوا
خذ منهم ما أتى عفواً إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهم ... سما غريضاً عليه الصاب والسلع
أهدى لهم مدحه قلب يؤازره ... فيما أحب لسان حائك صنع
وأنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جدبا لناس جد القول أو شمعوا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بمنبر، فوضع في المسجد ينشد عليه حسان، وقال: إن الله ليويد حسان بروح القدس ما دافع عن نبيه. وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والمسلمون بمقام ثابت وشعر حسان. وخلا الوفد بعضهم إلى بعض، فقال قائل: تعلمن والله أن هذا الرجل مؤيد مصنوع له، والله لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا، ولهم أحلم منا! وكان ثابت بن قيس من أجهر الناس صوتاً. وأنزل الله تعإلى على نبيه في رفع أصواتهم التميميين ويذكر أنهم نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " إلى قوله: " أكثرهم لا يعقلون " ، يعني تميماً حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم. وكان ثابت حين نزلت هذه الآية لا يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم السبي والأسرى.
وقام عمرو بن الأهتم يومئذ يهجو قيس بن عاصم، كانا جميعاً في الوف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر لهم بجوائز، وكان يجيز الوفد إذا قدموا عليه ويفضل بينهم في العطية على قدر ما يرى، فلما أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل بقي منكم من لم نجزه؟ قالوا: غلام في الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوه نجزه! فقال قيس بن عاصم: إنه غلام لا شرف له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن كان! فإنه وافد وله حق! فقال عمرو بن الأهتم شعراً يريد قيس بن عاصم:
ظلت مفترشاً هلباك تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
إنا وسوددنا عود وسوددكم ... مخلف بمكان العجب والذنب
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب
قال: حدثني ربيعة بن عثما، عن شيخ، أخبره أن امرأة من بني النجار قالت: أنا أنظر إلى الوفد يومئذ يأخذون جوائزهم عند بلال، اثنى عشرة أوقية ونش. قالت: وقد رأيت غلاماً أعطاه يومئذ وهو أصغرهم، أعطى خسم أواقي. قلت: وما النش؟ قالت: نصف أوقية.
بعثة الوليد بن عقبة إلى بني المصطلققالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى صدقات بني المصطلق، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد بمساحاتهم. فلما خرج إليها الوليد وسمعوا به قد دنا منهم، خرج منهم عشرون رجلاً يتلقونه بالجزر والنعم فرحاً به، ولم يروا أحداً يصدق بعيراً قط. ولا شاة، فلما رآهم ولى راجعاً إلى المدينة ولم يقربهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دنا منهم لقوة. معهم السلاح يحولون بينه وبين الصدقة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم. وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر وقالوا: يا رسول الله، سله هل ناطقنا أو كلمنا؟ ونزلت هذه الآية ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه ونعتذر، فأخذه البرحاء فسرى عنه، ونزل عليه: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " الآية فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وأخبرنا بعذرنا وما نزل في صاحبنا، ثم قال: من تحبون أبعث إليكم؟ قالوا: تبعث علينا عباد بن بشر. فقال: يا عباد سر معهم فخذ صدقات أموالهم وتوق كرائم أموالهم. قال: فخرجنا مع عباد يقرئنا القرآن ويعلمنا شرائع الإسلام حتى أنزلناه في وسط بيوتنا، فلم يضيع حقاً ولم يعد بنا الحق. وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام عندنا عشراً، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضياً.
باب شأن سرية قطبة بن عامر إلى خثعمفي صفر سنة تسع
حدثنا ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، قال: حدثنا ابن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلاً إلى حي خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة عليهم، وأن يسير الليل ويكمن النهار، وأن يغذ السير، فخرجوا في عشرة أبعرة بعتقبون عليها، قد غيبوا السلاح، فأخذوا على الفتق حتى انتهوا إلى بطن مسحاء، فأخذوا رجلاً فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر. وخبر هذه السرية داخل في سرية شجاع بن وهب.
سرية بني كلاب أميرها الضحاك بن سفيان الكلابيقال: حدثني رشيد أبو موهوب الكلابي، عن حيان بن أبي سلمى، وعنبسة بن أبي سلمى، وحصين بن عبد الله، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى القرطاء؛ فيهم الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر الكلابي، والأصيد بن سلمة بن قرط بن عبد، حتى لقوهم بالزج زج لاوة، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة بن قرط، وسلمة على فرس له على غدير زج، قدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان، فسبه وسب دينه، فضرب الأصيد عرقوبي فرسه، فلما وقع على عرقوبيه ارتكز سلمة على رمحه في الماء ثم استمسك به حتى جاءه أحدهم فقتله ولم يقتله ابنه. وهذه السرية في شهر ربيع الأول سنة تسع.
قال: حدثني رشيد أبو موهوب، عن جابر بن أبي سلمى، وعنبسة بن أبي سلمى قالا: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حارثة بن عمرو ابن قريط. يدعوهم إلى الإسلام، فأخذوا صحيفته فغسلوها ورقعوا بها است دلوهم، وأبوا أن يجيبوا. فقالت أم حبيب بنت عامر بن خالد ابن عمرو بن قريط. بن عبد بن أبي بكرة، وخاصمتهم في بيت لها فقالت:
أيا أبن عسيد لا تكونن ضحكة ... وإياك واستمرر لهم بمرير
أيا ابن سعيد إنما القوم معشر ... عصوا منذ قام الدين كل أمير
إذا ما أتتهم آية من محمد ... محوها بماء البئر فهي عصير
قالوا: فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهم؟ أذهب الله بعقولهم؟ فهم أهل رعدة. وعجلة وكلام مختلط، وأهل سفه! وكان الذي جاءهم بالكتاب رجل من عرينة يقال له: عبد الله ابن عوسجة، لمستهل شهر ربيع الأول سنة تسع. قال الواقدي: رأيت بعضهم عيباً لا يبين الكلام.
شأن سريةٍ أميرها علقمة بن مجزز المدلجي
في ربيع الآخر سنة تسع قال: حدثني موسى بن محمد، عن أبيه. وإسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن أبيه، زاد أحدهما على صاحبه، قالا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً من الحبشة تراياهم أهل الشعيبة - ساحل بناحية مكة - في مراكب؛ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث علقمة بن مجزر المدلجي في ثلاثمائة رجلٍ حتى انتهى إلى جزيرة في البحر فخاض إليهم فهربوا منه، ثم انصرف. فلما كان ببعض المنازل استأذنه بعض الجيش في الانصراف حيث لم يلقوا كيداً، فأذن لهم وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي - وكانت فيه دعابة - فنزلنا عزمت عليكم ألا تواثبتم في هذه النار! فقام بعض القوم فتحاجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا. إنما كنت أضحك معكم! فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه!
سرية على بن أبي طالب عليه السلام إلى الفلسفي ربيع الآخر سنة تسع قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم بقول لموسى بن عمران بن مناح. وهما جالسان بالبقيع: تعرف سرية الفلس؟ قال موسى: ما سمعت بهذه السرية. قال: فضحك ابن حزم ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام في خمسين ومائة رجل على مائة بعير وخمسين فرساً؛ وليس في السرية إلا أنصارى، فيها وجوه الأوس والخزرج، فاجتنبوا الخيل وعتقبوا على الإبل حتى أغاروا على أحياء من العرب، وسأل عن محلة آل حاتم ثم نزل عليها، فشنوا الغارة مع الفجر، فسبوا حتى ملاؤا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وهدموا الفلس وخربوه، وكان صنماً لطيئ، ثم انصرف راجعاً إلى المدينة.
قال عبد الرحمن بن عبد العزيز: فذكرت هذه السرية لمحمد بن عمر بن علي، فقال: ما أرى ابن حزم زاد على أن ينقل من هذه السرية ولم يأتك بها. قلت: فأت بها أنت! فقالك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الفلس ليهدمه، في مائة وخمسين من الأنصار، ليس فيها مهاجر واحد، ومعهم خمسون فرساً وظهراً، فامتطوا الإبل وجنبوا الخيل، وأمره أن يشن الغرات؛ فخرج بأصحابه، معه راية سوداء ولواء أبيض، معهم القنا والسلاح الظاهر، وقد دفع رايته إلى سهل بن حنيف، ولواءه إلى جبار بن صخر السلمى، وخرج بدليلٍ من بني أسد يقال له: حريث، فسلك بهم على طريق فيد، فلما انتهى بهم إلى موضع قال: بينكم وبين الحي الذي تريدون يوم تام، وإن سرناه بالنهار وطئنا أطرافهم ورعاءهم، فأنذروا الحي فتفرقوا، فلم تصيبوا منهم حاجتكم؛ ولكن نقيم يومنا هذا في موضعنا حتى نمسي، ثم نسري ليلتنا على متون الخيل فنجعلها غارة حتى نصبحهم في عماية الصبح. قالوا: هذا الرأي! فعسكروا وسرحوا الإبل، واصطنعوا، وبعثوا نفراً منهم يتقصون ما حولهم، فبعثوا أبا قتادة، والحباب بن المنذر، وأبا نائلة، فخرجوا على متون خيلٍ لهم يطوفون حول المعسكر، فأصابوا غلاماً أسود فقالوا: ما أنت؟ قال: أطلب بغيي. فأتوا به علياً عليه السلام فقال: ما أنت؟ قال: باغ. قال: فشدوا عليه، فقال: أنا غلام لرجل من طيئ من بني نبهان، أمروني بهذا الموضع، وقالوا: إن رأيت خيل محمد فطر إلينا فأخبرنا، وأنا لا أدرك أسراً. فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم. ثم قلت لا أعجل حتى آتي أصحابي بخبر بينٍ من عددكم وعدد خيلكم وركابكم؛ ولا أخشى ما أصابني، فلكأني كنت مقيداً حتى أخذتني طلائعكم. قال علي عليه السلام: اصدقنا ما وراءك! قال: أوائل الحي على مسيرة ليلة طرادةٍ، تصبحهم الخيل ومغارها حين غدوا. قال علي عليه السلام لأصحابه: ما ترون؟ قال جبار بن صخر: نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا حتى نصبح القوم وهم غارون فنغير عليهم؛ ونخرج بالعبد الأسود ليلاً، ونخلف حريثاً مع العسكر حتى يلحقوا إن شاء الله. قال علي: هذا الرأي! فخرجوا بالعبد الأسود، والخيل تعادا، وهو ردف بعضهم عقبة، ثم ينزل فيردف آخر عقبة، وهو مكتوف، فلما انهار الليل كذب العبد وقال: قد أخطأت الطريق وتركتها ورائي. قال علي عليه السلام: فارجع إلى حيث أخطأت! فرجع ميلاً أو أكثر، ثم قال: أنا علي خطأ. فقال علي عليه السلام: إنا منك على خدعة، ما تريد إلا أن تثنينا عن الحي، قدموه! لتصدقنا أو لنضربن عنقك! قال: فقدم وسل السيف على رأسه، فلما رأى الشر قال: أرأيت إن صدقتكم، أينفعني؟ قالوا: نعم. قال: فإني صنعت ما رأيتم؛ إنه أدركني ما يدرك الناس من الحياء فقلت: أقبلت بالقوم أدلهم على الحي من غير محنةٍ ولا حق فآمنهم، فلما رأيت منكم ما رأيت وخفت أن تقتلوني كان لي عدر، فأنا أحملكم على الطريق. قالوا: اصدقنا. قال: الحي منكم قريب. فخرج معهم حتى انتهى إلى أدنى الحي، فسمعوا نباح الكلاب وحركة النعم في المراح والشاء، فقال: هذه الأصرام وهي على فرسخ. فينظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: فأين آل حاتم؟ قال: هم متوسطو الأصرام. قال القوم بعضهم لبعض: إن أفزعنا الحي تصايحوا وأفزعوا بعضهم بعضاً فتغيب عنا أحزابهم في سواد الليل، ولكن نمهل القوم حتى يطلع الفجر معترضاً فقد قرب طلوعه فنغير؛ فإن أنذر بعضهم بعضاً لم يخف علينا أين يأخذون، وليس عند القوم خيل يهربون عليها ونحن على متون الخيل. قالوا: الرأي ما أشرت به. قال: فلما اعترضوا الفجر أغاروا عليها فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا، واستاقوا الذرية والنساء، وجمعوا النعم والشاء، ولم يخف عليهم أحد تغيب فملأ أيديهم. قالك تقول جارية من الحي وهي ترى العبد الأسود - وكان اسمه. أسلم - وهو موثق: ماله هبل! هذا عمل رسولكم أسلم، لا سلم، وهو جلبهم عليكم، ودلهم على عورتكم! قال: يقول الأسود: أقصرى يا ابنة الأكارم، ما دللتهم حتى قدمت ليضرب عنقي! قال: فعسكر القوم، وعزلوا الأسرى وهم ناحية نفير، وعزلوا الذرية وأصابوا من آل حاتم أخت عدي ونسياتٍ معها، فعزلوهن على حدةٍ، فقال أسلم لعلي عليه السلام: ما تنتظر بإطلاقي؟ فقال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
قال: أنا على دين قومي هؤلاء الأسرى، ما صنعوا صنعت! قال: ألا تراهم موثقين، فنجعلك معهم في رباطك؟ قال: نعم، أنا مع هؤلاء موثقاً أحب إلى من أن أكون مع غيرهم مطلقاً، يصيبني ما أصابهم. فضحك أهل السرية منه، فأوثق وطرح مع الأسرى، وقال: أنا معهم حتى ترون منهم ما أنتم راءون. فقائل يقول له من الأسرى: لا مرحباً بك، أنت جئتنا بهم! وقائل يقول: مرحباً بك وأهلاً، ما كان عليك أكثر مما صنعت! لو أصابنا الذي أصابك لفعلنا الذي فعلت وأشد منه، ثم آسيت بنفسك! وجاء العسكر واجتمعوا، فقربوا الأسرى فعرضوا عليهم الإسلام، فمن أسلم ترك ومن أبى ضربت عنقه، حتى أتوا على الأسود فعرضوا عليه الإسلام، فقال: والله إن الجزع من السيف للؤم، وما من خلود! قال: يقول رجل من الحي ممن أسلم: يا عجباً منك، ألا كان هذا حيث أخذت! فلما قتل من قتل، وسبى من سبى منا، وأسلم منا من أسلم راغباً في الإسلام تقول ما تقول! ويحك، أسلم واتبع دين محمد! قال: فإني أسلم وأتبع دين محمد. فأسلم وترك، وكان يعد فلا يفي حتى كانت الردة، فشهد مع خالد بن الوليد اليمامة فأبلى بلاء حسناً.
قال: وسار علي عليه السلام إلى الفلس فهدمه وخربه؛ ووجد في بيته ثلاثة أسياف، رسوب، والمخذم، وسيفاً يقال له اليماني، وثلاثنة أدراع، وكان عليه ثياب يلبونه إياها. وجمعوا السبي، فاستعمل عليهم أبو قتادة، واستعمل عبد الله بن عتيك السلمى على الماشية والرثة، ثم ساروا حتى نزلوا ركك فاقتسموا السبي والغنائم، وعزل النبي صلى الله عليه وسلم صفيا رسوباً والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر؛ وعزل الخمس، وعزل آل حاتم، فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة.
قال الواقدي: فحدثت هذا الحديث عبد الله بن جعفر الزهري فقال: حدثني ابن أبي عون قال: كان في السبي أخت عدي بن حاتم لم تقسم، فأنزلت دار رملة بنت الحارث. وكان عدي بن حاتم قد هرب حين سمع بحركة علي عليه السلام، وكان له عين بالمدينة فحذره فخرج إلى الشام، وكانت أخت عدي إذا مر النبي صلى الله عليه وسلم تقول: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن علينا من الله عليك! كل ذلك يسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وافدك؟ فتقول: عدي بن حاتم! فيقول: الفار من الله ورسوله؟ حتى يئست. فلما كان يوم الرابع مر النبي صلى الله عليه وسلم فلم تكلم فأشار إليها رجل: قومي فكلميه! فلكمته فأذن لها ووصلها، وسألت عن الرجل الذي أشار إليها فقيل: على، وهو الذي سباكم، أما تعرفينه؟ فقالت: لا والله، ما زلت مدينة طرف ثوبي على وجهي وطرف ردائي على برقعي من يوم أسرت حتى دخلت هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه.
غزوة تبوكقرى على أي القاسم بن أبي حية قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع قال: حدثنا الواقدي قال: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن ابن سعيد، وعبد الله بن جعفر الزهري، ومحمد بن يحيى، وابن أبي حبيبة وربيعة بن عثما، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن أبي قتادة، وعبد الله ابن عبد الرحمن الجمحي، وعمر بن سليمان بن أبي حثمة، وموسى بن محمد بن إبراهيم، وعبد الحميد بن جعفر، وأبو معشر، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، وابن أبي سبرة، وأيوب بن النعمان؛ فكل قد حدثني بطائفةٍ من حديث تبوك، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء قد حدثني ممن لم أسم، ثقات، وقد كتبت كل ما قد حدثوني.
قالوا: كانت الساقطة - وهم الأنباط - يقدمون المدينة بالدرمك والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإسلام، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم؛ لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط، فقدمت قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرةً بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم، وجذام، وغسان، وعاملة. وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص. ولم يكن ذلك، إنما ذلك شئ قيل لهم فقالوه. ولم يكن عدون أخوف عند المسلمين منهم، وذلك لما عاينوا منهم - إذ كانوا يقدمون عليهم تجاراً - من العدد والعدة والكراع. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغزو غزوةً إلا ورى بغيرها، لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍ ديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل غزي وعدداً كثيراً، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة غزوهم، وأخبر بالوجه الذي يريد. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى غزوهم، فبعث إلى أسلم بريدة ابن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع. وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه أن يطلبهم ببلادهم، وخرج أبو واقد الليثي في قومه، وخرج أبو الجعد الضمري في قومه بالساحل، وبعث رافع بن مكيث، وجندب بن مكيث في جهينة؛ وبعث نعيم بن مسعود في أشجع؛ وبعث في بني كعب بن عمرو بديل بن ورقاء، وعمرو بن سالم، وبشر بن سفيان؛ وبعث في سليم عدة، منهم العباس بن مرداس. وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على القتال والجهاد، ورغبهم فيه، وأمرهم بالصدقة، فحملوا صدقات كثيرة، فكان أول من حمل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت شيئاً؟ قال: الله ورسوله أعلم! وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت شيئاً؟ قال: نعم، نصف ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر فقال: ما استبقنا إلى الخير قط. صلى الله عليه وسلم مالاً؛ وحمل طلحة بن عبيد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالاً؛ وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مالاً، مائتي أوقية؛ وحمل سعد بن عبادة إليه مالاً، وحمل محمد بن مسلمة إليه مالاً. وتصدق عاصم ابن عدي بتسعين وسقاً ممراً. وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من أكثرهم نفقة، حتى كفى ذلك الجيش مؤونتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت لهم حاجة! حتى كفاهم شنق أسقيتهم. فيقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا! ورغب أهل الغنى في الخير والمعروف، واحتسبوا في ذلك الخير، وقووا أناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم، حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تتعاقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، حتى إن كن النساء ليعن بكل ما قدرن عليه قالت أم سنان الأسلمية: لقد رأيت ثوباً مبسوطاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها فيه مسك، ومعاضد، وخلاخل وأقرطة وخواتيم، وخدمات، مما يبعث به النساء يعن به المسلمين في جهازهم. والناس في عسرةٍ شديدة، وحين طابت الثمار وأحبت الظلال، فالناس يحبون المقام ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالانكماش والجد، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره بثنية الوداع، والناس كثير لا يجمعهم كتاب، قد رحل يريد أن يبعث إلا أنه طن أن ذلك سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجدين قيس: أبا وهب، هل لك العام تخرج معنا لعلك تحتفب من بنات الأصفر؟ فقال الجد: أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله، لقد عرف قومي ما أحد أشد عجباً بالنساء مني، وإني لأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد أذنت لك! فجاءه ابنه عبد الله بن الجد وكان بدريا، وهو أخو معاذ بن جبل لأمه فقال لأبيه: لم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته؟ فو الله ما في بني سلمة أكثر مالاً منك، ولا تخرج ولا تحمل أحدً! قال: يابني، مالي وللخروج في الريح والحر والعسرة إلى بني الأصفر؟ والله، ما آمن خوفاً من بني الأصفر وإني في منزلي بخربي، فأذهب إليهم فأغزوهم، وإني والله يابني عالم بالدوائر! فأغلظ له ابنه، فقال: لا والله، ولكنه النفاق! والله، لينزان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك قرآن يقرأونه. قال: فرفع نعله فضرب بها وجهه، فانصرف ابنه ولم يكلمه. وجعل الخبيث يثبط قومه، وقال لجبار بن صخر ونفرٍ معه من بني سلمة: يا بني سلمة، لا تنفروا في الحر. يقول: لا تخرجوا في الحر زهادةً في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل فيه: وقالوا لا تنفروا في الحر إلى قوله: جزاءً بما كانوا يكسبون. وفيه نزلت: ومنهم من يقول " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " الآية، أي كأنه إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به؛ إنما تعذر بالباطل، فما سقط. فيه من الفتنة أكثر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته بنفسه عن نفسه. يقول الله عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " يقول: إن جهنم لمن ورائه؛ فلما نزلت هذه الآية جاء ابنه إلى أبيه فقال: ألم أقل لك إنه سوف ينزل فيك قرآن يقرأه المسلمون؟ قال: يقول أبوه: اسكت عني يا لكع! والله. لا أنفعك بنافعةٍ أبداً! والله لأنت أشد على من محمد! قال: وجاء البكاءون وهم سبعة يستحملونه، وكانوا أهل حاجة، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع " . الآية. وهم سبعة من بني عمرو بن عوف: سالم ابن عمير، قد شهد بدراً، لا اختلاف فيه عندنا؛ ومن بني واقف هرمي ابن عمرو؛ ومن بني حارثة علبة بن زيد، وهو الذي تصدق بعرضه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة، فجعل الناس يأتون بها، فجاء علبة فقال: يا رسول الله، ما عندي ما أتصدق به وجعلت عرضي حلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قبل الله صدقتك. ومن بني مازن بن النجار أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب؛ ومن بني سلمة عمرو بن عتبة، ومن بني زريق سلمة بن صخر، ومن بني سليم عرباض بن سارية السلمى. وهؤلاء أثبت ما سمعنا. ويقال: عبد الله بن مغفل المزني، وعمرو بن عوف المزني؛ ويقال: هم بنو مقر،، من مزينة. ولما خرج البكاءون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه، وإنما يريدون ظهراً، لقي يامين بن عمير بن كعب بن شبل النضري أبا ليلى المازني، وعبد الله بن مغفل المزني، وهما يبكيان فقال: وما يبكيكما؟ قالا: جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما ننفق به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأعطاهما ناضحاً له، فارتحلاه، وزود كل رجلٍ منهما صاعين من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخرج معنا إلا مقوٍ فخرج رجل على بكرٍ صعب فصرعه، فقال الناس: الشهيد، الشهيد! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن أو إلا نفس مؤمنة ولا يدخل الجنة عاصٍ. وكان الرجل طرحه بعيره بالسويداء.
قالوا: وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير علةٍ فأذن لهم، وكان المنافقون الذين استأذنوا بضعه وثمانين. وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله عز وجل. هم نفر من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة، اثنان وثمانون رجلاً. وأقبل عبد الله بن أبي بعسكره، فضربه على ثنية الوداع بحذاء ذباب، معه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممن اجتمع إليه، فكان يقال: ليس عسكر ابن أبي بأقل العسكرين، وأقام ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم السفر، وأجمع المسير، استخلف على المدينة سباع ابن عرفة الغفاري ويقال: محمد بن مسلمة لم يتخلف عنه غزوة غير هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف ابن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تخلف من المنافقين، وقال: يغزو محمد بنى الأصفر، مع جهد الحال والحر والبلد البعيد، إلى ما لا قبل له به! يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ ونافق معه من هو على مثل رأية، ثم قال ابن أبي: والله لكأني أنظر إلى أصحابه غداً مقرنين في الحبال! إرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية الوداع إلى تبوك، وعقد الآلوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال: إلى الحباب بن المنذر بن الجموح.
قالوا: وإذا عبد لا مرآة من بني ضمرة، لقيه على رأس ثنية النور، والعبد متسلح. قال العبد: أقاتل معك يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنت؟ قال: مملوك لامرأة من بني ضمرة سيئة الملكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى سيدتك، لا تقتل معي فتدخل النار! قال: حدثني رفاعة بن ثعلبة بن أبي مالك، عن أبيه، عن جده، قال: جلست مع زيد بن ثابت فذكرنا غزوة تبوك، فذكر أنه حمل لواء مالك بن النجار في تبوك فقلت: يا أبا سعيد، كرم ترى كان المسلمون؟ قال: ثلاثون ألفاً، لقد كان الناس يرحلون عند ميل الشمس، فما يزالوان يرحلون والساقة مقيمون حتى يرحل العسكر. فسألت بعض من كان بالساقة فقال: ما يرحل آخرهم إلا مساء، ثم نرحل على أثرهم فما ننتهي إلى العسكر إلا مصبحين من كثرة الناس.
قالوا: وتخلف نفر من المسلمين، أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتبابٍ، منهم: كعب بن مالك، وكان كعب يقول: كان من خبري حين تخلفت عن تبوك أني لم أك قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة؛ والله، ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغروة! فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه، وجعلت أعدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك! فلم أزل يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً والمسلمون، وذلك يوم الخميس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يخرج فيه، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحق بهم. فغدوت بعد ما فصلوا أتجهز، فرجعت ولم أفعل شيئاً، ثم غدوت فلم أفعل شيئاً، فلم أزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وقلت: أرتحل فأدركهم، ويا ليتني فعلت! ولم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس فطفت فيهم يحزنني ألا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. والقائل عبد الله بن أنيس، ويقال: الذي رد عليه المقالة أبو قتادة، ومعاذ بن جبل أثبتهما عندنا.
قال هلال بن أمية الوافقي، حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك: والله ما تخلفت شكا ولا ارتباباً، ولكن كنت مقوياً في المال.
قلت: أشتري بعيراً. ولقيني مرارة بن الربيع فقال: أنا رجل مقوٍ، فأبتاع بعيراً وأنطلق به. فقلت: هذا صاحب أرافقه. فجعلنا نقول: نغدو فنشتري بعيرين فنلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يفوت ذلك؛ نحن قوم مخفون على صدر راحلتين فغداً نسير! فلم نزل ندفع ذلك ونوخر الأيام حتى شارف رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد. فقلت: ما هذا بحين خروج. وجعلت لا أرى في الدار ولا في غيرها إلا معذوراً أو منافقاً معلناً، فأرجع مغتما بما أنا فيه. وكان أبو خيثمة قد تخلف معنا، وكان لا يتهم في إسلامه ولا يغمص عليه، فعزم له على ما عزم، وكان أبو خيثمة يسمى عبد الله بن خيثمة السالمي، فرجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام حتى دخل على امرأتين له في يومٍ حار فوجدهما في عريشين لهما، قد رشت كل واحدةٍ منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما انتهى إليهما قام على العريشين فقال: سبحان الله! رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضح والريح والحر، يحمل سلاحه على عنقه، وأبو خيثمة في ظلالٍ باردٍ وطعامٍ مهيأ وامرأتين حسناوين، مقيم في ماله، ما هذا بالنصف! ثم قال: والله، لا أدخل عريش واحدةٍ منكما حتى أخرج فألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأناخ ناضحه وشد عليه قتبه وتزود وارتحل، فجعلت امرأتاه يكلمانه ولا يكلمهما، حتى أدرك عمير بن وهب الجمحى بوادي القرى يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فصحبه فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة: يا عمير! إن لي ذنوباً وأنت لا ذنب لك، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك. ففعل عمير، فسار أبو خيثمة حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب الطريق! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة! فقال الناس: يا رسول الله، هذا أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له.
قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، فصبح ذا خشب فنزل تحت الدومة، وكان دليله إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الدومة، فراح منها ممسياً حيث أبرد، وكان في حر شديد، وكان يجمع من يوم نزل ذا خشب بين الطهر والعصر في منزله، يؤخر الظهر حتى يبرد، ويعجل العصر، ثم يجمع بينهما، فكل ذلك فعله حتى رجع من تبوك. وكانت مساجده في سفره إلى تبوك معروفة؛ صلى تحت دومة بذي خشب، ومسجد الفيفاء، ومسجد بالمروة، ومسجد بالسقيا، ومسجد بوادي القرى، ومسجد بالحجر، ومسجد بذنب حوصاء، ومسجد بذي الجيفة، من صدر حوصاء، ومسجد بشق تاراء مما يلي جوبر، ومسجد بذات الخطمى، ومسجد بسمنة، ومسجد بالأخضر، ومسجد بذات الزراب، ومسجد بالمدران، ومسجد بتبوك.
ولما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية الوداع سائراً، فجعل يتخلف عنه الرجال فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان! فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه! فخرج معه ناس من المنافقين كثير لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة.
وكان أبو ذر يقول: أبطات في غزوة تبوك من أجل بعيري، كان نضوا أعجف، فقلت: أعلفه أباماً ثم ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلفته أياماً ثم خرجت، فلما كنت بذي المروة عجز بي، فتلومت عليه يوماً فلم أر به حركة، فأخذت متاعي فحملته على ظهري، ثم خرجت أبتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً في حر شديد، وقد تقطع الناس فلا أرى أحداً يلحقنا من المسلمين، فطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وقد بلغ مني العطش، فنظر ناظر من الطريق فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كن أبا ذر! فلما تأملني القوم قالوا: يا رسول الله، هذا أبو ذر! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دنوت منه فقال: مرحباً بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده! فقال: ما خلفك يا أبا ذر؟ فأخبره خبر بعيره، ثم قال: إن كنت لمن أعز أهلي على تخلفاً، لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوةٍ ذنباً إلى أن بلغتني. ووضع متاهه عن ظهره ثم استسقى، فأتى بإناء من ماء فشربه، فلما أخرجه عثمان رضي الله عنه إلى الربذة فأصابه قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما فقال: اغسلاني وكنناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق إذا أنا مت. وأقبل ابن مسعود في رهطٍ من العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بالجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطرها، فسلم القوم فقام إليهم غلامه فقال لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينوني عليه! فاستهل ابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبو ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده " . ثم نزل هو وأصحابه حتى وراروه، ثم حدثهم ابن مسعود حديثه، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك.
وكان أبو رهم الغفاري وهو كلثوم بن الحصين، قد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فقال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوكاً. قال: فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وأنا قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقي على النعاس، فطفقت أستيقظ. وقد دنت راحلتي من راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفزعني دنوها منه خشية أن أصيب رجله في الغرز؛ فطفقت أحوز راحلتي حتى غلبتني عيناي في بعض الطريق ونحن في بعض الليل، فزاحمت راحلتي راحلته ورجله في الغرز، فما استيقظت إلا بقوله: حس! فقلت: يا رسول الله، استغفر لي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سر! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألني عمن تخلف من بني غفارٍ، فأخبره بهم، وهو يسألني ما فعل النفر الحمر الطوال النطانط؟ فحدثته بتخلفهم. قال: فما فعل النفر السود القصار الجعاد الحلس؟ فقلت: والله يا رسول الله ما أعرف هؤلاء. قال: بلى، الذين هم بشبكة شدخ. قال: فتذكرتهم في بني غفار فلا أذكرهم، ثم ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا فينا وكانوا يحلون بشبكة شدخ، لهم نعم كثير، فقلت: يا رسول الله، أولئك رهط. من أسلم حلفاء لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعيرٍ من إبله رجلاً نشيطاً في سبيل الله ممن يخرج معنا، فيكون له مثل آجر الخارج! إن كان لمن أعز أهلي على أن يتخلف عني! المهاجرون من قريش والأنصار، وغفار، وأسلم.
قالوأ: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره مر على بعيرٍ من العسكر قد تركه صاحبه من العجف والضعف، فمر به مار فأقام عليه وعلفه أياماً ثم حوله إلى منزله، فصلح البعير فسافر عليه، فرآه صاحبه الأول، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحيى خفا أو كراعاً بمهلكةٍ من الأرض فهو له.
قالوا: وكان الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين ألفاً، ومن الخيل عشرة آلاف فرس. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بطنٍ من الأنصار أن يتخذوا لواءً وراية، والقبائل من العرب فيها الرايات والألوية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفع راية بني مالك بن النجار إلى عمار بن حزم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت فأعطاه الراية. قال عمارة: يا رسول الله، لعلك وجدت علي! قال: لا والله، ولكن قدموا القرآن، وكان أكثر أخذاً للقرآن منك؛ والقرآن يقدم، وإن كان عبداً أسود مجدعاً. وأمر في الأوس والخزرج أن يحمل راياتهم أكثرهم أخذاً للقرآن، وكان أبو زيد يحمل راية بني عمر بن عوف، وكان معاذ بن جبل يحمل راية بني سلمة. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بأصحابه في سفره وعليه جبة صرف وقد أخذ بعنان فرسه أو قال: مقود فرسه وهو يصلى، فبال الفرس فأصاب الجبة فلم يغسله وقال: لا بأس بأبوالها ولعابها وعرقها.
قالوا: وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك، منهم وديعة بن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف، والجلاس ابن سويد بن الصامت، ومخشى بن حمير من أشجع، حليف لبني سلمة، وثعلبة بن حاطب. فقال: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال! إرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وترهيباً للمؤمنين. فقال وديعة بن ثابت: مالي أرى قراءنا هؤلاء أوعبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء؟ وقال الجلاس ابن سويد، وكان زوج أم عمير، وكان ابنها عمير يتيماً في حجره: هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منا! والله، لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير! والله، لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجلٍ منا مائة جلدة وأنا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قد قلم كذا وكذا! فذهب إليهم عمار فقال لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته، وقد أخذ بحقب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ورجلاه تنسفان الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! ولم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل فيه: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " إلى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " . قالوا: ورد عمير على الجلاس ما قال حين قال: لنحن شر من الحمير قال: فأنت شر من الحمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق وأنت الكاذب. وجاء الجلاس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحلف ما قال من ذلك شيئاً، فأنزل الله عز وجل على نبيه فيه: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " ونزلت فيه: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله " الآية قال: وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه، وكان محتاجاً، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذها له فاستغنى بها. وقال مخشى بن حمير: قد والله يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أو عبد الله وسأل الله عز وجل أن يقتل شهيداً ولا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. ويقال في الجلاس بن سويد: إنه كان ممن تخلف من المنافقين في غزوة تبوك، فكان يثبط. الناس عم الخروج، وكانت أم عمير تحته، وكان عمير يتيماً في حجره ولا مال له، فكان يكفله وبحسن إليه، فسمعه وهو يقول: والله، لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحيمر! فقال له عمير: يا جلاس، قد كنت أحب الناس إلى، وأحسنهم عندي أثراً، وأعزهم على أن يدخل عليه شئ نكرهه؛ والله، لقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن كتمتها لأهلكن، وإحداهما أهون على من الأخرى! فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم مقالة الجلاس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى الجلاس مالاً من الصدقة لحاجته وكان فقيراً، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجلاس فسأله عما قال عمير، فحلف بالله ما تكلم به قط. وأن عمير الكاذب. وهو عمر بن سعيد وهو حاضر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام وهو يقول: اللهم، أنزل على رسولك بيان ما تكلمت به! فأنزل الله على نبيه " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " إلى قوله: " أغناهم الله ورسوله من فضله " للصدقة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الجلاس: اسمع! الله قد عرض على التوبة! والله لقد قلت ما قال عمير! ولما اعترف بذنبه وحسنت توبته ولم يمتنع عن خيرٍ كان يصنعه إلى عمير ابن سعيد، فكان ذلك مما قد عرفت به توبته.
قال أبو حميد الساعدي: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فلما جئنا وادي القرى مررنا على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آخر صوها! فخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرصناها معه، عشرة أوساق. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احفظي ما خرج منها حتى نرجع إليك. فلما أمسنا بالحجر قال: إنها ستهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد منكم إلا مع صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله. قال: فهاجت ريح شديدة ولم يقم أحد إلا مع صاحبه، إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره. فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح فطرحته بجبلى طيئ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له؟ ثم دعا الذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الذي وقع بجبلى طيئ فإن طيئاً أهدته للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي القرى أهدى له بنو عريض اليهودى هريساً فأكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمهم أربعين وسقاً، فهي جارية عليهم. تقول امرأة من اليهود: هذا الذي صنع بهم محمد خير مما ورثوه من آبائهم؛ لأن هذا لا يزال جارياً عليهم إلى يوم القيامة.
وكان أبو هريرة يحدث يقول: لما مررنا بالحجر استقى الناس من بئرها وعجنوا، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا من مائها ولا تتوضئا منه للصلاة، وما كان من عجين فاعلفوه الإبل. قال سهل ابن سعد: كنت أصغر أصحابي وكنت مقريهم في تبوك، فلما نزلت عجنت لهم ثم تحينت العجين، وقد ذهبت أطلب حطباً، فإذا منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألا تشبوا من ماء بئرهم. فجعل الناس يهرقون ما في أسقيتها. قالوا: يا رسول الله، قد عجنا. قال: أعلفوه الإبل! قال سهل: فأخذت ما عجنت فعلفت نضوين، فهما كانا أضعف ركابنا.
وتحولنا إلى بئر صالحٍ النبي عليه السلام، فجعلنا نستقي من الأسقية ونغسلها، ثم ارتوينا، فلم نرجع يومئذ إلا ممسين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا نبيكم الآيات! هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم آية، فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفلج، تسقيهم من لبنها يوم وردها ما شربت من مائها، فعقروها فأوعدوا ثلاثاً، وكان وعد الله غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة فلم يبق أحد منهم تحت أديم السماء إلا هلك، إلا رجل في الحرم منعه الحرم من عذاب الله. قالوا: يا نبي الله، من هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو رغال، أبو ثقيف. قالوا: فما له بناحية مكة؟ قال: إن صالحاً بعثه مصدقاً، فانتهى إلى رجل معه مائة شاة شصص، ومعه شاة والد، ومعه صبي ماتت أمه بالأمس. فقال: إن رسول الله أرسلني إليك. فقال: مرحباً برسول الله وأهلاً! خذ قال: فأخذ الشاة اللبون، فقال: إنما هي أم هذا الغلام بعد أمه، خذ مكانها عشراً. قال: لا. قال: عشرين. قال: لا. قال: خمسين. قال: لا. قال: خذها كلها إلا هذه الشاة. قال: لا. قال: إن كنت تحب اللبن فأنا أحبه. فنثر كنانته ثم قال: اللهم تشهد! ثم فوق له بسهم فقتله، فقال: لا يسبق بهذا الخبر إلى نبي الله أول مني! فجاء صالحاً فأخبره الخبر، فرفع صالح يديه مدا فقال: اللهم العن أبا رغال! ثلاثاً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم ما أصابهم. قال أبو سعيد الخدري: رأيت رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين. قال: فأعرض عنه واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: ألقه! فألقاه فما أدرى أين وقع حتى الساعة. وكان انب عمر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين حاذهم: إن هذا وادي النفر! فجعلوا يوضون فيه ركابهم حتى خرجوا منه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن يونس بن يوسف، عن عبيد بن جبير، عن أبي سعيد الخدرى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضع راحلته حتى خلفها. قال: وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة فدعا ولا والله ما أرى في السماء سحاباً فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو حتى إني لأنظر إلى السحاب تأتلف من كل ناحية، فما رام مقامه حتى سحت علينا السماء بالرواء، فكأني أسمع تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المطر. ثم كشف الله السماء عنا من ساعتها وإن الأرض إلا غدر تناخس، فسقى الناس وارتووا عن آخرهم، وأسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشهد أني رسول الله! فقلت لرجلٍ من المنافقين: ويحك، أبعد هذا شئ؟ فقال: سحابة مارة! وهو أوس بن قيظى، ويقال: زيد بن اللصيت.
قال: حدثني يونس بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، أنه قال له: هل كان الناس يعرفون أهل النفاق فيهم؟ فقال: نعم والله، إن كان الرجل ليعرفه من أبيه وأخيه وبني عمه. سمعت جدك قتادة بن النعمان يقول: تبعنا في دارنا قوم منا منافقون. ثم من بعد سمعت زيد بن ثابت يقول في بني النجار: من لا بارك الله فيه! فيقال: من يا أبا سعيد؟ فيقول: سعد بن زرارة، وفيس بن فهر. ثم يقول زيد: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما كان من أمر الماء ما كان دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سحابةً فأمطرت حتى ارتوى الناس، فقلنا: يا ويحك، أبعد هذا شئ؟ فقال: سحابة مارة! وهو والله رجل لك به قرابة يا محمود بن لبيد! قال محمود: قد عرفته! قال: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهاً إلى تبوك، فأصبح في منزل، فضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم القصواء، فخرج أصحابه في طلبها. وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم عمارة بن حزم عقبى بدرى قتل يوم اليمامة شهيداً وكان في رحله زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع كان يهودياً فأسلم فنافق، وكان فيه خبث اليهود وعشهم، وكان مظاهراً لأهل النفاق، فقال زيد وهو في رحل عمارة، وعمارة عند النبي صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن منافقاً يقول إن محمداً يزعم أنه نبي، وأنه يخبركم بأمر السماء ولا يدري أين ناقته! وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا الشعب أشار لهم إليه حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها. فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: العجب من شئ حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنها عن مقالة قائلٍ أخبره الله عنه! قال كذ وكذا الذي قال زيد. قال: فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا! قال: فأقبل عمارة على زيد ابن اللصيت يجأه في عنقه ويقول: والله، إن في رحلى لداهية وما أدري! اخرج يا عدو الله من رحلى! وكان الذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عمرو بن حزم، وكان في الرحل مع رهط. من أصحابه. والذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحارث بن خزمة الأشهلي، وجدها وزمامها قد تعلق في شجرةٍ، فقال زيد بن اللصيت: لكأني لم أسلم إلا اليوم! قد كنت شاكاً في محمد، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرةٍ، وأشهد أنه رسول الله! فزعم الناس أنه تاب، وكان خارجة بن زيد بن ثابت ينكر توبته ويقول: لم يزل فشلا حتى مات.
فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي المشقق سمع حادياً في جوف الليل فقال: أسرعوا بنا نلحقه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ممن الحادي، منكم أو من غيركم؟ قالوا: بلى، من غيرنا. قال: فأدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جماعة، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من مضر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا من مضر. فانتسب حتى بلغ مضر. قال القوم: نحن أول من حدا بالإبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وكيف ذلك؟ قالوا: بلى، إن أهل الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فأغير على رجلٍ منهم ومعه غلام له، فندت إبله فأمر غلامه أن يجمعها، فقال: لا أستطيع! فضرب يده بعصاً، فجعل الغلام يقول: وايداه! وايداه! وتجتمع الإبل، فجعل سيده يقول، قل هكذا بالإبل! وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضحك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: ألا أبشركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! وهم يسيرون على رواحلهم، فقال: إن الله أعطاني الكنزين فارس والروم، وأمدني بالملوك ملوك حمير، يجاهدون في سبيل الله ويأكلون فئ الله.
وكان المغيرة بن شعبة يقول: كنا بين الحجر وتبوك فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، وكان ذا ذهب أبعد، وتبعته بماءٍ بعد الفجر، فأسفر الناس بصلاتهم وهي الصلاة الصبح حتى خافوا الشمس، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم. فحملت مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة فيا ماء، فلما فرغ صببت عليه فغسل وجهه. ثم أراد أن يغسل ذراعيه فضاق كم الجبة وعليه جبة رومية فأخرج يديه من تحت الجبة فغسلهما ومسح خفيه. وانتهينا إلى عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بالناس، فسبح الناس بعبد الرحمن بن عوف حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادوا أن يفتتنوا، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص وراءه، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اثبت، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن ركعة، فلما سلم عبد الرحمن تواثب الناس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الركعة الباقية، ثم سلم بعد فراغه منها، ثم قال: أحسنتم! إنه لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته.
وأتاه يومئذ يعلى بن منبه بأجيرٍ له، قد نازع رجلاً من العسكر، فعضه ذلك الرجل، فانتزع الأجير يده من في العاض فانتزع ثنيته، فلرمه المجروح فبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وقمت مع أجيري لأنظر ما يصنع، فأتيى بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يعمد أحدكم فيعض أخاه كما يعض الفحل، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب من ثنيته.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تنالوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتى. قال معاذ بن جبل: فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الزلال تبض بشئ من ماء، فسألهما: هل مسستما من مائها شيئاً؟ قالا: نعم. فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول. ثم غرفوا بأيديهم قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شن، ثم غسل النبي صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجاءت العين بماء كثيرٍ فاستقى الناس. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً! قالوا: وكان عبد الله ذو البجادين من مزينة، وكان يتيماً لا مال له، قد مات أبوه فلم يورثه شيئاً، وكان عمه ميلا، فأخذه وكفله حتى كان قد أيسر، فكانت له إبل وغنم ورقيق، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام، ولا يقدر عليه من عمه، حتى مضت السنون والمشاهد كلها. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة راجعاً إلى المدينة، فقال عبد الله لعمه: يا عم، قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمداً، فائذن لي في الإسلام! فقال: والله، لئن اتبعت محمدا لا أترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلا نزعنه منك حتى ثوبيك. فقال عبد العزي، وهو يومئذ اسمه: وأنا والله متبع محمداً ومسلم، وتارك عباده الحجر والوثن، وهذا ما بيدي فخذه! فأخذ كل ما أعطاه، حتى جرده من إزاره، فأتى أمه فقطعت بجاداً لها باثنين فائتزر بواحد وارتدى بالآخر، ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان جبل من حمى المدينة - فاضطجع في المسجد في السحر، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه فأنكره، فقال: من أنت؟ فانتسب له، فقال: أنت عبد الله ذو الجادين! ثم قال: انزل مني قريباً. فكان يكون في أضيافه ويعلمه القرآن، حتى قرأ قرآناً كثراً، والناس يتجهزون إلى تبوك. وكان رجلاً صيتاً، فكان يقوم في المسجد فيرفع صوته بالقراءة، فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع إلى هذا الأعرابي يرفع صوته بالقرآن حتى قد منع الناس القراءة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، يا عمر! فإنه خرج مهاجراً إلى الله ورسوله. قال: فلما خرجوا إلى تبوك قال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة. قال: أبلغني لحاء سمرة. فأبلغه لحاء سمرة، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عضده وقال: اللهم إني أحرم دمه على الكفار! ال: يا رسول الله، ليس أردت هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك إذا خرجت غازياً في سبيل الله فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، ووقصتك دابتك فأنت شهيد، لا تبال بأية كان: فلما نزلوا تبوكاً فأقاموا بها أياماً توفي عبد الله ذو البجادين. فكان بلال بن الحارث يقول: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع بلالٍ المؤذن شعلة من نارٍ عند القمر واقفاً بها، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أدنيا إلى أخاكما! فلما هيآه لشقه قال: اللهم إني قد أمسيت عنه راضياً فارض عنه. قال: فقال عبد الله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحد! وقالوا: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره وهو مردف سهيل ابن بيضاء خلفه، فقال سهيل: ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا سهيل! كل ذلك يقول سهيل: يالبيك! ثلاث مرات، حتى عرف الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدهم؛ فانثنى عليه من أمامه، ولحقه من خلفه من الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، حرمه الله على النار.
قالوا: وعارض الناس في مسيرهم حية، ذكر من عظمها وخلقها، وانصاع الناس عنها. فأقبلت حتى واقفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلاً، والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمةً؛ فأقبل الناس حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: فإن هذا أحد الرهط. الثمانية من الجن الذين يريدون أن يسمعوا القرآن، فرأى عليه من الحق - حين ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلده - أن يسلم عليه، وها هو ذا يقرئكم السلام. فسلموا عليه! فقال الناس جميعاً: وعليه السلام ورحمة الله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوا عباد الله من كانوا.
قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوكاً وأقام بها عشرين ليلة يصلى ركعتين، وهرقل يومئذٍ بحمص. وكان عقبة بن عامر يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، حتى إذا كنا منها على ليلةٍ استرقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، ألم أقل لك اكلأ لنا الليل؟ فقال بلال: ذهب بي النوم، ذهب بي الذي ذهب بك! قال: فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك المكان غير بعيد، ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم صلى الفجر، ثم هذب بقية يومه وليلته فأصبح بتبرك، فجمع الناس فحمد لله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس! أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم عليه السلام، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى الضلالة الضلالة بعد الهدي، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما اتبع، وشر العمى عمى القلب؛ واليد العليا خير من السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر الأمور المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة. ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً؛ ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكم مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنم، والسكر كن من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حباله الشيطان، والشباب شعبة من الجنون؛ وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل مال اليتيم. والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقى في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع؛ والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، والربا ربا الكذب. وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه. ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يتبع السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم.
وكان رجل من بني عذرة يقال له عدى يقول: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فرأيته على ناقةٍ حمراس يطوف على الناس يقول: أيها الناس، يد الله فوق يد المعطى، ويد المعطى الوسطى، ويد المعطى السفلى. أيها الناس، اقنعوا ولو بحزم الحطب! اللهم، هل بلغت؟ ثلاثاً. فقلت: يا رسول الله، كان لي امرأتان اقتتلتا فرميت فأصبت إحداهما فرمى في رميتي - يعني ماتت، كما تقول العرب: رمى في جنازته.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعقلها ولا ترثها.
وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع مسجده بتبوك، فنظر نحو اليمين ورفع يديه يشير إلى أهل اليمن فقالك الإيمان يمان! ونظر نحو المشرق وأشار بيده: إن الجفاء وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر من نحو المشرق حيث يطلع الشيطان قرينه.
وقال رجل من بني سعد بن هذيم: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بتبوك - في نفرٍ من أصحابه، هو سابعهم - فوقفت فسلمت، فقال: اجلس! فقلت: يا رسول الله، أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله! قال: أفلح وجهك! ثم قال: يا بلال، أطعمنا!
قال: فبسط بلال نطعاً، ثم جعل يخرج من حميتٍ له، فأخرج خرجات بيده من تمرٍ معجونٍ بالسمن والأقط، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا! فأكلنا حتى شبعنا فقلت: يا رسول الله، إن كنت لآكل هذا وحدي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ والمؤمن يأكل في معي واحد. قال: ثم جئته من الغد متحيناً لغدائه لأزداد في الإسلام يقيناً، فإذا عشرة نفرٍ حوله. قال: فقال هات أطعنا يا بلال. قال: فجعل يخرج من جراب تمرٍ بكلفه قبضة قبضة، فقال: أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتاراً! فجاء بالجراب فنثره. قال: فحزرته مدين. قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على التمر، ثم قال: كلوا باسم الله! فأكل القوم وأكلت معهم، وكنت صاحب تمر. قال: فأكلت حتى ما أجد له مسلكاً. قال: وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال، كأنا لم نأكل منه تمرةً واحدةً. قال: ثم عدت من الغد. قال: وعاد نفر حتى باتوا، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلاً أو رجلين، فقال: يا بلال، أطعمنا! فجاء بذلك الجراب بعينه أعرفه فنثره، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه فقال: كلوا باسم الله، فأكلنا حتى نهلنا، ثم رفع مثل الذي صب، ففعل مثل ذلك ثلاثة أيام.
قال: وكان هرقل قد بعث رجلاً من غسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى صفته وإلى علاماته، إلى حمرة في عينيه، وإلى خاتم النبوة بين كتفيه، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم انصرف إلى هرقل فذكر له ذلك، فدعا قومه إلى التصديقب به؛ فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف. وكان الذي خبر النبي صلى الله عليه وسلم - من بعثته أصحابه ودنوه إلى أدنى الشام - باطلاً، ولم يرد ذلك ولم يهم به. وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في التقدم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن كنت أمرت بالمسير فسر! قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أمرت به ما استشرتكم فيه! قال: يا رسول الله، فإن للروم جموعاً كثيرةً، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث اله عز وجل لك في ذلك أمراً.
قالوا: وهاجت ريح شديدة بتبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لموت منافقٍ عظيم النفاق. قال: فقدموا المدينة فوجدوا منافقاً قد مات عظيم النفاق.
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبنةٍ بتبوك فقالوا: يا رسول الله، إن هذا طعام تصنعه فارس، وإنا نخشى أن يكون فيه ميتة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا فيه السكين واذكروا اسم الله! قال: وأهدى رجل من قضاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرساً، فأعطاه رجلاً من الأنصار، وأمره أن يربطه حياله استئناساً بصهيله، فلم يزل كذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ففقد صهيل الفرس فسأل عنه صاحبه فقال: خصيته يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، اتخذوا من نسلها وباهوا بصهيلها المشركين، أعرافها أدفاؤها، وأذنابها مذابها. والذي نفسي بيده، إن الشهداء ليأتون يوم القيامة بأسيافهم على عواتقهم، لا يمرون بأحد من الأنبياء إلا تنحى عنهم، حتى أنهم ليمرون بإبراهيم الخليل خليل الرحمن فيتنحى لهم حتى يجلسوا على منابر من نور. يقول الناس: هؤلاء الذين أهريقوا دماءهم لرب العالمين، فيكون كذلك حتى يقضي الله عز وجل بين عباده!
قالوا: وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك قام إلى فرسه الظرب فعلق عليه شعاره وجعل يمسح ظهره بردائه. قيل: يا رسول اله تمسح ظهره برداءك؟ قال: نعم، وما يدريك؟ لعل جبريل أمرني بذلك، مع أني قد بت الليلة، وإن الملائكة لتعاتبني في حس الخيل ومسحها. وقال: أخبرني خليل جبريل أنه يكتب لي بكل حسنة أو فيتها إياه حينة، وإن ربي عز وجل يحط. عني بها سيئة. وما من امرئ من المسلمين يربط. فرساً في سبيل اله فيوفيه بعليفه يلتمس به قوته إلا كتب الله له بكل حبة حسنة، وحط عنه بكل حبة سيئة! قيل: يا رسول الله، وأي الخيل خير؟ قال: أدهم، أقرح، وأرثم محجل الثلث، مطلق اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الصفة. قال: وقيل: يا رسول الله، فما في الصوم في سبيل الله؟ قال: من صام يوماً في سبيل الله تباعدت منه جهنم مسيرة مائة سنة كأغذ السير. ولقد فضل نساء المجاهدين على القاعدين في الحرمة كأمهاتهم، وما من أحدٍ من القاعدين يخالف إلى امرأةٍ من نساء المجاهدين فيخونه في أهله إلا وقف يوم القيامة فيقال له: إن هذا خانك في أهلك فخذ من عمله ما شئت؛ فما ظنكم؟ وكان عبد الله بن عمر أو عمرو بن العاص يحدث قال: فزع الناس بتبوك ليلةً، فخرجت في سلاحي حتى جلست إلى سالم مولى أبي حذيفة وعليه سلاحه، فقلت: لأقتدين بهذا الرجل الصالح من أهل بدر! فجلست إلى جنبه قريباً من قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا مغضباً فقال: أيها الناس، ما هذه الخفة؟ ما هذا النزق؟ ألا صنعتم ما صنع هذان الرجلان الصالحان؟ يعنيني وسالماً مولى أبي حذيفة.
قالوا: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وضع حجراً قبلة مسجد تبوك بيده وما يلى الحجر، ثم صلى الظهر بالناس، ثم أقبل عليهم فقال: ما هاهنا شام، وما هاهنا يمن.
وكان عبد الله بن عمر يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فقام يصلي من الليل، وكان يكثر التهجد من الليل، ولا يقوم إلا استاك، وكان إذا قام يصلي صلى بفناء خيمته، فيقوم ناس من المسلمين فيحرسونه. فصلى ليلة من تلك الليالي، فلما فرغ أقبل على من كان عنده فقال: أعطيت خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: بعثت إلى الناس كافة، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك ولا يصلون إلا في كنائسهم والبيع، وأحلت لي الغنائم آ كلها، وكان من كان قبلي يحرمونها، والخامسة هي ما هي، هي ما هي، هي ما هي! ثلاثاً. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: سل، فكل نبي قد سأل، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله.
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك
قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا مالكم ذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم.. " الآية. قالوا: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهد من الناس، وحين طابت الثمار واشتهيت الظلال، فأبطأ الناس فكشفت منهم " براءة " ما كان مستوراً، وأبدت أضغانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " إلا تخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب.. الآية. قال: كان قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البوادي! فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " . " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول: نشاطاً وغير نشاط، ويقال: الخفاف: الشباب؛ والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوكم؛ وجاهدوا، يقول: قاتلوا؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " عشرين ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " يعني المنافقين " لو كان عرضاً قريباً " يقول: غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً لا تبعوك " يعني حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض؛ " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " أنهم أقوياء أصحاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل عذرهم ويأذن لهم. قال الله عز وجل: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب.
" لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر " وصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزة، العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله " يعني المنافقين. ثم ذكر المنافقين فقال: " لقد ابتغوا الفتنة من قبل " من قبل خروجك إلى تبوك وظهور أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين.
" ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " نزلت هذه في الجد بن قيس، وكان أكثر بني سلمة مالاً، وأعدهم عدة في الظهر، وكان رجلاً معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تعزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر. فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس أحد أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول الله عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا " لتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. " إن تصبك حسنة تسوهم " يقول: غنيمة وسلامة، الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل " . " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب. " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة. " قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم " كان رجال من المنافقين من ذي الطول يظهرون النفقة إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله تعإلى: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم " إلى قوله عز وجل: " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: يكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه على نفاق، وما أنفقوا فإنما هو رياء. " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم " وهم البكاؤون وهم سبعة؛ أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر المازني، وثعلبة بن غنمة الأسلمي، وعلبة بن زيد الحارثي، والعرباض بن سارية السلمى من بني سليم، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير العمري، " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " يعني مع النساء، الجد بن قيس. " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم. " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " من صلى القبلتين.
غزوة أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندلفي رجب سنة تسع، وهي على عشرة أميال من المدينة.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن أبن عباس رضي الله عنه، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، ومعاذ بن محمد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وإسماعيل ابن إبراهيم، عن موسى بن عقبة؛ وكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وعماده حديث ابن أبي حبيبة.
قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة وعشرين فارساً إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل - وكان أكيدر من كندة قد ملكهم وكان نصرانياً - فقال خالد: يا رسول الله، كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستجده يصيد البقر فتأخذه. قال: فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرةٍ صائفة، وهو على سطحٍ له ومعه امرأته الرباب بنت أنيف بن عامر من كندة، وصعد على ظهر الحصن من الحر، وقينته تغنيه، ثم دعا بشرابٍ فشرب. فأقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فأقبلت امرأته الرباب فأشرفت على الحصن فرأت البقر فقالت: ما رأيت كالليلة في اللحم! هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا! ثم قالت: من يترك هذا؟ قال: لا أحد! قال: يقول أكيدر: والله، ما رأيت جاءتنا ليلة بقر غير تلك الليلة، ولقد كنت أضمر لها الخيل إذا أردت أخذها شهراً أو أكثر، ثم أركب بالرجال وبالآلة.
فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيت، معه أخوه حسان ومملوكان، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم؛ فلما فصلوا من الحصن، فاستأسر أكيدر وامتنع حسان، فقاتل حتى قتل، وهرب المملوكان ومن كان معه من أهل بيته فدخلوا الحصن. وكان على حسان قباء ديباجٍ مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضمري حتى قدم عليهم فأخبرهم بأخذهم أكيدر.
قال أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله: رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يتلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد: إن ظفرت بأكيدر فلا تقتله وائت به إلى، فإن أبي فاقتلوه، فطاوعهم. فقال بجير بن بجرة من طيئ، ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد " إنك تجده يصيد البقر " وما صنع البقر تلك الليلة بباب الحصن تصديق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال شعراً:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
ومن يك عانداً عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
وقال خالد بن الوليد لأكيدر: هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تفتح لي دومة؟ قال: نعم، ذلك لك. فلما صالح خالد أكيدر، وأكيدر في وثاق، انطلق به خالد حتى أدناه من باب الحصن ونادى أكيدر أهله: افتحوا باب الحصن! فرأوا ذلك، فأبى عليهم مضاد أخو أكيدر لخالد: تعلم والله لا يفتحون لي ما رأوني وثاق، فخل عني فلك الله والأمانة أن أفتح لك الحصن إن أنت صالحتني على أهله. قال خالد: فإني أصالحك. فقال أكيدر: إن شئت حكمتك وإن شئت حكمني. قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت . فصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، على أن ينطلق به وأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهما حكمه. فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله ففتح الحصن، فدخله خالد وأوثق أخاه مضاداً أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح، ثم خرج قافلاً إلى المدينة، ومعه أكيدر ومضاد. فلما قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحه على الجزية وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً فيه أمانهم وما صالحهم، وختمه يومئذ بظفره.
قالوا: وأقبل واثلة بن الأسقع الليثي، وكان ينزل ناحية المدينة، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح انصرف فيتصفح وجوه أصحابه ينظر إليهم.
فلما دنا من واثلة أنكره فقال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: أبايع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أطقت؟ قال واثلة: نعم. فبايعه - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يتجهز إلى تبوك فخرج الرجل إلى أهله، فلقى أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها! قال واثلة: نعم. قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً. فأتى عمه، وهو مولى ظهره الشمس، فسلم عليه فقال: قد فعلتها! قال: نعم. ولا مه لائمة أيسر من لائمة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر، فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه فسلمت عليه بتحية الإسلام، فقال واثلة: أني لك هذا يا أخية؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك. وكان واثلة ذكر الإسلام ووصفه لعمه، فأعجب أخته الإسلام فأسلمت، فقال واثلة: لقد أراد الله بك أخية خيراً! جهزى أخاك جهاز غازٍ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر. فأعطته مدا من دقيق فعجن الدقيق في الدلو، وأعطته تمراً فأخذه. وأقبل إلى المدينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمل إلى تبوك، وبقي عيرات من الناس وهم على الشخوص وإنما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بيومين - فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي! قال: وكنت رجلاً لا رجلة لي، فدعاني كعب بن عجرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار، ويدك أسوة يدي ولي سهمك! قال واثلة: نعم. فقال واثلة بعد ذلك: جزاه الله خيراً! لقد كان يحملني عقبتي، ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر الكندي بدومة الجندل خرج كعب بن عجرة في جيش خالد بن الوليد، وخرجت معه فأصبنا فيها كثراً، فقسمه خالد بيننا، فأصابني ست قلائص، فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها! فخرج إلى وهو يتبسم ويقول: بارك الله لك فيها! ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئاً.
وكان أبو سعيد الخدري رحمه الله يحدث يقول: أسرنا أكيدر فأصابني من السلاح درع وبيضة ورمح، وأصابني عشر من الإبل.
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: أسرنا أكيدر وأخاه، فقدمنا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم وعزل يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم صفى خالص قبل أن يقسم شئ من الفئ، ثم خمس الغنائم فكان للنبي صلى الله عليه وسلم الخمس. وكان عبد الله بن عمرو المزني يقول: كنا أربعين رجلاً من مزينة مع خالد بن الوليد، وكانت سهماننا خمس فرائض، كل رجلٍ مع سلاح، يقسم علينا درع ورماح.
قال: حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: رأيت أكيدر حين قدم به خالد وعليه صليب من ذهب وعليه الديباج ظاهر.
قال الواقدي: حدثني شيخ من أهل دومة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد ابن الوليد سيف الله، في دومة الجندل وأكنافها. وإن لنا الضاحية من الضحل، والبور، والمعامي، وأغفال الأرض، والحلقة، والسلاح، والحافر، والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها. عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين.
قال: الضحل: الذي فيه الماء القليل؛ والبور: ما ليس فيه زرع؛ والمعامي: ما ليست له حدود معلومة؛ وأغفال الأرض: مياه؛ ولا تعد فاردتكم: يقول لا يعد ما يبلغ أربعين شاة؛ والحافر: الخيل؛ والمعين: الماء الظاهر؛ والضامنة من النخل: النبات من النخل التي قد نبتت عروقها في الأرض؛ ولا تحظر عليكم النبات: ولا تمنعوا أن تزرعوه.
قالوا: وأهدي له هدية فيها كسوة، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً آمنه فيه وفيه الصلح، وآمن أخاه ووضع عليه فيه الجزية، فلم يك في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتم فختمه بظفره.
وكانت دومة، وأيلة، وتيماء، قد خافوا النبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا العرب قد أسلمت. وقدم يحنة بن رؤبة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان ملك أيلة، وأشفقوا أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بعث إلى أكيدر. وأقبل معه أهل جرباء وأذرح، فأتوه فصالحهم فقطع عليهم الجزية، جزية معلومة، وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، لسفنهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. ومن أحدث حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر. هذا كتاب جهيم بن الصلت وشر حبيل بن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية على أهل أيلة؛ ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل.
قال: حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: رأيت يحنة بن رؤبة يوم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه صليب من ذهب، وهو معقود الناصية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كفر وأومأ برأسه، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ارفع رأسك! وصالحه يومئذ، وكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردا يمنة، وأمر له بمنزل عند بلال.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل جر باء وأذرح هذا الكتاب: من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح؛ أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة، والله كفيل عليهم.
قال الواقدي: نسخت كتاب أذرح وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة والتعزير إذا خشوا على المسلمين وهم آمنون، حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه.
قالوا: وكتب لأهل مقنا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم ربع غزولهم وربع ثمارهم.
وكان عبيد بن ياسر بن نمير أحد سعد الله، ورجل من جذام أحد بني وائل، قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بتبرك، فأسلما وأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ربع مقنا مما يخرج من البحر ومن الثمر من نخلها، وربع المغزل. وكان عبيد بن ياسر فارساً، وكان الجذامي راجلاً، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس عبيد بن ياسر مائة ضفيرة - والضفيرة: الحلة - فلم يزل يجري ذلك على بني سعد، وبني وائل إلى يوم الناس هذا.
ثم إن عبيد بن ياسر قدم مقنا وبها يهودية، وكانت اليهودية تقوم على فرسه، فأعطاها ستين ضفيرة من ضفاشر فرسه، فلم يزل يجري على اليهودية حتى نزعت آخر زمان بني أمية، فلم ترد إليها ولا إلى ولد عبيد. وكان عبيد قد أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فرساً عتيقاً يقال له مراوح، وقال: يا رسول الله ، سابق! فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل بتبوك فسبق الفرس، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فسأله المقداد بن عمرو الفرس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين سبحة؟ فرس للمقداد قد شهد عليها بدراً. قال: يا رسول الله عندي، وقد كبرت وأنا أضن بها للمواطن التي شهدت عليها؛ وقد خلفتها لبعد هذا السفر وشدة الحر عليها، فأردت أحمل هذا الفرس المعرق عليها فتأتيني بمهر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذاك إذا! فقبضه المقداد، فخبر منه صدقاً، ثم حمله على سبحة فنتجت له مهراً كان سابقاً يقال له الذيال، سبق في عهد عمر وعثمان، فابتاعه منه عثمان بثلاثين ألفاً.
قالوا: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك يريد حاجته، فرأى ناساً مجتمعين فقال: ما لهم؟ قيل: يا رسول اله بعير لرافع بن مكيث الجهني، نحره فأخذ منه حاجته، فخلى بين الناس وبينه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه نهبة لا تحل! قيل: يا رسول الله، إن صاحبه أذن في أخذه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن أذن في أخذه!
قالوا: وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: ظل خباء في سبيل الله، أو خدمة خادمٍ في سبيل الله، أو طروقة فحلٍ في سبيل الله.
وكان جابر بن عبد الله يحدث يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك فقال: اقطعوا قلائد الإبل من الإبل. قيل: يا رسول الله ، فالخيل؟ قال: لا تقلدوها بالأوتار.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على حرسه بتبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عباد بن بشر، فكان عباد بن بشر يطوف على أصحابه في العسكر، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا رسول الله، ما زلنا نسمع صوت تكبيرٍ من ورائنا حتى أصبحنا، فوليت أحدنا يطوف على الحرس؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلتن ولكن عسى أن يكون بعض المسلمين على خيلنا انتدب. فقال سلكان ابن سلامة: يا رسول الله، خرجت في عشرةٍ من المسلمين على خيلنا فكنا نحرس الحرس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله حرس الحرس في سبيل الله! قال: فلكم قيراط من الأجر على كل من حرستم من الناس جميعاً أو دابة.
قالوا: وقدم نفر من بني سعد هذيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا قدمنا عليك وتركنا أهلنا على بئر لنا، قليل ماؤها، وهذا القيظ، ونحن نخاف إن تفرقنا أن نقتطع؛ لأن الإسلام لم يفش حولنا بعد، فادع الله لنا في ماء بئرنا، وإن روينا به فر قوم أعز منا، لا يعبر بنا أحد مخالف لديننا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلغوني حصيات! فتناولت ثلاث حصيات فدفعتهن إليه، ففركهن بيده ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيات إلى بئركم فاطرحوها واحدةً واحدةً وسموا الله. فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك فجاشت بئرهم بالرواء، ونفوا من قاربهم من المشركين ووطئوهم، فما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى أوطأوا من حولهم عليه ودانوا بالإسلام.
قالوا: وكان زيد بن ثابت يحدث يقول: عزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فكنا نشتري ونبيع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرانا ولا ينهانا.
قال: وكان رافع بن خديج يحدث يقول: أقمنا بتبوك المقام فأرملنا من الزاد وقرمنا إلى اللحم ونحن لا نجده، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن اللحم ها هنا، وقد سألت أهل البلد عن الصيد فذكروا لي صيداً قريباً - فأشاروا إلى ناحية المغرب - فأذهب فأصيد في نفرٍ من أصحابي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذهبت فاذهب في عدةٍ من أصحابك، وكونوا على خيلٍ ، فإنكم تتفرقون من العسكر.
قال: فانطلقت في عشرةٍ من الأنصار فيهم أبو قتادة - وكان صاحب طردٍ بالرمح وكنت رامياً - فطلبنا الصيد فأدركنا صيداً، فقتل أبو قتادة خمسة أحمرة بالرمح على فرسه، ورميت قريباً من عشرين ظبياً، وأخذ أصحابنا الظبيين والثلاثة والأربعة، وأخذنا نعامة طردناها على خيلنا. ثم رجعنا إلى العسكر، فجئناهم عشاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنا: ما جاءوا بعد؟ فجئنا إليه فألقينا ذلك الصيد بين يديه فقال: فرقوه في أصحابكم! قلت: يا رسول الله، أنت مر به رجلاً! قال: فأمر رافع بن خديج. قال: فجعلت أعطي القبيلة بأسرها الحمار والظبي، وأفرق ذلك حتى كان الذي صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظبي واحد مذبوح، فأمر به فطبخ، فلما نضج دعا به - وعنده أضياف - فأكلوا. ونهانا بعد أن نعود وقال: لا آمن. أو قال: أخاف عليكم.
حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فرأيتنا ليلة ونحن بتبوك وذهبنا لحاجةٍ، فرجعنا إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تعشى ومن عنده من أضيافه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل في قبته ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية، فلما طلعت عليه قال: أين كنت منذ الليلة؟ فأخبرته، فطلع جعال بن سراقة، وعبد الله بن مغفل المزني - فكنا ثلاثة، كنا جائع، إنما نعيش بباب النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فطلب شيئاً نأكله فلم يجده، فخرج إلينا فنادى بلالاً: يا بلال، هل من عشاء لهؤلاء النفر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لقد نفضنا جربنا وحمتنا. قال: انظر، عسى أن تجد شيئاً فأخذ الجرب ينفضها جراباً جراباً، فتقع التمرة والتمرتان، حتى رأيت بين يديه سبع تمرات، ثم دعا بصحفةٍ فوضع فيها التمر، ثم وضع يده على التمرات وسمى الله وقال: كلوا بسم الله! فأكلنا فأحصيت أربعة وخمسين تمرة أكلتها، أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع، وشبعنا وأكل كل واحدٍ منا خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي، فقال: يا بلال، ارفعها في جرابك، فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعاً. قال: فبينا نحن حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يتهجد من الليل، فقام تلك الليلة يصلي، فلما طلع الفجر ركع ركعتي الفجر، وأذن بلال وأقام فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم انصرف إلى فناء قبته، فجلس وجلسنا حوله فقرأ من " المؤمنين " عشراً، فقال: هل لكم في الغداء؟ قال عرباض: فجعلت أقول في نفسي: أي غداء؟ فدعا بلال بالتمر، فوضع يده عليه في الصفحة ثم قال: كلوا بسم الله! فأكلنا - والذي بعثه بالحق - حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعوا أيديهم منها شبعاً وإذا التمرات كما هي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أني أستحيي من ربي لأكلنا من هذا التمر حتى نرد المدينة عن آخرنا. وطلع غليم من أهل البلد، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم التمرات بيده فدفعها إليه؛ فولى الغلام يلوكهن. فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير من تبوك أرمل الناس إرمالاً شديداً، فشخص على ذلك الحال حتى جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم فيأكلوها، فأذن لهم؛ فلقيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهم على نحرها، فأمرهم أن يمسكوا عن محرها، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمةٍ له فقال: أذنت للناس في نحر حمولتهم يأكلونها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شكوا إلى ما بلغ منهم الجوع فأذنت لهم، ينحر الرفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون فيما فضل من ظهرهم، وهم قافلون الى أهليهم. فقال: يا رسول الله، لا تفعل؟ فإن يكن للناس فضل من ظهرهم يكن خيراً، فالظهر اليوم رقاق، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلت في منصرفنا من الحديبية حيث أرملنا، فإن الله عز وجل يستجيب لك؟! فنادى منادي رسول الله: منكان عنده فضل من زاد فليأت به؟! وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق والتمر، والقبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر. فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق حزراً. ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا الله عز وجل أن .
يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدثون جميعاً حديثاً واحداً، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو زرعة الجهني معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى منادية: هلموا الى الطعام، خذوا منه حاجتكم! وأقبل الناس، فجعل كل من جاء بوعاء ملأه. فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرةً من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت إحداهما سويقاً والآخر خبزاً، وأخذت في ثوبي دقيقاً، ما كفانا الى المدينة. فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم، حتى كان آخر ذلك أن أخذت الأنطاع ونثر ما عليها.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وفاه الله حر النار.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة - وكان فيه وشل يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين أو الثلاثة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا الى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتي! فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق الماء. قال معاذ ابن جبل: والذي نفسي بيده، لقد سمعت له شدةً في انحرافه مثل الصواعق! فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه! قال: واستقى الناس وشربوا. قال سلمة بن سلامة ابن وقش: قلت لوديعة بن ثابت: ويلك، أبعد ما ترى شئ؟ أما تعتبر؟ قال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا! ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبيد الله بن عبد العزيز، أخو عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة المازني، عن خلاد ابن سويد، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسير في الجيش ليلاً، وهو قافل وأنا معه، إذ خفق خفقةً وهو على راحلته، فعال على شقه، فدنوت منه فدعمته فانتبه، فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط. فدعمتك. فقال: حفظك الله كما حفظت رسول الله! ثم سار غير كثير، ثم فعل مثلها، فدعمته فانتبه فقال: يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول الله! فقال: انظر من خلفك! فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم! فقلت: أجيبوا رسول الله! فجاءوا فعرسنا ونحن خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها؛ فنمنا فما انتبهنا إلا بحر الشمس، فقلنا: إنا لله! فاتنا الصبح! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لنغيظن الشيطان كما أغاظنا. فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة فقال: يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والركوة فإن لها شأناً، ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر لرشدوا. وذلك أن أبا بكر وعمر أراد أن ينزلا بالجيش على الماء، فأبوا ذلك عليهما، فنزلوا على غير ماء بفلاةٍ من الأرض. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل عطشأ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه. وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى ترووا، وأرووا خيلهم وركابهم، فإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير ويقال: خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف. وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: احتفظ بالركوة والإداوة!
وكان في تبوك أربعة أشياء: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير منحدراً الى المدينة وهو في قيظ شديد عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشاً شديداً حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل أسيد بن حضير، في يومٍ صائفٍ وهو متلثم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عسى أن تجد لنا ماء. فخرج وهو فيما بين الحجر وتبوك فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء مع امرأةٍ من بلى، وكلمها أسيد فخبرها بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا الماء، فانطلق به الى رسول الله! وقد وضعت لهم الماء وبينهم وبين الطريق هنية، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: هلموا أسقيتكم! فلم يبق معهم سقاء إلا ملأوه، ثم دعا بر كابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت. ويقال: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به أسيد وصبه في قعبٍ عظيمٍ من عساس أهل البادية، فإدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى ركعتين، ثم رفع مدا، ثم انصرف وإن القعب ليفور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: زودوا! فاتسع الماء، وانبسط. الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان، فأرووا، وإن القعب ليجيش بالرواء، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرداً متروياً من الماء.
قال: وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي سهل، عن عكرمة، قال: خرجت الخيل في كل وجهٍ يطلبون الماء، وكان أول من طلع به وبخبره صاحب فرسٍ أشقر، ثم الثاني أشقر، ثم الثالث أشقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، بارك في الشقر! قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة وسعد بن راشد، عن صالح بن كيسان، عن أبي مرة مولى عقيل، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الخيل الشقر.
قالوا: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبةً في الطريق. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع! فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة رواحلهم بمحجن في يده. وظن القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساق به. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة نزل الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حذيفة، هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول الله، عرفت راحلة فلان وفلان، وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمه الليل.
وكانوا قد أنفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فسقط. بعض متاع رحله، فكان حمزة بن عمرو الأسلمي يقول: فنور لي في أصابعي الخمس فأضئن حتى كنا نجمع ما سقط. من السوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شئ إلا جمعناه. وكان لحق النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة.
فلما أصبح قال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله، ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل من العقبة؟ قال: يا أبا يحيى، أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما اهتموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني من راحلتي. فقال أسيد: يا رسول الله، فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطنٍ أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت، والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم، فلا تبرح حتى آتيكم برؤسهم، وإن كانوا في النبيت فكفيتكهم، وأمرت سيد الخزرج فكفال من في ناحيته، فإن مثل هؤلاء يتركون يا رسول الله؟ حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذله، وضرب الإسلام بجرابه! فما يستبقي من هؤلاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسيد: إني أكره أن يقول الناس إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال: يا رسول الله، فهولاء ليسوا بأصحاب! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلىن ولا شهادة لهم! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك.
قال: حدثني يعقوب بن محمد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلاً، قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة وعمار رحمهما الله.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن ابن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: تنازع عمار بن ياسر ورجل من المسلمين في شئ فاستبا، فلما كاد الرجل يعلو عماراً في السباب قال عمار: كم كان أصحاب العقبة؟ قال: الله أعلم. قال: أخبرني عن علمكم بهم! فسكت الرجل، فقال من حضر: بين لصاحبك ما سألك عنه! وإنما يريد عمار شيئاً قد خفي عليهم، فكره الرجل أن يحدثه، وأقبل القوم على الرجل فقال الرجل: كنا نتحدث أنهم كانوا أربعة عشر رجلاً.
قال عمار: فإنك إن كنت منهم فهم خمسة عشر رجلاً! فقال الرجل: مهلاً، أذكرك الله أن تفضحني! فقال عمار: والله ما سميت أحداً، ولكني أشهد أن الخمسة عشر رجلاً، اثنا عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا؛ ويوم يقوم الأشهاد، " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، فأوحى إليه وراحلته باركة، فقامت راحلته تجر زمامها حتى لقيها حذيفة بن اليمان فأخذ بزمامها فاقتادها حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فأناخها ثم جلس عندها حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فقال: من هذا؟ قال: أنا حذيفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني مسر إليك أمراً فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلى على فلان، وفلان رهط عدة من المنافقين ولا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم لأحدٍ غير حذيفة. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذا مات رجل ممن يظن أنه من أولئك الرهط. أخذ بيد حذيفة فقاده الى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلى عيه عمر، وإن انتزع يده وأبي أن يمشي انصرف معه.
قال: حدثني ابن أبي سبرةن عن سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير، قال: لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً إلا حذيفة، وخم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي. وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا.
قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، وقد كان جاءه أصحاب مسجد الضرار، جاءوا خمسة نفر منهم: معتب بن قشير، وثعلبة ابن حاطب، وخذام بن خالد، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبد الله بن نبتل ابن الحارث. فقالوا: يا رسول الله، إنا رسل من خلفنا من أصحابنا، إنا قد بنينا مسجداً لذي القلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، ونحن نحب أن تأتينا فتصلى بنا فيه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز الى تبوك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا بكم فيه. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوانٍ راجعاً من تبوك أناه خبره وخبر أهله من السماء، وكانوا إنما بنوه؛ قالوا بينهم: يأتينا أبو عامرٍ فيتحدث عندنا فيه، فإنه يقول: لا أستطيع آتي مسجد بني عمرو بن عوف، إنما أصحاب رسول الله يلحقوننا بأبصارهم. يقول الله تعالى: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي العجلاني، ومالك بن الدخشم السالمي، فقال: انطلقا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم حرقاه! فخرجا سريعين على أقدامهما حتى أتيا مسجد بني سالم، فقال مالك بن الدخشم لعاصم بن عدي: أنظرني حين أخرج إليك بنارٍ من أهلي. فدخل الى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه النار. ثم خرجا سريعين يعدوان حتى انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه، وإمامهم يومئذ مجمع بن جارية، فقال عاصم: ما أنسى تشرفهم إلينا كأن آذانهم آذان السرحان. فأحرقناه حتى احترق، وكان الذي ثبت فيه من بينهم زيد بن جارية بن عامر حتى احترقت أليته، فهدمناه حتى وضعناه بالأرض. وتفرقوا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عرض على عاصم بن عدي السمجد يتخذه داراً وكان من دار وديعة بن ثابت ودار أبي عامر الى جنبهما فاحرقوهما معه فقال: ما كنت لأتخذ مسجداً قد نزل فيه ما نزل داراً؛ وإن بي عنه لغني يا رسول الله! ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له. فأعطاه ثابتاً. وكان أبو لبابة بن عبد المنذر قد أعانهم فيه بخشب، وكان غير مفموص عليه في النفاق، ولكنه قد كان يفعل أموراً تكره له. فلما هدم المسجد أخذ أبو لبابة خشبة ذلك فبني به منزلاً، وكان بيته الذي بناه الىجنبه. قال: فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، ولم يقف فيه حمام قط، ولم تحضن فيه دجاجة قط. وكان الذين بنوا مسجد الضرار خمسة عشر رجلاً: جارية بن عامر بن العطاف وهو حمار الدار وابنه مجمع بن جارية وهو إمامهم، وابنه زيد بن جارية وهو الذي احترقت أليته فأبى أن يخرج وابنه يزيد بن جارية، ووديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج، وعبد الله بن نبتل، وبجاد بن عثمان، وأبو حبيبة بن الأزعر، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، وثعلبة بن حاطب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زمام خير من خذام، وسوط خير من بجاد! وكان عبد الله بن نبتل وهو المخبر بخبره يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثه ثم يأتي به المنافقين، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، إن رجلاً من المنافقين يأتيك فيسمع حديثك، ثم يذهب به الى المنافقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهم هو؟ قال: الرجل الأسود ذو الشعر الكثير، الأحمر العينين كأنهما قدران من صفر، كبده كبد حمارٍ فينظر بعين شيطان.
وكان عاصم بن عدي يخبر يقول: كنا نتجهز الى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل، وثعلبة بن حاطب قائمين على مسجد الضرار، وهما يصلحان ميزاباً قد فرغا منه، فقالا: يا عاصم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدنا أن يصلى فيه إذا رجع. فقلت في نفسي: والله، ما نبى هذا المسجد إلا منافق معروف بالنفاق، أسسه أبو حبيبة بن الأزعر، وأخرج من دار خذام بن خالد، ووديعة بن ثابت في هؤلاء النفر والمسجد الذي بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوسسه جبريل عليه السلام يؤم به البيت فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه، وذم أهله الذين جمعوا في بنائه وأعانوا فيه: " الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً " الى قوله " يحب المطهرين " . قالوا: كانوا يستنجون بالماء. " لمسجد أسس على التقوى " ؛ قال: يعني مسجد بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: عني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل منهم عويم بن ساعدة! وقيل لعاصم بن عدي: ولم أرادوا بناءه؟ قال: كانوا يجتمعون في مسجدنا، فإنما هم يتناجون فيما بينهم ويلتفت بعضهم الى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشق ذلك عليهم وأرادوا مسجداً يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على مثل رأيهم. فكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا! وذاك أن أصحاب محمد يلحظونني وينالون مني ما أكره. قالوا: نحن نبني مسجداً تتحدث فيه عندنا.
قالوا: قال كعب بن مالك: لما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأىٍ من أهلي، حتى ربما ذكرته للخادم رجاء أن يأتيني شئ أستريح إليه، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم، ويكل سرائرهم الى الله تعالى.
ويقال من غير حديث كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا تكلموا أحداً منهم تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم. فلم يكلموهم، فلما قدم المدينة جاءه المعذون يحلفون له، وأعرض عنهم، وأعرض المؤمنون عنهم حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه. فجعلوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويعتذرون إليه بالحمى والأسقام، فيرحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا فصدقهم واستغفر لهم، ويكل سرائرهم الى الله عز وجل.
قالوا: وقال كعب بن مالك: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فسلمت عليه، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كاذباً لترضى عني ليوشكن الله عز وجل أن يسخط. على، ولئن حدثتك اليوم حديثاً صادقاً تجد على فيه، إني لأرجو عقبي الله فيه. ولا والله ما كان لي عذر؛ والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد صدقت، فقم حتى يقض الله عز وجل فيك! فقمت وقام معي رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا! وقد عجزت ألا تكون اعتذرت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون؛ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فو الله ما زالوا بي ينوبونني حتى أردت أن أرجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. فلقيت معاذ بن جبل وأبا قتادة فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً إن شاء الله! فأما هؤلاء المعذرون، فإن يكونوا صادقين فسيرضى الله ذلك ويعلمه نبيه، وإن كانوا على غير ذلك يذمهم أقبح الذم ويكذب حديثهم. فقلت لهم: هل لقى هذا غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة وقدوة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي، والأرض فما هي الأرض التي كنت أعرف؛ فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا فقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، وكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، حى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا، ثم أصلى قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فنشدته الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، فوثبت فتسورت الجدار، ثم غدوت الى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق فإذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالسوق، يسأل عني يقول: من يدلني على كعب ابن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له، فدفع الى كتاباً من الحارث بن أبي شمر ملك غسان أو قال من جبلة بن الأيهم في سرقةٍ من حرير؛ فإذا في كتابه: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك. قال كعب: فقلت حين قرأته: وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع في رجال من أهل الشرك. فذهبت بها الى تنور فسجرته بها، وأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتين فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها فلا تقربها. وكان الرسول إلي، وإلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، خزيمة بن ثابت. قال كعب: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ماهو قاض. وأما هلال بن أمية فكان رجلاً صالحاً، فبكى حتى إن كان يرى أنه هالك من البكاء، وامتنع من الطعام، فإن كان يواصل اليومين ولثلاثة من الصوم ما يذوق طعاماً، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو من اللبن، ويصلى الليل ويجلس في بيته لا يخرج؛ لأن أحداً لا يكلمه، حتى إن كان الولدان ليهجرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أن أخدمه فعلت. قال: نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك. فقالت: يا رسول الله
ما به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان الى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.ا به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان الى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.
فكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل: يا أم سلمة، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه. فقلت: يا رسول الله، ألا أرسلت إليهم فأبشرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعونك النوم آخر الليل، ولكن لا يرون حتى يصبحوا. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أخبر الناس بما تاب الله على هؤلاء النفر: كعب بن مالك، ومراراة بن الربيع، وهلال بن أمية. فخرج أبو بكر رضي الله عنه فوافى على سلع فصاح: قد تاب الله على كعب! يبشره بذلك. وخرج الزبير على فرسه في بطن الوادي، فسمع صوت أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يأتي الزبير. وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الى هلال يبشره ببني واقف، فلما أخبره سجد. قال سعيد: فظننت أنه لا يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، وكان بالسرور أكثر بكاءً منه بالحزن حتى خيف عليه؛ ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناله من الضعف والحزن والبكاء، حتى ركب حماراً. وكان الذي بشر مرارة بن الربيع سلكان بن سلامة أبو نائلة، وسلمة بن سلامة بن وقش، ووافيا الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، ثم انطلقا الى مرار فأخبراه، فأقبل مرارة حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.
قال كعب: وكان الصوت الذي سمعت على سلع أسرع من الفارس الذي يركض في الوادي وهو الزبير بن العوام والذي صاح على سلع، يقول كعب: كان رجلاً من أسلم يقال له حمزة بن عمرو، وهو الذي يشرني. قال: فلما سمعت صوته نزعت ثوبي فكسوتهما إياه لبشارته؛ والله ما أملك يومئذ غيرهما! ثم استعرت ثوبين من أبي قتادة فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام غالى طلحة بن أبي طلحة فحياني وهنأني، ما قام الى من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي، ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك! ويقال: قال له: تعال الى خير يومٍ ما طلع عليك شرقه قط. قال كعب: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أو من عند الله؟ فقال: من عند الله عز وجل! قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر يستنير حتى كأن وجهه فلقة القمر، وكان يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه، قلت : يا رسول الله، إن من توبتي الى الله وإلي رسوله أن أنخلع من مالي الى الله ورسوله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، هو خير لك!قال قلت: إني ممسك بسهمي الذي بخيبر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ! قلت: النصف! قال: لا! قلت: فالثلث! قال: نعم! قال: إني يا رسول الله أحبس سهمي الذي بخيبر. قال كعب: قلت: يا رسول الله إن الله عز وجل أنجاني بالصدق، فإن توبتي الى الله ألا أحدث إلا صدقاً ما حييت. قال كعب: والله، ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم الى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي. وقال كعب: قال الواقدي: أنشدنيه أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب: سبحان ربي إن لم يعف عن زللي فقد خسرت وتب القول والعمل قال: وأنزل الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " الى قوله: " وكونوا مع الصادقين " . قال كعب: فو الله ما أنعم الله على من نعمه قط. إذ هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أكون كذبته يومئذ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه. قال الله في الذين كذبوه حين أنزل عليه الوحي شر ما قال: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم " الى قوله " الفاسقين " . قال كعب: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضي الله فيه ما قضي. فبذلك قال الله عز وجل: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " . قال: ليس عن الغزوة، ولكن بتخليفه إيانا، وإرجائه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.
قال كعب حين بنى الخيمة على سلع، فيما حدثني أيوب من النعمان ابن عبد الله بن كعب بن أبي القين:
أبعد دور بني القين الكرام وما ... شادوا على تبتيت البيت من سعف
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في رمضان سنة تسع، فقال: الحمد لله على ما رزقنا في سفرنا هذا من أجرٍ وحسنةٍ ومن بعدنا شركاؤنا فيه. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً سرنا من مسيرٍ ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أوليس الله تعالى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القرى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال!
قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً ما سرنا من مسير ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أو ليس الله تعالى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القوى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال! قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليالٍ بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، ليس بحين عتاب! هو الموت، فإن مت فاحضر غسلي وأعطني قميصك أكفن فيه. فإعطاه الأعلى وكان عليه قميصان فقال: الذي يلي جلدك. فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه، ثم قال: صل علي واستغفر لي! قال: وكان جابر بن عبد الله يقول خلاف هذا، يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت ابن أبي إلى قبره، فأمر به فأخرج، فكشف من وجهه ونفث عليه من ريقه؛ وأسنده الى ركبتيه وألبسه قميصه وكان عليه قميصان وألبسه الذي يلي جلده. والأول أثبت عندنا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غسله وحضر كفنه، ثم حمل الى موضع الجنائز فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام وثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا ويوم كذا كذا؟ فعد عليه قوله. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه عمر قال: إني قد خيرت فاخترت، ولو أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له زدت عليها، وهو قوله عز وجل: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " . فيقال إنه قال: سأزيد على السبعين. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يكن إلا يسيراً حتى نزلت هذه الآيات من براءة: " ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره " . ويقال إنه لم تزل قدماه بعد دفنه حتى نزلت عليه هذه الآية، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية المنافقين، فكان من مات لم يصل عليه.
وكان مجمع بن جارية يحدث يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازةٍ قط. ما أطال عليها من الوقت، ثم خرجوا حتى انتهوا الى قبره، وقد حمل على سرير يحمل عليه موتاهم عند آل نبيط. وكان أنس بن مالك يحدث يقول: رأيت ابن أبي على السرير وإن رجليه لخارجتان من السرير من طوله.
وكانت أم عمارة تحدث قالت: شهدنا مأتم ابن أبي، فلم تتخلف امرأة من الأوس والخزرج إلا أتت ابنته جميلة بنت عبد الله بن أبين وهي تقول: واجبلاه! ما ينهاها أحد ولا يعيب عليها واجبلاه! واركناه! قالوا: ولقد انتهى به الى قبره.
فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد جهدنا أن ندنو من سريره فما نقدر عليه، قد غلب عليه هؤلاء المنافقون وكانوا قد أظهروا الإسلام، وهم على النفاق، من بني قينقاع وغيرهم: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وسلامة بن الحمام، ونعمان بن أبي عامر، ورافع بن حرملة، ومالك بن أبي نوفل، وداعس، وسويد. وكانوا أخابث المنافقين، وكانوا هم الذين يعرضونه. وكان ابنه عبد الله ليس شئ أثقل عليه ولا أعظم من رؤيتهم، وكان به بطن، فكان ابنه يغلق دونهم الباب، فكان ابن أبي يقول: لا يلبني غيرهم. ويقول: أنت والله أحب إلي من الماء على الظمأ. ويقولون: ليت أنا نفديك بالأنفس، والأولاد، والأموال! فلما وقفوا على حفرته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف يلحظهم، ازدحموا على النزول في حفرته وارتفعت الأصوات حتى أصيب أنف داعس، وجعل عبادة بن الصامت يذبهم ويقول: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله! حتى أصيب أنف داعس فسال الدم، وكان يريد أن ينزل في حفرته، فنحى ونزل رجال من قومه، أهل فضلٍ وإسلام؛ وكان لما رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وحضوره، ومن القيام عليه. فنزل في حفرته ابنه عبد الله، وسعد بن عبادة بن الصامت، وأوس بن خولي حتى سوى عليه، وإن علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأكابر من الأوس والخزرج يدلونه في اللحد، وهم قيام مع النبي صلى الله عليه وسلم. وزعم مجمع بن جارية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه بيديه إليهم، ثم قام على القبر حتى دفن، وعزى ابنه وانصرف. فكان عمرو بن أمية يقول: مالقي عليه أصحابه هؤلاء المنافقون، إنهم هم الذين كانوا يحثون في القبر التراب ويقولون: ياليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك! وهم يحثوب التراب على رؤوسهم. فكان الذي يحسن أمره يقول: قوم أهل فقر، وكان يحسن إليهم!
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك
" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الأرض " الى آخر الآية. قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهدٍ من الناس، وحين طابت الثمار واشتهبت الظلال، فأبطأ الناس، وكشفت " برآءة " عنهم ما كان مستوراً، وأبدت أضفانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " يقول: في الآخرة؛ " ويستبدل قوماً غيركم ولاتضروه شيئاً " قيل: يا رسول الله، من هؤلاء القوم؟ " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله. " الآية. قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا الى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البدو. فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة " الآية. ونزل فيهم: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة " الآية " إلا تنصروه فقد نصره الله " يعني من نافق من الأوس والخزرج؛ " إذ أخرجه الذين كفروا " يعني مشركي قريش؛ " ثاني اثنين " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه؛ " إذ هما في الغار " حيث كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه " يقول الطمأنينة، " وأيده بجنود لم تروها " يعني الملائكة؛ " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا " يقول: جعل ما جاءت به قريش من آلهتهم باطلاً، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الظاهر العالي. " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول نشاطأ وغير نشاط، ويقال الخفاف: الشباب، والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوتكم، وجاهدوا في سبيل الله: قاتلوا. " لو كان عرضا قريباً " يعني غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً " يعني سفراً قريباً، " لا تبعوك " يعني المنافقين؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " سفر تبوك عشرون ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " بعين المنافقين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " يعني إنهم مقوون أصحاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم ويقبل عذرهم. قال: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب؛ " الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " فتعلم من له قوة ممن لا قوة له، استأذنك رجال لهم قوة. " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين " ووصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزوة العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " يعني المنافقين في شكهم. " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم " يقول: كانوا أقوياء بأبدانهم وأموالهم ولكن كره الله خروجهم فخذلهم؛ " وقيل اقعدوا مع القاعدين " يعني مع النساء. " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً " يعني ابن أبي، وعبد الله بن نبتل، والجد بن قيس، وكل هؤلاء استأذن ورجع، فيقول: لو كانوا فيكم " ما زادوكم إلا خبالاً " إلا شراً؛ " ولأوضعوا خلالكم " يقول: يدخل المنافق بين الراحلتين فيرفض بهما؛ " يبغونكم الفتنة " هؤلاء النفر، يقول: لأظهروا النفاق ولقالوه. " وفيكم سماعون لهم " يقول: من المنافقين ومن دونهم من يأتيهم بالأخبار وهؤلاء من رؤساهم؛ " والله عليم بالظالمين " . ثم ذكر المنافقين " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " يقول: من قبل خروجك وتشاوروا في كل ما يلبس عليك وعلى أصحابك " حتى جاء الحق " يعني ظهر الحق، " وظهر أمر الله " يعني أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين. " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا " نزلت هذه الآية في الجد بن قيس، وكان من أكثر بني سلمة مالاً وأعد عدةً في الظهر؛ وكان معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تغزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر! فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس رجل أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا "
يتخلفه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.ه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.
" قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين " كان رجال من المنافقين من ذوي الطول يظهرون النفقة، إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى " يقول رياء: " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " يريدون أن يظهر أنهم ينفقون. " فلا تعجبك أموالهم " أي ما أعطيناهم؛ " ولا أولادهم " الذين أعطيناهم إياهم؛ " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: تكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه نفاقاً، وما أنفقوا، فإنما هو رياء. يقول: " وتزهق أنفسهم وهم كافرون " أن يلقوا ربهم على نفاقهم. " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون " أي رؤساءهم وأهل الطول منهم مثل ابن أبي، والجد بن قيس وذويه، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون أنهم معه، وإذا خرجوا نقضوا، يقول: يفرقون من أن يقتلوا لقلتهم في المسلمين " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولا إليه وهم يجمحون " يقول: لو وجدوا جماعة أو يقدرون على هربٍ من دارهم الى قومٍ يعزون فيهم، لذهبوا إليهم سراعاً. " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطو منها رضو وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون " نزلت في ثعلبة بن حاطب، كان يقول: إنما يعطى محمد الصدقات من يشاء! يتكلم بالنفاق. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه فرضى، ثم جاءه قلم يعطه فسخط. يقول الله عز وجل: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله " يقول: لم يسخطوا إذا رده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أعطاه قليلاً بقدر ما يجد؛ " وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا الى الله راغبون " يقول: حسب نبيه.
وقال: إن الله سيرزقنا، وإذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أعطانا.
قال الله عز وجل: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله " . ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً سأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يكلها الى ملك مقربٍ ولا نبي مرسلٍ حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت من جزء منها أعطيتك، وإن كنت غنياً فصداع في الرأس وأذى في البطن، والفقراء فقراء المهاجرين الذين كانوا يسألون الناس والمساكين الذين كانوا في الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. " والعاملين عليها " يعطون قدر عمالتهم ونفقتهم في سفرهم؛ " والمؤلفة قلوبهم " ليس في الناس اليوم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أقواماً، يتألفهم على الإسلام، " وفي الرقاب " يعني المكاتبين؛ " والغارمين " يعني الذين عليهم الدين، يقضي عن الرجل دينه؛ " وفي سبيل الله " يعني المجاهدين؛ " وانب السبيل " الرجل المنقطع به في غير بلده فيعان ويحمل وإن كان في أهله موسراً. وهذه الصدقات ينظر فيها، فإن كان أهل الحاجة والفاقة في صنف واحدٍ فوضع ذلك فيه أجزاءه إن شاء الله. " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خيرٍ لكم " نزلت في عبد الله بن نبتل. قال، كان يقول: إني لأنال من محمد ما أشاء، ثم آتى محمداً فأحلف له فيقبل مني. يقول الله عز وجل: " إذن خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " يعني أنه يقبل من المؤمنين؛ " ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله " يعني ابن نبتل؛ " لهم عذاب أليم " . " يحلفون بالله لكم " حلفه للنبي ما قالوا؛ " ليرضوكم " يعني النبي وأصحاب محمد. ثم يقول: " والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " ألا توذوا رسول الله ولا تقولوا إلا خيراً.
" ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله. " الى آخر الآية، يعني عبد الله ابن نبتل. " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بمافي قلوبهم " قال: كان المنافقون يتكلمون برد الكتاب والحق، فإذا نزل على النبي شئ من القرآن خافوا أن يكون فيما قالوا أو فيما تكلموا. " إن الله مخرج ما تحذرون " يعني ما يتكلمون به. كان نفر منهم في غزوة تبوك: وديعة بن ثابت، وجلاس بن سويد، ومخش بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وثعلبة بن حاطب، فقال ثعلبة: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنهم غداً مقرنين في الحبال! وقال وديعة: إن قراءنا هؤلاء أو عبنا بطوناً، وأحدثنا نسبةً، وأجبننا عند اللقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدركهم فقد احترقوا. " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " الى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " فالذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير؛ والذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت، وجاء الى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه؛ فنزل " قد كفرتم بعد إيمانكم " والذي قال كلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت؛ والذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير، فتيب عليه فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وسأله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة شهيداً. قال الله عز وجل: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر " قال: كان نساء منافقات مع رجال. وقوله: " بعضهم من بعض " أولياء بعض؛ " يأمرون بالمنكر " بأذى النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه؛ " وينهون عن المعروف " عن اتباعه؛ " ويقبضون أيديهم " لا يتصدقون على فقراء المسلمين؛ " نسوا الله فنسيهم " يقول: تركوا الله فتركهم الله. " وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم " يقول: هي جزاءهم ؛ " ولعنهم الله " يعين في الدنيا؛ " ولهم عذاب مقيم " في الآخرة. " كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا يخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم " يعين من كان قبلكم من الأمم ممن كذب الأنبياء واستهزى بهم، وقد رزقهم الله الأموال الكثيرة والأولاد، فذكر أنهم استمتعوا بخلاقهم، ثم ذكر هولاء النافقين أنهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع به أولئك، وقال: " وخضتم كالذي خاضوا " يقول: استهزيتم كما استهزي أولئك؛ " أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " يعني الأمم التي كانت قبلهم، وهم المنافقون. " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " يقول: يأمرون بالأسرم وينهون عن الكفر؛ " ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكا " يتصدقون على الفقراء " ويطيعون الله ورسوله " . يقولك " يا أيها النبي جاهد الكفار " يعني المشركين بالسيف؛ " والمنافقين واغلظ عليهم " فأمره أن يغلظ على المنافقين بلسانهح " ومأواهم جهنم " يعني الكافرين والمنافقين. " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " وديعة بن ثابت؛ " وهموا بما لم ينالوا " قالوا: نضع التاج على رأس عبد الله بن أبي فنتوجه إذا رجعنا، ويقال هم الذين هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم في العقبة؛ " وما نقموا إلا ن إغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم " نزلت في الجلاس بن سويد، كانت له دية في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها له وكان محتاجاً. " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " " فلما آتاهم من فضله " الى قوله " وبما كانوا يكذبون " نزلت في ثعلبة ابن حاطب، وكان محتاجاً لا يجد ما يتصدق به، فقال: والله لئن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأكونن من الصالحين. فأصاب دية، اثنى عشر الف درهم، فلم يتصدق ولم يكن من الصالحين. " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين " قال: جاء زيد بن أسلم العجلاني بصدقة ماله، فقال معتب ابن قشير وعبد الله بن نبتل: إنما أراد الرياء من المؤمنين في الصدقات؛ " والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم " نزلت في علبة بن زيد الحارثي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم خميص البطن، فجاء الى رجلٍ من اليهود فقال: أوجرك نفسي أجر الجرير على أن تعطيني صاعاً من تمر لا تعطيني فيه خدرة الخدرة التي فيها الدخان. أو يقال: جديد ولا
حشف. قال: نعم. فعمل معه الى العصر، ثم أخذ التمر فجاء به الى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عبد الله بن نبتل يقول: انظروا الى هذا وما يصنع، ما كان الله يصنع بهذا، أما كان الله غنياً عن هذا؟ " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " الى آخر الآية.؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعي ليصلى على عبد الله بن أبي فقال: لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت؛ إني خيرت فاخترت! " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " الى قوله " بما كانوا يكسبون " قال: نزلت في الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " فإن رجعك الله الى طائفة منهم " يعني من سفرة تبوك، " فاستاذنوك للخروج " يعني المنافقين الذين كانوا استأذنوه للقعود؛ " فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة " أول سفرى حين خرجت؛ " فاقعدوا مع الخالفين " مع النساء. " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره. " الآية. قال: لما مات ابن أبي وضع في موضع الجنائز، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، تصلي عليه وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا؟ فقال: يا عمر بن الخطاب، إني خيرت فاخترت، فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين صلاة غفر له زدت! وذلك قول الله عز وجل: " اتسغفر لهم أولاً تستغفر لهم " . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، فلما فرغ من دفنه فلم يرم مقامه حتى نزلت هذه الآية: " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً " الآية " وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم " الى قوله " بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء؛ " وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " نزلت في الجد بن قيس، وكان ميلاً، كثير المال. " وجاء المعذرون من الأعراب " يعني المعتذرون، وهم أحد وثمانون من غفار؛ " ليؤذن لهم " في القعود، يقول: ويعذروا في الخروج؛ " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يقول: قعد المنافقون الذين تخلفوا، وقالوا: اجلسوا إن أذن لكم أو لم يأذن. يقول الله عز وجل: " ليس على الضعفاء " أهل الزمانة والشيخ الكبير؛ " ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون " يعني المعسر؛ " حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفور رحيم " إذا كانوا هكذا. يقول الله عز وجل: " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما نيفقون " هؤلاء البكاؤون وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمى، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير. يقول الله عز وجل: " إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء، يعني الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " يعني ما أخبره من قصتهم، " وسيرى الله عملكم ورسوله " يعني المنافقين؛ الى قوله " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم " يعني لا تلوموهم؛ " فأعرضوا عنهم " يعني اتركوهم؛ " إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءٍ بما كانوا يكسبون " . " يحلفون لكم لترضوا عنهم " الى آخر الآية. يقول الله عز وجل: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا تعلموا حدود ما أنزل الله. " الى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " أشد كفراً ونفاقاً وأجدرألا يعلموا حدود ما أنزل الله. " الى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " ومن الأعراب من يتخذ ما نيفق مغرماً " الى قوله " وصلوات الرسول " يعني دعاء الرسول " ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته " . يقول الله عز وجل: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " يعني من صلى القبلتين منهم؛ " والذين اتبعوهم بإحسان " الى آخر الآية. يعين من أسلم قبل الفتح. وفي الفح يقول الله عز وجل: " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب، منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك. " ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لا تعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك.
" ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون الىعذاب عظيم " يقول: الى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " الى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار الى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " الى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " الى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " الى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " الى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " . أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون الىعذاب عظيم " يقول: الى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " الى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار الى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " الى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " الى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " الى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " الى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " .
قال: لما مات أبو طالب استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لآستغفر لك حتى أنهي! فاستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين، فنزلت هذه الآية: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " يقول: ماتوا على كفرهم فر يتوبون. يقول الله عز وجل: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه " قال: وعده أن يسلم؛ " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " لما مات على كفره تبرأ منه؛ " إن إبراهيم لأواه حليم " . قال: الأواه الدعاء. قوله عز وجل: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم " الى آخر الآية. يقول الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين ابتعوه في ساعة العسرة " يعين عزوة العسرةن وهي غزوة تبوك، وكانت في زمنٍ شديد الحر؛ " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم " يقول: أبي خيثمة وما حدث نفسه بالتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحر وبعد الشقة، ثم عزم له على الخروج؛ " ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " . " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " الى قوله: " التواب الرحيم " وهو كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وأما قوله: " الذين خلفوا يعين من تعذر الى النبي صلى الله عليه وسلم ممن قبل منهم.؟ قوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب " يعني غفار، وأسلم، وجهينة، ومزينة، وأشجع؛ " أن يتخلفوا عن رسول الله " في غزوة تبوك؛ " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ " يعني عطش؛ " ولا نصب " يعني تعب؛ " ولا مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطؤن موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطون موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح " . قوله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر " الى آخر الآية، يقول: ما كان المؤمنون إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ أن ينفروا كلهم ويتركوا المدينة خلوفاً بها الذراري، ولكن ينفر من كل قبيلة طائفة. يقول: بعضهم لينظروا كيف سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين ويعوا ما سمعوا منه؛ " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " يعني يخافون الله.
يقول: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " الى آخر الآية. قوله عز وجل: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً " يعني يقيناً وتسليماً؛ فيقول الذين آمنوا: زادتنا يقيناً وتسليماً؛ وأما المنافقون فزادتهم شكا وريبة الى ما كانوا فيه. ويقال إنها في المشركين، فزادتهم شكا وثباتاً على دينهم، وماتوا وهم كافرون. يقول الله عز وجل فيهم: " أولا يرون أنهم يفتنون في كل عامٍ مرة أو مرتين " فأما من جعلها في المنافقين فيقول: يكذبون في السنة مرة أو مرتين، وأما من زعم أنها في المشركين يقول: يبتلون بالغزو في السنة مرة أو مرتين؛ " ثم لا يتوبو " يقول: لا يسلمون. " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم الى بعض " الى آخر الآية. وكان عبد الله بن نبتل يجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المنافقون، فإذا خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بعضهم ببعض؛ " هل يراكم من أحد " يعنون المسلمين؛ يقول: " ثم انصرفوا " يعني استهزأوا فكذبوا بالحق؛ " صرف الله قلوبهم " عنه. يقول الله عز وجل وهو يذكر نبيه: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " يقول: منكم؛ " عزيز عليه ما عنتم " يقول: ما أخطأتم " حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم " . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " .
حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع
قال: حدثني معمر، ومحمد بن عبد الله، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وحارثة بن أبي عمران، وعبد الحميد بن جعفر؛ وكل واحد قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم، قالوا: كان قبل أن تنزل " براءة " ،قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المشركين عهداً؛ فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، فخرج أبو بكر رضي الله عنه في ثلاثمائة من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم النعال، وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات. وحج عبد الرحمن بن عوف فأهدى بدناً، وقوم أهل قوة، وأهل أبو بكر رضي الله عنه من ذي الحليفة، وسار حتى إذا كان بالعرج في السحر سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فقال: هذه القصواء! فنظر فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام عليها، فقال: استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم عل الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ الى كل ذي عهدٍ عهده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الى أبي بكر أن يخالف المشركين، فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمعٍ قبل طلوع الشمس. فخرج أبو بكر حتى قدم مكة وهو مفرد بالحج، فخطب الناس قبل التروية بيومٍ بعد الظهر، فلما كان يوم التروية حين زاغت الشمس طاف بالبيت سبعاص، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وصلى الظهر والعصر والغرب والعشاء والصبح بمنى. ثم لم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير، فانتهى الى نمرة، فنزل في قبةٍ من شعرٍ فقال فيها، فلما زاغت الشمس ركب راحلته فخطب ببطن عرنة، ثم أناخ فصلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، فيما فضل من ظهرهم، وهم قافلون إلى أهليهم. فقال: يا رسول الله، لا تفعل؟ فإن يكن للناس فضل من ظهرهم يكن خيراً، فالظهر اليوم رقاق، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلت في منصرفنا من الحديبية حيث أرملنا، فإن الله عز وجل يستجيب لك؟! فنادى منادي رسول الله: من كان عنده فضل من زاد فليأت به؟! وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق والتمر، والقبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر. فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق حزراً. ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا الله عز وجل أن .
يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدثون جميعاً حديثاً واحداً، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو زرعة الجهني معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى منادية: هلموا إلى الطعام، خذوا منه حاجتكم! وأقبل الناس، فجعل كل من جاء بوعاء ملأه. فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرةً من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت إحداهما سويقاً والآخر خبزاً، وأخذت في ثوبي دقيقاً، ما كفانا إلى المدينة. فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم، حتى كان آخر ذلك أن أخذت الأنطاع ونثر ما عليها.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وفاه الله حر النار.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة - وكان فيه وشل يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين أو الثلاثة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتي! فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق الماء. قال معاذ ابن جبل: والذي نفسي بيده، لقد سمعت له شدةً في انحرافه مثل الصواعق! فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه! قال: واستقى الناس وشربوا. قال سلمة بن سلامة ابن وقش: قلت لوديعة بن ثابت: ويلك، أبعد ما ترى شئ؟ أما تعتبر؟ قال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا! ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبيد الله بن عبد العزيز، أخو عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة المازني، عن خلاد ابن سويد، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسير في الجيش ليلاً، وهو قافل وأنا معه، إذ خفق خفقةً وهو على راحلته، فعال على شقه، فدنوت منه فدعمته فانتبه، فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط. فدعمتك. فقال: حفظك الله كما حفظت رسول الله! ثم سار غير كثير، ثم فعل مثلها، فدعمته فانتبه فقال: يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول الله! فقال: انظر من خلفك! فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم! فقلت: أجيبوا رسول الله! فجاءوا فعرسنا ونحن خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها؛ فنمنا فما انتبهنا إلا بحر الشمس، فقلنا: إنا لله! فاتنا الصبح! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لنغيظن الشيطان كما أغاظنا. فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة فقال: يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والركوة فإن لها شأناً، ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر لرشدوا. وذلك أن أبا بكر وعمر أراد أن ينزلا بالجيش على الماء، فأبوا ذلك عليهما، فنزلوا على غير ماء بفلاةٍ من الأرض. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل عطشا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه. وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى ترووا، وأرووا خيلهم وركابهم، فإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير ويقال: خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف. وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: احتفظ بالركوة والإداوة!
وكان في تبوك أربعة أشياء: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير منحدراً إلى المدينة وهو في قيظ شديد عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشاً شديداً حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل أسيد بن حضير، في يومٍ صائفٍ وهو متلثم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عسى أن تجد لنا ماء. فخرج وهو فيما بين الحجر وتبوك فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء مع امرأةٍ من بلى، وكلمها أسيد فخبرها بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا الماء، فانطلق به إلى رسول الله! وقد وضعت لهم الماء وبينهم وبين الطريق هنية، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: هلموا أسقيتكم! فلم يبق معهم سقاء إلا ملأه، ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت. ويقال: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به أسيد وصبه في قعبٍ عظيمٍ من عساس أهل البادية، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى ركعتين، ثم رفع مدا، ثم انصرف وإن القعب ليفور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: زودوا! فاتسع الماء، وانبسط. الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان، فأرووا، وإن القعب ليجيش بالرواء، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرداً متروياً من الماء.
قال: وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي سهل، عن عكرمة، قال: خرجت الخيل في كل وجهٍ يطلبون الماء، وكان أول من طلع به وبخبره صاحب فرسٍ أشقر، ثم الثاني أشقر، ثم الثالث أشقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، بارك في الشقر! قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة وسعد بن راشد، عن صالح بن كيسان، عن أبي مرة مولى عقيل، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الخيل الشقر.
قالوا: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبةً في الطريق. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع! فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة رواحلهم بمحجن في يده. وظن القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساق به. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة نزل الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حذيفة، هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول الله، عرفت راحلة فلان وفلان، وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمه الليل.
وكانوا قد أنفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فسقط. بعض متاع رحله، فكان حمزة بن عمرو الأسلمي يقول: فنور لي في أصابعي الخمس فأضئن حتى كنا نجمع ما سقط. من السوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شئ إلا جمعناه. وكان لحق النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة.
فلما أصبح قال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله، ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل من العقبة؟ قال: يا أبا يحيى، أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما اهتموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني من راحلتي. فقال أسيد: يا رسول الله، فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطنٍ أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت، والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم، فلا تبرح حتى آتيكم برؤسهم، وإن كانوا في النبيت فكفيتكهم، وأمرت سيد الخزرج فكفال من في ناحيته، فإن مثل هؤلاء يتركون يا رسول الله؟ حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذله، وضرب الإسلام بجرابه! فما يستبقي من هؤلاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسيد: إني أكره أن يقول الناس إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال: يا رسول الله، فهولاء ليسوا بأصحاب! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك.
قال: حدثني يعقوب بن محمد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلاً، قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة وعمار رحمهما الله.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن ابن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: تنازع عمار بن ياسر ورجل من المسلمين في شئ فاستبا، فلما كاد الرجل يعلو عماراً في السباب قال عمار: كم كان أصحاب العقبة؟ قال: الله أعلم. قال: أخبرني عن علمكم بهم! فسكت الرجل، فقال من حضر: بين لصاحبك ما سألك عنه! وإنما يريد عمار شيئاً قد خفي عليهم، فكره الرجل أن يحدثه، وأقبل القوم على الرجل فقال الرجل: كنا نتحدث أنهم كانوا أربعة عشر رجلاً.
قال عمار: فإنك إن كنت منهم فهم خمسة عشر رجلاً! فقال الرجل: مهلاً، أذكرك الله أن تفضحني! فقال عمار: والله ما سميت أحداً، ولكني أشهد أن الخمسة عشر رجلاً، اثنا عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا؛ ويوم يقوم الأشهاد، " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، فأوحى إليه وراحلته باركة، فقامت راحلته تجر زمامها حتى لقيها حذيفة بن اليمان فأخذ بزمامها فاقتادها حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فأناخها ثم جلس عندها حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فقال: من هذا؟ قال: أنا حذيفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني مسر إليك أمراً فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلى على فلان، وفلان رهط عدة من المنافقين ولا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم لأحدٍ غير حذيفة. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذا مات رجل ممن يظن أنه من أولئك الرهط. أخذ بيد حذيفة فقاده إلى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلى عيه عمر، وإن انتزع يده وأبي أن يمشي انصرف معه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير، قال: لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً إلا حذيفة، وخم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي. وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا.
قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، وقد كان جاءه أصحاب مسجد الضرار، جاءوا خمسة نفر منهم: معتب بن قشير، وثعلبة ابن حاطب، وخذام بن خالد، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبد الله بن نبتل ابن الحارث. فقالوا: يا رسول الله، إنا رسل من خلفنا من أصحابنا، إنا قد بنينا مسجداً لذي القلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، ونحن نحب أن تأتينا فتصلى بنا فيه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا بكم فيه. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوانٍ راجعاً من تبوك أناه خبره وخبر أهله من السماء، وكانوا إنما بنوه؛ قالوا بينهم: يأتينا أبو عامرٍ فيتحدث عندنا فيه، فإنه يقول: لا أستطيع آتي مسجد بني عمرو بن عوف، إنما أصحاب رسول الله يلحقوننا بأبصارهم. يقول الله تعالي: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي العجلاني، ومالك بن الدخشم السالمي، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم حرقاه! فخرجا سريعين على أقدامهما حتى أتيا مسجد بني سالم، فقال مالك بن الدخشم لعاصم بن عدي: أنظرني حين أخرج إليك بنارٍ من أهلي. فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه النار. ثم خرجا سريعين يعدوان حتى انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه، وإمامهم يومئذ مجمع بن جارية، فقال عاصم: ما أنسى تشرفهم إلينا كأن آذانهم آذان السرحان. فأحرقناه حتى احترق، وكان الذي ثبت فيه من بينهم زيد بن جارية بن عامر حتى احترقت أليته، فهدمناه حتى وضعناه بالأرض. وتفرقوا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عرض على عاصم بن عدي السمجد يتخذه داراً وكان من دار وديعة بن ثابت ودار أبي عامر إلى جنبهما فاحرقوهما معه فقال: ما كنت لأتخذ مسجداً قد نزل فيه ما نزل داراً؛ وإن بي عنه لغني يا رسول الله! ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له. فأعطاه ثابتاً. وكان أبو لبابة بن عبد المنذر قد أعانهم فيه بخشب، وكان غير مفموص عليه في النفاق، ولكنه قد كان يفعل أموراً تكره له. فلما هدم المسجد أخذ أبو لبابة خشبة ذلك فبني به منزلاً، وكان بيته الذي بناه إلى جنبه. قال: فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، ولم يقف فيه حمام قط، ولم تحضن فيه دجاجة قط. وكان الذين بنوا مسجد الضرار خمسة عشر رجلاً: جارية بن عامر بن العطاف وهو حمار الدار وابنه مجمع بن جارية وهو إمامهم، وابنه زيد بن جارية وهو الذي احترقت أليته فأبى أن يخرج وابنه يزيد بن جارية، ووديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج، وعبد الله بن نبتل، وبجاد بن عثمان، وأبو حبيبة بن الأزعر، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، وثعلبة بن حاطب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زمام خير من خذام، وسوط خير من بجاد! وكان عبد الله بن نبتل وهو المخبر بخبره يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثه ثم يأتي به المنافقين، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، إن رجلاً من المنافقين يأتيك فيسمع حديثك، ثم يذهب به إلى المنافقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهم هو؟ قال: الرجل الأسود ذو الشعر الكثير، الأحمر العينين كأنهما قدران من صفر، كبده كبد حمارٍ فينظر بعين شيطان.
وكان عاصم بن عدي يخبر يقول: كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل، وثعلبة بن حاطب قائمين على مسجد الضرار، وهما يصلحان ميزاباً قد فرغا منه، فقالا: يا عاصم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدنا أن يصلى فيه إذا رجع. فقلت في نفسي: والله، ما نبى هذا المسجد إلا منافق معروف بالنفاق، أسسه أبو حبيبة بن الأزعر، وأخرج من دار خذام بن خالد، ووديعة بن ثابت في هؤلاء النفر والمسجد الذي بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوسسه جبريل عليه السلام يؤم به البيت فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه، وذم أهله الذين جمعوا في بنائه وأعانوا فيه: " الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً " إلى قوله " يحب المطهرين " . قالوا: كانوا يستنجون بالماء. " لمسجد أسس على التقوى " ؛ قال: يعني مسجد بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: عني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل منهم عويم بن ساعدة! وقيل لعاصم بن عدي: ولم أرادوا بناءه؟ قال: كانوا يجتمعون في مسجدنا، فإنما هم يتناجون فيما بينهم ويلتفت بعضهم إلى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشق ذلك عليهم وأرادوا مسجداً يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على مثل رأيهم. فكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا! وذاك أن أصحاب محمد يلحظونني وينالون مني ما أكره. قالوا: نحن نبني مسجداً تتحدث فيه عندنا.
قالوا: قال كعب بن مالك: لما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأىٍ من أهلي، حتى ربما ذكرته للخادم رجاء أن يأتيني شئ أستريح إليه، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعإلى.
ويقال من غير حديث كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا تكلموا أحداً منهم تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم. فلم يكلموهم، فلما قدم المدينة جاءه المعذون يحلفون له، وأعرض عنهم، وأعرض المؤمنون عنهم حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه. فجعلوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويعتذرون إليه بالحمى والأسقام، فيرحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا فصدقهم واستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
قالوا: وقال كعب بن مالك: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فسلمت عليه، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كاذباً لترضى عني ليوشكن الله عز وجل أن يسخط. على، ولئن حدثتك اليوم حديثاً صادقاً تجد على فيه، إني لأرجو عقبي الله فيه. ولا والله ما كان لي عذر؛ والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد صدقت، فقم حتى يقض الله عز وجل فيك! فقمت وقام معي رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا! وقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون؛ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فو الله ما زالوا بي ينوبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. فلقيت معاذ بن جبل وأبا قتادة فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً إن شاء الله! فأما هؤلاء المعذرون، فإن يكونوا صادقين فسيرضى الله ذلك ويعلمه نبيه، وإن كانوا على غير ذلك يذمهم أقبح الذم ويكذب حديثهم. فقلت لهم: هل لقى هذا غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة وقدوة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي، والأرض فما هي الأرض التي كنت أعرف؛ فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا فقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، وكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، حى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا، ثم أصلى قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فنشدته الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، فوثبت فتسورت الجدار، ثم غدوت إلى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق فإذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالسوق، يسأل عني يقول: من يدلني على كعب ابن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له، فدفع إلى كتاباً من الحارث بن أبي شمر ملك غسان أو قال من جبلة بن الأيهم في سرقةٍ من حرير؛ فإذا في كتابه: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك. قال كعب: فقلت حين قرأته: وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع في رجال من أهل الشرك. فذهبت بها إلى تنور فسجرته بها، وأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتين فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها فلا تقربها. وكان الرسول إلي، وإلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، خزيمة بن ثابت. قال كعب: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ماهو قاض. وأما هلال بن أمية فكان رجلاً صالحاً، فبكى حتى إن كان يرى أنه هالك من البكاء، وامتنع من الطعام، فإن كان يواصل اليومين ولثلاثة من الصوم ما يذوق طعاماً، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو من اللبن، ويصلى الليل ويجلس في بيته لا يخرج؛ لأن أحداً لا يكلمه، حتى إن كان الولدان ليهجرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أن أخدمه فعلت. قال: نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك. فقالت: يا رسول الله
ما به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.ا به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.
فكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل: يا أم سلمة، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه. فقلت: يا رسول الله، ألا أرسلت إليهم فأبشرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعونك النوم آخر الليل، ولكن لا يرون حتى يصبحوا. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أخبر الناس بما تاب الله على هؤلاء النفر: كعب بن مالك، ومراراة بن الربيع، وهلال بن أمية. فخرج أبو بكر رضي الله عنه فوافى على سلع فصاح: قد تاب الله على كعب! يبشره بذلك. وخرج الزبير على فرسه في بطن الوادي، فسمع صوت أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يأتي الزبير. وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال يبشره ببني واقف، فلما أخبره سجد. قال سعيد: فظننت أنه لا يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، وكان بالسرور أكثر بكاءً منه بالحزن حتى خيف عليه؛ ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناله من الضعف والحزن والبكاء، حتى ركب حماراً. وكان الذي بشر مرارة بن الربيع سلكان بن سلامة أبو نائلة، وسلمة بن سلامة بن وقش، ووافيا الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، ثم انطلقا إلى مرار فأخبراه، فأقبل مرارة حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.
قال كعب: وكان الصوت الذي سمعت على سلع أسرع من الفارس الذي يركض في الوادي وهو الزبير بن العوام والذي صاح على سلع، يقول كعب: كان رجلاً من أسلم يقال له حمزة بن عمرو، وهو الذي يشرني. قال: فلما سمعت صوته نزعت ثوبي فكسوتهما إياه لبشارته؛ والله ما أملك يومئذ غيرهما! ثم استعرت ثوبين من أبي قتادة فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام غإلى طلحة بن أبي طلحة فحياني وهنأني، ما قام إلى من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي، ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك! ويقال: قال له: تعال إلى خير يومٍ ما طلع عليك شرقه قط. قال كعب: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أو من عند الله؟ فقال: من عند الله عز وجل! قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر يستنير حتى كأن وجهه فلقة القمر، وكان يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه، قلت : يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله وإلي رسوله أن أنخلع من مالي إلى الله ورسوله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، هو خير لك!قال قلت: إني ممسك بسهمي الذي بخيبر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ! قلت: النصف! قال: لا! قلت: فالثلث! قال: نعم! قال: إني يا رسول الله أحبس سهمي الذي بخيبر. قال كعب: قلت: يا رسول الله إن الله عز وجل أنجاني بالصدق، فإن توبتي إلى الله ألا أحدث إلا صدقاً ما حييت. قال كعب: والله، ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي. وقال كعب: قال الواقدي: أنشدنيه أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب: سبحان ربي إن لم يعف عن زللي فقد خسرت وتب القول والعمل قال: وأنزل الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " إلى قوله: " وكونوا مع الصادقين " . قال كعب: فو الله ما أنعم الله على من نعمه قط. إذ هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أكون كذبته يومئذ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه. قال الله في الذين كذبوه حين أنزل عليه الوحي شر ما قال: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم " إلى قوله " الفاسقين " . قال كعب: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضي الله فيه ما قضي. فبذلك قال الله عز وجل: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " . قال: ليس عن الغزوة، ولكن بتخليفه إيانا، وإرجائه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.
قال كعب حين بنى الخيمة على سلع، فيما حدثني أيوب من النعمان ابن عبد الله بن كعب بن أبي القين:
أبعد دور بني القين الكرام وما ... شادوا على تبتيت البيت من سعف
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في رمضان سنة تسع، فقال: الحمد لله على ما رزقنا في سفرنا هذا من أجرٍ وحسنةٍ ومن بعدنا شركاؤنا فيه. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً سرنا من مسيرٍ ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أوليس الله تعإلى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القرى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال!
قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً ما سرنا من مسير ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أو ليس الله تعإلى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القوى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال! قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليالٍ بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، ليس بحين عتاب! هو الموت، فإن مت فاحضر غسلي وأعطني قميصك أكفن فيه. فإعطاه الأعلى وكان عليه قميصان فقال: الذي يلي جلدك. فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه، ثم قال: صل علي واستغفر لي! قال: وكان جابر بن عبد الله يقول خلاف هذا، يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت ابن أبي إلى قبره، فأمر به فأخرج، فكشف من وجهه ونفث عليه من ريقه؛ وأسنده إلى ركبتيه وألبسه قميصه وكان عليه قميصان وألبسه الذي يلي جلده. والأول أثبت عندنا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غسله وحضر كفنه، ثم حمل إلى موضع الجنائز فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام وثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا ويوم كذا كذا؟ فعد عليه قوله. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه عمر قال: إني قد خيرت فاخترت، ولو أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له زدت عليها، وهو قوله عز وجل: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " . فيقال إنه قال: سأزيد على السبعين. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يكن إلا يسيراً حتى نزلت هذه الآيات من براءة: " ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره " . ويقال إنه لم تزل قدماه بعد دفنه حتى نزلت عليه هذه الآية، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية المنافقين، فكان من مات لم يصل عليه.
وكان مجمع بن جارية يحدث يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازةٍ قط. ما أطال عليها من الوقت، ثم خرجوا حتى انتهوا إلى قبره، وقد حمل على سرير يحمل عليه موتاهم عند آل نبيط. وكان أنس بن مالك يحدث يقول: رأيت ابن أبي على السرير وإن رجليه لخارجتان من السرير من طوله.
وكانت أم عمارة تحدث قالت: شهدنا مأتم ابن أبي، فلم تتخلف امرأة من الأوس والخزرج إلا أتت ابنته جميلة بنت عبد الله بن أبين وهي تقول: واجبلاه! ما ينهاها أحد ولا يعيب عليها واجبلاه! واركناه! قالوا: ولقد انتهى به إلى قبره.
فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد جهدنا أن ندنو من سريره فما نقدر عليه، قد غلب عليه هؤلاء المنافقون وكانوا قد أظهروا الإسلام، وهم على النفاق، من بني قينقاع وغيرهم: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وسلامة بن الحمام، ونعمان بن أبي عامر، ورافع بن حرملة، ومالك بن أبي نوفل، وداعس، وسويد. وكانوا أخابث المنافقين، وكانوا هم الذين يعرضونه. وكان ابنه عبد الله ليس شئ أثقل عليه ولا أعظم من رؤيتهم، وكان به بطن، فكان ابنه يغلق دونهم الباب، فكان ابن أبي يقول: لا يلبني غيرهم. ويقول: أنت والله أحب إلي من الماء على الظمأ. ويقولون: ليت أنا نفديك بالأنفس، والأولاد، والأموال! فلما وقفوا على حفرته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف يلحظهم، ازدحموا على النزول في حفرته وارتفعت الأصوات حتى أصيب أنف داعس، وجعل عبادة بن الصامت يذبهم ويقول: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله! حتى أصيب أنف داعس فسال الدم، وكان يريد أن ينزل في حفرته، فنحى ونزل رجال من قومه، أهل فضلٍ وإسلام؛ وكان لما رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وحضوره، ومن القيام عليه. فنزل في حفرته ابنه عبد الله، وسعد بن عبادة بن الصامت، وأوس بن خولي حتى سوى عليه، وإن علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأكابر من الأوس والخزرج يدلونه في اللحد، وهم قيام مع النبي صلى الله عليه وسلم. وزعم مجمع بن جارية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه بيديه إليهم، ثم قام على القبر حتى دفن، وعزى ابنه وانصرف. فكان عمرو بن أمية يقول: مالقي عليه أصحابه هؤلاء المنافقون، إنهم هم الذين كانوا يحثون في القبر التراب ويقولون: ياليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك! وهم يحثوب التراب على رؤوسهم. فكان الذي يحسن أمره يقول: قوم أهل فقر، وكان يحسن إليهم!
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك
" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض " إلى آخر الآية. قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهدٍ من الناس، وحين طابت الثمار واشتهبت الظلال، فأبطأ الناس، وكشفت " برآءة " عنهم ما كان مستوراً، وأبدت أضفانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " يقول: في الآخرة؛ " ويستبدل قوماً غيركم ولاتضروه شيئاً " قيل: يا رسول الله، من هؤلاء القوم؟ " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله. " الآية. قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البدو. فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة " الآية. ونزل فيهم: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة " الآية " إلا تنصروه فقد نصره الله " يعني من نافق من الأوس والخزرج؛ " إذ أخرجه الذين كفروا " يعني مشركي قريش؛ " ثاني اثنين " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه؛ " إذ هما في الغار " حيث كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه " يقول الطمأنينة، " وأيده بجنود لم تروها " يعني الملائكة؛ " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا " يقول: جعل ما جاءت به قريش من آلهتهم باطلاً، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الظاهر العالي. " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول نشاطأ وغير نشاط، ويقال الخفاف: الشباب، والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوتكم، وجاهدوا في سبيل الله: قاتلوا. " لو كان عرضا قريباً " يعني غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً " يعني سفراً قريباً، " لا تبعوك " يعني المنافقين؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " سفر تبوك عشرون ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " بعين المنافقين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " يعني إنهم مقوون أصحاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم ويقبل عذرهم. قال: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب؛ " الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " فتعلم من له قوة ممن لا قوة له، استأذنك رجال لهم قوة. " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين " ووصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزوة العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " يعني المنافقين في شكهم. " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم " يقول: كانوا أقوياء بأبدانهم وأموالهم ولكن كره الله خروجهم فخذلهم؛ " وقيل اقعدوا مع القاعدين " يعني مع النساء. " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً " يعني ابن أبي، وعبد الله بن نبتل، والجد بن قيس، وكل هؤلاء استأذن ورجع، فيقول: لو كانوا فيكم " ما زادوكم إلا خبالاً " إلا شراً؛ " ولأوضعوا خلالكم " يقول: يدخل المنافق بين الراحلتين فيرفض بهما؛ " يبغونكم الفتنة " هؤلاء النفر، يقول: لأظهروا النفاق ولقالوه. " وفيكم سماعون لهم " يقول: من المنافقين ومن دونهم من يأتيهم بالأخبار وهؤلاء من رؤساهم؛ " والله عليم بالظالمين " . ثم ذكر المنافقين " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " يقول: من قبل خروجك وتشاوروا في كل ما يلبس عليك وعلى أصحابك " حتى جاء الحق " يعني ظهر الحق، " وظهر أمر الله " يعني أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين. " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا " نزلت هذه الآية في الجد بن قيس، وكان من أكثر بني سلمة مالاً وأعد عدةً في الظهر؛ وكان معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تغزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر! فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس رجل أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا "
يتخلفه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.ه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.
" قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين " كان رجال من المنافقين من ذوي الطول يظهرون النفقة، إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسإلى " يقول رياء: " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " يريدون أن يظهر أنهم ينفقون. " فلا تعجبك أموالهم " أي ما أعطيناهم؛ " ولا أولادهم " الذين أعطيناهم إياهم؛ " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: تكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه نفاقاً، وما أنفقوا، فإنما هو رياء. يقول: " وتزهق أنفسهم وهم كافرون " أن يلقوا ربهم على نفاقهم. " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون " أي رؤساءهم وأهل الطول منهم مثل ابن أبي، والجد بن قيس وذويه، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون أنهم معه، وإذا خرجوا نقضوا، يقول: يفرقون من أن يقتلوا لقلتهم في المسلمين " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولا إليه وهم يجمحون " يقول: لو وجدوا جماعة أو يقدرون على هربٍ من دارهم إلى قومٍ يعزون فيهم، لذهبوا إليهم سراعاً. " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطو منها رضو وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون " نزلت في ثعلبة بن حاطب، كان يقول: إنما يعطى محمد الصدقات من يشاء! يتكلم بالنفاق. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه فرضى، ثم جاءه قلم يعطه فسخط. يقول الله عز وجل: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله " يقول: لم يسخطوا إذا رده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أعطاه قليلاً بقدر ما يجد؛ " وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " يقول: حسب نبيه.
وقال: إن الله سيرزقنا، وإذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أعطانا.
قال الله عز وجل: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله " . ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً سأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يكلها إلى ملك مقربٍ ولا نبي مرسلٍ حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت من جزء منها أعطيتك، وإن كنت غنياً فصداع في الرأس وأذى في البطن، والفقراء فقراء المهاجرين الذين كانوا يسألون الناس والمساكين الذين كانوا في الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. " والعاملين عليها " يعطون قدر عمالتهم ونفقتهم في سفرهم؛ " والمؤلفة قلوبهم " ليس في الناس اليوم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أقواماً، يتألفهم على الإسلام، " وفي الرقاب " يعني المكاتبين؛ " والغارمين " يعني الذين عليهم الدين، يقضي عن الرجل دينه؛ " وفي سبيل الله " يعني المجاهدين؛ " وانب السبيل " الرجل المنقطع به في غير بلده فيعان ويحمل وإن كان في أهله موسراً. وهذه الصدقات ينظر فيها، فإن كان أهل الحاجة والفاقة في صنف واحدٍ فوضع ذلك فيه أجزاءه إن شاء الله. " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خيرٍ لكم " نزلت في عبد الله بن نبتل. قال، كان يقول: إني لأنال من محمد ما أشاء، ثم آتى محمداً فأحلف له فيقبل مني. يقول الله عز وجل: " إذن خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " يعني أنه يقبل من المؤمنين؛ " ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله " يعني ابن نبتل؛ " لهم عذاب أليم " . " يحلفون بالله لكم " حلفه للنبي ما قالوا؛ " ليرضوكم " يعني النبي وأصحاب محمد. ثم يقول: " والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " ألا توذوا رسول الله ولا تقولوا إلا خيراً.
" ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله. " إلى آخر الآية، يعني عبد الله ابن نبتل. " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بمافي قلوبهم " قال: كان المنافقون يتكلمون برد الكتاب والحق، فإذا نزل على النبي شئ من القرآن خافوا أن يكون فيما قالوا أو فيما تكلموا. " إن الله مخرج ما تحذرون " يعني ما يتكلمون به. كان نفر منهم في غزوة تبوك: وديعة بن ثابت، وجلاس بن سويد، ومخش بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وثعلبة بن حاطب، فقال ثعلبة: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنهم غداً مقرنين في الحبال! وقال وديعة: إن قراءنا هؤلاء أو عبنا بطوناً، وأحدثنا نسبةً، وأجبننا عند اللقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدركهم فقد احترقوا. " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " إلى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " فالذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير؛ والذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه؛ فنزل " قد كفرتم بعد إيمانكم " والذي قال كلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت؛ والذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير، فتيب عليه فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وسأله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة شهيداً. قال الله عز وجل: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر " قال: كان نساء منافقات مع رجال. وقوله: " بعضهم من بعض " أولياء بعض؛ " يأمرون بالمنكر " بأذى النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه؛ " وينهون عن المعروف " عن اتباعه؛ " ويقبضون أيديهم " لا يتصدقون على فقراء المسلمين؛ " نسوا الله فنسيهم " يقول: تركوا الله فتركهم الله. " وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم " يقول: هي جزاءهم ؛ " ولعنهم الله " يعين في الدنيا؛ " ولهم عذاب مقيم " في الآخرة. " كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا يخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم " يعين من كان قبلكم من الأمم ممن كذب الأنبياء واستهزى بهم، وقد رزقهم الله الأموال الكثيرة والأولاد، فذكر أنهم استمتعوا بخلاقهم، ثم ذكر هولاء النافقين أنهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع به أولئك، وقال: " وخضتم كالذي خاضوا " يقول: استهزيتم كما استهزي أولئك؛ " أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " يعني الأمم التي كانت قبلهم، وهم المنافقون. " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " يقول: يأمرون بالأسرم وينهون عن الكفر؛ " ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكا " يتصدقون على الفقراء " ويطيعون الله ورسوله " . يقولك " يا أيها النبي جاهد الكفار " يعني المشركين بالسيف؛ " والمنافقين واغلظ عليهم " فأمره أن يغلظ على المنافقين بلسانهح " ومأواهم جهنم " يعني الكافرين والمنافقين. " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " وديعة بن ثابت؛ " وهموا بما لم ينالوا " قالوا: نضع التاج على رأس عبد الله بن أبي فنتوجه إذا رجعنا، ويقال هم الذين هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم في العقبة؛ " وما نقموا إلا ن إغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم " نزلت في الجلاس بن سويد، كانت له دية في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها له وكان محتاجاً. " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " " فلما آتاهم من فضله " إلى قوله " وبما كانوا يكذبون " نزلت في ثعلبة ابن حاطب، وكان محتاجاً لا يجد ما يتصدق به، فقال: والله لئن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأكونن من الصالحين. فأصاب دية، اثنى عشر الف درهم، فلم يتصدق ولم يكن من الصالحين. " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين " قال: جاء زيد بن أسلم العجلاني بصدقة ماله، فقال معتب ابن قشير وعبد الله بن نبتل: إنما أراد الرياء من المؤمنين في الصدقات؛ " والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم " نزلت في علبة بن زيد الحارثي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم خميص البطن، فجاء إلى رجلٍ من اليهود فقال: أوجرك نفسي أجر الجرير على أن تعطيني صاعاً من تمر لا تعطيني فيه خدرة الخدرة التي فيها الدخان. أو يقال: جديد ولا
حشف. قال: نعم. فعمل معه إلى العصر، ثم أخذ التمر فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عبد الله بن نبتل يقول: انظروا إلى هذا وما يصنع، ما كان الله يصنع بهذا، أما كان الله غنياً عن هذا؟ " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " إلى آخر الآية.؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعي ليصلى على عبد الله بن أبي فقال: لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت؛ إني خيرت فاخترت! " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " إلى قوله " بما كانوا يكسبون " قال: نزلت في الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " فإن رجعك الله إلى طائفة منهم " يعني من سفرة تبوك، " فاستاذنوك للخروج " يعني المنافقين الذين كانوا استأذنوه للقعود؛ " فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة " أول سفرى حين خرجت؛ " فاقعدوا مع الخالفين " مع النساء. " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره. " الآية. قال: لما مات ابن أبي وضع في موضع الجنائز، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، تصلي عليه وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا؟ فقال: يا عمر بن الخطاب، إني خيرت فاخترت، فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين صلاة غفر له زدت! وذلك قول الله عز وجل: " اتسغفر لهم أولاً تستغفر لهم " . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، فلما فرغ من دفنه فلم يرم مقامه حتى نزلت هذه الآية: " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً " الآية " وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم " إلى قوله " بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء؛ " وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " نزلت في الجد بن قيس، وكان ميلاً، كثير المال. " وجاء المعذرون من الأعراب " يعني المعتذرون، وهم أحد وثمانون من غفار؛ " ليؤذن لهم " في القعود، يقول: ويعذروا في الخروج؛ " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يقول: قعد المنافقون الذين تخلفوا، وقالوا: اجلسوا إن أذن لكم أو لم يأذن. يقول الله عز وجل: " ليس على الضعفاء " أهل الزمانة والشيخ الكبير؛ " ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون " يعني المعسر؛ " حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفور رحيم " إذا كانوا هكذا. يقول الله عز وجل: " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما نيفقون " هؤلاء البكاؤون وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمى، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير. يقول الله عز وجل: " إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء، يعني الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " يعني ما أخبره من قصتهم، " وسيرى الله عملكم ورسوله " يعني المنافقين؛ إلى قوله " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم " يعني لا تلوموهم؛ " فأعرضوا عنهم " يعني اتركوهم؛ " إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءٍ بما كانوا يكسبون " . " يحلفون لكم لترضوا عنهم " إلى آخر الآية. يقول الله عز وجل: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا تعلموا حدود ما أنزل الله. " إلى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " أشد كفراً ونفاقاً وأجدرألا يعلموا حدود ما أنزل الله. " إلى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " ومن الأعراب من يتخذ ما نيفق مغرماً " إلى قوله " وصلوات الرسول " يعني دعاء الرسول " ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته " . يقول الله عز وجل: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " يعني من صلى القبلتين منهم؛ " والذين اتبعوهم بإحسان " إلى آخر الآية. يعين من أسلم قبل الفتح. وفي الفح يقول الله عز وجل: " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب، منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك. " ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لا تعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك.
" ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون إلىعذاب عظيم " يقول: إلى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " إلى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " إلى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " إلى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " إلى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " إلى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " . أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون إلىعذاب عظيم " يقول: إلى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " إلى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " إلى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " إلى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " إلى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " إلى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " .
قال: لما مات أبو طالب استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لآستغفر لك حتى أنهي! فاستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين، فنزلت هذه الآية: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " يقول: ماتوا على كفرهم فر يتوبون. يقول الله عز وجل: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه " قال: وعده أن يسلم؛ " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " لما مات على كفره تبرأ منه؛ " إن إبراهيم لأواه حليم " . قال: الأواه الدعاء. قوله عز وجل: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم " إلى آخر الآية. يقول الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين ابتعوه في ساعة العسرة " يعين عزوة العسرةن وهي غزوة تبوك، وكانت في زمنٍ شديد الحر؛ " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم " يقول: أبي خيثمة وما حدث نفسه بالتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحر وبعد الشقة، ثم عزم له على الخروج؛ " ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " . " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " إلى قوله: " التواب الرحيم " وهو كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وأما قوله: " الذين خلفوا يعين من تعذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ممن قبل منهم.؟ قوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب " يعني غفار، وأسلم، وجهينة، ومزينة، وأشجع؛ " أن يتخلفوا عن رسول الله " في غزوة تبوك؛ " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ " يعني عطش؛ " ولا نصب " يعني تعب؛ " ولا مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطؤن موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطون موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح " . قوله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر " إلى آخر الآية، يقول: ما كان المؤمنون إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ أن ينفروا كلهم ويتركوا المدينة خلوفاً بها الذراري، ولكن ينفر من كل قبيلة طائفة. يقول: بعضهم لينظروا كيف سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين ويعوا ما سمعوا منه؛ " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " يعني يخافون الله.
يقول: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " إلى آخر الآية. قوله عز وجل: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً " يعني يقيناً وتسليماً؛ فيقول الذين آمنوا: زادتنا يقيناً وتسليماً؛ وأما المنافقون فزادتهم شكا وريبة إلى ما كانوا فيه. ويقال إنها في المشركين، فزادتهم شكا وثباتاً على دينهم، وماتوا وهم كافرون. يقول الله عز وجل فيهم: " أولا يرون أنهم يفتنون في كل عامٍ مرة أو مرتين " فأما من جعلها في المنافقين فيقول: يكذبون في السنة مرة أو مرتين، وأما من زعم أنها في المشركين يقول: يبتلون بالغزو في السنة مرة أو مرتين؛ " ثم لا يتوبو " يقول: لا يسلمون. " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض " إلى آخر الآية. وكان عبد الله بن نبتل يجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المنافقون، فإذا خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بعضهم ببعض؛ " هل يراكم من أحد " يعنون المسلمين؛ يقول: " ثم انصرفوا " يعني استهزأوا فكذبوا بالحق؛ " صرف الله قلوبهم " عنه. يقول الله عز وجل وهو يذكر نبيه: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " يقول: منكم؛ " عزيز عليه ما عنتم " يقول: ما أخطأتم " حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم " . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " .
حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع
قال: حدثني معمر، ومحمد بن عبد الله، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وحارثة بن أبي عمران، وعبد الحميد بن جعفر؛ وكل واحد قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم، قالوا: كان قبل أن تنزل " براءة " ،قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المشركين عهداً؛ فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، فخرج أبو بكر رضي الله عنه في ثلاثمائة من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم النعال، وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات. وحج عبد الرحمن بن عوف فأهدى بدناً، وقوم أهل قوة، وأهل أبو بكر رضي الله عنه من ذي الحليفة، وسار حتى إذا كان بالعرج في السحر سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فقال: هذه القصواء! فنظر فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام عليها، فقال: استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم عل الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ إلى كل ذي عهدٍ عهده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أبي بكر أن يخالف المشركين، فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمعٍ قبل طلوع الشمس. فخرج أبو بكر حتى قدم مكة وهو مفرد بالحج، فخطب الناس قبل التروية بيومٍ بعد الظهر، فلما كان يوم التروية حين زاغت الشمس طاف بالبيت سبعاص، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وصلى الظهر والعصر والغرب والعشاء والصبح بمنى. ثم لم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير، فانتهى إلى نمرة، فنزل في قبةٍ من شعرٍ فقال فيها، فلما زاغت الشمس ركب راحلته فخطب ببطن عرنة، ثم أناخ فصلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب راحلته، فوقف بالهضاب - الهضاب: عرفة، والمصلى منعرفة فلما أفطر الصائم دفع، فكان يسير العنق حتى انتهى إلى جميعٍ، فنزل قريباً منالنار التي على قزح. فلما طلع الفجر صلى الفجر، ثم وقف، فلما أسفر دفع، وجعل يقول في وقوفه: يا أيها الناس، أسفروا! يا أيها الناس، أسفروا! ثم دفع قبل الشمس، فكان يسير العنق حتى انتهى إلى محسر فأوضع راحلته، فلما جاز وادي محسر عاد إلى مسيره الأول، حتى رمى الجمرة راكباً؛ سبع حصيات، ثم رجع إلى المنحر فنحر، ثم حلق. وقرأ على بن أبي طالب رضوان الله عليه يوم النحر عند الجمرة " براءة " ونبذ إلى كل ذي عهد عهده. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان وكان أبو هريرة يقول: حضرت ذلك اليوم - فكان يقول: هو يوم الحج الأكبر - فخطب أبو بكر رضي الله عنه يوم النحر بعد الظهر على راحلته. فكان أبو بكر قد خطب في حجته ثلاثة أيام لم يزد عليها؛ قبل التروية بيومٍ بمكة بعد الظهر، وبعرفة قبل الظهر، وبمنى يوم النحر بعدالظهر. وأقام أبو بكر رضي الله عنه يرمي الجمار ماشياً، ذاهباً وجائياً، فلما كان يوم الصدر - قالوا: رمى ماشياً - فلما جاوز العقبة ركب ويقال: رمى يومئذ راكباً، فلما انتهى إلى الأبطح صلى به الظهر، ودخل مكة فصلى بها المغرب والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلاً إلى المدينة.
سرية على بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمنقالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب عليه السلام في رمضان سنة عشر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعسكر بقباء، فعسكر بها حتى تتام أصحابه، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لواء، أخذ عمامةً فلفها مثنية مربعة فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه وقال: هكذا اللواء! وعممه عمامةً، ثلاثة أكوار، وجعل ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه، ثم قال: هكذا العمة!
قال: فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع، قال: لما وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: امض ولا تلتفت! فقال علي عيه السلام: يا رسول الله، كيف أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فر تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً، فإن قتلوا منكم قتيلاً فلا تقاتلهم، تلومهم ترهم أناه، ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا نعم فقل: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا نعم فقل: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردونها على فقرائكم؟ فإن قالوا نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك. والله، لأن يهدي الله علي يدك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت! قال: فخرج في ثلاثمائة فارس، فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد، فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد - وهي أرض مذحج - فرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك. فجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقاهم جمع، ثم لقي جمعاً فدعاهم إلى الإسلام وحرض بهم، فأبوا ورموا في أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السلمى فتقدم به، فبرز ورجل من مذحجٍ يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن الخزاعي السلمى، فتجاولا ساعة وهما فارسان، فقتله الأسود وأخذ سلبه. ثم حمل عليهم علي بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً، فكف عن طلبهم ودعاهم إلىالإسلام، فسارعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام، فسارعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله! قال: فحدثني عمر بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، قال: وجمع علي عليه السلام ما أصاب من تلك الغنائم فجزأها خمسة أجزاء؛ فأقرع عليهان فكتب في سهم منها لله فخرج أول السهام سهم الخمس، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً. فكان من قبله يعطون أصحابهم الحاضر دون غيرهم من الخمس. ثم يخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فر يرده عليهم، فطلبوا ذلك من علي عليه السلام فأبى وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى فيه رأيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم، ونلقاه ويصنع فيها ما أراه الله. فانصرف راجعاً، وحمل الخمس وساق معه ما كان ساق، فلما كان بالفتق تعجل. وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع، فكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن، أحمال معكومة، ونعم تساق مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم.
قال أبو سعيد الخدري وكان معه في تلك الغزوة قال: وكان علي عليه السلام ينهانا أن نركب على إبل الصدقة؛ فسأل أصحاب علي عليه السلام أبا رافع أن يكسوهم ثياباً فكساهم ثوبين ثوبين. فلما كانوا بالسدرة داخلين مكة، خر علي عليه السلام يتلقاهم ليقدم بهم فينزلهم، فرأى علي أصحابنا ثوبين ثوبين على كل رجل، فعرف الثياب فقال لأبي رافع: ما هذا؟ قال: كلموني ففرقت من شكايتهم، وظننت أن هذا يسهل عليك، وقد كان من كان قبلك يفعل هذا بهم. فقال رأيت إبائي عليهم ذلك! وقد أعطيتهم، وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت، فتعطيهم! قال: فأبى علي عليه السلام أن يفعل ذلك حتى جرد بعضهم من ثوبيه، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا، فدعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ فقال: ما أشكيتهم؟ قسمت عليهم ما غنموا، وحبست الخمس حتى يقدم عليك وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أموراً، ينفلون من أرادوا من الخمس، فرأيت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فحدثني سالم مولى ثابت، عن سالم مولى أبي جعفر، قال:
لما ظهر علي عليه السلام على عدوه ودخلوا في الإسلام، جمع ماغنم واستعمل عليه بريدة بن الحصيب، وأقام بين أظهرهم، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره أنه لقى جمعاً من زبيد وغيرهم، وأنه دعاهم إلى الإسلام وأعلمهم أنهم إن أسلموا كف عنهم، فأبوا ذلك وقاتلهم. قال علي عليه السلام: فرزقني الله الظفر عليهم حتى قتل منهم من قبل. ثم أجابوا إلى ما كان عرض عليهم، فدخلوا في الإسلام وأطاعوا بالصدقة، وأتى بشر منهم للدين، وعلمهم قراءة القرآن. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافيه في الموسم، فانصرف عبد لله بن عمرو بن عوف إلى علي عليه السلام بذلك.
قال: فحدثني سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن يونس بن ميسرة ابن حليس، قال: لما قدم علي بن أبي طالب عليه السلام اليمن خطب به، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته، فأقبل على راحلته في حلة، معه حبر من أحبار اليهود، حتى استمعا له فواقفاه، وهو يقول: إن من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. قال كعب: صدق! فقال علي: وفيهم من لايبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. فقال كعب: صدق! فقال علي عليه السلام: ومن يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة. فقال كعب: صدق! فقال الحبر: وكيف تصدقه؟ قال: أما قوله: " من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار " فهو المؤمن بالكتاب الأول ولا يومن بالكتاب الآخر.
وأما قوله: منهم من ريبصر بالليل ولا يبصر بالنهار فهو الذي لا يؤمن بالكتاب الأول ولا الآخر. وأما قوله: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة فهو ما يقبل الله من الصدقات. قال: وهو مثل رأيته بين! قالوا: وجاء كعباً سائل فأعطاه حلته، ومضى الحبر مغضباً؟ ومثلت بين يدي كعب امرأة تقول: من يبادل راحلةً براحلة؟ فقال كعب: وزيادة حلة؟ قالت نعم! فأخذ كعب وأعطى، وركب الراحلة ولبس الحلة، وأسرع السير حتى لحق الحبر وهو يقول: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة! قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن نسطاس، عن عمرو بن عبد الله العبسي، قال: قال كعب الأحبار: لما قدم علي عليه السلام اليمن، لقيته فقلت: أخبرني عن صفة محمد. فجعل يخبرني عنه،وجعلت أتبسم فقال: مم تتبسم فقلت: مما يوافق ما عندنا من صفته. فقال: ما يحل وما يحرم، فقلت: فهو عندنا كما وصفت! وصدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به. ودعوت من قبلنا من أحبارنا، وأخرجت إليهم سفراً فقلت: هذا كان أبي يختمه على ويقول: لا تفتحه حتى تسمع بنبى يخرج بيثرب. قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، فقدمت في خلافه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وياليت أني كنت تقدمت في الهجرة!
باب ما جاء يؤخذ من الصدقاتأخبرنا ابن أبي حية قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني سالم مولى ثابت، عن يحيى بن شبل، قال: قرأت كتاباً عند أبي جعفر فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به محمد رسول الله، أن يؤخذ من صدقات المسلمين من سوائم مواشيهم من كل أربعين شاةٍ شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاة إلى المائتين، فإذا زادت ففيها ثلاث إلى ثلاثمائة، فإذا زادت شاة ففي كل مائة شاةٍ شاة. وفي صدقة الإبل، في أربع وعشرين فما دونها الغنم في كل خمس شاة، وفي صدقة الإبل، في أربع وعشرين فما دونها الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم يوجد بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ ستا وأربعين، ففيها حقة إلى أن تبلغ إحدى وتسعين، ففيها حقتان طروقتا الفحل، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا يتس، ولا ذات عوار، إلا أن يشاء المصدق، ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرقين، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين نت لبون، وليس فيما دون ثلاثين من البقر صدقة، وفي كل ثلاثين جذع أو جذعة، وفي كل أربعين مسنة. وفيما سقت السماء أو سقى بالغيل العشر، ما سقى بالغرب نصف العشر، ومن كان على يهودية أو نصرانية لم يفتن عنها، وأخذ منه دينار على كل حالم، أو عدله من المعافري.
قال: حدثنا إبراهيم بن أبي بكر بن المكيدر، عن حسين بن أبي بشير المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا مع علي عليه السلام باليمن، فرأيته يأخذ الحب من الحب، والبعير من الإبل، والشاء من الغنم، والبقرة من البقر، والزبيب من الزبيب، وكان لا يكلف الناس مشقة، وكان يأتيهم في أفنيتهم فيصدق مواشيهم ويأمر من يسقب بذلك، وكان لا يفرق الماشية، كان يقعد فما أتى به من شاةٍ فيها وفاء له أخذها، ويأمر من يسقب بذلك ويقسم على فقرائهم يسقب: يسعى عليهم يأخذ الصدقة من ها هنا ومن ها هنا؛ يعرفهم.
قال: حدثنا الحارث بن محمد الفهري، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رجاء بن حيوة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن سعيد بن العاص مع رسل حمير، وبعث علياً عليه السلام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اجتمعتما في مكيدةٍ فعلى على الناس، وإن افترقما فكل على حدة. قال رجاء: وكان قد قضي بها قضية؛ دية النفس مائة من الإبل على أهل الإبل، وألفى شاة على أهل الغنم؛ مائتي جذعة أي ثم ضالع الشاة جذعة، ثم ثنية ومائتي بقرة نصفها تبيع قالوا: احتفر قوم باليمن بشراً، فأصبحوا وقد سقط فيها أسد، فأصبح الناس ينظرون إليه، فسقط إنسان في البئر، فتعلق بآخر فتعلق الآخر بآخر حتى كانوا في البئر أربعة؛ فحرب الأسد بهم فقتلهم، فأهوى له رجل برمحه فقتله. فقال الناس: الأول عليه ديتهم فهو قتلهم.
فأرادوا يقبلون، فمر بهم على عليه السلام فقال: أنا أقضي بينكم بقضاء، فمن رضي فهو إلى قضائه، ومن تجاوز إلى غيره فر حق له حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فيكم؛ اجمعوا من حضر البئر من الناس! فجمعوا كل من حضر البئر، ثم قال: ربع دية، وثلث دية، ونصف دية، ودية تامة؛ فالأسفل ربع دية، من أجل أنه هلك من فوقه ثلاثة؛ وللثاني ثلث الدية، لأنه هلك اثنان، وللثالث نصف الدية، من أنه هلك فوقه واحد؛ وللأعلى الدية كاملة. فإن رضيتم فهو بينكم قضاءن وإن لم ترضوا فلا حق لكم حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقضي بينكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته وهم عشرة نفر، فجلسوا بين يديه وقصوا عليه خبرهم، فقال: أنا أقضي بينكم إن شاء الله! فقام أحد النفر فقال: يا رسول لله، إن عليا قد قضى بيننا. فقالك فيم قضى بينكم؟ فأخبروه بما فضى به، فقال: هو ماقضى به. فقام القوم فقالوا: هذا قضاء من رسول الله. فلزم المقضى عليهم وسألهم عن الأسد، أهي في بلادهم. فقالوا: يا رسول الله، إنها لكثيرة تغير على ماشيتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم عن الأسد؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنه غدا على ابن لحواء فأكله، فأقبلت عليه حواء فقالت: ويلك، أكلت ابني! قال: وما يمنعني أن آكل رزقاً ساقه الله إلي. فأقبل آدم فقال: ويلك، تخاطبها وقد أكلت ابنها؟ اخسأ! فطأطأ رأسه، فلذلك لا يمشي إلا غيرها، وإن شئتم تركته يجالسكم وتحذرون منه. فخلا بعضهم ببعض فقالوا: وظف له وظيفة. فقال بعضهم: نخشى ألا يحملها قومنا ولا يطيعون بها، فنكون قد قلنا لرسول اله صلى الله عليه وسلم قولاً لا نفي به. فقالوا: يا رسول الله، دعه يجالسنا ونتحذر منه. فقال: فذاك! فولى القوم راجعين إلى قومهم، فلما قدموا على قومهم أخبروهم فقالوا: والله ماهديتم لرشدكم، لو قبلتم ما وظف له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنتم منه. فهيأوا رجلاً يبعثونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقاه الرسول.
قال: وحدثني أبو بكر بن عبد الله، وحاتم بن إسماعيل مولى لآل الحارث بن كعب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: قدم علي عليه السلام من اليمن، فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك على عليها فقالت: أمرني بهذا أبي! قال علي، وهو بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ذكرت عنه، وأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقالت أبي أمرني بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت! ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال، قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك! قال: فإن معي الهدي فر تحل! فكانت جماعة الهدي الذي جاء به علي عليه السلام والذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مائة بدنة، فحل الناس وقص من لم يكن معه هدى، ثم نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وأشرك علياً عليه السلام في هديه.
حجة الوداعقال: حدثني معمر بن راشد، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وموسى ابن محمد، وابن أبي ذئب، وأبو حموة عبد الواحد بن ميمون، وحزام ابن هشام، وابن جريج، وعبد الله بن عامر، فكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفةٍ، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير من سميت قد حدثنا أيضاً، قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام يضحى بالمدينة كل عام، لا يحلق ولا يقصره ويغزو المغزي، ولم يحج حتى كان في ذي القعدة سنة عشر من مهاجره، فأجمع الخروج وآذن الناس بالحج، وقدم المدينة بشر كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بعمله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاث عمر، أولها عمرة الحديبية، نحر بالحديبية وحلق في ذي القعدة سنة ست، ثم عمرة القضية سنة سبع في ذي القعدة، وأهدى ستين بدنة، ونحر عند المروة وحلق، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: سألت سعيد بن المسيب: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن نبي إلى أن توفي؟ قال: حجة واحدة من المدينة. قال الحارث: فسألت أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، قال: حج حجة بمكة قبل الهجرة وبعد النبوة، وحجته من المدينة. وكان مجاهد يقول: حجتين، قبل الهجرة والأمر المعروف عندنا الذي اجتمع عليه أهل بلدنا، إنما حج حجة واحدة من المدينة، وهي الحجة التي يقول الناس إنها حجة الوداع.
قال: فحدثني الثورى، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كره أن يقال حجة الوداع. فقيل: حجة الإسلام؟ قال: نعم.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين، وأحرم عند صلاة الظهر من يومه ذلك، وهذا الثبت عندنا. قال: فحدثنا عاصم بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى ذي الحليفة عند الظهر، فبات لأن يجتمع إليه أصحابه والهدي حتى أحرم عند الظهر من الغد.
قال: فحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن أبيه، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته مدهناً مترجلاً متجرداً حتى أتى ذا الحليفة.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في ثوبين صحاريين، إزار ورداء، وأبدلهما بالتنعيم بثوبين من جنسهما.
قالوا: لما اجتمع إليه نساؤه وكان حج بهن جميعاً في حجته في الهوادج وانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماع أصحابه والهدي، دخل مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى الظهر وصلى ركعتين، ثم خرج فدعا بالهدى فأشعره في الجانب الأيمن، وقلد نعلين. ثم ركب ناقته، فلما استوى بالبيداء أحرم.
فقال: فحدثني خالد بن إلياس، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة قالت: انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة ليلاً، ومعنا عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، فبتنا بذي الحليفة، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت الهدي يعرض عليه، فلما صلى الله عليه وسلم الظهر أشعر هديه وقلده قبل أن يحرم. ولاقول الأول أثبت عندنا أنه لم يبت.
قال محمد بن نعيم المجمر، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشعر بدنه أتى ببدنة فأشعرها هو بنفسه وقلدها. وكان ابن عباس يقول: أشعرها ووجهه إلى القبلة؛ وساق مائة بدنة. ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يشعر ما فضل من البدن ناجية بن جندب، فاستعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهدي.
قال: فحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن ناجية بن جندب، قال: كنت على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، وكان معي فتيان من أسلم، كنا نسوقها سوقاً نبتغير بها الرعي، وعليها الجلال، فقلت: يا رسول الله، أرأيت ما عطب منها، كيف أصنع به؟ قال: تنحره وتلقى قلائده في دمه، ثم تضرب به صفحته اليمنى، ثم لا تأكل منها ولا أحد من أهل رفقتك.
قال: ثم قدمنا مكة بعد يوم، ثم رحلنا يوم التروية إلى عرفة بالهدي، ثم انحدرنا من عرفة حتى انتهينا إلى جمع، ثم انتهينا من جمعٍ إلى منزل النبي صلى الله عليه وسلم أن سق الهدي إلى المنحر! فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحر الهدي بيديه وأنا أقدمها إليه تعتب في العقل.
قالوا: ومر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يسوق بدنه فقال: اركبها ويلك! قال: إنهابدنة! قال: اركبها! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المشاة أن يركبوا على بدنه.
قالوا: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: طيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إحرامه بيدي. وكانت تقول: أحرمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيبت، فلما كنا بالقاحة سال من الصفرة على وجهي فقال: ما أحسن لونك الآن يا شقيراء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بين مكة والمدينة ركعتين، آمنا لا يخاف إلا اله تعإلى، فلما قدم مكة صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم سلم، ثم قال: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا سفر! وقد اختلف علينا فيما أهل به صلى الله عليه.
قال: فحدثني ابن أبي طوالة، عن حبيب بن عبد الرحمن، عن محمود ابن لبيد، عن أبي طلحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن مع حجته عمرة.
قال: وحدثني مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت، قلت: يا رسول الله، تأمر الناس أن يحلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هدبي، فلا أحل حتى أنحر هدبي.
حدثني سعمر، عن الزهري، عن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث، عن سعد بن أبي وقاص؛ ومعمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: قالا. أخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة وساق الهدي.
قال: فحدثني مالك بن أنس، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فكان هذا الأمر الذي أخذ به أهل المدينة وثبت عندهم. قالت عائشة: وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحد بملل، ثم راح فتعش بشرف السيالة، وصلى بالشرف الغرب والعشاء، وصلى الصبح بعرق الظبية بين الروحاء والسيالة وهو دون الروحاء، في المسجد الذي عن يمين الطريق. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الروحاء، فإذا بحمارٍ عقيرٍ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، هذا حمار عقير، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، هذا حمار عقير. قال: دعوه حتى يأتي صاحبه. فجاء النهدى وهو صاحبه فأهداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين أصحابه، وقال: صيد البر لكم حلال، إلا ما صدتم أو صيد لكم. ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلممن الروحاء فصلى العصر بالمنصرف، ثم صلى المغرب والعشاء وتعشى به، وصلى الصبح بالأثاية وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج.
قال: فحدثني أبو حمزة عبد الواحد بن مصون، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: وكان أبو بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: إن عندي بعيراً نحمل عليه زادنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إذا! قالت: فكانت زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بزاد، دقيقٍ وسويق، فجعل على بعير أبي بكر. وكان غلامه يركب عليه عقبة، فلما كان بالأثاية عرس الغلام وأناخ بعيره فغلبته عيناه، فقام البعير يجر خطامه آخذاً في الشعب، وقام الغلام فلزم الطريق، يظن أنه سلكها، وهو ينشده فلا يسمع له بذكر. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبيات بالعرج، فجاء الغلام مظهراً. فقال أبو بكر رضي الله عنه: أين بعيرك؟ قال: ضل مني! قال: ويحك، لو لم يكن إلا أنا لهان الأمر علي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله! فلم يلبث أن طلع به صفوان بن المعطل، وكان صفوان على ساقة الناس، وأناخه على باب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: انظر هل تفقد شيئاً من متاعك! فنظر فقال: مانفقد شيئاً إلا قعباً كنا نشرب به، فقال الغلام: هذا القعب معي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: أدى الله عنك الأمانة! قال: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن أسماء بنت أبي بكر رضي اله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل العرج جلس بفناء منزله، ثم جاء أبو بكر رضي الله عنه فجلس إلى جنبه، فجاءت عائشة رضي الله عنها فجلست إلى جنبه الآخر، وجاءت أسماء فجلست إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه، وأقبل غلام أبي بكر متسربلاً، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أين بعيرك؟ قال: أضلني. فقام إليه أبو بكر رضي الله عنه يضربه ويقول: بعي واحد يضل منك؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: ألا ترون إلى هذا المحرم وما يصنع؟ وما ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فحدثني أبو حمزة، عن عبد الله بن سعد الأسلمي، عن آل نضلة الأسلمي، أنهم خبروا أن زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت، فحملوا جفنة من حيس فأقبلوا بها حتى وضعوها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: " هلم يا أبا بكر، فقد جاءك الله بغداء طيب " ! وجعل أبو بكر رضي الله عنه يغتاظ على الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هون عليك، فإن الأمر ليس إليك، ولا إلينا معك " ! قد كان الغلام حريصاً ألا يضل بعيره، وهذا خلف مما كان معه. فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله وأبو بكر، وكل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شبعوا.
قال: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد بزاملة تحمل زاداً، يومان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يجدا الرسول صلى الله عليه وسلم واقفاً عند باب منزله قد أتى الله بزاملته، فقال سعد: يا رسول الله، قد بلغنا أن زاملتك أضلت مع الغلام، وهذه زاملة مكانها. فقال رسول الله، قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله عليكما! أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟ قال سعد: يا رسول الله، المنة لله ولرسوله، والله يا رسول الله، للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الذي تدع. قال: صدقتم يا أبا ثابت، أبشر فقد أفلحت! إن الأخلاق بيد الله عز وجل، ومن أراد الله أن يمنحه منها خلقاً صالحاً منحه، ولقد منحك الله خلقاً صالحاً. فقال سعد: الحمد لله الذي هو فعل ذلك! قال ثابت بن قيس: يا رسول الله، إن أهل بيت سعد في الجاهلية سادتنا والمطعون في المحل منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لهم ما أسلموا عليه " .
قال ابن أبي الزناد، يقول له جميل ذكره، قال: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيى جمل، وهو محرم، في وسط رأسه قال: حدثني بذلك محمد، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وسليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن الأعرج، عن ابن بحينة، قالوا: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم السقيا يوم الأربعاء، ثم أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء، فأهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار يقطر دماً، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنا حرم فكان معاوية يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بالأبواء لياء مقشى أهدى له من ودان، ثم قام فصلى ولم يتوضأ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي ينظر وادي الأبواء، على يسارك وأنت موجه إلى مكة. ثم راح النبي صلى الله عليه وسلم من الأبواء فصلى بتلعات اليمن، وكان هناك سمرة. كان ابن عمر يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها، وكان ابن عمر يصب الإداوة تحتها إذا مر بها، يسقيها.
قال: حدثني أفلح بن حميد، عن أبيه، قال: كان ابن عمر يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها، وأن ابن عمر كان يصب الإداوة تحتها في أصل السمرة، يريد بقاءها.
قال: فحدثني أفلح بن حميد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي هناك حين يهبط. من ثنية أراك على الجحفة، ونزل يوم الجمعة الجحفة، ثم راح منها فصلى في المسجد الذي يحرم منه مشرفاً خارجاً من الجحفة، والمسجد الذي دون خم عن يسار الطريق، فكان يوم السبت بقديد، فصلى في المسجد المشلل، وصلى في المسجد الذي أسفل من لفت.
قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن أبيه، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بامرأة في محفتها، ومعها ابن لها صغير، فأخذت بعضده فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ فقال: نعم، ولك أجر وكان يوم الأحد بعسفان، ثم راح فلما كان بالغميم اعترض المشاة، فصفوا له صفوفاً فشكوا إليه المشي، فقال: استعينوا بالنسلان. ففعلوه فوجدوا لذلك راحة. وكان يوم الاثنين بمر الظهران، فلم يبرح منها حتى أمسى، وغربت له الشمس، فلم يصل المغرب حتى دخل مكة. فلما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما، بين كدى وكداء، ثم أصبح فاغتسل، ودخل مكة نهاراً.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعد، عن عكرمة. عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة نهاراً من كدى على راحلته القصواء إلى الأبطح، حتى دخل من أعلى مكة حتى انتهى إلى الباب الذي يقال له باب بني شيبة. فلما رأى البيت رفع يديه، فوقع زمام ناقته فأخذه بشماله. قالوا: ثم قال حين رأى البيت: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً! قال: فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المسجد بدأ بالطواف قبل الصلاة. قالوا: ولما انتهى إلى الركن اسلمه وهو مضطبع بردائه، وقال بسم الله، والله أكبر! ثم رمل ثلاثة من الحجر. وكان يأمر من يستلم الركن أن يقول: بسم الله، والله أكبر! إيماناً بالله، وتصديقاً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني ابن جريج، عن يحيى بن عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن السائب المخزومي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والأسود: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " .
قال: فحدثني عبد الله بن جعفر، عن عاصم بن عبد الله، عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستلم من الأركان إلا اليماني والأسود، ومشى أربعة. قالوا: ثم انتهى إلى خلف المقام فصلى ركعتين، يقرأ فيهما: " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " ، ثم عاد إلى الركن فاستلمه. وقد قال لعمر: إنك رجل قوي؛ إن وجدت الركن خالياً فاستلمه، وإلا فلا تزاحم الناس عليه فتؤذي وتؤذى. وقال لعبد الرحمن بن عوف: وكيف صنعت بالركن يا أبا محمد؟ قال: استلمت وتركت. قال: أصبت! ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وقال: أبدأ بما بدأ الله به.
قال: فحدثني عبد الله بن وفدان، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الله بن ثعلبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة على راحلته من فوره ذلك.
قال: حدثني الثوري، عن حماد. عن سعيد بن جبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد، وهو ساكن، فطاف بين الصفا والمروة على راحلته.
قال: حدثني ابن أبي جريج، عن مجاهد، قال: طاف يومئذ على بغلته. والأول أثبت عندنا، وهو المعروف على راحلته.
قالوا: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فكبر سبع تكبيرات، وقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! ثم دعا بين ذلك، ثم نزل إلى المروة، فلما انصبت قدماه في الوادي رمل.
قال: فحدثني علي بن محمد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن برة بنت أبي تجراة قالت: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسعى قال: أيها الناس، إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا! فسعى حتى رأيت إزاره انكشف عن فخذه. وقالوا: قال في الوادي: رب اغفر وارحم، وأنت الأعز الأكرم! فلما انتهى إلى المروة فعل عليها مثل ما فعل على الصفا، فبدأ بالصفا وختم بالمروة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اضطرب بالأبطح.
قال: فحدثني برد أن إبراهيم بن أبي النضر حدثه، عن أبيه، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ، قالت، قلت: يا رسول الله، ألا تنزل في بيوت مكة؟ فأبى واضطرب بالأبطح حتى خرج يوم التروية، ثم رجع من منى فنزل بالأبطح حتى خرج إلى المدينة، ولم ينزل بيتاً ولم يظله. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، فلما انتهى إلى بابها خلع نعليه؛ ودخل مع عثمان بن أبي طالحة، وبلال، وأسامة بن زيد، فأغلقوا عليهم الباب طويلاً ثم فتحوه. قال ابن عمر: فكنت أول الناس سبق إليه، فسألت بلالاً: أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؟ قال: نعم، ركعتين بني الأسطوانتين المقدمتين وكان على ستة أعمدة.
فحدثني ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في نواحيه ولم يصل.
قالوا: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: فعلت اليوم أمراً ليتني لم أك فعلته! دخلت البيت فعسى الرجل من أمتي لا يقدر أن يدخله، فتكون في نفسه حرارة، وإنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول. وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله بن موسى، قال: سمعت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يقول: كسا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت في حجته الحبرات.
قالوا: وكانت الكعبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعاً.
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهو يوم التروية، فيما اجتمع لنا عليه وخطب رسو لاله صلى الله عليه وسلم قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة.
قال: فحدثني هشام بن عمارة، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن عمارة بن حارثة الظفري، عن عمرو بن يثربي الضمري، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، ويوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، والغد من يوم النحر بمنى بعد الظهر. قال الواقدي: هذا الأمر المأخوذ به المعروف. ويقال: إن يوم الجمعة وافق يوم التروية، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الركن والمقام، فوعظ الناس وقال: من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل. وركب حين زاغت الشمس بعد أن طاف بالبيت أسبوعاً، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، ونزل بموضع دار الإمارة اليوم. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، ألا نبني لك كنيفاً؟ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: منى منزل من سبق!
قال: حدثني ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركب من منى حتى رأى الشمس قد طلعت، ثم ركب فانتهى إلى عرفة فنزل بنمرة، وقد ضرب له بها قبة من شعر. ويقال: إنما قال إلى فيء صخرة، وميمونة زوجته تتبع ظلها حتى راح، وأزواجه في قباب أو في قبة حوله. فلما كان حين زاغت الشمس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم براحلته القصواء، فرحلت إلى بطن الوادي بطن عرنة.
قالوا: وكانت قريش لا تشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجاوز المزدلفة يقف بها، فقال له نوفل بن معاوية الديلي، وهو يسير إلى جنبه: يا رسول الله، ظن قومك أنك تقف بجمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كنت أقف بعرفة قبل النبوة خلافاً لهم! وقال جبير بن مطعم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف بعرفة قبل النبوة، وكانت قريش كلها تقف بجمع إلا شيبة بن ربيعة. وإن موسى بن يعقوب حدثني، عن عمه، عن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: كان شيبة بن ربيعة من بين قريش يقف بعرفة، عليه ثوبان أسودان، وزمام بعيره من شعر بين غرزين أسودين، حتى يقف مع الناس بعرفة ثم يدفع بدفعهم، فإننا لا نتكلم مع الناس يعني العرب كانت تقف بعرفة: وقريش بجمع تقول: نحن أهل الله.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس ببطن عرفة على ناقته القصواء، فلما كان آخر الخطبة أذن بلال وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، فلما فرغ بلال من أذانه تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات وأناخ راحلته؛ وأقام فصلى العصر، جمع بينهما بأذان وإقامتين.
فحدثني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يومئذ في وادي عرفة، ثم ركب. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده إلى الناس أن يقفوا إلى عرفة.
خطبة النبي بعرفة قبل الصلاتينوكان من خطبته يومئذ: " أيها الناس، إني والله ما أدري لعلي لا ألقاكم بمكاني هذا بعد يومكم هذا! رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه! واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا! واعلموا أن الصدور لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أهل الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم! ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول دماء الجاهلية أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضع كله، وأول رباً أضه ربا العباس بن عبد المطلب. اتقوا الله في النساء، فإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح؛ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله تبارك وتعإلى! وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون " ؟ قالوا: نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت! ثم قال، بإصبعه السبابة إلى السماء، يرفعها ويكبها ثلاثاً: " اللهم، اشهد " ! قال: فحدثني محمد بن عبد الله. عن عمه الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بالهضاب من عرفة فقال: كل عرفة موقف إلا بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف إلا بطن محسر، وكل منى منحر إلا خلف العقبة.
قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من هو بأقصى عرفة فقال: الزموا مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم.
قال: فحدثني إسحاق بن حازم، عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: عرفة أول جبل مما يلي عرنة إلى جبل عرفة، كله من عرفة. قال: وقال ابن عباس: نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، وهو ماد يديه، يقبل براحتيه على وجهه.
وقالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أفضل دعائي ودعاء من كان قبلي من الأنبياء: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير " !
قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التومة، عن ابن عباس، أن ناساً اختلفوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة. فقالت أم الفضل: أنا أعلم لكم عن ذلك! فأرسلت إليه بعس من لبن، فشرب وهو يخطب. قالوا:: ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته حتى غربت الشمس يدعو. وكان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كهيئة العمائم على رؤوس الرجال. فظنت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع كذلك، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه حتى غربت الشمس، وكذلك كانت دفعة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن أسمامة بن زيد، قال: سمعته يسأل عن سير النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: كان يسير العنق، وإذا وجد فجوة نص والنص: فوق العنق.
قال: فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس، على رسلكم! عليكم بالسكينة، ليكف قويكم عن ضعيفكم " .
قال: فحدثني معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: ما رفعت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يديها في شيء من الدفعتين واضعة حتى رمى جمرة.
قال: فحدثني محمد بن مسلم الجهني، عن عييم بن جبير بن كليب الجهني، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دفع من عرفة إلى جمع، والنار توقد بالمزدلفة وهو يؤمها حتى نزل قريباً منها.
قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن خارجة، عن أبيه، قال: لما أبصر سليمان بن عبد الملك النار، قال لخارجة بن زيد: متى كانت هذه النار يا أبا يزيد؟ قال: كانت في الجاهلية، وضعتها قريش؛ لا تخرج من الحرم إلى عرفة إلا تقول: نحن أهل الله! وقد أخبرني حسان بن ثابت وغيره في نفر من قومي أنهم كانوا يحجون في الجاهلية فيرون تلك النار.
قال: فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن عمر بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى الشعب! قال: وهو شعب الإذخر يسار الطريق بين المأزمين، ولم يصل.
قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة، ومل يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر، قال: صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذان وإقامتين.
قالوا: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من النار والنار على قزح، وهو الجبل، وهو المشعر الحرام فلما كان في السحر أذن لمن استأذنه من أهل الضعف من الذرية والنساء.
قال: حدثني أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، أن سودة بنت ربيعة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في التقدم من جمع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها وحبس نساءه حتى دفعن بدفعه حين أصبح. قالت عائشة رضي الله عنها: فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلي من مفروج به.
قال: فحدثني ابن أبي سبره، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمران ابن أبي أنس، عن أمه، قالت: تقدمت مع سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حجته فرمينا قبل الفجر.
قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه كان يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله فرموا الجمرة مع الفجر.
قال: فحدثني جبير بن زيد، عن أبي جعفر، قال: لما برق الفجر، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم ركب على راحلته القصواء، ثم وقف على قزح. وكان أهل الجاهلية لا يدفعون من جمع حتى تطلع الشمس على ثبير، ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قريشاً خالفت عهد إبراهيم! فدفع قبل طلوع الشمس، وقال: هذا المقف، وكل المزدلفة موقف! قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: جمع من أقصى المأزمين إلى القرن الذي خلف وداي محسر.
قال: فحدثني الثوري، عن ابن الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق