ابودي اندكس البريد

الحاج سليمان

الاثنين، 8 مايو 2023

قيم تربوبة من قصص سورة الكهف


قيم تربوبة من قصص سورة الكهف
المكتبة القرآنية
الكتاب الخامس 
قيم تربوية مستنبطة
من قصص سورة الكهف  تأليف الأستاذ
حسني محمد العطار /2012م – 1434هـ


بسم الله الرحمن الرحيم


{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ
مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}


سورة يوسف: آية 111


الإهداء


إلى والدي يرحمه الله
إلى أمي نفعني الله ببركة دعائها
إلى إخوتي وأخواتي
إلى كل من أحبني في الله
إلى كل من علمني حرفاً


المقدمة


الحمد لله الذي قص علينا أحسن القصص في كتابه الكريم، والصلاة والسلام على الهادي سواء السبيل، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن والاهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن رحمة الله تعالى بالبشر أن بعث إليهم رسله وأنبياءه، وأنزل عليهم من وحي السماء كتباً، كل واحد منهم حسب ما يتلاءم مع ظروف عصره وأمته, فقصوا على أقوامهم من القصص ما كان لها من التأثير والهداية.
وكان مما أُنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم هذا القرآن العظيم، والذي اشتمل على أعظم أساليب البيان، ومن ضمنها القصص، " ذلك أن الأسلوب القصصي يعتبر من أنجح الأساليب للتقويم والهداية, وقد روى القرآن أخبار الأمم، فقدمها إلى القلب والشعور بطرق مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن نوازع الشر، تحمل في طياتها بذور الإيمان.
ومن ناحية أخرى فإن القصة على اختلاف أنواعها كانت ولم تزل رفيقة الإنسان في جميع المراحل التاريخية التي مر بها, معبرة عن آماله وآلامه، كاشفة عن نظرته للحياة وفلسفته فيها". (1)
والمتدبر لكتاب الله تعالى (القرآن الكريم) يجد أنه استعمل القصة استعمالات ذات دلالة واضحة، ومن أهم هذه الدلالات والتوجيهات، الدلالات والتوجيهات التربوية على الخصوص.
__________
(1). التهامي نقرة: سيكولوجية القصة في القرآن ـ الشركة التونسية للتوزيع ـ تونس - الثانية ـ 1987 ـ ص ج.
(1/1)
________________________________________
ونحن في بحثنا هذا عن القيم التربوية في سورة الكهف، سنتناول أهم تلك الدلالات من خلال عرض القصص الثلاث الواردة في السورة:
قصة أصحاب الكهف.
وقصة موسي وفتاه والعبد الصالح.
وقصة ذي القرنين.
أولاً. أهمية الدراسة:-
تتمثل أهمية الدراسة فيما يلي:-
1. إبراز قيمة القصة في القرآن الكريم.
2. بيان الأسلوب الذي تم من خلاله عرض القصص القرآني.
3. التأثير الواضح للقصة على السامعين والقارئين.
4. عرض العقيدة الصحيحة والقيم الدينية والتربوية من خلال هذه القصص.


ثانياً. أهداف الدراسة:-
1. التعرف على أهم القضايا التي تناولتها سورة الكهف.
2. بيان القصص الواردة في السورة.
3. استنباط الأحكام والحكم من قصص سورة الكهف.
4. استخراج القيم التربوية الواردة في قصص سورة الكهف.
5. بيان كيفية الاستفادة من القيم التربوية الواردة في قصص سورة الكهف.


ثالثاً. سبب اختياري لهذا الموضوع:-
هناك مجموعة من الأسباب دفعتني لاختيار هذا الموضوع منها كما يلي:
1. حبي ورغبتي الدائمة في سماع وقراءة القصص القرآني.
2. التعريف بالقصص القرآني وبيان خصائصه.
3. الاستفادة من هذا القصص في حياتنا العملية وخصوصاً التعليمية.
4. التعرف على أهم القيم التربوية في هذه القصص.


رابعاً. الدراسات السابقة:-
كثيرة هي الدراسات التي تناولت القصص القرآني على العموم وسورة الكهف على الخصوص، ومن هذه الدراسات:
1. المدني: محمد (1964) , القصص الهادف كما نراه في سورة الكهف.
هدفت الدراسة إلى:
- التعريف بالسورة.
- ذكر سبب نزولها.
- بيان فضلها.
- تفسير السورة.
- بيان ما في السورة من قيم تربوية واجتماعية وعقائدية.
النتائج التي توصلت إليها الدراسة:
- فضل سورة الكهف على الكثير من سور القرآن.
- اشتملت السورة على مجموعة من القيم التربوية.
- بين الربط بين ورود القصص الثلاث في هذه السورة.
2. طنطاوي: محمد سيد (1996) , القيم التربوية في القصص القرآني.
(1/2)
________________________________________
هدفت الدراسة إلى:
- التعريف بالقصة القرآنية.
- بيان خصائص ومميزات القصة القرآنية.
- ذكر الأهداف الداعية لورود القصص في القرآن الكريم.
- استنباط القيم التربوية من القصة القرآنية.
- بيان كيفية الاستفادة من هذه القيم.
النتائج التي توصلت إليها الدراسة:
- اختلاف القصة القرآنية عن غيرها من القصص.
- وجود منظومة من القيم المتنوعة والمتعددة في القصص القرآني.
- وضع آلية مفصلة لكيفية الاستفادة من هذه القيم.
خامساً. منهج البحث:
سأتبع في دراستي هذه, المنهج الوصفي الاستقرائي، وكذلك المنهج التحليلي لما ورد في السورة من أحداث، منتهياً إلى أهم القيم التربوية المذكورة في كل قصة من القصص على حدة.
سادساً. خطة البحث:
تتألف خطة البحث من مقدمة وأربعة مباحث, وهي كما يلي:
أولاً. المقدمة: وتشتمل على أهمية الموضوع، وسبب اختيار الموضوع، والدراسات السابقة، ومنهج البحث ... وخطة البحت.
ثانياً. مباحث الدراسة:
المبحث التمهيدي, ويتكون من أربعة مطالب:-
المطلب الأول: حقيقة القصة.
المطلب الثاني: أنواع القصص القرآني.
المطلب الثالث: أهداف القصة القرآنية.
المطلب الرابع: خصائص القصة القرآنية.
المبحث الأول. القيم التربوية المستنبطة من قصص سورة الكهف, ويتكون من مطلبين:-
المطلب الأول: التعريف بسورة الكهف, وحقيقة القيم التربوية.
المطلب الثاني: القيم التربوية المستنبطة من قصص سورة الكهف.
المبحث الثاني. المجالات التوجيهية التربوية من خلال قصص سورة الكهف, ويتكون من مطلبين:-
المطلب الأول: توجيهات تربوية متعلقة بالعقيدة الإلهية.
المطلب الثاني: توجيهات تربوية متعلقة بالقضايا الحياتية.
المبحث الثالث. أهم الأساليب التربوية في سورة الكهف, ويتكون من مطلبين:-
المطلب الأول: أسلوب التوجيه التربوي بالقدوة.
المطلب الثالث: أسلوب التوجيه التربوي بالموعظة.
ثالثاً. الخاتمة:
وتتضمن أهم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها من خلال البحث.
(1/3)
________________________________________
رابعاً. الفهارس وتشتمل على:-
- فهرس الآيات القرآنية.
- فهرس الأحاديث الشريفة.
- كشف المصادر والمراجع.
- محتويات البحث.
داعياً الله أن ينفع بي وبهذه الدراسة الإسلام والمسلمين والعالمين.
أخيراً أرجو من الله تعالى أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إن أحسنت فمن الله و إن أخطأت فمن نفسي, وأن يثيبني ووالديّ على كل حرف كتبته، ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب كل من أعانني على إتمامه. والله الموفق.


التمهيد
القصة القرآنية
حقيقتها، أنواعها، أهدافها، خصائصها


كي يتمكن الباحث من تعيين القيم التربوية للقصص في القرآن الكريم، كان لابد له من أن يتعرف أولاً على حقيقة القصة، ثم على أنواعها وأهدافها وخصائصها.
وسيكون ذلك من خلال المطالب الأربعة التالية:
المطلب الأول: حقيقة القصة.
المطلب الثاني: أنواع القصص القرآني.
المطلب الثالث: أهداف القصة القرآنية.
المطلب الرابع: خصائص القصة القرآنية.


المطلب الأول
حقيقة القصة


أولاً. القصة لغةً:
القصة مأخوذة من المصدر (قصص)، والذي له عدة معانٍ منها:
الخبر: قص عليّ خبره يقصه قصاً (1)، ويأتي بمعنى الأمر والحديث, والجملة من الكلام. يقول الراغب الأصبهاني: القص هو تتبع الأثر، والقصص الأثر، والقصص الأخبار المتتابعة (2).
وبهذا المعنى ورد في القرآن الكريم: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (القصص/11)، ومنه قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلَىَ آثَارِهِمَا قَصَصاً} (الكهف/64)، ولهذا يقال للذي يقص القصص قصاصاً، لأنه يتتبع أحداث القصة خبراً, خبراً، وجمع القصة: قَصَصْ وقِصَصْ.
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، دار المعارف , مصر , 7/ 74.
(2) الراغب: مفردات ألفاظ القرآن، مصطفى البابي الحلبي , القاهرة, 671.
(1/4)
________________________________________
ولم ترد لفظة القصة مفردة في القرآن الكريم، وإنما وردت بلفظ القصص: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ} (آل عمران/62).
مما سبق يتبين لنا أن القصة في أصلها اللغوي مأخوذة من القص وهو اقتفاء الأثر وتتبعه، كما تأتي بمعنى الشأن والأمر والخبر.
ثانياً. القصة اصطلاحاً:
تعددت تعريفات العلماء والباحثين للقصة القرآنية:
1. عرّفها الإمام الرازي بأنها: مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة (1).
2. عرّفها الدكتور مناع القطان بأنها: أخباره عن أحوال الأمم الماضية، والنبوات السابقة والحوادث الواقعة، وقد اشتمل على كثير من وقائع الماضي وتاريخ الأمم وذكر البلاد والديار وتتبع آثار كل قوم وحكى عنهم صورة ناطقة لما كانوا عليه (2).
3. عرّفها الدكتور عبد الكريم الخطيب بأنها: ما حدث به من أخبار القرون الأولى في مجال الرسالات السماوية وما كان يقع في محيطها من صراع بين قوى الحق والضلال وبين مواكب النور وجحافل الظلام (3).
4. عرفت الدكتورة مريم السباعي القصة القرآنية بأنها: تتبع آثار وأخبار الأمم الماضية، وإيراد مواقفهم وأعمالهم وبخاصة مع رسل الله إليهم، مع إظهار آثار الدعوات فيهم، وذلك بأسلوب حسن جميل مع التركيز على مواطن العبرة والعظة (4).
العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي:
بالنظر في التعريفات السابقة نجد أن هناك ترابط وتلاقي بين التعريفين اللغوي والاصطلاحي, وأنه لا تباعد بينهما بل إن الاصطلاحي يعتمد كثيراً على اللغوي.
التعريف الراجح:
__________
(1) الرازي: مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية , بيروت , الأولى , 2000 , 8/ 74.
(2) القطان: مباحث في علوم القرآن، مكتبة وهبة , القاهرة , السابعة , ص300.
(3) عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، دار المعرفة , بيروت , الثانية , 1975 , ص40.
(4) مريم السباعي: القصة في القرآن الكريم، دار نهضة مصر , القاهرة , 1987 , ص30.
(1/5)
________________________________________
من خلال دراسة التعريفات السابقة، نرى أن تعريف الدكتورة مريم السباعي أرجح من غيره من التعريفات، للأسباب التالية:
- اشتمل على ما اشتملت عليه بقية التعريفات في كون القصص حديث عن الأمم الماضية والرسالات السابقة والحديث عن أخبارهم وأعمالهم.
- أنه يركز على أهمية العبرة والعظة وهو الهدف الرئيسي لورود القصص في القرآن الكريم.
- بيان أسلوب القرآن بأنه حسن جميل خلافاً لكثير من القصص البشري.


المطلب الثاني
أنواع القصص القرآني


تعددت مناهج الباحثين في تحديد أنواع القصص القرآني، فمنهم من قسمه حسب شخصيات القصة، ومنهم من قسمه على اعتبار طول القصة وقصرها.
أولاً: التقسيم باعتبار الشخصيات وهو التقسيم المشتهر عند أغلب العلماء وينقسم إلى ثلاثة أنواع (1):
1. قصص الأنبياء: وتضمن دعوة الأنبياء لأقوامهم، والمعجزات التي ظهرت على أيديهم، وموقف أقوامهم منهم، وعاقبة المؤمنين وعاقبة المكذبين، ومن أمثاله قصص نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم.
2. قصص يتعلق بحوادث وأشخاص مضت، مثل قصة ابني آدم، وقصة أهل الكهف وذي القرنين وأصحاب السبت ومريم عليها السلام وأصحاب الفيل ونحوهم.
3. قصص وحوادث وقعت زمن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، كالحديث عن الغزوات، غزوة بدر وأحد وغزوة حنين، والحديث عن الهجرة والإسراء والمعراج وغيرها.
ثانياً: التقسيم باعتبار الطول والقصر:
1. قصة طويلة ترد في مكان واحد مثل قصة يوسف، أو ترد مجزأة مثل قصص موسى وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء.
2. قصص قصير، مثل قصص النمل والهدهد وبقرة بني إسرائيل وغيرها.


المطلب الثالث
أهداف القصة القرآنية
كثيرة هي أهداف القصة القرآنية، وقد أفرد الباحثون والعلماء كتباً كثيرة لهذا الموضوع، إلا أننا سنختصر الحديث في نقاط محددة منها:
__________
(1) القطان: مباحث في علوم القرآن، ص 306.
(1/6)
________________________________________
1. تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود/120).
2. إثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ورسالته: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} (هود/49).
وفي هذا بيان أن مصدر الرسالات جميعها مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ثانياً بيان أن هذا القصص ما كان أحد يعرفه قبل نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
3. الاعتبار والعظة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف/111).
4. تصحيح العقائد الفاسدة وتثبيت العقائد الصحيحة، من خلال الدعوة للإيمان بالله وحده، والإيمان باليوم الآخر، وهي دعوة كل الرسل والأنبياء.
5. تقويم الخُلق والسلوك الفردي والجماعي، وذلك من خلال التركيز على القيم والسلوكيات الجميلة، والتحذير من عكسها، كما حدث لقوم لوط وأهل مدين وفرعون.
6. بيان أن القرآن الكريم معجز، وأنه من عند الله بما احتوى عليه من قصص بديع.
7. تنبيه الإنسان من الغفلة والأخذ به إلى طريق النجاة.
8. الترغيب والترهيب.
9. تطمين المؤمنين إلى حسن خاتمتهم، وأنهم هم المنصورين في نهاية المطاف، ودعوتهم بالصبر والتوكّل على الله.
10. بيان قدرة الله الخارقة، كقصة خلق آدم ومولد عيسى، ونجاة إبراهيم من النار.
المطلب الرابع
خصائص القصة القرآنية
للقصص القرآني خصائص ذاتية، وخصائص فنية:
أولاً: خصائصه الذاتية، ومنها:
1. أنه جزء من القرآن الكريم، فهو كلام الله الحق، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ} (الكهف/13)
2. القصص القرآني يعتمد على الواقعية والتعبير الصادق، متوافق مع الإنسان في حقيقته وواقعه.
3. غاية القصص في أمرها أو نهيها غاية سامية وهدفها نبيل.
4. موضوع القصص القرآني هو الإنسان، فهو المركز الذي تدور حوله القصص.
(1/7)
________________________________________
5. القصة وسيلة من وسائل القرآن في عرض أغراضه فهي ليست مستقلة كالقصة العادية، فهي وسيلة وليست غاية في حد ذاتها.
ثانياً: الخصائص الفنية للقصص القرآني:
يقول محمد قطب: قدمت القصص القرآني لوحات خالدة وصوراً مثيرة تلفت نظر الأعمى والبصير، والأمي والمتعلم والمرأة والرجل، والشيخ والشاب (1).
ومن أبرز الخصائص الفنية، ما يأتي:
1. ذكر ملخص القصة ثم عرض تفصيلاتها بعد ذلك، كما حدث مع قصة أصحاب الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف/9 - 12).
2. ذكر عاقبة القصة وهدفها في البداية، كما ورد في قصة يوسف عليه السلام: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يوسف/4 - 6).
3. ذكر القصة مباشرة بلا مقدمة أو تلخيص.
__________
(1) محمد قطب: القصة في القرآن، دار قباء , القاهرة , 2002 , ص28.
(1/8)
________________________________________
4. تحويل القصة إلى تمثيلية تتحدث عن نفسها بواسطة أبطالها، كما في قصة إبراهيم وإسماعيل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة/127 - 129).
5. كتم بداية القصة حتى نهايتها، كما حدث بين موسى والخضر عليهما السلام.
6. اعتناء القصة القرآنية في رسم شخصية القصة القوي المؤمن المتماسك في الجانب الإيماني والضعيف المنهار في جانب الكفر والشرك، وهذا يظهر في شخصية موسى ومريم من جانب وفرعون وقارون من جانب آخر.
7. وجود فراغات في القصة القرآنية، وهذا الأمر من أعظم خصائص القصة القرآنية وذلك حتى يشترك القارئ أو المستمع في التخيل وعمل العقل والتركيز والمشاركة الفاعلة وتوقع النهاية (1).
8. اشتمال القصة القرآنية على العناصر الأساسية للقصة الفنية ومنها: الشخصية والحوار والحدث والموضوع والتشويق والخاتمة (2).


المبحث الأول
القيم التربوية المستنبطة من قصص سورة الكهف
__________
(1) أنظر؛ التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، دار الشروق , القاهرة , السادسة عشرة , 2002 , ص187/ 188.
(2) أنظر؛ القصة في القرآن الكريم، مريم السباعي، ص34.
(1/9)
________________________________________
يركز القرآن الكريم كثيراً على التربية, وبالتالي يهتم اهتماماً بالغاً بأمر القيم التربوية لما لها من تأثير في تغيير المفاهيم والسلوك, ونحن في هذا المبحث سنتناول دراسة القيم التربوية بالإضافة إلى التعريف بسورة الكهف, ومن ثم الحديث عن القيم التربوية المستنبطة من السورة, وذلك من خلال المطلبين التاليين كما يلي: -


المطلب الأول: التعريف بسورة الكهف, وحقيقة القيم التربوية.
المطلب الثاني: القيم التربوية المستنبطة من قصص سورة الكهف.


المطلب الأول
التعريف بسورة الكهف , وحقيقة القيم التربوية


أولاً: سورة الكهف:
1. سُميت بهذا الاسم لاشتمالها على قصة أصحاب الكهف وما فيها من معجزات ومن أسمائها سورة أصحاب الكهف، وسورة الحائلة، لأنها تحول بين قارئها والنار.
2. فضلها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال" (1)، ما رواه الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق" (2).
3. أهداف السورة: للسورة أهداف كثيرة منها:
- تصحيح العقيدة.
- تصحيح منهج الفكر والنظر.
- تصحيح المفاهيم والقيم بميزان العقيدة.
- بيان تأييد الله تعالى للمؤمنين.
4. مكونات السورة: تتكون السورة من مقدمة وستة أقسام: المقدمة من الآية الأولى إلى الآية الثامنة.
- القسم الأول: من الآية 9 - 31، وفيه الحديث عن أصحاب الكهف وقصتهم.
- القسم الثاني: من الآية 32 - 49، وفيه الحديث عن الرجلين المؤمن والعاصي.
__________
(1) صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج، دار الخير، بيروت، الثالثة، 1996م، ك صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف، ح (809) 2/ 417.
(2) سنن الدارمي: عبد الله بن بهرام الدارمي، دار الفكر، بيروت، 1994م، ك فضائل القرآن، باب فضل سورة الكهف، ح (3402) 2/ 306.
(1/10)
________________________________________
- القسم الثالث: من الآية 50 - 59، وفيه مجموعة من الأوامر والنواهي.
- القسم الرابع: من الآية 60 - 82، وفيه قصة موسى والخضر عليهما السلام.
- القسم الخامس: من الآية 83 - 98، وفيه قصة ذي القرنين.
- القسم السادس: من الآية 99 - حتى نهاية السورة، وفيه الحديث عن استهزاء الكفار بالمؤمنين، وبيان جزاء عملهم وفيه الحديث عمّا أعدّ الله للمؤمنين، وفيه الحديث عن العمل المقبول عند الله تعالى.
ثانياً: حقيقة القيم التربوية:
كي نتمكن من تعريف جملة "القيم التربوية"، يلزمنا تعريف القيم أولاً، ثم ننتقل إلى تعريف القيم التربوية.
تعريف القيم:
1. في اللغة: القيم مصدر واحده القيمة، والقيمة ثمن الشيء بالتقويم، تقول تقاوموه فيما بينهم، وإذا انقاد الشيء واستمرت طريقته فقد استقام لوجهة، والاستقامة: التقويم، استقمت المتاع أي قومته، والاستقامة: الاعتدال، ومنه استقام له الأمر، ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}، أي في التوجه إليه دون الآلهة، وقام الشيء واستقام اعتدل واستوى (1).
إذن تأتي القيمة في اللغة على عدة معانٍ منها (2):
- تأتي بمعنى التقدير، فقيمة هذه السلعة كذا، أي تقديرها كذا.
- وتأتي بمعنى الثبات على الأمر، نقول فلان ماله قيمة أي ماله ثبات على الأمر.
- وتأتي بمعنى الاستقامة والاعتدال، يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، (الإسراء: 14) أي يهدي للأمور الأكثر قيمة، أي للأكثر استقامة.


2. معنى القيم اصطلاحاً (3):
تنوعت معاني القيم الاصطلاحية، وذلك حسب المجال الذي يدرسه وحسب النظرة إليه، ومن هذه المعاني:
__________
(1) أنظر؛ لسان العرب، ابن منظور، 498/ 500.
(2) أنظر؛ فؤاد العاجز: القيم وطرق تعلمها، دراسة مقدمة إلى مؤتمر كلية التربية , جامعة اليرموك , الأردن , 1999م، ص4.
(3) المصدر السابق، ص4.
(1/11)
________________________________________
- عند علماء الاجتماع: القيمة هي الاعتقاد بأن شيئاً ما ذا قدرة على إشباع رغبة إنسانية، وهي صفة للشيء تجعله ذا أهمية للفرد أو الجماعة، وهي تكمن في العقل البشري وليست في الشيء الخارجي نفسه (1).
- أما المعنى الإنساني للقيمة فيتمثل في أنها هي المثل الأعلى الذي لا يتحقق إلا بالقدرة على العمل والعطاء.
- وعرّفها (إلبرت وفيرمان) بأنها مرادفة للاتجاهات والاهتمامات.
- وقيل هي عبارة عن تنظيمات تتعلق بالاختيار والفعل وهي مكتسبة من الظروف الاجتماعية.
- وعرّفها عطية بأنها: تنظيمات معقدة لأحكام عقلية وانفعالية نحو الأشخاص أو الأشياء أو المعاني، سواء كان هذا التقدير ناشئاً عن هذا الشيء بصورة صريحة أو ضمنية.
- القيم هي مقاييس تحكم بها على الأفكار والأشخاص والأشياء والموضوعات والمواقف الفردية والجماعية من حيث حسنها وقيمتها والرغبة بها أو من حيث سوئها وعدم قيمتها وكراهيتها (2).


3. في الاصطلاح التربوي:
تعددت التعاريف الاصطلاحية للقيم كما ذكرها الأستاذ محمود حمودة.
- عرّفها أبو العينين: مجموعة من المعايير والأحكام تتكون لدى الفرد من خلال تفاعله مع المواقف والخبرات الفردية والاجتماعية، بحيث تمكنه من اختيار أهداف وتوجيهات لحياته، يراها جديرة بتوظيف إمكانيات، وتجسد خلال الاهتمامات أو الاتجاهات أو السلوك العملي أو اللفظي بطريقة مباشرة وغير مباشرة (3).
__________
(1) طنطاوي: القيم التربوية في القصص القرآني، دار الفكر العربي، القاهرة، 1996م , ص40.
(2) أنظر؛ فؤاد العاجز , القيم التربوية وطرق تعلمها، ص8.
(3) علي خليل أبو العينين: القيم الإسلامية والتربوية، مكتبة إبراهيم الحلبي، مكة المكرمة، 1988م، ص34.
(1/12)
________________________________________
- وعرّفها الدكتور طنطاوي: مجموعة من المبادئ والقواعد والمثل العليا التي يؤمن بها الناس، ويتفقون عليها فيما بينهم، ويتخذون منها ميزاناً يزنون به أعمالهم، ويحكمون بها على تصرفاتهم المادية والمعنوية (1).
- عرّفها إسماعيل حسنين أحمد بأنها: مجموعة القوانين والمقاييس التي تنبثق من جماعة ما، وتكون بمثابة موجهات للحكم على الأعمال والممارسات المادية والمعنوية وتكون لها القوة والتأثير على الجماعة، بما لها من صفة الضرورة والإلزام والعمومية، وأي خروج عليها أو انحراف عنها يصبح بمثابة خروج عن أهداف الجماعة ومثلها العليا (2).
- عرّفها ضياء زاهر بقوله: مجموعة من الأحكام المعيارية المتصلة بمضامين واقعية يتشربها الفرد من خلال انفعاله وتفاعله مع المواقف والخبرات المختلفة، ويشترط أن تنال هذه الأحكام قبولاً من جماعة اجتماعية، حتى تتجسد في سياقات الفرد السلوكية أو اللفظية أو اتجاهاته واهتماماته (3).
- عرّفها غسان منير سند بأنها: عبارة عن تنظيمات معقدة لأحكام عقلية وانفعالية معممة نحو الأشخاص أو الأشياء أو المعاني وأوجه النشاط الإنساني، سواء كان التفضيل الناشيء عن هذه الأحكام والتقديرات المتفاوتة صريحاً أو ضمنياً (4).


المطلب الثاني
القيم التربوية المستنبطة من قصص سورة الكهف


كثيرة هي القيم المستنبطة من القصص القرآني، وعلى الخصوص سورة الكهف منها، ومن هذه القيم:
- قيم إيمانية.
- قيم أخلاقية.
- قيم تعبدية.
- قيم تعليمية.
- قيم جمالية.
سيكون حديثنا عن هذه القيم من خلال الفروع الخمسة التالية: -
__________
(1) سيد أحمد طنطاوي: القيم التربوية في القصص القرآني، ص42.
(2) إسماعيل حسنين أحمد: غرس القيم الإسلامية في نفوس الناشئة، الدراسات الإسلامية، عدد72، ص55، سنة 2002م.
(3) ضياء زاهر: القيم في العملية التربوية، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، 1986م، ص24.
(4) غسان منير سند: القيم والمجتمع، دار صادر، بيروت، 1997م، ص16.
(1/13)
________________________________________
الفرع الأول
القيم الإيمانية
تعددت القيم الإيمانية في قصص سورة الكهف وسنقتصر على نموذجين منها:
1. قيمة الإخلاص والتوكل على الله:
قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا} (الكهف/10).
وقال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (الكهف/14).
تقول الأستاذة منار الحلو: هؤلاء الفتية الذين آمنوا بالله واهتدوا بهديه واستعانوا بالصحبة الصالحة على محنتهم، غادروا القرية الكافرة حرصاً على دينهم لئلا يفتنوا فيه، فلم يكن منهم إلا الفرار إلى ذلك الكهف الصغير لاجئين إلى الله عز وجل، وعزموا على ألا يتراجعوا عن دين الله، فربط الله على قلوبهم (1).
هؤلاء الفتية توكلوا على الله حق التوكل، فأثنى عليهم وحفظهم من أعدائهم، أما الآية الأولى: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا}، أي: آتنا يا ربنا من عندك وحدك لا من غيرك، رحمة عظيمة شاملة لجميع أحوالنا وشؤوننا، فهي تشمل الأمان في المنزل والسعة في الرزق والمغفرة للذنب، و {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا}، بمعنى تيسير الأمر وتقريبه وتسهيله حتى لا يخالطه عسر أو مشقّة.
والمراد بالأمر هنا: ما كانوا عليه من تركهم لأهليهم ومساكنهم ومن مفارقتهم لما كان عليه أعداؤهم من عقائد فاسدة.
__________
(1) منار الحلو: آداب التعامل في ضوء القصص القرآني، رسالة ماجستير، مقدمة لكلية أصول الدين، قسم التفسير، الجامعة الإسلامية، غزة، 2011، ص19.
(1/14)
________________________________________
والرشد الاهتداء إلى الطريق المستقيم مع البقاء عليه، وهو ضد الغي، يقال: رشد فلان يرشد رشداً أو رشاداً إذا أصاب الحق (1)، أما الآية الثانية: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (الكهف/14).
تفسير الآية:
أصل الربط الشد، يقال: ربطت الدابة أي شددتها برباط، والمراد به هنا ما غرسه الله في قلوبهم من قوة وثبات على الحق وصبر على فراق أهليهم، ومنه قولهم: فلان رابط الجأش، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب.
والمراد بقيامهم: عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل، وتصميمهم على ذلك تصميماً لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة.
ويصح أن يكون المراد بقيامهم، وقوفهم في وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة، دون أن يبالوا به عندما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم, وإعلانهم دين التوحيد ونبذهم لكل ما سواه من شرك ضلال, ثم حكى سبحانه ما قالوه بعد أن استقر الإيمان في نفوسهم فقال: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}، أي أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله عز وجل حين قاموا في وجه أعدائهم، وقالوا بكل شجاعة وجرأة: ربّنا سبحانه هو رب السماوات والأرض، وهو خالقهما وخالق كل شيء ولن نعبد سواه أي معبود آخر.
وقولهم: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}، تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله تعالى، والآية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية وعلى أن من كان كذلك وثبت الله تعالى قلبه وقواه على تحمل الشدائد (2).
__________
(1) أنظر؛ محمد سيد طنطاوي: التفسير الوسيط للقرآن الكريم، 8/ 475، نهضة مصر، القاهرة، الأولى، 1998م.
(2) المصدر السابق: 8/ 480 - 842.
(1/15)
________________________________________
2. قيمة التواضع لله تعالى: قال تعالى: {قَاْلُوْا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} (الكهف/94 - 95)، ذو القرنين ملك حكم الدنيا بأسرها استغاث به قوم ليحميهم من يأجوج ومأجوج، فما كان منه إلا أن تواضع لله ولم يغتر بقوته بل اعترف بفضل الله عليه أن آتاه الصحة والعافية، وآثر الأجر من الله على إدراك هؤلاء القوم.
يقول طنطاوي: حكى القرآن عنه بما يدل على قوة إيمانه وحرصه على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فيقول: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}، أي قال ذو القرنين لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً: إن ما بسطه الله تعالى لي من الرزق والمال والقوة خير من خرجكم ومالكم الذي تريدون أن تجعلوه لي، وحينما انتهى ذو القرنين من بناء السد الضخم المحكم وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه: {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي}، أي هذا الذي فعلته من بناء السد وغيره أثر من آثار رحمة ربي التي وسعت كل شيء.
هذه نهاية قصة ذي القرنين، وهي من أبرز صفات المؤمنين الصادقين، أنهم ينسبون كل فضل لله تعالى وإلى قدرته النافذة وأنهم يزدادون شكراً وحمداً له تعالى كلما زادهم من فضله (1).
ومن السنة النبوية في الحث على التواضع لله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (2).
الفرع الثاني
قيم أخلاقية
__________
(1) طنطاوي: المصدر السابق، 8/ 573 - 576.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: ح (2588)، ك البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو، 6/ 109.
(1/16)
________________________________________
المتأمل لسورة الكهف يجد أنها اشتملت على كثير من القيم الأخلاقية، منها قيم إيجابية دعانا القرآن للتجمل والعمل بها، وقيم سلبية دعانا إلى نبذها والانصراف عن التخلق بها.
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف/28 - 29)، اشتملت هاتان الآيتان على مجموعة من القيم الخلقية، منها:
- الصبر مع المؤمنين وعليهم.
- قول الحق وإعلانه.
- التحذير من هجر المؤمنين ومجافاتهم.
يقول طنطاوي: ساقت السورة الكريمة لوناً من الأدب السامي والتوجيه العالي، حيث بينت أن أولى الناس بالرعاية والمجالسة هم المؤمنون الصادقون وأمرت الآيات الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُصبّر نفسه معهم، وللآية سبب نزول: أنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وابن مسعود، أو ليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله تعالى عن ذلك وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء الفقراء فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، والمعنى: عليك أيها الرسول الكريم أن تحبس نفسك وتعودها على مجالسة أصحابك الذين يدعون ربهم أي يعبدونه ويتقربون إليه بشتى أنواع القربات في الصباح والمساء ويداومون على ذلك دون أن يريدوا شيئاً من وراء هذه العبادة سوى رضا الله تعالى عنهم ورحمته بهم (1).


التحذير من الأخلاق الذميمة: الكبر والغرور:
__________
(1) أنظر؛ طنطاوي: التفسير الوسيط 8/ 507.
(1/17)
________________________________________
قال تعالى: {وكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً} (الكهف/34 - 35)، هذه أخلاق من أعطاه الله المال والولد فبطر ولم يشكر وازدهى وتكبر، كان لصاحب الجنتين أنواع من المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، تمتلئ نفسه بهما ويزدهيه النظر إليهما فيحس بالزهو وينتفش كالديك و يختال كالطاووس ويتعالى على صاحبه الفقير، وملأ نفسه البطر وملأ جنبيه الغرور وقد نسي الله ونسي أن يشكره على ما أعطاه، أنكر الآخرة، إنه الغرور، يخيل إلى ذوي المتاع والثراء أن القيم التي يعاملهم بها أهل هذه الأرض تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى (1).
يقول الشيخ محمد المدني: وكما ألهته النعمة فجهل، وأبطرته فكفر، دفعته كذلك إلى الغرور بنفسه فزعم أنه مستحق لما هو فيه من الخير والمتاع، لمعنى يمتاز به على سائر ما عداه، فإن كان هناك بعث أو نشور فإن له في الآخرة مثل ما له في الدنيا، لأن فضائله الخلقية ومزاياه الطبيعية هي التي أهلته لذلك، وجعلته جديراً به، وهكذا قال قارون الطاغية: إنما أوتيته على علم عندي، وقال الذي كفر بآيات الله: لأوتين مالاً وولداً، وقال غيرهما: ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده الحسنى (2).
__________
(1) أنظر؛ سعد أبو عزيز، قصص القرآن دروس وعبر، دار الفجر، القاهرة، الأولى، 1999م، ص423.
(2) محمد المدني: القصص الهادف كما نراه في سورة الكهف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1964م، ص143.
(1/18)
________________________________________
وحول هذه القيم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحديك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاَ منتنة" (1).
أما خُلق الكبر والغرور فمنه حديث النبي: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الدر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال" (2).
الفرع الثالث
قيم تعبدية
تكاد تكون سورة الكهف في مجمل ما تدعو إليه، إنما تدعو لعبادة الله تعالى وحده وإخلاص التوجه إليه سبحانه، وقد تناثرت القيم التعبدية في السورة ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} (الكهف/16).
ومنها قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف/24).
ومنها قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف/110)،.
من خلال هذه الآيات الثلاث يتبين لنا أن العبادة الحقة هي ما يتوجه به الإنسان تجاه ربه الخالق الموجد الواحد الأحد.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: ح (2628) ك البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين، 6/ 136.
(2) أخرجه أحمد في مسنده: ح (6677)، دار الحديث , القاهرة , الأولى , 1995 , 6/ 231، 2/ 179.
(1/19)
________________________________________
يقول سيد قطب: وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم ويفارقون أهلهم ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمة الله ويحسون هذه الرحمة الظليلة فسيحة ممتدة، ينشر لكم ربكم من رحمته، ولفظة ينشر تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء، إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا رحمة الله والرفق والراحة والاتفاق، إنه الإيمان (1).
وعن الآية الأولى يقول الشيخ الجزائري: الآية فيها بطلان عبادة غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها (2).
لأجل هذا يقول الدكتور طنطاوي: وهكذا الإيمان الصادق، يجعل صاحبه يفضل المكان الخالي من زينة الدنيا من أجل سلامة عقيدته على المكان المليء باللين والرخاء، الذي يحس فيه بالخوف على عقيدته.
فالآية تدل على أن اعتزال الكفر والكافرين من أجل حماية الدين يؤدي إلى الظفر برحمة الله وفضلة وعطائه العميم (3)
ومن الأحاديث ذات الصلة ما رواه أبو معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى، قال: ذكر الله" (4).
هذا بعض ما يتعلق بالقيم التعبدية الواردة في قصص سورة الكهف.


الفرع الرابع
قيم تعليمية
__________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، السابعة، 1978م، ص4/ 2262.
(2) أبو بكر الجزائري: أيسر التفاسير، مكتبة السنة، دمنهور، الأولى، 2002، ص720.
(3) طنطاوي: التفسير الوسيط، 8/ 484.
(4) مسند الإمام أحمد: (21978)، 16/ 1900، المسند 5/ 139.
(1/20)
________________________________________
وأعظم ما تتجلى هذه القيم تتجلى في رحلة موسى عليه السلام مع فتاه يوشع بن نون لطلب العلم عند الرجل الصالح الخضر عليه السلام، وأول صورة من صور تلك القيم تتمثل في قول موسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} (الكهف/60).
ثم الصورة الثانية قول موسى للخضر: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً، قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} (الكهف/66 - 70).
والقصة تبدأ كما رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أُبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلّم أحداً أعلم منك، قال: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه فجُعل له الحوت آية، وقيل له إن فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، فكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال موسى لفتاه: أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، فقال موسى: ذلك ما كنّا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصا، فوجدا خضراً، فكان من شأنهما الذي قص الله في كتابه" (1).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: ح (3400)، ك أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، 2/ 1053.
(1/21)
________________________________________
وهكذا عزم موسى عليه السلام على السير ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى كان لهما لقاء الخضر فكان أن لزمه موسى ليتعلم مما عند هذا الرجل الصالح من العلم اللدني، فكان مما لم يصبر موسى على تحمله فتم الافتراق بينهما ولكن قبل الافتراق علم المعلم موسى تفسير كل حدث مما وقع معهما من أحداث فكانت العبرة والمنفعة.
فالآية الأولى: تدل بأسلوبها البليغ على أن موسى عليه السلام كان مصمماً على بلوغ مجمع البحرين، مهما تكن المشقة في سبيل ذلك، ومهما يكن الزمن الذي يقطعه في سبيل الوصول إلى غايته (1)، ونحن نعلم أن غاية موسى من هذه الرحلة الشاقة هي طلب العلم والتعلم امتثالاً لأمر الله له.
أما آيات الصورة الثانية والتي تمت بعد لقاء موسى بالخضر فهي نموذج راقٍِ من الأدب بين المتعلم والمعلم، قال موسى للخضر عليهما السلام بعد أن التقيا: هل أتّبعك، أي هل تأذن لي في مصاحبتك وإتباعك بشرط أن تعلمني من العلم الذي علمك الله إياه شيئاً استرشد به في حياتي وأصيب به الخير في ديني.
فأنت ترى أن موسى عليه السلام قد راعى في مخاطبته للخضر أسمى ألوان الأدب اللائق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع غيرهم، حيث خاطبه بصيغة الاستفهام الدالة على التلطّف وحيث أنزل نفسه منه منزلة المتعلّم من المعلم, وحيث استأذنه في أن يكون تابعاً له ليتعلم منه الخير والرشد.
قال بعض العلماء في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم، وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص الله تعالى أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى يتعلّق بالأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها وكان علم الخضر يتعلّق ببعض الغيب ومعرفة البواطن.
ثم كان من قول الخضر لموسى إنك إذا اتبعتني ورافقتني فلن تستطيع معي صبراً بأي وجه من الوجوه.
__________
(1) طنطاوي: التفسير الوسيط، 8/ 547.
(1/22)
________________________________________
ولكن موسى عليه السلام الحريص على تعلم العلم النافع يصر على مصاحبة الرجل الصالح فيقول له في لطف وأدب مع تقديم مشيئة الله تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} وفي تقديم المشيئة أدب مع خالقه واستعانة به على الصبر وعدم المخالفة (1) ثم تواصلت قصة موسى والخضر والتي تمثلت في ثلاثة أحداث فعلها الخضر ولكن موسى لم يصبر عليها بل اعترض وناقش، فكانت سبب الافتراق، وإنهاء رحلة التعلم لموسى عليه السلام.
أهم القيم التربوية والآداب المستفادة من قصة موسى والخضر، وقد جمعها الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره، نلخصها فيما يلي (2):
- فضيلة العلم والرحلة في طلبه وأنه أهم الأمور.
- البراءة بالأهم فالأهم فزيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك.
- جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤنة وطلب الراحة.
- المسافر لطلب العلم إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه وأين يريده فإنه أكمل من كتمه ففي إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته.
- من الأدب مع الله إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان على وجه التوسل والتزيين مع العلم أن الكل بقضاء الله وقدره.
- جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس من نصب أو جوع أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط.
- استحباب كون خادم الإنسان ذكياً فطناً كيّساً ليتم له أمره الذي يريده.
- استحباب إطعام الإنسان خادمه من طعامه وأكلهما معاً.
- معونة الله تنزل على العبد على قدر قيامه بما أمر به، وأن الموافق لأمر الله يعان ما لا يعان غيره.
- أن العبد الذي لقيه موسى عبداً صالحاً وليس نبياً.
__________
(1) انظر؛ طنطاوي: التفسير الوسيط، 8/ 552 - 554.
(2) أنظر؛ عبد الرحمن السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان , دار ابن القيم , القاهرة , الأولى , 2000 , ص 483, بتصرف.
(1/23)
________________________________________
- أن العلم نوعان: علم مكتسب يدركه الإنسان بكده وجده واجتهاده، وعلم لدني يهبه الله لمن يشاء من عباده.
- التأدب مع المعلم وخطاب المتعلّم للمعلم بألطف خطاب.
- تواضع الفاضل للتعلم ممن هو دونه في الفضل.
- تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة
- إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى والإقرار بذلك وشكر الله على ذلك.
- أن العلم النافع هو العلم المرشد للخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير وتحذير عن طريق الشر فإنه من العلم النافع.
- أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم وحسن الثبات على ذلك يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم فمن لا صبر له لا يدرك العلم.
- من أسباب الحصول على الصبر إحاطة الإنسان علماً وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه.
- الأمر بالتأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود.
- تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، بأن يتتبع ذلك بقوله إن شاء الله.
- العزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله.
- أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها فإن المصلحة تبتغى.
- جواز ركوب البحر في غير الحالة التي يخاف منها.
- إن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله ولا في حق العباد.
- أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها وما سمحت به أنفسهم ولا ينبغي أن يكلفهم ما لا يطيقون أو يشق عليهم.
- أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها.
- العمل بقاعدة دفع الشر الكبير بفعل الشر الصغير مع مراعاة أكبر المصلحتين بتفويت أدناها.
(1/24)
________________________________________
- جواز عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة ولو كان بدون إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير.
- جواز العمل في البحر كما جوازه في البر، وعدم نكران ذلك.
- أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة.
- أن قتل النفس من أعظم الذنوب.
- أن القتل قصاصاً غير منكر.
- أن الله يحفظ العبد الصالح في نفسه وفي ذريته.
- أن خدمة الصالحين أو من يتعلق بهم أفضل من غيرها.
- استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، فالخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه، في حين أضاف الخير لله تعالى.
- ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته حتى يعتبه ويعذر منه كما فعل الخضر مع موسى.
- أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع الموافقة.
- أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أموراً يكرهها جداً وهي صلاح دينه.
- أن صلاح الآباء ينفع الأبناء.
- أن العجب بالعلم مكمن الخطر، فعلى الإنسان ألا يعجب بعلمه أو يظن بنفسه وصول المنتهى.
- المبادرة إلى إنكار المنكر في حال وقوع المنكر.
هذا تلخيص ما ذكره الشيخ السعدي في معرض تفسيره لآيات سورة الكهف، وجدنا المصلحة في اختصارها ونقلها هنا.
أما ما يؤيد ذلك من السنة النبوية الشريفة ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة" (1).
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده: ح (21612)، 16/ 71، 5/ 196.
(1/25)
________________________________________
أما عن علاقة المتعلم بالمعلم مما ورد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وقر عالماً فقد وقر ربه" (1).
وقال الإمام علي رضي الله عنه: "إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال ولا تفتنه في الجواب ولا تلح عليه إذا كسل ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفش له سراً ولا تغتابن أحداً عنده ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله وأن تجلس أمامه وإن كانت له صاحبة سبقت إلى خدمته وأن لا تقول له: قال فلان خلاف قولك" (2).
وفي نهاية حديثنا عن آداب طالب العلم، نورد هذه الفقرة للأستاذ حسن أيوب: إن الذي يطلب العلم الديني أو الدنيوي أو هما معاً يقضي سنوات كثيرة من عمره في طلب العلم مجهداً نفسه، مسهراً عينه، مضنياً جسمه، فإذا مرّ ذلك كله بعيداً عن الله والإخلاص له تعالى في طلب العلم فما أكثر الضياع الذي لحق بالإنسان المتعلم، وما أكثر خسارته، وما أحمقه وأجهله، ولو أن هذا الطالب تفقه في دينه وعرف الطريق إلى مرضاة الله في طلب العلم لنال ثواباً عظيماً ودرجات رفيعة في الدنيا والآخرة.
وخير ما يوصل الإنسان إلى رضاء الله سبحانه وتعالى هو أن يبتغي بعلمه وجه ربه مخلصاً له دينه بعيداً عن شهوات حب الظهور، والمناصب والمادة والوصول وغيرها.
ولو أن طالب العلوم الدينية أراد بها الدنيا لكانت وبالاً عليه شديداً.
__________
(1) رواه ابن عراق: تنزيه الشريعة، دار الكتب العلمية , بيروت , الأولى , 1981, 1/ 274.
(2) المتقي الهندي: كنز العمال، دار الكتب العلمية , بيروت , الأولى , 1998, 5/ 242.
(1/26)
________________________________________
ولو أن طالب العلوم الدنيوية أراد بها وجه الله ونفع الأمة الإسلامية وإعلاء شأنها وخدمة أفرادها ومجتمعها لنال عند الله حظوته، وما ضاعت عليه لحظة من لحظات جهده في طلب العلم (1).


الفرع الخامس
قيم جمالية
كثيرة هي القيم الجمالية الواردة في قصص سورة الكهف، إلا أنني سأقتصر في الحديث عن بعضها كمثال واضح وصريح، ومن هذه الصور الجمالية والقيم الجمالية:
1. من أجمل القيم والصور الجمالية ما ورد في الآيتين (17 - 18)، والتي يقول الله تعالى فيها: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} (الكهف/17 - 18)، ففي هاتين الآيتين صور القرآن الكريم الكهف تصويراً رائعاً، وحال الفتية داخله، والمتأمل سيجد تلك الصور العجيبة ماثلة أمام عينيه، حاضرة بصورة موحية معبرة عن قدرة الله تعالى الخالق المدبّر (2)، ونقل القرآن الكريم بالكلمات هيئة أولئك الفتية في مشهد تصويري أضفت عليه صيغة المضارع معنى الإحضار والتجدد من خلال استعمال الأفعال المضارعة (وترى، وتحسبهم، ونقلبهم).
__________
(1) حسن أيوب: السلوك الاجتماعي في الإسلام، ص444، دار البحوث العلمية، الكويت، الثانية، 1979.
(2) علي بن الحمود: الإعجاز الجمالي في قصص القرآن الكريم، دراسة مقدمة لكلية اللغة العربية، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، 2012، ص16.
(1/27)
________________________________________
يعلق الأستاذ سيد قطب على هذه المشاهد الجمالية قائلاً: وهو مشهد تصويري عجيب ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف، كما يلتقطها شريط متحرك والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة ولفظ "تزاور" تصور مدلولها وتلقي ظل الإرادة في عملها والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه.
ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة، فيحسبهم الرائي أيقاظاً وهم رقود، وكلبهم على عادة الكلاب باسط ذراعيه بالفناء من باب الكهف كأنه يحرسهم وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم إذ يراهم نياماً كالأيقاظ، يتقلبون ولا يستيقظون، وذلك من تدبير الله كي لا يعبث بهم عابث، حتى يحين الوقت المعلوم (1)، ومن القيم والصور الجمالية قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً} (الكهف/7)، في هذه الآية يبين الله أنه سبحانه جعل هذه الأرض بكل ما فيها زينة يُسر الناظر إليها وترتاح النفس بما فيها، وتميل العقول لتأملها، يقول الشيخ السعدي: يخبر الله تعالى أنه جعل جميع ما على وجه الأرض من مآكل لذيذة ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار وأنهار وزرع وثمار ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة وأصوات شجية وصور مليحة وذهب وفضة وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار فتنة واختباراً (2).
__________
(1) أنظر؛ سيد قطب: في ظلال القرآن، 4/ 2263.
(2) أنظر؛ السعدي: تيسير الكريم الرحمن، ص470 - 471.
(1/28)
________________________________________
2. ومن الصور الجمالية قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} (الكهف/32 - 33)، تبدأ هذه القصة بهذا المنظر البديع والآخذ بالألباب، جنتان مثمرتان من الكروم محفوفتان بسياج من النخيل لحماية ما بين هذين السياجين، تتوسطهما الزروع، ويتفجر بينهما النهر، أي جمال هذا، إنه المنظر البهيج والحيوية الدافقة والمتاع والزينة والمال.
إلا أن هذه جميعها لم تحرك في نفس وقلب صاحبها الإيمان بالخالق وتعظيمه وطاعته، بل على العكس جحد وكفر، وظلم فكان نهاية الأمر أن دمر الله كل هذه الخيرات والزروع والثمار، كأنها لم تكن.
3. ومن الصور الجمالية قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً} (الكهف/86).
4. ومنها قوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} (الكهف/90).
الآية الأولى تتحدث عن غروب الشمس في عين مظلمة، هذا المنظر الساحر والذي فيه الجلال والعظمة، الدال على قدرة الله تعالى وتحكمه في هذا الكون العظيم، إنه منظر الخشوع لله الواحد القهّار.
والآية الثانية تتحدث عن شروق الشمس وما فيه من بعث للحياة من جديد، فهي تطلع على قوم ليس بينهم وبين الشمس ما يسترهم من لباس أو عمران، إنها نهاية المعمورة من جهة الشرق، كما كانت صورة الشمس عند الغروب نهاية المعمورة من ناحية الغرب.
(1/29)
________________________________________
5. ومن الصور الجمالية قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} (الكهف/31)، يصف الله سبحانه وتعالى ما أعده لعباده المؤمنين من جزاء عظيم في الجنة, وهي صورة غاية في الجمال والإبداع, حدائق غناء مليئة بكل ما يروق للنظر والنفس, وأنهار تجري من تحت هذه الجنان وأنواع الطعام واللباس والأسرة وما عليها من الفرش الناعم والحِلي والمجوهرات الثمينة, وغيرها كثير إنها صورة جمالية خلابة.
مثل هذه الصور تغري الإنسان بها فتكون دافعةً له للإيمان والهداية وإتباع الحق.
6. ومن الصور الجمالية قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} (الكهف/45).
ومن الصور الجمالية قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} (الكهف/47).
إنها صور جمالية فيها الدعوة للإيمان بالله والعبرة والعظة. ويتعزز هذا المعنى في كل من قصة الفتية وقصة صاحب الجنتين وقصة ذي القرنين فهؤلاء الفتية قد انتصروا على قومهم وتلك الجنّات التي كفر صاحبها قد زالت لتثبت حقيقة للمؤمن من أن الدنيا مصيرها إلى الزوال، وذو القرنين يحقق الله على يديه نصر الحق ودفع الظلم في مشارق الأرض ومغاربها. فعندما نستشعر حقيقة نصر الله لعباده، فإننا نتفاءل بأن نصر الله وتأييده آت ولو بعد حين (1).
المبحث الثاني
المجالات التوجيهية التربوية من خلال قصص سورة الكهف
__________
(1) المصدر السابق: ص145.
(1/30)
________________________________________
من خلال تدبر سورة الكهف نجد أنها امتلأت بكثير من التوجيهات التربوية، منها ما هو ذات صلة بالله تعالى والعلاقة بين الإنسان وربه، ومنها توجيهات ذات صلة بالحياة والإنسان.
في هذا المبحث سأتناول بالحديث عن أهم المجالات التربوية في سورة الكهف وذلك من خلال المطالب التالية:


المطلب الأول: توجيهات تربوية متعلقة بالعقيدة الإلهية.
المطلب الثاني: توجيهات تربوية متعلقة بالقضايا الحياتية.


المطلب الأول
توجيهات تربوية متعلقة بالعقيدة الإلهية


وهي كثيرة في القصص الوارد في السورة، فمنها ما له علاقة بالقضاء والقدر، ومنها ما له علاقة بالأدب مع الغير، ومنها ما له علاقة بالولاء لله تعالى وحده وقدرة الله تعالى المطلقة، إلا أننا اختصاراً سنقتصر بالحديث عن بعضها:
الأدب مع الله تعالى: قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف/23 - 24).
1. فمن الأدب مع الله أن لا يجزم الإنسان على ما يحدث من الأمور على أنه كائن لا محالة، إلا أن يصله بمشيئة الله، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله وفي هذا التأديب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ الجاهل على التساهل في الأدب مع الله، نهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلية (إني فاعل ذلك)، من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور وهو الكلام على الغيب المستقبل الذي لا يدري هل يفعله أم لا، وهل يكون أم لا، وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالاً وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، ولما في ذكر مشيئة الله من تيسير الأمر وتسهيله وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه، ولما كان العبد بشرا لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة أمره الله أن يستثني بعد ذلك إذا ذكر ليحصل المطلوب ويندفع المحذور (1).
__________
(1) عبد الرحمن السعدي: تيسير الكريم، ص474.
(1/31)
________________________________________
2. الولاء مع الله وحده: لقوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} (الكهف/44)، في هذه الآية تعقيب على حقيقة قرآنية وقاعدة إيمانية أن الله وحده هو الولي، وأن الولاية لا تكون إلا لله، وأن من تولاه الله فهو الفائز، وأن من تخلى عنه الله فهو الخاسر المخذول وأن عاقبة الولاية لله الفلاح والنجاح والخير وأن لصاحبها من الله الثواب الجزيل (1).
3. عدم إضافة ما يستقبح لله تعالى: هذا أمر عقدي غاية في الأهمية من جهة الأدب مع الله وهو من الأمور التي تحتاج إلى علاج في عصرنا وفي كل العصور، فما أن يقع الإنسان في ابتلاء أو مصيبة حتى نجده قد داخله شيء اتجاه الخالق سبحانه وتعالى في نفسه، وما هذا إلا دليل على ضعف التربية الإيمانية التي يعاني منها كثير من المسلمين، ودليل على عدم الثقة بالله تعالى، والتسليم بقدرته، ومكانته سبحانه، وقد لا يظهر هذا الأمر على الملأ فيبقى في النفس مما يؤدي إلى فساد في العقيدة، الأمر الذي من شأنه أن يحرف المسلم عن الصراط المستقيم.


__________
(1) يزن عبده: القواعد التربوية، ص35.
(1/32)
________________________________________
وقد عالجت آيات قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح هذا الأمر، وذلك أن العبد الصالح بعد أن اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الأخير على تصرفاته، بدأ بالكشف عن أسرار تلك الأعمال فقال له: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} (الكهف/79 - 82)، والمتأمل في قول العبد الصالح يلحظ أنه في الفعل الأول والثاني قد أضاف الضمير إلى نفسه بقوله "أردت" في خرق السفينة و"أردنا" في قتل الغلام، أما الفعل الثالث فقد أضافه لله تعالى: "فأراد ربك" في شأن اليتيمين، والسر في ذلك والله أعلم هو أنه أضاف خرق السفينة وقتل الغلام إلى نفسه لأنهما لفظ عيب، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، أما بناء السور فكان عملاً إيجابياً فيه خير فأضافه إلى الله.
وهذا ما ينبغي على المسلم تجاه الله سبحانه أن ينتبه لكل لقط يخرج من فمه واصفاً به الله سبحانه لأن هذا من مظاهر حسن الأدب معه جل وعلا، وهو كذلك دليل على صحة الإيمان وتمكنه من القلب وانتقاء لكمال الإيمان (1).
المطلب الثاني
توجيهات تربوية متعلقة بالقضايا الحياتية
__________
(1) يزن عبده: القواعد التربوية، ص39 - 40.
(1/33)
________________________________________
من الملاحظ أن قصص سورة الكهف تناولت الحياة الإنسانية من خلال التوجيهات التربوية المتضمنة فيها، وخصوصاً في علاقة المؤمن بالدنيا وما فيها من زينة ومتع، وكذلك ما يتعرض له من تكريم وإهانة.
وسوف نتناول ذلك من خلال الفرعين التاليين:


الفرع الأول
موقف المؤمن من متاع الدنيا
حكمة المتاع تشمل كل ما ينتفع به ويرغب في امتلاكه من طعام وأثات وسلع وأدوات وأموال، وهذه المتع منها ما هو حرام.
والإسلام لا يحرم الاستمتاع بالمتع المتناولة بين أيدي الناس: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} (الأعراف/32)، ومن السنة قول النبي: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" (1).
وبناءً على هذا نجد أن الله سبحانه من خلال آيات سورة كالقصص يوجه المسلم إلى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} (القصص/77).
وفي سورة الكهف يقول تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف/46).
إن من أعظم متع الدنيا المال والبنون, بهما وعن طريقهما تأتي بقية المتع الأخرى من جاه وسلطان وقوة, إلا أن الله يبين أن المتعة الحقيقية هي ما أدخره الله لك في الآخرة, والسبب أن متع الدنيا زائلة أما متع الآخرة فدائمة باقية.
ونحن نعلم أن قصة أصحاب الكهف هي نموذج للعازفين عن الدنيا طلاب الآخرة وأن هؤلاء الفتية تركوا كل ما في الدنيا من زينة وزخارف ومتع وشهوات لأنها تعارضت مع ما يؤمنون به، فلم يكن لها تأثير على عقولهم أو قلوبهم.
__________
(1) أخرجه الترمذي: ح (2973)، ك الاستئذان والأدب، باب ما جاء في أن الله يجب أن يرى أثر نعمته على عبده، 4/ 206.
(1/34)
________________________________________
لهذا توجّهنا الآيات إلى أن نصحح من سلوكنا إن كان غير منسجم مع هذه القواعد الإيمانية، وإلا نكون من الخاسرين الذين يجرون وراء شيء زائل لا طائل منه.
كذلك في قصة صاحب الجنتين من خلال موقف الرجل المؤمن الذي لم تؤثر فيه زخارف الدنيا، وبين أن ما عند الله خير وأبقى من أعراض الدنيا الزائلة وأن الدنيا بكل ما فيها حقيرة أمام فضل الله.


الفرع الثاني
حقيقة التكريم والإهانة
يظن كثير من الناس أن مكانة الإنسان تعتمد على كثرة ما يمتلك، فالإنسان الغني الثري مكرم صاحب مكانة عظيمة، وأن الفقر سبب مهانة وتحقير لصاحبه، لهذا نجد الغنى يلقى الاحترام والتقدير، والفقير حقير محروم إلا أن الحقيقة غير هذا، ولهذا جاء الإسلام ليغير من هذه المفاهيم غير الصحيحة ويصحح الموازين.
وهذا ما تناولته آيات سورة الكهف: إن آيات قصة صاحب الجنتين تكشف لنا عن هذه الحقيقة، معالجة تلك النظرة الخطأ التي انتشرت بين كثير من الناس فهي تبين لنا أن المتاع الدنيوي زائل ليس مظهراً للتكريم الرباني والحرمان من هذا المتاع ليس مظهراً للهوان على الله (1).
لهذا ورد قوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} (الكهف/44).
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً} (الكهف/36)، فهي دليل واضح على حقيقة التكريم الرباني وأن الله وما عنده خير من هذه الدنيا وما فيها.
__________
(1) صلاح الخالدي: مع قصص السابقين في القرآن، دار القلم، دمشق، الأولى، 1989م، ص133.
(1/35)
________________________________________
وفي الآية الثانية غرور الكافر المتكبر الظان أنه كما في الدنيا مكرم سيكون في الآخرة مكرم عزيز، إلا أنه ظهرت أمامه الحقيقة الدامغة {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} (الكهف/42)، إلا أن هذا لم ينفعه.
ومن الآيات الدالة على إهانة المشركين يوم القيامة, وبيان عجزهم وضعفهم قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً, وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} (الكهف/52 - 53).
ومنها قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} (الكهف/65) ,
هذا تكريم لهذا العبد الصالح على لسان الله تعالى.
ومن الآيات قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (الكهف/82).
ومنها قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} (الكهف/83 - 84).
ومنها قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} (الكهف/95).
(1/36)
________________________________________
ومنها قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَاءِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} (الكهف/102 - 106).


المبحث الثالث
أهم الأساليب التربوية في قصص سورة الكهف


مما تميز به القصة في القرآن الكريم أن أساليبها التربوية متعدد، وهذا له من الفوائد الشيء الكثير، فالأسلوب الذي لا ينفع مع شخص، قد ينفع مع شخص آخر، وهكذا، وقصص سورة الكهف تعددت فيها الأساليب، أسلوب التوجيه بالقدرة وأسلوب التوجيه بالموعظة، وأسلوب التوجيه بالترغيب أو الترهيب، وأسلوب التوجيه بالإقناع، وبالحوار وغيرها من الأساليب.
في هذا المبحث سأتناول بالدراسة بعض هذه الأساليب المتعددة مبين مدى أهميتها والقدرة على توظيفها، والاستفادة منها، وسيكون ذلك من عدة مطالب كما يلي:


المطلب الأول: أسلوب التوجيه التربوي بالقدوة.
المطلب الثاني: أسلوب التوجيه التربوي بالموعظة.
المطلب الثالث: أسلوب التوجيه التربوي بالحوار.


المطلب الأول
أسلوب التوجيه التربوي بالقدرة الحسنة


الناس في أمس الحاجة للقدرة على مستوى كل الاتجاهات والمجالات، لهذا يركز عليها الإسلام كثيراً, وذكرها القرآن مراراً لأهميتها، وعاشها النبي عملياً أمام الناس, وبيّن أنها في كثير من الأحيان تكون مؤثرة أكثر من الكلام, وسأتناولها من عدة جوانب من خلال الفروع الآتية:


الفرع الأول
حقيقة القدوة وأهميتها
أولاً: القدوة لغةً:
(1/37)
________________________________________
القُدوة والقِدوة بالضم والكسر تعني من يقتدي به الإنسان ويستن بسنته فيقال: فلان قدوة يقتدى به، والقدوة: المثال الذي يتشبه به غيره، ويعمل مثل ما يعمل، ويحذو حذوه في كل صغير وكبير.
والاقتداء يعني إتباع الأثر والأخذ بالهدي يُقال: فلان يقدو فلان إذا نحا نحوه وسار على دربه، واتبع أثره (1).
ثانياً: القدوة اصطلاحاً:
عرّفها الإمام الشوكاني بأنها: طلب موافقة الغير في فعله (2).
وعرّفها القرطبي: هو ما يتأسى به أي يعتزي به فيقتدي به في جميع أحواله (3).
مما سبق من التعريفات اللغوية والاصطلاحية يتضح أن الصفات التي يتخلق بها الإنسان القدوة هي أصيلة لا مصطنعة، فطرية مترسخة, وكلما كانت الشخصية القدوة صادقة وحقيقية كلما كان اندماج الناس معها وتأثيرها فيهم أعظم.
ثالثاً: أهمية القدوة:
تتمثل أهمية القدوة فيما يأتي:
- أنها تثير في نفوس الآخرين المحبة والإعجاب فيتولد عندهم حافز التمثل به.
- أنها تعطي قناعة للآخرين بالقدرة على الوصول إلى المستوى الرفيع والعالي.
- القدوة يسهل إيصال المعاني والقيم الأخلاقية وبالتالي يتم التغيير والاصطلاح.
- غياب القدوة من أسباب انتشار المنكرات والجهل والانحراف.
- يلعب دوراً كبيراً في الرقي والتقدم والإصلاح على شتى المستويات والمجالات.


الفرع الثاني
القدوة كما وردت في قصص سورة الكهف
تناولت قصص سورة الكهف موضوع القدوة من خلال الآيات التالية:
__________
(1) أنظر؛ ابن منظور: لسان العرب، 6/ 64، والجواهري: الصحاح، دار العلم للملايين , بيروت , الثانية , 1979، 6/ 245.
(2) الشوكاني: فتح القدير، دار الفكر، بيروت، الأولى، 2/ 137.
(3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الثقافة، بيروت، الأولى، 8/ 237.
(1/38)
________________________________________
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف/28).
تجلّت القدوة هنا في الأمر بالتواضع وعدم الاستطالة على الناس وقد جبلت النفوس على كراهية الكبر والتكبر والمتكبرين لهذا نجد الآيات تخاطب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن خلاله تخاطب الأمة بالصبر والتواضع، والميل إلى جانب المتواضعين والضعفاء.
يقول صالح بن حميد: إن المتواضع هو الرجل الذي يرجى لنفع الأمة ويستطيع الخوض في كل ميدان ويعيش في كل مجتمع، يعيش وهو ضافي الكرامة أنيس الملتقى شديد الثقة بنفسه مبسوط المحيّا لجليسه (1).
ومن آيات القدوة في سورة الكهف، قصة ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباُ} (الكهف/84)، فقد كان قدوة حسنة حية للقائد الصالح المصلح، وبالتالي كان ملاذ الضعفاء لينقذهم من الظلم والمفسدين.
يقول الأستاذ عبد العزيز الرويلي: فلو لم يكن ذو القرنين قدوة حسنة للناس باشتهاره في فعل الخيرات لما طلبوا منه أن يقيهم من الفساد، وهكذا اقترن في مكان واحد القدوة الحسنة والحماية من الفساد أي أن القدوة الحسنة والإصلاح أمران متلازمان فالقوم بمجرد رؤيتهم ذا القرنين الذي هو نموذج القدوة الحسنة التي رفعته لعلو الهمة وطلب الكمال, طلبوا منه إصلاح أمرهم بمنعه يأجوج ومأجوج من الإفساد في الأرض (2).
__________
(1) صالح بن حميد: القدوة مبادئ ونماذج، مقال على الانترنت ص15.
(2) عبد العزيز الرويلي: القدوة الحسنة في القرآن الكريم، مقال على شبكة الإنترنت بتاريخ 11/ 1/2012م.
(1/39)
________________________________________
ومن شدة إيمان وتواضع ذو القرنين بيّن أن: {قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} (الكهف/95)، ومما روي في السيرة النبوية، أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: من أنت، قال: أنا محمد بن عبد الله، قال الأعرابي: أأنت الذي يقال عنك إنك كذاب، فقال: أنا الذي يزعموني كذلك، فقال الأعرابي: ليس هذا الوجه وجه كذّاب، ما الذي تدعو إليه؟، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدعو إليه من أمور الإسلام فقال له الأعرابي: آمنت بك، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. (1)
من خلال كل ما سبق نجد أن القدوة الحسنة من أعظم الأساليب في مجال التربية العملية، لأنها تقدم نموذجاً حياً يسمعه ويشاهده ويلتقي به الناس ويحتكون به، بهذا كان النبي أعظم قدوة أثر في الناس دون أن يحدثهم أو أن يأمرهم، ولهذا ركّزت سورة الكهف على أمر القدوة لما فيه من تأثير ناجح.


المطلب الثاني
أسلوب التوجيه التربوي بالموعظة


يركز القرآن على الموعظة وذلك من خلال القصص والإرشاد، لما لهذه الموعظة من تأثير على السلوك والفكر والعقيدة، والإنسان بحاجة دائمة للموعظة حتى يستمر في حالة التنبه واليقظة.
وحديثي سيكون عن الموعظة من خلال الفرعين التاليين:


الفرع الأول
حقيقة الموعظة وأهميتها
أولاً: الموعظة لغةً:
الموعظة من المصدر وعظ، أخاف، وتأتي بمعنى النصح، التذكير بالعواقب والإنذار، وتأتي بمعنى التذكير في الخير بما يرقق القلب (2).
ثانياً: الموعظة اصطلاحاً:
تعددت تعريفات العلماء للموعظة كما يلي:
__________
(1) لم أجده , نقلاً عن القدوة مباديء ونماذج – صالح بن عبد الله بن حميد – ص6.
(2) أنظر؛ ابن منظور: لسان العرب، 7/ 466، وتاج العروس: 1/ 508.
(1/40)
________________________________________
عرّفها الطبري بقوله: الموعظة: العبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه وذكرهم بها في تنزيله (1).
وعرفها ابن القيّم بقوله: هي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة (2).
وعرّفها الجرجاني بقوله: الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية وتدمع العيون الجامدة، وتصلح الأعمال الفاسدة (3).
وعرّفها عبد الرحمن الميداني: وهي الترغيب بالعاقبة الحسنة والسعادة الخالدة لمن اتبع سبيل ربه، والترهيب من العاقبة السيئة الوخيمة والشقاوة والتعاسة لمن أبى أن يتبع سبيل ربه، بشرط عرضها بأسلوب حسن جميل مقبول لا تنفر منه الطباع السوية (4).
من هذا يتبين أن الموعظة تشمل الترغيب والترهيب.
ثالثاً: أهمية الموعظة: تنبع أهمية الموعظة من كونها:
1. أنها أمر الله سبحانه باستخدامها في الدعوة، ذلك في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل/125).
2. كونها من الأساليب التي استخدمها الأنبياء في الدعوة.
3. أن فيها متابعة لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمل السلف الصالح.
4. أن النبي عليه السلام جعلها أصل الدين وأساسه حين قال: "الدين النصيحة" (5).
5. سهولة استخدامها في كل الأحوال.
6. أن فيها حاجة الناس جميعاً، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، عالمهم وعامة الناس فيهم.


الفرع الثاني
الموعظة من الأساليب التربوية
__________
(1) ابن جرير الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعارف، مصر، 7/ 663.
(2) ابن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة، دار الجيل، بيروت، 1994م، ص1/ 153.
(3) الجرجاني: التعريفات، شركة القدس، القاهرة، الأولى، 2007، ص374.
(4) عبد الرحمن الميداني: فقه الدعوة إلى الله , دار القلم , دمشق , الثانية , 2004 , 1/ 609.
(5) أخرجه مسلم في صحيحه: ح (55)، ك الإيمان 1/ 228.
(1/41)
________________________________________
نستطيع أن نجزم أن كل القصص الوارد في سورة الكهف تندرج تحت عنوان الموعظة، وهي في الأساس ما وردت إلا للعبرة والموعظة.
والمتتبع لآيات سورة الكهف، يلمس مدى اهتمامها في عرض هذا الأسلوب الذي يفتح الطريق إلى النفس مباشرة عن طريق الوجدان، فتهزه هزاً، وتثير كوامنه، كالسائل الذي تقلب رواسبه فتملأ كيانه، فالوعظ يستثير جميع مكنونات النفس البشرية المندفعة نحو إتباع الحق الذي فطر الله الناس عليه، ليوقفه عند نقطة لا يستطيع عندها طمس الحقيقة النابضة في نفسه، والتي قد غفل عنها بإتباع الشهوات فغدا وقد كفرها بعصيانه، فتأتي الموعظة في الوقت الصحيح والطريقة المناسبة كي تزيل ما علق على الفطرة من درن التكبر والفجور، ألم تلحظ كيف كان موقف صاحب الجنتين عندما طمس التكبر على قلبه وعطل فكره وعقله وخالف فطرته بكفره، فجاءه صاحبه المؤمن الذي وعظه مستثيراً ما في نفسه من إيمان (1).
قال تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} (الكهف/37).
وقال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّه} (الكهف/39).
__________
(1) يزن عبده: القواعد التربوية، ص69.
(1/42)
________________________________________
وقال تعالى: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} (الكهف/40 - 41)، فهذه نماذج من أساليب الموعظة اعتمدتها آيات سورة الكهف والمشاهد فيها أنها لما تخلو من أسلوب منطقي يستثير الحقائق الفطرية معتمداً على الترغيب والترهيب، وذلك من خلال التخويف من عذاب الله الواقع بالكافر والظالم، وهذا ما انتهت إليه أحداث قصة صاحب الجنتين: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً} (الكهف/42 - 43).
ومن آيات الموعظة في السورة الكريمة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} (الكهف/30 - 31).
إنها الموعظة بالترغيب وبيان خاتمة الإيمان والطاعة.
ومن آيات الموعظة في سورة الكهف قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف/46).
فلا يغتر إنسان بماله أو جاهه أو سلطانه أو قبيلته.
(1/43)
________________________________________
ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} (الكهف/57).
لأن العقاب النازل بالعصاة والكافرين لأكبر واعظ لمن كان له قلب وعقل يعي ويفهم.
ومنها قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} (الكهف/87 - 88).
وفي هذا أبلغ ترغيب وأعظم ترهيب, فالكفر والمعصية سبب العذاب في الدنيا والآخرة, وفي الطرف الثاني الإيمان والعمل الصالح سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
ثم نصل إلى نهاية المطاف مع قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَاءِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً، ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} (الكهف/103 - 106).
لأن الكثير من الناس يعملون أعمالاً يظنون أنهم إنما يحسنون صنعاً؛ وهم في الحقيقة كمن يحرث في البحر لا قيمة لأعمالهم بل هي حسرات عليهم يوم القيامة.
وهكذا يتبين لنا مما سبق أن سورة الكهف اعتمدت على الموعظة كأسلوب من أساليب التربية، وقد أكثرت من استعماله حسب توزيع السورة للموضوعات.


المطلب الثالث
أسلوب التوجيه التربوي بالحوار
(1/44)
________________________________________
أكثرت سور القرآن من استعمال أسلوب الحوار لعرض مبادئ هذا الدين وعقيدته وقيمه وأخلاقه وتشريعاته، وسورة الكهف على الخصوص أكثرت من استعمال هذا الأسلوب.
في هذا المطلب سأتناول الحوار بالبحث من خلال الفرعين التاليين:


الفرع الأول
حقيقة الحوار وأهميته
أولاً: الحوار لغةً:
هو مصدر من الفعل حاور، وحاور الرجل صاحبه، إذا جاوبه وراجعه في الكلام، أي رد أحدهما على الآخر وتراجعا في الكلام، واستحار الرجل غلامه أي استنطقه، بمعنى استجوبه.
وتأتي بمعنى تبادل الحديث والمفاوضة في أمر معيّن (1)، وجاء في المعجم الوسيط أن كلمة الحوار في اللغة مشتقة من تحاور وتحاوروا، أي تراجعوا الكلام بينهم، والحوار حديث يجري بين شخصين أو أكثر في العمل القصصي، أو بين ممثلين أو أكثر على المسرح (2)، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (المجادلة/1).
ثانياً: الحوار اصطلاحاً:
أورد العلماء تعريفات عدة للحوار، ومن أهمها ما يلي:
1. عرّف عبد الحميد الهاشمي الحوار بأنه: وسيلة تستخدم الإقناع لتمحيص الأفكار والمعلومات السابقة، واختبارها بطريق غير مباشر للتأكد من صحتها أو خطئها، لذا فهي تعتمد على التلقين المجرّد القائم على الأمر والنهي، أو على مجرد الإلقاء والسماع المطلقين، فالحوار طريقة تقوم على المناقشة المتبادلة بين طرفين وتخللها أسئلة وإجاباتها. (3)
__________
(1) أنظر؛ ابن منظور: لسان العرب، 1/ 750، وحسن الكرمي: الهادي إلى لغة العرب، دار لبنان , بيروت, الأولى, 1991 1/ 205.
(2) مصطفى إبراهيم: المعجم الوسيط،: المكتبة الإسلامية – اسطنبول – تركيا 1/ 205.
(3) الهاشمي: الرسول العربي المربي، دار الثقافة للجميع، دمشق، الأولى، 1981، ص17.
(1/45)
________________________________________
2. وعرّفها عمر الشيباني: تلك الطريقة التي تقوم على أساس الحوار والنقاش بالأسئلة والأجوبة، للوصول إلى حقيقة من الحقائق لا تتحمل الشك ولا النقد ولا الجدل (1).
3. وعرّف خليل زيادة الحوار بأنه: في مجمله مجموعة من الأساليب التي توظف لنقل معلومة لا بطريق الخبر، وإنما من خلال السؤال والجواب، أو رأيين يلتقيان أو يفترقان من حول الشيء ونقيضه، ما يعطي الإطار الذي تنتقل به المعلومة حيوية تفضل السرد الذي قد يشعر بالسأم والملل (2).
4. وعرّفه صالح بن حميد بأنه: مناقشة بين طرفين أو أطراف بقصد تصحيح الكلام وإظهار الحجة وإثبات الحق، ودفع الشبهة، ورد الفاسد من القول والرأي (3).
التعريف المختار:
من خلال تفحص التعاريف السابقة نجد أن التعريف المختار هو تعريف الأستاذ صالح بن حميد وهو: مناقشة بين طرفين أو أطراف بقصد تصحيح الكلام وإظهار الحجة وإثبات الحق ودفع الشبهة ورد الفاسد من القول والرأي، وذلك لما يلي:
- ذكره لأركان المحاورة وهما الطرفان المتحاوران والكلام والقصد.
- بيانه لأسلوب الحوار وطريقته.
- ذكره للهدف من الحوار وهو إثبات شيء أو رد آخر.
- بين وسيلة الحوار وهي الكلام.
- التركيز على الفكرة بعيداً عن الذات (4).
ثالثاً: أهمية الحوار من خلال:
- كونه أسلوباً من أساليب الدعوة إلى الله، استعمله القرآن الكريم واستعمله الرسل والأنبياء مع أقوامهم والسلف الصالح.
- أنه نوع من الجهاد في سبيل الله، ولكن مجاله وأداته اللسان والكلام.
__________
(1) عمر الشيباني: فلسفة التربية الإسلامية، المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس، الخامسة، 1985م، ص17.
(2) خليل زيادة: الحوار والمناظرة في القرآن الكريم، دار المنار، القاهرة، الأولى، 1986م، ص28.
(3) صالح بن حميد: معالم في منهج الدعوة، دار الأندلس، جدة، الأولى، 1999، ص212.
(4) حسني محمد العطار: الحوار في القرآن الكريم، بحث مقدم لكلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية، 2011، ص10.
(1/46)
________________________________________
- هو لغة التفاهم بين الناس كأفراد، وبينهم كجماعات ودول، ولا غنى عنه بأي حال من الأحوال، والعلماء المسلمون يهتمون به كثيراً.
- ضرورة تعلم مناهجه وآدابه وضوابطه حتى نسلم من الحوار المذموم.


الفرع الثاني
الحوار كأسلوب من أساليب التربية
امتاز الحوار الوارد في القرآن الكريم بميزات غاية في الأهمية، اختلف من خلالها عن أساليب الحوار البشرية، وعلى رأس هذه الميزات:
1. أنه حوار خالٍ من العبثية.
فهو حوار ذو أهداف سامية، يعمل على إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ويعمق الإيمان في النفوس، ليس له علاقة بالتنظير الجدلي.
2. أنه ذات مغزى ويبعث على الحياة والحركة، يؤدي إلى إظهار الغاية ويفرق بين المواقف، ويظهر انفعالات الذات.
والحوار في سورة الكهف إنما جاء متناسقاً مع الطبائع البشرية مؤثراً في سلوكها وعقلها ونفسها، ومن نماذج الحوار الوارد في سورة الكهف ما يلي:
- حديث الفتية: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} (الكهف/15)، يقول صاحب تفسير أنوار التنزيل: هذا حوار قام على أساس العقل في إثبات العبودية لله وحده وانتفاء الشرك عنه عقلاً، فعبارة (بسلطانٍ بيّن)، تعني برهان ظاهر، فإن الدين لا يؤخذ إلا به، وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود، وأن التقليد فيه غير جائز (1).
__________
(1) عبد الله البيضاوي: أنوار التنزيل، وأسرار التأويل، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الثانية، 1955م، ص2/ 3.
(1/47)
________________________________________
- ومن أمثلته قول العبد المؤمن: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} (الكهف/37)، فهذا حوار عقلي قائم على دعائم المنطق السليم رد فيه العبد المؤمن على صاحبه الغني الكافر بنعمة الله عليه، طالباً منه الرجوع وإتباع الحق الذي يجليه النظر والتأمل في خلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم يسوي الخلق ذكراناً وإناثاً، ومن خلال هذا البيان يعلن براءته من الإشراك بالله سبحانه وتعالى، هذا الحوار القائم على أسس القناعة الفعلية، المدعوم بالمشاهدات الحسية والمعتمد على التأمل والتدبر في هذه الحياة وما فيها، وعلى رأسها الإنسان، كل ذلك داعٍ إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
لهذا نجد أن هذا النوع من الحوار يظهر الحقيقة ناصعة بعيداً عن أي مجال من مجالات الشك لتكون أدعى للإتباع للحق المطلق، وضبط السلوك حسب موازينه.
ثم هو يعمل على الاستمرارية على الحق والثبات عليه من خلال الحجة والبرهان.
- ثم نجد نوعاً آخراً من الحوار يعتمد على الموعظة المعتمدة على الترغيب والترهيب، ونحن نعلم كم يلعب هذا الأسلوب من أدوار مؤثرة على النفس والروح، لتفتح الطريق مباشرة على الإيمان والالتزام، فالوعظ يستثير مكنونات النفس البشرية المندفعة نحو اتباع الحق الذي فطر الله الناس عليه.
ومن أمثلة هذا الحوار قوله تعالى على لسان الرجل المؤمن: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّه} (الكهف/39)، ثم تذكيره بما عند الله تعالى: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} (الكهف/40 - 41)
(1/48)
________________________________________
هذه النماذج من حوارات سورة الكهف وقد مر بعضها معنا سابقاً والتي تعتمد على الموعظة تأتي لتزيل ما علق على الفطرة من التكبر والفجور والذي نلحظه في الغني المتكبر، والموعظة هنا كما تعتمد على العاطفة وتستثيرها، تعتمد على العقل والنظر والمنطق.
يقول الأستاذ يزن عبده: وللموعظة تأثير كبير في تعديل السلوك ذلك أنها تلم بمكونات العقل والفطرة والعاطفة المنضبطة، لتجمع معاً في هيكل الحقيقة المطلقة وتشكل فيما بعد ذلك البعد السلوكي الممتد إلى أعماق الرضا والطمأنينة الدافعين إلى الطريق السليم والاستمرار عليه.
كذلك تفيض على النفس المؤمنة تلك الشفافية التي تجعل من قلب المسلم حصناً منيعاً أمام المعاصي والمنكرات والمسلكيات الخطأ، ذلك أن الترهيب الذي يصحب الموعظة يعمل على تعليق القلب بالله طالباً رحمته وخائفاً من عذابه (1).
الفرع الثالث
خصائص الحوار في سورة الكهف
امتاز أسلوب الحوار في سورة الكهف بخصائص من أهمها، ما يلي:
1. التلطّف: وهي خاصية تعمل على جذب الآخرين، لهذا لا غرابة حينما نسمع النبي يقول: "إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله" (2).
ومن أمثلتها قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} (الكهف/19).
ومن أمثلته قوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (الكهف/66).
__________
(1) بزن عبده: القواعد التربوية، ص70.
(2) أخرجه الترمذي في سننه: ح (2743)، ك الإيمان، باب في استكمال الإيمان، 4/ 122.
(1/49)
________________________________________
2. العناية في انتقاء الألفاظ: وفي هذا زيادة الفاعلية والتأثير والاقناع على الطرف الآخر، وبما ينتج عنه من ثقة بالنفس والثبات ووضوح الفكرة، ومن أمثلته آيات قصة صاحب الجنتين من بدايتها حتى نهايتها، وكذلك الألفاظ المستعملة في حوار موسى مع الرجل الصالح من خلال الكلمات: (إمرا، نكراً، تسطع، تستطيع)، ومدى تأثيرها النفسي والعقلي.
3. واقعية هذا الحوار وبعده عن الجدل: وذلك بالتركيز على جوانب العمل النافع والبعد عن المراء.
ومن أمثلته قوله تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} (الكهف/22).
4. الدفاع عن الحق: فالهدف والغاية من سرد الحوار هي الدفاع عن الحق وإظهاره وهذا مسلك تربوي أصيل، ومن أمثلته قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} (الكهف/37 - 39)
5. الثقة بالنفس: وهي ميزة يتصف بها أهل الحق، فلا يعرفون للخوف طريقاً إلى قلوبهم، وذلك لاعتمادهم على الحق المطلق، والهدف السامي.
6. تعدد الأساليب: وهذا ما يظهر قدرة وتمكن المحاور وطريق سريع للنجاح، وقد تعددت أساليب الحوار في سورة الكهف، فمنها:
- الأسلوب العقلي.
- الأسلوب المعتمد على الموعظة والتذكير.
- الأسلوب المعتمد على الترهيب من خلال الاستفهام الاستنكاري.
7. الاستماع: وهذا ما لاحظناه في حوار موسى والرجل الصالح، وقصة صاحب الجنتين وكذلك حوار ذو القرنين، وفن الاستماع مهم جداً للمحاور من خلاله يرتب أفكاره ويصنفها، كي يكون رده أكثر تأثيراً.
(1/50)
________________________________________
هناك غير هذه الأساليب التربوية التي اعتمدتها القصة في سورة الكهف، هناك أساليب أخرى، منها: أسلوب الترغيب، وأسلوب الإقناع، وأسلوب الاستكشاف، وغيرها، إلا أننا استكفينا بالحديث عن ثلاثة أساليب منها اختصاراً ومثالاً.


المبحث الرابع
استفادة الشباب من القيم التربوية الواردة في قصص سورة الكهف


الدين الإسلامي دين عالمي، للعالمين، وبالتالي فإن منهجه وقيمه وتشريعاته، وهديه، هي عامة للناس جميعاً، على الجميع أن يوظفها التوظيف اللائق بها، وأن نستفيد منها قدر الإمكان.
ولا تستطيع فئة من الناس أو جنس من الأجناس أن يحتكر الاستفادة من القرآن وقيمه التربوية دون غيره من الشعوب.
أما بخصوص استفادة الشباب على عمومهم والشباب الفلسطيني على الخصوص وذلك لكون هذا الشعب يمر بظروف خاصة وحياة استثنائية، قلنا أن نخصه بما يتلاءم مع ظروفه الخاصة، أن نخصه ببعض ما يمكن أن يستفيده من قيم سلوكية وتربوية من سورة الكهف، فعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالقدوة:
1. على الشباب الفلسطيني أن لا يعيش منشغلاً بذاته وبقضيته فقط، بل عليه مد يد الخير والمعونة فيما يقدر عليه لغيره من إخوانه المسلمين وغيرهم.
2. أن يعمل على توحيد صفه، وقدراته، بحيث يكون بوتقة واحدة في وجه العدو, وفي وجه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.
3. أن يعمل على ترسيخ قيم الجماعية، فالجماعة تتمثل في الفرد, والفرد يظهر من خلال الجماعة، وبالتالي تظهر روح البذل والعطاء والتضحية.
4. تعمل القيم التربوية على ربط الناس بالخالق رب العالمين، ربطاً خلقياً وروحياً، مما ينتج عنه إيمان قوي وإرادة صلبة.
(1/51)
________________________________________
حينما اطلعنا على دراسة الأستاذ محمود حمودة المقدمة لكلية التربية، وجدناه قد صنف القيم التربوية تصنيفاً غاية في الجمال، وهو ما تحدثنا عنه في المبحث الثاني من دراستنا، ثم وجدناه قد انتهى إلى آلية الاستفادة من هذه القيم التربوية في الفصل الرابع والأخير من دراسته، وهذا ملخص ما تحدث عنه الباحث (1):
أولاً: غرس العقيدة الإسلامية في نفوس الأجيال المسلمة:
فالعقيدة الإسلامية قوة فكرية تدفع المؤمنين بها إلى العمل الدؤوب وبذل الجهد المتواصل لتحقيق العقيدة كواقع عملي في سلوك الأفراد.
ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم" (2).
ثانياً: جعل العلم والعمل والجهاد من باب التعبد لله:
فأي عمل كان فيه حظ لله، ينجح هذا العمل، إن علماً أو تجارة، أو عملاً أو جهاداً، حتى العلاقات الاجتماعية والأسرية، ما كان فيه نصيب لله دام واتصل، وجعل علاقات الشباب فيما بينهم من باب الأخوة في الله.
ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "يا معاذ إني لأحبك، فقال معاذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا أحبك، قال: أوصيك يا معاذ لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (3).
ثالثاً: ترسيخ مبادئ الاقتصاد لدى الشباب، ومنها:
- الاقتصاد في النفقات.
- المحافظة على المال العام.
- عدم التبذير في النفقات على المأكل والمشرب والملبس.
- عدم أكل أموال الناس بالباطل وخصوصاً أقرانهم من الشباب.
رابعاً: تفعيل العمل الجماعي في نفوسهم من خلال الأنشطة المتعددة، ويكون ذلك داخل المدارس والمعاهد والجامعات، وعلى مستوى الأحياء والحارات والقرى، ومن خلال العمل التطوعي.
__________
(1) أنظر؛ محمود حمودة: القيم التربوية في القصص القرآني، ص92 , بتصرف.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: ح (38)، ك الإيمان، 1/ 206.
(3) أخرجه أحمد في مسنده: 5/ 245، ح (22018/ 16/204).
(1/52)
________________________________________
خامساً: تفعيل دور الشباب من خلال المؤسسات الاجتماعية والثقافية والتربوية.
سادساً: استخدام الأساليب المتنوعة والمناسبة لمرحلة الشباب، ويكون ذلك من خلال:
- حثهم على الالتزام بالعبادات لما فيها من تهذيب للنفس والسلوك.
- حثهم على الابتكار وعدم التقليد الأعمى.
- الاعتدال في استخدام العقاب.
- تصحيح السلوك السلبي وتعزيز السلوك الإيجابي.
- استخدام أسلوب الحوار المقنع.
- استخدام أسلوب القصص.
- قراءة القصص قراءة فردية وجماعية.
- مشاهدة بعض القصص المفيد مشاهدة جماعية.
- التركيز على قصص الصحابة والمجاهدين والبارزين من العلماء.
- عمل مسابقات وتقديم جوائز ذات قيمة.
- إثراء المناهج بالقصص المفيد لما يحويه من قيم تربوية.
سابعاً: استخدام الوسائل التربوية، ومنها:
- إتاحة الفرصة أمام الجميع لممارسة الأنشطة المتنوعة.
- تكليف الطلاب بكتابة التقارير والمقالات حول بعض القيم التربوية والفضائل الأخلاقية.
- استثمار الإذاعة بما يعود على الشباب والمدرسة بالنفع والتغيير.
- تشجيع المواهب وتنميتها، كالشعر والمسرح والنشيد والإلقاء والرسم والرياضات المتنوعة، وغيرها.
- إحياء المناسبات المتنوعة دينية ووطنية وتاريخية، والاهتمام بما له علاقة برموز الأمة.
- التعاون مع شخصيات من خارج المحيط البيئي، كالشخصيات الأكاديمية والمشاهير من جميع الأطياف.
بهذا نكون قد استفدنا من هذه القيم التربوية وجعلناها نماذج حية في حياة الناس، وبالتالي ربطنا بين ما هو فكر وبين ما هو سلوك حياتي.


نتائج الدراسة:
- القيم التربوية بأساليبها المتعددة، اهتم بها القرآن اهتماماً كبيراً.
- عدم فصل الدين بين القيم كفكر وثقافة وبينها كسلوك حياتي مجتمعي.
- استعمل القرآن القصة بكل أنواعها كأسلوب من أساليب الدعوة.
- تميزت القصة القرآنية عن غيرها من القصص الإنساني.
(1/53)
________________________________________
- اشتملت سورة الكهف على عدة قصص مختلفة الاتجاه إلا أنه يربط بينها وحدة الهدف والدرس والعبرة.
- لا يغفل الإسلام قيمة المناهج التربوية ومدى تأثيرها.
- يعمل الإسلام على غرس هذه القيم في نفوس الناشئة والشباب لما لها من تأثير كبير على سلوكهم.
- يحدد الإسلام المصادر المستنبطة منها هذه القيم.
- من واجب المسلم أن يضبط نظرته إلى متاع الدنيا بنظرة عقائدية دينية.
- من واجب المسلم أن يلتزم بالآداب الإسلامية.
- ضرب القرآن النماذج الحية للقيم الحسنة كي يتخذها الناس قدوة.
- ركز الإسلام على المعلمين، بحيث يكونوا قدوة صالحة للشباب.
توصيات الدراسة:
- تعريف المسلمين بما تشتمل عليه القصص من الفوائد.
- إجراء دراسات تربوية على قصص من أجل استخراج تربية إسلامية متأخرة.
- توعية الشباب بما في القصص من قيم تربوية.
- العمل على غرس هذه القيم في نفوس وأرواح الشباب الفلسطيني.
- تصنيف هذه القيم وجعلها من ضمن المنهاج الفلسطيني.
- استغلال وتوظيف وسائل الإعلام قدر الإمكان لنشر وتوضيح هذه القيم.


الكشافات


أولاً: كشاف الآيات القرآنية.
ثانياً: كشاف الحديث الشريف.
ثالثاً: المصادر و المراجع.
رابعاً: الفهرس


أولاً. كشّاف الآيات القرآنية:
الرقم ... اسم السورة ... الآية الكريمة ... رقم الآية ... الصفحة
1. ... البقرة ... وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ... 127 - 129 ... 15
2. ... آل عمران ... إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ ... 62 ... 10
3. ... الأعراف ... قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ... 32 ... 39
4. ... هود ... تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا ... 49 ... 13
5. ... هود ... وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ... 120 ... 13
6. ... يوسف ... إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ ... 4 - 6 ... 15
7. ... يوسف ... لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ ... 111 ... 2+13
(1/54)
________________________________________
8. ... النحل ... ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ... 125 ... 47
9. ... الإسراء ... إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... 14 ... 18
10. ... الكهف ... إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً ... 7 ... 34
11. ... الكهف ... أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ... 9 - 12 ... 14+21
12. ... الكهف ... نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ... 13 ... 14
13. ... الكهف ... وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا ... 14 ... 21+22
14. ... الكهف ... هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ... 15 ... 52
15. ... الكهف ... وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ... 16 ... 26
16. ... الكهف ... وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ ... 17 - 18 ... 33
17. ... الكهف ... فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ... 19 ... 54
18. ... الكهف ... فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً ... 22 ... 55
19. ... الكهف ... وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ... 23 - 24 ... 26+37
20. ... الكهف ... وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ... 28 - 29 ... 24+44
21. ... الكهف ... إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا ... 30 ... 48
22. ... الكهف ... أولئك لهم جنات عدن تجري ... 31 ... 35
23. ... الكهف ... وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ... 32 - 33 ... 34
24. ... الكهف ... وكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ ... 34 - 35 ... 25
25. ... الكهف ... وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً ... 36 ... 40
26. ... الكهف ... أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ... 37 ... 48+53+55
27. ... الكهف ... لكنا هو الله ربي ... 38 ... 55
28. ... الكهف ... وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ... 39 ... 48+55
29. ... الكهف ... فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ... 40 - 41 ... 48+53
30. ... الكهف ... وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ... 42 ... 41+48
(1/55)
________________________________________
31. ... الكهف ... هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ... 44 ... 37+40
32. ... الكهف ... واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ... 45 ... 35
33. ... الكهف ... الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... 46 ... 39+48
34. ... الكهف ... ويوم نسير الجبال ... 47 ... 35
35. ... الكهف ... ويوم يقول نادوا شركائي الذين ... 52+53 ... 41
36. ... الكهف ... وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ... 57 ... 49
37. ... الكهف ... وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ ... 60 ... 27
38. ... الكهف ... قَالَ ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلَىَ آثَارِهِمَا قَصَصاً ... 64 ... 10
39. ... الكهف ... فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه ... 65 ... 41
40. ... الكهف ... قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي ... 66 - 70 ... 27+54
41. ... الكهف ... أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ... 79 - 82 ... 38+41
42. ... الكهف ... ويسألونك عن ذي القرنين ... 83 ... 41
43. ... الكهف ... إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ ... 84 ... 41+45
44. ... الكهف ... حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ... 86 ... 34
45. ... الكهف ... قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ... 87 - 88 ... 49
46. ... الكهف ... حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ... 90 ... 34
47. ... الكهف ... قَاْلُوْا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ... 94 - 95 ... 23+41+45
48. ... الكهف ... أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي ... 102 ... 41
49. ... الكهف ... قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ... 103 - 106 ... 41+49
50. ... الكهف ... فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ ... 110 ... 26
51. ... القصص ... وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ ... 11 ... 10
52. ... القصص ... وابتغ فيما آتاك الله ... 77 ... 39
53. ... المجادلة ... وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ... 1 ... 50


ثانياً. كشّاف الأحاديث:
الرقم ... طرف الحديث ... الصفحة
1 ... من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ... مسلم ... 15
2 ... من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة ... الدارمي ... 15
3 ... ما نقصت صدقة من مال ... مسلم ... 21
4 ... يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الدر ... أحمد ... 23
(1/56)
________________________________________
5 ... إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء ... مسلم ... 23
6 ... ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ... أحمد ... 24
7 ... بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل ... البخاري ... 24
8 ... ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة ... أحمد ... 28
9 ... من وقر عالماً فقد وقر ربه ... ابن عراق ... 28
10 ... إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ... الترمذي ... 35
11 ... الدين النصيحة ... مسلم ... 42
12 ... من أنت قال أنا محمد بن عبد الله ... ----- ... 45
13 ... إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله" ... الترمذي ... 47
14 ... قل آمنت بالله ثم استقم ... مسلم ... 49
15 ... يا معاذ إني لأحبك ... أحمد ... 50


المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
1. إبراهيم: مصطفى , المعجم الوسيط،: المكتبة الإسلامية – اسطنبول – تركيا.
2. ابن الحجاج: مسلم، الصحيح , دار الخير، بيروت، الثالثة، 1996م.
3. ابن الحمود: علي , الإعجاز الجمالي في قصص القرآن الكريم، دراسة مقدمة لكلية اللغة العربية، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، 2012.
4. ابن حميد: صالح , القدوة مبادئ ونماذج، مقال على الانترنت.
5. بن حميد: صالح , معالم في منهج الدعوة، دار الأندلس، جدة، الأولى، 1999.
6. ابن حنبل: أحمد , المسند، دار الحديث , القاهرة , الأولى , 1995.
7. ابن عراق: علي بن الحسن الكناني , تنزيه الشريعة , دار الكتب العلمية , بيروت , الأولى , 1981.
8. ابن قيم الجوزية: محمد , مفتاح دار السعادة، دار الجيل، بيروت، 1994م.
9. ابن منظور: محمد بن جلال الدين , لسان العرب، دار المعارف , مصر.
10. أبو عزيز: سعد، قصص القرآن دروس وعبر، دار الفجر، القاهرة، الأولى، 1999م.
11. أبو العينين: علي خليل , القيم الإسلامية والتربوية، مكتبة إبراهيم الحلبي، مكة المكرمة، 1988م.
12. أحمد: إسماعيل حسنين , غرس القيم الإسلامية في نفوس الناشئة، الدراسات الإسلامية، عدد72، سنة 2002م.
13. الأصبهاني: الراغب: مفردات ألفاظ القرآن، مصطفى البابي الحلبي , القاهرة.
(1/57)
________________________________________
14. أيوب: حسن , السلوك الاجتماعي في الإسلام، دار البحوث العلمية، الكويت، الثانية، 1979
15. البيضاوي: عبد الله , أنوار التنزيل، وأسرار التأويل، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الثانية، 1955م.
16. الجرجاني: علي بن محمد , التعريفات، شركة القدس، القاهرة، الأولى، 2007.
17. الجزائري: أبو بكر , أيسر التفاسير، مكتبة السنة، دمنهور، الأولى، 2002.
18. الجواهري: إسماعيل بن حماد , الصحاح، دار العلم للملايين , بيروت , الثانية , 1979.
19. الحلو: منار , آداب التعامل في ضوء القصص القرآني، رسالة ماجستير، مقدمة لكلية أصول
20. الدين، قسم التفسير، الجامعة الإسلامية، غزة، 2011.
21. حمودة: محمود , القيم التربوية المتضمنة في قصص المنهاج الفلسطيني , رسالة ماجستير , كلية التربية , الجامعة الإسلامية , غزة , 2009.
22. الخالدي: صلاح , مع قصص السابقين في القرآن، دار القلم، دمشق، الأولى، 1989م.
23. الخطيب: عبد الكريم , القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، دار المعرفة , بيروت , الثانية , 1975.
24. الدارمي: عبد الله بن بهرام الدارمي، السنن , دار الفكر، بيروت، 1994م.
25. الرازي: مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية , بيروت , الأولى , 2000.
26. الرويلي: عبد العزيز , القدوة الحسنة في القرآن الكريم، مقال على شبكة الإنترنت بتاريخ11/ 1/2012م.
27. زاهر: ضياء , القيم في العملية التربوية، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، 1986م.
28. الزبيدي: محمد مرتضى , تاج العروس , مكتبة الحياة , بيروت.
29. زيادة: خليل , الحوار والمناظرة في القرآن الكريم، دار المنار، القاهرة، الأولى، 1986م.
30. السباعي: مريم , القصة في القرآن الكريم، دار نهضة مصر , القاهرة , 1987.
31. السعدي: عبد الرحمن , تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان , دار ابن القيم , القاهرة , الأولى , 2000
32. سند: غسان منير , القيم والمجتمع، دار صادر، بيروت، 1997م.
(1/58)
________________________________________
33. الشوكاني: فتح القدير، دار الفكر، بيروت، الأولى.
34. الشيباني: عمر, فلسفة التربية الإسلامية، المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس، الخامسة، 1985م.
35. الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعارف، مصر.
36. طنطاوي: محمد سيد , التفسير الوسيط للقرآن الكريم، نهضة مصر، القاهرة، الأولى، 1998م.
37. طنطاوي: محمد سيد , القيم التربوية في القصص القرآني، دار الفكر العربي، القاهرة، 1996م.
38. العاجز: فؤاد , القيم وطرق تعلمها، دراسة مقدمة إلى مؤتمر كلية التربية , جامعة اليرموك , الأردن, 1999م.
39. العطار: حسني محمد , الحوار في القرآن الكريم، بحث مقدم لكلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية، 2011.
40. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الثقافة، بيروت، الأولى.
41. القطان: مناع , مباحث في علوم القرآن، مكتبة وهبة , القاهرة , السابعة.
42. قطب: سيد , التصوير الفني في القرآن، دار الشروق , القاهرة , السادسة عشرة , 2002.
43. قطب: سيد , في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، السابعة، 1978م.
44. قطب: محمد , القصة في القرآن، دار قباء , القاهرة , 2002.
45. الكرمي: حسن سعيد, الهادي إلى لغة العرب، دار لبنان , بيروت, الأولى, 1991
46. المدني: محمد , القصص الهادف كما نراه في سورة الكهف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1964م.
47. الميداني: عبد الرحمن , فقه الدعوة إلى الله , دار القلم , دمشق , الثانية , 2004.
48. نقرة: التهامي , سيكولوجية القصة في القرآن ـ الشركة التونسية للتوزيع ـ تونس - الثانية ـ 1987.
49. الهاشمي: عبد الحميد , الرسول العربي المربي، دار الثقافة للجميع، دمشق، الأولى، 1981.
50. الهندي: علي بن حسام الدين المتقي , كنز العمال , دار الكتب العلمية , بيروت , الأولى , 1998.


قائمة المحتويات
الإهداء ... 3
المقدمة ... 4
التمهيد: القصة القرآنية ... 9
المطلب الأول: حقيقة القصة. ... 10
(1/59)
________________________________________
المطلب الثاني: أنواع القصة القرآنية. ... 12
المطلب الثالث: أهداف القصة القرآنية. ... 13
المطلب الرابع: خصائص القصة القرآنية. ... 14
المبحث الأول ... 16 ... القيم التربوية المستنبطة من قصص سورة الكهف
المطلب الأول: التعريف بسورة الكهف , وحقيقة القيم التربوية. ... 17
المطلب الثاني: القيم التربوية المستنبطة من قصص سورة الكهف. ... 21
الفرع الأول: القيم الإيمانية. ... 21
الفرع الثاني: قيم أخلاقية. ... 24
الفرع الثالث: قيم تعبدية. ... 26
الفرع الرابع: قيم تعليمية. ... 27
الفرع الخامس: قيم جمالية. ... 33
المبحث الثاني ... 36 ... المجالات التوجيهية التربوية من خلال قصص سورة الكهف
المطلب الأول: توجيهات تربوية متعلقة بالعقيدة الإلهية. ... 37
المطلب الثاني: توجيهات تربوية متعلقة بالقضايا الحياتية. ... 39
الفرع الأول: موقف المؤمن من متاع الدنيا. ... 39
الفرع الثاني: حقيقة التكريم والإهانة. ... 40
المبحث الثالث ... 42 ... أهم الأساليب التربوية في قصص سورة الكهف
المطلب الأول: أسلوب التوجيه التربوي بالقدرة. ... 43
الفرع الأول: حقيقة القدوة وأهميتها. ... 43
الفرع الثاني: القدوة كما وردت في قصص سورة الكهف. ... 44
المطلب الثاني: أسلوب التوجيه التربوي بالموعظة ... 46
الفرع الأول: حقيقة الموعظة وأهميتها ... 46
الفرع الثاني: الموعظة من الأساليب التربوية. ... 47
المطلب الثالث: أسلوب التوجيه التربوي بالحوار. ... 50
الفرع الأول: حقيقة الحوار وأهميته ... 50
الفرع الثاني: الحوار من الأساليب التربوية. ... 52
الفرع الثالث: خصائص الحوار في سورة الكهف. ... 54
المبحث الرابع ... 56 ... استفادة الشباب من القيم الواردة في قصص سورة الكهف
الخاتمة: ... 60
الكشافات: ... 61
أولاً: كشاف الآيات القرآنية. ... 62
ثانياً: كشاف الحديث الشريف. ... 65
ثالثاً: ثالثاً: المصادر والمراجع ... 66
رابعاً: قائمة المحتويات. ... 68
(1/60)
________________________________________
























( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )




مناورات الأشقياء لقتل خاتم الأنبياء
مناورات الأشقياء لقتل خاتم الأنبياء
أبو يوسف محمد زايد
بسم الله ا لرحمن ا لرحيم
الحمد لله الذي نادي عبده المجتبى ورسوله المصطفى ، فقال :? يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً * ? ( الأحزاب 45-46 )
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وأبى الكافرون ، ورفض الملحدون ، وأعرض الصم البكم العمي الذين لا يعقلون... قال تعالى : ? هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ? (التوبة : 33 ) ؛ وقال : ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً? (الفتح : 28 ) ؛ وقال مخاطبا نبيه الكريم عليه أنمى الصلاة وأبلغ التسليم : ? إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ? (النمل : 80 ) ؛ وقال :
?وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ? (النمل : 81 ) ؛وقال: ? أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ? (الزخرف : 40 )....
(1/1)
________________________________________
الحمد لله الذي قال في محكم كتابه المبين : ? اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ? (الحج : 75 ) ؛ وقال : ? اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ? (الأنعام : 124 ) ؛ وقال : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ? (الأنعام : 112 ) وقال : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً? (الفرقان : 31 )...
الحمد لله البالغ أمره ، النافذ حكمه ، كتب على نفسه الرحمة ، وقال ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ? (الأعراف : 156 )
الحمد لله العزيز ذي انتقام الذي قال : ? يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ) (الدخان : 16 ) ؛ وقال ( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ? (السجدة : 22 ) ؛ وقال : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ? (الروم : 47 ) ؛ وقال : ? لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ? (آل عمران : 181 )
(1/2)
________________________________________
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وجميع إخوانه الأنبياء وعلى آله الأصفياء وصحابته الأوفياء وكل من كان من الأتقياء إلى اليوم الذي يفصل فيه الواحد القهار بين السعداء أهل دار السلامة والكرامة ، والأشقياء حطب دار الندامة ...
أما بعد ، فهذا كتاب حاولت أن أجمع فيه ما يسر الله لي من المناورات التي حاكها يهود غاوون ومشركون وثنيون لقتل سيد ولد آدم ، خاتم الأنبياء والمرسلين (... وقد كان اعتمادي بالدرجة الأولى على كتابي التفسير والبداية والنهاية للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله ، مع بعض الإضافات من غيرهما أبينه - إن شاء الله - في محله..........
تنبه : سميتهم أشقياء لما أقدموا عليه من شنيع الفعال ، بل أشنعها وأكبرها مقتا عند الله ، ألا وهو محاولة اغتيال النبي المرسل رحمة للعالمين...فهم أشقياء حين تلبسهم بالجريمة والإقدام على تنفيذها ... حتى كان منهم من غلبت عليه شقوته ومات على كفره فحق عليه قول ربنا فيمن قال فيهم : ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ? (آل عمران : 21 ) ، ومنهم من شرح الله صدره للإسلام فأسلم وجهه لله وحسن إسلامه فأصبح من صحابة رسول الله( وشارك معه في غزواته وحارب إلى جنبه الشريف ضد أهل الشرك والبغي والفساد في الأرض...وأصبح من رواة حديثه والمبلغين لسنته ...اهـ.
وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل : ? مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? (الأعراف : 178 ) ويقول : ? مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ? (الكهف : 17 )
(1/3)
________________________________________
ويقول: ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ? (الزمر : 23 ).....
نعم.. من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له... أنزل على رسول الله( أمره : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * (الحجر : 94- 96)
قال ابن كثير رحمه الله
يقول تعالى آمراً رسوله ( بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به, وهو مواجهة المشركين به, كما قال ابن عباس في قوله: {فاصدع بما تؤمر} أي أمضه, وفي رواية :افعل ما تؤمر.. وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود: ما زال النبي ( مستخفياً حتى نزلت {فاصدع بما تؤمر}, فخرج هو وأصحابه. وقوله: {وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين} أي بلغ ما أنزل إليك من ربك, ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله {ودّوا لو تدهن فيدهنون} ولا تخفهم فإن لله كافيك إياهم وحافظك منهم, كقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
(1/4)
________________________________________
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن, حدثناإسحاق بن إدريس, حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم, عن أنس قال: سمعت أنساً يقول في هذه الاَية, {إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر} قال: مر رسول الله ( فغمزه بعضهم فجاء جبريل, أحسبه قال: فغمزهم, فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. قال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر, وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم : من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب أبي زمعة , كان رسول الله ( فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه, فقال: "اللهم أعم بصره, وأثكله ولده" ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة, ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, ومن بني سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد, ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن ـ عمرو بن ملكان ـ. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله ( الاستهزاء أنزل الله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ...وقال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء,أن جبريل أتى رسول الله ( وهو يطوف بالبيت , فقام وقام رسول الله ( إلى جنبه, فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه, فاستسقى بطنه, ومر به الوليد بن المغيرة, فأشار إلى أثر جرحٍ بأسفل كعب رجله, وكان أصابه قبل ذلك بسنتين, وهو يجز إزاره, وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له, فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش, وليس بشيء, فانتفض به فقتله, ومر به العاص بن وائل, فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على
(1/5)
________________________________________
حمار له يريد الطائف, فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه فقتلته, ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل, عن ابن عباس قال: كان رأسهم الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم, وهكذاروي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به, عن يزيد عن عروة بطوله, إلا أن سعيداً يقول: الحارث بن غيطلة, وعكرمة يقول الحارث بن قيس. قال الزهري: وصدقا هو الحارث بن قيس, وأمه غيطلة, وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة. وقال الشعبي: كانوا سبعة, والمشهور الأول: وقوله: {الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون} تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع لله معبوداً آخر.
وقال القرطبي رحمه الله :
قوله تعالى: "فاصدع بما تؤمر" أي بالذي تؤمر به، أي بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم، فقد أمرك الله بذلك. والصدع: الشق. وتصدع القوم أي تفرقوا؛ ومنه "يومئذ يصدعون" [الروم: 43] أي يتفرقون. وصدعته فانصدع أي انشق. أصل الصدع الفرق والشق ... فقوله: "اصدع بما تؤمر" قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر، أي أظهر دينك، فـ "ما" مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر. وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر، أي اقصد. وقيل: "فاصدع بما تؤمر" أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون بأن يجيب البعض؛ فيرجع الصدع على هذا إلى صدع جماعة الكفار.
(1/6)
________________________________________
قوله تعالى: "وأعرض عن المشركين" أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. وقال ابن عباس: (هو منسوخ بقوله "فاقتلوا المشركين" [التوبة: 5]). وقال عبدالله بن عبيد: ما زال النبي ( مستخفيا حتى نزل قوله تعالى: "فاصدع بما تؤمر" فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. "وأعرض عن المشركين" لا تبال بهم. قال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله ( الاستهزاء أنزل الله تعالى "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون". والمعنى: اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله؛ فإن الله كافيك مَن آذاك كما كفاك المستهزئين،
قلت : وصدع رسول الله( بما أمره به ربه جل في علاه ، فصدقه ناس حبب الله إليهم الإيمان وشرح صدورهم لتلقي نور الإسلام فكانوا من جنده الذين جاهدوا في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم فحملوا رايته عالية ، حتى أظهره الله الذي نصرعبده ورسوله ومن سار معه على النهج القويم والصراط المستقبم آخذين ما جاء به من الهدى والرشاد من عند رب العباد ؛ وكذبه رهط لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فبقوا في ظلمات غيهم يعمهون وفي غيابات الجهل يتخبطون، وهؤلاء هم الأشقياء الذين آذوا رسول رب العالمين للناس أجمعين ... بسطوا إليه ألسنتهم بالسوء وأيدهم بشتى أنواع السلاح ... فسوف يعلمون ..
(1/7)
________________________________________
*** وقبل الشروع في المناورات والمؤامرات التي كان غرض مَن خططوا لها مع العزم على تنفيذها القضاء على الدين الجديد ووأده في شخص النبي المبعوث بتبليغه ، أشير إلى تلكم النية السيئة التى سرعان ما انقلبت إلى حسنة من أعظم الحسنات بفضل استجابة العلي القريب، القدير المجيب، دعاء الحبيب المصطفى ( لما نادى ربه قال : اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب ، قال: وكان أحبهما إليه عمر- أخرجه الترمذي ... ورواه ابن ماجه ولفظه :اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة -
وقصة إسلام الفاروق عمر رضي الله عنه لا يخلو منها كتاب في التفسير أو السيرة أو التاريخ... ففي البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله :
قال ابن اسحاق وكان اسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله ( إلى الحبشة..-
- حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر فوقف علي وهو على شركه، فقالت وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا... قالت ،فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله ؟ قلت : نعم.. والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا.. قالت ، فقال : صحبكم الله..ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما ارى خروجنا، قالت : فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له : يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا ؟ قال: أطمعت في اسلامه ؟ قالت ،قلت : نعم ...قال: لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب.... قالت : يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الاسلام ...
(1/8)
________________________________________
قلت هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الاربعين من المسلمين فان المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين اللهم إلا أن يقال إنه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين ويؤيد هذا ما ذكره ابن اسحاق ههنا في قصة اسلام عمر وحده رضي الله عنه وسياقها ، فانه قال: وكان اسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كانت قد اسلمت واسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون باسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام رجل من بني عدي قد أسلم أيضا مستخفيا باسلامه من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرؤها القرآن فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله ( ورهطا من أصحابه ...فذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين من بين رجال ونساء ومع رسول الله ( عمه حمزة وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله ( بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ؛ فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدا ، هذا الصابي الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله... فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ قال : وأي أهل بيتي ؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة ، فقد والله أسلما وتابعا محمدا (على دينه فعليك بهما.. فرجع عمر عائدا إلى أخته فاطمة وعندها خباب بن الأرت معه صحيفة فيها( طه ) يقريها إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها.. وقد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها؛ فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له :ما سمعت شيئا ..قال: بلى ... والله لقد أخبرت أنكما
(1/9)
________________________________________
تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم ..قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك... فلما رأى عمر ما باخته من الدم ندم على ما صنع وارعوى وقال لاخته : أعطيني هذه الصحيفة التي كنتم تقرؤن آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ...وكان عمر كاتبا ؛ فلما قال ذلك قالت له اخته: إنا نخشاك عليها.. قال : لا تخافي... وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها اليها... فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت :يا أخي ، إنك نجس على شركك وإنه لا يمسه إلا المطهرون... فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها (طه) فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.. فلما سمع ذلك خباب بن الأرت خرج إليه فقال له : والله يا عمر إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ( فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الاسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب ... فالله الله يا عمر .. فقال عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأُسلم ..فقال له خباب : هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه ...فاخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله (وأصحابه فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله (فنظر من خلل الباب فاذا هو بعمر متوشح بالسيف فرجع إلى رسول الله ( وهو فزع فقال: يا رسول الله ، هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف ...فقال حمزة: فاذن له فان كان جاء يريد خيرا بذلناه وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه ... فقال رسول الله ( :ايذن له .فاذن له الرجل ونهض اليه رسول الله ( حتى لقيه في الحجرة فاخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة فقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب ؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة... فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله ...قال فكبر رسول الله ( تكبيرة
(1/10)
________________________________________
فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم فتفرق أصحاب رسول الله ( من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع اسلام حمزة وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله ( وينتصفون بهما من عدوهم ..
قال ابن اسحاق فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن اسلام عمر حين أسلم رضي الله عنه .
وقال : حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي عن أصحابه عطاء ومجاهد وعمن روى ذلك أن اسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول كنت للاسلام مباعدا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك فلم أجد فيه منهم أحدا فقلت لو أني جئت فلانا الخمار لعلي أجد عنده خمرا فاشرب منها فخرجت فجئته فلم أجده قال فقلت لو اني جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين قال فجئت المسجد فاذا رسول الله ( قائم يصلي.. وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام .. وكان مصلاه بين الركنين الاسود واليماني .. قال فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى اسمع ما يقول فقلت لئن دنوت منه لاستمع منه لأروعنَّه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدا ورسول الله ( قائم يصلي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة قال فلما سمعت القرآن رق له قلبي وبكيت ودخلني الاسلام فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله ( صلاته ثم انصرف وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين وكان مسكنه في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية... قال عمر فتبعته حتى اذا دخل بين دار عباس ودار ابن أزهر أدركته فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما اتبعته لاوذيه فنهمني ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة ؟ قال قلت جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله ...قال فحمد الله رسول الله ( ثم قال: قد هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات ثم انصرفت ودخل رسول الله ( بيته .. قال ابن اسحاق
(1/11)
________________________________________
فالله أعلم أي ذلك كان ...
قال ابن اسحاق: وحدثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال : لما أسلم عمر قال: أي قريش انقل للحديث؟ فقيل له جميل بن معمر الجمحي.. فغدا عليه ؛ قال عبد الله وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كلما رأيت حتى جاءه فقال له: اعلمت يا جميل اني أسلمت ودخلت في دين محمد ( ؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه ، واتبعه عمر واتبعته أنا حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش، وهم في انديتهم حول الكعبة ، ألا إن ابن الخطاب قد صبا ...قال يقول عمر من خلفه : كذب ولكني قد اسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله.... وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤسهم.. قال وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم ، فاحلف بالله ان لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا ... قال فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم ؟ فقالوا : صبأ عمر.. قال: فمه ؟ رجل اختار لنفسه امرا ، فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا .؟ خلوا عن الرجل... قال فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه ..قال فقلت لأبي بعد أن هاجر الى المدينة : يا أبتِ ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم اسلمت وهم يقاتلونك ؟ قال : ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي ...وهذا اسناد جيد قوي وهو يدل على تأخر اسلام عمر لأن ابن عمر عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة وكانت احد في سنة ثلاث من الهجرة وقد كان مميزا يوم أسلم أبوه فيكون اسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين والله أعلم ...
و"عن ابن عمر أن رسول الله ( قال : اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك إما عمر بن الخطاب ، أو أبي جهل بن هشام، فكان أحبهما إلى الله : عمر رضي الله عنه ".
(1/12)
________________________________________
وروي "عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قال لعمر رضي الله عنه : لم سميت الفاروق ؟ فقال : أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام ، وأول شئ سمعته من القرآن ووقر في صدري : " الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى "، فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله ( ، فسألت عنه ؟ فقيل لي : هو في دار الأرقم ، فأتيت الدار -وحمزة في أصحابه جلوساً في الدار ، ورسول الله ( في البيت - فضربت الباب ، فاستجمع القوم ، فقال لهم حمزه : ما لكم ؟ فقالوا : عمر . فخرج رسول الله ( فأخذ بمجامع ثيابي ، ثم نترني نترة لم أتمالك أن وقعت على ركبتي ، فقال : ما أنت بمنته يا عمر !؟ فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد ، فقلت : يا رسول الله ! ألسنا على الحق ، إن متنا أو حيينا ؟ قال : بلى ، فقلت : ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن ، فخرجنا في صفين : حمزة في صف ، وأنا في صف -له كديد ككديد الطحن- حتى دخلنا المسجد ، فلما نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها قط. فسماني رسول الله (: " الفاروق" .
وقال صهيب : لما أسلم عمر رضي الله عنه جلسنا حول البيت حلقاً ، فطفنا واستنصفنا ممن غلظ علينا .
(1/13)
________________________________________
قال ابن اسحاق ... وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله ( وبحمزة حتى غاظوا قريشا فكان عبد الله بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما اسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه... قلت وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال : ما زلنا أعزة منذ اسلم عمر بن الخطاب ...وقال زياد البكائي حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن ابراهيم قال ، قال ابن مسعود : إن اسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن إمارته كانت رحمة ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه ...
*** وهكذا أراد الله عز وجل ...ولا يكون إلا ما شاء الله أن يكون... رجل يخرج من بيته مشركا، متوشحا سيفه، ونيته قتل النبي( ، فيلقاه عبد مؤمن فيرده بكلمة تجعله بإذن الله يغير وجهته فيذهب إلى بيت أخته ... حيث يقرأ بعد اغتسال يحصل به تطهير الظاهر: ? طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى*اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى *? ( طه 1-8)... آيات بينات من الذكر الحكيم تنفذ إلى أعماقه فتخلي قلبه من الإعراض والكراهية وتحليه بالإقبال والمحبة ليحصل تطهير الباطن ؛ فيذهب إلى نبي الله ليسلم وجهه لله ويتبع رسول الله ...
(1/14)
________________________________________
وأعز الله تعالى الإسلام بعمر ... فيا ليت قومي يسمعون قولة الفاروق رضي الله عنه = إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله = رواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما ؛ وفي رواية = إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العز بغيره ....
لكن... كان هنالك من لم يرد الله بهم خيرا لعلمه وهو العليم الخبير أن قلوبهم المظلمة لا تنطوي على أدنى ذرة منه ، فبذلوا كل ما كان في وسعهم لاغتيال رسول الله ( وإطفاء النور الذي أرسل به ؛ (.. وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة : 32 )..
*************************************************************
والآن مع جملة من المناورات التي - والحمد لله الذي أحبطها - باءت كلها بالفشل... أقول ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب :
المناورة الأولى
قال الله تعالى : ? وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ? (الأنفال : 30 )
قال ابن كثير رحمه الله في التفسير
- قال ابن عباس ومجاهد وقتادة {ليثبتوك} ليقيدوك, وقال عطاء وابن زيد: ليحبسوك, وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق, وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال, وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي ( ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه. قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال "يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني". فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال "ربي" قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً. قال "أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي".
(1/15)
________________________________________
- وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي, أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله ( : ما يأتمر بك قومك ؟ قال "يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني". فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال "ربي". قال: نعم الرب ربك فاستوص به خيراً. قال "أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي". قال: فنزلت {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الاَية. وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً, بل منكر, لأن هذه الاَية مدنية, ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء, وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترؤوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه, والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانىء عن ابن عباس أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد, سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل, ادخل, فدخل معهم, فقال: انظروا في شأن هذا الرجل, والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم. قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم, فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم, قالوا: صدق الشيخ فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين
(1/16)
________________________________________
أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه.وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله, فانظروا رأياً غير هذا. قال: فقال أبو جهل لعنه الله, والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد, لا أرى غيره. قالوا: وما هو ؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً, ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً, ثم يضربونه ضربة رجل واحد, فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها, فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك, قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي, القول ما قال الفتى, لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي ( فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله ( في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء, {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي, وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً} وكذا روى العوفي عن ابن عباس, وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك, وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول
(1/17)
________________________________________
الله ( ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله ( علياً بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله ( على القوم وهم على بابه, وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد ( وهو يقرأ {يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ *},
-وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: روي عن عكرمة ما يؤكد هذا, وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: دخلت فاطمة على رسول الله ( وهي تبكي فقال: "ما يبكيك يا بنية ؟" قالت يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاهدون باللات والعزى, ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك, فقال: "يا بنية ائتني بوضوء" فتوضأ رسول ( ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله ( قبضة من تراب فحصبهم بهاوقال: "شاهت الوجوه" فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً, ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, ولا أعرف له علة.
(1/18)
________________________________________
-وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري, عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله: {وإذ يمكر بك} الاَية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي ( , وقال بعضهم بل اقتلوه, وقال بعضهم: بل أخرجوه فأطلع الله نبيه ( على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله (, وخرج النبي ( حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي ( , فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ قال لا أدري, فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم. اهـ
*** كانت هذه أول مناورة ظالمة باء أعداء الحق عبدة الطواغيت الذين خططوا لها وقاموا بتنفيذها بفشل ذريع
سجله التاريخ بمداد الذل على ورق الخزي ليبقى عبرة لمن أراد أن يعتبر...وخرج رسول الله ( من مكة المكرمة ، واتجه صوب المدينة المنورة ، يصحبه في هجرته المباركة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ...
وازداد غيظ المشركين وملأ قلوبهم المظلمة الحقد والرغبة في قتل الأمين ( والخلاص من دعوته فأرسلوا في طلبه من يأتيهم به حيا أو ميتا ، وجمعوا لذلك مالا كثيرا، عشرات من النوق الثمبنة، وكان ممن أغروا بهذا الثراء من شبانهم الأقوياء سراقة بن مالك المدلجي. ... وكانت
المناورة الثانية...
قال الإمام البيهقي في دلائل النبوة :
باب اتباع سراقة بن مالك بن جعشم أثر رسول الله وما ظهر في ذلك من دلائل النبوة ...
(1/19)
________________________________________
- أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين القطان ببغداد وقال أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا عبيد الله بن موسى وعبد الله بن رجاء أبو عمر الغداني عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال اشترى أبو بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر رضي الله عنه لعازب : مر البراء فليحمله إلى رحلي... فقال له عازب : لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله حين خرجتما والمشركون يطلبونكما... قال أدلجنا من مكة ليلا فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي إليه فإذا صخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظل لها فسويته ثم فرشت لرسول الله فروة ثم قلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم ذهبت أنفض ما حولي هل أرى من الطلب أحدا فإذا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي نريد يعني الظل فسألته فقلت: لمن أنت يا غلام ؟ فقال: لرجل من قريش .. فسماه فعرفته ؛ فقلت: هل في غنمك من لبن ؟ قال: نعم ... قلت: هل أنت حالب لي ؟ قال: نعم.. فأمرته فاعتقل شاة من غنمه وأمرته أن ينفض ضرعها من التراب ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى كفيه على الأخرى فحلب لي كثبة من لبن ، وقد رويت معي لرسول الله إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فأتيت رسول الله فوافقته وقد استيقظ فقلت: أتشرب يا رسول الله ؟ فشرب رسول الله حتى رضيت ؛ ثم قلت :قد آن الرحيل يا رسول الله... قال فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، قال: لا تحزن إن الله معنا... فلما أن دنا منا وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة قلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت فقال : ما يبكيك ؟ فقلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكني إنما أبكي عليك.. قال فدعا عليه رسول الله فقال اللهم اكفنا بما شئت قال فساخت به فرسه في
(1/20)
________________________________________
الأرض إلى بطنها فوثب عنها ثم قال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن تنجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله لا حاجة لنا في إبلك وغنمك ودعا له رسول الله فانطلق راجعا إلى أصحابه ومضى رسول الله وأنا معه حتى قدمنا المدينة ليلا ...
رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن رجاء وأخرجه مسلم من وجه آخر عن إسرائيل
-وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال أخبرني أبو الوليد الفقيه قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سلمة بن شبيب قال حدثنا الحسن ابن محمد بن أعين قال حدثنا زهير قال حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء يقول: جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا وذكر الحديث بمعنى حديث إسرائيل إلى أن قال فارتحلنا بعدما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك .. قال ونحن في جلد من الأرض فقلت: يا رسول الله أتينا.. فقال: لا تحزن إن الله معنا. فدعا عليه رسول الله فارتطمت فرسه إلى بطنها... فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي فالله لكما أن أرد عنكما الطلب.. فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم ما ههنا، ولا يلقى أحدا إلا رده ، ووفى لنا ..
رواه مسلم في الصحيح عن سلمة بن شبيب وأخرجه البخاري من وجه آخر عن زهير بن معاوية
(1/21)
________________________________________
-أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال حدثنا ابن ملحان قال حدثنا يحيى بن بكير قال حدثني الليث عن عقيل - ح - وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال أخبرني أبو الحسن محمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا أبو صالح قال حدثني الليث قال حدثني عقيل قال قال ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم وفي رواية ابن عبدان أن سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وفي أبي بكر دية كل واحد منهما في قتله أو أسره فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم قال ابن عبدان وذكر الحديث... قال أبو عبد الله في روايته قال: فقلت له إنهم ليسوا بهم ، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا.. قال: ثم قلَّ ما لبث في المجلس حتى قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي فتهبطها من وراء أكمة فتحبسها علي فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقمت بها أأضرهم أو لا أضرهم فخرج الذي أكره لا أضرهم فركبت فرسي وعصيت الأزلام فرفعتها تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر التلفت ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثمان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره أن لا أضرهم فناديتهما بالأمان فوقفا لي وركبت فرسي حتى جئتهما ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهما أنه سيظهر رسول الله
(1/22)
________________________________________
فقلت له إن من قومك قد جعلوا فيكما الدية فأخبرتهما أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآني شيئا ولم يسلني إلا أن قال أخف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ثم مضى رسول الله ..
رواه البخاري في الصحيح عن يحيى بن بكير عن الليث .
- وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد قال أخبرنا أبو بكر محمد ابن عبد الله بن عتاب العبدي قال حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة قال أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة قال حدثنا ابن شهاب قال حدثني عبد الرحمن ابن مالك بن جعشم المدلجي أن أباه مالكا أخبره أن أخاه سراقة بن جعشم أخبره أنه لما خرج رسول الله من مكة مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش لمن رده عليهم مائة ناقة قال فبينما أنا جالس في نادي قومي إذ جاء رجل منا فقال والله لقد رأيت ركبا ثلاثة مروا علي آنفا إني لأظنه محمدا قال فأومأت إليه بعيني أن اسكت وقلت إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم قال لعله ثم سكت قال فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي وأخرجت سلاحي من وراء حجراتي ثم أخذت قداحي استقسم بها ثم لبست لأمتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا تضره وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة قال فركبت على أثره فبينا فرسي يسير بي عثر فسقطت عنه قال فأخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا تضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت فلما بدا لي القوم فنظرت إليهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض فسقطت عنه فاستخرج يديه واتبعهما دخان مثل الغبار فعلمت أنه قد منع مني وأنه ظاهر فناديتهم فقلت انظروني فوالله لا آذيتكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه فقال رسول الله قل له ماذا تبتغي قال قلت اكتب لي كتابا يكون بيني وبينك آية قال اكتب له يا أبا بكر قال فكتب لي ثم ألقاه إلي فرجعت
(1/23)
________________________________________
فسكت فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا فتح الله عز وجل مكة وفرغ رسول الله من أهل خيبر خرجت إلى رسول الله لألقاه ومعي الكتاب الذي كتب لي فبينما أنا عامد له دخلت بين ظهري كتيبة من كتائب الأنصار قال فطفقوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك إليك حتى دنوت من رسول الله وهو على ناقته أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب فقلت يا رسول الله هذا كتابك فقال رسول الله يوم وفاء وبر أدنه قال فأسلمت ثم ذكرت شيئا اسل عنه رسول الله
قال ابن شهاب إنما سأله عن الضالة وشيء فعله في وجهه الذي كان فيه فما ذكرت شيئا إلا أني قد قلت يا رسول الله الضالة تغشى حياضي قد ملأتها لإبلي هل لي من أجر إن سقيتها فقال رسول الله نعم في كل كبد حرى قال وانصرفت فسقت إلى رسول الله صدقتي
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال حدثنا يونس بن بكير قال قال ابن إسحاق قال أبو جهل في أمر سراقة أبياتا فقال سراقة يجيب أبا جهل
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا نبي وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف الناس عنه فإنني أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود النصر فيه بإلبها لو أن جميع الناس طرا تسالمه
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان قال أخبرنا أحمد بن عبيد قال حدثنا ابن أبي قماش قال حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ببغداد عن أبي معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال قال رسول الله لأبي بكر في مدخله المدينة أله الناس عني فإنه لا ينبغي لنبي أن يكذب قال فكان أبو بكر إذا سئل ما أنت قال باع فإذا قيل من الذي معك قال هاد يهديني...اهـ
قال ابن كثير في البداية والنهاية
(1/24)
________________________________________
وقد روى محمد بن اسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه سراقة فذكر هذه القصة إلا أنه ذكر أنه استقسم بالازلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره لا يضره وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات وكل ذلك يستقسم بالازلام ويخرج الذي يكره لا يضره حتى ناداهم بالامان وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة ما بينه وبين رسول الله ( قال فكتب لي كتابا في عظم أو رقعة أو خرقة وذكر أنه جاء به الى رسول الله ( وهو بالجعرانة مرجعه من الطائف فقال له يوم وفاء وبر أدنه فدنوت منه وأسلمت قال ابن هشام هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم وهذا الذي قاله جيد...
قال تعالى : (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : 40 )
قال ابن كثير رحمه الله في التفسير
(1/25)
________________________________________
: يقول تعالى: {إلا تنصروه} أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هارباً بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله ( منهم أذى فجعل النبي ( يسكنه ويثبته ويقول: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي ( ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال: فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" أخرجاه في الصحيحين, ولهذا قال تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول ( في أشهر القولين وقيل على أبي بكر, وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لأن الرسول ( لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال: {وأيده بجنود لم تروها} أي الملائكة {وجعل كلمة الذين كفرواالسفلى وكلمة الله هي العليا} قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك ، وكلمة الله هي لا إله إلا الله. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله ( عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وقوله: {والله عزيز} أي في انتقامه وانتصاره , منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه, واحتمى بالتمسك بخطابه {حكيم} في أقواله وأفعاله.... اهـ
(1/26)
________________________________________
*** ووصل رسول الله( محفوفا بعناية ربه الذي أرسله بالهدى ودين الحق طيبةَ الطيبة حيث وجد في انتظاره الأنصار الذين كانوا بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم وأزرهم ، ومعهم في ضيافتهم من سبقه( من المهاجرين الأولين ... فنزل بين ظهرانيهم في حمايتهم ، يحبونه كحبهم أنفسهم وذويهم ، بل أكثر ، ويجودون بالأرواح والأموال في سبيل نصرته وإظهار ما جاء به من عند ربه ... نِعم القوم ، ونِعم المقام ... ونِعم المقيم ....
لكن قتلة الرسل والأنبياء ، اليهود الحاقدين ؛ وعبدة الأوثان والأهواء ،المشركين الكارهين، لم يفتر غيظهم ولم تخبُ نار حقدهم وعداوتهم للنبي الأمين( وللدين الخالص الذي جاء به والرسالة الخاتمة التي أمره الله بتبليغها ... فتوالت مناوراتهم ، وترادفت محاولاتهم للنيل منه ومن أصحابه ... وكانت
المناورة الثالثة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية :
(1/27)
________________________________________
في أول سنة ثلاث من الهجرة كانت غزوة نجد ويقال لها غزوة ذي أمر قال ابن اسحاق فلما رجع رسول الله ( من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها غزا نجدا يريد غطفان وهي غزوة ذي أمر قال ابن هشام واستعمل على المدينة عثمان بن عفان قال ابن اسحاق فأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك ثم رجع ولم يلق كيدا وقال الواقدي بلغ رسول الله( أن جمعا من غطفان من بني ثعلبة بن محارب تجمعوا بذي أمر يريدون حربه فخرج اليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث واستعمل على المدينة عثمان بن عفان فغاب أحد عشر يوما وكان معه أربعمائة وخمسون رجلا وهربت منه الأعراب في رءوس الجبال حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به وأصابهم مطر كثير فابتلت ثياب رسول الله ( فنزل تحت شجرة هناك ونشر ثيابه لتجف وذلك بمرأى من المشركين واشتغل المشركون في شئونهم فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم يقال له غورث بن الحارث أو دعثور بن الحارث فقالوا : قد أمكنك الله من قتل محمد... فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل حتى قام على رسول الله ( بالسيف مشهورا ، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم ؟ قال: الله .. ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله ( فقال : من يمنعك مني ؟ قال لا أحد.. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا ... فأعطاه رسول الله (
سيفه.... فلما رجع الى أصحابه فقالوا :ويلك مالك ؟ فقال: نظرت الى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمدا رسول الله والله لا أكثر عليه جمعا
(1/28)
________________________________________
وجعل يدعو قومه الى الاسلام ؛ قال ونزل في ذلك قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المائدة : 11 ) قال البيهقي وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه فلعلهما قصتان قلت ان كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعا لأن ذلك الرجل اسمه غورث بن الحارث أيضا لم يسلم بل استمر على دينه ولم يكن عاهد النبي ( أن لا يقاتله والله أعلم ...
قصة غورث بن الحارث في البداية والنهاية
(1/29)
________________________________________
قال ابن اسحاق في هذه الغزوة حدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب ألا أقتل لكم محمدا قالوا بلى وكيف تقتله قال افتك به قال فأقبل الى رسول الله ( وهو جالس وسيف رسول الله ( في حجره فقال يا محمد أنظر الى سيفك هذا ؟ قال: نعم.. فأخذه ثم جعل يهزه ويهم فكبته الله ، ثم قال : يا محمد أما تخافني؟ قال: لا ما أخاف منك... قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟ قال: لا... يمنعني الله منك.. ثم عمد الى سيف النبي ( فرده عليه فأنزل الله عز وجل: ( يا ايها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) قال ابن اسحاق وحدثني يزيد بن رومان أنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش أخي بني النضير وما هم به هكذا ذكر ابن اسحاق قصة غورث هذا عن عمرو بن عبيد القدري رأس الفرقة الضالة وهو وان كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروى عنه لبدعته ودعائه اليها وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه ولله الحمد.. فقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن وهي ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري عن سنان بن أبي سنان وأبي سلمة عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد فلما قفل رسول الله ( أدركته القائلة في واد كثير العضاه فتفرق الناس يستظلون بالشجر وكان رسول الله ( تحت ظل شجرة فعلق بها سيفه قال جابر فنمنا نومة فاذا رسول الله ( يدعونا فأجبناه واذا عنده اعرابي جالس فقال رسول الله ( : ان هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال من يمنعك مني؟ قلت: الله.... فقال :من يمنعك مني؟ قلت: الله.... فشام السيف وجلس ولم يعاقبه رسول الله ( وقد فعل ذلك وقد رواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن
(1/30)
________________________________________
أبي سلمة عن جابر قال أقبلنا مع رسول الله ( حتى اذا كنا بذات الرقاع وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله ( فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله ( معلق بشجرة فأخذ سيف رسول الله ( فاخترطه وقال لرسول الله ( :تخافني ؟ قال: لا .. قال: فمن يمنعك مني ؟ قال: الله يمنعني منك... قال فهدده أصحاب رسول الله ( فأغمد السيف وعلقه...
عن أبي عوانة عن أبي بشر أن اسم الرجل غورث بن الحارث وأسند البيهقي من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس عن جابر قال قاتل رسول الله ( محارب وغطفان بنخل فرأوا من المسلمين غره فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله ( بالسيف وقال: من يمنعك مني ؟ قال:الله ..فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله ( السيف وقال :من يمعنك مني؟ قال :كن خير آخذ.. قال: تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال :لا ..ولكن أعاهدك على أن لا اقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك.... فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال جئتكم من عند خير الناس ...
*** وتمر الأيام ، ويزداد الإسلام مع مرورها عزة ورفعة ومناعة ، ويزداد جنده بقيادة رسول الله (كثرة وقوة وبسالة ، وتضحية في سبيل الله ... فخاضوا المعارك ، وشهدوا الغزوات ، وبذلوا النفس والنفيس ابتغاء مرضات الله الذي ارتضى لهم الإسلام دينا ... ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران : 126 ) ... ثم كانت وقعة أحد ... وضمنها :
المناورة الرابعة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
فصل فيما لقي النبي ( يومئذ ، أي يوم أحُد ، من المشركين قبحهم الله
(1/31)
________________________________________
- قال البخاري ما أصاب النبي ( من الجراح يوم أحد = حدثنا اسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة قال قال رسول الله ( اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه يشير الى رباعيته اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله... ورواه مسلم من طريق عبد الرزاق حدثنا مخلد بن مالك حدثنا يحيى بن سعيد الاموي حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله ( وقال أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله ( قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه وهو يقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته.. وهو يدعو الى الله فأنزل الله: ( ليس لك من الامر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون) ورواه مسلم عن القعنبي عن حماد بن سلمة به ورواه الامام احمد عن هشيم ويزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن رسول الله ( كسرت رباعيته وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم الى ربهم .. فأنزل الله تعالى ( ليس لك من الأمر شيء ) ... وقال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب عن أبي حازم انه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي ( فقال: أما والله اني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله ( ومن كان يسكب الماء وبما دووي قال كانت فاطمة بنت رسول الله ( تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم وكسرت رباعيته يومئذ وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه... وقال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا ابن المبارك عن اسحاق عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة قالت كان أبو بكر اذا ذكر يوم أحد قال ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلا يقاتل
(1/32)
________________________________________
في سبيل الله دونه وأراه قال حمية قال فقلت كن طلحة حيث فاتني ما فاتني فقلت يكون رجلا من قومي أحب الي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب الى رسول الله ( منه وهو يخطف المشي خطفا فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهينا الى رسول الله ( وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر قال رسول الله ( عليكما صاحبكما يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت الى قوله قال وذهبت لانزع ذاك من وجهه فقال اقسم عليك بحقي لما تركتني فتركته فكره تناولها بيده فيؤذى رسول الله ( فازم عليها بفيه فاستخرج احدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة وذهبت لأصنع ما صنع فقال أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال ففعل مثل ما فعل في المرة الاولى فوقعت ثنيته الاخرى مع الحلقة فكان أبو عبيدة رضي الله عنه من أحسن الناس هتما فأصلحنا من شأن رسول الله ( ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فاذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة واذا قد قطعت اصبعه فأصلحنا من شأنه وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن اسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا فنظرت الى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله ( وسطها كل ذلك يصرف عنه ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول دلوني على محمد لا نجوت ان نجا ؛ ورسول الله (الى جنبه ما معه أحد فجاوره فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية فقال : والله ما رايته أحلف بالله انه منا ممنوع خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص اليه... قال الواقدي ثبت عندي أن الذي رمى في وجنتي رسول الله ( بن قمئة ؛ والذي رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص ... وان الرباعية التي كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى.
(1/33)
________________________________________
- قال ابن اسحاق وحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص وان كان ما علمت لسيء الخلق مبغضا في قومه ولقد كفاني فيه قول رسول الله ( : اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله ...
- وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عثمان الحرري عن مقسم أن رسول الله ( دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه فقال: اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا ...فما حال عليه الحول حتى مات كافرا الى النار . ...
(1/34)
________________________________________
ولما نال عبد الله بن قمئة من رسول الله ( ما نال رجع وهو يقول قتلت محمدا وصرخ الشيطان أزب العقبة يومئذ بأبعد صوت ألا ان محمدا قد قتل فحصل بهتة عظيمة في المسلمين واعتقد كثير من الناس ذلك وصمموا على القتال عن جوزة الاسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله ( منهم أنس بن النضر وغيره ممن سيأتي ذكره وقد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه فقال تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ *وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ * بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ *سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران
(1/35)
________________________________________
144-151) ... وقد خطب الصديق رضي الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله ( فقال يا أيها الناس من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت ثم تلا هذه الآية ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (آل عمران : 144 ) ؛ قال فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من الناس أحد الا يتلوها ...
-وروى البيهقي في دلائل النبوة من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الانصار وهو يتشحط في دمه فقال له يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل فقال الانصاري ان كان محمد ( قد قتل فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم فنزل قوله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)(آل عمران : 144 ) ولعل هذا الانصاري هو أنس بن النضر رضي الله عنه وهو عم أنس بن مالك ...
(1/36)
________________________________________
قال الامام احمد حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس أن عمه غاب عن قتال بدر فقال غبت عن أول قتال قاتله النبي ( للمشركين ، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين ليرين ما أصنع ، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم انى أعتذر اليك عما صنع هؤلاء يعني أصحابه ، وابرأ اليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين... ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد أنا معك قال سعد فلم أستطع أصنع ما صنع فوجد فيه بضع وثمانون من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم قال فكنا نقول فيه وفي أصحابه نزلت ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) ( الأحزاب : 23 ) ورواه الترمذي عن عبد بن حميد والنسائي عن اسحاق بن راهويه كلاهما عن يزيد بن هارون به وقال الترمذي حسن قلت بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه
(1/37)
________________________________________
-وقال أحمد حدثنا بهز وحدثنا هاشم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال، قال أنس عمي قال هاشم أنس بن النضر سميت به ولم يشهد مع رسول الله ( يوم بدر قال فشق عليه وقال أول مشهد شهده رسول الله ( غبت عنه ولئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله ( ليرين الله ما أصنع ... قال فهاب أن يقول غيرها فشهد مع رسول الله ( يوم أحد قال فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس يا أبا عمرو أين واها لريح الجنة أجده دون أحد قال فقاتلهم حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية قال فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر فما عرفت أخي إلا ببنانه ونزلت هذه الآية ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : 23 ) قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه ورواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن المبارك وزاد النسائي وأبو داود وحماد بن سلمة أربعتهم عن سليمان بن المغيرة به وقال الترمذي حسن صحيح
(1/38)
________________________________________
-وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله ( فلما بلغت رسول الله ( حلفته قال: بل أنا أقتله ان شاء الله ...فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول لا نجوت إن نجا محمد.. فحمل على رسول الله ( يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله ( بنفسه فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله ( ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها بالحربة فوقع الى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له : ما أجزعك ، إنما هو خدش ...فذكر لهم قول رسول الله ( :أنا أقتل أبيا ..ثم قال والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون فمات الى النار فسحقا لأصحاب السعير
- وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب نحوه وقال ابن اسحاق لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجوت .. فقال القوم يا رسول الله يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله ( : دعوه ... فلما دنا منه تناول رسول الله ( الحربة من الحارث بن الصمة فقال بعض القوم كما ذكر لي فلما أخذها رسول الله ( انتفض انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير اذا انتفض ثم استقبله رسول الله ( فطعنه في عنقه طعنه تدأدأ منها عن فرسه مرارا... ذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الله ابن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك قال الواقدي وكان ابن عمر يقول مات أبيّ بن خلف ببطن رابغ فأني لاسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل اذا أنا بنار تأججت فهبتها واذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش فاذا رجل يقول لا تسقه فإنه قتيل رسول الله ( هذا أبي بن خلف...
(1/39)
________________________________________
- وقد ثبت في الصحيحين كما تقدم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله
- ورواه البخاري من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس اشتد غضب الله على من قتله رسول الله بيده في سبيل الله وقال البخاري وقال أبوالوليد عن شعبة عن ابن المنكدر سمعت جابرا قال لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب النبي ( ينهونني والنبي ( لم ينه وقال النبي (: لا تبكه أو ما تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع... هكذا ذكر هذا الحديث ههنا معلقا وقد أسنده في الجنائز عن بندار عن غندر بن شعبة .. اهـ
*** من غزوة بدر العظمى وما أيد الله القوي المتين به رسوله والمؤمنين من نصر مبين إلى معركة أحد وما كان فيها من شبه هزيمة ، لم تزدد الدعوة إلى الله ودينه إلا ظهورا على المناوئين من أهل الغدر والمكر ومساعديهم من المنافقين والمارقين . ويفعل الله ما يشاء...حتى دخلت السنة الرابعة من الهجرة...وكانت
المناورة الرابعة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
(1/40)
________________________________________
قال الواقدي حدثني ابراهيم بن جعفر عن أبيه وعبد الله بن أبي عبيدة عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري وعبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن أبي عوف وزاد بعضهم على بعض قالوا كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة ما أحد يغتال محمدا فانه يمشي في الاسواق فندرك ثأرنا فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله وقال له إن أنت وفيتني وخرجت اليه حتى أغتاله فإني هاد بالطريق خريت معي خنجر مثل خافية النسر قال أنت صاحبنا وأعطاه بعيرا ونمقه وقال اطو أمرك فاني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه الى محمد قال قال العربي لا يعلمه أحد فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحي يوم سادسه ثم أقبل يسأل عن رسول الله ( حتى أتى المصلى فقال له قائل قد توجه الى بني عبد الاشهل فخرج الاعرابي يقود راحلته حتى انتهى الى بني عبد الاشهل فعقل راحلته ثم أقبل يؤم رسول الله ( فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده ، فلما دخل ورآه رسول الله ( قال لاصحابه : ان هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده ... فوقف وقال : أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال له رسول الله ( : أنا ابن عبد المطلب ... فذهب ينحني على رسول الله ( كأنه يساره فجبذه أسيد بن حضير وقال تنح عن رسول الله ( وجذب بداخل ازاره فإذا الخنجر؛ فقال: يا رسول الله هذا غادر، فأسقط في يد الاعرابي وقال: دمي دمي يا محمد..وأخذه أسيد بن حضير يلببه فقال له النبي (: اصدقني من أنت ؟ وما اقدمك ؟ فان فعلت نفعك الصدق، وان كذبتني فقد اطلعت على ما هممت... به قال العربي فأنا آمن؟ قال: وأنت آمن ..فأخبره بخبر أبي سفيان وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير .. ثم صارا من الغد.. فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت أو خير لك من ذلك ..قال: وما هو ؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ،فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق من
(1/41)
________________________________________
الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان... فجعل النبي ( يتبسم وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر .. اهـ
*** خاب سعي كل من أراد بالنبي سوءا ، لكن الغدر الكمين في نفوس الأغبياء والحقد الدفين بين أضلع الأعداء وثنيهم ويهوديهم ظل يؤجج نار المكر في صدورهم المختوم عليها ، فقتلوا الأبرياء ، وحاولوا قتل خاتم الأنبياء ، إمام الأصفياء( .... وكانت
المناورةالخامسة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
- في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بني النضير وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد وقد أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري به وهكذا روى حنبل بن اسحاق عن هلال بن العلاء عن عبد الله بن جعفر الرقي عن مطرف بن مازن اليماني عن معمر عن الزهري فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة ثنتين قال ثم غزا بني النضير ثم غزا أحدا في شوال سنة ثلاث ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع وقال البيهقي وقد كان الزهري يقول هي قبل أحد قال وذهب آخرون الى أنها بعدها وبعد بئر معونة أيضا قلت هكذا ذكر ابن اسحاق كما تقدم فانه بعد ذكره بئر معونة ورجوع عمرو بن أمية وقتله ذينك الرجلين من بني عامر ولم يشعر بعهدهما الذي معهما من رسول الله ( ولهذا قال له رسول الله ( :لقد قتلت رجلين لأدينهما
(1/42)
________________________________________
- قال ابن اسحاق ثم خرج رسول الله ( الى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان ( أعطاهما ، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف فلما أتاهم ( قالوا نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ورسول الله ( الى جنب جدار من بيوتهم قاعد فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله ( في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا الى المدينة فلما استلبث النبي ( أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال رأيته داخلا المدينة فأقبل اصحاب رسول الله ( حتى انتهوا اليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به...
- قال الواقدي فبعث رسول الله ( محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده فبعث اليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام ويعدونهم النصر فقويت عند ذلك نفوسهم وحمى حيي بن أحطب وبعثوا الى رسول الله ( أنهم لا يخرجون ونابدوه بنقض العهد ، فعند ذلك أمر الناس بالخروج اليهم ..
(1/43)
________________________________________
قال الواقدي فحاصروهم خمس عشرة ليلة وقال ابن اسحاق وأمر النبي ( بالتهيؤ لحربهم والمسير اليهم قال ابن هشام واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الاول قال ابن اسحاق فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال ... وتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله ( بقطع النخيل والتحريق فيها فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها ؟ قال وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ووديعة ومالك وسويد وداعس قد بعثوا الى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فانا لن نسلمكم ان قوتلتم قاتلنا معكم وان أخرجتم خرجنا معكم .. فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الابل من أموالهم الا الحلقة ..
(1/44)
________________________________________
- قال ابن اسحاق فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الابل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا الى خيبر ومنهم من سار الى الشام فكان من أشراف من ذهب منهم الى خيبر سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها فحدثني عبد الله بن أبي بكر انه حدث انهم استقبلوا بالنساء والابناء والاموال معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر مارؤي مثله لحي من الناس في زمانهم... قال وخلوا الاموال لرسول الله ( يعني النخيل والمزارع فكانت له خاصة يضعها حيث شاء فقسمها على المهاجرين الاولين دون الانصار الا ان سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما وأضاف بعضهم اليهما الحارث بن الصمة حكاه السهيلي قال ابن اسحاق ولم يسلم من بني النضير الا رجلان وهما يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب فأحرزا أموالهما قال ابن اسحاق وقد حدثني بعض آل يامين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله لعنه الله ...
(1/45)
________________________________________
قال ابن اسحاق فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته وما سلط عليهم به رسوله وما عمل به فيهم ثم شرع ابن اسحاق يفسرها وقد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير ولله الحمد قال الله تعالى :( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ*وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * ( الحشر 1-5 ) اهـ.
(1/46)
________________________________________
*** وكان الجلاء حيث طهر الله تعالى الأرض التي اختارها سبحانه لمقام رسوله وإعلاء راية دينه من رجس اليهود الذين لم يعرف لهم التاريخ إلا الغدر والخيانة ونقض المواثيق وخلف العهود والتمرد على الأنبياء وقتلهم وتبديل كلام الله وتحريف كتبه وتطويعها لأهوائهم البهيمية وأغراضهم الدنية...(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد : 23 ) آذوا رسول الله ، فليحققنَّ الله فيهم قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) (الأحزاب : 57 )... أُبعدوا .. شُردوا ... طُردوا .. لكن دمهم النجس لم يزل يغلي في عروقهم العفنة ، فتارة يحرضون غيرهم على اغتيال النبي الأكرم ( ، وأخرى يدبرون وينفذون ما دبروا بأنفسهم ... وكذلك الجانب الآخر ، جانب عبدة الأصنام اللات والعزى ومناة وغيرها من الحجر الذي لا ينفع ولا يضر، لم تهدأ لهم نفس ولم يسكن لهم بال ، فظلوا يحاولون النيل من المبعوث رحمة للعالمين ...وكانت
المناورة السادسة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
قصة غورث بن الحارث
(1/47)
________________________________________
- قال ابن اسحاق في هذه الغزوة حدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا ؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: افتك به ... قال فأقبل الى رسول الله ( وهو جالس وسيف رسول الله ( في حجره فقال: يا محمد ، أنظر الى سيفك هذا ؟ قال: نعم .. فأخذه ثم جعل يهزه ويهم فكبته الله ثم قال : يا محمد ، أما تخافني ؟ قال : لا ما أخاف منك. قال أما تخافني وفي يدي السيف ؟ قال: لا يمنعني الله منك .ثم عمد الى سيف النبي ( فرده عليه... فأنزل الله عز وجل : (يا ايها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )
(1/48)
________________________________________
- قال ابن اسحاق وحدثني يزيد بن رومان أنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش أخي بني النضير وما همَّ به ، هكذا ذكر ابن اسحاق قصة غورث هذا عن عمرو بن عبيد القدري رأس الفرقة الضالة وهو وان كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروى عنه لبدعته ودعائه اليها ... وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه ولله الحمد. فقد أورد الحافظ البيهقي هاهنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن وهي ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري عن سنان بن أبي سنان وأبي سلمة عن جابر أنه غزا مع رسول الله ( غزوة نجد فلما قفل رسول الله ( أدركته القائلة في واد كثير العضاه فتفرق الناس يستظلون بالشجر وكان رسول الله ( تحت ظل شجرة فعلق بها سيفه .. قال جابر فنمنا نومة فاذا رسول الله ( يدعونا فأجبناه واذا عنده اعرابي جالس فقال رسول الله ( : ان هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال: من يمنعك مني ؟ قلت: الله. فقال: من يمنعك مني ؟ قلت الله... فشام السيف وجلس .. ولم يعاقبه رسول الله ( وقد فعل ذلك وقد رواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال أقبلنا مع رسول الله ( حتى اذا كنا بذات الرقاع وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله ( فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله ( معلق بشجرة فأخذ سيف رسول الله ( فاخترطه وقال لرسول الله ( تخافني ؟ قال : لا ... قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك.. قال فهدده أصحاب رسول الله ( فأغمد السيف وعلقه قال ونودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين قال فكانت لرسول الله ( أربع ركعات وللقوم ركعتان وقد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به قال البخاري وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر أن اسم الرجل غورث بن الحارث وأسند البيهقي من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس عن جابر
(1/49)
________________________________________
قال قاتل رسول الله ( محارب وغطفان بنخل فرأوا من المسلمين غره فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله ( بالسيف وقال: من يمنعك مني؟ قال: الله ... فسقط السيف من يده ، فأخذ رسول الله ( السيف وقال: من يمعنك مني ؟ قال: كن خير آخذ ...قال : تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : لا ولكن أعاهدك على أن لا اقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال جئتكم من عند خير الناس... والله أعلم .
*** فانظر يا محب الحبيب كيف يتجلى العفو عند المقدرة ، وانظر كيف تسمو طيبةً عطرةً خلالُ الرحمة والكرم حتى على من سولت له نفسه القتل فاعتدى وظلم ... فداك روحي يا رسول الله ... أرسلت بالآيات الخالدات فأبلغتها ، وبعثت بمكارم الأخلاق فأتممتها،...
فأي آدمي عنده مثقال حبة من خرذل من عقل يتصدى لقتل سمح كريم، عفوجواد، سماه الله رؤوفا رحيما وأرسله ليخلص البشرية من المعبودات الزائفة ، ويخرجها من ظلمات الغي إلى نور الرشد ؟ سفهاء ـ ورب الأرض والسماء ـ من أتعبوا أنفسهم للنيل منه ، وهو بأعين ربه الذي أنزل عليه : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر : 36 ) ...
بلى.. كافيه وكافي من معه ...لكن الذين ران على قلوبهم الغل بشتى أصنافه وغطاها ليل العماهة بظلامه ظلوا على حالهم يتخبطون بين الكيد والمكر ، والخيانة والغدر ...وكانت
المناورة السابعة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
قصة الشاة المسمومة والبرهان الذي ظهر
-قال البخاري رواه عروة عن عائشة عن النبي ( ثم قال حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا الليث حدثني سعيد عن أبي هريرة قال لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله ( شاة فيها سم... هكذا أورده ها هنا مختصرا ..
(1/50)
________________________________________
-وقد قال الامام احمد حدثنا حجاج ثنا ليث عن سعيد بن ابي سعيد عن ابي هريرة قال لما فتحت خيبر أهديت للنبي ( شاة فيها سم فقال رسول الله ( : اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود.. فجمعوا له فقال النبي ( : إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه ؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم.. فقال لهم رسول الله( :من أبوكم ؟ قالوا: أبونا فلان .. فقال رسول الله (:كذبتم ، بل أبوكم فلان... قالوا: صدقت وبررت.. فقال : هل أنتم صادقي عن شيء اذا سألتكم عنه ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم ، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا ...فقال رسول الله ( :من أهل النار ؟ فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها.. فقال لهم رسول الله ( :والله لا نخلفكم فيها
أبدا.. ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم ؟ فقالوا : نعم يا أبا القاسم .. فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟ فقالوا: نعم ....قال: ما حملكم على ذلك ؟ قالوا : أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك.. وقد رواه البخاري في الجزية عن عبد الله بن يوسف وفي المغازي أيضا عن قتيبة كلاهما عن الليث به ..
-وقال البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو العباس الأصم حدثنا سعيد بن سليمان ثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن امرأة من يهود أهدت لرسول الله ( شاة مسمومة فقال لأصحابه: أمسكوا فانها مسمومة ..وقال لها : ما حملك على ما صنعت؟ قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه وإن كنت كاذبا أريج الناس منك... قال فما عرض لها رسول الله ( رواه أبو داود عن هارون بن عبد الله عن سعيد بن سليمان به ..
(1/51)
________________________________________
- ثم روى البيهقي عن طريق عبد الملك بن ابي نضرة عن أبيه عن جابر بن عبد الله نحو ذلك وقال الامام احمد حدثنا شريح ثنا عباد عن هلال هو ابن خباب عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله ( شاة مسمومة فأرسل اليها فقال : ما حملك على ما صنعت؟ قالت: أحببت أو أردت إن كنت نبيا فان الله سيطلعك عليه وإن لم تكن نبيا أريح الناس منك... قال فكان رسول الله ( اذا وجد من ذلك شيئا احتجم قال فسافر مرة فلما أحرم وجد من ذلك شيئا فاحتجم تفرد به أحمد واسناده حسن
-وفي الصحيحين من حديث شعبة عن هشام ابن زيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها الى رسول الله ( فسألها عن ذلك قالت: اردت لأقتلك.. فقال( :ما كان الله ليسلطك علي أو قال على ذلك ...قالوا ألا تقتلها ؟ قال : لا .. قال أنس فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله (
- وقال أبو داود حدثنا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله ( فأخذ رسول الله ( الذراع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله ( :ارفعوا أيديكم ...وأرسل رسول الله ( الى المرأة فدعاها فقال لها : أسممت هذه الشاة ؟ قالت اليهودية: من أخبرك ؟ قال: أخبرتني هذه التي في يدي ، وهي الذراع.. قالت: نعم.. قال: فما أردت بذلك؟ قالت: قلت إن كنت نبيا فلن يضرك وإن لم تكن نبيا استرحنا منك ... فعفا عنها رسول الله ( ولم يعاقبها ؛ وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة... واحتجم النبي ( على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن والشفرة ، وهو مولى لبني بياضة من الانصار..
(1/52)
________________________________________
- ثم قال أبو داود حدثنا وهب بن بقية ثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن رسول الله( أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية ، نحو حديث جابر ، قال: فمات بشر ابن البراء بن معرور فأرسل الى اليهودية فقال :ما حملك على الذي صنعت ؟ فذكر نحو حديث جابر ؛ فأمر رسول الله ( فقتلت ولم يذكر أمر الحجامة
-قال البيهقي ورويناه من حديث حماد ابن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها وروى البيهقي من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت الى رسول الله ( شاة مصلية بخيبر، فقال: ما هذه ؟ قالت هدية وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل .. قال فأكل وأصحابه ، ثم قال : امسكوا ... ثم قال للمرأة : هل سممتها ؟ قالت: من أخبرك هذا ؟ قال: هذا العظم ،لساقها وهو في يده ... قالت: نعم. قال: لم ؟ قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك ...قال فاحتجم رسول الله ( على الكاهل وأمر اصحابه فاحتجموا ، ومات بعضهم ..
(1/53)
________________________________________
- قال الزهري فأسلمت فتركها النبي ( ؛ قال البيهقي هذا مرسل ولعله قد يكون عبد الرحمن حمله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة وكذلك موسى بن عقبة عن الزهري قالوا لما فتح رسول الله ( خيبر وقتل منهم من قتل أهدت زينب بنت الحارث اليهودية وهي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية وسمتها وأكثرت في الكتف والذراع لأنه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة الى رسول الله ( فدخل رسول الله ( على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور وهو أحد بني سلمة فقدمت اليهم الشاة المصلية فتناول رسول الله ( الكتف وانتهش منها وتناول بشر عظما فانتهش منه فلما استرط رسول الله ( لقمته استرط بشر بن البراء ما في فيه فقال رسول الله ( : ارفعوا أيديكم فان كتف هذه الشاة يخبرنى أنى نعيت فيها ..فقال بشر بن البراء: والذى أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت فما منعني إن ألفظها الا أني أعظمتك أن أبغضك طعامك فلما أسغت ما في فيك لم ارغب بنفسي عن نفسك ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها نعي فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول حتى يحول ... قال الزهري قال جابر : واحتجم رسول الله ( يومئذ، حجمه مولى بني بياضة بالقرن والشفرة وبقي رسول الله ( بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه فقال : ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري ؛ فتوفي رسول الله (شهيدا ...
(1/54)
________________________________________
وقال محمد بن اسحاق فلما اطمأن رسول الله ( أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام ابن مشكم شاة مصلية وقد سألت أي عضو أحب الى رسول الله ( فقيل لها الذراع ، فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد اخذ منها كما أخذ رسول الله ( فأما بشر فاساغها وأما رسول الله ( فلفظها ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم.. ثم دعا بها فاعترفت ؛ فقال : ما حملك على ذلك ؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت إن كان كذابا استرحت منه وإن كان نبيا فسيخبر... قال فتجاوز عنها رسول الله ( ومات بشر من أكلته التي أكل.
- قال ابن اسحاق وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال كان رسول الله ( قد قال في مرضه الذي توفي فيه ودخلت عليه أخت بشر بن البراء بن معرور يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر قال ابن هشام الأبهر العرق المعلق بالقلب قال فان كان المسلمون ليرون أن رسول الله ( مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا هلال بن بشر وسليمان بن يوسف الحراني قالا ثنا أبو غياث سهل بن حماد ثنا عبد الملك بن ابي نضرة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن يهودية أهدت الى رسول الله ( شاة سميطا فلما بسط القوم أيديهم قال رسول الله (: أمسكوا فان عضو من أعضائها يخبرني أنها مسمومة... فأرسل الى صاحبتها: أسممت طعامك ؟ قالت: نعم ..قال: ما حملك على ذلك؟ قالت : إن كنت كذابا أن أريح الناس منك وإن كنت صادقا علمت أن الله سيطلعك عليه.. فبسط يده وقال :كلوا بسم الله .. قال فأكلنا، وذكرنا اسم الله، فلم يضر أحد منا... ثم قال لا يروى عن عبد الملك بن ابي نضرة إلا من هذا الوجه ..قلت وفيه نكارة وغرابة شديدة والله أعلم
(1/55)
________________________________________
- وذكر الواقدي أن عيينة بن حصن قبل أن يسلم رأى في منامه رؤيا ورسول الله (محاصر خيبر فطمع من رؤياه أن يقاتل رسول الله (فيظفر به فلما قدم على رسول الله (خيبر وجده قد افتتحها فقال : يا محمد اعطني ما غنمت من حلفائي، يعني أهل خيبر.. فقال له رسول الله ( :كذبت رؤياك ، وأخبره بما رأى.. فرجع عيينة فلقيه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل إنك توضع في غير شيء والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب وإن يهود كانوا يخبروننا بهذا ؛ أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول إنا لنحسد محمدا على النبوة حيث خرجت من بني هارون إنه لمرسل ويهود لا تطاوعني على هذا ولنا منه ذبحان واحد بيثرب وآخر بخيبر..قال الحارث :قلت لسلام يملك الأرض ؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه... اهـ
حديث مسلم في كتاب السلام باب السم
حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي. حدثنا خالد بن الحارث. حدثنا شعبة عن هشام بن زيد، عن أنس؛
أن امرأة يهودية أتت رسول الله ( بشاة مسمومة. فأكل منها. فجيء بها إلى رسول الله ( . فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك. قال" ما كان الله ليسلطك على ذاك" قال أو قال "علي" قال قالوا: ألا نقتلها؟ قال "لا" قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله (
قال النووي
(1/56)
________________________________________
قوله: (أن يهودية أتت رسول الله ( بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله ( فسألها عن ذاك قالت أردت لأقتلك، قال: وما كان الله ليسلطك على ذاك قال أو قال علي، قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله ( ). وفي الرواية الأخرى: (جعلت سماً في لحم). أما السم فبفتح السين وضمها وكسرها ثلاث لغات الفتح أفصح جمعه سمام وسموم. وأما اللهوات فبفتح اللام والهاء جمع لهات بفتح اللام وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك قاله الأصمعي. وقيل اللحمات اللواتي في سقف أقصى الفم. وقوله: (ما زلت أعرفها) أي العلامة كأنه بقي للسم علامة وأثر من سواد أو غيره. وقولهم: (ألا نقتلها) هي بالنون في أكثر النسخ وفي بعضها بتاء الخطاب. وقوله ( "ما كان الله ليسلطك على ذاك أو قال علي" فيه بيان عصمته ( من الناس كلهم كما قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} وهي معجزة لرسول الله ( في سلامته من السم المهلك لغيره وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة وكلام عضو منه له فقد جاء في غير مسلم أنه ( قال : إن الذراع تخبرني أنها مسمومة... وهذه المرأة اليهودية الفاعلة للسم اسمها زينب بنت الحارث أخت مرحب اليهودي روينا تسميتها هذه في مغازي موسى بن عقبة ودلائل النبوة للبيهقي قال القاضي عياض: واختلف الاَثار والعلماء هل قتلها النبي ( أم لا؟ فوقع في صحيح مسلم أنهم قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا. ومثله عن أبي هريرة وجابر. وعن جابر من رواية أبي سلمة أنه ( قتلها. وفي رواية ابن عباس أنه ( دفعها إلى أولياء بشر بن البراء بن معرور وكان أكل منها فمات بها فقتلوها. وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله ( قتلها. قال القاضي: وجه الجمع بين هذه الروايات والأقاويل أنه لم يقتلها أولاً حين اطلع على سمها وقيل له اقتلها فقال لا فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصاً، فيصح قولهم لم يقتلها أي في
(1/57)
________________________________________
الحال، ويصح قولهم قتلها أي بعد ذلك والله أعلم....
*** ماذا تركوا فلم يحاولوا ؟...من عصابة القريشيين وما أبرموا إلى التي أهدت الشاة وقد سمتها حتى العظم ، مرورا بالذي سل السيف الصارم تحت الشجرة ، وذاك الذي أعد للطعن خنجرا دسه بين طيات ثوبه ، والآخر الذي اتعب كاهله بحمله الصخرة الصماء ، ...، خابوا وخسروا ... وباءت كل مناوراتهم بالفشل ... لكنهم لم يعتبروا ، لأن القلوب أغلقتها أقفالها ، والعيون أعمتها غشاوتها ... فكلما فشلوا عاودوا الكرة ، وكلما عادوا أحبط الله أعمالهم وجعل البوار نصيبهم ...ومع ما تكبدوا من فادح خسارات وتجرعوا من خانق المهانات ، كانت
المناورة الثامنة...
(1/58)
________________________________________
*** حاول المغضوب عليهم التأثير على عقل المعصوم حيث لجأ خبثاؤهم إلى السحر ... فيا لغباوتهم ... كيف ينالون من الذي أنزل الله عليه : ( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ؟؟؟ (البقرة : 102 ) ؛ أم كيف يكون لسحرهم تأثير على لب المصطفى وهو الذي يتلو فيما نزِّل عليه من ربه : (وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (يونس : 77) ؛ ( وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه : 69 ) ... ألا يجدون في كتبهم قبل أن يحرفوا كلمها عن مواضعه أن سحرة فرعون فشلوا لما عارضوا موسى عليه السلام ، وأنبأنا به العليم الخبير في قوله عز من قائل : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الأعراف : 120 ) ؛ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً ) (طه : 70 ) ؛ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الشعراء : 46 )...تالله إن السحرة الذين عاشوا زمن ابن عمران عليه السلام كانوا أفضل ممن عاصروا محمدا(، لأنهم لما عرفوا الحق انصاعوا له وسجدوا لله وأعلنوا إيمانهم به غير مبالين بتهديدات فرعون وعصابته المجرمين بتقطيع الأيدي والأرجل والتصليب على جذوع النخل ... قال تعالى عنهم : (قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف : 121 ) و (الشعراء : 47 )، وصرخوا في وجه الطاغية الذي استكبر في الأرض يذبح ويقتل ويسوم بني إسرائيل سوء الذاب ، (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه : 72-73 ) ...
(1/59)
________________________________________
فالذين عرفوا محمدا ( كما يعرفون أبناءهم ، ويجدونه مكتوبا عندهم في كتبهم ، ختم الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ، وطمس على أعينهم فهم لا يبصرون ، وجعل في آذانهم الوقر فهم لا يسمعون ... أليسوا بأضل من الأنعام ؟؟؟
روى البخاري في كتاب بدء الخلق؛ وفي كتاب الأدب؛ وفي كتاب الجزية ؛ وفي كتاب الدعوات وفي كتاب الطب باب: السحر.
وقول الله تعالى: {ولكنَّ الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منها ما يفرِّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرُّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لَمَنِ اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} /البقرة: 102/.وقوله تعالى: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} /طه:69/.وقوله: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} /الأنبياء:3/.وقوله: {يُخيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى} /طه:66/.
وقوله: {ومن شرِّ النَّفَّاثات في العقد} /الفلق:4/: والنَّفَّاثات: السواحر. {تُسْحَرون} /المؤمنون: 89/: تُعَمَّوْن.
- حدثنا إبراهيم بن موسى: أخبرنا عيسى بن يونس، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(1/60)
________________________________________
سحر رسولَ الله ( رجل من بني زُرَيق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله ( يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا، ثم قال: (يا عائشة، أشَعَرْتِ أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مُشط ومُشاطة، وجُفِّ طَلْع نخلة ذَكَر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذَرْوان). فأتاها رسول الله ( في ناس من أصحابه، فجاء فقال: (يا عائشة، كأن ماءها نُقاعة الحِنَّاء، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين). قلت: يا رسول الله: أفلا استخرجته؟ قال: (قد عافاني الله، فكرهت أن أثَوِّرَ على الناس فيه شراً). فأمر بها فدُفنت.تابعه أبو أسامة وأبو ضمرة وابن أبي الزناد، عن هشام.وقال الليث وابن عُيَينة، عن هشام: (في مُشط ومُشاقة).
يقال: المُشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشط، والمُشاقة: من مُشاقة الكَتَّان.
باب: هل يُستخرج السحر.
وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيَّب: رجل به طِبٌّ، أو: يُؤخذ عن امرأته، أيُحَلُّ عنه أو يُنَشِّرُ؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع الناس فلم يُنْهَ عنه.
- حدثني عبد الله بن محمد قال: سمعت ابن عُيَينة يقول: أول من حدثنا به ابن جُرَيج يقول: حدثني آل عروة، عن عروة، فسألت هشاماً عنه، فحدثنا عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(1/61)
________________________________________
كان رسول الله ( سُحِرَ، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر، إذا كان كذا، فقال: (يا عائشة، أعَلِمْتِ أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليَّ، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبَّه؟ قال: لبيد بن أعصم - رجل من بني زُرَيق حليف ليهود كان منافقاً - قال: وفيم؟ قال: في مُشط ومُشاقة، قال: وأين؟ قال: في جُفِّ طلعةٍ ذَكَرٍ، تحت رَعوفة في بئر ذروان). قالت: فأتى النبي ( البئر حتى استخرجه، فقال: (هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحنَّاء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين). قال: فاستخرج، قالت: فقلت: أفلا؟ - أي تنشَّرت - فقال: (أما والله فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً).
باب: السحر.
- حدثنا عبيد بن إسماعيل: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:
سُحر النبي ( حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله ودعاه، ثم قال: (أشَعَرْتِ يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه). قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: (جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليَّ، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زُرَيق، قال: في ماذا؟ قال: في مُشط ومُشاطة وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان). قال: فذهب النبي ( في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة فقال: (والله لكأن ماءها نقاعة الحنَّاء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين). قلت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: (لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثوِّر على الناس منه شراً). أمر بها فدُفنت.
وفي كتاب الدعوات باب: تكرير الدعاء.
(1/62)
________________________________________
- حدثنا إبراهيم بن منذر: حدثنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:
أن رسول الله ( طُبَّ، حتى أنه ليخيل إليه أنه قد صنع الشيء وما صنعه، وإنه دعا ربه، ثم قال: (أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه). فقالت عائشة: فما ذاك يا رسول الله؟ قال: (جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة، قال: فأين هو؟ قال: في ذروان). وذروان بئر في بني زريق، قالت: فأتاها رسول الله ( ثم رجع إلى عائشة، فقال: (والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين). قالت: فأتى رسول الله ( فأخبرها عن البئر، فقلت: يا رسول الله فهلا أخرجته؟ قال: (أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً).زاد عيسى بن يونس والليث بن سعد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: سحر رسول الله( ، فدعا ودعا، وساق الحديث.
ورواه مسلم في كتاب السلام ؛ باب السحر
حدثنا أبو كريب. حدثنا ابن نمير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. قالت:
(1/63)
________________________________________
سحر رسول الله ( يهودي من يهود بني زريق. يقال له: لبيد بن الأعصم. قالت: حتى كان رسول الله ( يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله. حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله (. ثم دعا. ثم دعا. ثم قال "يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي. فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في آي شيء؟ قال: في مشط ومشاطه. قال وجب طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان". قالت: فأتاها رسول الله ( في أناس من أصحابه. ثم قال "يا عائشة! والله! لكأن ماءها نقاعة الحناء. ولكأن نخلها رؤوس الشياطين".قالت فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال "لا. أما أنا فقد عافاني الله. وكرهت أن أثير على الناس شرا. فأمرت بها فدفنت".
حدثنا أبو كريب. حدثنا أو أسامة. حدثنا هشام عن أبيه، عن عائشة. قالت:سحر رسول الله (. وساق أبو كريب الحديث بقصته، نحو حديث ابن نمير. وقال فيه: فذهب رسول الله ( إلى البئر. فنظر إليها وعليها نخل. وقالت: قلت: يا رسول الله! فأخرجه. ولم يقل: أفلا أحرقته؟ ولم يذكر" فأمرت بها فدفنت".
*** ولتنبح كلاب الغدر حتى الصعر...فقافلة الإيمان تمر ، نور الحق يفتح طريقها ، وترتيل القرآن يحدوها، وسيوف الرجال الأوفياء الذين ( صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) تحميها ... من طال لسانه قصروه فأخرصوه ، ومن مد يده ضربوا عنقه فأسكتوه...
لكن ... كلما ازداد دين الله الذي ارتضاه لعباده المؤمنين عزا وسؤددا ، سعِّرت نيرانُ بغض المبغضين تشوي أفئدتهم الفاسدة .. وتزج بهم إلى ما لا عاقبة له إلا الدرك الأسفل من لظى، تلكم النزاعة للشوى ... ورغم كونهم كلما أشعلوا نارا لم يحرقوا بها إلا أنفسهم ، كانت


المناورة التاسعة...
(1/64)
________________________________________
قال القاضي عياض في " الشفا بتعريف حقوق المصطفى"
ومن مشهور ذلك خبر عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس ـ حين وفدا على النبي (، وكان عامر قال له : أنا أشغل عنك وجه محمد فاضربه أنت . فلم يره فعل شئياً ، فلما كلمه في ذلك قال له : والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني و بينه ، أفأضربك ؟...
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية " :
وفد بني عامر وقصة عامر بن الطفيل واربد بن مقيس
قال ابن اسحاق وقدم على رسول الله ( وفد بني عامر بن الطفيل وأربد بن مقيس ابن جزء بن جعفر بن خالد وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم وقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله ( وهو يريد الغدر به وقد قال له قومه يا أبا عامر: ان الناس قد اسلموا فاسلم.. قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟ ثم قال لاربد: ان قدمنا على الرجل فاني سأشغل عنك وجهه فاذا فعلت ذلك فأعله بالسيف ...فلما قدموا على رسول الله ( قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني ..قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده... قال: يا محمد خالني.. قال وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يحير شيئا فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال : يا محمد خالني .. قال لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له فلما أبى عليه رسول الله ( ؛ قال: أما والله لاملأنها عليك خيلا ورجالا... فلما ولى قال رسول الله ( :اللهم اكفني عامر بن الطفيل فلما خرجوا من عند رسول الله ( قال عامر بن الطفيل لأربد: أين ما كنت أمرتك به ؟ والله ما كان على ظهر الارض رجل أخوف على نفسي منك ، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا... قال : لا أبالك ، لا تعجل علي، والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك.. أفأضربك بالسيف؟؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل
(1/65)
________________________________________
الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ؟- قال ابن هشام ويقال أغدة كغدة الابل وموت في بيت سلولية ؟
-وروى الحافظ البيهقي من طريق الزبير بن بكار حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن موءلة عن أبيها عن جدها موءلة بن جميل قال أتى عامر بن الطفيل رسول الله ( فقال له: يا عامر أسلم ..فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر.. قال : لا ثم قال أسلم ...فقال : أسلم على أن لي الوبر ولك المدر.. قال: لا... فولى وهو يقول: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ولاربطن بكل نخلة فرسا.. فقال رسول الله ( :اللهم اكفني عامرا وأهد قومه ...فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها فاخذته غدة في حلقه فوثب على فرسه وأخذ رمحه وأقبل يجول وهو يقول غدة كغدة البكر وموت في بيت سلولية فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتا ..
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في اسماء الصحابة موءلة هذا فقال هو موءلة بن كثيف الضبابي الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة أتى رسول الله ( وهو ابن عشرين سنة فاسلم وعاش في الاسلام مائة سنة وكان يدعى ذا اللسانين من فصاحته روى عنه ابنه عبد العزيز وهو الذي روى قصة عامر بن الطفيل غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية
(1/66)
________________________________________
قال الزبير بن بكار حدثتني ظميا بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن جميل بن خالد بن عمرو بن معاوية وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قالت حدثني أبي عن أبيه عن موءلة أنه أتى رسول الله ( فاسلم وهو ابن عشرين سنة وبايع رسول الله ( ومسح يمينه وساق أبله إلى رسول الله ( فصدقها بنت لبون ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله ( وعاش في الاسلام مائة سنة وكان يسمى ذا اللسانين من فصاحته قلت والظاهر أن قصة عامر بن الطفيل متقدمة على الفتح وإن كان ابن اسحاق والبيهقي قد ذكرها بعد الفتح وذلك لما رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن الاصم أنبأنا محمد بن اسحاق أنبأنا معاوية بن عمرو ثنا أبو اسحاق الفزاري عن الاوزاعي عن اسحاق بن عبد الله بن ابي طلحة عن أنس في قصة بئر معونة وقتل عامر بن الطفيل حرام بن ملحان خال أنس بن مالك وغدره باصحاب بئر معونة حتى قتلوا عن آخرهم سوى عمرو بن أمية كما تقدم قال الاوزاعي قال يحيى فمكث رسول الله (يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا : اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت وابعث عليه ما يقتله ..فبعث الله عليه الطاعون وروى عن همام عن اسحاق ابن عبد الله عن أنس في قصة ابن ملحان قال وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله ( فقال أخيرك بين ثلاث خصال يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل الوبر وأكون خليفتك من بعدك أو أغزوك بغطفان بالف اشقر والف شقراء قال فطعن في بيت امرأة فقال غدة كغدة البعير وموت في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه
(1/67)
________________________________________
قال ابن اسحاق ثم خرج أصحابه حين رأوه حتى قدموا أرض بني عامر شاتين فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا وما وراءك يا أربد قال لا شيء والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه فارسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فاحرقتهما قال ابن اسحاق وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لامه فقال لبيد يبكي أربد
ما أن تعرى المنون من أحد * لا والد مشفق ولا ولد
اخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد
فعين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام النساء في كبد
إن يشغبوا لا يبال شغبهم * أو يقصدوا في الحكوم يقتصد
حلو أريب وفي حلاوته * مر لصيق الاحشاء والكبد
وعين هلا بكيت أربد إذ * ألوت رياح الشتاء بالعضد
وأصبحت لاقحا مصرمة * حتى تجلت غوابر المدد
اشجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد
لا تبلغ العين كل نهمتها * ليلة تمسي الجياد كالفدد
الباعث النوح في مآتمه * مثل الظباء الأبكار بالجرد
فجعني البرق والصواعق بالفا * رس يوم الكريهة النجد
والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعد يعد
يعفو على الجهد والسؤال كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد
كل بني حرة مصيرهم * قل وإن كثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن * أمروا يوما فهم للهلاك والنفد
وقد روى ابن اسحاق عن لبيد أشعارا كثيرة في رثاء أخيه لأمه أربد بن قيس تركناها إختصارا واكتفاء بما أوردناه والله الموفق للصواب
(1/68)
________________________________________
قال ابن هشام وذكر زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال فانزل الله عز وجل في عامر وأربد قوله تعالى : (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يده ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) يعني محمدا ( ثم ذكر أربد وقتله ، فقال الله تعالى :( وإذا اراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال)
(1/69)
________________________________________
... وقد وقع لنا إسناد ما علقه ابن هشام رحمه الله فروينا من طريق الحافظ أبي القاسم سليمان بن احمد الطبراني في معجمه الكبير حيث قال حدثنا مسعدة بن سعد العطار حدثنا ابراهيم بن المنذر الحزامي حدثني عبد العزيز بن عمران حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول الله (فانتهيا اليه وهو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر بن الطفيل يا محمد ما تجعل لي إن اسلمت فقال رسول الله ( مالك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال عامر أتجعل لي الأمر إن اسلمت من بعدك فقال رسول الله ( ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال أنا الآن في أعنة خيل نجد اجعل لي الوبر ولك المدر قال رسول الله ( لا ...فلما قفا من عنده قال عامر أما والله لاملأنها عليك خيلا ورجالا فقال رسول الله (:يمنعك الله فلما خرج أربد وعامر قال عامر يا أربد أنا اشغل محمدا بالحديث فاضربه بالسيف فان الناس اذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية قال أربد أفعل فأقبلا راجعين اليه فقال عامر يا محمد قم معي أكلمك فقام معه رسول الله ( فخليا الى الجدار ووقف معه رسول الله يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف فلم يستطع سل السيف فابطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله ( فرأى أربد وما ينصع فانصرف عنهما فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله ( حتى اذا كانا بالحرة حرة وارقم نزلا فخرج اليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير فقالا اشخصا يا عدوا الله لعنكما الله فقال عامر من هذا يا سعد قال أسيد بن حضير الكتائب فخرجا حتى اذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى اذا كان بالحرة أرسل الله قرحة فاخذته فادركه الليل في بيت امرأة من بني سلول فجعل يمس قرحته في
(1/70)
________________________________________
حلقه ويقول غدة كغدة الجمل في بيت سلولية يرغب عن أن يموت في بيتها ثم ركب فرسه فاحضرها حتى مات عليه راجعا فانزل الله فيهما الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد إلى قوله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يعني محمدا ( ثم ذكر أربد وما قتله به فقال ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء الآية وفي هذا السياق دلالة على ما تقدم من قصة عامر وأربد وذلك لذكر سعد بن معاذ فيه والله أعلم... اهـ
وقال رحمه الله في التفسير
وقد روي في سبب نزول قوله تعالى ? وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ *وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ * ? ( الرعد 11-13 )
ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق, حدثنا علي بن أبي سارة الشيباني, حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله ( بعث رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب, فقال: "اِذهب فادعه لي". قال: فذهب إليه فقال: يدعوك رسول الله (, فقال له: من رسول الله؟ وما الله؟أمن ذهب هو؟ أم من فضة هو؟ أم من نحاس هو ؟ قال: فرجع إلى رسول الله ( فأخبره, فقال: يا رسول الله, قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك, قال لي كذا وكذا, فقال لي: "ارجع إليه الثانية" فذهب فقال له مثلها, فرجع إلى رسول الله ( فقال: يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك, فقال: "ارجع إليه فادعه" فرجع إليه الثالثة, قال: فأعاد عليه ذلك الكلام, فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عز وجل سحابة حيال رأسه, فرعدت فوقعت منها صاعقة, فذهب بقحف رأسه, فأنزل الله عز وجل {ويرسل الصواعق} الاَية, ورواه ابن جرير من حديث علي بن أبي سارة به.
(1/71)
________________________________________
ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبدة بن عبد الله عن يزيد بن هارون, عن ديلم بن غزوان, عن ثابت, عن أنس فذكر نحوه, وقال: حدثنا الحسن بن محمد, حدثنا عفان, حدثنا أبان بن يزيد, حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن النبي ( بعثه إلى جبار يدعوه فقال: أرأيتم ربكم أذهب هو ؟ أم فضة هو ؟ أم لؤلؤ هو ؟ قال: فبينما هو يجادلهم إذ بعث الله سحابة فرعدت, فأرسل عليه صاعقة, فذهبت بقحف رأسه, ونزلت هذه الاَية. وقال أبو بكر بن عياش عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد قال: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك, من أي شيء هو ؟ من نحاس هو, أم من لؤلؤ أو ياقوت ؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته, وأنزل الله {ويرسل الصواعق} الاَية.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن, وكذب النبي ( فأرسل الله صاعقة فأهلكته, وأنزل الله {ويرسل الصواعق} الاَية, وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة, لما قدما على رسول الله ( المدينة فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر, فأبى عليهما رسول الله ( , فقال له عامر بن الطفيل ـ لعنه الله ـ: أما والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً, فقال له رسول الله ( : "يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة" يعني الأنصار, ثم إنهما هما بالفتك برسول الله ( فجعل أحدهما يخاطبه, والاَخر يستل سيفه ليقتله من ورائه, فحماه الله تعالى منهماوعصمه, فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام, فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته, وأما عامر بن الطفيل, فأرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة, فجعل يقول: يا آل عامر غدة كغدة البكر, وموت في بيت سلولية, حتى ماتا لعنهما الله, وأنزل الله في مثل ذلك {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله}, وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخو أربد يرثيه:
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
(1/72)
________________________________________
فجعني الرعد والصواعق بالفارس يوم الكريهة النجد
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا مسعدة بن سعيد العطار, حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي, حدثني عبد العزيز بن عمران, حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما, عن عطاء بن يسار, عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن جليد بن جعفر بن كلاب, وعامر بن الطفيل بن مالك, قدما المدينة على رسول الله (, فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه, فقال عامر بن الطفيل: يا محمد, ما تجعل لي إن أسلمت ؟ فقال رسول الله (: "لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم". قال عامر بن الطفيل: أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك ؟ قال رسول الله ( : "ليس ذلك لك ولا لقومك, ولكن لك أعنة الخيل" قال: أنا الاَن في أعنة خيل نجد, اجعل لي الوبر ولك المدر. قال رسول الله ( : "لا", فلما قفلا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً, فقال له رسول الله (: "يمنعك الله", فلما خرج أربد وعامر, قال عامر: يا أربد, أنا أشغل عنك محمداً بالحديث فاضربه بالسيف, فإن الناس إذا قتلت محمداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب, فنعطيهم الدية. قال أربد: أفعل, فأقبلا راجعين إليه, فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك, فقام معه رسول الله ( فجلسا إلى الجدار, ووقف معه رسول الله (يكلمه, وسل أربد السيف, فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف, فلم يستطع سل السيف, فأبطأ أربد على عامر بالضرب, فالتفت رسول الله ( فرأى أربد وما يصنع, فانصرف عنهما, فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله ( حتى إذا كانا بالحرة ـ حرة راقم ـ نزلا, فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير, فقالا: اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله, فقال عامر: من هذا يا سعد ؟ قال: هذا أسيد بن حضير الكتائب, فخرجا حتى إِذا كانا بالرقم, أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته, وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم أرسل الله قرحة فأخذته, فأدركه
(1/73)
________________________________________
الليل في بيت امرأة من بني سلول, فجعل يمس قرحته في حلقة ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية, ترغب أن يموت في بيتها, ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعاً, فأنزل الله فيهما {الله يعلم ما تحمل كل أنثى ـ إلى قوله ـ وما لهم من دونه من وال} قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً (, ثم ذكر أربد وما قتله به, فقال {ويرسل الصواعق} الاَية.
وقوله {وهم يجادلون في ا لله} أي يشكون في عظمته, وأنه لا إله إلا هو, {وهو شديد المحال} قال ابن جرير: شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه, وعتا وتمادى في كفره, وهذه الاَية شبيهة بقوله: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين}, وعن علي رضي الله عنه {وهو شديد المحال} أي شديد الأخذ, وقال مجاهد: شديد القوة. اهـ
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "
الآيتان: 12 - 13من سورة الرعد
{هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال}
(1/74)
________________________________________
قوله تعالى: "هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال" أي بالمطر. "السحاب" جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا. "ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته" قد مضى في "البقرة" القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة؛ والمراد بالآية بيان كمال قدرته؛ وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز؛ أي يربكم البرق في السماء خوفا للمسافر؛ فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق؛ قال الله تعالى: "أذى من مطر" [النساء: 102] وطمعا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب؛ قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما. وقال الحسن: خوفا من صواعق البرق، وطمعا في غيثه المزيل للقحط. "وينشئ السحاب الثقال" قال مجاهد: أي بالماء. "ويسبح الرعد بحمده" من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه؛ ودليل، صحة هذا القول قوله: "والملائكة من خيفته" فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة. ومن قال إنه ملك قال: معنى. "من خيفته" من خيفة الله؛ قاله الطبري وغيره. قال ابن عباس: إن الملائكة خائفون من الله ليس كخوف ابن آدم؛ لا يعرف واحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغلهم عن عبادة الله طعام ولا شراب؛ وعنه قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه، وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر، وإنه يسبح الله؛ فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر، وعنه أيضا كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وروى مالك عن عامر بن عبدالله عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحانه الذي يسح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد. وقيل: إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض، وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك؛ فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف الله، وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف الله.
(1/75)
________________________________________
قوله تعالى: "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء" ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد: نزلت في يهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني! من أي شيء ربك؛ أمن لؤلؤ أم من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. وقيل: نزلت في بعض كفار العرب؛ قال الحسن: (كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي ( نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام فقال لهم: أخبروني عن رب محمد ما هو، ومم هو، أمن فضة أم من حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته؛ فقال: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه !؟ فبعث النبي ( إليه مرارا وهو يقول مثل هذا؛ فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة، فأحرقت الكافر وهم جلوس؛ فرجعوا إلى النبي ( فاستقبلهم بعض أصحاب رسول الله (، فقالوا: أحترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي (. "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء". ذكره الثعلبي عن الحسن؛ والقشيري بمعناه عن أنس، وسيأتي. وقيل: نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة، وفي عامر بن الطفيل؛ قال ابن عباس: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي ( وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس؛ فقال رجل من أصحاب النبي ( : هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك؛ فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا يهده... فأقبل حتى قام عليه فقال؛ يا محمد مالي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين... قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء. قال: أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: (لا). قال: فما تجعل لي؟ قال: (أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله). قال: أو ليس لي أعنة الخيل اليوم؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله ( ، وكان عامر أومأ إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر
(1/76)
________________________________________
من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي ( ويراجعه؛ فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه؛ وأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته؛ وولى عامر هاربا وقال: يا محمد! دعوت ربك على أربد حتى قتلته؛ والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا؛ فقال عليه السلام: يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة... يعني الأوس والخزرج؛ فنزل عامر بيت امرأة سلولية؛ وأصبح وهو يقول: والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه - يريد ملك الموت - لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب؛ وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت؛ فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية؛ ثم ركب على فرسه فمات على ظهره. ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال:
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمـ ـنا وقام الخصوم في كبد
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد
وفيه قال:
إن الرزية لا رزية مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب
يا أربد الخير الكريم جدوده أفردتني أمشي بقرن أعضب
وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه.
(1/77)
________________________________________
مسألة: روى أبان عن أنس قال قال رسول الله ( : (لا تأخذ الصاعقة ذاكرا لله عز وجل). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (كان النبي ( إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته). وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده قال: كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ ففعلنا فعوفينا؛ ثم لقيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ فقلنا فعوفينا؛ فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها؟
(1/78)
________________________________________
قوله تعالى: " وهم يجادلون في الله " يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى: من أي شيء هو؟ قال مجاهد. وقال ابن جريج: جدال أربد فيما همَّ به من قتل النبي ( . ويجوز أن يكون، "وهم يجادلون في الله" حالا، ويجوز أن يكون منقطعا. وروى أنس (أن رسول الله ( بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل، فقال لرسول الله: أخبرني عن إلهك هذا؟ أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس؟ فاستعظم ذلك؛ فرجع إليه فأعلمه؛ فقال: ارجع إليه فادعه فرجع إليه وقد أصابته صاعقة، وعاد إلى رسول الله ( وقد نزل: "وهم يجادلون في الله" "وهو شديد المحال" قال ابن الأعرابي: "المحال" المكر، والمكر من الله عز وجل التدبير بالحق. النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وروى ابن اليزيدي عن أبي زيد "وهو شديد المحال" أي النقمة. وقال الأزهري: "المحال" أي القوة والشدة. والمحل: الشدة ؛ الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد. وقال أبو عبيد: "المحال" العقوبة والمكروه. وقال ابن عرفة: "المحال" الجدال؛ يقال: ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتيبي: أي شديد الكيد؛ وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم المكان؛ وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وقال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة؛ بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية؛ مثل: مهاد وملاك ومراس، وغير ذلك من الحروف. ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل: مزود ومحول ومحور، وغيرها من الحروف؛ وقال: وقرأ الأعرج ـ "وهو شديد الَمحال" بفتح الميم؛ وجاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول، ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي، إلا ما ذكرناه أولا عن ابن الأعرابي؛ وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها؛ وهي ثمانية: أولها: شديد العداوة، قاله ابن عباس. وثانيها: شديد الحول، قاله ابن عباس أيضا. وثالثها: شديد الأخذ،
(1/79)
________________________________________
قال علي بن أبي طالب. ورابعها: شديد الحقد، قاله ابن عباس. وخامسها: شديد القوة، قال مجاهد. وسادسها: شديد الغضب، قاله وهب بن منبه. وسابعها: شديد الهلاك بالمحل، وهو القحط؛ قاله الحسن أيضا. وثامنها: شديد الحيلة؛ قاله قتادة. وقال أبو عبيدة معمر: المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة ....
*** بزغ نور النبوة في مكة المكرمة حيث كان فجر الدين الحق ، ثم سطع في المدينة المنورة ومنها أخذ ينتشر في بلاد العرب ، فلم يرق ذلك كثيرا من ذوي النفوس المريضة الذين كانوا ، لسفاهتهم ، يرون في الإسلام قضاء على جاههم الزائف وغناهم الزائل ... ومن هؤلاء فاطمة بنت ربيعة بن بدر أم قرفة التي خشيت ضياع مكانتها بين قومها وذهاب عزها ونفوذها ، وكانت
المناورة العاشرة...
فجندت أم قرفة هذه بنيها وكانوا عصبة وضمت إليهم عصابة من المجرمين ملأت قوةُ شبابهم عينَها المقيتة ، وأمدت الجميع بالخيل الجياد والسلاح الحاد ، وكان من خطتها الشيطانية لقتل الرسول الكريم ( أن تدخل الشرذمة الغاوية المدينة ليلا ، والناس نيام ...وظنت أن جنح الظلام كفيل بستر خطتها حتى التمام لتحقق ما أرادت وتفلح فيما رامت ...حتى تطفيء نار الحقد المستعرة في جوفها العفن ...
لكن الله تعالى أطلع رسوله( على أمرها وكشف له عن مرادها ، فبعث إليها ، في عقر دارها وبين عشيرتها، سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه ...
قال الواقدي في كتاب المغازي
- سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى أُمّ قِرْفَةَ فِى رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ نَاحِيَةَ وَادِى الْقُرَى إلَى جَنْبِهَا.
(1/80)
________________________________________
حَدّثَنِى أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِىّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ، قَالَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِى تِجَارَةٍ إلَى الشّامِ، وَمَعَهُ بَضَائِعُ لأَصْحَابِ النّبِىّ ( فَأَخَذَ خُصْيَتَىْ تَيْسٍ فَدَبَغَهُمَا ثُمّ جَعَلَ بَضَائِعَهُمْ فِيهِمَا، ثُمّ خَرَجَ حَتّى إذَا كَانَ دُونَ وَادِى الْقُرَى وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ بَنِى فَزَارَةَ مِنْ بَنِى بَدْرٍ، فَضَرَبُوهُ وَضَرَبُوا أَصْحَابَهُ حَتّى ظَنّوا أَنْ قَدْ قُتِلُوا، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ ثُمّ اسْتُبِلّ زَيْدٌ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِىّ ( فَبَعَثَهُ فِى سَرِيّةٍ، فَقَالَ لَهُمْ: اُكْمُنُوا النّهَارَ وَسِيرُوا اللّيْلَ. فَخَرَجَ بِهِمْ دَلِيلٌ لَهُمْ وَنَذَرَتْ بِهِمْ بَنُو بَدْرٍ فَكَانُوا يَجْعَلُونَ نَاطُورًا لَهُمْ حِينَ يُصْبِحُونَ فَيَنْظُرُ عَلَى جَبَلٍ لَهُمْ مُشْرِفٍ وَجْهَ الطّرِيقِ الّذِى يَرَوْنَ أَنّهُمْ يَأْتُونَ مِنْهُ فَيَنْظُرُ قَدْرَ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَيَقُولُ اسْرَحُوا فَلا بَأْسَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ لَيْلَتَكُمْ، فَلَمّا كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى نَحْوِ مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ أَخْطَأَ بِهِمْ دَلِيلُهُمْ الطّرِيقَ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقًا أُخْرَى حَتّى أَمْسَوْا وَهُمْ عَلَى خَطَأٍ فَعَرَفُوا خَطَأَهُمْ ثُمّ صَمَدُوا لَهُمْ فِى اللّيْلِ حَتّى صَبّحُوهُمْ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ نَهَاهُمْ حَيْثُ انْتَهَوْا عَنْ
الطلب ....
(1/81)
________________________________________
قَالَ: ثُمّ وَعَزَ إلَيْهِمْ أَلاّ يَفْتَرِقُوا، وَقَالَ: إذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا، وَأَحَاطُوا بِالْحَاضِرِ ثُمّ كَبّرَ وَكَبّرُوا، فَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ فَطَلَبَ رَجُلاً مِنْهُمْ حَتّى قَتَلَهُ، وَقَدْ أَمْعَنَ فِى طَلَبِهِ وَأَخَذَ جَارِيَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَجَدَهَا فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَأُمّهَا أُمّ قِرْفَةَ وَأُمّ قِرْفَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَغَنِمُوا، وَأَقْبَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَقْبَلَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ بِالْجَارِيَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِىّ ( فَذَكَرَ لَهُ جَمَالَهَا، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ قَالَ جَارِيَةٌ يَا رَسُولَ اللّهِ رَجَوْت أَنْ أَفْتَدِىَ بِهَا امْرَأَةً مِنّا مِنْ بَنِى فَزَارَةَ، فَأَعَادَ رَسُولُ اللّهِ ( مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا يَسْأَلُهُ : مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ حَتّى عَرَفَ سَلَمَةُ أَنّهُ يُرِيدُهَا فَوَهَبَهَا لَهُ فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللّهِ ( لِحَزْنِ بْنِ أَبِى وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ امْرَأَةً لَيْسَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ غَيْرُهَا.
فَحَدّثَنِى مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللّهِ ( فِى بَيْتِى، فَأَتَى زَيْدٌ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ( يَجُرّ ثَوْبَهُ عُرْيَانًا، مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهَا، حَتّى اعْتَنَقَهُ وَقَبّلَهُ ثُمّ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا ظَفّرَهُ اللّهُ.
- ذِكْرُ مَنْ قَتَلَ أُمّ قِرْفَةَ
(1/82)
________________________________________
قَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُحَسّرِ قَتْلاً عَنِيفًا؛ رَبَطَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا حَبْلاً ثُمّ رَبَطَهَا بَيْنَ بَعِيرَيْنِ وَهِىَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ. وَقَتَلَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ، وَقَتَلَ قَيْسَ بْنَ النّعْمَانِ بْنِ مَسْعَدَةَ ابْنِ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَدْرٍ.
وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ في كتاب السيرة النبوية :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ آلَى أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ بَنِي فَزَارَةَ، فَلَمَّا اسْتَبَلَّ مِنْ جِرَاحَتِهِ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( إلَى بَنِي فَزَارَةَ فِي جَيْشٍ، فَقَتَلَهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، وَأَصَابَ فِيهِمْ، وَقَتَلَ قَيْسَ بْنَ الْمُسَحَّرِ الْيَعْمُرِيَّ مَسْعَدَةَ بْنَ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَأُسِرَتْ أُمُّ قِرْفَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ بَدْرٍ، كَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةٌ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَبِنْتٌ لَهَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ، فَأَمَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ قَيْسَ بْنَ الْمُسَحَّرِ أَنْ يَقْتُلَ أُمَّ قِرْفَةَ، فَقَتَلَهَا قَتْلًا عَنِيفًا؛ ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( بِابْنَةِ أُمِّ قِرْفَةَ، وَبِابْنِ مَسْعَدَةَ.
وَكَانَتْ بِنْتُ أُمِّ قِرْفَةَ لِسَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ، كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَهَا، وَكَانَتْ فِي بَيْتِ شَرَفٍ مِنْ قَوْمِهَا؛ كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ: ( لَوْ كُنْتَ أَعَزَّ مِنْ أُمِّ قِرْفَةَ مَا زِدْتُ ). فَسَأَلَهَا رَسُولَ اللَّهِ ( سَلَمَةُ، فَوَهَبَهَا لَهُ، فَأَهْدَاهَا لِخَالِهِ حَزْنَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَزْنٍ.
(1/83)
________________________________________
*** أُسرت أم قرفة . ثم قُتلت.. وتجري الأيام ...ناس يدخلون في دين الله أفواجا يتولون الله ورسوله والذين آمنوا ، سعداء يكثرون حزب الله الغالب ، وآخرون ينضوون تحت لواء ابليس أشقياء في ظلمات حزبه المغلوب ... وكانت
المناورة الحادية عشرة...
باب سرية نجد يقال أنها كانت في المحرم سنة ست من الهجرة بعث فيها محمد بن مسلمة فجاء بسيد أهل اليمامة ثمامة بن أثال وما ظهر في أخذه وإسلامه من الآثار
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ رحمه الله قال أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه قال أخبرنا أحمد بن إبراهيم هو ابن ملحان قال حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث قال حدثنا سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول بعث رسول الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي ما قلت لك أن تنعم تنعم على شاكر وأن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فيسره رسول الله وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل صبأت يا ثمامة قال لا ولكني أسلمت مع رسول الله فوالله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله
رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الليث وأخرجه مسلم أيضا من حديث عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري هكذا
(1/84)
________________________________________
وخالفهما محمد بن إسحاق بن يسار عن المقبري في كيفية أخذه وذكر أولا من قبل نفسه أن ثمامة بن أثال كان رسول مسيلمة إلى رسول الله فدعا الله أن يمكنه منه
ثم روى عن المقبري ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو محمد بن موسى ابن الفضل قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال حدثني سعيد المقبري عن أبي هريرة قال كان إسلام ثمامة بن أثال الحنفي أن رسول الله دعا الله حين عرض لرسول الله بما عرض له أن يمكنه الله منه وكان عرض له وهو مشرك فأراد قتله فأقبل ثمامة معتمرا وهو على شركه حتى دخل المدينة فتحير فيها حتى أخذ فأتي به رسول الله وهو مشرك فأمر به فربط إلى عمود من عمد المسجد فخرج عليه رسول الله فقال مالك يا ثمام هل أمكن الله منك فقال قد كان ذلك يا محمد أن تقتل تقتل ذا دم وأن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه ... فمضى رسول الله وتركه حتى إذا كان الغد مر به فقال مالك يا ثمام فقال خيرا يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وأن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه ثم انصرف عنه رسول الله
قال أبو هريرة فجعلنا المساكين نقول بيننا ما يصنع بدم ثمامة والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة
فلما كان الغد مر به رسول الله فقال مالك يا ثمام فقال خيرا يا محمد أن تقتل تقتل ذا دم وإن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه فقال رسول الله عفوت عنك يا ثمام
(1/85)
________________________________________
فخرج ثمامة حتى أتى حائطا من حيطان المدينة فاغتسل به وتطهر وطهر ثيابه ثم جاء رسول الله وهو جالس في المسجد في أصحابه فقال يا محمد والله لقد كنت وما وجه أبغض إلي من وجهك ولا دين أبغض إلي من دينك ولا بلد أبغض إلي من بلدك ثم لقد أصبحت وما وجه أحب إلي من وجهك ولا دين أحب إلي من دينك ولا بلد أحب إلي من بلدك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله يا رسول الله إني كنت خرجت معمرا وأنا على دين قومي فيسرني في عمرتي فيسره رسول الله في عمرته وعلمه فخرج معتمرا
فلما قدم مكة وسمعته قريش يتكلم بأمر محمد من الإسلام قالوا صبأ ثمامة فأغضبوه فقال إني والله ما صبوت ولكني أسلمت وصدقت محمدا وآمنت به وأيم الذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة وكانت ريف مكة ما بقيت حتى يأذن فيها محمد وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش فكتبوا إلى رسول الله يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلى حمل الطعام ففعل رسول الله
وأخبرنا أبو طاهر الفقيه قال أخبرنا أبو حامد بن بلال قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا النفيلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق قال فأخبرني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال أمر رسول الله يعني ثمامة فربط بعمود من عمد الحجرة ثلاث ليال فذكر الحديث بمعناه
وهذه الرواية توهم أن يكون صدر الحديث في رواية يونس بن بكير من قول محمد بن إسحاق عن شيوخه ورواية الليث بن سعد ومن تابعه أصح في كيفية أخذه والذي روى في حديث محمد بن إسحاق من قول أبي هريرة وغيره في إرادة فدائه يدل على شهود أبي هريرة ذلك وأبو هريرة إنما قدم على النبي وهو بخيبر فيشبه أن يكون قصة ثمامة فيما بين خيبر وفتح مكة والله أعلم
(1/86)
________________________________________
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال حدثنا أبو قتيبة سلمة بن الفضل الأدمي بمكة قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا محمد بن حميد الرازي قال حدثنا أبو ثميلة يحيى بن واصح قال حدثنا عبد المؤمن بن خالد الحنفي عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى به النبي وهو أسير خلى سبيله فأسلم فلحق بمكة يعني ثم رجع فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز فجاء أبو سفيان بن حرب إلى النبي فقال ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال بلى قال فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فأنزل الله تبارك وتعالى (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)
*** وتعدو الأيام وتجري الشهور ، والإسلام يزداد انتشارا ، وشوكة جنده تقوى وتزداد صلابة ... وياتي عام الفتح الأكبر بالعودة إلى مكة يسبقها دوي التهليل والتكبير ، والشكر لله العلي الكبير على ما أمد به من نصر مؤزر جيوش الحق والنور ...
لكن ، لا تزال على ظهر الأرض بقية من الناقمين الحاقدين تحترق أحشاؤهم غيظا، ويزج بهم إبليس اللعين في ظلمات الغي والغباء إلا من أراد الله به خيرا فأنقذه من مخاليبه وأنجاه من مكايده ... وكانت
المناورة الثانية عشرة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
حدثني بعض أهل العلم أن فضالة بن عمير بن الملوح يعني الليثي أراد قتل النبي ( وهو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال رسول الله ( : أفضالة ؟ قال: نعم.. فضالة ، يا رسول الله.... قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال : لا شيء.. كنت أذكر الله... قال فضحك النبي ( ثم قال : استغفر الله ...ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ؛ فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.. قال فضالة فرجعت الى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث اليها فقالت : هلم الى الحديث.. فقال: لا .... وانبعث فضالة يقول
(1/87)
________________________________________
قالت هلم الى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والاسلام
أو ما رأيت محمدا وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه الاظلام
**** فسبحان من عصم عبده من مكر الماكرين وأنجاه من غدر الغتدرين ... وحفظه من شر الإنس والجن حتى بلغ رسالات ربه وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ...ولن تعدم الأرض هلكى إلى يوم الدين...وذلك من دفع الناس بعضهم ببعض ... مجاهدون في سبيل الله همهم إعلاء كلمته ابتغاء ما عنده يواجهون محاربين في سبيل الطاغوت بغيتهم زرع الفساد في الأرض... وكانت
المناورة الثالثة عشرة...
- قال البيهقي أنبأ أبو عبد الله الحافظ ومحمد ابن موسى بن الفضل قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا العباس بن محمد بن بكير الحضرمي ثنا أبو ايوب بن جابر عن صدقة بن سعيد عن مصعب بن شيبة عن ابيه قال خرجت مع رسول الله ( يوم حنين والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ولكن أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا واقف معه يا رسول الله إني أرى خيلا بلقا... فقال: يا شيبة إنه لا يراها الا كافر ؛ فضرب يده في صدري ثم قال: اللهم أهد شيبة ... ثم ضربها الثانية فقال: اللهم أهد شيبة ... ثم ضربها الثالثة ثم قال: اللهم أهد شيبة... قال فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب الي منه ثم ذكر الحديث في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله ( حتى هزم الله المشركين ..
(1/88)
________________________________________
-وقال البيهقي أنبأ أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو محمد أحمد عبد الله المزني ثنا يوسف بن موسى ثنا هشام بن خالد ثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة مولى ابن عباس عن شيبة بن عثمان قال لما رأيت رسول الله (يوم حنين قد عرى ذكرت أبى وعمى وقتل على وحمزة اياهما فقلت اليوم ادرك ثأري من رسول الله (قال فذهبت لأجيئه عن يمينه فاذا بالعباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة ينكشف عنها العجاج فقلت عمه ولن يخذله قال ثم جئته عن يساره فاذا أنا بابي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقلت ابن عمه ولن يخذله قال ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف إذ رفع شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يمحشني فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى ؛ فالتفت رسول الله (وقال: يا شيب أدن مني.. اللهم اذهب عنه الشيطان... قال فرفعت اليه بصري ولهو احب الي من سمعي وبصري؛ فقال: يا شيب قاتل الكفار ...
-وقال ابن اسحاق وقال شيبة بن عثمان بن ابي طلحة اخو بني عبد الدار قلت اليوم أدرك ثأري وكان أبوه قد قتل يوم أحد اليوم أقتل محمدا قال فأدرت برسول الله ( لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك وعلمت أنه ممنوع مني ........
*** أجل ...كان رسول الله ممنوعا من كل معتد أثيم لأن الباري عز وجل خاطبه بقوله الحق وهو الحق لاإله إلا هو: ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ? (المائدة : 67 )
قال الطبري رحمه الله
(1/89)
________________________________________
القول في تأويل قوله تعالى: {يََأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }..
هذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد ( , بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصّ الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم وتبديلهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم, ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والإزراء عليهم والتقصير بهم والتهجين لهم, وما أمرهم به ونهاهم عنه, وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه في نفسه مكروه, ما قام فيهم بأمر الله, ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه, وأن لا يتقى أحدا في ذات الله, فإن الله تعالى كافيه كلّ أحد من خلقه, ودافعٌ عنه مكروه كل من يتقي مكروهه. وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم, فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قلّ ما لم يبلغ منه, فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئا.
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
* حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, في قوله تعالى ( يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ ) يعني: إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك, لم تبلغ رسالتي.
(1/90)
________________________________________
* حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ... الاَية, أخبر الله نبيه ( أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم, وأمره بالبلاغ. ذكِر لنا أن نبيّ الله ص( قيل له: لو احتجبت فقال: "واللّهِ لأُبْدِيَنّ عَقِبي للنّاسِ ما صَاحَبْتُهُمْ".
*حدثني الحارث بن محمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان الثوريّ, عن رجل, عن مجاهد, قال: لما نزلت:( بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ ) قال: "إنّما أنا وَاحِدٌ, كَيْفَ أصْنَعُ؟ تَجْتَمِعُ عليّ لناسُ" فنزلت: _ (وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ)... الاَية.
* حدثنا هناد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن ثعلبة, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, قال: لمّا نزلت:( يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ واللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ )قال رسول الله (: "لا تَحْرُسُونِي إنّ رَبيّ قَدْ عَصَمَنِي".
* حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن عُلَية, عن الجريري, عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله (كان يعتقبه ناس من أصحابه, فلما نزلت:( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ )خرج فقال: " يا أيّها النّاسُ الْحَقُوا بِمَلاحِقِكُمْ, فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النّاسِ".
*حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن عاصم بن محمد, عن محمد بن كعب القرظي, قال: كان النبيّ ( يتحارسه أصحابه, فأنزل الله:( يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رَسالَتَهُ) ... إلى آخرها.
(1/91)
________________________________________
* حدثني المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي, قال: حدثنا سعيد الجريري, عن عبد الله بن شقيق, عن عائشة, قالت: كان النبيّ ( يُحرس, حتى نزلت هذه الاَية:( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ )قالت: فأخرج النبيّ ( رأسه من القبة, فقال: "أيّها النّاسُ انْصَرِفُوا, فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي".
* حدثنا عمرو بن عبد الحميد, قال: حدثنا سفيان, عن عاصم, عن القرظي: أن رسول الله ( ما زال يحرس حتى أنزل الله: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ. )
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية, فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابيّ كان همّ بقتل رسول الله ( , فكفاه الله إياه. ذكر من قال ذلك:
* حدثني الحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي وغيره, قال: كان رسول الله ( إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة, فيقيل تحتها, فأتاه أعرابي, فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: "الله". فرعدت يد الأعرابي, وسقط السيف منه. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه, فأنزل الله: ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ.)
وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشا, فأومن من ذلك. ذكر من قال ذلك:
* حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: كان النبيّ ( يهاب قريشا, فلما نزلت: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ استلقى ثم قال: "مَنْ شاءَ فَلْيَخْذُلْنِي" مرّتين أو ثلاثا.
* حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن أبي خالد, عن عامر, عن مسروق, قال: قالت عائشة: من حدّثك أن رسول الله (كتم شيئا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: "يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ ... الاَية.
(1/92)
________________________________________
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن المغيرة, عن الشعبيّ, قال: قالت عائشة: من قال إن محمدا ( كتم فقد كذب وأعظم الفرية على الله, قال الله: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ... الاَية.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا داود بن أبي هند, عن الشعبيّ, عن مسروق, قال: قال عائشة: من زعم أن محمدا (كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية, والله يقول: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّك... الاَية.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني الليث, قال: ثني خالد, عن سعيد بن أبي هلال, عن محمد بن الحميم, عن مسروق بن الأجدع, قال: دخلت على عائشة يوما, فسمعتها تقول: لقد أعظم الفرية من قال: إن محمدا كتم شيئا من الوحي, والله يقول: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ.
ويعني بقوله: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ: يمنعك من أن ينالوك بسوء, وأصله من عصام القربة, وهو ما توكأ به من سير وخيط, ومنه قول الشاعر:
وَقُلْتُ عَلَيْكُمْ مالِكا إنّ مالِكا سيَعْصِمُكْم إنْ كانَ فِي النّاسِ عاصِمُ
يعني: يمنعكم. وأما قوله:( إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ) فإنه يعني: إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحقّ وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئته به من عند الله, ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه.
وقال ابن كثير رحمه الله
(1/93)
________________________________________
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً ( باسم الرسالة, وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به, وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك, وقام به أتم القيام, قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا سفيان عن إسماعيل, عن الشعبي عن مسروق, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب, الله يقول {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} الاَية, هكذا رواه هاهنا مختصراً وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً, وكذا رواه مسلم في كتابي الإيمان, والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننهما من طرق عن عامر الشعبي, عن مسروق بن الأجدع, عنها رضي الله عنها, وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو كان محمداً ( كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الاَية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي: حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا عباد عن هارون بن عنترة, عن أبيه قال: كنا عند ابن عباس, فجاء رجل فقال له: إن ناساً يأتونا فيخبروننا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله ( للناس فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله تعالى قال: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك} والله ما ورثنا رسول الله ( سوداء في بيضاء, وهذا إسناد جيد, وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة, إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة, قلت: وما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل, وفكاك الأسير, وأن لا يقتل مسلم بكافر.
(1/94)
________________________________________
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم, وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة, واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع, وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً, كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ( قال في خطبته يومئذ "أيها الناس إنكم مسؤولون عني, فما أنتم قائلون ؟" قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت, فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول "اللهم هل بلغت" ؟. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, حدثنا فضيل يعني ابن غزوان, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله ( في حجة الوداع. "يا أيها الناس، أي يوم هذا ؟ "قالوا: يوم حرام, قال: أي بلد هذا ؟ قالوا: بلد حرام, قال: أي شهر هذا ؟ قالوا: شهر حرام, قال: "فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا, في بلدكم هذا, في شهركم هذا" ثم أعادها مراراً, ثم رفع أصبعه إلى السماء فقال "اللهم هل بلغت ؟" مراراً. قال: يقول ابن عباس: والله لوصية إلى ربه عز وجل, ثم قال "ألا فليبلغ الشاهد الغائب: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وقد روى البخاري عن علي بن المديني, عن يحيى بن سعيد, عن فضيل بن غزوان به نحوه.
وقوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به, فما بلغت رسالته, أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان عن رجل, عن مجاهد قال: لما نزلت {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} قال: يا رب, كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون عليّ ؟ فنزلت {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} ورواه ابن جرير من طريق سفيان وهو الثوري به.


(1/95)
________________________________________
وقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم, فلا تخف ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك, وقد كان النبي ( قبل نزول هذه الاَية يحرس, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا يحيى قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث أن عائشة رضي الله عنها كانت تحدث أن رسول الله ( سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت: فقلت ما شأنك يا رسول الله ؟ قال "ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا أنا على ذلك, إذ سمعت صوت السلاح, فقال "من هذا ؟" فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: "ما جاء بك ؟" قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت:فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه, أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به, وفي لفظ: سهر رسول الله ( ذات ليلة مقدمه المدينة يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها, وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
(1/96)
________________________________________
- وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري, نزيل مصر, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا الحارث بن عبيد يعني أبا قدامة عن الجريري, عن عبد الله بن شقيق, عن عائشة قالت: كان النبي ( يحرس حتى نزلت هذه الاَية {والله يعصمك من الناس} قالت: فأخرج النبي ( رأسه من القبة وقال "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل" وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد, وعن نصر بن علي الجهضمي, كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به, ثم قال: وهذا حديث غريب, وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق مسلم بن إبراهيم به, قال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وكذا رواه سعيد بن منصور عن الحارث بن عبيد أبي قدامة عن الجريري, عن عبد الله بن شقيق, عن عائشة به, ثم قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا عن الجريري عن ابن شقيق, قال: كان النبي ( يحرس حتى نزلت هذه الاَية, ولم يذكر عائشة. قلت: هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية, وابن مردويه من طريق وهيب, كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلاً, وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي, رواهما ابن جرير, والربيع بن أنس, رواه ابن مردويه, ثم قال: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا أحمد بن رشدين المصري, حدثنا خالد بن عبد السلام الصدفي, حدثنا الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب, عن عصمة بن مالك الخظمي قال: كنا نحرس رسول الله ( بالليل. حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} فترك الحرس, حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي, حدثنا كردوس بن محمد الواسطي,
-حدثنا يعلى بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق عن عطية, عن أبي سعيد الخدري, قال: كان العباس عم رسول الله ( فيمن يحرسه, فلما نزلت هذه الاَية {والله يعصمك من الناس} ترك رسول الله ( الحرس.
(1/97)
________________________________________
-حدثنا علي بن أبي حامد المديني, حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد, حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري, حدثنا أبي, حدثنا محمد بن معاوية بن عمار, حدثنا أبي قال: سمعت أبا الزبير المكي يحدث عن جابر بن عبد الله, قال: كان رسول الله ( إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} فذهب ليبعث معه, فقال "يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث" وهذا حديث غريب وفيه نكارة, فإن هذه الاَية مدنية, وهذا الحديث يقتضي أنها مكية, ثم قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا أبو كريب, حدثنا عبد الحميد الحماني عن النضر, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: كان رسول الله ( يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الاَية {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه, فقال: "إن الله قد عصمني من الجن والإنس", ورواه الطبراني عن يعقوب بن غيلان العماني, عن أبي كريب به,
وهذا أيضاً حديث غريب, والصحيح أن هذه الاَية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها, والله أعلم,
(1/98)
________________________________________
ومن عصمة الله لرسوله, حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها, مع شدة العداوة والبغضة, ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً, بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة, فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش, وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله ( لا شرعية, ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها, ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه, فلما مات عمه أبو طالب, نال منه المشركون أذي يسيراً, ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة, فلما صار إليها, منعوه من الأحمر والأسود, وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله, ورد كيده عليه, كما كاده اليهود بالسحر فحماه الله منهم, وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء, ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر, أعلمه الله به وحماه منه, ولهذا أشباه كثيرة جداً يطول ذكرها, فمن ذلك ماذكره المفسرون عند هذه الاَية الكريمة:
(1/99)
________________________________________
فقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي, وغيره, قالوا: كان رسول الله ( إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها, فأتاه أعرابي فاخترط سيفه, ثم قال: من يمنعك مني ؟ فقال " الله عز وجل" فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه, وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه, فأنزل الله عز وجل: {والله يعصمك من الناس}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا موسى بن عبيدة, حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري, قال: لما غزا رسول الله ( بني أنمار, نزل ذات الرقاع بأعلى نخل, فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه, فقال غورث بن الحارث من بني النجار: لأقتلن محمداً, فقال له أصحابه: كيف تقتله ؟ قال: أقول له: أعطني سيفك, فإذا أعطانيه, قتلته به, قال: فأتاه. فقال: يا محمد, أعطني سيفك أشيمه, فأعطاه إياه, فرعدت يده حتى سقط السيف من يده, فقال رسول الله ("حال الله بينك وبين ما تريد", فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} وهذا حديث غريب من هذا الوجه, وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح.
(1/100)
________________________________________
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أبو عمرو بن أحمد بن محمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن عبد الوهاب, حدثنا آدم, حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: كنا إذا صحبنا رسول الله ( في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها, فينزل تحتها, فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها, فجاء رجل فأخذه, فقال: يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله ( " الله يمنعني منك ضع السيف" فوضعه, فأنزل الله عز وجل: {والله يعصمك من الناس} وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد, عن إسحاق بن إبراهيم, عن المؤمل بن إسماعيل, عن حماد بن سلمة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت أبا إسرائيل, يعني الجشمي, سمعت جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي رضي الله عنه, قال: سمعت النبي ( ورأى رجلاً سميناً, فجعل النبي ( يومىء إلى بطنه بيده ويقول "لو كان هذا في غير هذا, لكان خيراً لك" قال: وأتي النبي ( برجل, فقيل: هذا أراد أن يقتلك, فقال له النبي ( : "لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي". وقوله {إن الله لا يهدي القوم الكافرين} أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء, كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
وقال القرطبي رحمه الله
قوله تعالى : {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}
(1/101)
________________________________________
قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". قيل: معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله سرا؛ وفي ذلك نزلت: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" [الأنفال: 64] فدلت الآية على رد قول من قال: إن النبي ( كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه ( لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين؛ لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل: "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها. وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم؛ قال ابن عباس: المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته؛ وهذا تأديب للنبي ( ، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه؛ وفي صحيح مسلم من مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدا ( كتم شيئا من الوحي فقد كذب؛ والله تعالى يقول: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه ( كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه.
(1/102)
________________________________________
قوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" فيه دليل على نبوته؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمِن اللهُ سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن النبي ( كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي ( : من يمنعك مني؟ فقال: الله ؛ فذعرت يد الأعرابي وسقط السيف من يده؛ وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه؛ ذكره المهدوي. وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال: وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث بن الحارث صاحب القصة، وأن النبي ( عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله: "إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" [المائدة: 11] مستوفى، .... وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: غزونا مع وسول الله ( غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله ( في واد كثير العضاه فنزل رسول الله ( تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله ( : (إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف مصلتا في يده فقال لي: من يمنعك مني ؟ - قال - قلت الله... ثم قال في الثانية: من يمنعك مني ؟- قال - قلت الله... قال فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله ( ... وقال ابن عباس قال النبي ( : (لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية) وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله ( رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: "والله يعصمك من الناس" فقال النبي ( : [يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس فلا احتاج إلى من يحرسني].
(1/103)
________________________________________
قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: سهر رسول الله ( مقدمة المدينة ليلة فقال: [ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة] قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح؛ فقال: [من هذا] ؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله ( : [ما جاء بك] ؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله ( فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله ( ثم نام. وفي غير الصحيح قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال: [من هذا] ؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك؛ فنام (حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله ( رأسه من قبة آدم وقال: [انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله].
وقرأ أهل المدينة: "رسالته" على الجميع. وأبو عمرو وأهل الكوفة: "رسالته" على التوحيد؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين؛ لأن رسول الله (كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" [إبراهيم: 34]. "إن الله لا يهدي القوم الكافرين" أي لا يرشدهم وقد تقدم. وقيل: أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره "ما على الرسول إلا البلاغ" [المائدة:99] والله أعلم.
وقال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} ( المائدة 11)
(1/104)
________________________________________
قال جماعة: نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي ( وقال: من يعصمك مني يا محمد؟ كما تقدم في "النساء". وفي البخاري: أن النبي ( دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي ( ولم يعاقبه. وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم. وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات. وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث (بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة) وقد ضم بعضهم الغين، والأول أصح. وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث، وذكر أنه أسلم كما تقدم. وذكر محمد بن إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير. وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة. والله أعلم. وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي ( يستعينهم في دية فهموا بقتله ( الله منهم. قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق. "أن يبسطوا إليكم أيديهم" أي بالسوء. "فكف أيديهم عنكم" أي منعهم.
وقال السعدي رحمه الله
قوله تعالى :( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين )
(1/105)
________________________________________
هذا أمر من الله لرسوله محمد ( ، بأعظم الأوامر وأجلها ، وهو : التبليغ لما أنزل الله إليه . ويدخل في هذا ، كل أمر تلقته الأمة عنه (، من العقائد ، والأعمال ، والأقوال ، والأحكام الشرعية ، والمطالب الإلهية . فبلغ ( أكمل تبليغ ، ودعا ، وأنذر ، وبشر ، ويسر ، وعلم الجهال الأميين ، حتى صاروا من العلماء الربانيين . وبلغ ، بقوله ، وفعله ، وكتبه ، ورسله . فلم يبق خير إلا دل أمته عليه ، ولا شر إلا حذرها عنه ، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة ، من الصحابة ، فمن بعدهم من أئمة الدين ، ورجال المسلمين . " وإن لم تفعل " أي : لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك " فما بلغت رسالته " أي : فما امتثلت أمره . " والله يعصمك من الناس " هذه حماية وعصمة من الله ، لرسوله من الناس ، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ ، ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله ، وقد تكفل بعصمتك ، فأنت إنما عليك البلاغ المبين ، فمن اهتدى ، فلنفسه . وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم ، ولا يوفقهم للخير ، بسبب كفرهم .
وقال ابن عطية رحمه الله
(1/106)
________________________________________
وقال عبد الله بن شقيق كان رسول الله ( يتعقبه أصحابه يحرسونه فلما نزلت ( والله يعصمك من الناس ) خرج فقال: يا أيها الناس الحقوا بملاحقكم فإن الله قد عصمني... وقال محمد بن كعب القرظي نزلت ( والله يعصمك من الناس ) بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي ( ليقتله به ... قال القاضي أبو محمد: هو غورث بن الحارث والقصة في غزوة ذات الرقاع... وقال ابن جريج كان رسول الله ( يهاب قريشا فلما نزلت هذه الآية إلى قوله : (والله يعصمك من الناس) استلقى وقال : من شاء فليخذلني... مرتين أو ثلاثا و ( يعصمك ) معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية.. ومنه قوله تعالى ( يعصمني من الماء ).. ومنه قول الشاعر ( فقلت عليكم مالكا إن مالكا سيعصمكم إن كان في الناس عاصم ) ...وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية... وقوله تعالى _(لا يهدي القوم الكافرين ) إما على الخصوص فيمن سبق في علم أنه لا يؤمن وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره ...
? رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ?
كان الفراغ من جمعه وتأليفه
يوم 11 صفر الخير 1427
أبو يوسف محمد زايد
(1/107)
________________________________________
























( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )




موقف ابن سينا من النبوة والأنبياء
موقف الفيلسوف ابن سينا من النبوة والأنبياء
عرض ونقض
الدكتور: صالح حسين الرقب
أستاذ مشارك- قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
كلية أصول الدين- الجامعة الإسلامية
غزة- فلسطين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أنّ لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله. وبعد...
فيعدّ الفيلسوف الشيخ الرئيس الحسين بن عبد الله بن سينا أحد كبار الفلاسفة الإسلاميين الذين درسوا الفلسفة اليونانية وتأثروا بها إلى حدّ كبير، بل واعتمدوها موضوعاً ومنهجاً، وتعصّبوا لكبار الفلاسفة اليونان أمثال أرسطو، وأفلاطون، وأفلوطين، واستبدل هؤلاء الفلاسفة الوحي بالعقل المجرد، وزعموا أنّ العقل وحده يعطي حقائق الأشياء، أمّا الوحي فيعطي عنها تخيلاً وتمثيلاً. ولقد حاول ابن سينا التوفيق بين الفلسفة والدين في المسائل الاعتقادية، ولكنه لم يستطع، لأنّه يستحيل التوفيق بين العقيدة الربانية الثابتة بالوحي، والفلسفة الوثنية التي تعتمد على التأمل العقلي المجرد والرأي والهوى والخيال، وهي من نتاج الفكر البشري المحدود. ومن هنا وقع ابن سينا في مجموع من المتناقضات والأغاليط، لقد أوقعته فلسفته في الخروج الصريح عن الدين الإسلامي، ممّا جعل جمع من أهل العلم يذهبون إلى تكفيره، والحكم عليه بالزندقة والإلحاد.
وفي اعتقادي أنّ المسلم اليوم بحاجة ماسّة إلى تقويم منهج هؤلاء الفلاسفة - ومنهم ابن سينا- وتمحيص أفكارهم، وكشف باطلها وآثارها السلبية.خاصة إذا علمنا أنّ لهؤلاء مكانة في كثير من الجامعات والمعاهد العلمية في بعض دول العالم الإسلامي.وأنّ نتاجهم العلمي ما زال مكان الصدارة في تلك الجامعات والمعاهد.
(1/1)
________________________________________
إنّ عقيدة النبوة من القضايا الاعتقادية التي حاول ابن سينا أن يوفق فيها بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي. فأحببت أن اكتب فيها بحثاً، أقف من خلاله على جهده في ذلك، ومن ثمّ نقده في ضوء مذهب أهل السنة والجماعة.
منهج البحث:-
اعتمد الباحث المنهج الوصفي والتحليلي، ثم النقدي، وذلك بجمع أقوال ابن سينا وآرائه في القضية موضع البحث، ثمّ محاولة تحليلها، ومناقشتها ونقدها، ومن ثمّ الوصول إلى النتائج المرجوة، ولقد تناولت في هذا البحث معظم مباحث النبوة، بيّنت فيها أقوال ابن سينا وآراءه، ثمّ ناقشته في ذلك، كاشفاً عمّا فيها من الفساد، ومبيناً الاعتقاد الحق المستفاد من الكتاب والسنة، معتمداً على الأدلة الشرعية الصحيحة، وعلى أقوال علماء أهل السنة والجماعة.
وقد قسّمت البحث إلى مقدمة وتمهيد، وتسعة مطالب، وخاتمة ذكرت فيها أهم النتائج التي استخلصتها من هذا البحث.
مصادر البحث:- اعتمد الباحث على مؤلفات ابن سينا، ومؤلفات علماء السلف، وغيرها من المصادر المتوفرة بين يديه.
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا الجهد المتواضع خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به إخواننا المسلمين…وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.....والله نسأل السداد والتوفيق.
تمهيد: التعريف بالفيلسوف ابن سينا:
هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا،ينتمي إلى الطائفة الإسماعيلية ذكر يحي بن أحمد الكاشي قول ابن سينا عن نفسه فقال :" وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانوا ربّما تذاكروا ذلك وأنا أسمع وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي وابتدءوا يدعونني إليه".(1)
__________
(1) في رسالته: نكت في أحوال الشيخ الرئيس ابن سينا، تحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، منشورات المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة 1952م ص10.
(1/2)
________________________________________
كان ابن سينا عالماً وفيلسوفاً وطبيباً وشاعراً ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام،ولد ابن سينا في قرية (أفشنة) الفارسية في صفر من سنة 370 هـ. ثم انتقل به أهله إلى بخارى، وفيها تعمّق في العلوم المتنوعة من فقه وفلسفة وطب، وبقي في تلك المدينة حتى بلوغه العشرين. ثم انتقل إلى خوارزم، حيث مكث نحواً من عشر سنوات( 392-402 هـ)، ومنها إلى جرجان، فإلى الرّي. وبعد ذلك رحل إلى همذان وبقي فيها تسع سنوات، ومن ثم دخل في خدمة علاء الدولة بأصفهان. وهكذا أمضى حياته متنقلاً حتى وفاته في همذان، في شهر شعبان سنة 428هـ.
ومن أساتذته: أبو بكر أحمد بن محمد البرقي الخوارزمي، وقد تلقى على يديه علوم اللغة، ودرس الفقه على يد أستاذه إسماعيل الزاهد، وعلوم الفلسفة والمنطق على أبي عبد الله الناتلي، وتتلمذ ابن سينا على كتب الفيلسوف أبي نصر الفارابي،وكتب الفيلسوف اليوناني أرسطو.
أمّا مؤلفاته فكثيرة، ومنها: 1- الشفاء في أربعة أقسام هي: المنطق، الرياضيات، الطبيعيات، الإلهيات 2- النجاة 3- الإشارات و التنبيهات 4- القانون في الطب4-منطق المشرفين 5- رسالة في ماهية العشق6- أسباب حدوث الحروف7- مجموعة من الرسائل منها: رسالة في الحدود، رسالة في أقسام العلوم العقلية، رسالة في إثبات النبوات8- رسالة حي بن يقظان 9-رسالة أضحوية في أمر المعاد.
(1/3)
________________________________________
وقد كفّر جمع من أهل العلم ابن سينا،بل حكم عليه بعضهم بالزندقة والإلحاد، ومن هؤلاء: أبو حامد الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، لقوله بعدة عقائد فاسدة منها: قدم العالم، وعدم علم الله تعالى بالجزئيات، وإنكاره البعث الجسماني.(1)
__________
(1) انظر ترجمته: عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ابن أبي أصيبعة، مكتبة الحياة- بيروت- 1965م ص437-459، تاريخ الحكماء: ابن القفطي، طبعة ليبزج، ألمانيا 1903م ص وما بعدها 413، ظهير الدين البيهقي:تاريخ حكماء الإسلام، تحقيق محمد كرد علي، المجمع العلمي العربي- دمشق- مطبعة الترقي 1946م ص52-72.
(1/4)
________________________________________
وأمّا أصل فلسفته: فيقول ابن تيمية: "وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنّه استفادها من المسلمين، وإن كان إنّما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي، الذي كان هو أهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد، أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطون الكفر المحض".)(1)( ويقول: "وابن سينا لمّا عرف شيئاً من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقّاه عن الملاحدة، وعمّن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء، وبين ما أخذه من سلفه، فتكلم في الفلسفة بكلام مركّب من كلام سلفه ومما أحدثه، مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات والمنطقيات... فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح،حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض".(2)
ويقول عبد الرحمن بن خلدون:" ثمّ كان بعده- أرسطو- في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين.. تصفّحها كثير من أهل الملة( الإسلام) وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم:أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا".(3)
المطلب الأول: تعريف الرسول والرسالة :
__________
(1) الرد على المنطقيين: أحمد ابن تيمية،إدارة ترجمان السنة-لاهور، باكستان- 1396ه-1976م، ص141-142 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن محمد بن قاسم، مكتبة النهضة الحديثة- مكة 9/133.
(2) الردّ على المنطقيين ص144-145.
(3) مقدمة ابن خلدون، دار إحياء التراث العربي_ بيروت- ص515.
(1/5)
________________________________________
الرسالة: يعرِّف ابن سينا الرسالة بقوله: "هي ما قُبل من الإفاضة المسماة وحياً على أي عبارة استصوبت لصلاح عالمي البقاء والفساد علماً وسياسة ".
الرسول: ويعرِّف الرسول بقوله:هو"المبلغ ما استفاد من الإفاضة المسماة وحياً على عبارة استصوبت ليحصل بآرائه صلاح العالم الحي بالسياسة، والعالم العقلي بالعلم".(1) والمراد بالإفاضة في قول ابن سينا:ما فاض على نفس النّبي من المعاني من العقل الفعّال،(2)-وهو الملك جبريل- ثمّ فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لذلك.
المناقشة:
__________
(1) رسالة في إثبات النبوات وتأويل رموزهم – ضمن مجموعة تسع رسائل في الحكمة – لابن سينا – مطبعة هندية- مصر- 1326ه- 1908م، ص124.
(2) العقل الفعّال عند الفلاسفة: هو جوهر بسيط مجرد من المادة وعلائقها،المخرج لنفوس الآدميين في العلوم من القوة إلى الفعل،ونسبته إلى المعقولات والقوة العاقلة، نسبة الشمس إلى المبصرات والقوة الباصرة، إذ بها يخرج الإبصار من القوة إلى الفعل. انظر معيار العلم : أبو حامد الغزالي: تحقيق د. سليمان دنيا، دار المعارف بالقاهرة ص289، المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني – بيروت- الطبعة الأولى 1973م 2/84-85.
(1/6)
________________________________________
إنّ الفرق المشهور-عند العلماء- بين النّبي والرسول، أنّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنّبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه(1)، ولكن هذا الفرق لا يسلم من إشكال، لأنّ النّبي مرسل ومأمور بالدعوة والتبليغ، قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة الحج:52، لذا ذهب بعض العلماء إلى أن الرسول: من أوحى إليه بشرع جديد، والنّبي: هو المبعوث لتقرير شرع من قبله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أنّ الرسول هو من أرسل إلى قوم كفار مكذبين، والنّبي من أرسل إلى قوم مؤمنين بشريعة رسول قبله يعلمهم ويحكم بينهم، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) سورة المائدة:44، فأنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة التي أنزل الله على موسى عليه السلام.(2) وما ذكره ابن سينا مبني على أصوله الفلسفية، التي لا يسلم
__________
(1) انظر شرح العقيدة الطحاوية على بن علي بن أبي العز الدمشقي الحنفي، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه الدكتور عبد الله التركي وشعيب الأرناؤط، مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة الأولى1408 ه-1988م 2 /411-412، لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية: محمد بن أحمد السفاريني، المكتب الإسلامي،بيروت، مكتبة أسامة، الرياض، الطبعة الثانية 1405ه-1985م 1/49
(2) انظر النبوات: ابن تيمية،تحقيق محمد عبد الرحمن عوض، الطبعة الأولى 1405ه- 1985م، دار الكتاب العربي- بيروت- ص 181-182.
(1/7)
________________________________________
بها علماء الإسلام.وهناك مناقشة لابن سينا في معنى الوحي، فيما يأتي من البحث.
وأمّا زعمه أن ذلك فيض فاض من العقل على نفس النّبي، فيردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: إنّ هذا ليس من مقالات أهل الملل لا سنيهم ولا بدعيهم، لكن من مقالات الصابئة المتفلسفة الذين ليس عندهم في الحقيقة لله كلام، ولا ملائكة تنزل بكلامه، ولا عندهم تمييز بين موسى وهارون- عليهما السلام- ولا بينهما وبين عدو الله فرعون.(1) وقد بناه ابن سينا على أصله الفاسد إذ كان لا يرى أنّ الله يسمع كلام عباده، ولا يعلم ما في نفوسهم، ولا يقدر أن يغيّر شيئا من العالم، ولا له مشيئة يفعل بها من يشاء.(2) ومن قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنّه يكذب على القرآن الكريم الذي أخبر بأنّ موسى عليه السلام سمع نداء الله تعالى له، وأنّه كلّمه دون واسطة في جبل طور سيناء، (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) مريم:52، (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) النساء:16، وإخبار الرسول عن أمور الغيب يدلّ على نبوته،وهو يدلّ على أنّ النّبوة إنباء من الله عز وجل،وليس ذلك مما يقوله ابن سينا من أنّه فيض فاض عليه من العقل الفعّال. وهو لازم لقول من جعل كلام الله معنى مجرداً، وإذا كان اللزوم معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام علم فساد اللازم الذي زعمه.(3)
__________
(1) انظر بغية المرتاد 1/384.
(2) الصفدية2/288.
(3) انظر مجموع الفتاوى6/540.
(1/8)
________________________________________
إنّ قوله تعالى:( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة:97، وقوله (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ)الأنعام:من الآية114، يفيد أنّ التنزيل من الله تعالى، وهو يدلّ على بطلان قول ابن سينا الذي يجعل الرسالة فيض فاض على نفس النّبي من العقل الفعّال، وهذا القول من أعظم الكفر والضلال،(1) وقوله بالفيض يعني عدم إثبات حقيقة الرسالة،والنبوة عنده فيض من جنس المنامات، وهذا الجنس موجود لعموم الناس،ويشترك فيه المسلمون والكفار من المشركين وأهل الكتاب فأي ميزة أو فضل للأنبياء؟؟
المطلب الثاني :معنى الوحي عنده:
والوحي عند ابن سينا مرتبط بمعنى الرسول والنّبي، ويفسِّره بأنّه:" إفاضة العقل الكلي على نفس النّبي الذي ينتهي إليه التفاضل في الصور المادية، وفيضان العلوم منه على لوح قلب النّبي بواسطة العقل الفعّال".(2)
__________
(1) انظر المصدر السباق 12/120، 15/222.
(2) المصدر السابق ص123-124.
(1/9)
________________________________________
ويعرِِف ابن سينا الوحي- في رسالة له بعنوان( الفعل والانفعال)،(1) بقوله:" إلقاء الخفي من الأمر العقلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول هذا الإلقاء. إمّا في حالة اليقظة ويسمى الوحي، وإمّا في حالة النوم ويسمى النفث في الروع ". ولإيضاح كيفية الوحي يقول ابن سينا : إنّ النّبي بما له من قوة قدسية يستطيع أن يتصل بالملك، ولأنّ الملك عقل مجرد، والعقل لا يستطيع أن يدرك الأشياء إلاّ مجردة عن الزمان، فإنّ الوحي في هذه الحالة يكون عبارة عن إلقاء الشيء إلى النّبي بلا زمان، وذلك بواسطة الملك، فتأتي قوة المخيلة في النّبي فتتلقى هذا الغيب عن العقل الفعّال، وتتصوره بصورة الحروف والأشكال المختلفة. كما تتصور الملك بصورة بشرية. والنّبي لا يصل إلى هذه الحالة إلا بعد استعداده وصفاء نفسه إلى درجة تجعلها أهلاً لذلك. ولتمييز كون الوحي قرآناً أو سنةً، لابد من التفريق بين العبارة المقارنة لتصور قوة المخيلة- في النّبي- في العلم بصورة الحروف والأشكال، وبين العبارة النقشية التي يصوغها النّبي بعد ذلك يقول ابن سينا في ذلك:" وكلما عبر-أي النّبي- بعبارة قد اقترنت بنفس التصور فذالك هو آيات الكتاب، وكلما عبر عنه بعبارة نقشية فذلك هو إخبار النبوة ".(2)
__________
(1) نقل اًعن ابن سينا بين الفلسفة والدين: الدكتور حمودة غرابه، مجمع البحوث الإسلامية-القاهرة-1392ه-1972م هامش ص133.
(2) الرسالة العرشية: ابن سينا ص12.
(1/10)
________________________________________
إنّ ابن سينا يصرّح هنا بأنّ عبارات الوحي ما هي إلا ألفاظ استصوبها الرسول للتعبير بها عمّا أوحي إليه ، أي أنّ الرسول قد تلقى بالفيض عن العقل الفعّال معان عبّر عنها بألفاظ من عنده، وهذا الكلام مناقض للنصوص القرآنية، قال الله تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى( سورة النجم 3-4.(1)
... وإذا كان النّبي يرى الملائكة ويسمع كلام الله بواسطتهم، فإنّ ابن سينا يزعم:أنّ الملائكة هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية، وكلام الله هو ما يسمعه في نفسه من الأصوات، وهو بمنزلة ما يراه النائم في منامه.(2) وسيأتي مزيد إيضاح لأقوال ابن سينا في مسألة كلام الله تعالى والملائكة في بقية هذا البحث.
__________
(1) بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد لابن تيمية – مكتبة العلوم والحكم – الرياض – ط3 ، 1415هـ – 1995م – مقدمة المحقق د. موسى الدويش ص 72 .
(2) الرد على المنطقيين ص 277.
(1/11)
________________________________________
... ويلاحظ في أقوال ابن سينا السابقة مدى تأثره بنظرية الفيض الأفلاطونية،(1)ومدى محاولته التوفيق بينها وبين الدين، وهي محاولة لم يكتب لها النجاح كما هو واضح.ونذكر هنا أنّ نظرية الفيض عند ابن سينا تقول بوجود عشرة عقول، آخرها العقل الفعّال(2): وهو يلزم عن العقل التاسع ووجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته
__________
(1) وملخص هذه النظرية: أنّ الموجودات صدرت عن الأول على هيئة فيض، بتوسط العقل الأول الصادر عنه مع بقية العقول التي صدرت بعضها عن بعض، وأن الأول –الذي هو الواحد الحق- يفع بعض أفعاله بذاته، وبعضها بتوسط أشياء، وأنّ هناك خمس مراتب للموجودات، وهي: 1- الأول الواحد من كل جهة، وقد واحد محض بسيط لا كثرة فيه، وهو فوق التمام والكمال. 2- العقل: وهو من إبداع الأول، وقد صدر عنه من غير واسطة،وبعد أن أبدع الأول العقل التفت هذا العقل إلى الأول مبدعه، فوقع بصره عليه فامتلأ منه نوراً وبهاءً، فأفاض الأول عليه قوى كثيرة، ثم صدرت عن الأول جميع الأشياء التي في العالم العلوي والسفلي، ولكن بتوسط العقل- الصادر عنه من غير توسط- والعالم العقلي. 3- النفس الكلية: وقد صدرت عن العقل الأول لما صار قوة عظيمة. وهي أقل مرتبة من العقل، لأنها مبدعة عنه، وفي الإبداع نقصان. 4- الطبيعة: وقد صدرت عن النفس الكلية لما تحركت علواً نحو علتها فامتلأت نوراً وقوة، وتحركت سفلاً، فكان صدور الطبيعة عنها. 5- الأشياء الواقعة تحت الكون والفساد: وهي العالم السفلي بما فيه من النبات والحيوان والجماد. وهي آخر الأشياء صدوراً وأدناها مرتبة، وقد صدرت بتوسط الطبيعة. انظر:عبد الحمن بدوي: أفلوطين عند العرب، مكتبة النهضة، الطبعة الثانية 1966م، الميمرالأول ص6، الميمرالعاشر ص134 وما بعدها،عبد الفتاح أحمد فؤاد: ابن تيمية وموقفه من الفكر السلفي،دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع- الإسكندرية- الطبعة الثانية 1987م ص 187-188.
(2) سبق التعريف به ص 4.
(1/12)
________________________________________
ويعقل الأول - الذي هو الواحد الحق- لكن تنتهي عنده العقول والمعقولات،أي ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلاً، وعن هذا العقل تصدر مادة الأشياء الأرضية، والصور الجنسية،والنفوس الإنسانية، ويصل العالم العلوي بالعالم السفلي، وهو المسمى بالروح القدس أو بالروح الأمين، ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء.(1) وسنتعرض لمناقشة ابن سينا في معنى الوحي الذي ذهب إليه أثناء مناقشتنا لصفة الكلام، وذلك في المطلب السادس.
المطلب الثالث :النبوة ضرورية واو\جبة عند ابن سينا :
يذهب ابن سينا إلى ضرورة وجود النّبي، وأنّ بعثة النّبي واجبة عقلاً،يقول في ذلك: " فواجب إذاً أن يكون نبي،وواجب أن يكون إنساناً، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم، فيتميز به عنهم، فتكون له المعجزات التي أخبر به".(2) ويقول أيضاً:" إنّ النّبي من عند الله، وبإرسال الله، وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه فإنّما هو ما وجب من عند الله أن يسنّه، وإنّما يسنّه من عند الله ...".(3)
... ويعدّ الفارابي أول الفلاسفة الإسلاميين القائلين بنظرية النّبوة وضرورة النّبي، وهو يعدّ النّبوة وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، وأنّ النّبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحيتين السياسية والأخلاقية .
__________
(1) انظر نظرية الفيض التي قال بها ابن سينا في كتبه: النجاة ص 274-278،الهداية ص 274-278، للرسالة النيروزية ص 93-94. أبو البركات البغدادي: المعتبر في الحكمة الإلهية 2/148-151، أبو حامد الغزالي: تهافت الفلاسفة 143-146. عبد الفتاح أحمد فؤاد: ابن تيمية وموقفه من الفكر السلفي187- 190.
(2) النجاة لابن سينا، دار الآفاق الجديدة – بيروت- الطبعة الأولى:1405ه- 1985م– تحقيق د. ماجد فخري ص339
(3) المصدر السابق ص343.
(1/13)
________________________________________
... والشروط التي يجب توافرها في النّبي هي نفس الشروط اللازمة لرئيس المدينة الفاضلة، وهي: أن يكون سليم البنية، قوي الأعضاء تامّها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة،وسريع البديهة، حسن العبارة، محباً للعلم وللاستفادة، وأن يكون صادقاً أميناً، ناصراً للعدالة، مجتنباً للملذات الحسية،غير شَرِه على المأكول والمشروب والمنكوح، مبتعداً عن اللهو واللعب،وأن تكون أعراض الدنيا هينة عنده. وأن يسمو إلى درجة العقل الفعّال الذي يستمد منه الوحي والإلهام.(1)
... وأمّا ابن سينا فيربط بين العناية الإلهية والنبوة، فيقول: " فلا بدّ في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد في المعاملة من سنة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سانّ ومعدِّل،ولا بد أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولا بد من أن يكون هذا إنساناً ".(2)
ووجود النّبي – في نظر ابن سينا– أكثر حاجةً وأشدّ من وجود كثير من المنافع الدنيوية فوجوده أشدّ حاجةً من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار، وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وغيرها من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء الإنساني، ووجود النّبي تقتضيها العناية الإلهية، وليس من المعقول أن تقتضي العناية وجود تلك المنافع وأمثالها التي لا ضرورة لها في البقاء، ولا تقتضي النّبوة التي هي أسُّها، إذ لولا النّبوة لما كان هناك بقاء للنوع الإنساني.(3)
__________
(1) آراء أهل المدينة الفاضلة: أبو نصر الفارابي،تصحيح عبد الوصيف محمد الكردي، مكتبة الحسين التجارية بمصر، مطبعة حجازي بالقاهرة ص 87 ، 88.
(2) النجاة: ابن سينا – دار الآفاق الجديدة – بيروت – ط1 ، 1405هـ – 1985م ص339.
(3) انظر المصدر السابق ص 339.
(1/14)
________________________________________
... فوجود النبوة واجب، وواجب أن يكون إنساناً، وله من الخصائص ما لغيره من الناس حتّى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم ، ويجب أن تكون له المعجزات التي أخبرنا بها.(1)
المناقشة:-
إنّ من الحق الذي ذهب إليه ابن سينا: أنّ وجود النّبي أكثر حاجةً وأشدّ من وجود كثير من المنافع الدنيوية، وأشدّ حاجةً من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار،وعلى الحاجبين،وتقعير الأخمص من القدمين، وغيرها من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء الإنساني، وهذا موافق لما ذكره أئمة أهل السنة في هذا الموضوع، ومن ذلك ما قاله ابن تيمية، قال: فإنّ الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه.."، ثم ذكر ثلاثة أصول وهي:1-إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهى القصص التي قصّها على عباده،والأمثال التي ضربها لهم، 2-وتفصيل الشرائع، والأمر والنهى والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه، 3- الأيمان باليوم الآخر والجنة والنار والثواب والعقاب. ثمّ قال:"وعلى هذه الأصول الثلاثة، مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل،فإنّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه، وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب، فإنّ آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأمّا إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي".(2) ويبيّن ابن قيم الجوزية أنّ الحاجة إلى
__________
(1) انظر المصدر السابق ص 339 .
(2) مجموع الفتاوي 19/93-96.
(1/15)
________________________________________
علوم الرسل أعظم من الحاجة إلى الطب، فيقول: "حاجة النّاس إلى الشريعة ضرورية، فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أنّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأمّا أهل البدو كلّهم وأهل الكفور كلّهم وعامة بني آدم فلا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحّ أبداناً وأقوى طبيعةً ممّن هو متقيد بالطبيب، ولعلّ أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، وجعل لكل قوم عادةً وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى أنّ كثيراً من أصول الطب إنّما أخذت عن عوائد الناس وعرفهم وتجاربهم، وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضى الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس فضلا عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن وتعطل الروح عنه، وأمّا ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبدان، وشتان بين هذا، وهلاك البدن بالموت، فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه وجهاد من خرج عنه، حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسم".(1)
__________
(1) مفتاح دار السعادة، مطبعة صبيح، القاهرة 2/2.
(1/16)
________________________________________
ويقال لابن سينا إنّ قولك: فوجود النبوة واجب، وأن بعثة النّبي واجبة عقلاً، ممّا لا يقبل في حق الله تعالى، فالعباد لا يجوز لهم أن يوجبوا على الله شيء، أو يحرّموا عليه شيء، فالوجوب يجب أن يعلم بالسمع، والله هو الذي يوجب على نفسه، قال تعالى:( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة) الأنعام: من الآية54، وقال:(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الروم:من الآية47.ولا يلزم من كونه تعالى أوجب على نفسه شيئاً أن يكون فاعلاً بالإيجاب، أي لا اختيار له، لأنّه سبحانه وتعالى أوجبه على نفسه باختياره ومشيئته، وأهل السنة والجماعة متفقون على أنّه تعالى خالق كل شيء وربّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنّ العباد لا يوجبون عليه شيئاً، لمنافاته مشيئة الله واختياره المطلق في مخلوقاته،ولأنّ في ترك هذا النوع من الواجب إمّا حصول مضرة أو فوات منفعة أو لزوم محال، والله تعالى يتنزه عن هذه كلها، لأنّه لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يتضرر بترك إرسالهم، ولا يلزم من عدم إرسالهم محال بالنسبة إليه سبحانه وتعالى.(1)
__________
(1) انظر الاقتصاد في الاعتقاد: أبو حامد الغزالي، طبعة 1962م ص175.
(1/17)
________________________________________
يقول ابن تيمية:" وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعد الله الصادق، وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه ويحرم بنفسه على نفسه على قولين،ومن جوز ذلك: احتج بقوله سبحانه كتب ربكم على نفسه الرحمة، وبقوله في الحديث القدسي الصحيح إني حرمت الظلم على نفسي الخ...وأمّا الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنّه ما شاء كان، وما شاء لم يكن،وأنّ العباد لا يوجبون عليه شيئاً،ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنّه كتب على نفسه الرحمة،وحرّم الظلم على نفسه، لا أنّ العبد نفسه مستحق على الله شيئاً، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإنّ الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسّر لهم الإيمان والعمل الصالح".(1)
ويقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني:" إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع منّة من الله وفضل، لا واجب عليه ذلك، وإنّما هو على سبيل اللطف بالخلق والفضل عليهم، فبعثة الله جميع الرسل من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين إلى المكلفين لطف من الله بهم ليبلغوهم عنه سبحانه وتعالى أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ويبينوا لهم عنه سبحانه ما يحتاجون إليه من أمور المعاش والمعاد..".(2)
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية، مطبعة السنة المحمدية 1369ه ص409-410.
(2) لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية - مصدر سابق- 2/258-295.
(1/18)
________________________________________
وبعثة النبي وإرسال الرسل تفضل من الله ورحمة للعباد، ، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107،(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)آل عمران: من الآية164، وحتى لا يكون حجة للناس بأنّهم لم يبلغوا منهج الله وقال:(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء:165، وقال:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) طه:134.
ومن المستنكر أن يقال أنّ إرسال الله تعالى رسله لعباده الذي فيه غاية صلاحهم وسعادتهم في الدنيا و الآخرة، ونهيه لهم عمّا فيه هلاكهم وشقاؤهم في الدنيا و الآخرة، واجب عقلاً!.
المطلب الرابع :النبوة مكتسبة :
(1/19)
________________________________________
... زعم ابن سينا أنّ النبوة مكتسبة، فإنّ من راض نفسه، وخلّصها من الأوصاف الذميمة إلى الأوصاف الحميدة،ولازم الخلوة والعبادة، ودوام المراقبة،وإخلاء نفسه من الشواغل العائقة عن المشاهدة.إنّ النّبوة فيض يفيض على نفس النّبي إذا استعدت لذلك.(1) يقول ابن سينا:" ولنفسك أن تنتقش بنفس ذلك العالم– يقصد العالم العقل- بحسب الاستعداد، وزوال الحائل، قد علمت ذلك فلا تستنكرن أن يكون بعض الغيب ينتقش فيها من عالمه".(2) ويقول ابن سينا: "وهذه القوة ربّما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي، وقد تحصل بضرب من الكسب يجعل النفس لشدة الزكاة كما تحصل لأولياء الله الأبرار، والذي يقع له هذا في جبلة النفس ثمّ يكون خيراً رشيداً مزكياً لنفسه، فهو ذو معجزة من الأنبياء أو كرامة من الأولياء، وكلما زكّى المرء نفسه، رقي في هذا الباب، وزاد على مقتضى جبلته إلى أن يبلغ المبلغ الأقصى". (3)
المناقشة:
__________
(1) انظر الرد على المنطقيين- مصدر سابق- ص277. لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية- مصدر سابق- 2/267.
(2) الإشارات والتنبيهات :ابن سينا، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار إحياء الكتب العربية- القاهرة 3/243.
(3) المصدر السابق 3/220
(1/20)
________________________________________
... إنّ ما ذهب إليه ابن سينا مخالف لنص القرآن ولإجماع المسلمين، فالله تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يشترط في النبوة استعداد ذاتي كما زعم ابن سينا، ولا تنال بمجرد الكسب، وتكلف أنواع العبادات، وتطهير الأخلاق، ورياضة النفس، والله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أن النبوة اصطفاء واختيار واجتباء إلهي، وهي فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده،(1) ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، ومن ذلك :قوله تعالى:(الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير) سورة الحج :75، وقوله :( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) سورة آل عمران:33، وقوله تعالى لنبيه موسى:(قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين)سورة الأعراف:144، وقوله تعالى:(واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) سورة ص: 45-47 .
... إنّ ادعاء ابن سينا بأنّ النبوة مكتسبة قد رتّبه على نظرية الفيض التي استمدها من الفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أفلوطين، وادعاؤه هذا يسقط الفوارق بين الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الناس، فما دامت النبوة مكتسبة فقد يدعيها مدع، ويزعم أنه كالنّبي علماً وحكمة وعملاً، أو أنّه فوق النّبي في مثل هذه الأمور.
وبهذا يتبين أنّ ابن سينا ما قَدَّر حق قدره، ولا قدّر الأنبياء حق قدرهم، لما ظنّ أنّ الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها فاضت عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعّال، وأنّ حصول النبوة ليس هو أمر يحدثه الله بمشيئته وقدرته واختياره.(2)
__________
(1) انظر لوامع الأنوار البهية-مصدر سابق- /267-277
(2) الصفدية- بتصرف- ابن تيمية 1/229 .
(1/21)
________________________________________
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أنّ الله يصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه واستعدّ بها لأنّ يخصه الله بفضله ورحمته، كما قال تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) سورة الزخرف31-32، وقال تعالى:(ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) سورة البقرة:10وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء بقوله:(ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضّلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) سورة الأنعام: 84-87، فأخبر أنّه اجتباهم وهداهم ".(1)
ويقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني: "وعند التحقيق فلا فرق عندهم- أي الفلاسفة ،وابن سينا منهم- بين الفيض على نفس النّبي وسائر النفوس إلا من جهة كونها أصفى وأكمل"، ويقول:" من زعم أنّها مكتسبة فهو زنديق يجب قتله، لأنّه يقتضي كلامه واعتقاده أن لا تنقطع، وهو مخالف للنّص القرآني والأحاديث المتواترة بأنّ نبينا صلى الله عليه وسلّم خاتم النّبيين عليهم السلام".(2)
المطلب الخامس :عمدة ابن سينا في إثبات النبوة :
__________
(1) منهاج السنة النبوية 2/416-417.
(2) لوامع الأنوار البهية-مصدر سابق- /268.
(1/22)
________________________________________
... إنّ عمدة ابن سينا في إثبات النبوة هو المنامات. قال إنّ معرفة الأمور الغائبة عن طريق النوم ممكنة ، فوجب أيضاً أن تكون كذلك في حالة اليقظة. فالنائم تتجرد نفسه عن بدنه نوع تجرد فيحصل لها من العلم الذي يلقيه الله إليها ما لم تحصله في غير هذا الحال. وهكذا يمكن أن يحصل في اليقظة نوع تجرد فتتصل النفس البشرية بالنفس الكلية وتتلقى عنها من العلم ما لم تحصله في غير هذا الحال(1).
وفي رأي ابن سينا أنّ التجربة والبرهان القياسي يشهدان أنّ النّفس الإنسانية تستطيع أثناء النوم الوقوف على المجهول، وإذا كان الأمر كذلك فليس بمستبعد عليها أن تتكشف المجهول حال اليقظة. وأنّ التجربة والقياس يقرران أن أشخاصاً كثيرين تنبؤا بالمستقبل عن طريق الأحلام. وكذلك العقل حيث نسلم بأن الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلية مثبتة في العالم العلوي، ومقيدة في اللوح المحفوظ. وإذا استطاعت النفوس البشرية الصعود إلى العالم العلوي والوقوف على ما في اللوح المحفوظ عرفت ما فيه، وتنبّأت بالغيب. وإذا كان هناك أشخاص يدركون مثل هذا الغيب عن طريق مخيلتهم أثناء النوم فيحلمون بأشياء كأنّها حقائق مسلمة. فإنّ غيرهم من الأشخاص ممن عظمت نفوسهم وقويت مخيلتهم يدركون ما في علم الغيب حال اليقظة، - كما يدرك غيرهم حال النوم- وهؤلاء هم الأنبياء.(2)
__________
(1) الإشارات والتنبيهات-مصدر سابق- 4/899-900، الرد على المنطقيين-مصدر سابق- ص 484-486، الصفدية:أحمد بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، الطبعة الثانية 1406ه،1 /6-7.
(2) انظر في الفلسفة الإسلامية-منهج وتطبيقه-: مدكور، دار المعارف- القاهرة- الطبعة الثالثة،1/101، الجانب الإلهي في فلسفة ابن سينا: الدكتور سالم مرداش، دار قتيبة- دمشق- الطبعة الأولى 1412ه-1992م،ص294.
(1/23)
________________________________________
يقول ابن سينا: "التجربة و القياس متطابقان علماً أنّ للنّفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حال النوم، فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة، إلّا ما كان إلى زواله سبيل، ولارتفاعه إمكان. أما التجربة فالسماع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا وقد جرّب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق ، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج ، نائم قوي التخيل والتذكر،أما القياس فاستبصر فيه من تنبيهات: تنبه: قد علمت فيما سلف أن الجزيئات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلى، ثم قد نبهت لأنّ الأجرام السماوية لها نفوس ذوات إدراكات جزئية وإرادات جزئية تصدر عن رأى جزئي، ولا مانع لها عن تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري" (1).
ويرى ابن سينا استمرار أفعال اليقظة في الأحلام، وذلك يكون باستمرار بعض الأفعال والأفكار التي تشغل الإنسان أثناء اليقظة، حتى إذا استمرت المتخيلة مشغولة بها، والمتخيلة تحكي أموراً قريباً إليها إرادية، ويحدث هذا عندما تكون في همة لنفس وقت اليقظة شيء تنصرف النفس إلى تأمله وتدبره، فإذا نام لإنسان أخذت المتخيلة تحكي ذلك الشيء وما هو من جنسه، وهذا من بقايا انشغال الفكر في حالة اليقظة (2).
__________
(1) الإشارات والتنبيهات-مصدر سابق- ص241-242.
(2) انظر الشفاء : ابن سينا ، تحقيق جورج قنواتي,وسعيد زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1975م-1/338
(1/24)
________________________________________
... والأحلام التي أشبه بها النبوات-عند ابن سينا- لا تنشأ عن احساسات خارجية أو داخلية بدنية، ولا تكون من بقايا اليقظة، وإنما تنشأ عن اتصال النفس بالملكوت (الملائكة أو العقل الفعّال) ويحدث ذلك أثناء النوم وفي بعض حالات اليقظة، فتتلقى النفس من هناك الوحي والإلهام. ويكون ذلك بمثابة الإنذار والإخبار بما سيكون(1). فإذا حدث الاتصال أثناء النوم فهو رؤيا، وإذا حدث ذلك أثناء اليقظة فهو وحي وإلهام، وذلك وظيفة من وظائف القوة المتخيلة عند الإنسان(2).
يقول ابن سينا:" وصنف- أي عن المعجزات-يتعلق بفضيلة التخيل، ذلك أن يؤتي المستعد لذلك ما يقوى به على تخيلات الأمور الحاضرة والماضية، والإطلاع على مغيبات الأمور المستقبلة، فيلقي إليه كثير من الأمور التي تقدم وقوعها بزمن طويل فيخبر عنها، وكثير من الأمور التي تكون في زمان المستقبل يخبر بها،وبالجملة يتحدث عن الغيب فيكون بشيراً ونذيراً.. وقد يكون هذا المعنى لكثير من الناس في النوم ويسمى الرؤيا. وأما الأنبياء عليهم السلام فإنما يكون ذلك لهم في حالة النوم واليقظة معاً"(3).
المناقشة :
إنّ الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من الله تعالى، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدّث المرء به نفسه في اليقظة، فيراه في المنام، وقد ثبت هذا التقسيم في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:" الرؤيا الصالحة بشارة من الله والتحزين من الشيطان، ومن الرؤيا يحدّث به الرجل نفسه".(4)
__________
(1) انظر المصدر السابق 1/336-338، الإشارات والتنبيهات- مصدر سابق- 2/135-137.
(2) انظر الشفاء-مصدر سابق-1/334.
(3) – رسالة الفيض الإلهي: ابن سينا- صورة موجودة بدار الكتب الأهلية بالقاهرة أخذت عن نسخة محفوظة موجودة بالمتحف البريطاني رقم 394.
(4) رواه النسائي في السنن الكبرى رقم (765) ،4/390.
(1/25)
________________________________________
إنّ كلام ابن سينا في الرؤيا، واتصال النفس بالعالم العلوي أثناء النوم يحتاج إلى توضيح، وبيان ذلك: أن عامة علماء الإسلام يقرون بأنّ الرؤيا الصادقة من الله تعالى، فإنّ ما ادعاه من أنّ الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات فحق، فرسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصادقة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءته مثل فلق الصبح..."،(1) وكان في أول الأمر يرى الوحي في المنام ودام كذلك نصف سنة ثمّ رأى الملك في اليقظة، حكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر.(2)
ورؤى الأنبياء وحي معصوم، والرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرى له حق، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما جاء في الأحاديث الصحيحة:منها:قوله صلى الله عليه وسلم "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة "،(3) وقوله:" الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ".(4)
__________
(1) رواه البخاري رقم(6982)كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري:ابن حجر العسقلاني تصحيح وتعليق الشيخ عبد العزيز ابن باز، نشر وتوزيع رئاسة إدارات لبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد –الرياض- 1/27.
(3) رواه البخاري رقم(6987،6988)كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
(4) رواه مسلم رقم (2265) في كتاب الرؤيا في فاتحته.
(1/26)
________________________________________
... ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل،ولا يتعلق به هوى لأنه محروس قال الله تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم:3-4، بخلاف رؤيا غير الأنبياء، فإنها قد يحضرها الشيطان, وقد وردت في القراَن الكريم أمثلة من الرؤيا الصادقة، وهى رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،ومن ذلك الرؤيا التي رآها النّبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقة إلى الحديبية، قال الله تعالى:(لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) سورة الفتح:27، والرؤيا التي رآها إبراهيم عليه السلام. قال تعالى:(يا يبني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك) سورة الصافات: 102.
وكلام ابن سينا عن الرؤيا الصادقة،وهو ما يراه الإنسان نتيجة اتصاله بالعالم العلوي حق، خاصّة وأنه يرى أنّ الأحلام الناشئة عن الاحساسات البدنية كاذبة، ويسميها أضغاث أحلام(1).ولكن أقواله بالجملة تحتاج إلى تحليل وبيان، حتى لا يلتبس الحق بالباطل، لأنّ رؤيا الأنبياء وحي بخلاف رؤيا غيرهم من الناس، والوحي لا يدخله خلل، ولا يخالطه هوى أو تخيلاّت، وهذا حاصل في رؤيا كثير من الناس، بسبب تلبيس إبليس، أو نتيجة مرض أو هوس، ونحو ذلك. قال ابن بطال:"والرؤيا الصادقه وأن كانت جزءاً من النبوة فهي باعتبار صدقها، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً، وليس كذلك".(2) وإذا كان الأنبياء يختصون بآيات يؤيدون بها ليتميزوا بها عمّن ليس مثلهم، كما تميزوا بالعلم الإلهي، فإنّ رؤاهم كذلك يجب أن يتميزوا بها عمّن ليس مثلهم.
__________
(1) انظر الشفاء- مصدر سابق- 1/338
(2) فتح الباري 1/20.
(1/27)
________________________________________
قال الخطابي:" قال بعض العلماء:أقام صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ثلاثا وعشرين سنة, منها عشر سنين بالمدينة وثلاث عشرة بمكة, وكان قبل ذلك ستة أشهر يرى في المنام الوحي، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً، وقال بعض العلماء:معنى الحديث أي حديث الرؤيا- أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة, لأنّها جزء باق من النبوة ". وأضاف الخطابي: "هذا الحديث توكيد لأمر الرؤيا وتحقيق منزلتها, وقال وإنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم، وكان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة ".
(1/28)
________________________________________
وقال المازري: "ويحتمل أن يكون المراد أن المنام فيه إخبار الغيب، وهو إحدى ثمرات النبوة, وهو ليس في حد النبوة ; لأنه يجوز أن يبعث الله تعالى نبياً ليشرع الشرائع, ويبين الأحكام, ولا يخبر بغيب أبدا, ولا يقدح ذلك في نبوته, ولا يؤثر في مقصودها, هذا الجزء من النبوة وهو الإخبار بالغيب إذا وقع لا يكون إلا صدقا ". وأضاف المازري في: " كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا , وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة , لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل ولا يقوم عليها برهان وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم...ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول : إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها، قال وهذا أشدّ فساداً من الأول لكونه تحكماً لا برهان عليه والانتقاش من صفات الأجسام, وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض, والأعراض لا ينتقش فيها، والصحيح ما عليه أهل السنة أنّ الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنّه جعلها علماً على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال, ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف, وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسرّ، أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضرّ، والعلم عند الله تعالى". وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عمّا جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم, وبيان ذلك: أنّ الرؤيا إنّما هي من إدراكات النفس وقد غيّب عنّا علم حقيقتها أي النفس, وإذا كان كذلك فالأولى أن لا نعلم علم إدراكاتها, بل كثير ممّا انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنّما نعلم منه أموراً جملية لا تفصيلية ".(1)
__________
(1) انظر قول المازري والقرطبي في: فتح الباري 12/352
(1/29)
________________________________________
إنّ ما يجعله الله تعالى في النفوس إنّما يكون بعد إعدادها لذلك وتسويتها – لما يلقى فيها – بالعبادة الخالصة ومجاهدة النفس وإلزامها طاعة ربها عز وجل. لكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فالنّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه الملك ويخاطبه بالكلام ، وأحياناً يأتيه في الباطن فيكلمه، وأحياناً يتمثل له في صورة الرجل فيكلمه. قال تعالى: ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليٌّ حكيم ) الشورى:42.(1)
يقول أبو حامد الغزالي في مناقشته لمسلك ابن سينا السابق: " بم تنكرون على من يقول: إن النّبي صلى الله عليه وسلم، يعرف الغيب، بتعريف الله عز وجل، على سبيل الابتداء، وكذا من يرى في المنام، فإنها يعرفه بتعريف الله تعالى، أو تعريف ملك من الملائكة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذكرتموه،فلا دليل في هذا، ولا دليل لكم في ورود الشرع باللوح المحفوظ، والقلم، فإن أهل الشرع، لم يفهموا من اللوح والقلم، هذا المعنى قطعاً، فلا متمسك لكم في الشرعيات.. وإنّما السبيل فيه أن يتعرف من الشرع، لا من العقل ".(2)
__________
(1) انظر الرد على المنطقيين- مصدر سابق- ص485- 486.
(2) تهافت الفلاسفة: أبو حامد الغزالي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا ، دار المعارف- القاهرة- الطبعة الثامنة ص229.
(1/30)
________________________________________
ويقال لابن سينا وإخوانه من الفلاسفة: إنّ الأدلة على إثبات النبوة ليست مقتصرة على ما ذكرتموه، فإنّما تثبت بالمعجزة، وبالاستدلال بأحوال النّبي وصفاته قبل النبوة وبصفاته حال الدعوة، وبعد تمامها،ومن خلال دراسة أخلاقه وأحكامه ومعاملاته مع الناس، ويستدل عليها أيضا بنصرة دينه على أعدائه، وعلىغيره من الأديان، وبهلاك المكذبين له. وتثبت بصدق ما يخبر عن ربه بوقوعه على ما أخبر به. وبإخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته. كما جاء خبر ووصف رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل. وتثبت نبوته من خلال دراسة ما يدعو إليه واتصافه بالواقعية والترابط وعدم التناقض والاضطراب، وكونه مما ترتضيه الفطرة السليمة، والعقل الصريح، وتستريح إليه القلوب والضمائر الحية.(1)
__________
(1) انظر المواقف في علم الكلام: عضد الدين عبد الرحمن الإيجي، عالم الكتب- بيروت- ص356-357
(1/31)
________________________________________
ومن الباطل في أقوال ابن سينا أنه جعل إدراك النبي الأمور الحاضرة والماضية، والإطلاع على مغيبات أمور المستقبل يحصل بفضيلة قوى التخيل عند النبي نفسه، ومن المعلوم بالضرورة أنّ هذه لا تدرك إلا بخبر المخبر للإنسان، وأمّا علمه بها بدون الخبر فممتنع من قوى النفس، قال تعالى:(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) القصص:46، وقال (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) القصص:44، (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف:102) ،وقال (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)آل عمران:44.(1)
المطلب السادس :صفة الكلام :
__________
(1) الصفدية 1/142.
(1/32)
________________________________________
ذهب ابن سينا إلى أن كلام الله تعلى ليس صفة قائمة بذاته تعالى، وليس له وجود خارج نفوس العباد ، فليس لله كلام أنزله بواسطة جبريل عليه السلام على أنبيائه الذين اصطفاهم برسالاته .وزعم أن الكلام هو ما يفيض على نفس النّبي من العقل الفعّال أو من غيره ، وأن الله تعالى لم يكلم موسى عليه السلام تكليماً ، إنما كلمه من سماء عقله بما أحدثه في نفسه من كلام، لم يسمعه موسى عليه السلام من خارج نفسه. فالمتكلم – عندهم- حقيقة هو النّبي، أما الله تعالى فهو متكلم مجازاً بما خلقه في نفس النّبي من ألفاظ . فالله لم يتكلم بصوت يسمعه النّبي من خارج نفسه ، أي لا حقيقة لكلام الله في الخارج.(1)
__________
(1) انظر:الرسالة العرشية - ابن سينا - ص12، رسالة في النبوات له، ص75 ، الاقتصاد في الاعتقاد: أبو حامد الغزالي،دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى،1403ه-1983م، ص84، نهاية الإقدام في علم الكلام:محمد عبد الكريم الشهرستاني،تحقيق الفرد جيوم، ص293 ، مجموع الفتاوى:ابن تيمية، 12/14، 23، 163، 351-353، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية: احمد عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم،جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى،1406ه-1986م،2/359، الصفدية- مصدر سابق- 1/201-204، مجموع الرسائل والمسائل:أحمد عبد الحليم بن تيمية، تعليق محمد رشيد رضا، لجنة التراث العربي، القاهرة، 3/38، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان:محمد بن قيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتيب العلمية-بيروت- الطبعة الأولى 1407ه-1987م، 2/281، مختصر الصواعق المرسلة في على الجهمية والمعطلة: محمد بن علي الموصلي، توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد- الرياض- 2/288، 329، شرح القصيدة النونية لابن قيم الجوزية، محمد خليل هراس، مطبعة الإمام، القاهرة،1/131، شرح العقيدة الطحاوية 2/402-403.
(1/33)
________________________________________
ولتوضيح معنى كلام الله عند ابن سينا ننقل بعض أقواله التي جاءت في مؤلفاته، ومؤلفات العلماء المطلعين على مذهبه الفلسفي.
يقول ابن سينا : " فوصفه بكونه متكلماً لا يرجع إلى ترديد العبارات ، ولا إلى أحاديث النفس والفكر المتخيلة المختلفة التي العبارات دلائل عليها ، بل فيضان العلوم منه على لوح قلب النّبي بواسطة القلم النقَّاش الذي يعبر عنه بالعقل الفعّال والملك المقرب هو كلامه. فالنّبي يتلقى علم الغيب من الحق بواسطة الملك ، وقوة التخيل تتلقى تلك وتتصورها بصورة الحروف والأشكال المختلفة، وتجد لوح النفس فارغاً فتنقش تلك العبارات والصور فيه فيسمع منها كلاماً منظوماً، ويرى شخصاً بشرياً فذلك هو الوحي، لأنه إلقاء الشيء إلى النّبي بِلا زَمان ، فيتصور في نفسه الصافية المُلَقِّي المُلْقَى، كما يتصور في المرآة المجلوة صورة المقابل ، فتارة يعبر عن ذلك المنتقش بعبارة العبرية وتارة بعبارة العرب ، فالمصدر واحد والمظهر متعدد ، فذلك هو سماع كلام الملائكة ورؤيتها.(1)
... يتضح لقارئ أقوال ابن سينا أنّه ينكر صفة الكلام لله تعالى كما جاءت في الكتاب والسنة، وهو أنّه تعالى قد تكلم بصوت وحرف مسموع ، وأن ابن سينا يرجع الوحي والنبوة إلى قوة التخيل لدى النّبي وأنّ الرسول يسمع أصواتاً من داخل نفسه لا يكلمه الله عز وجل مشافهة كتكليمه لنبيه موسى عليه السلام ، ولا بواسطة الملك جبريل الذي ينزل بكلامه تعالى على المختار لرسالته، كما حصل للنّبي محمد صلى الله عليه وسلم.(2)
__________
(1) الرسالة العرشية ص 12 .
(2) . لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية:-مصدر سابق- ص170، ابن تيمية السلفي- نقد لمسالك المتكلمين والفلاسفة في الإلهيات-: الدكتور محمد خليل هراس، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى 1404ه-1984م، ص114.
(1/34)
________________________________________
... وجاء في رسالة " النبوات " لابن سينا : أن إفاضة العقل الكلي على نفس النّبي الذي ينتهي إليه التفاضل في الصور المادية، وفيضات العلوم منه على لوح قلب النّبي بواسطة العقل الفعّال والملك المقرب ، هو كلامه ".(1)
... ويصّور ابن قيم الجوزية مذهب الفلاسفة في كلام الله تعالى فيقول : مذهب الفلاسفة المتأخرين أتباع أر سطو – وهم الذين يحكي ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم -: إنّ كلام الله فيض فاض من العقل الفعّال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها ، فأوجب لها ذلك الفيض من تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه، ولهذه النفوس عندهم ثلاث قوى، قوة التصور، وقوة التخيل، وقوة التعبير. فتدرك بقوة تصورها من المعاني ما يعجز عنه غيرها، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس فتتصور المعقول صوراً نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الأذن، وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج، وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية. قالوا: وربما قويت هذه القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها، وتشكيل تلك الصور العقلية لعين الرائي،فيرى الملائكة ويسمع خطابهم، وكل ذلك من الوهم والخيال لا في الخارج".(2)
حجة الفلاسفة في نفي صفة الكلام :
__________
(1) انظر: رسائل في الحكمة والطبيعيات – رسالة في إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم- مصدر سابق- ص84-85.
(2) مختصر الصواعق المرسلة- مصدر سابق- 2/288.
(1/35)
________________________________________
استدل ابن سينا على نفي صفة الكلام بحجة داحضة وهي : أن إثبات صفة الكلام لله تعالى يوجب إما أن يكون كلامه من جنس كلام البشر ، أو لا يكون من جنس كلامهم، فإذا كان من جنس كلام البشر كان مشاركاً له من جهة الإمكان والعرضية ، أي كونه ممكناً ومحلاً للأعراض ، وهذا متعذر في حقه تعالى ، ويلزم أن يكون الله تعالى جرماً لأن الكلام غير متصور دون حروف وأصوات، والحروف عبارة عن تقطيع الأصوات، وهذا لا يكون إلا للجرم، والصوت لا يكون إلا عن احتكاكات الأجرام. وإذا كان كلامه ليس من جنس كلام البشر فهو غير معقول، وغير المعقول محال.(1)
وإذا قيل له إن نفي صفة الكلام يقتضي إنكار أمره ونهيه عز وجل، وهذا يؤدي إلى عدم تحقيق معنى الطاعة له تعالى، وعدم صحة الرسالة. قال: إن معنى الطاعة لا يتحقق عن طريق الأمر والنهي ، بل يستند إلى التسخير على وجه الطواعية والإذعان على وفق الإرادة والاختيار، وأن تسخيره تعالى للمخلوقات وإبداعه للكائنات دون آلات وأدوات ، وتقليبه الخلائق بين المرغبات والمنفرات على وجه الطواعية حالة تنزل منزل القول بالأمر والنهي وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) سورة فصلت:11، فخطابه للسماء والأرض متعذر وكذلك قولهما ، وليس ذلك منهما إلا على سبيل الانقياد والتسخير.(2)
المناقشة : تتضمن المناقشة النقاط التالية :
أولاً : إثبات صفة الكلام لله عز وجل :
__________
(1) غاية المرام في علم الكلام: سيف الدين الآمدي، تحقيق حسن محمود الشافعي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة إحياء التراث- القاهرة –1391ه-1971م- بتصرف - ص92.
(2) المصدر السابق – بتصرف - ص93-94.
(1/36)
________________________________________
الكلام من صفات الكمال ، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ، كمن يعلم ويسمع فهو أكمل ممن ليس كذلك ، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً لذاته ، ليس له عليه قدرة ولا له فيه مشيئة واختيار.والكلام يكون صفة كمال للمتكلم إذا كان الكلام قائماً به، صادراً عنه بمشيئته وقدرته، لا كونه أمراً مبايناً له منفصلاً عنه.(1)
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة تقرر صفة الكلام لله ، وتثبت أنه متكلم حقيقة بكلام حقيقي هو صفة له، وهذه النصوص لا يملك المسلم أمامها إلا الإيمان بما أثبتته– دون تأويل أو تكييف أو تمثيل - ولا يستطيع أن يعطلها أو يحرفها ، وإلا دخل إيمانه ما يشوبه ويكدره.
والقرآن الكريم زاخر بالآيات التي تثبت أنه تعالى تكلَّم ويتكلَّم ، وكلَّم ويُكَلِّم وقال ويقول ، ونادى وينادي ، وأخبر وأنبأ ، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل صراحةً على أنه تعالى متكلم بكلام حقيقي.(2)
__________
(1) انظر: شرح العقيدة الأصفهانية : أحمد عبد الحليم بن تيمية، قدّم له وعرّف به الشيخ حسنين محمد مخلوف، دار الكتب الحديثة- القاهرة-1385ه-1965م، ص73 ، مجموع الرسائل والمسائل – مصدر سابق- 3/44-45.
(2) انظر: ابن حزم وموقفه من الإلهيات- عرض ونقد- :الدكتور أحمد ناصر الحمد،جامعة أم القرى الطبعة الأولى 1406ه، ص257-258 ، القائد إلى تصحيح العقائد:عبد الرحمن المعلمي، علّق عليه محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت- الطبعة الثالثة،1404ه-1984م، ص220.
(1/37)
________________________________________
ومن هذه الآيات قوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) سورة النساء:164 وقوله : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْك)َ سورة الأعراف:143، وقوله:( قَالَ يا موسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) سورة الأعراف: 144، وقوله:( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ) سورة التوبة : 6، وقوله "( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة) سورة البقرة:30، وقوله:( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عيسى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه)ِ سورة المائدة : 116، وقوله:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)سورة البقرة : 34، وقوله : ( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَر)َ سورة البقرة:60، وقوله : ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِين) سورة الشعراء:10، وقوله:(وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يا إبراهيم، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) سورة الصافات 104- 105، وقوله : ( قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) سورة التوبة :94، وقوله: (إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سورة الزمر:7.
(1/38)
________________________________________
ومن الأحاديث الشريفة ما رواه عدي بن حاتم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بين الله وبينه ترجمان.. ".(1) وما رواه عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب:أنا الملك أنا الديان".(2)
__________
(1) رواه البخاري 8/140، في الرقاق - باب من نوقش الحساب عذب، ونحوه 2/34، في الزكاة - باب الصدقة قبل الرد ، ونحوه 9/181، في التوحيد ، باب كلام الرب يوم القيامة، ومسلم نحوه رقم 1016، 1/703-704 في الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشقِّ تمره.
(2) رواه البخاري تعليقاً بصيغه المبني للمجهول، 9/72، في التوحيد ، باب قول الله " ولا تنفع الشفاعة عنده " وذكره بالجزم 1/29 في العلم، باب الخروج في طلب العلم ، فقال : " رحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد ". ورواه البخاري موصولاً في الأدب المفرد، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية ومكتبتها- القاهرة- 1375ه، رقم 970، باب المعانقة، ورواه بلفظ التعليق في خلق أفعال العباد والرد على الجهمية، تحقيق وتعليق محمد السعيد بسيوني، مكتبة التراث- القاهرة، رقم 69، ص23 ، موصولاً رقم 365، ص137، رواه أحمد في المسند، تحقيق أحمد شاكر، المكتب الإسلامي- طبعة المعارف- القاهرة- 1965م-1374ه، 1946-1955م،3/395، وحسَّن إسناده الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، ظبط وتعليق مصطفى محمد عمارة، دار التراث العربي- بيروت- الطبعة الثالثة 1388ه-1968م، 4/404، في ذكر الحساب وغيره، ورواه الحاكم في كتاب الأهوال، 4/574-575، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه ، ووافقه الذهبي، ورواه ابن أبي عاصم في السنة،( ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني) المكتب الإسلامي- بيروت – الطبعة الأولى 1400ه- 1980م، ص514، قال الألباني في تخريج السنة : حديث صحيح .
(1/39)
________________________________________
ثانياً : مناقشة حجة ابن سينا :-
إنّ صفة الكلام من صفات الكمال التي يجب إثباتها لله تعالى على الوجه الذي يليق بجلاله وكماله ، ولا يعني بالضرورة أن إثباتها يقتضي أن يكون من جنس كلام البشر، فالقرآن الكريم والسنة جاء فيهما إثبات الكلام والنطق لبعض المخلوقات والجمادات، ومن المعلوم أنّ كلام هذه المخلوقات ليس من جنس كلام البشر، فليس لها آلات ولا أدوات قال تعالى مخبراً عن قول جهنم يوم القيامة (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) سورة ق:30، وأخبر عن السماء والأرض أنهما قالتا: قال تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)سورة فصلت:11، وأخبر عن نطق أعضاء الإنسان يوم القيامة، شاهدةً على أعمال صاحبها(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) سورة فصلت:20-21.
(1/40)
________________________________________
وجاء في السنة أنّه عليه الصلاة والسلام. كان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه وهو بمكة المكرمة.(1) وسمع أصحابه تسبيح الحصى بين يديه.(2)
__________
(1) انظر: ما رواه مسلم، رقم 2277، 4/1782، في الفضائل ، باب فضل نسب النّبي صلى الله عليه وسلم – وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، وما رواه الترمذي ، رقم 3628، 9/246، 9/246 في المناقب، باب في إثبات نبوة النّبي صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به ، قال الترمذي. هذا حديث حسن غريب، رقم 3630، 9/247 في المناقب، باب الشجر والحجر يسلمان على النّبي صلى الله عليه وسلم .
(2) انظر: ما رواه البزار في كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة: على بن أبي بكر الهيثمي،تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة الأولى 1404ه-1984م، رقم 2413، 3/135- 136، في علامات النبوة، باب تسبيح الحصى – قال الهيثمي رواه البزار بإسناد ين، ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف 8/299 وذكر رواية في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5/179، ثم عقَّب عليها بقوله : وله طريق أحسن من هذا في علامات النبوة، وإسناده صحيح، وانظر : دلائل النبوة لأبي نعيم، حيدر آباد الدكن- الهند- الطبعة الثالثة 1397ه-1977م، 369-370، وشرح اعتقاد أصول أهل السنة والجماعة للالكائي 4/406-407.
(1/41)
________________________________________
وبهذه الأخبار وغيرها أصبح معلوماً لدى النّاس أنّ الكلام والتكلُم بالحرف والصوت ليس موقوفاً على الأدوات والآلات التي يتكلم بها الإنسان، بل قد يتكلم المخلوق بدونها فكيف بالخالق عز وجل الذي لا يماثله المخلوق ، فلا يلزم إذاً أن يكون الله تعالى جرماً إذا اتصف بالكلام كما زعم ابن سينا.(1)
وأمّا ما جاء في الدليل من الزعم بأنّ الكلام إذا كان من غير جنس كلام البشر فغير معقول، وغير المعقول محال . فيردُ عليه بأنّ كلام الله لا يماثل كلام البشر، وغير المعقول أن يكون من جنس كلام البشر، إذ لو كان من جنسه لدخل الله تعالى تحت جنس البشر، وهذا محال . فذاته تعالى لا تماثل ذات أحد من المخلوقات لا بشر ولا غيرهم وكذلك صفاته تعالى، قال تعالى:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة الشورى:11. وإذا كان الفلاسفة لا يتصورون كلاما من غير جنس البشر فهذا راجع لقصور عقولهم، وعدم إيمانهم بالقرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية التي أثبتت كلاماً للجمادات . وأهل الإيمان لا يلزمهم التسليم بكل ما يقرره من يلحد في أسماء الله وصفاته .
__________
(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية- مصدر سابق- 1/175-176 ، قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر لصديق :محمد صديق حسن خان،تحقيق وتعليق وتقديم عاصم بن عبد الله القريوتي- شركة الشرق الأوسط للطباعة-الأردن- الطبعة الأولى 1404ه-1984م، ص79-80، القائد إلى تصحيح العقائد- مصدر سابق- ص220.
(1/42)
________________________________________
وأمّا ما زعمه من معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فإنّ الآمدي يبيّن بطلانه بقوله:"وأمّا ما أشاروا إليه في معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فتمويه لا حاصل له ، وإلا لزم أن يكون كل تسخير بفعل شيء ما أمراً وتركه نهياً، وأن يكون الانقياد إلى ذلك التسخير طاعة كان ذلك في نفسه عبادة أو معصية . ولا يخفي ما في طي ذلك من المحال ، فإنه ليس كل ما يسخر به مأموراً، ولا كل ما انقاد العبد إلى فعله يكون طاعةً على ما يخفي. وإذا كان الأمر على هذه المثابة لم يصح معنى التبليغ والرسالة عن الله..".(1)
ثالثاً : مناقشة معنى كلام الله عنده :
وأمّا قوله بأنّ كلام الله عبارة عن فيض من العقل الفعّال على نفس النّبي، فيرد عليه بالآتي :
1- لو كان كلام الله هو ما يفيض به العقل الفعّال على نفس النّبي، لكان آحاد الناس مشاركاً للنّبي في هذا الأمر، فمن الناس من يرى في المنام أن الملائكة تخاطبه وتكلمه، وأنّه في السماوات .
2- لو كان كلام الله ليس له وجود في الخارج ، إنما يسمعه الرسول من نفسه بما يفيض فيها من العقال الفعّال، لما عاندت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبته في دعواه أنه رسول من رب العالمين أنزل الله عليه القرآن ، ليكون للناس هادياً ومبشراً ونذيرا.ً(2)
__________
(1) غاية المرام في علم الكلام- مصدر سابق- ص101.
(2) انظر: الصفدية 1/201 .
(1/43)
________________________________________
3- قال تعالى:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء)ُ سورة الشورى:51، وقال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) سورة النساء:164، وقال:( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّه)ُ سورة البقرة:253، وهذه الآيات ونحوها أثبتت كلام الله تعالى لبعض رسله تكليما وتكليم الله لبعض عباده تكليماً خارجاً عن جنس الفيض – الذي زعمه الفلاسفة - الذي هو ضرب من الإيحاء العام.(1)
4- قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ) سورة الأنعام : 114 ،أثبتت الآية الكريمة التنزيل صفةً للكتاب الذي هو كلام الله ، والمنزل من الله تعالى لا يكون فيضاً من العقل الفعّال على نفس النّبي عليه السلام.(2)
المطلب السابع :تفضيل الملائكة على الأنبياء:
ذهب الفلاسفة ومنهم ابن سينا إلى تفضيل الملائكة على الأنبياء وإلى هذا الرأي ذهب المعتزلة وبعض الأشاعرة.(3) واستدلّ الفلاسفة على مذهبهم بأدلة عقلية، منها:
1- الملائكة أرواح مجردة كمالاتها بالفعل، بخلف النفوس البشرية، والتام أكمل من غيره.
2- الملائكة مطهرة من الشهوة والغضب،وهما مبدأ الأخلاق الذميمة،بخلاف الجسمانيات، فهي لا تخلو منها.
__________
(1) انظر: المصدر السابق 1/204-205 .
(2) انظر: مجموع الفتاوى : 12/120 .
(3) انظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: أبو الحسن الأشعري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية –القاهرة – الطبعة الثانية 1398ه- 1969م 1/296. محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين : فخر الدين الرازي، راجعه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية- القاهرة- ص 322. المواقف: عضد الدين الإيجي- مصدر سابق- ص367.
(1/44)
________________________________________
3-الملائكة بسائط، غير مركبة بأي نوع من التركيب،وأمّا الأنبياء فأجسام مركبة والبسائط أفضل من المركبات.
4-الملائكة نورانية علوية لطيفة، والأنبياء أجسام كثيفة مركبة من المادة والصورة، والمادة ظلمانية مانعة.
5-الملائكة لها قوة وقدرة على تصريف الأعمال الشاقة، كالزلازل والسحاب ونحوها ولا يلحقها فتور وضعف، بخلاف الجسمانيات.
6-الملائكة أفضل من جهة العلم والعمل، فمن جهة العلم: فلإحاطتها بالأمور الغائبة واطلاعها على مستقبل الأحوال الجارية، ومن جهة العمل: فلكونهم عاكفين على العبادة، والتسبيح ليلاً ونهاراً، ولا يفترون عن ذلك. وعلوم الملائكة كلية فعلية آمنة من الغلط، وعلوم الأنبياء غير ذلك تماماً، فهي جزئية كسبية انفعالية، ولا تسلم من الغلط.
7-الملائكة روحانيات متعلقة بالهياكل العلوية النورانية، والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الفاسدة، ونسبة النفوس كنسبة الأجساد.(1)
المناقشة:-
يقول القرطبي: اختلف العلماء في التفضيل بين الملائكة وبني آدم على قولين، فذهب قوم إلى أنّ الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب الآخرون إلى أنّ الملأ الأعلى أفضل...وقال بعض العلماء ولا طريق إلى القطع بأنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأنّ الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة، وليس ها هنا شيء من ذلك.(2)
وأما الأدلة العقلية التي ذكرتها الفلاسفة مبنية على أصولهم الفلسفية التي لا يسلم بها أهل السنة والجماعة.(3)
__________
(1) انظر محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين-مصدر سابق- ص 221-222.والمواقف للإيجي– مصدر سابق- ص368.
(2) تفسير الجامع لأحكام القرآن:أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي- بتصرف-،دار الكتب المصرية- القاهرة، الطبعة الثالثة 1387ه- 1967م،1/ 289-290.
(3) انظر المواقف –مصدر سابق- 368.
(1/45)
________________________________________
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين، فإنّهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين، ونقصهم فغلطوا، ولو اعتبروا حال الأنبياء والصاحين بعد دخول الجنان، ورضى الرحمن، وزوال كل ما فيه نقص وملام، وحصول كل ما فيه رحمة وسلام، حتى استقر بهم القرار والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على غيرهم من المخلوقين، وإلاّ فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب".(1)
يقول علي ابن أبي العز الحنفي: " فإنّ الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنّبيين، وليس علينا أن نعتقد أيّ الفريقين أفضل، فإن هذا لو كان من الواجبات، لبين لنا نصاً، وقد قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) المائدة:3. (وما كان ربك نسياً)سورة مريم:64، وفي الصحيح –يقصد الحديث الصحيح- " إنّ الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ". فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً أو إثباتاً، والحالة هذه أولى. ولا يقال: إنّ هذه المسألة نظير غيرها من المسألة المستنبطة من الكتاب والسنة، لأنّ الأدلة هنا متكافئة ".(2) ويضيف: " والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنمّا تدل على الفضل، لا على الأفضلية، ولا نزاع في ذلك..".(3) وفي موضع آخر يقول:" وحاصل الكلام: أنّ هذه من المسألة من فضول المسائل، ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول، وتوقف أبو حنيفة رحمه الله في الجواب عنها".(4)
المطلب الثامن :أخبار الأنبياء :
__________
(1) مجموع الفتاوي 10/300، وانظر المصدر نفسه11/95.
(2) شرح العقيدة الطحاوية: بن أبي العز الدمشقي الحنفي- مصدر سابق- 2 /411-412.
(3) المصدر السابق2 /413.
(4) المصدر السابق2 /423.
(1/46)
________________________________________
... زعم ابن سينا أنّ ما جاءت به الأنبياء نوعان، الأول: الأمور العلمية، ومنها معرفة الله بأسمائه وصفاته والمعاد. وهذه الأمور لم يذكر الأنبياء حقائقها ، إنما أخبروا جمهور الناس بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا الحق وهذا من جنس الكذب الجائز لمصلحة الناس، وهم يعلمون هذه المرتبة، فضربوا للناس الأمثال واستعملوا الرموز والإشارات.(1) يقول ابن سينا تحت عنوان: " في إثبات النبوة وكيفية دعوة النّبي إلى الله والميعاد "،(2) "بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة، من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة ويلقي إليهم منه هذا القدر، أعني أنّه لا نظير له ولا شبه ولا شريك.." ويضيف:" وكذلك يجب أن يقرّر عندهم أمر المعاد على أوجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً ممّا يفهمونه ويتصورونه، وأمّا الحقّ في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً…ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات".
__________
(1) انظر الأضحوية في المعاد: ابن سينا، تحقيق الدكتور حسن عاصي، المؤسسة الجامعية للدراسات النشر والتوزيع- بيروت- الطبعة الثانية 1407ه-1987، ص 97-103، الرد على المنطقيين- مصدر سابق- ص 442،الصفدية- مصدر سابق- 1/202، درء تعارض العقل والنقل: أحمد عبد الحليم بن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- الرياض- الطبعة الأولى 1401ه-1971م،1/8-9 .
(2) في كتابه النجاة- مصدر سابق- ص 340.
(1/47)
________________________________________
... وفي رسالته"رسالة في إثبات النبوة وتأويل رموزهم "(1) يوجب ابن سينا على النّبي أنّ يخاطب الناس بلغة الرموز الإيمائية ، وأن يسلك التمثيل والتخييل في ذلك ، تقريباً لإفهام العامة وترويضاً لعقولهم . وأما خاصة الناس فهم المعنيون بفهم الحقائق وتأويل الرموز وإدراك المعاني الباطنية التي وراء تلك الألفاظ التي استعملها الأنبياء. ومن ذلك قوله: " إن المشترط على النّبي أن يكون كلامه رمزاً وألفاظه إيماءً".
... ولقد كان ابن سينا في ذلك متأثراً بالفلاسفة اليونان. وبخاصة أفلاطون. ولقد اعترف ابن سينا بذلك صراحة فقال:" وكما يذكر أفلاطون في كتابه النواميس أن مَنْ لم يقف على معاني رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهي، وكذلك جلة ابن سينا يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون في كتبهم المراميز والإشارات التي حشَوا فيها أسرارهم كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون…".(2)
... وأمّا النوع الثاني : فهي الأمور العملية– يقصد الشرائع والطاعات والنواهي – فهذه أخبروا عنها ، ويجب طاعتهم فيها والعمل بشرائعهم.(3) وأنّ الأنبياء عليهم أن يعرفوا الناس العبادات التي تكون بها القربى من الله تعالى كالصلوات والصوم،وعليه أن يبين مصالح أخرى ومنافع دنيوية في تقوية السنة مثل الجهاد والحج،وأن يعين لهم أفعالاً يقدمونها خالصة لله كالذبائح ونحوها.ويجب أن يسن للصلاة سنناً لابد من اتباعها ،وهى استعدادات يجريها الإنسان لملاقاة ربه تعالى من الطهارة والنظافة، وقد جرت العادة أن يقوم بها عندما يقابل الرؤساء والملوك، ولابد من الخشوع والسكون،وهذا يتحقق بغض البصر وقبض الأطراف، وترك الالتفات والاضطراب، وعلى النّبي أن يسنّ للإنسان في كل وقت من أوقات العبادة آداباً ورسوماً محمودة.(4)
__________
(1) مصدر سابق ص 124.
(2) في كتابه النجاة – مصدر سابق- ص124-125.
(3) النجاة لابن سينا ص 341-343 ، الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 442 .
(4) انظر النجاة ص 341-342.
(1/48)
________________________________________
... ونجد ابن سينا في أخبار الأنبياء العلمية(الاعتقادية) يسير على نفس منهجه من أنّ جمهور النّاس يعلمون من الأمور ظواهرها، ويجب على عاميتهم اعتقاد الظاهر، والعمل به، كما جاء في الشرع وأمّا الخاصة– وهم ابن سينا ومن على نحوهم – فينظرون إلى بواطن الأمور لا إلى حقائقها، فالصلاة مثلاً -عند ابن سينا- تنقسم إلى ظاهر وباطن فالظاهر منها : الطهارة والنظافة، والخشوع والسكون، وترك الالتفات والاضطراب،مع القيام والركوع والسجود، وما فيها من سنن وآداب، والباطن منها: المشاهدة الربانية التي تتحقق بمشاهدة الحق بالقلب الصافي، والنفس المجردة المطهرة عن الأماني، فالمشاهدة عنده عقلية، والعبادة عنده هي المحبة الربانية والرؤية الروحانية.(1)
المناقشة :
- إنّ هذه الأقوال التي ذهب إليها ابن سينا هي نفس ما ذهب إليه الملحدة الباطنية كالإسماعيلية من أمثال إخوان الصفا، وملحدة الصوفية كابن عربي وابن سبعين الذين يرون أن لكل ظاهر باطن وأنّ الأنبياء قصدوا تفهيم الجمهور ظواهر الأمور،وإن كانت مخالفة للحق .
- إنّ اتهام الأنبياء بالكذب على الجمهور هو من المعلوم من الدين بالاضطرار بطلانه بل هو من الكفر الصريح ، فابن سينا وأمثاله لم يقدروا الله تعالى حق قدره، ولم يقدِّروا رسوله عليه السلام حق قدره، وفتحوا الباب على مصراعيه لكل الزنادقة والملحدة لإنكار كل ما جاءت به الأنبياء والمرسلون من العقائد والشرائع بحجة أنّ ظواهرها غير مرادة، وإنما وردت على سبيل التمثيل والتخييل .
__________
(1) انظر النجاة ص 342 ، رسالة في الصلاة: ابن سينا – ضمن جامع البدائل – مطبعة السعادة -القاهرة – 1917م .
(1/49)
________________________________________
- إنّ مراد ابن سينا من هذه الأقوال الفاسدة الصدّ عن سبيل الله ، والصدّ عن فهم مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه فيما أخبر به. ولقد أخبر الله تعالى عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنّه بلّغ البلاغ المبين وبين مراد الله تعالى، وفي أقوال ابن سينا قدح في بيان الله تعالى، وقدح في الرسول الذي بلغ البلاغ الواضح المبين الذي هدى الله تعالى به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرّق الله به بين الحق والباطل، فأوضح به السبيل وأنار به الدليل.(1)
- إن ابن سينا يسِّلم بأنّ الرسل من أعلم الخلق بالحقائق ، وأنهم مخصوصون بقوى قدسية يعلمون بها ما لا يتمكن غيرهم من العلم به، وأنهم من أبر الناس وأصدقهم، وما نسبه إلى الرسل من إخبار جمهور الناس بضروب من التمثيل والتخييل والكذب لمصلحتهم يناقض ذلك، لذا كان ابن سينا من المتناقضين في أمر النبوات.(2)
المطلب التاسع :خصائص النبوة :
... ذهب ابن سينا إلى أن النبوة لها ثلاث خصائص، من قامت به فهو نبي، قال:" وأفضل الناس من استكملت نفسه عقلاً بالفعل، ومحصّلاً للأخلاق التي تكون فضائل عملية، وأفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة، وهو الذي في قواه النفسانية خصائص ثلاث..وهو يسمع كلام الله ويرى ملائكة الله تعالى، وقد تحولّت على صورة يراها..".(3) والخصائص الثلاث التي يمتاز بها النّبي عن غيره، هي:-
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل- مصدر سابق- 1/10-11، 19-24 .
(2) الصفدية 1/203 .
(3) النجاة –مصدر سابق- ص334.
(1/50)
________________________________________
الأولى: أن تكون له قوة قدسية، وهي قوة الحَدْس ، بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره، وبالتالي يكون له اطلاع على المغيبات الماضية والحاضرة والمستقبلة، وهذا أمر لا يستنكر، فإن من صفت نفسه صفاءً شديداً، وقويت قوة عظيمة بحيث لا تشغلها الحواس عن النظر إلى العالم العقلي فإنّه عند ذلك تستعد استعداداً خاصاً للاتصال بالعقول المفارقة-ومنها العقل الفعّال- بأدنى توجه، ويفيض عليها من علم الغيب ما لا يدرك بالفكر والقياس.
الثانية : قوة التخيل والحسِّ الباطن: وهي التي يتخيّل بها في نفسه ما يعلمه، بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صوراً نورانية هي عند ابن سينا ملائكة الله، ويسمع في نفسه أصواتاً هي عندهم كلام الله، وهذا بأن تقوى نفس النّبي وتتصل في اليقظة بعالم الغيب، وتحاكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة، فترى في اليقظة وتسمع. وليس هذا بمستنكر أيضاً فإنّه يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في منامه، فالنائم يرى في نومه صوراً تكلمه، ويسمع كلامهم، وذلك موجود في نفسه لا في الخارج، وهذا من جنس ما يحصل لبعض أهل الرياضة من الصوفية، فإنّ من تجردّت نفسه عن الشواغل البدنية سهل عليها أن تنجذب إلى عالم القدس.
(1/51)
________________________________________
الثالثة : قوة نفسانية يتصرف بها في هيولي– مادة– العالم، وذلك بإحداث أمور غريبة، وهي عنده آيات الأنبياء ومعجزاتهم. فالنّبي بذلك تظهر منه من الخوارق للعادة لأنّ هيولي عالم العناصر مطيعة له ومنقادة لتصرفاته مثل انقياد بدنه لنفسه ، تماماً كالعائن – الذي يصيب الآخرين بعينه – فإنّ له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين، وإذا كان أمر النّبي كذلك، فلا يبعد أن تقوى نفس النّبي حتى تحدث بإرادته في الأرض رياح وزلازل، وكأن يزيل جبل عن مكانه، ويذيب جوهراً فيستحيل ماءً، ويجمد جسماً سائلاً ليستحيل حجراً، وغيرها من الأمور الخارقة للعادة، وهذا أيضاً ليس بمستنكر، فأهل الرياضة من الصوفية ونحوهم تحدث منهم أمور عجيبة.(1)
المناقشة :
أولاً : مناقشة ما ذكره في الخاصية الأولى :
- إنّ الاطلاع على جميع المغيبات لا يجب للنّبي، وهذا هو اعتقاد جميع المسلمين، يقول الله تعالى حاكياً قول رسول الله عن نفسه :(ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسَّني السوء( الأعراف: 188.
- إنّ الاطلاع على بعض الغيب لا يخصّ النّبي فقط، فابن سينا يقول:إن أهل الرياضة والمرضى والنائمين يحصل لهم ذلك ، فأي ميزة وخاصية للنّبي إذاً على غيره من آحاد الناس.(2)
__________
(1) انظر هذه الخصائص: الإشارات والتنبيهات- مصدر سابق- 4/871 ، 899-901 ، النجاة – مصدر سابق-ص334-335، الملل والنحل للشهرستاني- مصدر سابق-3/74-75، المواقف – مصدر سابق- ص 337 ، 338 الصفدية- مصدر سابق- 1/5-7، مجموع الفتاوى لابن تيمية- مصدر سابق- 11/229 ،12/354، درء التعارض لابن تيمية- مصدر سابق- 5/355-356..
(2) انظر المواقف- مصدر سابق- ص337.
(1/52)
________________________________________
- إنّ النّبي عليه السلام لا يعلم الغيب من تلقاء نفسه، ولا باستعداد ذاتي، بل يعلم الغيب بواسطة أمين الوحي جبريل الذي يعلمه ما يأذن به الله عز وجل، وليس للقوة القدسية التي جعلها ابن سينا خاصية للنّبي علاقة بذلك. يقول الله تعالى في حق نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - :( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون( آل عمران:44 ويقول:(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَدا( الجن: 26-27.
ثانياً : مناقشة ما ذكروه في الخاصية الثانية:
* إنّ ما قاله ابن سينا في شأن الملائكة لا يتمشى مع مذهبه الفلسفي العام واعتقاده في الملائكة فالملائكة عنده: إما نفوس مجردة عن المادة في ذواتها، متعلقة بأجرام الأفلاك ويسمونها ملائكة سماوية وإما عقول مجردة ذاتاً وفعلاً، وتسمى بالملأ الأعلى، وليس لها كلام يسمع، لأنّ الكلام عندهم من خواص الأجسام. يقول الإيجي في الرد على الفلاسفة ومنهم ابن سينا:" قلنا: هذا تلبيس وتستر بعبارة لا يقولون بمعناها، لأنهم لا يقولون بملائكة يرون، بل الملائكة عندهم نفوس مجردة، ولا كلام لهم يسمع، لأنه من خواص الأجسام،ومآله إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة، كما للمرضى والمجانين، على ما صرّحوا ".(1)
__________
(1) المصدر السابق ص338.
(1/53)
________________________________________
* إنّ الأدلة على وجود الملائكة كثيرة جداً، فنصوص الكتاب والسنة في هذا الجانب متواترة وهي تصرّح بما لا يدع مجالاً للإنكار: بأن الملائكة تجيء في صورة البشر، كما جاءت مريم وإبراهيم ولوط عليهم السلام، وتكليمهم للأنبياء إياهم وسماعهم كلامهم ورؤيتهم لهم على وجه الحقيقة، وكما حصل لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بل وظهور جبريل حقيقة على صورة الصحابي دحية الكلبي، وقد رآه غير واحد من الصحابة واستمعوا إليه ، ثم إنّ أخبار نزول الملائكة لنصرة الأنبياء والأولياء وتأييدهم، وإخبار الله تعالى عنهم بأنهم عباد الله المكرمون وأنهم يسارعون في الخيرات، ولا يستكبرون عن عبادته، وأنهم يحملون عرش الله عز وجل ، ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار، وما في القرآن والسنة من ذكر أوصافهم وهيئاتهم وأصنافهم وأعمالهم كله صريح في بيان تهافت أقوال ابن سينا التي تلقّاها عن أسلافه من الفلاسفة الوثنيين.(1)
* إن أقواله تتضمن تكذيباً صريحاً للقرآن الكريم، وهذا من الكفر القبيح، فضلاً عن مخالفته مما يعلم بالاضطرار من دين المرسلين.(2)
* إنّ عامة الأمم وأهل الأديان يعترفون بوجود الأرواح الموجودة المنفصلة عن الآدميين من الملائكة والجن، والملائكة التي يثبتها الفلاسفة ويسمونها بالعقول فهي عند التحقيق لا توجد إلا في أذهان من أثبتها لا وجود لها في الأعيان.(3)
* إنّ زعمه بأن النّبي - صلى الله عليه وسلم - يخيل له أنه يسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله، فباطل من عدة وجوه،منها:-
__________
(1) انظر هذه الردود بالتفصيل : الرد على المنطقيين لابن تيمية 490-500 .
(2) انظر الصفدية- مصدر سابق- 1/231 .
(3) انظر المصدر السابق 1/241 .
(1/54)
________________________________________
أ- إنّ قوله معناه إنكار الملائكة التي يسمع منها الرسول ، فالله عز وجل يرسل أمين الوحي جبريل إلى أنبيائه يوحي إليهم بإذن ربه ما يشاء، قال تعالى:(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء( الشورى :51، ففرّق الله سبحانه بين إرسال الرسول الذي يوحي بإذنه ما يشاء وبين الوحي، كما فرّق بين ذلك وبين التكلم في قوله تعالى:( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنّبيين من بعد( إلى قوله تعالى :( وكلّم الله موسى تكليما( النساء:163-164. ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وتكليمه لموسى عليه السلام ، كما فرّق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء .
ب- إنّ ابن سينا يثبت فقط ما هو من جنس الوحي والإلهام عندما يقول بالقوة القدسية التي تفيض على نفس النّبي، بل الوحي والإلهام الذي أثبته الله تعالى فوق القوة القدسية التي يثبتها، والرسل لهم أحوال في السماع خارجة عن قوى النفس، وعن جنس الإيحاء العام والإلهام المشترك، إذ يسمعون كلام الملك المرسل إليهم، وتدل عليه آية الشورى السابقة، وقوله تعالى:( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس( الحج :175.
ج- لقد أخبر الله تعالى أنّه يكلم البشر من وراء حجاب، وأن يكلِّم موسى عليه السلام تكليماً، وهذا يقتضي أنه يكلم بعض رسله تكليماً خارجاً عن جنس ما يحصل بالوحي والإلهام مما يتناول القوة القدسية وغيرها.(1)
د- يقول الله تعالى في قصة مريم:( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً( سورة مريم:17-19. وقال تعالى:( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا( سورة التحريم:12.
__________
(1) المصدر السابق – بتصرف يسير – 1/203-205 .
(1/55)
________________________________________
... لقد أخبر الله تعالى أنّ هذه الروح تصوّر بصورة بشر سوي، وخاطب مريم ونفخ فيها، ومن المعلوم أنّ القوى النفسانية التي تكون في نفس النّبي وغير النّبي لا يراها الحاضرون، ولا تحدث منها مثل هذه الأحوال والأفعال والأقوال ، وعلى هذا يبطل قول ابن سينا أنّ النّبي يخيّل إليه أنّه يسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله، فكون الملك تمثل بشراً وخاطب مريم ، فأي عاقل يقول أن مريم سمعت كلامه من داخل نفسها وهو أمامها بشري سوي تراه وتسمع كلامه(1) .
هـ- يقول تعالى في حق جبريل - عليه السلام - : (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم ) سورة التكوير:19-25. أخبر الله تعالى أن الذي جاء بالقرآن – وهو من كلام رب العالمين - رسول كريم ، ذو قوة عند ذي العرش مكين ، وأنه مطاع ثم أمين. ومن المعلوم امتناع أن تكون هذه الأوصاف للمَلَك الرسول صفات أعراض تقوم بنفس البشر سواء كان نبياً أو غيره ، وما كان كذلك امتنع أن يكون النّبي قد تخيل في نفسه أنه رآه وسمع منه كلام الله تعالى .
و- إذا كان النّبي لم يسمع كلاماً من خارج نفسه بل هذا تَخَيُّلٌ في نفسه كما زعم ابن سينا فهذا معناه أنّ الرسول من جنس آحاد المسلمين الذين يرون في المنام أنهم في السماوات، وأن الملائكة خاطبتهم ونحو ذلك ، ومثل هذا لا تكذب به قريش ولا أحد من الكفار .
__________
(1) انظر المصدر السابق 1/197-198 .
(1/56)
________________________________________
ز- وإذا كان ابن سينا يزعم أن كلام الله هو ما يفيض على نفس النّبي من العقل الفعّال فإن هذا الزعم باطل وبيان ذلك : أن العقل الفعّال لا يمكن أن يتصور في صورة أعرابي ولا دحية الكلبي ولا ضيف إبراهيم ولا لوط ، ولا في صورة بشر سوي فنفخ في مريم ، ولا يمكن أن يكون كما قال تعالى : ( ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثَمَّ أمين( لأن غاية العقل الفعّال عند الابن سينا أن يتحرك الفلك الأسفل تشبهاً به وأما فوق ذلك فلا تأثير له فيه .
... وأيضاً فلقد أخبر الله تعالى أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - رآه عند سدرة المنتهى ورآه بالأفق المبين مرتين، وجاء في الحديث الصحيح أنّ النّبي عليه الصلاة والسلام رأى جبريل في صورته التي خلق عليها مرتين وله ستمائة جناح منها جناحان سد بهما ما بين المشرق والمغرب، ومَنْ كانت هذه أوصافه وأحواله استحال أن يكون هو العقل الفعّال كما يزعم ابن سينا.(1)
ثالثاً : مناقشة ما زعمه من أن معجزات الأنبياء هي نتيجة تأثيره القوة النفسانية للنّبي:
إنّ كون بعض النفوس أو غيرها من الأعيان قد جعل الله تعالى فيها من القوى والطبائع ما يحصل به بعض الآثار لا ينكر شرعاً ولا عقلاً، ولكن دعوى ابن سينا بأنّ معجزات الأنبياء هي من هذا الباب فبهتان عظيم وإفك أثيم . وأدلة بطلانه كثيرة جداً نذكر هنا بعضاً منها يفي بالغرض المطلوب :-
* إنّ المؤثر الوحيد في الوجود هو: الله تعالى الذي لا شريك له في ملكه وتدبيره وتصريفه لما في ملكه ولم يثبت شرعاً ولو بدليل ضعيف هذا الكلام الذي زعمه ابن سينا، ثمّ إنّ المعجزات وخوارق العادات هي: كرامات يظهرها الله تعالى على يد النّبي برهاناً على نبوته وتصديقاً لما جاء به من ربه عز وجل ولو كانت من تأثير نفسه كما زعم ابن سينا لما كانت معجزة يتحدى بها الأولين والآخرين من الجن والإنس .
__________
(1) انظر المصدر السابق 1/201 .
(1/57)
________________________________________
* لقد أثبتت نصوص القرآن صراحة أن الملائكة لها تأثير في العالم بالقول والفعل ولكن بإذن الله تعالى وبمشيئته وقدرته، ومن ذلك تأييدها للأنبياء بالنصر والتأييد وإنزال السكينة، وهذا يبطل قول ابن سينا أن المؤثر في العالم هو القوى النفسانية أو القوى الطبيعية ، فإن الملائكة خارجة عن هذا وهذا .
* إنّ ابن سينا لم يدلل على مزاعمه بدليل صحيح، فقوله بلا علم ولا دليل، وعامة ما يعتمد عليه التجويز الذهني، والعقائد والمغيبات لا تثبت بمثل ذلك، ولا ريب أنّ معجزات الأنبياء مما أجمع النّاس على أنّ قوى النفوس لا تقتضيها، فالنّاس يعلمون بالمشاهدة والأخبار المتواترة والدلائل اليقينية حدوث خوارق للعادات كثيرة، ليس لها علاقة بنفوس بني آدم، لا نفوس أنبياء ولا غيرهم، كزلزلة الأرض ونزول المطر من السماء، وأخذ القرى الظالمة .
* إن تأثير النفوس في الأجسام لا يختص بالنّبي، فمثلاً الجن تفعل كثيراً من الغرائب والأعاجيب ، ومن ذلك حملها لبعض الناس وطيرانها بهم في الهواء، وسرقة أنواع من الأطعمة وإتيانها بها للكهنة وإخبارهم بالأمور الغائبة. وهذا ما يعلمه كثير من الناس والجن ليست قوى نفسانية، فمن الناس من شاهدها، ورآها - أحياء ناطقين منفصلين عن الإنسان- ، أو ثبت ذلك عنده بالأخبار الصادقة .
* إنّ الملائكة ثابتة آثارهم وأفعالهم في العالم، وأخبارهم في ذلك متواترة عند أتباع الأنبياء ، ومعلومة بالمعاينة والمشاهدة ، وهذا من أعظم الأدلة على بطلان دعوى أن المعجزات والكرامات والسحر هي قوى نفسانية .
(1/58)
________________________________________
* إنّ تأثير قوى النفس لا يبلغ مبلغ معجزات الأنبياء ، فإنزال ماء الطوفان الذي أغرق أهل الأرض وإرسال الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً التي أهلكت قوم عاد واقتلعت قرى قوم لوط وقلبتها حتى أهلكتهم، وإرسال الطير الأبابيل بحجارة من سجيل لهلاك أبرهة الحبشي وأصحابه عام الفيل وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام، وفلق البحر، وتفجّر الماء كل يوم من الحجر اثنتي عشر عيناً، وانشقاق القمر، واهتزاز العرش، وخروج الناقة العظيمة من الصخرة وإنزال المائدة من السماء، لا يمكن أن يقول عاقل أنّ هذه وأمثالها من تأثيرات القوى النفسانية عند الأنبياء، بل كلّ عاقل يعلم أنّها من فعل فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته، وبحسب مشيئته وحكمته،وأنّه هو الله رب السماوات والأرض، ورب كلّ شيء ومليكه .
* إنّ الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا بأنّ خوارق العادات – المعجزات المؤيدة لدعوى النبوة – ليست في مقدور البشر، فمن زعم أنّها من تأثير قوى النفس كان مكذباً للأنبياء فيما أخبروا به، والأنبياء عليهم السلام أخبروا بوجود الملائكة والجن، وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها ليست أعراضاً قائمة بغيرها وأخبروا بأنّهم يفعلون أفعالاً خارجة عن قدرة البشر، ومن ذلك مجيء الملائكة إبراهيم عليه السلام في صورة رجال نكرهم ولم يعرفهم حتى ظن أنهم ضيوف، ثم إخبارهم له بأنهم ملائكة وبشروه بإسحاق ثم أخبروه بأنهم ذاهبون إلى قوم لوط من أجل إهلاكهم بأمر الله تعالى. ومن زعم أنّ مثل هذا من قوى النفس فقد كذّب القرآن الكريم وكذّب الأنبياء فيما أخبروه به، وهذا في غاية الكفر الصريح والعياذ بالله تعالى.
(1/59)
________________________________________
... ومن معجزات الأنبياء ما لا يكون النّبي شاعراً به، ومنها ما لا يكون مريداً له، وهذا لا يكون من فعل نفسه، ومنها ما يكون قبل وجوده، ووجود قدرته، ومنها ما يكون بعد موته ومفارقته لهذا العالم. ومن المعلوم أن أمثال هذه المعجزات خارجة عن مزاعم ابن سينا في تأثير القوة النفسانية للنّبي.ومن هذه المعجزات : قصة أصحاب الفيل التي حدثت حين مولده - صلى الله عليه وسلم -، وأخبار الكهان وأهل الكتاب عن نبوته وإخبار الأنبياء السابقين المتقدمين عن نبوته ورسالته، وانتشار دعوته عليه الصلاة والسلام في مشارق الأرض ومغاربها كما أخبر هو عن ذلك، وحفظ الله تعالى للكتاب الذي أنزله عليه، وما جعله الله تعالى في القلوب من محبته وتعظيمه، والعلم بمنزلته وعلو درجته ومكانته، وانتصار أوليائه، وهزيمة أعدائه.(1)
الخاتمة
* من خلال دراسة قضايا النبوة عند ابن سينا تبين لنا أنّ ابن سينا صار على منهجه في التوفيق بين الفلسفة والدين، ولكنه كان متمسكاً بالفلسفة تمسكاً يزيد على تمسكه بالدين، وهو يعبر عن قوة منزلتها في نفسه، ولذا نجده يضحي بالمبدأ الديني، ويحرّف النصوص الشرعية، مع محافظته على ما تلقفه من الفلاسفة اليونان، ومن أمثلة ذلك: إقحامه نظرية الفيض التي قال بها أفلوطين في موضوع الوحي وكلام الله تعالى، وتعريفه للرسالة والرسول، وكيفية تلقي الأنبياء الخبر من الله عز وجل، وعلاقة ذلك بالعقل الفعّال، أحد العقول العشرة التي تحدّثت عنها نظرية الفيض.
__________
(1) انظر هذه المناقشة لمزاعم ابن سينا مع زيادة تفصيل في كتاب الصفدية لابن تيمية 1/163-236 .
(1/60)
________________________________________
* أنّ ابن سينا ينكر صفة الكلام الثابتة لله بالكتاب والسنة، وينكر أنّ الله يكلم أنبياءه بكلام حقيقي، وأنّ النّبي يسمع كلام الله حقيقة من الملك جبريل، وأنه يراه حقيقة، فالوحي عند ابن سينا يرجع إلى قوة التخيل عند النّبي، وبها يستطيع النّبي أن يشكل الصور العقلية- التي هي الملائكة عند الفلاسفة- في صورة المحسوس، وأنّ النّبي يسمع كلام الله من سماء عقله ثم يحيله إلى ألفاظ وعبارات يسمعها لغيره.
* أنّ ابن سينا أحسن في بيان الحاجة إلى النبوة، وأنّها ضرورية، وأنّ وجود النّبي أكثر حاجة من وجود كثير من المنافع الدنيوية، وأنّه لولا النبوة لما كان هناك بقاء للنوع الإنساني.
* من الأغاليط المنكرة التي وقع فيها ابن سينا زعمه كغيره من الفلاسفة أنّ النبوة مكتسبة، وتنال بالرياضة الصوفية، وقد ذهب أهل العلم بتكفير من زعم أنّ النبوة مكتسبة.
* ومن الأغاليط أيضاً الزعم بأنّ العمدة في إثبات النبوات: المنامات، بقياس ما يوحى إلى النّبي بما يراه الإنسان في نومه، مع أنّ الأدلة التي تثبت بها النبوة أعظم من ذلك وأكثر، وقد أشارت النصوص الشرعية إلى بعضها، وذكر أهل العلم كثيرأً من الأدلة النقلية والعقلية وليست الأحلام والمنامات واحداً منها.
(1/61)
________________________________________
* لقد قال ابن سينا منكراً من القول وزوراً عندما زعم أنّ الأنبياء سلكوا طريق التمثيل والتخييل، وأنّه يجب عليهم استعمال الرموز والإشارات، في تفهيم جمهور الناس خطاب الشارع المتعلق بالعقائد، وأنّ الظاهر من النصوص الشرعية غير مرادة،وليست مطلوبة لذاتها. وفي هذا اتهام للأنبياء بالكذب،وأنّهم لم يبلغوا البلاغ المبين، بل في ذلك قدح في بيان الله تعالى، الذي أنزل القرآن بلسان عربي مبين، يفهمه جمهور الناس فضلاً عن علمائهم، وقد فتح ابن سينا وإخوانه الفلاسفة الباب للزنادقة والملحدين، كي يقولوا عن كل عقيدة لا تستسيغها عقولهم أنها غير مرادة بحسب ظواهرها، إذ الظاهر رموز وإشارات وأنّ الأنبياء ذكروها على سبيل التمثيل والتخييل.
* لقد زعم ابن سينا أنّ النبوة لها ثلاث خصائص، وأنّ من وجدت فيه كان نبياً، وهي القوة القدسية والقوة النفسانية، وقوة التخيل، وقد ذكر في تفسيره لكل منها كلاماً طويلاً، يتفق وأصوله الفلسفية ومنهجه الفلسفي، المتأثر فيه إلى حد بعيد بالفلسفة اليونانية ونظرياتها الخيالية، ومنها نظرية الفيض، وقد بين علماء الإسلام فسادها، وفساد ما يلزم عنها.وأنها مناقضة للعقائد الدينية، وتؤدي إلى إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، من وحي الله إلى أنبيائه، والمعجزات والملائكة والجن، والمعاد وما فيه من نشر وحشر وحساب، والصراط والميزان، وما أعدّه الله تعالى لعباده من ألوان النعيم المادّي، وما أعده لأهل الكفر والعصيان من العذاب المادّي المحسوس. وأنّ هذا من الكفر القبيح التي جرته الفلسفة على أصحابها.
* إنّ كثيراً ممّا دونه ابن سينا في باب النبوات –وغيرها- ليس فيه ما يروي غليلاً ولا يشفي عليلاً، ولا يكسب القلب إيمانا ًويقيناً، بل يعمل على إضعاف سلطان العقيدة على القلوب، وإزالة قدسيتها من النفوس.
(1/62)
________________________________________
























( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )




نظرات في أشرطة قصص من التاريخ للدكتور طارق سويدان
نظرات في أشرطة قصص من التاريخ للدكتور
طارق السويدان
إعداد
أبو عبدالله الذهبي
نظرات في أشرطة قصص من التاريخ للدكتور طارق سويدان ( 1 ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
نزولاً عند رغبة أحد الإخوة الأفاضل و رغبة مني في تبيان الحق ، ومنعاً من قيام جدال عقيم حول شخصية معينة ، أحببت أن أشارك بهذه المقالات ؛ و التي هي بعنوان : ( نظرات في أشرطة قصص من التاريخ الإسلامي للدكتور : طارق سويدان ) ، والتي سأتناول التعليق على هذه الأشرطة مبيناً ما وقع فيه الدكتور من أخطاء أثناء تناوله لموضوع الحديث الذي جرى بين الصحابة ، و ذلك يعلم الله مني أن لا رغبة لي في تتبع العثرات والزلات ، لكن هي أعراض صحابة كرام ، و سيرة سلف عظام ، عز عليّ أن أراها تعرض بهذه الصورة المشوّه الغير مقصودة ، خاصة وأن تلك الأحداث التي جرت ، إنما وقعت في أفضل عصر عرفته البشرية ألا وهو العصر الذهبي كما يسميه أهل الاختصاص ، عصر الخلافة الراشدة ، راجياً من الله أن تكون خالصة لوجهه الكريم ، كما وأنه سأعتمد في بعض الأحيان على التعليقات التي كتبها الأخ خالد الغيث في رسالته : وقفات هادئة مع أشرطة قصص من التاريخ الإسلامي ، والله من وراء القصد .
الشريط الأول : العهد الزاهر .. نشأة ابن الزبير .
قبل أن أبدأ بالتعليق على ما قاله المحاضر ، أود أن أبين منهج أهل السنة في تناول الأحداث التي وقعت بين الصحابة الكرام ، و موقفهم من تلك الأحداث ، وقد تناولت هذا الموضوع بشكل مفصل في مقالة مستقلة ، ولم أحب أن أعيدها هنا حتى لا يطول بنا المقام و نخرج عن صلب الموضع ، لذا سأحيل القارئ الكريم إلى تلك المقالة ، ليقرأها و يعرف منهج أهل السنة في تناول تلك الأحداث ، والمقالة هي :
(عبد الله بن سبأ الحلـ 9 ــقة )
(1/1)
________________________________________
قال المحاضر وفقه الله : ( و لعل من أوثق المراجع في هذه الفترة ما كتبه الإمام العظيم الطبري رحمه الله ) .
قلت : و هذه المقولة لا يسلم له بها ؛ لماذا ؟ لأن الطبري رحمه الله لم يشترط في تأليفه لكتابه تاريخ الأمم و الملوك الصحة في جميع ما يذكر ، بل جمع الغث و السمين في كتابه كما يقال ، و قد نبه رحمه الله إلى ذلك بقوله ، كما في مقدمة كتابه : و ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرط أني راسمه فيه ، إنما هو على ما روّيت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه و الآثار التي أنا مسندها إلى رواتها ، فإن كانوا ثقاة فاقبل قولهم ، و إن كانوا ضعافاً فرد قولهم ، و العهدة ليست علّي . مقدمة تاريخ الطبري : (1/ 25 ) .
فهو هنا – أي الطبري - يرجعنا إلى الرواة و أنه أخذها منهم ، و أنه لم يتعهد بنقل الصحيح ، و إنما تعهد لك بنقل اسم من حدثه هذه الرواية ، و أنت انظر فيها ، إن كانت صحيحة فاقبلها ، و إن كانت غير ذلك فردها .
فالنقل من المصادر التاريخية دون نقد أو تمحيص آفة كثير من البحوث ، و سببه عدم مراعاة المنهج العملي في التعامل مع النصوص التاريخية . راجع للأهمية مقدمة ابن خلدون (1/6 ) و ما بعدها ، حيث تحدث عن هذه الآفة وبين النتائج التي تترتب على النقل دون تمحيص .
ذكر المحاضر وفقه الله : ( أن الذين يكتبون في الوقت الحاضر يعتمدون على ما يكتبه جرجي زيدان ، وأن جرجي زيدان هذا قد اعتمد على روايات الواقدي الذي حرف و شوه صورة تاريخنا الإسلامي ) .
قلت : ذكر المحاضر للواقدي لا يعني أنه الوحيد الذي شوه و زيف التاريخ الإسلامي ، بل إن هناك عدد من الإخباريين مما عرفوا بالدس و التزييف ، أمثال : أبي مخنف ( لوط بن يحيى ) و محمد بن السائب الكلبي ، و نصر بن مزاحم ، و غيرهم الكثير .
(1/2)
________________________________________
بل إن الواقدي هذا إذا قسناه بما فعله أبي مخنف من تحريف و كذب في تاريخ أمتنا ، لوجدنا البون شاسعاً ، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال عن الواقدي هذا : أما جمهور المصنفين في الأخبار و التواريخ و السير و الفتن من رجال الجرح و التعديل ، منهم من هو في نفسه متهم ، أو غير حافظ كأبي مخنف لوط بن يحيى ، و هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، و إسحاق بن بشر ، و أمثالهم من الكذابين ، بل الواقدي خير من ملء الأرض من مثل هؤلاء ، و قد علم ما قيل فيه . الرد على البكري (ص 1/77 ) .
إذاً فمقولة المحاضر لا يسلم له بها على إطلاقها ، فكان الواجب عليه أن يذكر الأخطر ثم الأخف .
ثم ننتقل بعدها إلى الحديث عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ، فقد أفاض المحاضر وفقه الله في الحديث عن نشأة ابن الزبير ، و جمع الغث والسمين مما ذكر في ترجمته ، و بغض النظر عن ذلك ، فإنه – أي المحاضر – قد أغلظ في الحديث عن الخليفة عبد الملك بن مروان بقوله : ( و كان كما يصفه عدو من أعدائه والذي كان بينه و بينه المعارك الطاحنة ، عبد الملك بن مروان ) .
قلت : متى عرف المسلمون الأوائل الحقد والعداوات حتى يقال إن عبد الملك بن مروان كان عدواً لابن الزبير ؟! فكان من الأفضل للمحاضر أن يستخدم كلمة أخرى أفضل من كلمة ( عدو ) للتعبير بها عن العلاقة التي كانت بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان .
ذكر المحاضر وفقه الله في أثناء حديثه عن ولادة ابن الزبير رواية وإن كانت ضعيفة السند و معضلة ، لكن لها شواهد تتقوى بها ، لكن الذي أود التعليق عليه هو أن المحاضر استخدم بعض المصطلحات التي لا تناسب ، كقوله : ( وأخذوا يسيرون في مظاهرة عجيبة !!!!! ) .
(1/3)
________________________________________
قلت : إن دراسة التاريخ الإسلامي لابد له من فقه خاص به ، مع المراعاة في استخدام الألفاظ والكلمات حتى و لو كان ذلك بهدف النقد العلمي والتاريخي ، لأن بعض هذه الألفاظ تخل بالعدالة . فمتى عرف الصحابة الكرام المظاهرات حتى يسيروا بها في شوارع المدينة ؟!
ننتقل بعد هذا إلى الحديث عن بداية فتنة مقتل عثمان ، حيث ذكر المحاضر وفقه الله في نفس الشريط ، أن الفتنة بدأها عبد الله بن سبأ ، و كان معظم الروايات التي استدل بها و ما سيأتي بعدها عن طريق سيف بن عمر التميمي ، و لا غبار على فعله هذا ، إذ أن أغلب الذين كتبوا عن ابن سبأ حصروا أخباره من طريق سيف بن عمر ، لكن الصحيح أن لابن سبأ هذا ذكر في غيرها من المصادر المتقدمة من أمثال كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر ، و تاريخ الإسلام للذهبي ، و غيرها . راجع للأهمية المقالة التالية :
(عبد الله بن سبأ الحلـ 5 ــقة )
والذي أنتقده على المحاضر أنه لو أشار إلى الروايات التي ذكرت ابن سبأ من غير طريق سيف ، لكان أفضل . فكان هذا الصنيع من المحاضر قصور منه في البحث عن الروايات الأخرى التي ذكرت ابن سبأ .
ثم إن المحاضر وفقه الله أكمل أحداث الفتنة عن طريق نفس الإخباري سيف ، و ذكر ما حدث من أمور في البصرة و ما جرى بين الثائرين و بين عثمان رضي الله عنه وانتهى الشريط الأول عند رحيل الوفد .
و قد تناول الأخ خالد الغيث هذه الأحداث بالنقد في كتابه : استشهاد عثمان و وقعة الجمل ( ص 61-69 ) حيث اتضح عدم صحة معظم ما أورده المحاضر عن تلك الأحداث ؛ لاعتماده على مجرد النقل من روايات ضعيفة .
و لنا لقاء آخر في حلقة أخرى مع الشريط الثاني بإذن الله تعالى .
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
(1/4)
________________________________________
أحبتي في الله انتهينا في الحلقة الماضية من الحديث والتعليق على الشريط الأول من أشرطة الدكتور طارق السويدان : قصص من التاريخ الإسلامي .
واليوم إن شاء الله سأكمل ما بدأت به ، لكن أود أن أنبه إلى أمر مهم ، و هو أن الكلام والتعليق والنقد الذي أقوم به ، لا ينصب على المحاضر نفسه ، و لم أقصد تجريحه ، وإنما هو مجرد نقد للأشرطة لا غير ، فلا يظن ظان أنه جاء الدور على الدكتور طارق سويدان كما قاله البعض .
و لو كنت أود تجريح المحاضر وفقه الله ، لكنت قد توقفت على كل كلمة قالها في الشريط الأول ، و لحملتها أكثر مما تحتمل من معنى – كما يفعل البعض - ، بل قد تجاوزت عن الكثير مما ذكر في ترجمة ابن الزبير و أثناء طرحه لموضوع بداية الأحداث التي أدت إلى مقتل عثمان رضي الله عنه ، و لم أتناولها بالنقد ، مكتفياً بالتعليق على بعض الأمور ، حتى نصل إلى أصل الموضوع و هو الذي زل فيه المحاضر و تناوله بصورة غير صحيحة ، ألا و هو أحداث الفتنة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه . فقط للعلم والله الموفق .
الشريط الثاني : مقتل عثمان رضي الله عنه ..
تحدث المحاضر وفقه الله في هذا الشريط عن دور ابن سبأ في إذكاء نار الفتنة بين صفوف المسلمين ، و كان جملة ما أورده من روايات ، من طريق سيف بن عمر ، حيث يقول : ( يقول سيف بن عمر الضبي الذي أرّخ لهذه المسألة تأريخاً وثيقاً .. ) .
(1/5)
________________________________________
قلت : وسيف بن عمر هذا الذي يقول عنه المحاضر أنه أرخ للأحداث تأريخاً وثيقاً ، كلام فيه نظر ، و يمكن أن يعرف ذلك من خلال معرفة منهج سيف في تناوله لأحداث الفتنة ، قد فصلت القول فيه و في مروياته في مقال مستقل ، و كان خلاصة ما خرجت به : أن مروياته في الفتنة لا تؤخذ كلها على علاتها ، بل تدقق و تنقح و يؤخذ ما يجد له ما يعضده و يؤيده من روايات أخرى ، فإن لم نجد ما يعضدها ، ينظر فيها ، فإن كانت تسير و تتفق مع سيرة الصحب الكرام ، قبلت استئناساً ، وإن كانت خلاف ذلك ، ردت ، ومعظم مروياته ضعيفة ، انظر : http://www.alkahf.net/html/Forum3/HTML/000094.html .
ذكر المحاضر وفقه الله ضمن حديثه عن مسير أهل الفتنة نحو المدينة ، أنهم – أي أهل الفتنة - عند وصولهم إلى أطراف المدينة : ( أرسلوا أحدهم يستطلع لهم الأمر هل أهل المدينة أيضاً عندهم نقمة على عثمان .. ثم ذكر المحاضر : أن بعض الصحابة عندهم ملاحظات على عثمان مثل ملاحظات هؤلاء ، و لكن ليست في أمر الدين وإنما بعض الملاحظات في طريقة الحكم ، و من الذين كانوا عندهم ملاحظات شديدة على عثمان ، عمار بن ياسر رضي الله عنه ) .
قلت : لم أجد في هذا الموضوع بعد طول بحث في المصادر والمراجع إلا روايات تاريخية تحمل في طياتها غثاً و سميناً ، قد خطم بعضها بأسانيد ، وأخرى لا خطام لها ولا زمام ، ولم أجد من أغنى فيها بحثاً إلا لماماً ، و موضوع كهذا لا يمكن الاعتماد على روايات تسرح في أعراض الصحابة كما تشاء و تمرح ، و عليه فلا مكان في مثل هذا الموضوع إلا للروايات الصحيحة .
(1/6)
________________________________________
بل إن الثابت تاريخياً أن عمار رضي الله عنه كان قد وقف ضد أهل الفتنة في منعهم الماء عن عثمان ، فقد أخرج المحب الطبري في الرياض النضرة ( 3/84) رواية عن أبي الزناد عن أبي هريرة : أن عثمان لما حوصر ومُنع الماء ، قال لهم عمار – أي قال لأهل الفتنة - : سبحان الله قد اشترى بئر رومة ، و تمنعونه ماءها ، خلو سبيل الماء ، ثم جاء إلى علي و سأله إنفاذ الماء إليه ، فأمر براوية الماء . وقال المحب الطبري معلقاً : و هذا يدل على رضائه عنه – أي رضا عمار عن عثمان رضي الله عهما - .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد سرده لبعض الأحداث التي جرت من رجوع أهل الفتنة مرة أخرى إلى المدينة و تطويقها ، و طلبهم من عثمان أن يخلع نفسه ، وأن عثمان استشار كبار الصحابة في هذا الأمر فقال المحاضر : ( عندها عثمان رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم ، ما تقولون إذا كان الرأي عندكم هو أن أترك الخلافة و تخمد الفتنة أتركها ، فجميع الصحابة ، علي و طلحة و ... أجمعوا على عدم تركه للخلافة ، و قال ابن عباس قولته المشهورة : يا أمير المؤمنين لاتنزع قميصاً قمصك الله إياه ، أو كلما غضب قوم على خليفتهم عزلوه .. ) .
قلت : الثابت أن الذي قال تلك المقولة هو ابن عمر حيث كان المغيرة بن الأخنس قد أشار على عثمان بخلع نفسه ، فرد ابن عمر عليه بقولته تلك ، و نصحه بأن لا يخلع نفسه و قال له : فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصكه الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو أميرهم قتلوه . طبقات ابن سعد (3/66) بإسناد صحيح و رجاله رجال الشيخين ، و تاريخ خليفة (ص170) بإسناد حسن .
(1/7)
________________________________________
ذكر المحاضر وفقه الله : ( أن عثمان رضي الله عنه لما رأى أن أهل المدينة لا يقدرون على فعل شيء والمدينة بيد أهل الفتنة ، كَتَبَ كُتُباً سرية وأرسلها مع الرسل بالسر إلى الأمصار .. إلى أن قال : فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق .. وأول من تحرك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فبعث جيشاً سريعاً .. ) .
قلت : هذا الخبر لا يصح منه شيء ، لأن منهج عثمان رضي الله عنه كان الصبر و الكف عن القتال امتثالاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، لهذا وضع مصلحة الرعية في المقام الأول ، فعندما عرض عليه معاوية أن يبعث إليه بجيش يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياه قال رضي الله عنه : أنا لا أقتر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند يساكنهم ، و أضيّق على أهل الهجرة و النصرة ، فقال له معاوية : والله يا أمير المؤمنين لتغتالنّ أو لتغزينّ . فقال عثمان : حسبي الله ونعم الوكيل . الطبري (4/345) .
ذكر المحاضر وفقه الله ، بعد أن سرد أحداثاً كثيرة جميعها من طريق سيف بن عمر - وأغلبها ضيف - ذكر محاولة أهل الفتنة قتل عثمان رضي الله عنه ، حيث قال : ( ثم كان آخر من دخل عليه محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فدخل عليه ، وأول ما رآه عثمان قال : ويلك أعلى الله تغضب ، هل لي إليك جرم أخذت حق الله منك فتغضب ، فلما واجهه عثمان بهذا تراجع محمد بن أبي بكر و خرج .. ) .
(1/8)
________________________________________
قلت : كلام المحاضر هذا فيه الصحيح والسقيم ، فمسألة اشتراك محمد بن أبي بكر في الفتنة ضد عثمان ، و اتهامه بقتله رضي الله عنه . فهذا قد اضطربت الروايات فيه ، ولم يثبت . نعم هناك روايات تقول إنه كان معهم ؛ لكن هذه الروايات ليس لها سند صحيح، و أصح ما قيل في هذه المسألة ما ثبت عن الحسن البصري رحمه الله و هو شاهد عيان كان عمره وقتها أربع عشرة سنة ، عندما سُئل أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين و الأنصار ؟ فقال : لا كانوا أعلاجاً من أهل مصر . تاريخ خليفة (ص 176) بسند صحيح .
و قد فصلت القول في هذه المسألة في مقال مستقل حول براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان رضي الله عنه ، انظر : http://209.39.13.51:81/sahat?13@50.HYCba7bKgh4^5@.ee77e5d .
ذكر الحاضر بعد أن سرد أحداث مقتل عثمان رضي الله عنه من طريق سيف بن عمر ، أن مروان بن الحكم هو الذي صلى عليه ، فقال : ( فخرج معهم الصبيان والنساء ولم يسمحوا لأهل المدينة أن يخرجوا في دفنه ، فصلى عليه مروان بن الحكم و كان أقربهم إليه نسباً ) .
قلت : إن الثابت تاريخياً أن مروان بن الحكم و غيره من الصحابة أخرجوا من دار عثمان محمولين لما أصابهما من الجراح يوم الدار ، فقد أخرج ابن عبد البر عن كنانة مولى صفية بنت حيي بن أخطب قال : شهدت مقتل عثمان ، فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش ملطخين بالدم محمولين ، كانوا يدرؤون عن عثمان رضي الله عنه : الحسن بن علي ، و عبد الله بن الزبير ، و محمد بن حاطب ، و مروان بن الحكم . الاستيعاب لابن عبد البر (3/1387) ، و التاريخ الكبير للبخاري (7/237) . و هذا يجعل اشتراكه في الصلاة على عثمان أمراً مشكوكاً فيه .
كما وأن المحاضر ذكر أن عُمْر عثمان رضي الله عنه يوم مقتله كان : ( ثلاث و ثمانين سنة ) .
(1/9)
________________________________________
قلت : بل إن الصحيح في هذا الأمر هو ما حكاه الذهبي في تاريخ الإسلام (ص481 ) : أنه قتل و هو ابن اثنتين و ثمانين سنة و هو الصحيح .
و لنا لقاء آخر بإذن الله تعالى مع الشريط الثالث .
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط الثاني ، و كان هو عبارة عن مفتاح الموضوع الذي نحنن بصدد التعليق عليه ، ألا و هو الأحداث التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه ، و هنا مكمن الخطر و الأرض الزلقة التي زل فيها الكثير إلا من رحم ، فسبحان الله .
الشريط الثالث : توسع الفتنة وانتشارها ..
ذكر المحاضر وفقه الله بعد أن سرد بعض الأحداث التي تلت مقتل عثمان من محاولة الثوار السعي و الضغط على طلحة والزبيرو علي لقبول البيعة ، و أن الرفض جاء من الجميع ، فقال : ( و ظلت المحاولات خمسة أيام .. و ذكر طلب الثوار من أهل المدينة أن يبايعوا أحداً وإلا قتلوا علي و طلحة الزبير .. الخ ) .
قلت : وهذا الخبر من مبالغات الإخباريين ، حيث أن الثابت تاريخياً أن بيعة علي رضي الله عنه كانت في نفس اليوم الذي قتل فيه عثمان رضي الله عنه ، و دليله ما ذكره ابن سعد في طبقاته أن بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة كانت يوم الجمعة سنة خمس و ثلاثين و ذكر من جملة الصحابة الذين بايعوا طلحة و الزبير و جمع من الصحابة ممن كان في المدينة . الطبقات ( 3/31 ) .
ذكر المسعودي أن علياً بويع في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه يعني البيعة الخاصة ، ثم قال إنه بويع البيعة العامة بعد مقتل عثمان بأربعة أيام . مروج الذهب للمسعودي (ص358) .
(1/10)
________________________________________
قال المحاضر وفقه الله : ( أن طلحة والزبير رفضا بيعة علي إلا بأخذ الثأر من قتلة عثمان ، وأن أهل الفتنة أجبروهم على البيعة و ذكر الطريقة التي أحضروا فيها إلى المسجد من أجل البيعة كرهاً .. قال طلحة إنما أبايع كرهاً .. فقدم يده ليبايع و كانت يده مشلولة فقال أحد الجلوس : أول يد تبايع يد شلاء هذا أمر لا يتم .. الخ ) .
قلت : إن الصحيح الثابت في بيعة علي رضي الله عنه ما قاله محمد بن الحنفية : كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه فقام فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن هذا الرجل قد قتل و لا بد للناس من إمام و لا نجد اليوم أحد أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة و لا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا تفعلوا ، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا : لا والله ! ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإنَّ بيعتي لا تكون خفياً و لا تكون إلا عن رضا المسلمين ، قال سالم بن أبي الجعد : فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يُشغب عليه ، و أبى هو إلا المسجد ، فلما دخل المهاجرون و الأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس .
و هناك رواية ثانية عن أبي بشير العابدي يقول فيها : إن المهاجرين و الأنصار و فيهم طلحة و الزبير أتوا علياً فقالوا له : إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، و قد طال الأمر . فقال لهم : إنكم اختلفتم إليَّ و أتيتم و إني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، و إلا فلا حاجة لي فيه . فقالوا : ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله . فبايعوه في المسجد .
(1/11)
________________________________________
و رواية ثالثة أخرى تفيد أن طلحة و الزبير قالا : يا علي ابسط يدك ، فبايعه طلحة و الزبير و هذا بعد مقتل عثمان لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة – و المقصود من هذه البيعة هي البيعة العامة ، لأن عثمان رضي الله عنه قتل يوم الثاني عشر من ذي الحجة ، و كانت بيعة علي في نفس اليوم الذي قتل فيه عثمان - .
و هناك رواية رابعة أخرى عن عوف بن أبي جميلة العبدي قال : أمّا أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول : إن علياً جاء فقال لطلحة : ابسط يدك يا طلحة لأبايعك فقال طلحة : أنت أحق و أنت أمير المؤمنين فابسط يدك فبسط عليّ يده فبايعه . كلها عند الطبري في تاريخه ( 4/427-428) و (4/434) . و كذلك في فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/573) .
و ذكر اليعقوبي في تاريخه : أن طلحة و الزبير بايعا علياً وكان أول من بايعه و صفق على يده يد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه . تاريخ اليعقوبي (1/178) .
يقول الحافظ الذهبي في شأن البيعة : لما قتل عثمان سعى الناس إلى علي و قالوا : لابد للناس من إمام فحضر طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و الأعيان ، و كان أول من بايعه طلحة ثم سائر الناس. دول الإسلام للذهبي (1/28 ) .
و أما الروايات المخالفة التي نقلها الإمام الطبري فمنها من يقول بأن طلحة و الزبير بايعا كرها ، حيث روى من طريق الزهري قال : بايع الناس علي ابن أبي طالب فأرسل إلى الزبير و طلحة فدعاهما إلى البيعة فتلكّأ طلحة فقام الأشتر و سل سيفه و قال : والله لتبايعن أو لأضربن بهما بين عينيك فقال طلحة : و أين المهرب عنه ! فبايعه و بايعه الزبير و الناس . و هناك روايات أخرى تبين أنهما بايعا و السيف فوق عنقيهما . تاريخ الطبري (4/429) و (4/431) و (4/435) . فهذه الروايات كلها لا تصح لأنها من روايات الواقدي و أبي مخنف الكذاب .
(1/12)
________________________________________
قلت أيضاً : إن قيام المحاضر وفقه الله بنقل تلك الروايات من كتاب البداية النهاية لابن كثير جعله يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه غيره ممن تحدث في هذه الأمور ، و قيام المحاضر نفسه بالتحذير من الواقدي ، و من مروياته ، حيث إن ابن كثير رحمه الله قد اعتمد على كتاب تاريخ الطبري خاصة في أحداث تلك الفترة ، فاختار أتم الروايات في الموضوع دون الاعتماد على الصحيح ، مع حذف أسانيدها ، وهذا باعترافه هو ، فلو أن المحاضر وفقه الله رجع إلى تاريخ الطبري لاستطاع أن يعرف أن هذه الرواية و غيرها مروية من طريق الواقدي و الأخرى من طريق أبي مخنف ، الذي اعتمد عليه المحاضر في أحداث معركة صفين و ما تلاها من أحداث حتى مقتل الحسين .
والشيء بالشيء يذكر فإنه قد ورد اعتراض من أحد الإخوة ، قائلاً لماذا لا يتم التحذير من كتاب البداية النهاية لابن كثير .. الخ ما ذكر .
قلت : إن الإنسان الذي لا يستطيع أن يميز بين الغث والسمين ، و بين الصحيح والسقيم ، فلا يقرب من هذه الكتب بل عليه بالكتب المختصرة التي بينت بعض الصحيح و تناولت تلك الأحداث بشيء من الحيادية و الموضوعية ، لكن طالب العلم المتخصص والقادر على دراسة الأسانيد والمتون و تمييزها من الأصيل والدخيل ، فيكون واجب عليه أن يقرأ في تلك الكتب و ينقحها بقدر المستطاع حتى يخرج لنا بتلك الصورة الصحيحة النقية الناصعة عن تاريخ أمتنا الإسلامية .
(1/13)
________________________________________
و قد ظهرت بعض الدراسات التي تناولت هذه الأمور ، مثل : كتاب : مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري للدكتور يحيى بن إبراهيم اليحيى ، و كتاب استشهاد عثمان و وقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر للدكتور : خالد الغيث ، وهناك رسالة بعنوان : مرويات ابن إسحاق في تاريخ الطبري لم تطبع بعد ، كما وأن هناك كتاب نفيس غاية في الأهمية بعنوان : أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري للدكتور محمد نور ولي ، وإنك لتصعق حين ترى الكم الهائل من الروايات المزيفة والموضوعة التي دسها الرافضة في تاريخنا الإسلامي .
نعود إلى إيراد الحقيقة حول ما ذكره المحاضر وفقه الله عن بيعة علي رضي الله عنه .
يقول ابن العربي عنها – أي عن طريقة بيعة طلحة لعلي كما تصورها الروايات الضعيفة - : فإن قال طلحة : بايعته و اللج على عنقي ، قلنا اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في القفا لغة قفي ، كما يجعل في الهوى هوي ، و تلك لغة هذيل لا قريش فكانت كذبة لم تدبر. العواصم من القواصم (ص148) .
و قول من قال : بايع علياً يد شلاّء – أي يد طلحة - والله لا يتم هذا الأمر . قال ابن العربي عن ذلك : و أما من قال يد شلاء و أمر لا يتم ، فإن يداً شلت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر و يتوقى بها من كل مكروه . و قد تم الأمر على وجهه ، و نفذ القدر بعد ذلك على حكمه و جهلَ المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه . نفس المصدر (ص148-149) .
قال المحاضر وفقه الله : ( وتتابع الناس بالمبايعة ولم يبايع إلا نفر قليل لم يبايعوا .. – ثم ذكر خطبة علي و قال بعدها : بايع كل الناس إلا مجموعة من الصحابة اعتزلوا و تخلفوا ، على رأسهم سعد بن أبي وقاص و عبد الله عمر .. الخ ) .
(1/14)
________________________________________
قلت : و في رواية الطبري عن محمد بن الحنفية قال : بايعت الأنصار علياً إلا نفير يسير . تاريخ الطبري (4/429) . و هم سعد بن أبي وقاص و ابن عمر و أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة و غيرهم ، قلت : هذا غير صحيح فإن حضورهم لعلي و اعتذارهم عن الوقوف معه في حرب أهل الشام أو فيما يدور بينه وبين المسلمين من القتال في العراق ، لدليل واضح على أن في أعناقهم بيعة تلزمهم بطاعته حين اعتذروا ، و لو كان الأمر خلاف ذلك لتركوه يخرج دون أن يذهبوا إليه و يعتذروا له ، فهم حينئذ غير ملزمين بطاعته .
و يبرر الباقلاني موقف الصحابة الذين تأخروا عن نصرة علي فيقول في هذا الصدد : فإن قال قائل : فإن
كانت إمامة علي من الصحة و الثبوت بحيث وصفتم ، فما تقولون في تأخر سعد و ابن عمر و ابن مسلمة
و أسامة و غيرهم عن نصرته و الدخول في طاعته ؟ قيل له : ليس في جميع القاعدين ممن أسمينا أو ضربنا عن ذكره من طعن في إمامته و اعتقد فسادها ، و إنما قعدوا عن نصرته على حرب المسلمين لتخوفهم من ذلك و تجنب الإثم فيه . انظر هذا الخبر في :التمهيد في الرد على الملحدة (ص233-234) .
و يذكر ابن العربي : أن قوماً قالوا تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد و ابن مسلمة و ابن عمر
و أسامة ، فيرد عليهم بقوله : قلنا أما بيعته فلم يتخلف عنها ، و أما نصرته فتخلف عنها قوم ؛ منهم من ذكرتم ؛ لأنها كانت مسألة اجتهادية فاجتهد كل واحد و أعمل نظره و أصاب قدره . العواصم من القواصم (ص 150) .
و خلاصة القول لئن كانت بعض الروايات تستثني من البيعة بعض الصحابة فإن ذلك لا يقدح في خلافة علي رضي الله عنه .
ذكر المحاضر وفقه الله أن كبار الصحابة ( الذين لم يبايعوا ومن الذين بايعوا مكرهين .. ذهبوا إلى علي رضي الله عنه .. فقالوا : إنا قد اشترطنا إقامة الحدود .. الخ ) .
(1/15)
________________________________________
قتلت : هذا الخبر على الرغم من ضعف سنده ، فإن في متنه مقالاً ، و في ذلك يقول ابن العربي : فإن قيل بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان ، قلنا : هذا لا يصح في شرط البيعة . العواصم من القواصم (ص 150) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن طلحة الزبير طلبا من علي أن يسمح لهم بالاستعانة بقوة من خارج المدينة من أجل أخذ الثأر من القتلة .
قتلت : و هذا الخبر لا يصح منه شيء ؛ لأن طلحة والزبير رضي الله عنهما كانا حريصين على إصلاح ذات البين وإطفاء الفتنة ومنع إراقة المزيد من دماء المسلمين .
ذكر المحاضر وفقه الله ، ( أن علي رضي الله عنه بدأ بتغيير الولاة الذي كان قد ولاهم عثمان على الأمصار ، وأن ابن عباس رض الله عنهما قد اعترض عليه و نصحه بعدم فعل ذلك ، وأن علي أصر على تنفيذ هذا القرار ، فكانت هذه أكبر غلطة اتخذها علي كما يقول ذلك أهل السير و المؤرخين ) .
قلت : إن علياً رضي الله عنه إمام مجتهد له أن يعزل عمال عثمان إذا رأى المصلحة في ذلك ، و قد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو المعصوم خالد بن سعيد بن أبي العاص على صنعاء و عمرو بن العاص على عمان ، فعزلهما الصديق من بعده ، و ولى الصديق خالد بن الوليد و المثنى بن حارثة ، فعزلهما الفاروق من بعده ، و ولى الفاروق عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فعزلهما عثمان من بعده . تاريخ خليفة (ص97،102،122-123،155،178) و تاريخ الطبري (3/343) (4/241) .
و هكذا فعل علي لما رأى المصلحة في ذلك ؛ فهل ينتقد عاقل الصديق و الفاروق و ذا النورين في عزلهم هؤلاء العمال الأكفاء ! .
أما القول بأنه عزل جميع عمال عثمان ، هذا غير صحيح فالعزل لم يتحقق إلا في معاوية في الشام و خالد بن أبي العاص في مكة ، و أبي موسى الأشعري في الكوفة ، على أنه أقره بعد ذلك . تاريخ الطبري (4/442) و تاريخ خليفة (ص201) .
(1/16)
________________________________________
و أما البصرة فإن واليها خرج من نفسه ، و في اليمن أخذ أميرها يعلي بن مُنية – ذكر المحاضر أن اسمه يعلي بن أمية و هذا وهم - مال جباية اليمن و قدم مكة بعد مقتل عثمان و انضم إلى طلحة و الزبير و حضر معهم موقعة الجمل ، و ابن أبي السرح خرج إلى فلسطين و مكث هناك حتى مات بعد أن تغلب ابن أبي حذيفة على مصر . تاريخ الطبري (4/421) و (4/450) .
و هكذا فإن أميري اليمن و البصرة عزلا أنفسهما و أمير مصر عزله المتغلب عليها و أمير الكوفة أقره على منصبه فلم يرد العزل إلا في حق معاوية والي الشام و خالد والي مكة .
و أما القول بأنه عزلهم قبل أن تأتيه بيعة أهل الأمصار ، قلت : إن تولية الإمام للعمال على الأمصار غير مشروط بوصول بيعة أهلها له ، فمتى بايع أهل الحل و العقد ، لزمت بيعته جميع البلدان النائية عن مركز الخلافة ، و لو كانت تولية الخليفة العمال على الأمصار متوقفة على وصول بيعة أهلها له ما تمت بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، لأنه تصرف بإرسال جيش أسامة و محاربة المرتدين قبل وصول بيعة أهل مكة و الطائف و غيرها من البلاد ، و كذلك فعل الفاروق و ذي النورين فإنهما تصرفا في أمور المسلمين أيضاً قبل وصول بيعة الأمصار إليهما .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك سلسلة من الروايات من طريق سيف بن عمر ، و معظمها ضعيف ، و كان من بين ما ذكر المحاضر أن معاوية رفض البيعة لعلي ، وأنه أرسل رسالة بيد شخصين .. الخ ، ثم قال : فعرف الناس أن معاوية يرفض البيعة لأنه ختم عليها بختمه .. ومعناها أن معاوية لا يقر بالخلافة لعلي ) .
قلت : و هذا الخبر لا يصح منه شيء ، فمعاوية رضي الله عنه يقر بفضل علي ، وأحقيته بالخلافة ، و حقيقة الأمر أن معاوية كان عاتباً على علي بسبب تأجيله إقامة الحدود على قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، و لكن هذا العتب لم يدفع معاوية إلى الانتقاص من علي بل على العكس فقد كان يصرح لمن حوله بأن علياً أفضل منه .
(1/17)
________________________________________
وهو ما أخرجه يحيى بن سليمان الجحفي بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية : أنت تنازع علياً ، أم أنت مثله ؟ فقال : لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني ، و لكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ، وأنا ابن عمه ، والطالب بدمه فأتوه ، فقولوا له : يدفع إلىّ قتلة عثمان ، وأسلم له ، فأتوا علياً فكلموه ، فلم يدفعهم إليه .. ) . سير أعلام النبلاء للذهبي (3/140) ، الفتح (13/92) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن طلحة والزبير رضي الله عنهما قد خرجا إلى الشام .
قلت : بل الثابت أن طلحة الزبير رضي الله عنهما استأذنا علياً في العمرة فأذن لهما ، و في مكة التقيا بأم المؤمنين عائشة .
ذكر المحاضر وفقه الله رواية من طريق سيف بن عمر أن عبد الله بن عمر استأذن أم كلثوم بنت علي برغبته في الذهاب إلى مكة .. ثم ساق خبراً طويلاً يبين خوف علي من قيام ابن عمر من الذهاب إلى الشام وأنه أرسل من يبحث عنه و يرده .. الخ ) .
قلت : و هذا خبر فيه تحريف و كذب ؛ إذ أن حقيقة الأمر هي ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى ابن عمر قال : ( لما بويع لعلي أتاني فقال : إنك امرؤ محبب في أهل الشام ، فإني قد استعملتك فسر إليهم ، قال : فذكرت القرابة و ذكرت الصهر ، فقلت : أما بعد فوالله لا أبايعك – أي على قبول ولاية الشام ؛ لأن مدار الرواية على ذلك - ، قال فتركني و خرج .. ) المصنف (7/472) . و مما سبق يلاحظ أن تهجم علي بن أبي طالب على عبدا لله بن عمر يعد من الأخبار المكذوبة على الصحابة رضوان الله عليهم .
ثم ذكر المحاضر وفقه الله بعض الأحداث المتعلقة بخروج طلحة والزبيرو عائشة إلى البصرة و جميع هذه الأخبار من طريق سيف بن عمر ، و جل ما ذكر المحاضر إما ضعيف وإما ليس له ما يعضده .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد تلك الأحداث ما يلي : ( قدم يعلي بن أمية بأموال اليمن .. فكان عوناً لهم في التجهز والخروج لقتال قتلة عثمان .. الخ ) .
(1/18)
________________________________________
قلت : إن السبب الحقيقي لخروج جيش مكة إلى البصرة ليس من أجل الحرب ، بل من أجل الإصلاح بين الناس حين اضطرب أمرهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، و ليس من أجل المطالبة بدم عثمان ، و دليل ذلك حديث الحوأب ، ففي أثناء الطريق إلى البصرة مر الجيش على منطقة يقال لها الحوأب ، فنبحت كلابها فلما سمعت عائشة هذا النباح ، طرأ عليها حديثاً فقالت ما هذه المنطقة ؟ قالوا هذه الحوأب ، فتذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث روى أحمد و ابن حبان و الحاكم عن قيس بن حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب ، فقالت : ما أظنني إلا راجعة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : أيتكن تنبح عليها كلاب الحواب . فقال لها الزبير : ترجعين ؟! – أي لا ترجعي لأنهم يحترمونك – عسى الله أن يصلح بك بين الناس . هذا لفظ شعبة ، أما لفظ يحيى فقال : لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً ، فنبحت الكلاب فقالت : أي ماء هذا ؟ قالوا : ماء الحوأب ، قالت : ما أظنني إلا راجعة فقال بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم . قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ذات يوم : كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب . السلسلة الصحيحة (1/846) .
و قد تخطى المحاضر وفقه الله هذا الحديث ولم يتطرق له لا من قريب ولا من بعيد ، لأنه أخذ بروايات سيف بن عمر التي تبين أن أصحاب الجمل خرجوا من أجل الحرب لا من أجل الإصلاح . و لو تطرق إليه لوقع في التناقض .
و انتهى الشريط بأن قرر علي رضي الله عنه التوجه نحو الكوفة بدلاً من البصرة لأن عدد جيشه أقل من جيش مكة .
ولنا لقاء آخر مع الشريط الرابع بإذن الله تعالى .
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
(1/19)
________________________________________
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط الثالث ، و اتضح لنا أن جل ما استند إليه المحاضر وفقه الله من روايات و إما ضعيفة إما ليس لها ما يعضدها ، واليوم إن شاء الله نكمل المشوار .
الشريط الرابع : أحداث البصرة و ما شملته من مواقف ..
ذكر المحاضر وفقه الله عدداً من الروايات من طريق سيف بن عمر تتحدث عن الأحداث التي جرت في البصرة ، من مراسلات و اتفاقات و حروب بين حكيم بن جبلة و جيش مكة إلى غيرها من أمور .
قلت : - رحمك الله - إن اتهام أصحاب الجمل بأنهم ما خرجوا إلى البصرة إلا للمطالبة بدم عثمان ، وأنهم لم يبايعوا علياً إلا مكرهين ، فهذه الاتهامات الموجهة لأصحاب الجمل لم يصح منها شيء ، و قد سبق الرد عليها في حلقة ماضية .
تحدث المحاضر وفقه الله أن أصحاب الجمل بعد أن استولوا على البصرة قاموا بإرسال الرسل إلى الأمصار يحثونهم على الاقتداء بهم .
قلت : - رحمك الله - و هذا الخبر غير صحيح ؛ لأن أصحاب الجمل رضوان الله عليهم أجمعين قد خرجوا للإصلاح بين الناس كما هو مبين بالروايات الصحيحة في حلقة مضت ، و ليس لإشعال الفتنة وإراقة دماء المسلمين .
ذكر المحاضر وفقه الله أن الوفد الذي ذهب إلى دار عثمان بن حنيف ، قاموا بضربه و نتف شعر لحيته .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله - و هذا الخبر ضعيف جداً مروي من طريق أبي مخنف الكذاب ، ولم يروى من طريق صحيح يعوّل عليه ، والصحابة الكرام رضوان الله عليهم يُنزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة .
و قد نص الفقهاء على أنه لا يجوز التعذيب بما هو محرم شرعاً ، و هذه القاعدة تجدها أيها القارئ الكريم في أي من الكتب الفقهية باب الحدود والتعزيرات .
فكيف يقدم الصحابة رضوان الله عليهم على فعل ما هو محرم ؟!!
ذكر المحاضر وفقه الله أن علياً رضي الله عنه خرج من المدينة في إثر أصحاب الجمل ، وأنه أراد أن يلحق بهم .
(1/20)
________________________________________
قلت : - رحمك الله - هذا الأمر لم يحدث بل الصحيح أنه خرج من المدينة عاقداً العزم على التوجه إلى الكوفة ليكون قريباً من أهل الشام ، و لم يخرج في أعقاب أصحاب الجمل .
وانتهى الشريط الرابع بالاتفاق على الصلح بين جيش علي و أصحاب الجمل بفضل سفارة القعقاع بن عمرو المباركة ، وبالجملة فإن مادة هذا الشريط ضعيفة جداً لا تصلح و ليس لها ما يعضدها من روايات سوى بعض الروايات التي ذَكَرَتْ اعتزال أبو موسى الأشعري للقتال ، و عن قيام الحسن وعمار بن ياسر بطلب المساعدة من أهل الكوفة ، هذا فقط وإلا فالباقي لا يصلح لأن يستشهد به فضلاً عن جعله مادة للرواية و موضوعاً يصف أحداثاً وقعت في تلك الفترة العزيزة على قلوبنا .
و كنت قد كتبت مقالاً منذ فترة تحدثت فيه عن الصورة التقريبية لتلك الأحداث – أحداث البصرة - في ضوء الروايات الصحيحة ، انظر : (عبد الله بن سبأ الحلـ 11 ــقة )
والله الموفق ، و لنا لقاء آخر في حلقة أخرى بإذن الله تعالى ..
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط الرابع و اتضح عدم صلاحية مادته لأن تكون عنواناً لمحاضرة أو درس ، أو حتى من أجل أن يستخلص منها الدروس والعبر ؛ و ذلك لضعف مروياتها ، واليوم إن شاء الله نكمل ما بدأناه .
الشريط الخامس : موقعة الجمل – آراء الصحابة ..
ذكر المحاضر وفقه الله عدداً من الروايات التي تحدثت عن أحداث معركة الجمل من طريق سيف بن عمر ، و جل هذه الروايات ضعيف لا يستند إلى دليل ، فقد ذكر المحاضر أنه بعد أن اشتبك القتال أرسل علي إلى كبار قادة جيش الجمل .. فقال علي لطلحة : لعمري لقد أعدتما سلاحاً و رجالاً .. فقال طلحة ألبت علينا بعد أن ألبتم على عثمان .. الخ .
(1/21)
________________________________________
قلت : - رحمك الله – هذه الرواية ضعيفة لا يصلح الاستدلال بها فهي تعارض ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم ، كما وأنها تخالف الروايات الصحيحة التي تنص على أن أصحاب الجمل ما خرجوا إلا للإصلاح ، فكيف ينسجم هذا الفعل منهم مع الهدف الذي خرجوا من مكة إلى البصرة من أجله ؛ ألا وهو للإصلاح بين الناس ؟!! و تعارض ما ثبت من براءة الصحابة و بالأخص علي من دم عثمان رضي الله عنهما .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن وصول رسول علي إلى عبد الله بن الزبير ، و دار بينهم حديث انتهى إلى أن مضى ابن الزبير رافضاً الصلح .. الخ .
قلت : - رحمك الله – هذا الفعل من ابن الزبير يرده ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم ، و لما ثبت من أن قدوم أصحاب الجمل من أجل الإصلاح لا من أجل الأخذ بالثأر من قتلة عثمان .
و روى ابن عساكر وابن كثير أن الزبير رضي الله عنه لما عزم عل الرجوع إلى المدينة عرض له ابنه عبد الله فقال : مالك ؟ قال : ذكرّني علي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم و إني راجع ، فقال له ابنه : و هل جئت للقتال ؟ إنما جئت تصلح بين الناس ، و يصلح الله هذا الأمر . تاريخ دمشق (18/410) و البداية و النهاية (7/242) . و هذا يرد على تلك المزاعم .
ذكر المحاضر وفقه الله أن الزبير رضي الله عنه عندما رجع اعترضه ولده عبد الله و دار بينهما هذا حوار ( .. يا أبتي جمعت الناس وتفر ؟ فقال : إليك عني .. هنا أدرك عبد الله أن والده سيفر !! فقال له : لعلك أخافتك سيوف بني عبد المطلب .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله – هذه الرواية فيها افتراء كبير على الزبير و على ولده رضي الله عنهما ، و هذا الفعل منهما يخالف ما ثبت من عدالتهما ، و هذا الحوار فيه نعرة جاهلية ، والصحابة الكرام منزهون عن هذه الأفعال .
(1/22)
________________________________________
ثم ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدداً من الروايات الضعيفة في أحادث المعركة جلها من طريق سيف بن عمر و أبي مخنف الكذاب ، و تحدثت عن بطولة عبد الله ابن الزبير و قتاله مع الأشتر النخعي .
قلت – رحمك الله - هذه الرواية ضعيفة ، والصحيح أن الذي تقاتل مع الأشتر و قال : اقتلوني و مالكاً هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد كما قال الطبري (4/520) و ابن أبي شيبة (15/228) .
ذكر المحاضر بعد ذلك أحداثاً كثيرة تصف إصرار ابن الزبير و علي رضي الله عنهما على القتال إلى غيرها من الأمور .
قلت : - رحمك الله – هذا الفعل من الاثنين يعارضه ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم .
ذكر المحاضر وفقه الله أنه بعد أن توقف القتال قام محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر بأمر من علي رضي الله عنهم أجمعين بالرحيل بعائشة إلى البصرة ، فكانت في دار عبد الله بن خلف .. الخ .
قلت : - رحمك الله – الثابت أن عائشة رضي الله عنها نزلت في دار عبد الله بن بديل ، و هو أصح ما جاء في هذا الموضوع .
فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح أن عبد الله بن بديل قال لعائشة : يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلت ما تأمريني ، فقلت الزم علياً ؟ فسكتت فقال : اعقروا الجمل فعقروه قال : فنزلت أنا و أخوها محمد و احتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي علي ، فأمر به علي فأدخل في بيت عبد الله بن بديل . المصنف (15/285) و أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن المعركة كانت في خمسة جمادى الآخرة سنة ستة و ثلاثين هجرية .
قلت – رحمك الله – الثابت الصحيح في هذه المسألة ما أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه ( ص 184، 185 ) أن الفريقين التقيا يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ستة وثلاثين ، و كانت الوقعة يوم الجمعة . و هذا الإسناد أصح ما ورد في تحديد تاريخ هذه الوقعة .
(1/23)
________________________________________
ذكر المحاضر وفقه الله في ( شريط الرابع : أحداث البصرة ) : ( أن عدد جيش أصحاب الجمل ثلاثون ألفاً ، بينما كان عدد جيش علي عشرة آلاف .. ) ، و ذكر في ( الشريط الخامس ) أن عدد قتلى المعركة بلغ : ( عشرة آلاف قتيل ، خمسة آلاف من كل جيش ، و كان أكثرهم من الصحابة والتابعين .. الخ ) .
قلت – رحمك الله - كان عدد جيش علي في أصح الروايات كما عند الطبري من طريق محمد بن الحنفية تسعة آلاف و سبعمائة رجل تقريباً . تاريخ الطبري (4/506) .
فإذا علمنا أن الغلبة في معركة الجمل كانت لمعسكر علي رضي الله عنه ، فإنه من المرجح أن تعداد جيش أهل البصرة كان قريباً من تعداد جيش علي رضي الله عنه .
و أما عن عدد قتلى معركة الجمل فقد بالغ المؤرخون في ذكرهم فمن مقلل و من مكثر على حسب ميل
الناس و أهوائهم . لكن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل فقد كان ضئيلاً جداً للأسباب التالية :-
1- قصر مدة القتال . حيث أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن القتال نشب بعد الظهر ، فما غربت
الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه . أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
2- الطبيعة الدفاعية للقتال . حيث كان كل فريق يدافع عن نفسه ليس إلا .
3- تحرج كل فريق من القتال لما يعلمون من عظم حرمة دم المسلم .
4- قياساً بعدد شهداء المسلمين في معركة اليرموك - ثلاثة آلاف شهيد - تاريخ الطبري (3/402) ، و معركة القادسية - ثمانية آلاف و خمسمائة شهيد - تاريخ الطبري (3/564) ، و هي التي استمرت عدة أيام ، فإن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل يعد ضئيلاً جداً ؛ هذا مع الأخذ بالاعتبار شراسة تلك المعارك و حدتها لكونها من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمم .
5- أورد خليفة بن خياط بياناً بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل ، فكانوا قريباً من المائة . تاريخ خليفة (ص187-190) .
فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين و ليس مائة ، فإن هذا يعني أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين .
(1/24)
________________________________________
و هذا هو الراجح للأسباب و الحيثيات السابقة . أنظر حول هذا الموضوع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص214-215) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدداً من الروايات التي تحدثت عن استعداد علي للتوجه نحو الشام ، ثم ذكر عدد جيش علي بأنه : ( مائة و عشرين ألف مقاتل .. ) ، وأن جيش الشام كان : ( .. تسعين ألف مقاتل .. ) .
قلت : - رحمك الله – إن العدد التقريبي لجيش علي رضي الله عنه هو ما قدرته الروايات ما بين خمسين ألفاً و مائة و خمسين ألفاً مقاتل . تاريخ خليفة (ص193) بسند حسن .
في حين كان عدد جيش الشام كما قدرته بعض الروايات الضعيفة بستين ألفاً أو سبعين ألفاً أو مائة وعشرين ألفاً . الذهبي تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين – (ص545) بدون سند و تاريخ خليفة (ص193) بسند فيه مجاهيل و البداية و النهاية لابن كثير (7/275) بدون سند ، أنظر : عصر الخلافة الراشدة لأكرم العمري (ص465) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن جيش معاوية احتل مناطق الماء و حدث نوع من القتال الصوري بين الجيشين من أجل السيطرة على الماء .
قلت : - رحمك الله – وإن كان هذا الخبر يذكر في كتب التاريخ ، لكن تلك الرواية التي استشهدت بها ضعيفة من طريق أبي مخنف الكذاب .
(1/25)
________________________________________
على أن هناك رواية أخرى ترد القتال من أصله أخرجها عبد الله بن الإمام أحمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبو المغيرة الخولاني - ثقة - حدثنا صفوان بن عمرو - ثقة - حدثني أبو الصلت سليم الحضرمي - ذكره ابن أبي حاتم و لم يذكر فيه جرحاً و لا تعديلاً ، الجرح و التعديل (4/212) . و لو وقف على توثيق له لنسفت هذه الرواية روايات أبي مخنف الكذاب من أصلها - ، قال : حلنا بين أهل العراق و بين الماء ، فأتانا فارس ، ثم حسر فإذا هو الأشعث بن قيس فقال : الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ! هبوا أنكم قتلتم أهل العراق ، فمن للبعوث و الذراري ؟ أم هبوا أنا قتلناكم ، فمن للبعوث و الذراري ؟ إن الله يقول :{ و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط الخامس ، و كان من جملة ما خرجنا به أن أغلب مادة هذا الشريط غير صالحة للعرض بسبب ضعف أسانيدها و مخالفتها لما هو أصح وأثبت منها ، واليوم نكمل المشوار ..
الشريط السادس : معركة صفين و ما نتج عنها ..
ذكر المحاضر وفيه الله في بداية الشريط عدداً من الروايات الضعيفة تتحدث عن أحداث هذه المعركة الأليمة ، وقال : ( .. وظل هذا الأمر طيلة شهر ذي الحجة حتى أن المؤرخين يقولون : أن معركة صفين حدثت فيها أكثر من تسعين جولة و وقعة .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله – إن الذي قاله المؤرخون حول عدد هذه الجولات في تلك المعركة أكثر من سبعين جولة ووقعة . انظر : فتح الباري لابن حجر (13/92) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن تجدد المراسلات بين علي و معاوية ، قال : ( .. و خلال هذا الشهر أرسل علي رضي الله عنه الرسل مرة أخرى فأسل عدي بن حاتم و يزيد بن قيس .. الخ ) .
(1/26)
________________________________________
قلت : - رحمك الله – إن هذه الرواية ضعيفة من طريق أبي مخنف و ابن الكلبي ، ولا يجوز الاستشهاد بها ، لأن فيها تعريض بعدي بن حاتم و اتهام له بأن له يداً في قتل عثمان رضي الله عنه ، بل إن الثابت الصحيح ما أخرجه ابن عساكر رحمه الله في تاريخه عن قيس بن أبي حازم أن الذين قتلوا عثمان ليس فيهم من الصحابة أحد . ترجمة عثمان (ص408) ، وأخرج أيضاً بسنده أن عدي بن حاتم تحول من الكوفة وقال لا أقيم في بلد يشتم فيه عثمان رضي الله عنه . ترجمة عثمان ( ص 518) . فوا عجباً كيف يستنكر سبه ثم يُتهم بقتله ؟!!
و يقول ابن كثير في ذلك : ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم و بين علي – يقصد المراسلات - ، و في صحة ذلك عنهم و عنه نظر . البداية والنهاية (7/259) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك خطبة طويلة لعي رضي الله عنه يحضهم فيها على القتال ، إلى غير ذلك من الأمور .
قلت : - رحمك الله – تلك الرواية ضعيفة من طريق أبي مخنف الكذاب ونصر بن مزاحم ، و لا يرفع بها رأس .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدداً كبيراً من الروايات الضعيفة من طريق أبي مخنف ، استشهد بها على أحداث معركة صفين ، ولا يصح منها شيء ، ولم أحب أن أفصل القول فيها أنه ليس لها ما يعضدها . و كنت قد فصلت القول في أحداث تلك المعركة في ضوء ما وصلنا من روايات صحيحة ، في عدد من المقالات ، انظر : (الأحداث التي تلت حرب الجمل الحلـ 2 ــقة)
(الأحداث التي تلت حرب الجمل الحلـ 3 ــقة)
(الأحداث التي تلت حرب الجمل الحلـ 4 ــقة)
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك الطريقة التي توقف فيها القتال و رفع المصاحف .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن جل ما ذكرت في هذا الحادثة ضعيف لا تقوم به حجة ، إذ أنها من طريق أبي مخنف الكذاب .
ذكر المحاضر وفقه الله أن علي رضي الله عنه لم يقبل الصلح و لم يقتنع برفع جيش الشام للمصاحف بل أصر على مواصلة القتال .. الخ .
(1/27)
________________________________________
قتل : -رحمك الله – إن الثابت الصحيح أن علياً رضي الله عنه قبل الصلح من تلقاء نفسه ، و هو القائل حينما أرسل له معاوية رضي الله عنه المصحف قائلاً له : بيننا و بينكم كتاب الله فقال علي : أنا أولى بذلك بيننا كتاب الله . المسند ( 3/485) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك أن علياً رضي الله عنه أجبر على قبول التحكيم و الصلح وهو غير راض .
قلت : – رحمك الله – إن القصة الحقيقية لحادثة رفع المصاحف هي ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي وائل قال : كنا بصفين فلما استحر القتل بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية أرسل إلى علي بمصحف و ادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك ، فجاء به رجل فقال : بيننا و بينكم كتاب الله { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم و هم معرضون }
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط السادس من سلسلة قصص من التاريخ الإسلامي للدكتور طارق سويدان ، و اتضح أن مادة هذا الشريط ضعيفة للغاية و هي في مجموعها لا تصلح لأن تكون موضوعاً لمحاضرة تصف أحداث معركة صفين ، واليوم نكمل ما بدأناه ..
الشريط السابع : مقتل الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ..
ابتدأ المحاضر وفقه الله الشريط بأن قال : ( .. بعد أن بويع لمعاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين في الشام .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله – إن هذا الزعم الذي قتله لم يثبت ، و معاوية رضي الله عنه لم يبايع بالخلافة إلا بعد أن قتل علي و تنازل له الحسن علن الخلافة ، و قد تم الرد على هذه المزاعم في الحلقة الماضية ، وليس هنا داع للإعادة .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدد من الروايات التي تصف أحوال الدولة الإسلامية في تلك الفترة ، .. الخ ) .
(1/28)
________________________________________
قلت : - رحمك الله – إن جل ما استشهدت به في وصف أحوال الدولة ضعيف لا تقوم به حجة ، سبب كون أبي مخنف الكذاب قد تفرد به دون غيره من الرواة ، بل إنه ليس لها ما يعضدها .
ذكر المحاضر وفقه الله ( .. أن علي رضي الله عنه قام بعزل قيس بن سعد عن ولاية مصر بسبب ضعفه و عدم استطاعته السيطرة على الأوضاع هناك ، فقام بإرسال الأشتر الذي مات في الطريق عن طريق شربه لعسل مسموم ، وقول معاوية إن لله جنداً من عسل .. و أسل محمد بن أبي بكر .. الخ ) .
(1/29)
________________________________________
قلت : - رحمك الله - إن أطول رواية وصلت إلينا تحدثت عن هذا الأمر ، هي ما أخرجها عبد الرزاق في مصنفه (5/458-460) و الطبري في تاريخه (4/552-553) و الكندي في ولاة مصر (ص44-45) . عن معمر عن الزهري مرسلاً عن عبد الله بن يوسف - ثقة متقن من أثبت الناس في الموطأ (ت 218هـ ) التقريب (ص320) - ، عن يونس بن زيد – ثقة ، إلا أن روايته عن الزهري وهماً قليلاً و في غير الزهري خطأ . أخرج له الستة (ت 159هـ ) ، الكاشف للذهبي ( 3/305) - ، عن الزهري قال : كانت مصر من حين علي عليها قيس بن سعد بن عبادة و كان صاحب راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و كان من ذوي الرأي و البأس و كان معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص جاهدين على أن يخرجاه من مصر ليغلبا عليها ، فكان قد امتنع فيها بالدهاء و المكايدة ، فلم يقدرا عليه ، و لا على أن يفتحا مصر ، كاد معاوية قيس بن سعد من قبل علي ، و كان معاوية يحدث رجلاً من ذوي الرأي من قريش يقول : ما ابتدعت مكايدة قط كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها قيساً من قبل علي و هو بالعراق حين امتنع مني قيس . قلت لأهل الشام : لا تسبوا قيس بن سعد ، و لا تدعوا إلى غزوه ، فإنه لنا شيعة ، يأتينا كيس نصيحته سراً - أي أنه لنا حليف يراسلنا و ينصحنا سراً - . ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا ، يجري عليهم أعطياتهم و أرزاقهم و يؤمن سربهم ، و يحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم ، لا يستنكرونه في شيء ، قال معاوية : و هممت أن أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق فيسمع بذلك جواسيس علي عندي و بالعراق ، فبلغ ذلك علياً و نماه إليه محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر بن أبي طالب ، فلما بلغ ذلك علياً اتهم قيساً و كتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا - و أهل خربتا يومئذ عشرة آلاف - فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم ، و كتب إلى علي : إنهم وجوه أهل مصر و أشرافهم و أهل الحفظ منهم ، و قد رضوا مني أن أؤمن
(1/30)
________________________________________
سربهم ، و أجري عليهم أعطياتهم و أرزاقهم ، و قد علمت أن هواهم مع معاوية ، فلست مكايدهم بأمر أهون عليّ و عليك من الذي أفعل بهم و لو أني غزوتهم كانوا لي قرنا و هم أسود العرب ، و منهم بسر بن أبي أرطاة و مسلمة بن مخلد و معاوية بن حديج فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم . فأبى علي إلا قتالهم ، و أبى قيس أن يقاتلهم . فكتب قيس إلى علي : إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك ، و ابعث إليه غيري ، فبعث علي الأشتر أميراً إلى مصر حتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه فبلغ حديثهم معاوية و عمرواً ، فقال عمرو : إن لله جنداً من عسل – ذكر المحاضر وفقه الله أن الذي قال تلك المقولة هو معاوية - . فلما بلغ علياً وفاة الأشتر بالقلزم بعث محمد بن أبي بكر أميراً على مصر .
و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (11/146) بسند صحيح عن محمد بن سيرين أن معاوية رضي الله عنه لما عجز عن مكايدة قيس بن سعد بن عبادة بعث بكتابه الأول إلى علي ، قال : فقال له أهل الكوفة : عدو الله قيس بن سعد فاعزله ، فقال علي : ويحكم أنا والله أعلم ، هي إحدى فعلاته ، فأبوا إلا غزله فعزله .
و أخرج الكندي أيضاً روايةً عن عبد الكريم بن الحارث - ثقة عابد (ت136هـ) – قال : لما ثقل مكان قيس على معاوية كتب إلى بعض بني أمية بالمدينة : أن جزى الله قيس بن سعد خيراً ، فإنه كف عن إخواننا من أهل مصر الذين قاتلوا في دم عثمان ، و اكتموا ذلك فإني أخاف أن يعزله علي إن بلغه ما بينه و بين شيعتنا ، حتى بلغ علياً فقال من معه من رؤساء أهل العراق و أهل المدينة : بَدّلَ قيس و تحول ، فقال علي : ويحكم ! إنه لم يفعل ، فدعوني . قالوا : لتعزلنه فإنه قد بدل . فلم يزالوا به حتى كتب إليه : إني قد احتجت إلى قربك ، فاستخلف على عملك و أقدم . ولاة مصر (ص45-46) و فيها المدائني و هو ثقة ، أنظر : التقريب (ص263) و بقية رجالها ثقات إلا أنها مرسلة .
(1/31)
________________________________________
و هذه أرجح رواية عندي لأمور منها :-
1- أنها من رواية مصري ثقة و هو أعلم بقطره من غيره .
2- أخرجها مؤرخ مصري .
3 - خلوها من الغرائب .
4- متنها يتفق مع سيرة أولئك الرجال .
5- بينت تردد علي في عزل قيس حتى ألح عليه الناس فاستبقاه عنده ، و هكذا القائد لا يفرط بالقيادات الحاذقة في وقت المحن .
و إن ولاية قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما على مصر من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر مجمع عليه . أما ما ذُكر من تفاصيل و غرائب الأمور التي لم تحدث إلا في مخيلة و عقل أبي مخنف الكذاب ، فلم أقف لها على متابع و كل من ترجم لقيس بن سعد لم يذكر هذه التفاصيل ، و حتى مؤرخو مصر المعتبرين لم يذكروا ذلك - انظر ترجمة قيس بن سعد في : طبقات ابن سعد (6/52-53) و سير أعلام النبلاء (3/102-112) و الإصابة (5/473-475) و فتوح مصر (ص458) ، و ولاة مصر (ص440) - . و هذا مما يؤكد لنا تفرد أبو مخنف بهذه الروايات .
أما رواية أبي مخنف فكما قلنا أنه انفرد بها و هي إن سلمت منه ، لم تسلم من تلميذه ابن الكلبي . و في متنها من الغرائب ما يكفي لردها .
و أما ما في رواية الزهري و عبد الكريم بن الحارث فهي من باب المعاريض و المعاريض مندوحة عن الكذب . و قد بوب البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باباً بهذا العنوان ، الفتح (10/609 ) .
حيث لا يعقل أن يصدر عن الصحابة كذب ، و هذا من الذي لا يعقله عاقل أن يصدر من معاوية؛ ذلك أن العرب كانوا يعدون الكذب من أقبح الصفات التي يتنزه عنها الرجال الكرام .
و هذه قصة أبي سفيان - و هو يومئذ على الشرك - فيما أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح (1/42) في قصة سؤال هرقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول أبو سفيان : فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه .
(1/32)
________________________________________
فهذه منزلة الكذب عند العرب ، و عند المسلمين أشد و أخزى ، و لا يقول قائل : هذه خدعة ، و الحرب خدعة ، فإن الخدعة ليس معناها الكذب كما هو معلوم من كلام العرب ، و معاوية رضي الله عنه أحذق من أن يفعل هذا .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك الأوضاع في باقي أقاليم الدولة الإسلامية مثل البصرة ومكة واليمن .. الخ
قلت : - رحمك الله – إن جل ما ذكرت ضعيف و ليس له ما يعضده ، فكان السكوت عنها أفضل .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك بعض الأحداث ، وانتهى إلى مقتل علي رضي الله عنه .
قلت : - رحمك الله – إن جل ما ذكرت ضعيف و بالأخص ما يتعلق بمقتل علي رضي الله عنه حيث أن أغلبها من طريق أبي مخنف الكذاب .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن بيعة الحسن و واستعداده لقتال أهل الشام ، ثم تفكيره في الصلح .. وأنه اشترط بعض الشروط ، و من بين تلك الشروط أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن مرة أخرى .. الخ .
قلت : - رحمك الله – ذكرك لتلك الشروط و من ضمنها طلب الحسن لأن تكون الخلافة له من بعده ، ليست صحيحة ، حيث أنها تتنافى مع قوة و كرم الحسن ؛ فكيف يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء الأمة و ابتغاء مرضاة الله ، ثم يوافق على أن يكون تابعاً يتطلب أسباب الدنيا و تشرأب عنقه للخلافة مرة أخرى ؟!
و الدليل على هذا ما ذكره جبير بن نفير قال : قلت للحسن بن علي إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة ، فقال كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت و يحاربون من حاربت ، فتركتها ابتغاء وجه الله ، ثم أبتزها بأتياس أهل الحجاز . البلاذري في أنساب الأشراف (3/49) و طبقات ابن سعد ، الطبقة الخامسة ( ص 258) بسند جيد .
تحدث المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن أحوال الدولة الإسلامية في عهد معاوية رضي الله عنه ، .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن جل ما استشهدت به في هذا الموضوع ضيف .
(1/33)
________________________________________
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك بعض الأحداث التي تخللت خلافة معاوية رضي الله عنه مثل خروج الخوارج ، و موت الحسن مسموماً و مبايعة يزيد بولاية العهد .. الخ .
قلت : -رحمك الله – إن أغلب تلك الروايات التي ذكرتها أثناء حديثك عن تلك الأحداث ضعيف جداً لا تقوم به حجة .
ذكر المحاضر وفقه الله قبل أن يختم الشريط بأن معاوية قد أخطأ في عدد من الأمور .. و ذكر من بين تلك الأخطاء قتله لحجر بن عدي .. و ذكر أن سبب قتل معاوية لحجر بن عدي أنه خرج في ثورة ابن الأشعث .. الخ .
(1/34)
________________________________________
قلت : - رحمك الله – سبب قتل معاوية لحجر بن عدي ليس لأنه خرج مع ابن الأشعث ، - مع العلم بأن ابن الأشعث هذا خرج على عبد الملك بن مروان في فترة خلافته ، و بين عبد الملك و معاوية سنوات كثيرة ، و لعل المحاضر اختلط عليه اسم سعيد بن جبير ، لأنه هو الذي خرج مع ابن الأشعث ضد عبد الملك بن مروان - أما عن سبب قتله ، فقد ذكر ابن العربي في العواصم بأن الأصل في قتل الإمام ، أنه قَتْلٌ بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل . و لكن حجراً فيما يقال : رأى من زياد أموراً منكرة ، حيث أن زياد بن أبيه كان في خلافة علي والياً من ولاته ، و كان حجر بن عدي من أولياء زياد و أنصاره ، و لم يكن ينكر عليه شيئاً ، فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعاً بعاطفة التحزب و التشيع . و كان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد . فقام حجر و حصب زياد و هو يخطب على المنبر ، حيث أن زياد قد أطال في الخطبة فقام حجر و نادى : الصلاة ! فمضى زياد في خطبته فحصبه حجر و حصبه آخرون معه و أراد أن يقيم الخلق للفتنة ، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله ، و عد ذلك من الفساد في الأرض . فلمعاوية العذر ، و قد كلمته عائشة في أمره حين حج ، فقال لها : دعيني و حجراً حتى نلتقي عند الله ، و أنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين . العواصم من القواصم (ص 219-220) .
وانتهى الشريط على هذا الحال ، و بالجملة فإن مادة هذا الشريط في أغلبها ضعيف لا يصلح للعرض أو أن يستشهد به في تفصيل الأحداث التي تلت معركة صفين ، والله الموفق .
أخوكم : أبو عبد لله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
(1/35)
________________________________________
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط السابع ، و خرجنا بنتيجة و هي أن جل مادة الشريط والتي استشهد بها المحاضر وفقه الله في وصف أحوال الدولة الإسلامية في خلافة علي ومعاوية رضي الله عنهما ضعيفة و ليس لها ما يعضدها سوى القليل والذي لا يشكل شيء بجانب ما ذكر المحاضر من روايات أبي مخنف الطويلة .. واليوم نصل إلى نهاية مشوارنا مع هذه الأشرطة .. فأسأل الله أن تكون هذه الوقفات خالصة لوجهه الكريم ..
الشريط الثامن : مقتل الحسين رضي الله عنه ..
ذكر المحاضر وفقه الله في بداية الشريط بعض الروايات التي تتحدث عن حياة يزيد بن معاوية رحمه الله قبل توليه الخلافة .. ثم ذكر وفاة معاوية و مبايعة يزيد بالخلافة و خبر الرسالة التي أرسلها إلى والي الدينة يطلب فيها أن يأخذ البيعة من الحسين وابن الزبير .. إلى أن خرجا من المدينة .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن أغلب ما ذكرت من روايات ضعيف و واه ليس له ما يعضده ، بل إن أغلبه من طريق أبي مخنف الكذاب .
تحدث المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن بداية مراسلات أهل الكوفة للحسين من أجل الخروج إليهم .. فأرسل الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليمهد له القدوم .. الخ .
قلت : - رحمك الله – تلك روايات ضعيفة و أباطيل سخيفة سطرها الرافضة قاتلهم الله و روجوا لها ، فتلقفها أهل السنة وخاصة في زمننا الحاضر دون تمحيص ، فأخذوا يحيكونها و يزخرفونها يضيفون عليها و يدبجونها بحوارات و أحداث كلها كذب صراح فقط من أجل أن يبينوا للناس تلك الطريقة التي قتل فيها آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان لِما ذكر الحاضر بعض الشواهد لكن ليس لها أي دخل فيما ذكر أبو مخنف من أحداث .
(1/36)
________________________________________
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك محاولات كبار الصحابة إقناع الحسين عن الخروج إلى الكوفة .. و ذكر أن من بين الذي نصحوه ابن الزبير .. فذكر المحاضر وفقه الله أن ابن الزبير ذهب إلى الحسين وحثه على الخروج ، فكان هو الوحيد الذي كان يحثه على الخروج و يقول : أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن حقيقة الأمر في موقف ابن الزبير رضي الله عنه مثل باقي كبار الصحابة الذين نصحوا الحسين بعدم الخروج ، والحجة في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن قال : لقي عبد الله بن الزبير الحسين بن علي بمكة فقال : يا أبا عبد الله بلغني أنك تريد العراق ، قال : أجل ، فلا تفعل ، فإنهم قتلة أبيك ، الطاعنين بطن أخيك ، وإن أتيتهم قتلوك . المصنف (7/477) .
وإن الرواية التي استشهدت بها ضعيفة من طريق أبي مخنف الكذاب .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك أحداث خروج الحسين بن علي رضي الله عنه و وصوله أطراف الكوفة و أحداث معركة كربلاء .. الخ .
قلت : - سامحك الله و غفر لك – إن جميع ما ذكرت من أحداث ، والتي ابتدأت من خروج الحسين إلى مقتله ضعيف ، جاء ذلك من طريق أبي مخنف الكذاب ، ولعل المحاضر وفقه الله اعتمد على كتاب بعنوان : استشهاد الحسين للإمام الطبري ، وهو كتاب مليء بالروايات الضعيفة والموضوعة ، تتحدث عن مقتل الحسين وعن أحداث تلك المعركة الأليمة .
وأنت بفعلك هذا – سامحك الله - قد أثرت أشجاناً و أموراً كانت قد نسيت و طويت بين أهل السنة ، فهم يعلمون أن للرافضة دور في تزييف التاريخ و تشويهه ، لكن عندما تقوم أنت بطرح هذا الموضع بهذه الصورة المشوهة دون نقد أو تمحيص ، فتلك مصيبة والله .
وقد يقول قائل : إذا كانت تلك الصورة غير صحيحة ، إذاً فما هي الصورة الحقيقية لأحداث تلك المعركة و كيف قتل الحسين ؟
(1/37)
________________________________________
قلت : مقتل الحسين رضي الله عنه.. ذلك الفتق الذي لا يرتق و الثلمة التي لم تسد و الصدع الذي لم يرأب ، إنه جرح الأمة الإسلامية في فلذة كبدها و التي لا تزال تتألم من المرارة و الحسرة منه ، إنه مقتل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما في لحظة من أحرج اللحظات و أصعبها على أمة الإسلام و المسلمين .
قال الطبري (5/343) : إن ابن الزبير و الحسين لما دعيا إلى البيعة ليزيد أبيا و خرجا من ليلتهما إلى مكة ، فلقيهما ابن عباس و ابن عمر جائيين من مكة فسألاهما ما وراءكما ؟ قالا : موت معاوية و البيعة ليزيد ، فقال لهما ابن عمر : اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين . أما ابن عمر فقدم المدينة فأقام أياماً فانتظر حتى جائت البيعة من البلدان فتقدم و بايع و بايع ابن عباس .
و عندما قرر الحسين رضي الله عنه الذهاب إلى العراق ، بعد أن كثرت عليه المراسلات و هو في مكة ، تدعوه بالخروج إليهم حاول بعض أصحابه منعه من ذلك ، أمثال ابن عمر و ابن الزبير رضي الله عنهما .
و هنا تجدر الإشارة و الرد على مزاعم الإخباريين حول تحريض ابن الزبير للحسين بن علي رضوان الله عنهم أجمعين على الخروج على يزيد بن معاوية . و أن ابن الزبير ضاق من وجود الحسين بمكة ، و أنه كان يطمع بالخلافة ، و أن يخلو له الجو كما يقولون ، و أن تخلو له الساحة و الميدان .
و حقيقة الأمر أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان من جملة الصحابة والتابعين الذين نصحوا الحسين رضي الله عنه بعدم الخروج . و قد ذكرت قبل قليل الدليل على ذلك .
(1/38)
________________________________________
فلما ذهب رضي الله عنه و كان قد أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إليهم ، و تابعته طائفة ، ثم قدم عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، فقاموا مع ابن زياد و تخلوا عن مسلم و قتل رضي الله عنه ، فلما بلغ الحسين ذلك ، و أراد الرجوع وافته سرية عمر بن سعد و طلبوا منه أن يستأسر لهم ، فأبى و طلب أن يردوه إلى يزيد ابن عمه ، حتى يضع يده في يده ، أو يرجع من حيث جاء أو يلحق بالثغور ، فامتنعوا من إجابته إلى ذلك بغياً و ظلماً و عدواناً ، و كان من أشدهم تحريضاً عليه شمر بن ذي الجوشن حيث لحق بالحسين و وقع القتال بينهم حتى أكرم الله الحسين و عدد من أهل بيته بالشهادة رضي الله عنهم و أرضاهم . من رسالة بعنوان رأس الحسين لشيخ الإسلام (ص200) ضمن كتاب استشهاد الحسين للإمام الطبري . و هو كتاب مملوء بالروايات الضعيفة و الموضوعة .
و لم يختلف المؤرخون بل و الناس فيما عرض لهم و عرض عليهم من مسائل التاريخ مثلما اختلفوا في مقتل الحسين رضي الله عنه ، من بدايتها حتى نهايتها من الدوافع الأولية إلى الخديعة و خيانة الأعراب .
و النظرة التاريخية الفاحصة بعيداً عن الشطط أو الإغراق أو المغالاة تجعلنا في حيرة و أي حيرة ، لأن كل فريق له رأيه و له حجته فيما انتهى إليه ، و علينا أن ندعو لهم و نستغفر الله لنا ولهم .
و في يقيني أن أمر النزاع بين الحسين و يزيد يجب الإمساك عن الخوض فيه ، لأن هذا أفضل من الكلام في ما لا نعلم ، و صفوة القول أن الحسين قد أفضى إلى ربه شهيداً مجاهداً ، رضي الله عنه و أرضاه و ألحقنا بالصالحين في دار المقامة .
و عن هذا الصراع الدموي الأليم العنيف بين الحسين و يزيد أقول : يفصل الله بينهم يوم القيامة ، فإني لا أجرؤ بما توافر لدي من آراء و أبحاث و مراجع على القول بغير هذا : عفا الله عنا و عنهم .
(1/39)
________________________________________
و عن حياة الإمام الحسين رضي الله عنه قال ابن عبد البر في الاستيعاب : قتل الحسين يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين ، بموضع يقال له كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة و عليه جبة خز دكناء ، و هو ابن ست و خمسين سنة ، قاله نسابة قريش الزبير بن بكار ، و مولده لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة ، و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيها قصرت الصلاة و تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة رضي الله عنه . الاستيعاب (1/393) و انظر التذكرة للقرطبي (2/645) و نسب قريش للزبير بن بكار (ص24) .
ثم يقول ابن حجر : و قد صنف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغث و السمين ، و الصحيح و السقيم ، و قد صح عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول : لو كنت فيمن قاتل الحسين ثم دخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . الإصابة (2/81) .
و اختلفت الأقوال في يوم قتله ، فالبعض قال يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم و الأصح الأول . و اتفق على أنه قتل يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى و ستين ، و كذا قال الجمهور ، و شذ من قال غير ذلك ، و كان يوم الجمعة هو يوم عاشوراء . الإصابة (2/76-81) و العقد الفريد لابن عبد ربه (4/356) و هو يؤيد الإجماع .
و قال الحافظ في الفتح : كان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر ، و قتل يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين بكربلاء من أرض العراق ، و كان أهل الكوفة لما مات معاوية و استخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته فخرج الحسين إليهم ، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، فخذل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة و رهبة ، و قتل ابن عمه مسلم بن عقيل و كان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له الناس ، ثم جهز إليه عسكراً فقاتلوه إلى أن قتل هو و جماعة من أهل بيته . فتح الباري (7/120) . و تاريخ خليفة (ص234) .
(1/40)
________________________________________
روى الحاكم عن أم الفضل بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا - يعني الحسين - فقلت : هذا ؟ فقال نعم ، و أتاني بتربة من تربته حمراء . السلسلة الصحيحة (2/464) و هو في صحيح الجامع ، رقم (61) .
و روى أحمد عن عائشة أو أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد دخل عليّ البيت مَلَكٌ لم يدخل علي قبلها ، فقال لي : إن ابنك هذا حسين مقتول ، و إن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها . السلسلة الصحيحة (2/465) .
و روى أحمد عن ابن عباس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ذات يوم بنصف النهار أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت و أمي ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين و أصحابه ، و لم أزل ألتقطه منذ اليوم . فأحصي ذلك الوقت ، فوجد قتل ذلك الوقت . مشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الشيخ الألباني (6172) . و مسند أحمد (1/283) و الذي يقول فأحصينا .. هو راوي الخبر عن ابن عباس ، هو أبو عمر عمار بن أبي عمار مولى بني هشام ، صدوق من كبار التابعين (ت 120هـ ) ، التقريب (ص 408) .
و قد قتل معه كما يروي الحسن البصري ستة عشر رجلاً من آل البيت ما على الأرض يومئذ لهم شبه ، فقتل من أولاد علي رضي الله عنه العباس و عبد الله و جعفر و عثمان و أبو بكر ، و هؤلاء اخوته لأبيه . هؤلاء جميعهم أبناء علي من أم البنين بنت حرام أم خالد ، ما عدا أبو بكر فهو من ليلى بنت مسعود بن خالد . انظر تراجمهم في : تاريخ خليفة (ص234) .
و قتل معه من ولده ، عبد الله و علي . عبد الله أمه أم الرباب ، و أما علي فأمه ليلى بنت أبي مرة . انظر : تاريخ خليفة (ص234) .
و من ولد أخيه الحسن ، القاسم و أبو بكر و عبد الله . و هم أبناء الحسن بن علي ، انظر : تاريخ خليفة (ص234) و البداية و النهاية (8/189) .
(1/41)
________________________________________
و من ولد عبد الله بن جعفر ، محمد و عون . محمد أمه الخوصا بنت خصف ، و أما عون فأمه زينب العقيلية بنت علي ، انظر : تاريخ خليفة (ص234) .
و من ولد عقيل ، عبد الرحمن و جعفر و عبد الله و مسلم . هم أبناء عقيل بن أبي طالب ، انظر : تاريخ خليفة (ص234) و البداية و النهاية (8/189) .
يقول الذهبي عن ذلك : و يدخل فيهم من نسل فاطمة و غيرهم ، لأن الرافضة رووا أحاديث و أعداد مهولة في من قتل مع الجيش من نسل فاطمة فقط ، حيث ذكر فطر بن خليفة أن عدد من قتل من نسل فاطمة سبعة عشر رجلاً ، و لاشك أن هذا العدد مبالغ فيه كثير جداً . انظر : تاريخ الإسلام للذهبي – حوادث سنة 61هـ – (ص21) و تاريخ خليفة (ص235) و المعجم الكبير (3/104 و 119) ، و فطر هذا من غلاة الشيعة .
ثم إن ابن ذي الجوشن حمل رأس الحسين و أرسله إلى ابن زياد . أخرج البخاري عن أنس بن مالك : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي ، فجعل ينكت و قال في حسنه شيئاً ، فقال أنس : كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، و كان مخضوباً بالوسمة . البخاري مع الفتح (7/119) ، و الوسمة هي نبات يخضب به الوجه و يميل إلى السواد .
و عند الترمذي و ابن حبان من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس قال : كنت عند ابن زياد فجيء براس الحسين فجعل يقول بقضيب في أنفه و يقول ما رأيت مثل هذا حسناً يُذكر ، قلت : أما إنه كان أشبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح سنن الترمذي (3/325) و الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (9/59-60) .
و للطبراني في المعجم الكبير (5/206) و (3/125) من حديث زيد بن أرقم ، فجعل قضيباً في يده ، في عينه و أنفه فقلت : ارفع قضيبك فقد رأيت فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه . و زاد البزار من وجه آخر عن أنس قال : فقلت له إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث تضع قضيبك ، قال : فانقبض . أورده الحافظ في الفتح (7/121) .
(1/42)
________________________________________
و قد اختلطت - كما أسلفت - الروايات الحقيقية بالمكذوبة التي افتراها الرافضة الحمقى و روج لها الإخباريين بأسلوب يهدر كل القيم و المثل .
نعم هناك روايات كتاب الأغاني ، - و الذي يسمى بالنهر المسموم - ، ذلك النهر الذي عب منه كل مثقفينا ، وكل من تناول جانباً من تاريخنا ، كابراً عن كابر ، فَضَّلوا و أضلوا .
و هذا الذي ذكرته هو المشهور و المتفق عليه بين العلماء في مقتله رضي الله عنه و قد رويت زيادات بعضها صحيح و بعضها ضعيف و بعضها كذب موضوع ، و المصنفون من أهل الحديث في سائر المنقولات ، أعلم و أصدق بلا نزاع بين أهل العلم ؛ لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات ، أو يرسلونه عمن يكون مرسله مقارب الصحة ، بخلاف الإخباريين ؛ فإن كثيراً مما يسندونه ، يسندونه عن كذّاب أو مجهول ، أمّا ما يرسلونه ، فظلمات بعضها فوق بعض .
و أما أهل الأهواء و نحوهم فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلاً ، لا ثقة و لا ضعيف و أهون شيء عندهم الكذب المختلق ، و أعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة بل إلى سماعات عن المجاهيل
و الكذابين ، و روايات عن أهل الإفك المبين .
هذه هي حقيقة الفاجعة ، و أصلها و فصلها ، و كفى ، و هذه هي قضية يزيد و مقتل الحسين ، إما أن تذكر كلها بتفاصيلها ، و إما أن تبقى طي الكتمان ، أما أن يجتزأ الكلام ، و يختزل بهذه الصورة الشائعة على الألسن - قتل يزيد الحسين - فهذا فيه تدليس و تزييف .
و كنت قد كتبت مقالاً تحدثت فيه عن أسباب خروج الحسين بن علي رضي الله عنه ، انظر :
(سؤال عن أسباب خروج الحسين و بن الزبير رضي الله عنهم على أمير المؤمنين يزيد بن معاوية)
ذكر المحاضر وفقه الله : ( .. ثم إن ابن زياد أرسل رأس الحسين رضي الله عنه إلى يزيد .. الخ ) .
(1/43)
________________________________________
قلت : - رحمك الله - قد ثبت أن القصة التي يذكرون فيها حمل رأس الحسين إلى يزيد و نكته بالقضيب ، كذبٌ مفترى ، و إن كان الحمل إلى ابن زياد و هو الناكت بالقضيب ، هي الأصح و الأثبت ، و لم ينقل بإسناد معروف أن الرأس حمل إلى قدام يزيد . و لم أرَ في قصة حمل رأس الحسين إلى يزيد إلا إسناداً منقطعاً ؛ و قد عارضه من الروايات ما هو أثبت منها و أظهر ، نقلوا فيها أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أظهر التألم من ذلك . و قال : لعن الله أهل العراق ، لقد كنت أرضى من طاعتهم بدون هذا . و الله أعلم بسريرته . فهذا و نحوه مما نقلوه بالأسانيد التي هي أصح و أثبت من ذلك الإسناد المنقطع المجهول .
فالمقصود هنا أن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد ، و إنما الثابت هو نقله إلى أمير العراق ابن زياد بالكوفة .
و وقوع المحاضر في هذا الخطأ يرجع إلى منشأ الاختلاف في موضع رأس الحسين رضي الله عنه عند عامة الناس ، و هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين – والتي أقيمت في عصور التخلف الفكري والعقدي – و كلها تدعي وجود رأس الحسين ، و إذا أردنا التحقيق في مكان الرأس فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ انتهاء معركة كربلاء ، و قد قام الأخ محمد بن عبد الهادي الشيباني بدراسة الموضوع دراسة علمية حديثية ، توصل من خلالها إلى أن المشاهد الموجودة في كل من دمشق و الرقة و عسقلان و القاهرة و كربلاء ، والتي تزعم بأن الرأس مقبور فيها ، لم يثبت بأدنى دليل على وجود الرأس بها ، و أن الرأس مدفون في المدينة في مقبرة البقيع عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها ، و هو الصحيح المشهور والذي رجحه كل من شيخ الإسلام ابن تيمية والقرطبي والحافظ أبو يعلى والزبير بن بكار ، و ابن الجوزي و ابن أبي الدنيا ، و غيرهم .
(1/44)
________________________________________
و بذلك يكون رأس الحسين مقبوراً بجانب أمه فاطمة رضي الله عنها ، و هو الموافق لما ثبت في الروايات من حسن تعامل يزيد مع آل الحسين ، ثم هو الأقرب إلى الواقع الذي يملي على يزيد إرساله – أي الرأس – إلى المدينة ليقبر بجانب أمه رضي الله عنها ، و للمزيد حول هذا الموضوع راجع رسالته موقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للأخ محمد بن عبدالهادي الشيباني ( ص306-325 ) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد أن سرد أحداث مقتل الحسين .. قصة علي بن الحسين – زين العابدين مع هشام بن عبد الملك ، فقال : ( .. حيث أنه في يوم من أيام هشام بن عبد الملك جاء هشام إلى مكة يحج .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله – لماذا يوم من أيام هشام ؟! و ليس يوم من خلافة هشام ؟ هل معنى كلامك هذا أن خلفاء الدولة الأموية غير معترف بخلافتهم ؟!
لكن الظاهر أن المحاضر وفقه الله قد نقل تلك القصة من كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي ، والسيوطي رحمه الله معروف عنه ميله للعلويين ، و إذا نظرنا إلى تصنيف كتابه المذكور ، نجد الآتي ، ذكر السيوطي الخلفاء الراشدين و كان يترضى عليهم ، و لما وصل إلى عصر خلفاء الدولة الأموية بدأ يقول : أيام يزيد بن معاوية لعنه الله !! أيام مروان بن الحكم .. أيام عبد الملك بن مروان .. الخ . و هذا الذي ترجح لدي .
ذكر المحاضر بعد ذلك الآتي : ( .. واستقرت الأمور ليزيد سوى ابن الزبير ، حيث أنه لما وصلت الأخبار بمقتل الحسين ثار و بدأ يأخذ البيعة لنفسه ، فبدأ الناس يبايعون ابن الزبير .. الخ ) .
(1/45)
________________________________________
قلت : - رحمك الله - إن الثابت الصحيح في هذه المسألة أنه في سنة أربع و ستين دعا ابن الزبير إلى نفسه ، و ذلك بعد موت يزيد بن معاوية ، فبويع في رجب لسبع خلون من نفس السنة ، و لم يكن يدعو إليها ولا يُدعا لها حتى مات يزيد ، و إنما كان ابن الزبير يدعو قبل ذلك إلى أن تكون شورى بين الأمة ، فلما كان بعد ثلاثة أشهر من وفاة يزيد بن معاوية ، دعا إلى بيعة نفسه فبويع له . تاريخ خليفة (ص257) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدداً من الروايات الضعيفة التي تصف أحداث وقعة الحرة و عن أسباب خروجهم ، و موقف يزيد بن معاوية من أهل المدينة .. و موقف مسلم بن عقبة من أهل المدينة و عن استباحة المدينة و قتل الكثير من أهلها .. إلى غيرها من الأمور .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن جل ما ذكرت ضعيف لم يثبت ، و أغلبه من طريق أبي مخنف الكذاب ، و أما عن أسباب خروج أهل المدينة و خلعهم ليزيد ، فقد كتب مقالاً في هذا الشأن تحدثت فيه عن هذه الأسباب ، راجعه الأهمية : (سؤال عن أسباب خروج الحسين و بن الزبير رضي الله عنهم على أمير المؤمنين يزيد بن معاوية)
أما عن قصة الحرة و حادثة الاستباحة ، فلي عليها بعض التعليقات :-
(1/46)
________________________________________
أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو داود و ابن ماجة عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنت يا أبا ذر و موتاً يصيب الناس حتى يقوم البيت بالوصيف - يعني القبر - قلت : ما خار الله لي و رسوله ، أو قال : الله و رسوله أعلم ، قال : تصبر ، قال : كيف أنت و جوعاً يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ؟ قال : الله أعلم ، أو : ما خار الله لي و رسوله ، قال : عليك بالعفة . ثم قال : كيف أنت و قتلاً يصيب الناس حتى تُعْرَقَ حجارة الزيت بالدم ؟ قلت : ما خار الله لي و رسوله ، قال : الحق بمن أنت منه . قال : قلت يا رسول الله أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك ؟ قال : شاركت القوم إذاً ، و لكن ادخل بيتك . قلت : يا رسول الله ، فإن دُخل بيتي ؟ قال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق رداءك على وجهك ، فيبوء بإثمه و إثمك ، فيكون من أصحاب النار . صحيح سنن ابن ماجة (2/355) و أبو داود (4/458-459) و سنن ابن ماجة (2/1308) .
لما وصلت أخبار مقتل الحسين ثارت مكة مع ابن الزبير ، و لما وصلت الأخبار إلى أهل المدينة بثورة أهل مكة ثارت هي الأخرى و استطاعوا السيطرة عليها و عزل واليها من قبل يزيد ، و ولوا بدلاً عنه عبد الله بن غسيل الملائكة حنظلة رضي الله عنه . طبقات ابن سعد (5/66) .
أخرج البخاري عن عباد بن تميم ، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال : لما كان زمن الحرة أتاه أت فقال له : إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت ، فقال : لا أبايع على هذا أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح البخاري مع الفتح (6/136) .
(1/47)
________________________________________
و أخرج مسلم عن نافع قال : حين كان من أمر خلع يزيد ما كان ، جاء ابن عمر و دخل على ابن مطيع ، فقال ابن مطيع : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ، قال صلى الله عليه وسلم : من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية . صحيح مسلم برقم (4770) .
و روى البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه و ولده فقال : إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ، و إنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله و رسوله ، و إني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله و رسوله ثم ينصب له القتال ، و إني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني و بينه . البخاري مع الفتح (13/74) .
(1/48)
________________________________________
و يروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو و أصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر و يترك الصلاة و يتعدى حكم الكتاب ، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون ، قد حضرته و أقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة ، قالوا : ذلك كان منه تصنعاً لك ، قال : و ما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع ؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه ، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ، قالوا : إنه عندنا لحق و إن لم نكن رأيناه ، فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة ، و لست من أمركم في شيء ، فقالوا : لعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك ، فنحن نوليك أمرنا قال : ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً ، قالوا : فقد قاتلت مع أبيك ، قال : جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه ، فقالوا : فمر ابنيك القاسم و أبا القاسم بالقتال معنا ، قال : لو أمرتهما لقاتلت ، قالوا : فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال ، قال : سبحان الله آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه ، إذاً ما نصحت لله في عباده ، قالوا : إذاً نكرهك قال : إذاً آمر الناس بتقوى الله و ألاّ يرضوا المخلوق بسخط الخالق ، و خرج إلى مكة . البداية و النهاية (8/233) و تاريخ الإسلام – حوادث سنة 61-80هـ – (ص274) بسند حسن .
(1/49)
________________________________________
أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند إلى جويرية بن أسماء ، قال : سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له : إن لك من أهل المدينة يوماً فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته . فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة و جماعة فأكرمهم و أجازهم ، فرجع فحرض الناس على يزيد و عابه و دعاهم إلى خلع يزيد ، فأجابوه فبلغ يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة ، فهابهم أهل الشام و كرهوا قتالهم ، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير ، و ذلك أن بني حارثة أدخلوا قوماً من الشاميين من جانب الخندق ، فترك أهل المدينة القتال و دخلوا المدينة خوفاً على أهلهم ، فكانت الهزيمة و قتل من قتل ، و بايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم و أموالهم و أهلهم بما شاء . تاريخ دمشق (58/104-105) .
و أخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال : جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة{و لو دُخِلَت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها } 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصحف كاملا وورد

  سُورَةُ الفَاتِحَةِ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ١ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٣ مَ...