ابودي اندكس البريد

الحاج سليمان

الثلاثاء، 9 مايو 2023

ج1وج2.وج3.كتاب المغازي الواقدي{نسخة مكبرة ل 48.}

ج1وج2.وج3.كتاب المغازي الواقدي
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
 أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن حيويه لفظاً، قال: قرىء علي أبي القاسم عبد الوهاب بن أبي حية من كتابه وأنا أسمع، وأقر به، يوم السبت بالغداة، في دار أبي عبد الله الوراق، مربعة شبيب، باب الشام، في باب الذهب، في درب البلخ، في جمادى الآخرة سنة ثمانى عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثني محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثني عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، ومحمد بن عبد الله بن مسلم، وموسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة، وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وأبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، وسعيد بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الله التيمي، ويونس بن محمد الظفري، وعائذ بن يحيى، ومحمد بن عمرو، ومعاذ بن محمد الأنصاري، ويحيى بن عبد الله ابن أبي قتادة، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن حنيف، وابن أبي حبيبة، ومحمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، وعبد الحميد بن جعفر، ومحمد بن صالح بن دينار، وعبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصة، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وأبو معشر، ومالك بن أبي الرجال، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وعبد الحميد بن عمران بن أبي أنس، وعبد الحميد بن أبي عبس، فكل قد حدثني من هذا بطائفة، وبعضهم أوعى لحديثه من بعضٍ، وغيرهم قد حدثني أيضاً، فكتبت كل الذي حدثوني، قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من شهر ربيع الأول، ويقال لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، والثابت لاثنتي عشرة. فكان أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر من مهاجرة النبي صلى الله عيه وسلم، يعترض لعير قريش. ثم لواء عبيدة بن الحارث في شوال على ثمانية أشهر من الهجرة إلى رابغ وهي على عشرة أميال من الجحفة وأنت تريد قديد وكانت في شوال على رأس تسعة أشهر. ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار، على رأس تسعة أشهر في ذي القعدة. ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر، على رأس أحد عشر شهراً، حتى بلغ الأبواء، ثم رجع ولم يلق كيداً، وغاب خمس عشرة ليلة. ثم غزا بواط في شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهراً، يعترض لعير قريش، فيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، ثم رجع ولم يلق كيداً، وبواط هي من الجحفة قريب. ثم غزا في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهراً، في طلب كرز بن جابر الفهري حتى بلغ بدراً، ثم رجع. ثم غزا في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً، يعترض لعيرات قريش حين بدت إلى الشام، وهي غزوة ذى العشيرة، ثم رجع. فبعث عبد الله بن جحش إلى نخلة في رجب، على رأس سبعة عشر شهراً. ثم غزا بدر القتال، صبيحة سبع عشرة من رمضان يوم الجمعة، على رأس تسعة عشر شهراً. ثم سرية عصماء بنت مروان، قتلها عمير بن عدي بن خرشة. حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضل، عن أبيه، أنه قال: قتلها لخمس ليالٍ بقين من رمضان، على رأس تسعة عشر شهراً. ثم سرية سالم بن عمير، قتل أبا عفك في شوال، على رأس عشرين شهراً. ثم غزوة قنقاع في النصف من شوال، على رأس عشرين شهراً. ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة السويق في ذي الحجة، على رأس اثنين وعشرين شهراً. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني سليم بالكدر في المحرم، على رأس ثلاثة وعشرين شهراً. ثم سرية قتل ابن الأشرف في ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهراً. ثم غزوة غطفان إلى نجد، وهي ذو أمر، في ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً. ثم سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي. قال عبد الله: خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس ليال خلون من المحرم، على رأس خمسة وثلاثين شهراً، فغبت ثماني عشرة ليلة، وقدمت يوم السبت لسبعٍ بقين من المحرم. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني سليم ببحران في جمادى الأولى، على رأس سبعة وعشرين شهراً. ثم سرية القردة، أميرها زيد بن حارثة، في جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهراً، فيها أبو سفيان بن حرب. ثم غزا

النبي صلى الله عليه وسلم أحداً في شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهراً. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم حمراء الأسد في شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهراً. ثم سريةٌ أميرها أبو سلمة بن عبد الأسد إلى قطن إلى بني الأسد، على رأس خمسة وثلاثين شهراً في المحرم. ثم بئر معونة، أميرها المنذر بن عمرو، في صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً. ثم غزوة الرجيع في صفر، على رأس ستة وثلاثين شهراً، أميرها مرثد. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير في ربيع الأول، على رأس سبعة وثلاثين شهراً. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم بدر الموعد في ذي القعدة، على رأس خمسة وأربعين شهراً. ثم سرية ابن عتيك إلى ابن أبي الحقيق فزعت يهود إلى سلام بن مشكم بخيبر فأبى أن يرأسهم، فقام أسير بن زارم بحربهم. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم ذات الرقاع في المحرم، على رأس سبعة وأربعين شهراً. ثم غزا دومة الجندل في ربيع الأول، على رأس تسعة وأربعين شهراً. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم المريسيع، في شعبان سنة خمس. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم الخندق في ذي القعدة سنة خمس. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة في ليالٍ من ذي القعدة وليالٍ من ذي الحجة سنة خمس. ثم سرية ابن أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح، في المحرم سنة ست، ثم سرية محمد بن مسلمة في المحرم سنة ست إلى القرطاء. ثم غزوة النبي صلى الله عليه وسلم بني لحيان، إلى الغابة، في ربيع الأول سنة ست. ثم سرية أميرها عكاشة بن محصن إلى الغمر، في ربيع الآخر سنة ست. ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة، في ربيع الآخر سنة ست. ثم سريةٌ أميرها أبو عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة، في ربيع الآخر سنة ست. ثم سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم، في ربيع الآخر سنة ست، وكانتا في شهرٍ واحد الجموم ما بين بطن نخل والنقرة. ثم سرية زيد بن حارثة إلى العيص في جمادى الأولى سنة ست. ثم سرية زيد بن حارثة إلى الطرف في جمادى الآخرة سنة ست والطرف على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة. ثم سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في جمادى الآخرة سنة ست وحسمى وراء وادي القرى. ثم سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب سنة ست. ثم سريةٌ أميرها عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان سنة ست. ثم غزوة علي عليه السلام إلى فدك في شعبان سنة ست. ثم غزوة زيد بن حارثة إلى أم قرفة في رمضان سنة ست ناحية وادي القرى إلى جانبها. ثم غزوة ابن رواحة إلى أسير بن زارم في شوال سنة ست. ثم سرية كرز بن جابر إلى العرنيين في شوال سنة ست. ثم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم خيبر في جمادى الآخرة، فقاتل بها سنة سبع. ثم سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة في شعبان بن أبي قحافة رضي الله عنه في شعبان إلى نجد، سنة سبع. ثم سرية بشير بن سعد إلى فدك في شعبان سنة سبع. ثم سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة في رمضان سنة سبع والميفعة ناحية نجد. ثم سرية بشير بن سعد إلى الجناب، في شوال سنة سبع. ثم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع. ثم غزوة ابن أبي العرجاء السلمى في ذي الحجة سنة سبع. ثم غزوة غالب بن عبد الله إلى الكديد، في صفر سنة ثمان والكديد وراء قديد. ثم سرية شجاع بن وهب، في ربيع الأول سنة ثمان، إلى بني عامر بن الملوح. ثم غزوة كعب بن عمير الغفاري في سنة ثمان، في ربيع الأول، إلى ذات أطلاح وأطلاح ناحية الشام من البلقاء على ليلة. ثم غزوة زيد بن حارثة إلى مؤتة، سنة ثمان. ثم غزوةٌ أميرها عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، في جمادى الآخرة سنة ثمان. ثم غزوة الخبط أميرها أبو عبيدة بن الجراح، في رجب سنة ثمان. ثم سرية خضرة، أميرها أبو قتادة، في شعبان سنة ثمان وخضرة ناحية نجد على عشرين ميلاً عند بستان ابن عامر. ثم سرية أبي قتادة إلى إضم، في رمضان سنة ثمان. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، في ثلاث عشرة مضت من رمضان سنة ثمان. ثم هدم العزى لخمس ليالٍ بقين من رمضان سنة ثمان، هدمها خالد بن الوليد. ثم هدم سواع، هدمه عمرو بن العاص، وكان في رمضان. ثم هدم مناة، هدمها سعد بن زيد الأشهلي في رمضان سنة ثمان. ثم غزوة بني جذيمة، غزاها خالد بن الوليد في

شوال سنة ثمان. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم حنيناً في شوال سنة ثمان. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم الطائف في شوال سنة ثمان. وحج الناس سنة ثمان. ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج، ويقال حج الناس أوزاعاً بلا أمير. ثم سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم في المحرم سنة تسع. ثم سرية قطبة بن عامر إلى خثعم في صفر سنة تسع. ثم سرية بني كلاب في ربيع الأول سنة تسع، أميرها الضحاك بن سفيان، ثم سرية علقمة بن محرز إلى الحبشة، في ربيع الآخر سنة تسع. ثم سرية علي عليه السلام إلى الفلس، في ربيع الآخر سنة تسع. ثم غزوة النبي صلى الله عليه وسلم تبوك، في رجب سنة تسع. ثم سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر، في رجب سنة تسع. ثم هدم ذى الكفين صنم عمرو بن حممة الدوسي. وحج الناس سنة تسع، وحج أبو بكر سنة تسع. ثم غزوة خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان، في ربيع الأول سنة عشر. وسرية علي عليه السلام إلى اليمن، يقال مرتين إحداهما في رمضان سنة عشر. وحج النبي صلى الله عليه وسلم بالناس سنة عشر، ورجع من مكة فمرض بضع عشرة ليلة. وعقد لأسامة بن زيد في مرضه إلى الشام، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج حتى بعثه أبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي يوم الاثنين لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. سنة ثمان. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم حنيناً في شوال سنة ثمان. ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم الطائف في شوال سنة ثمان. وحج الناس سنة ثمان. ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج، ويقال حج الناس أوزاعاً بلا أمير. ثم سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم في المحرم سنة تسع. ثم سرية قطبة بن عامر إلى خثعم في صفر سنة تسع. ثم سرية بني كلاب في ربيع الأول سنة تسع، أميرها الضحاك بن سفيان، ثم سرية علقمة بن محرز إلى الحبشة، في ربيع الآخر سنة تسع. ثم سرية علي عليه السلام إلى الفلس، في ربيع الآخر سنة تسع. ثم غزوة النبي صلى الله عليه وسلم تبوك، في رجب سنة تسع. ثم سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر، في رجب سنة تسع. ثم هدم ذى الكفين صنم عمرو بن حممة الدوسي. وحج الناس سنة تسع، وحج أبو بكر سنة تسع. ثم غزوة خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان، في ربيع الأول سنة عشر. وسرية علي عليه السلام إلى اليمن، يقال مرتين إحداهما في رمضان سنة عشر. وحج النبي صلى الله عليه وسلم بالناس سنة عشر، ورجع من مكة فمرض بضع عشرة ليلة. وعقد لأسامة بن زيد في مرضه إلى الشام، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج حتى بعثه أبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي يوم الاثنين لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.
فكانت مغازي النبي صلى الله عليه وسلم التي غزا بنفسه سبعاً وعشرين غزوة. وكان ما قاتل فيها تسعاً: بدر القتال، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف. وكانت السرايا سبعاً وأربعين سرية، واعتمر ثلاث عمر. ويقال قد قاتل في بني النضير ولكن الله جعلها له نفلاً خاصة. وقاتل في غزوة وادي القرى في منصرفة عن خيبر، وقتل بعض أصحابه. وقاتل في الغابة حتى قتل محرز بن نضلة، وقتل في العدو ستة.

قالوا: واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازية على المدينة: في غزوة ودان سعد بن عبادة، واستخلف في غزوة بواط سعد بن معاذ، وفي طلب كرز بن جابر الفهري زيد بن حارثة، وفي غزوة ذي العشيرة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وفي غزوة بدر القتال أبا لبابة بن عبد المنذر العمري، وفي غزوة السويق أبا لبابة بن عبد المنذر العمري، وفي غزوة الكدر ابن أم مكتوم المعيصي، وفي غزوة ذي أمر عثمان بن عفان، وفي غزوة بحران ابن أم مكتوم، وفي غزوة أحد ابن أم مكتوم، وفي غزوة حمراء الأسد ابن أم مكتوم، وفي غزوة بني نضير ابن أم مكتوم، وفي غزوة بدر الموعد عبد الله بن رواحة، وفي غزوة ذات الرقاع عثمان بن عفان، وفي غزوة دومة الجندل سباع بن عرفطة، وفي غزوة المريسيع زيد بن حارثة، وفي غزوة الخندق ابن أم مكتوم، وفي غزوة بني قريظة ابن أم مكتوم، وفي غزوة بني لحيان ابن أم مكتوم، وفي غزوة الغابة ابن أم مكتوم، وفي غزوة الحديبية ابن أم مكتوم، وفي غزوة خيبر سباع بن عرفطة الغفاري، وفي عمرة القضية أبا رهم الغفاري، وفي غزوة الفتح وحنين والطائف ابن أم مكتوم، وفي غزوة تبوك ابن أم مكتوم، ويقال محمد بن مسلمة الأشهلي، وفي حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم.
وكان شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال، في بدر: يا منصور أمت، ويقال جعل شعار المهاجرين: بني عبد الرحمن، والخزرج: بني عبد الله، والأوس: بني عبيد الله، وفي يوم الأحد: أمت أمت، وفي بني النضير: أمت أمت، وفي المريسيع: أمت أمت وفي الخندق: حم لا ينصرون، وفي قريظة والغابة لم يسم أحداً، وفي حنين: يا منصور أمت، وفي الفتح شعار المهاجرين: بني عبد الرحمن، وجعل شعار الخزرج: بني عبد الله، والأوس: بني عبيد الله، وفي خيبر: بني عبد الرحمن للمهاجرين، وللخزرج: بني عبد الله، وللأوس: بني عبيد الله، وفي الطائف لم يسم أحداً.
سرية حمزة بن عبد المطلبوكانت سرية حمزة بن عبد الملطلب في رمضان، على رأس سبعة أشهر من مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلّم.
قالوا: أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد أن قدم المدينة لحمزة بن عبد المطلب، بعثه في ثلاثين راكباً شطرين، خمسة عشر من المهاجرين وخمسة عشر من الأنصار، فكان من المهاجرين: أبو عبيدة ابن الجراح، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولة أبى حذيفة، وعامر بن ربيعة، وعمرو بن سراقة، وزيد بن حارثة، وكناز بن الحصين وابنه مرثد بن كناز، وأنسة مولى رسول صلى الله عليه وسلّم، في رجال. ومن الأنصار: أبى بن كعب، وعمارة بن حزم، وعبادة بن الصامت، وعبيد بن أوس، وأوس بن خولى، وأبو دجانة، والمنذر بن عمرو، ورافع ابن مالك، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وقطبة بن عامر بن حديدة، في رجال لم يسموا لنا.
فبلغوا سيف البحر يعترض لعير قريش قد جاءت من الشام تريد مكة، فيها أبو جهل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة. فالتقوا حتى اصطفوا للقتال، فمشى بينهم مجدى بن عمرو، وكان حليفاً للفريقين جميعاً، فلم يزل يمشى إلى هولاء وإلى هؤلاء حتى انصرف القوم وانصرف حمزة راجعاً إلى المدينة في أصحابه، وتوجه أبو جهل في عيره وأصحابه إلى مكة، ولم يكن بينهم قتال. فلما رجع حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم خبره بما حجز بينهم مجدى، وأنهم رأوا منه نصفة لهم، فقدم رهط، مجدىً على النبي صلى الله عليه وسلّم فكساهم وصنع إليهم خيراً، وذكر مجدى بن عمرو فقال: إنه ما علمت ميمون النقيبة مبارك الأمر. أو قال: رشيد الأمر.
حدثني عبد الرحمن بن عياش، عن عبد الملك بن عبيد، عن ابن المسيب وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قالا: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحداً من الأنصار مبعثاً حتى غزا بنفسه إلى بدر، وذلك أنه ظن أنهم لا ينصرونه إلا في الدار، وهو المثبت.
سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ

ثم عقد لواء لعبيدة بن الحارث، في شوال على رأس ثمانية أشهر، إلى رابغ ورابغ على عشرة أميال من الجحفة وأنت تريد قديداً. فخرج عبيدة في ستين راكباً، فلقى أبا سفيان بن حرب على ماءٍ له أحياء من بطن رابغ، وأبو سفيان يومئذ في مائتين. فكان أول من رمى بسهمٍ في الإسلام سعد بن أبي وقاص، نثر كنانته وتقدم أمامه أصحابه وترس أصحابه عنه. قال: فرمى بما في كنانته حتى أفناها، ما فيها سهمٍ إلا ينكى به. ويقال: كان في الكنانة عشرون سهماً، فليس منها سهمٌ إلا يقع فيجرح إنساناً أو دابةً. ولم يكن سهم يومئذٍ إلا هذا، لم يسلوا السيوف ولم يصطفوا للقتال أكثر من هذا الرمى والمناوشة، ثم انصرف هؤلاء على حاميتهم، وهؤلاء على حاميتهم. فكان سعد بن أبي وقاص يقول فيما حدثني ابن أبي سبرة، عن المهاجر بن مسمار، قال: كان الستون كلهم من قريش. قال سعد: فقلت لعبيدة: لو اتبعناهم لأصبناهم، فإنهم قد ولوا مرعوبين. قال: فلم يتابعني على ذلك، فانصرفوا إلى المدينة.
سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرارثم عقد رسول الله صلى الله عليه وسلّم لواء لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار - والخرار من الجحفة قريب من خم - في ذي القعدة، على رأس تسعة أشهر من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فحدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اخرج يا سعد حتى تبلغ الخرار، فإن عيراً لقريش ستمر به. فخرجت في عشرين رجلاً أو أحدٍ وعشرين على أقدامنا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحناها صبح خمسٍ، فنجد العير قد مرت بالأمس. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى ألا أجاوز الخرار، ولولا ذلك لرجوت أن أدركهم.
فيقال: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحداً من الأنصار مبعثاً حتى غزا بهم بدراً، وذلك لأنهم شرطوا له أن يمنعوه في دارهم. حدثني بذلك عبد الرحمن بن عياش المخزومي، عن عبد الملك بن عبيد بن سعيد بن يربوع، عن سعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع.
غزوة الأبواءثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، في صفر على رأس أحد عشر شهراً، حتى بلغ الأبواء يعترض لعير قريش، فلم يلق كيداً، وفي هذه الغزاة وادع بني ضمرة من كنانة على ألا يكثروا عليه، ولا يعينوا عليه أحداً. ثم كتب بينهم كتاباً، ثم رجع، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
غزوة بواطثم غزا بواط - وبواط حيال ضبة من ناحية ذي خشب، بين بواط والمدينة ثلاثة برد - في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهراً، يعترض لعير قريش، فيها أمية بن خلف ومائة ردلٍ من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، ثم رجع ولم يلق كيداً.
غزوة بدر الأولثم غزا في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهراً في طلب كرز بن جابر الفهري، أغار على سرح المدينة، وكان يزعى بالجماء ونواحيها، حتى بلغ بدراً ولم يدركه.
غزوة ذي العشيرةثم غزا في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً، يعترض لعيرات قريش حين أبدأت إلى الشام، فندب أصحابه فخرج في خمسين ومائة - ويقال في مائتين - وكان قد جاءه الخبر بفصول العير من مكة تريد الشام، قد جمعت قريش أموالها فهي في تلك العير، فسلك على نقب من بني دينار بيوت السقيا، وهي غزوة ذي العشيرة.
سرية نخلةثم سريةٌ أميرها عبد الله بن جحش إلى نخلة، ونخلة وادي بستان، ابن عامر، في رجب على رأس سبعة عشر شهراً.

قالوا: قال عبد الله بن جحش: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين صلى العشاء فقال: واف مع الصبح، معك سلاحك، أبعثك وجهاً! قال: فوافيت الصبح وعى سيفي وقوسي وجعبتي ومعي درقتي، فصلى النبي صلى الله عليه وسلّم بالناس الصبح ثم انصرف، فيجدني قد سبقته واقفاً عند بابه، وأجد نفراً معي من قريش. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبى بن كعب فدخل عليه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكتب كتاباً. ثم دعانتي فأعطاني صحيفةً من أديمٍ خولاني فقال: قد استعملتك على هؤلاء النفر، فامض حتى إذا سرت ليلتين فانشر كتابي، ثم امض لما فيه. قلت: يا سول الله، أي ناحية؟ فقال: اسلك النجدية، تؤم ركية قال: فانطلق حتى إذا كان ببئر ابن ضميرة نشر الكتاب فقرأه فإذا فيه: سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته، ولا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك، وامض لأمري فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش. فلما قرأ عليهم الكتاب قال: لست مستكرهاً منكم أحداً، فمن كان يريد الشهادة فليمض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن أراد الرجعة فمن الآن! فقالوا أجمعون: نحن سامعون ومطيعون لله ورسوله ولك، فسر على بركة الله حيث شئت. فسار حتى جاء نخلة فوجد عيراً لقريش فيها عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان المخزومي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، ونوفل بن عبد الله المخزومي. فلما رأوهم أصحاب العير هابوهم وأنكروا أمرهم، فحلق عكاشة رأسه من ساعته، ثم أوفى ليطمئن القوم.
قال عامر بن ربيعة: فحلقت رأس عكاشة بيدي وقد رأى واقد ابن عبد الله وعكاشة أن يغيروا عليهم فيقول لهم: عمار! نحن في شهر حرام! فأشرف عكاشة فقال المشركون بعضهم لبعض: لا بأس، قومٌ عمار! فأمنوا في أنفسهم، وقيدوا ركابهم وسرحوها، واصطنعوا طعاماً. تشاور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أمرهم - وكان آخر يوم من رجب، ويقال أول يوم من شعبان - فقالوا: إن أخرتم عنهم هذا اليوم دخلوا الحرم فامتنعوا، وإن أصبتموهم ففي الشهر الحرام. وقال قائل: لا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا. وقال قائل: لا نعلم هذا اليوم إلا من الشهر الحرام، ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفيتم عليه. فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا، فشجع القوم فقاتلوهم. فخرج واقد ابن عبد الله يقدم القوم، قد أنبض قوسه وفوق بسهمه، فرمى عمرو بن الحضرمي - وكان لا يخطى رميته - بسهم فقتله. وشد القوم عليهم، فاستأسر عثمان بن عبد الله بن المغيرة، وحكم بن كيسان، وأعجزهم نوفل ابن عبد الله بن المغيرة، واستاقوا العير.
حدثنا محمد قال: حدثنا محمد قال: حدثني علي بن يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي، عن أبيه عن عمته، عن أمها كريمة ابنة المقداد، عن المقداد بن عمرو، قال: أنا أسرت الحكم ابن كيسان، فأراد أميرنا ضرب عنقه، فقلت: دعه، نقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقدمنا به على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فأطال رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلامه، فقال عمرو بن الخطاب رضي الله عنه: تكلم هذا يا رسول الله؟ والله لا يسلم هذا آخر الأبد، دعني أضرب عنقه ويقدم إلى أمه الهاوية! فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم لا يقبل على عمر حتى أسلم الحكم، فقال عمر: فما هو إلا أن رأيته قد أسلم، وأخذني ما تقدم وتأخر وقلت: كيف أراد على النبي صلى الله عليه وسلّم أمراً هو أعلم به مني، ثم أقول: إنما أردت بذلك النصيحة لله ولرسول! قال عمر: فأسلم والله فحسن إسلامه، وجاهد في الله حتى قتل شهيداً يوم بئر معونة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم راضٍ عنه ودخل الجنان.

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري قال: قال الحكم: وما الإسلام؟ قال: تعبد الله وحده لا شريك له، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: قد أسلمت. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أصحابه فقال: لو أطعتكن فيه آنفاً فقتلته، دخل النار قالوا: واستاقوا العير، وكانت العير فيها خمرٌ وادمٌ وزبيبٌ جاءوا به من الطائف، فقدموا به على النبي صلى الله عليه وسلّم. فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، فقد أصاب الدم والمال، وقد كان يحرم ذلك ويعظمه. فقال من يرد عليهم: إنما أصبتم في ليلةٍ من شعبان. وأقبل القوم بالعير، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقف العير فلم يأخذ منها شيئاً، وحبس الأسيرين، وقال لأصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم قال: ما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالقتال في الشهر الحرام ولا غير الشهر الحرام، إنما أمرهم أن يتحسسوا أخبار قريش.
قالوا: وسقط في أيدي القوم، وظنوا أن قد هلكوا، وأعظم ذلك من قدموا عليه، فعنفوهم ولاموهم، والمدينة تفور فور المرجل، وقالت اليهود: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله التميمي، عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد وقدت الحرب! قال ابن واقد: قد تفاءلوا بذلك، فكان ذلك من الله على يهود.
قالوا: وبعثت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلّم في فداء أصحابهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لن نفديهما حتى يقدم صاحبانا! يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان.
فحدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد، عن أبيه قال، قال سعد ابن أبي وقاص: خرجنا مع عد الله بن جحش حتى ننزل ببحران - وبحران ناحية معدن بني سليم - فأرسلنا أباعرنا، وكنا اثني عشر رجلاً، كل اثنين يتعاقبان بعيراً. فكنت زميل عتبة بن غزوان وكان البعير له، فضل بعيرنا، وأقمنا عليه يومين نبغيه. ومضى أصحابنا وخرجنا في آثارهم فأخطأناهم، فقدموا المدينة قبلنا بأيام، ولم نشهد نخلة، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم يظنون أنا قد أصبنا، وقد أصابنا في سفرنا مجاعة، لقد خرجنا من المليحة وبين المليحة وبين المدينة ستة برد، وبينها وبين المعدن ليلة بين معدن بني سليم وبين المدينة. قال: لقد خرجنا من المليحة نوبةً، وما معنا ذواق حتى قدمنا المدينة. قال قائلٌ: أبا إسحاق، كم كان بين ذلك وبين المدينة؟ قال: ثلاث، كنا إذا بلغ منا أكلنا العضاه وشربنا عليه الماء، حتى قدمنا المدينة فنجد نفراً من قريش قد قدموا في فداء أصحابهم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يفاديهم وقال: إني أخاف على صاحبي. فلما قدمنا فاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وكان من قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم: إن قتلتم صاحبي قتلت صاحبيكم. وكان فداؤهما أربعين أوقية فضةً لكل واحد، والأوقية أربعون درهماً.
فحدثني عمر بن عثمان الجحشي، عن أبيه، عن محمد بن عبد الله بن جحش، قال: كان في الجاهلية المرباع، فلما رجع عبد الله بن جحش من نخلة خمس ما غنم، وقسم بين أصحابه سائر الغنائم، فكان أول خمس خمس في الإسلام حتى نزل بعد " واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه " .
فحدثني محمد بن يحيى بن سهل، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن رافع بن خديج، عن أبي بردة بن نيار، أن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف غنائم أهل نخلة، ومضى إلى بدر، حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر، وأعطى كل قوم حقهم.
قالوا: ونزل القرآن " يسئلونك عن الشهر الحرام " ، فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام كما كان، من صدهم عن سبيل الله حتى يعذبوهم ويحبسوهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة، وفتنتهم إياهم عن الدين، ويقول: " والفتنة أشد من القتل " . قال: عنى به إساف ونائلة.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: فودى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمرو بن الحضرمي، وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل عز وجل " براءة " .

فحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهل، عن كريب، قال: سألت ابن عباس: هل ودي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابن الحضرمي؟ قال: لا. قال ابن واقد: والمجتمع عليه عندنا أنه لم يود. وفي تلك السرية سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين، حدثني بذلك أبو معشر.
تسمية من خرج مع عبد الله بن جحش في سريتهثمانية نفر: عبد الله بن جحش، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وعكاشة بن محصن، وخالد ابن أبي البكير، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، ولم يشهدا الواقعة. ويقال كانوا اثني عشر، ويقال كانوا ثلاثة عشر، والثابت عندنا ثمانية.
بدء القتالقالوا: ولما تحين رسول الله صلى الله عليه وسلّم انصراف العير من الشام، ندب أصحابه للعير، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، قبل خروجه من المدينة بعشر ليال، يتحسسان خبر العير، حتى نزلا على كشد الجهني بالنخبار من الحوراء - والنخبار من وراء ذي المروة على الساحل - فأجارهما، وأنزلهما، ولم يزالا مقيمين عنده في خباءٍ حتى مرت العير، فرفع طلحة وسعيد على نشزٍ من الأرض، فنظرا إلى القوم، وإلى ماتحمل العير، وجعل أهل العير يقولون: يا كشد، هل رأيت أحداً من عيون محمد؟ فيقول: أعوذ بالله، وأني عيون محمد بالنخبار؟ فلم راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا، وخرج معهما كشد خفيراً، حتى أوردهما ذا المروة. وساحلت العير فأسرعت، وساروا الليل والنهار فرقاً من الطلب. فقدم طلحة بن عبيد الله وسعيد المدينة اليوم الذي لاقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببدر، فخرجا يعترضان النبي صلى الله عليه وسلّم، فلقياه بتربان وتربان بين ملل والسيالة على المحجة، وكانت منزل ابن أذينة الشاعر. وقدم كشد بعد ذلك، فاخبر النبي صلى الله عليه وسلّم سعيد وطلحة إجارته إياهما، فحياه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأكرمه وقال: ألا أقطع لك ينبع؟ فقال: إني كبيرٌ وقد نفد عمري، ولكن أقطعها لابن أخي. فقطعها له.
قالوا: وندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين وقال: وهذه عير قريش فيها أموالهم، لعل الله يغنمكموها. فأسرع من أسرع، حتى إن كان الرجل ليساهم أباه في الخروج، فكان ممن ساهم سعد بن خيثمة وأبوه في الخروج إلى بدر، فقال سعد لأبيه: إنه لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا! فقال خيثمة: آثرني، وقر مع نسائك! فأبى سعد، فقال خيثمة: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم. فاستهما، فخرج سهم سعد فقتل ببدر.
وأبطأ عن النبي صلى الله عليه وسلّم بشرٌ كثيرٌ من أصحابه، كرهوا خروجه، وكان فيه كلامٌ كثيرٌ واختلاف. وكان من تخلف لم يلم لأنهم ما خرجوا على قتال، وإنما خرجوا للعير. وتخلف قوم من أهل نيات وبصائر، لو ظنوا أنه يكون قتال ما تخلفوا. وكان ممن تخلف أسيد بن حضير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أسيد: الحمد لله الذي سرك وأظهرك على عدوك! والذي بعثك بالحق، ما تخلفت عنك رغبةً بنفسي عن نفسك، ولا ظننت أنك تلاقي عدواً، ولا ظننت إلا أنها العير. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدقت! وكانت أول غزوة أعز الله فيها الإسلام، وأذل فيها أهل الشرك.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمن معه حتى انتهى إلى نقب بني دينار، ثم نزل بالبقع وهي بيوت السقيا - البقع نقب بني دينار بالمدينة، والسقيا متصل ببيوت المدينة - يوم الأحد لاثنتي عشرة خلت من رمضان. فضرب عسكره هناك، وعرض المقاتلة، فعرض عبد الله بن عمر، وأسامة ابن زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، فردهم ولم يجزهم.
فحدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج، لعل الله يرزقني الشهادة. قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستصغره، فقال: ارجع! فبكى عمير، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال: فكان سعد يقول: كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة.

فحدثني أبو بكر بن عبد الله قال: حدثني عياش بن عبد الرحمن الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر أصحابه أن يستقوا من بئرهم يومئذٍ، وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ماء بئرهم. فحدثني عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان أول من شرب من بئرهم ذلك اليوم. حدثني عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يستعذب له من بيوت السقيا بعد ذلك.
فحدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند بيوت السقيا، ودعا يومئذٍ لأهل المدينة فقال: اللهم، إن إبراهيم، عبدك وخليلك ونبيك، دعاك لأهل مكة! وإني محمدٌ عبدك ونبيك، أدعوك لأهل المدينة، أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم! اللهم، حبب إلينا المدينة، واجعل ما بها من الوباء بخمٍّ، اللهم، إني قد حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم خليلك مكة! وخم على ميلين من الجحفة.
قالوا: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم عدي بن أبي الزغباء وبسبس بن عمرو من بيوت السقيا. قالوا: وجاء عبد الله بن عمرو بن حرام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ، فقال: يا رسول الله، لقد سرني منزلك هذا، وعرضك فيه أصحابتك، وتفاءلت به، إن هذا منزلنا - بني سلمة - حيث كان بيننا وبين أهل حسيكة ما كان - حسيكة الذباب، والذباب جبل بناحية المدينة، كان بحسيكة يهود، وكان لهم بها منازل كثيرة - فعرضنا ها هنا أصحابنا، فأجزنا من كان يطيق السلاح ورددنا من صغر عن حمل السلاح، ثم سرنا إلى يهود حسيكة، وهم أعز يهود كانوا يومئذٍ، فقتلناهم كيف شئنا، فذلت لنا سائر يهود إلى اليوم، وأنا أرجو يا رسول الله أن نلتقي نحن وقريش، فيقر الله عينك منهم.
وكان خلاد بن عمرو بن الجموح يقول: لما كان من النهار رجع إلى أهله بخربي، فقال له أبوه عمرو بن الجموح: ما ظننت إلا أنكم قد سرتم! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعرض الناس بالبقع. قال عمرو: نعم الفأل، والله إني لأرجو أن تغنموا وأن تظفروا بمشركي قريش! إن هذا منزلنا يوم سرنا إلى حسيكة. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد غير اسمه، وسماه السقيا. قال: فكانت في نفسي أن أشتريها، حتى اشتراها سعد بن أبي وقاص ببكرين، ويقال بسبع أواقٍ. قال: فذكر للنبي صلى الله عليه وسلّم عشية الأحد من بيوت السقيا، لاثنتي عشرة مضت من رمضان. وخرج المسلمون معه، وهم ثلثمائة وخمسة، وثمانية تخلفوا فضرب لهم بسهامهم وأجورهم. وكانت الإبل سبعين بعيراً، وكانوا يتعاقبون الإبل، الاثنين، والثلاثة، والأربعة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعلي بن أبي طالب عليه السلام، ومرثد - ويقال زيد بن حارثة مكان مرثد - يتعاقبون بعيراً واحداً. وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة مولى النبي صلى الله عليه وسلّم على بعير. وكانت عبيدة بن الحارث، والطفيل، والحصين، ابنا الحارث، ومسطح بن أثاثة على بعيرٍ لعبيدة بن الحارث ناضحٍ، ابتاعه من ابن أبي داود المازني. وكان معاذ، وعوف، ومعوذ، بنو عفراء، ومولاهم أبو الحمراء على بعير، وكان أبي بن كعب، وعمارة بن حزم، وحارثة بن النعمان على بعير، وكان خراش بن الصمة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعبد الله بن عمرو بن حرام على بعير، وكان عتبة بن غزوان، وطليب ابن عمير على جملٍ لعتبة بن غزوان، يقال له العبيس. وكان مصعب ابن عمير، وسويبط بن حرملة، ومسعود بن ربيع على جملٍ لمصعب، وكان عمار بن ياسر، وابن مسعود على بعير، وكان عبد الله بن كعب، وأبو داود المازني، وسليط بن قيس على جملٍ لعبد الله بن كعب، وكان عثمان، وقدامة، وعبد الله بن مظعون، والسائب بن عثمان، على بعير يتعاقبون، وكان أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف على بعير، وكان سعد ابن معاذ، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف على بعير، وكان سعد ابن معاذ، وأخوه، وابن أخيه الحارث بن أوس، والحارث بن أنس، على جملٍ لسعد بن معاذ ناضحٍ، يقال له الذيال، وكان سعد بن زيد، وسلمة ابن سلامة، وعباد بن بشر، ورافع بن يزيد، والحارث بن خزمة على ناضحٍ لسعد بن زيد، ما تزود إلا صاعاً من تمر.

فحدثني عبيد بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى بدر، وكان كل ثلاثة يتعاقبون بعيراً، فكنت أنا وأخي خلاد بن رافع على بكرٍ لنا، ومعنا عبيد بن زيد ابن عامر، فكنا نتعاقب. فسرنا حتى إذا كنا الروحاء، أذم بنا بكرنا، فبرك علينا، وأعيا، فقال أخي: اللهم، إن لك على نذراً، لئن رددتنا إلى المدينة لأنحرنه. قال: فمر بنا النبي صلى الله عليه وسلّم ونحن على تلك الحال، فقلنا: يا رسول الله، برك علينا بكرنا. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بماءٍ، فتمضمض وتوضأ في إناءٍ، ثم قال: افتحا فاه! ففعلنا، ثم صبه في فيه، ثم على رأسه، ثم على عنقه، ثم على حاركه، ثم على سنامه، ثم على عجزه، ثم على ذنبه، ثم قال: اركبا! ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلحقناه أسف المنصرف وإن بكرنا لينفر بنا، حتى إذا كنا بالمصلى راجعين من بدر برك علينا، فنحره أخي، فقسم لحمه وتصدق به.
وحدثني يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، قال: حمل سعد بن عبادة في بدر على عشرين جملاً.
فحدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص، قال: خرجنا إلى بدرٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعنا سبعون بعيراً، فكانوا يتعاقبون، الثلاثة، والأربعة، والاثنان، على بعير. وكنت أنا من أعظم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام عنه غناءً، أرجلهم رجلةً، وأرماهم بسهم، لم أركب خطوة ذاهباً ولا راجعاً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين فصل من بيوت السقيا: اللهم، إنهم حفاةٌ فاحملهم، وعراةٌ فاكسهم، وجياعٌ فأشبعهم، وعالةٌ فأغنهم من فضلك! قال: فما رجع أحدٌ منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهراً، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عارياً، وأصابوا طعاماً من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائل. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المشاة قيس بن أبي صعصة - واسم ابن صعصعة عمرو بن زيد ابن عوف بن مبذول - وأمره النبي صلى الله عليه وسلّم حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين. فوقف لهم ببئر أبي عنبة فعدهم، ثم أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بيوت السقيا حتى سلك بطن العقيق، ثم سلك طريق المكتمن حتى خرج على بطحاء ابن أزهر، فنزل تحت شجرة هناك، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى حجار، فبنى تحتها مسجداً، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وأصبح يوم الاثنين فهو هناك، وأصبح ببطن ملل وتربان، بين الحفيرة وملل. وقال سعد بن أبي وقاص: لما كنا بتربان قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا سعد، انظر إلى الظبي، قال: فأفوق له بسهمٍ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فوضع ذقنه بين منكبي وأذني، ثم قال: ارم، اللهم سدد رميته! قال: فما أخطأ سهمي عن نحره. قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وخرجت أعدو، فأجده وبه رمق، فذكيته فحملناه حتى نزلنا قريباً، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقسم بين أصحابه. حدثني بذلك محمد بن بجاد، عن أبيه، عن سعد.
قالوا: وكان معهم فرسان، فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، وفرس للمقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة. ويقال فرس للزبير. ولم يكن إلا فرسان، ولا اختلاف عندنا أن المقداد له فرسٌ.
حدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أبيها، عن ضباعة بنت الزبير، عن المقداد بن عمرو، قال: كان معي فرس يوم بدر يقال له سبحة. وحدثني سعد بن مالك الغنوي، عن آبائه، قال: شهد مرثد بن أبي مرثد الغنوي يومئذٍ على فرسٍ له، يقال له السيل.
قالوا: ولحقت قريشٌ بالشام في عيرها، وكانت العير ألف بعير، وكانت فيه أموال عظام، ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشيةٌ له مثقالٌ فصاعداً، إلا بعث به في العير، حتى إن المرأة لتبعث بالشيء التافه. فكان يقال: إن فيها لخمسين ألف دينار، وقالوا أقل، وإن كان ليقال إن أكثر ما فيها من المال لآل سعيد بن العاص أبي أحيحة إما مالٌ لهم، أو مال مع قوم قراض على النصف، فكانت عامة العير لهم. ويقال كان لبني مخزوم فيها مائتا بعير، وخمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهب، وكان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألف مثقال، وكان لأمية بن خلف ألفا مثقال.

فحدثني هشام بن عمارة بن أبي الحويرث قال: كان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال، وكان متجرهم إلى غزة من أرض الشام، وكانت عيرات بطون قريش فيها يعني العير.
فحدثني عبد الله بن جعفر، عن أبي عون مولى المسور، عن مخرمة ابن نوفل، قال: لما لحقنا بالشام أدركنا رجلٌ من جذام، فأخبرنا أن محمداً كان عرض لعيرنا في بدأتنا، وأنه تركه مقيماً ينتظر رجعتنا، قد حالف علينا أهل الطريق ووادعهم. قال مخرمة: فخرجنا خائفين نخاف الرصد، فبعثنا ضمضم بن عمرو حين فصلنا من الشام. وكان عمرو بن العص يحدث يقول: لما كنا بالزرقاء - والزرقاء بالشام بناحية معان من أذرعات على مرحلتين - ونحن منحدرون إلى مكة، لقينا رجلاً من جذام، فقال: قد كان عرض محمد لكن في بدأتكم في أصحابه. فقلنا: ما شعرنا! قال: بلى، فأقام شهراً ثم رجع إلى يثرب، وأنتم يوم عرض محمد لكم مخفون، فهو الآن أحرى أن يعرض لكم، إنما يعد لكم الأيام عدّاً، فاحذروا على عيركم وارتأوا آراءكم، فوالله ما أرى من عدد، ولا كراع، ولا حلقة. فأجمعوا أمرهم، فبعثوا ضمضماً، وكان في العير، وقد كانت قريش مرت به وهو بالساحل مع بكرانٍ له، فاستأجروه بعشرين مثقالاً. وأمره أبو سفيان أن يخبر قريشاً أن محمداً قد عرض لعيرهم، وأمره أن يجدع بعيره إذا دخل، ويحول رحله، ويشق قميصه من قبله ودبره ويصيح: الغوث! الغوث! ويقال إنما بعثوه من تبوك. وكان في العير ثلاثون رجلاً من قريش، فيهم عمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل.
قالوا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل ضمضم بن عمرو رؤيا رأتها فأفزعتها، وعظمت في صدرها. فأرسلت إلى أخيها العباس فقالت: يا أخي، قد رأيت والله رؤيا الليلة أفظعتها، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شرٌ ومصيبةٌ، فاكتم على أحدثك منها. قالت: رأيت راكباً أقبل على بعيرٍ حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: يا آل غدر، انفروا إلى مصارعكم في ثلاث! فصرخ بها ثلاث مرات، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة، فصرخ بمثلها ثلاثاً، ثم مثل له بعيره على رأس أبي قبيس، ثم صرخ بمثلها ثلاثاً. ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها، فأقبلت تهوى حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة، ولا دار من دور مكة، إلا دخلته منها فلذة. فكان عمرو بن العاص يحدث فيقول: لقد رأيت كل هذا، ولقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس، فلقد كان ذلك عبرة، ولكن الله لم يرد أن نسلم يومئذٍ لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد.

قالوا: ولم يدخل داراً ولا بيتاً من دور بني هاشم ولا بني زهرة من تلك الصخرة شيءٌ. قالوا: فقال أخوها: إن هذه لرؤيا! فخرج مغتماً حتى لقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقاً، فذكرها له واستكتمه، ففشا الحديث في الناس. قال: فغدوت أطوف بالبيت، وأبو جهل في رهط، من قريش يتحدثون قعوداً برؤيا عاتكة، فقال أبو جهل: ما رأت عاتكة هذه! فقلت: وما ذاك؟ فقال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا وكذا الذي رأت فسنتربص بكم ثلاثاً، فإن يك ما قالت حقًّا فسيكون، وإن مضت الثلاث ولم يكن نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيتٍ في العرب. فقال: يا مصفر استه، أنت أولى بالكذب واللؤم منا! قال أبو جهل: إنا استبقنا المجد وأنتم فقلتم: فينا السقاية! فقلنا: لا نبالي، تسقون الحاج! ثم قلتم: فينا الحجابة! فقلنا: لا نبالي، تحجبون البيت! ثم قلتم: فينا الندوة! فقلنا: لا نبالي، تلون الطعام وتطعمون الناس، ثم قلتم: فينا الرفادة! فقلنا: لا نبالي، تجمعون عندكم ما ترفدون به الضعيف! فلما أطعمنا الناس وأطعمتم، وازدحمت الركب، واستبقنا المجد، فكنا كفرسي رهان، قلتم: منا نبي! ثم قلتم: منا نبية! فلا واللات والعزى، لا كان هذا أبداً! قال: فوالله، ما كان مني من غيرٍ إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئاً. فلما أمسيت لم تبق امرأة أصابتها ولادة عبد المطلب إلا جاءت، فقلن: رضيتم بهذا الفاسق الخبيث يقع في رجالكم، ثم قد تناول نساءكم وأنت تسمع، ولم يكن لك عند ذلك غيرة؟ قال: والله ما فعلت إلا ما لا بال به؟ والله لأعترضن له غداً، فإن عاد لأكفيكموه. فلما أصبحوا من ذلك اليوم الذي رأت فيه عاتكة ما رأت قال أبو جهل: هذا يوم! ثم الغد قال أبو جهل: هذان يومان! فلما كان في اليوم الثالث، قال أبو جهل: هذه ثلاثة أيام، ما بقي! قال: وغدوت في اليوم الثالث وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمرٌ أحب أن أدركه، وأذكر ما أحفظتني النساء به من مقالتهن لي ما قلن، فوالله إني لأمشي نحوه - وكان رجلاً خفيفاً، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر - إذ خرج نحو باب بني سهم يشتد، فقلت: ما باله، لعنه الله؟ أكل هذا فرقاً من ان أشاتمه؟ فإذا هو قد سمع صوت ضمضم ابن عمرو وهو يقول: يا معشر قريش، يا آل لؤي بن غالب، اللطيمة، قد عرض لها محمد في أصحابه! الغوث، الغوث! والله، ما أرى أن تدركوها! وضمضم ينادي بذلك ببطن الوادي، قد جدع أذني بعيره، وشق قميصه قبلاً ودبراً، وحول رحله. وكان يقول: لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة وإني لأرى في النوم، وأنا على راحلتي، كأن وادي مكة يسيل من أعلاه إلى أسفله دماً، فاستيقظت فزعاً مذعوراً، وكرهتها لقريش، ووقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم. وكان يقال: إن الذي نادى يومئذٍ إبليس، تصور في صورة سراقة بن جعشم، فسبق ضمضماً فأنفرهم إلى عيرهم، ثم جاء ضمضم بعده. فكان عمير بن وهب يقول: ما رأيت أعجب من أمر ضمضم قط، وما صرخ على لسانه إلا شيطان، إنه لم يملكنا من أمورنا شيئاً حتى نفرنا على الصعب والذلول. وكان حكيم بن حزام يقول: ما كان الذي جاءنا فاستنفرنا إلى العير إنسانٌ، إن هو إلا شيطان! فقيل: كيف يا أبا خالد؟ فقال: إني لأعجب منه، ما ملكنا من أمورنا شيئاً!

قالوا: وتجهز الناس، وشغل بعضهم عن بعض، وكان الناس بين رجلين، إما خارجٍ، وإما باعث مكانه رجلاً. فأشفقت قريش لرؤيا عاتكة، وسرت بنو هاشم. وقال قائلهم: كلا، زعمتم أنا كذبنا وكذبت عاتكة! فأقامت قريش ثلاثةً تتجهز، ويقال يومين، وأخرجت قريش أسلحتها واشتروا سلاحاً، وأعام قريهم ضعيفهم. وقام سهيل بن عمرو في رجالٍ من قريش فقال: يا معشر قريش، هذا محمد والصباة معه من شبانكم، وأهل يثرب، قد عرضوا لعيركن ولطيمة قريش، - واللطيمة: التجارة قال أبو الزناد: اللطيمة جميع ما حملت الإبل للتجارة. وقال غيره: اللطيمة العطر خاصة - فمن أراد ظهراً فهذا ظهر، ومن أراد قوة فهذه قوة. وقام زمعة بن الأسود فقال: إنه واللت والعزى، ما نزل بكم أمرٌ أعظم من هذا، إن طمع محمد وأهل يثرب أن يعترضوا لعيركم فيها حرائبكم فأرعبوا، ولا يتخلف منكم أحدٌ، ومن كان لا قوة له فهذه قوة! والله، لئن أصابها محمد لا يروعكم بهم إلا وقد دخلوا عليكم. وقال طعيمة بن عيد: يا معشر قريش، إنه والله ما نزل بكم أمرٌ أجل من هذا، أن تستباح عيركم ولطيمة قريش، فيها أموال وحرائبكم. والله ما أعلم رجلاً ولا امرأة من بني عبد مناف له نشٌّ فصاعداً إلا وهو في هذه العير، فمن كان لا قوة به فعندنا قوة، نحمله ونقويه. فحمل على عشرين بعيراً، وقواهم وخلفهم في أهلم بمعونة. وقام حنظلة بن أبي سفيان، وعمرو بن أبي سفيان، فحرضا الناس على الخروج، ولم يدعوا إلى قوة ولا حملان. فقيل لهما: ألا تدعوان إلى ما دعا إليه قومكما من الحملان؟ فقالا: والله ما لنا مال وما المال إلا لأبي سفيان. ومشى نوفل بن معاوية الديلي إلى أهل القوة من قريش، فكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج، فكلم عبد الله ابن أبي ربعية فقال: هذ خمسمائة دينار، فضها حيث رأيت، وكلم حويطب بن عبد العزى فأخذ منه مائتي دينار أو ثلثمائة، ثم قوى بها السلاح والظهر.
قالوا: وكان لا يتخلف أحدٌ من قريش إلا بعث مكانه بعيثاً، فمشت قريش إلى أبي لهب فقالوا: إنك سيد من سادات قريش، وإنك إن تخلفت عن النفير يعتبر بك غيرك من قومك، فاخرج أو ابعث أحداً. فقال: واللت والعزى لا أ خرج ولا أبعث أحداً! فجاءه أبو جهل فقال: قم يا أبا عتبة، فوالله ما خرجنا إلا غضباً لدينك ويدين آبائك! وخاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب، فسكت أبو لهب فلم يخرج ولم يبعث، وما منع أبا لهب أن يخرج إلا إشفاق من رؤيا عاتكة، فإنه كان يقول: إنما رؤيا عاتكة أخذٌ باليد. ويقال إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان له عليه دين، فقال: اخرج وديني لك! فخرج عنه.
قالوا: وأخرج عتبة وشيبة دروعاً لهما، ونظر إليهما عداس وهما يصلحان دروعهما وآلة حربهما، فقال: ما تريدان؟ قالا: ألم تر إلى الرجل الذي أرسلناك إليه بالعنب في كرمنا بالطائف؟ قال: نعم. قالا: نخرج فنقاتله. فبكى وقال: لا تخرجا، فوالله إنه لنبي! فأبيا فخرجا، وخرج معهما فقتل ببدر معهما.
قالوا: واستقسمت قريش بالأزلام عند هبل للخروج، فاستقسم أمية بن خلف، وعتبة، وشيبة عند هبل بالآمر والناهي، فخرج القدح الناهي للخروج، فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل فقال: ما استقسمت ولا نتخلف عن عيرنا! ولما توجه زمعة بن الأسود خارجاً، وكان بذي طوى، أخرج قداحه فاستقسم بها، فخرج الناهي للخروج، فلقي غيظاً، ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك، فكسرها، وقال: ما رأيت كاليوم قداحاً أكذب من هذه! ومر به سهيل بن عمرو وهو على تلك الحال، فقال: ما لي أراك غضبان يا أبا حكيمة؟ فأخبره زمعة فقال: امض عنك أيها الرجل، وما أكذب من هذه القداح! قد أخبرني عمير بن وهب مثل الذي أخبرتني أنه لقيه. ثم مضيا على هذا الحديث.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: قال أبو سفيان بن حرب لضمضم: إذا قدمت على قريش فقل لها لا تستقسموا بالأزلام.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: ما وجهت وجهاً قط. كان أكره لي من مسيري إلى بدر، ولا بان لي في وجهٍ قط. ما بان لي قبل أن أخرج. ثم يقول: قدم ضمضم فصاح بالنفير، فاستقسمت بالأزلام، كل ذلك يخرج الذي أكره، ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران.

فنحر ابن الحنظلية جزراً، فكانت جزور منها بها حياة، فما بقي خباءٌ من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها، فكان هذا بيناً، ثم هممت بالرجوع، ثم أذكر ابن الحنظلية وشؤمه، فيردني حتى مضيت لوجهي.
فكان حكيم يقول: لقد رأيتنا حين بلغنا الثنية البيضاء - والثنية البيضاء التي تهبطك على فخ وأنت مقبل من المدينة - إذا عداس جالسٌ عليها والناس يمرون، إذ مر عليه ابنا ربيعة، فوثب إليهما فأخذ بأرجلهما في غرزهما، وهو يقول: بأبي وأمي أنتما، والله إنه رسول الله، وما تساقان إلا إلى مصارعكما! وإن عينيه لتسيل دموعهما على خديه، فأردت أن أرجع أيضاً، ثم مضيت، ومر به العاص بن منبه بن الحجاج، فوقف عليه حين ولى عتبة وشيبة، فقال: ما يبكيك؟ فقال: يبكيني سيداي وسيدا أهل الوادي، يخرجان إلى مصارعهما، ويقاتلان رسول الله. فقال العاص: وإن محمداً رسول الله؟ قال: فانتفض عداس انتفاضةً، واقشعر جلده، ثم بكى وقال: إي والله، إنه لرسول الله إلى الناس كافةً. قال: فأسلم العاص بن منبه، ثم مضى وهو على الشك حتى قتل مع المشركين على شك وارتياب. ويقال رجع عداس ولم يشهد بدراً، ويقال شهد بدارً وقتل يومئذٍ والقول الأول أثبت عندنا.
قالوا: وخرج سعد بن معاذ معتمراً قبل بدر فنزل على أمية بن خلف، فأتاه أبو جهل فقال: أتنزل هذا، وقد آوى محمداً وآذناً بالحرب؟ فقال سعد بن معاذ: قل ما شئت، أما إن طريق عيركم علينا. قال أمية بن خلف: مه، لا تقل هذا لأبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي! قال سعد بن معاذ: وأنت تقول ذلك يا أمية، أما والله لسمعت محمداً يقول لأقتلن أمية بن خلف. قال أمية: أنت سمعته؟ قال، قلت: نعم. قال: فوقع في نفسه، فلما جاء النفير أبي أمية أن يخرج معهم إلى بدر، فأتاه عقبة بن أبي معيط. وأبو جهل، ومعه عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبي جهل مكحلة ومرود، فأدخلها عقبة تحته وقال: تبخر، فإنما أنت امرأة! وقال أبو جهل: اكتحل، فإنما أنت امرأة! قال أمية: ابتاعوا لي أفضل بعيرٍ في الوادي. فابتاعوا له جملاً بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب بن يساف.
قالوا: وما كان أحد ممن خرج إلى العير أكره للخروج من الحارث ابن عامر، وقال: ليت قريشاً تعزم على القعود، وأن مالي في العير تلف، ومال بني عبد مناف أيضاً. فيقال: إنك سيد من ساداتها، أفلا تزعها عن الخروج؟ قال: إني أرى قريشاً قد أزمعت على الخروج، ولا أرى أحداً به طرق تخلف إلا من علة، وأنا أكره خلافها، وما أحب أن تعلم قريش ما أقول الآن، مع أن ابن الحنظلية رجل مشئوم على قومه، ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب. ولقد قسم مالاً من ماله بين ولده، ووقع في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة. وجاءه ضمضم بن عمرو، وكانت للحارث عنده أيادٍ، فقال: أبا عامر، رأيت رؤيا كرهتها، وإني كاليقظان على راحلتي، وأرى كأن واديكم يسيل دماً من أسفله إلى أعلاه. قال الحارث: ما خرج أحدٌ وجهاً من الوجوه أكره له من وجهي هذا. قال: يقول ضمضم له: والله، إني لأرى أن تجلس. فقال الحارث: لو سمعت هذا منك يتيمنون به، قالوا: فكيف نصنع بالرجوع إن نرجع؟ قال الأخنس: نخرج مع القوم، فإذا أمسيت سقطت عن بعيري فتقولون نهش الأخنش! فإذا قالوا امضوا فقولوا لا نفارق صاحبنا حتى نعلم أهو حي أم ميت فندفنه، فإذا مضوا رجعنا. ففعلت بنو زهرة، فلما أصبحوا بالأبواء راجعين تبين للناس أن بني زهرة رجعوا، فلم يشهدها أحدٌ من بني زهرة. قالوا: وكانوا مائة أو أقل من المائة، وهو أثبت، وقد قال قائل كانوا ثلثمائة. وقال عدي ابن أبي الزغباء في منحدره إلى المدينة من بدر، وانتشرت الركاب عليه، فجعل عدي يقول:
أقم لها صدورها يا بسبس ... إن مطايا القوم لا تحبس
وحملها على الطريق أكيس ... قد نصر الله وفر الأخنس

حدثنا محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: خرجت بنو عدي مع النفير حتى كانوا بثنية لفت، فلما كانوا في السحر عدلوا في الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان فقال: يا بني عدي، كيف رجعتم لا في العير ولا في النفير؟ قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن يرجع، فرجع من رجع ومضى من مضى! فلم يشهدها أحدٌ من بني عدي. ويقال إنه لاقاهم بمر الظهران فقال تلك المقالة لهم. قال محمد بن عمر الواقدي: رجعت زهرة من الجحفة، وأما بنو عيد فرجعوا من الطريق، ويقال من مر الظهران.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان صبيحة أربع عشرة من شهر رمضان بعرق الظبية، فجاء أعرابيٌّ قد أقبل من تهامة، فقال له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك علم بأبي سفيان بن حرب؟ قال: ما لي بأبي سفيان علم. قالوا: تعال، سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال: وفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم. قال: فأيكم رسول الله؟ قالوا: هذا. قال: أنت رسول الله؟ قال: نعم. قال الأعرابي: فما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقاً؟ قال سلمة بن سلامة بن وقش: نكحتها فهي حبلى منك! فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقالته، وأعرض عنه.
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتاه الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان، فصلى عند بئر الروحاء.
حدثني محمد بن شجاع الثلجي قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال: فحدثني عبد الملك بن عبد العزيز، عن أبان بن صالح، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من وتره لعن الكفرة وقال: اللهم لا تفلتن أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود، اللهم وأسخن عين أبي زمعة بزمعة، اللهم أعم بصر أبي زمعة، اللهم لا تفلتن سهيلاً، اللهم أنج سلمة ابن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين! والوليد بن الوليد لم يدع له يومئذٍ، أسر ببدر ولكنه لما رجع من مكة بعد بدر أسلم، فأراد أن يخرج إلى المدينة فحبس، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلّم بعد ذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأصحابه بالروحاء: هذه سجاسج - يعني وادي الروحاء - هذا أفضل أودية العرب.
قالوا: وكان خبيب بن يساف رجلاً شجاعاً، وكان يأبى الإسلام، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى بدر خرج وهو وقيس بن محرث، وهما على دين قومهما، فأدركا النبي صلى الله عليه وسلّم بالعقيق، وخبيب مقنعٌ بالحديق، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تحت المغفر، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى سعد بن معاذ، وهو يسير إلى جنبه، فقال: أليس بخبيب بن يساف؟ قال: بلى! قال: فأقبل خبيب حتى أخذ ببطان ناقة النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولقيس بن محرث يقال قيس بن المحرث، وقيس بن الحارث، ما أخرجكما معنا؟ قالا: كنت ابن أختنا وجارنا، وخرجنا مع قومنا للغنيمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا يخرجن معنا رجلٌ ليس على ديننا. قال خبيب: قد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب، شديد النكاية، فأقاتل معك للغنيمة ولن أسلم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا، ولكن أسلم ثم قاتل. ثم أدركه بالروحاء فقال: أسلمت لله رب العالمين، وشهدت أنك رسول الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك، وقال: امضه! وكان عظيم الغناء في بدر وغير بدر. وأبي قيس بن محرث أن يسلم ورجع إلى المدينة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر أسلم، ثم شهد أحداً فقتل.
قالوا: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فصام يوماً أو يومين، ثم رجع ونادى مناديه: يا معر العصاة، إني مفطرٌ فأفطروا! وذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفعلوا.

قالوا: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان دوين بدر أتاه الخبر بمسير قريش، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمسيرهم، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قال: يا رسول الله، إنها والله قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزها أبداً، ولتقاتلنك، فاتهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قلت بنو إسرائيل لنبيها: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك وبرك الغماد من وراء مكة بخمس ليالٍ من وراء الساحل مما يلي البحر، وهو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيراً، ودعا له بخير. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أشيروا علي أيها للناس! وإنما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأنصار، وكان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار، وذلك أنهم شرطوا له أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أشيروا علي! فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول الله تريدنا! قال: أجل. قال: إنك عسى أن تكون خرجت عن أمرٍ قد أوحى إليك في غيره، وإنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن كل ما جئت به حقٌّ، وأعطيناك موائيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي الله، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما بقي منا رجل، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت. والذي نفسي بيده، ما سلكت هذا الطريق قط. ومالي بها من علمٍ، وما نكره أن يلقانا عدونا غداً، إنا لصبرٌ عند الحرب، صدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد قال: قال سعد: يا رسول الله، إنا قد خلفنا من قومنا قوماً ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولا أطوع لك منهم، لهم رغبةٌ في الجهاد ونبةٌ، ولو ظنوا يا رسول الله أنك ملاقٍ عدوا ما تخلفوا، ولكن إنما ظنوا أنها العير. نبني لك عريشاً فتكون فيه ونعد لك رواحلك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم خيراً، وقال: أو يقضي الله خيراً من ذلك يا سعد! قالوا: فلما فرغ سعد من المشورة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: سيروا على بركة الله، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله، لكأني أنظر إلى مصارع القوم. قال: وأرانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مصارعهم يومئذٍ، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فما عدا كل رجلٍ مصرعه قال: فعلم القوم أنهم يلاقون القتال، وأن العير تفلت، ورجوا النصر لقول النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني أبو إسماعيل بن عبد الله بن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، قال: فمن يومئذٍ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الألوية، وهي ثلاثة، وأظهر السلاح، وكان خرج من المدينة على غير لواء معقودٍ. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الروحاء. فسلك المضيق، ثم جاء إلى الخبيرتين فصلى بينهما، ثم تيامن فتشاءم في الوادي حتى مر على خيف المعترضة، فسلك في ثنية المعترضة حتى سلك على التيا، وبها لقي سفيان الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد تعجل، معه قتادة بن النعمان الفري ويقال عبد الله بن كعب المازني، ويقال معاذ بن جبل فلقي سفيان الضمري على التيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من الرجل؟ فقال الضمري: بلى من أنتم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فأخبرنا ونخبرك! قال الضمري: وذاك بذاك؟؟ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: نعم! قال الضمري: فسلوا عما شئتم! فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: أخبرنا عن قريش. قال الضمري: بلغني أنهم خرجوا يوم كذا وكذا من مكة، فإن كان الذي أخبرني صادقاً فإنهم بجنب هذا الوادي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فأخبرنا عن محمد وأصحابه. قال: خبرت أنهم خرجوا من يثرب يوم كذا وكذا، فإن كان الذي خبرني صادقاً فهم بجانب هذا الوادي. قال الضمري: فمن أنتم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: نحن من ماء. وأشار بيده نحو العراق. فقال الضمري: من ماء العراق! ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أصحابه ولا يعلم أحدٌ من الفريقين بمنزل صاحبه، بنهم قوزٌ من رمل وكان قد صلى بالدبة، ثم صلى بسير، ثم صلى بذات أجدال، ثم صلى بخيف عين العلاء، ثم صلى بالخبيرتين، ثم نظر إلى جبلين فقال: ما اسم هذين الجبلين؟ قالوا: مسلح ومخرى. فقال: من ساكنهما؟ قالوا: بنو النار وبنو حراق. فانصرف من عند الخبيرتين فمضى حتى قطع الخيوف، وجعلها يساراً حتى سلك في المعترضة، ولقيه بسبس وعدي بن أبي الزغباء فأخبراه الخبر.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، فبعث عليًّا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس ابن عمرو يتحسسون على الماء، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى ظريب فقال: أرجو أن تجدوا الخبر عند هذا القليب الذي يلي الظريب والقليب بئر بأصل الظريب، والظريب جبل صغير. فاندفعوا تلقاء الظريب فيجدون على تلك القليب التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم روايا قريش فيها سقاوهم. ولقي بعضهم بعضاً وأفلت عامتهم، وكان ممن عرف أنه أفلت عجير، وكان أول من جاء قريشاً بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنادى فقال: يا آل غالب، هذا ابن أبي كبشة وأصحابه قد أخذوا سقاءكم! فماج العسكر، وكرهوا ما جاء به.

قال حكيم بن حزام: وكنا في خباءٍ لنا على جزور نشوى من لحمها، فما هو إلا أن سمعنا الخبر، فامتنع الطعام منا، ولقي بعضنا بعضاً، ولقيني عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا خالد، ما أعلم أحداً يسير أعجب من مسيرنا، إن عيرنا قد نجت، وإنا جئنا إلى قومٍ في بلادهم بغياً عليهم. فقال عتبة لأمرٍ حم: ولا رأى لمن لا يطاع، هذا شؤم ابن الحنظلية! يا أبا خالد، أتخاف أن يبيتنا القوم؟ قلت: لا آمن ذلك. قال: فما الرأي يا أبا خالد؟ قال: نتحارس حتى نصبح وترون من وراءكم. قال عتبة: هذا الرأي! قال: فتحارسنا حتى أصبحنا. قال أبو جهل: ما هذا؟ هذا عن أمر عتبة، قد كره قتال محمد وأصحابه! إن هذا لهو العجب، أتظنون أن محمداً وأصحابه يعترضون لجمعكم؟ والله لأنتحين ناحية بقومي، فلا يحرسنا أحدٌ. فتنحى ناحية، والسماء تمطر عليه. يقول عتبة: إن هذا لهو النكد، وإنهم قد أخذوا سقاءكم. وأخذ تلك الليلة يسار غلام عبيد ابن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج، وأبو رافع غلام أمية ابن خلف، فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو قائم يصلي، فقالوا: سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء. وكره القوم خبرهم، ورجوا أن يكونوا لأبي سفيان وأصحاب العير، فضربوهم، فلما أذلقوهم بالضرب قالوا: نحن لأبي سفيان، ونحن في العير، وهذه العير بهذا القوز. فيمسكون عنهم، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من صلاته، ثم قال: إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم! فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يخبروننا يا رسول الله أن قريشاً قد جاءت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. صدقوكم، خرجت قريش تمنع عيرها، وخافوكم عليها. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على السقاء فقال: أين قريش؟ قالوا: خلف هذا الكثيب الذي ترى. قال: كم هي؟ قالوا: كثير. قال: كم عددها؟ قالوا: لا ندري كم هم. قال: كم ينحرون؟ قالوا: يوماً عشرة ويوماً تسعة. قال: القوم ما بين الألف والتسعمائة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للسقاء: من خرج من مكة؟ قالوا: لم يبق أحدٌ به طعم إلا خرج. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الناس، فقال: هذه مكة، قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. ثم سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. هل رجع أحدٌ منهم؟ قالوا: رجع ابن أبي شريق ببني زهرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرشده وما كان برشيدٍ، وإن كان ما علمت لمعادياً لله ولكتابه. قال: أحدٌ غيرهم؟ قالوا: بنو عدي بن كعب.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأصحابه: أشيروا علي في المنزل فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلٌ أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحر والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: فإن هذا ليس بمنزل! انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم، فإني عالم بها وبقلبها، بها قلبي قد عرفت عذوبة مائه، وماءٌ كثير لا ينزح، ثم نبني عليها حوضاً ونقذف فيه الآنية، فنشرب ونقاتل، ونغور، ما سواها من القلب.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: الرأي ما أشار به الحباب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا حباب، أشرت بالرأي! فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ففعل كل ذلك.

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني عبيد بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه، قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً - والدهس الكثير الرمل - فأصابنا ما لبد الأرض ولم يمنعنا من المسير، وأصاب قريشاً ما لم يقدروا أن يرتحلوا منه، وإنما بينهم قوزٌ من رمل. قالوا: وأصاب المسلمين تلك الليلة النعاس، ألقى عليهم فناموا، وما أصابهم من المطر ما يؤذيهم. قال الزبير بن العوام: سلط علينا النعاس تلك الليلة حتى إني كنت لأتشدد، فتجلدني الأرض فما أطيق إلا ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه على مثل تلك الحال. وقال سعد ابن أبي وقاص: رأيتني وإن ذقني بين يدي، فما أشعر حتى أقع على جنبي. قال رفاعة بن رافع بن مالك: غلبني النوم، فاحتملت حتى اغتسلت آخر الليل. قالوا: فلما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المنزل بعد أن أخذ السقاء، أرسل عمار بن ياسر وابن مسعود، فأطافا بالقوم ثم رجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله، القوم مذعورون فزعون، إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه، مع أن السماء تسح عليهم. فلما أصبحوا قال نبيه بن الحجاج، وكان رجلاً يبصر الأثر، فقال: هذا أثر ابن سمية وابن أم عبد، أعرفه، قد جاء محمد بسفهائنا وسفهاء أهل يثرب! ثم قال:
لم يترك الجوع لنا مبيتاً ... لا بد أن نموت أو نميتا
قال أبو عبد الله: فذكرت قول نبيه بن الحجاج لم يترك الجوع لنا مبيتا لمحمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة فقال: لعمري لقد كانوا شباعاً، لقد أخبرني أبي أنه سمع نوفل بن معاوية يقول: نحرنا تلك الليلة عشر جزائر، فنحن في خباءٍ من أخبيتهم نشوي السنام والكبد وطيبة اللحم، ونحن نخاف من البيات، فنحن نتحارس إلى أن أضاء الفجر، فأسمع منبهاً يقول بعد أن أسفر الصبح: هذا أثر ابن سمية وابن مسعود! وأسمعه يقول:
لم يترك الخوف لنا مبيتاً ... لا بد أن نموت أو نميتا
يا معشر قريش، انظروا غداً إن لقينا محمداً وأصحابه، فابقوا في أنسابكم هؤلاء، وعليكم بأهل يثرب، فإنا إن نرجع بهم إلى مكة يبصورا ضلالتهم وما فارقوا من دين آبائهم.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على القليب بني له عريشٌ من جريد، فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشح السيف، فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم هو وأبو بكر.
فحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر ابن حزم، قال: صف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه قبل أن تنزل قريش، وطلعت قريشٌ ورسول الله يصفهم، وقد أترعوا حوضاً، يفرطون فيه من السحر، ويقذفون فيه الآنية. ودفع رايته إلى مصعب بن عمير، فتقدم بها إلى موضعها الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يضعها فيه. ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الصفوف، فاستقبل المغرب، وجعل الشمس خلفه، وأقبل المشركون فاستقبلوا الشمس، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعدوة الشامية ونزلوا بالعدوة اليمانية عدوتا النهر والوادي جنبتاه فجاء رجلٌ من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن كان هذا منك عن وحيٍ نزل إليك فامض له، وإلا أراها بعثت بنصرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قد صففت صفوفي ووضعت رايتي، فلا أغير ذلك! ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ربه تبارك وتعالى، فنزل عليه جبري بهذه الآية: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين " ، بعضهم على إثر بعض.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني معاوية بن عبد الرحمن، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحٍ في بطن سواد بن غزية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: استو يا سواد! فقال له سواد: أوجعتني، والذي بعثك بالحق نبياً، أقدني! فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بطنه، ثم قال: استقد! فاعتنقه وقبله، وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: حضر من أمر الله ما قد ترى، وخشيت القتل، فأردت أن يكون آخر عهدي بك، أن أعتنقك. قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسوي الصفوف يومئذٍ، وكأنما يقوم بها القداح.

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي: قال: فحدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن رجلٍ من بني أود، قال: سمعت عليًّا عليه السلام يقول: وهو يخطب بالكوفة: بينا أنا أميح في قليب بدر - أميح يعني أستقي، وهو من ينزع الدلاء، وهو المتح أيضاً - جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة، ثم ذهبت فجاءت ريح أخرى، لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح أخرى، لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح أخرى، لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها، وكانت الأولى جبريل في ألفٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والثانية ميكائيل في ألفٍ عن ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر، وكانت الثالثة إسرافيل في ألف، نزل عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنا في الميسرة، فلما هزم الله عز وجل أعداءه حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه، فجمزت بي، فلما جمزت خررت على عنقها، فدعوت ربي فأمسكني حتى استويت، وما لي وللخيل، وإنما كنت صاحب غنم! فلما استويت طعنت بيدي هذه حتى اختضبت مني ذا يعني إبطه.
قالوا: وكان يومئذٍ على الميمنة أبو بكر رضي الله عنه، وكان على خيل المشركين زمعة بن الأسود. فحدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: كان على خيل المشركين الحارث بن هشام، وعلى الميمنة هبيرة بن أبي وهب، وعلى الميسرة زمعة بن الأسود. وقال قائل: كان على الميمنة الحارث بن عامر، وعلى ميسرتهم عمرو بن عبد.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني محمد بن صالح، عن يزيد بن رومان، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قالا: ما كان على الميمنة - ميمنة النبي صلى الله عليه وسلّم - يوم بدر ولا على ميسرته أحدٌ يسمى، وكذلك ميمنة المشركين وميسرتهم، ما سمعنا فيها بأحد. قال ابن واقد: وهذا الثبت عندنا.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني محمد بن قدامة، عن عمر بن حسين، قال: كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير ولواء الخزرج مع الحباب ابن المنذر، ولواء الوس مع سعد بن معاذ. ومع قريش ثلاثة ألوية، لواء مع أبي عزيز، ولواء مع النضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة.
قالوا: وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: وهو يأمرهم، ويحثهم، ويرغبهم في الأجر: أما بعد، فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه، فإن الله عظيم شأنه، يأمر بالحق، ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله، على منازلهم عنده، به يذكرون وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق، لا يقبل الله فيه من أحدٍ إلا ما ابتغى به وجهه. و إن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم، وينجي به من الغم، وتدركون به النجاة في الآخرة. فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم، فاستحيوا اليوم أن يطلع الله عز وجل على شيءٍ من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله يقول: " لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم " . انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته، وأعزكم بعد ذلةٍ، فاستمسكوا به يرض ربكم عنكم. وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمراً، تستوجبوا الذي وعدكم به من رحمته ومغفرته، فإن وعده حقٌّ، وقوله صدقٌ، وعقابه شديدٌ. وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجانا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، يغفر الله لي وللمسلمين!.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، عن يزيد بن رومان، قالا: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قريشاً تصوب من الوادي، وكان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرسٍ له، يتبعه ابنهن فاستجال بفرسه يريد أن يتبوأ للقوم منزلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم، إنك أنزلت على الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدى الطائفتين، وأنت لا تخلف الميعاد! اللهم، هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك! اللهم، نصرك الذي وعدتني! اللهم أحنهم الغداة! وطلع عتبة بن ربيعة على جملٍ أحمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن يك في أحدٍ من القوم خيرٌ ففي صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا.

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال، حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبد الله بن مالك، قال: وكان إيماء بن رحضة قد بعث إلى قريش ابناً له بعشر جزائر حين مروا به، أهداها لهمن وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاحٍ ورجالٍ فإنا معدون لذلك مؤدون فعلنا. فأرسلوا: أن وصلتم رحمٌ، قد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعفٌ عنهم، ولئن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فما لأحدٍ بالله طاقة.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن جده عبيد بن أبي عبيد، عن خفاف بن إيماء بن رحضة، قال: كان أبي ليس شيءٌ أحب إلهي من إصلاحٍ بني الناس، موكل بذلك. فلما مرت قريش أرسلني بجزائر عشر هديةً لها، فأقبلت أسوقها وتبعني أبي، فدفعتها إلى قريش فقبلوها، فوزعوها في القبائل. فمر أبي على عتبة بن ربيعة وهو سيد الناس يومئذٍ فقال: يا أبا الوليد، ما هذا المسير؟ قال: لا أدري والله غلبت! قال: فأنت سيد العشيرة، فما يمنعك أن ترجع بالناس وتحمل دم حليفك، وتحمل العير التي أصابوا بنخلة فتوزعها على قومك؟ والله، ما تطلبون قبل محمد إلا هذا؟ والله، يا أبا الوليد، ما تقتلون بمحمدٍ وأصحابه إلا أنفسكم.
حدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: ما سمعنا بأحدٍ ساد بغير مالٍ إلا عتبة بن ربيعة.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: لما نزل القوم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب إلى قريش فقال: ارجعوا، فإنه يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إلى من أن تلوه مني، وأليه من غيركم أحب إلى من أن أليه منكم. فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصفاً، فاقبلوه. والله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف. قال: قال أبو جهل: والله، لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم، ولا نطلب أثراً بعد عين، ولا يعترض لعيرنا بعد هذا أبداً.
قالوا: وأقبل نفرٌ من قريش حتى وردوا الحوض منهم حكيم بن حزام فأراد المسلمون تجليتهم - يعني طردهم - فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: دعوهم! فوردوا الماء فشربوا، فما شرب منه أحدٌ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام.
فحدثني أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد ، عن سعيد بن المسيب، قال: نجا حكيم من الدهر مرتين لما أراد الله به من الخير. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم على نفرٍ من المشركين، وهو جلوسٌ يريدونه، فقرأ يس وذر على رءوسهم التراب، فما انفلت منهم رجلٌ إلا قتل إلا حكيم، وورد الحوض يوم بدر فما رود الحوض يومئذٍ أحدٌ إلا قتل إلا حكيمٌ.
قالوا: فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان صاحب قداح فقالوا: احزر لنا محمداً وأصحابه. فاستحال بفرسه حول المعسكر فصوب في الوادي وصعد، يقول: عسى أن يكون لهم مددٌ أو كمين. ثم رجع فقال: لا مدد ولا كمين، القوم ثلثمائة إن زادوا قليلاً، ومعهم سبعون بعيراً، ومعهم فرسان، ثم قال: يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قومٌ ليست لهم منعةٌ ولا ملجأ إلا سيوفهم! ألا ترونهم خرساً لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ، الأفاعي! والله، ما أرى أن يقتل منهم رجلٌ حتى يقتل منا رجلاً، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خيرٌ في العيش بعد ذلك! فارتأوا رأيكم! حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني يونس بن محمد الظفري، عن أبيه قال: لما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة، أرسلوا أبا أسامة الجشمي وكان فارساً فأطاف بالنبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، ثم رجع إليهم فقالوا له: ما رأيت؟ قال: والله، ما رأيت جلداً، ولا عدداً، ولا حلقة، ولا كراعاً. ولكني والله رأيت قوماً لا يريدون أن يئوبوا إلى أهليهم، قوماً مستميتين، ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف، ثم قال: أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد. فصوب في الوادي ثم صعد، ثم رجع إليهم، ثم قال: لا كمين ولا مدد، فروا رأيكم!

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، وابن رومان، قالوا: لما سمع حكيم بن حزام ما قال عمير بن وهب مشى في الناس، وأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد، أنت كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، فهل لك ألا تزال منها بخيرٍ آخر الدهر، مع ما فعلت يوم عطاظ! وعتبة يومئذٍ رئيس الناس، فقال: وما ذاك يا أبا خالد؟ قال: ترجع بالناس وتحمل دم حليفك، وما أصاب محمد من تلك العير ببطن نخلة. إنكم لا تطلبون من محمدٍ شيئاً غير هذا الدم والعير. فقال عتبة: قد فعلت وأنت على بذلك. قال: ثم جلس عتبة على جمله، فسار في المشركين من قريش يقول: يا قوم، أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه، واعصبوا هذا الأمر برأسي وادعلوا جبنها بي، فإن منهم رجالاً قرابتهم قريبة، ولا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه وأخيه، فيورث ذلك بينهم شحناء وأضغاناً، ولن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم، مع أني لا آمن أن تكون الدائرة عليكم، وأنتم لا تطلبون إلا دم هذا الرجل والعير التي أصاب، وأنا أحتمل ذلك وهو علي! يا قوم، إن يك محمد كاذباً يكفيكموه ذؤبان العرب - ذؤبان العرب صعاليك العرب - وإن يك ملكاً أكلتم في ملك ابن أخيكم، وإن يك نبياً كنتم أسعد الناس به! يا قوم، لا تردوا نصيحتي، ولا تسفهوا رأيي! قال: فحسده أبو جهل حين سمع خطبته وقال: إن يرجع الناس عن خطبة عتبة يكن سيد الجماعة وعتبة أنطق الناس، وأطولهم لساناً، وأجملهم جمالاً. ثم قال عتبة: أنشدكم الله في هذه الوجوه التي كأنها المصابيح، أن تجعلوها أنداداً لهذه الوجوه التي كأنها وجوه الحيات! فلما فرغ عتبة من كلامه قال أبو جهل: إن عتبة يشير عليكم بهذه لأن ابنه مع محمد، ومحمد ابن عمه، وهو يكره أن يقتل ابنه وابن عمه. امتلأ، والله، سحرك يا عتبة، وجبنت حين التقت حلقنا البطان! الآن تخذل بيننا وتأمرنا بالرجوع؟ لا والله، لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد! قالك فغضب عتبة فقال: يا مصفر استه، ستعلم أينا أجبن وألأم، وستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه! وأنشد....
هل جبانٌ وأمرت أمرى ... فبشرى بالثكل أم عمرو
ثم ذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي أخي المقتول بنخلة، فقال، هذا حليفك - يعني عتبة يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينيك، ويخذل بين الناس، قد تحمل دم أخيك وزعم أنك قابل الدية. ألا تستحي تقبل الدية، وقد قدرت على قاتل أخيك؟ قم فانشد خفرتك. فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف، ثم حثا على رأسه التراب، ثم صرخ: واعمراه! يخزي بذلك عتبة لأنه حليفه من بين قريش، فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، وحلف عامر لا يرجع حتى يقتل من أصحاب محمد. وقال لعمير بن وهب: حرش بين الناس! فحمل عمير، فناوش المسلمين لأن ينقض الصف، فثبت المسلمون على صفهم ولم يزولوا، وتقدم ابن الحضرمي، فشد على القوم فنشبت الحر.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، عن حكيم بن حزام، قال: لما أفسد الرأي أبو جهل على الناس، وحرش بينهم عامر بن الحضرمي فأقحم فرسه، فكان أول من خرج إليه مهجع مولى عمر، فقتله عامر.
وكان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة، قتله حبان بن العرقة ويقال عمير بن الحمام قتله خالد بن الأعلم العقيلي. حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: ما سمعت أحداً من المكيين يقول إلا حبان بن العرقة.
قالوا: وقال عمر بن الخطاب في مجلس ولايته: يا عمير بن وهب، أنت حازرنا للمشركين يوم بدر، تصعد في الوادي وتصوب، كأني أنظر إلى فرسك تحتك، تخبر المشركين أنه لا كمين لنا ولا مدد! قال: إي والله يا أمير المؤمنين! وأخرى، أنا والله الذي حرشت بين الناس يومئذٍ، ولكن الله جاء بالإسلام وهدانا له، فما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك. قال عمر: صدقت!

قالوا: كلم عتبة حكيم بن حزام فقال: ليس عند أحد خلافٌ إلا عند ابن الحنظلية، اذهب إليه فقل له إن عتبة يحمل دم حليفه ويضمن العير. قال حكيم: فدخلت على أبي جهل وهو يتخلق بخلوق ودرعه موضوعة بين يديه، فقلت: إن عتبة بعثني إليك. فأقبل على مغضباً فقال: أما وجد عتبة أحداً يرسله غيرك؟ فقلت: أما والله لو كان غيره أرسلني ما مشيت في ذلك، ولكن مشيت في إصلاحٍ بين الناس، وكان أبو الوليد سيد العشيرة. فغضب غضبة أخرى فقال: وتقول أيضاً سيد العشيرة؟ فقلت: أنا أقوله؟ قريش كلها تقوله! فأمر عامراً أن يصيح بخفرته، واكتشف وقال: إن عتبة جاع فاسقوه سويقاً! وجعل المشركون يقولون: إن عتبة جاع فاسقوه سويقاً! وجعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة. قال حكيم: فجئت إلى منبه بن الحجاج، فقلت له مثل ما قلت لأبي جهل، فوجدته خيراً من أبي جهل. قال: نعم ما مشيت فيه وما دعا إليه عتبة! فرجعت إلى عتبة فوجدته قد غضب من كلام قريش، فنزل عن جمله، وقد طاف عليهم في عسكرهم يأمرهم بالكف عن القتال. فيأبون. فحمى، فنزل فلبس درعه وطلبوا له بيضة تقدر عليه، فلم يجد في الجيش بيضة تسع رأسه من عظم هامته. فلما رأى ذلك اعتجر ثم برز بين أخيه شيبة وبين ابنه الوليد بن عتبة، فبينا أبو جهل في الصف على فرسٍ أنثى، حاذاه عتبة وسل عتبة سيفه، فقيل: هو والله يقتله! فضرب بالسيف عرقوبي فرس أبي جهل، فاكتسعت الفرس، فقلت: ما رأيت كاليوم! قالوا: قال عتبة: انزل، فإن هذا اليوم ليس بيوم ركوب، ليس كل قومك راكباً. فنزل أبو جهل، وعتبة يقول: ستعلم أينا أشأم عشيرته الغداة! ثم دعا عتبة إلى المبارزة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وأصحابه على صفوفهم، فاضطجع فغشيه النوم، وقال: لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن كثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قد دنا القوم وقد نالوا منا. فاستيقظ رسول الله، وقد أراه الله إياهم في منامه قليلاً، وقلل بعضهم في أعين بعض، ففزغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو رافعٌ يديه، يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: اللهم، إن تظهر على هذه العصارة يظهر الشرك، ولا يقم لك دين. وأبو بكر يقول: والله، لينصرنك الله وليبيضن وجهك. وقال ابن رواحة: يا رسول الله، إني أشير عليك ورسول الله صلى الله عليه وسلّم أعظم وأعلم بالله من أن يشار عليه إن الله أجل وأعظم من أن تنشده وعده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا ابن رواحة، ألا أنشد الله وعده؟ إن الله لا يخلف الميعاد! وأقبل عتبة يعمد إلى القتال، فقال له حكيم بن حزام: أبا الوليد، مهلاً، مهلاً! تنهي عن شيء وتكون أوله! وقال خفاف بن إيماء: فرأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يسلون السيوف، وقد أنبضوا القسي، وقد ترس بعضهم عن بعض بصفوفٍ متقاربة، لا فرج بينها، والآخرون قد سلوا السيوف حين طلعوا. فعجبت من ذلك فسألت بعد ذلك رجلاً من المهاجرين فقال، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا نسل السيوف حتى يغشونا.
قالوا: فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي حين دنا من الحوض: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه. فشد الأسود بن عبد الأسد حتى دنا من الحوض، فاستقبله حمزة ابن عبد المطلب، فضربه فأطن قدمه، فزحف الأسود حتى وقع في الحوض فهدمه برجله الصحيحة، وشرب منه، وأتبعه حمزة فضربه في الحوض فقتله.

والمشركون ينظرون على صفوفهم وهم يرون أنهم ظاهرون، فدنا الناس بعضهم من بعض، فخرج عتبة وشيبة والوليد حتى فصلوا من الصف، ثم دعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم فتيانٌ ثلاثةٌ من الأنصار، وهم بنو عفراء: معاذ ومعوذ وعوف، بنو الحارث، ويقال ثالثهم عبد الله بن رواحة، والثبت عندنا أنهم بنو عفراء فاستحيي رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ذلك، وكره أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار، وأحب أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه، فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيراً. ثم نادى منادي المشركين: يا محمد، أخرج لنا الأكفاء من قومنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا بني هاشم، قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله. فقام حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث ابن المطلب بن عبد المناف، فمشوا إليهم، فقال عتبة: تكلموا نعرفكم وكان عليهم البيض فأنكروهم فإن كنتم أكفاء قاتلناكم. فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله. قال عتبة: كفءٌ كريمٌ. ثم قال عتبة: وأنا أسد الحلفاء، ومن هذان معك؟ قال: علي ابن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. قال: كفآن كريمان.
قال ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لم أسمع لعتبة كلمة قط. أوهن من قوله أنا أسد الحلفاء، يعني بالحلفاء الأجمة. ثم قال عتبة لابنه: قم يا وليد. فقام الوليد، وقام إليه علي، وكان أصغر النفر، فقتله علي عليه السلام. ثم قام عتبة، وقام إليه حمزة، فاختلفا ضربتين فقتله حمزة رضي الله عنه. ثم قام شيبة، وقام إليه عبيدة بن الحارث وهو يومئذٍ أسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف، فأصاب عضلة ساقه فقطعها. وكر حمزة وعلي على شيبة فقتلاه، واحتملا عبيدة فحازاه إلى الصف، ومخ ساقه يسيل، فقال عبيدة: يا رسول الله، ألست شهيداً؟ قال: بلى. قال: أما والله، لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حين يقول:
كذبتم وبيت الله نخلى محمداً ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ونزلت هذه الآية: " هذان خصمان اختصموا في ربهم " .
حمزة أسن من النبي صلى الله عليه وسلّم بأربع سنين. والعباس أسن من النبي صلى الله عليه وسلّم بثلاث سنين.
قالوا: وكان عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز قام إليه ابنه أبو حذيفة يبارزه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اجلس! فلما قام إليه النفر أعان أبو حذيفة بن عتبة على أبيه بضربة.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: شيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: واستفتح أبو جهل يوم بدر. فقال: اللهم، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعلم، فأحنه الغداة ، فأنزل الله تبارك وتعالى: " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خيرٌ لكم.. " الآية.
فحدثني عمر بن عقبة، عن شعبة مولى ابن عباس، قال: سمعت ابن عباس يقول: لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ساعةً، ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبريل في جندٍ من الملائكة في ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر في ميسرة الله صلى الله عليه وسلّم ، وإسرافيل في جندٍ آخر بألف. وإبليس قد تصور في صورى سراقة بن جعشم المدلجي يذمر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس، فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه، وقال: إني بريءٌ منكم إني أرى ما لا ترون! فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه، فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث، وانطلق إبليس لايرى حتى وقع في البحر، ورفع يديه وقال: يا رب، موعدك الذي وعدتني!.

وأقبل أبو جهل على أصحابه، فحضهم على القتال وقال: لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم، فإنما كان على ميعاد من محمدٍ وأصحابه، سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه! لا يهولنكم مقتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم عجلوا وبطروا حين قاتلوا! وايم الله، لا نرجع اليوم حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال، فلا ألفين أحداً منكم قتل منهم أحداً، ولكن خذوهم أخذاً، نعرفهم بالذي صنعوا لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان يعبد آباؤهم! حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عروة، عن عائشة، قالت: جعل النبي صلى الله عليه وسلّم شعار المهاجرين يوم بدر: يا بني عبد الرحمن! وشعار الخزرج: يا بني عبد الله! وشعار الأوس: يا بني عبيد الله! حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن إسحاق بن سالم، عن زيد بن علي، قال: كان شعار رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر: يا منصور أمت! قالوا: وكان فتية من قريش سبعة قد أسلموا، فاحتبسهم آباؤهم فخرجوا معهم إلى بدر وهم على الشك والارتياب: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج. فلما قدموا بدراً، ورأوا قلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، قالوا: غر هؤلاء دينهم! يقول الله عز وجل: " ومن يتوكل على الله فإن الله عزيزٌ حكيمٌ " . وهم مقتولون الآن. يقول الله تبارك وتعالى: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ غر هؤلاء دينهم " . ثم ذكر الذين كفروا شر الذكر فقال: " إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون " . " الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرةٍ وهم لا يتقون " . إلى قوله: " فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون " . يقول: يقبلون نكل بهم من وراءهم من العرب كلها. " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم " . يقول: وإن قالوا قد أسلمنا علانية، فاقبل منهم. " وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " . " وألف بين قلوبهم " . يقول: ألف بين قلوبهم على الإسلام. " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيزٌ حكيمٌ " .

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال، عن عمرو بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي، قال: جعل الله المؤمنين يوم بدر من القوة أن يغلب العشرون إذا كانوا صابرين مائتين، ويمدهم يوم بدر بألفين من الملائكة، فلما علم أن فيهم الضعف خفف عنهم، وأنزل الله عز وجل، مرجع رسوله صلى الله عليه وسلّم من بدر، فيمن أصيب ببدر ممن يدعي الإسلام على الشك وقتل مع المشركين يومئذٍ وكانوا سبعة نفر حبسهم آباؤهم مثل حديث ابن أبي حبيبة، وفيهم الوليد بن عتبة بن ربيعة وفيمن أقام بمكة لا يستطيع الخروج، فقال: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " . إلى آخر ثلاث آيات. قال: وكتب بها المهاجرون إلى من بمكة مسلماً، فقال جندب بن ضمرة الجندعي: لا عذر لي ولا حجة في مقامي بمكة. وكان مريضاً، فقال لأهله: اخرجوا بي لعلي أجد روحاً. قالوا: أي وجهٍ أحب إليك؟ قال: نحو التنعيم. قال: فخرجوا به إلى التنعيم وبين التنعيم ومكة أربعة أميال من طريق المدينة فقال: اللهم إني خرجت إليك مهاجراً! فأنزل الله عز وجل فيه: " ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله. " ، إلى آخر الآية. فلما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا، فطلبهم أبو سفيان في رجالٍ من المشركين فردوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناسٌ، فكان الذين افتتنوا حين أصابهم البلاء. فأنزل الله عز وجل: " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله.. " ، إلى آخر الآية، وآيتين بعدها. فكتب بها المهاجرون إلى من بمكة مسلماً، فلما جاءهم الكتاب بما نزل فيهم قالوا: اللهم، إن لك علينا إن أفلتنا ألا نعدل بك أحداً! فخرجوا الثانية، فطلبهم أبو سفيان والمشركون، فأعجزوهم هرباً في الجبال حتى قدموا المدينة. واشتد البلاء على من ردوا من المسلمين، فضربوهم وآذوهم، وأكرهوهم على ترك الإسلام. ورجع ابن أبي سرح فقال لقريش: ما كان يعلمه إلا ابن قمطة، عبد نصراني، قد كنت أكتب له فأحول ما أردت. فأنزل الله عز وجل: " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشرٌ لسان الذي يلحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبينٌ.. " والتي تليها وأنزل الله فيمن رد أبو سفيان وأصحابه ممن أصابه البلاء: " إلا من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان.. " وثلاث آيات بعدها. وكان ممن شرح صدره بالكفر ابن أبي سرح. ثم أنزل الله عز وجل في الذين فروا من أبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، الذين صبروا على العذاب بعد الفتنة: " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا.. " إلى آخر الآية.
أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أبي حية قال: حدثنا محمدبن شجاع الثلجي قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال: فحدثني أبو إسحاق بن محمد، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم قال: نادى يومئذٍ نوفل بن خويلد بن العدوية: يا معشر قريش، إن سراقة قد عرفتم قومه وخذلانهم لكم في كل موطن، فاصدقوا القوم الضرب فإني أعلم أن ابني ربيعة قد عجلا في مبارزتهما من بارزا.
أخبرنا الواقدي قال: حدثني عبيد بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة ابن رافع، عن أبيه، قال: إن كنا لنسمع لإبليس يومئذٍ خواراً، ودعا بالثبور والويل، وتصور في صورة سراقة بن جعشم، حتى هرب فاقتحم البحر، ورفع يديه مداً يقول: يا رب، ما وعدتني! ولقد كانت قريش بعد ذلك تعير سراقة بما صنع يومئذٍ، فيقول: والله، ما صنعت منه شيئاً.
حدثني محمد، قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني أبو إسحاق الأسلمي. عن الحسن بن عبيد الله بن حنين مولى بني العباس، عن عمارة ابن أكيمة الليثي، قال: حدثني شيخٌ عراك عراك: صياد من الحي كان يومئذٍ على الساحل مطلاً على البحر، قال: سمعت صياحاً: يا ويلاه! ملأ الوادي! يا حزناه! فنظرت فإذا سراقة بن جعشم، فدنوت منه فقلت: ما لك فداك أبي وأمي؟ فلم يرجع إلى شيئاً، ثم أراه اقتحم البرح ورفع يديه مداً يقول: يا رب، ما وعدتني! فقلت في نفسي: جن وبيت الله سراقة! وذلك حين زاغت الشمس، وذاك عند انهزامهم يوم بدر.
قالوا: وكان سيماء الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم، خضراً وصفراً وحمراً من نور، والصوف في نواصي خيلهم.

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال، فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : إن الملائكة قد سومت فسوموا. فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم.
أخبرنا الواقدي قال: وحدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: كان أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمون في الزحوف: حمزة بن عبد المطلب معلم يوم بدر بريشة نعامة، وكان علي عليه السلام معلماً بصوفة بيضاء، وكان الزبير معلماً بعصابة صفراء. وكان الزبير يحدث: إن الملائكة نزلت يوم بدر على خيلٍ بلق، عليها عمائم صفر. فكان على الزبير يومئذٍ عصابة صفراء، وكان أبو دجانة يعلم بعصابة حمراء.
حدثنا الواقدي قال: فحدثني عبد الله بن موسى بن أمية بن عبد الله ابن أبي أمية، عن مصعب بن عبد الله، عن مولى لسهيل، قال: سمعت سهيل بن عمرو يقول: لقد رأيت يوم بدر رجالاً بيضاً على خيلٍ بلق بين السماء والأرض، معلمين، يقتلون ويأسرون، وكان أبو أسيد الساعدي يحدث بعد أن ذهب بصره قال:لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب وهو الملص الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك فيه ولا أمتري. فكان يحدث عن رجلٍ من بني غفار حدثه، قال: أقبلت وابن عمٍّ لي يوم بدر حتى صعدنا على جبلٍ، ونحن مشركان، ونحن على إحدى عجمتي بدر العجمة الشامية، العجمة من رمل، ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة فننتهب مع من ينتهب، إذ رأيت سحابة دنت منا، فسمعت فيها حمحمة الخيل وقعقعة اللجم والحديد، وسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم! فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات، وأما أنا فكدت أهلك، فتماسكت وأتبعت البصر حيث تذهب السحابة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، ثم رجعت وليس فيها شيءٌ مما كنت أسمع.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني خارجة بن إبراهيم ابن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، عن أبيه، قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟ فقال جبريل: يا محمد، ما كل أهل السماء أعرف.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، عن جده عبيد ابن أبي عبيد، عن أبي رهم الغفاري، عن ابن عمٍّ له، قال: بينما أنا وابن عمٍّ لي على ماء بدر، فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش، قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه، فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد، ونحن نقول: هولاء ربع قريش! فبينما نحن نمشي في الميسرة، إذ جاءت سحابةٌ فغشيتنا، فرفعنا أبصارنا إليها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلاً يقول لفرسه: أقدم حيزوم! وسمعناهم يقولون: رويداً، تتام أخراكم! فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جاءت أخرى مثل تلك، وكانت مع النبي صلى الله عليه وسلّم، فنظرنا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فإذا هم الضعف على قريش، فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلّم. وأسلم وحسن إسلامه.
قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة. قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ: هذا جبريل يسوق الريح كأنه دحية الكلبي، إني نصرت بالصبا، وأهلكت عادٌ بالدبور.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني أبو إسحاق بن أبي عبد الله، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن صالح بن إبراهيم، قال: كان عبد الرحمن بن عوف يقول: رأيت يوم بدر رجلين، عن يمين النبي صلى الله عليه وسلّم أحدهما، وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال، ثم ثلثهما ثالثٌ من خلفه، ثم ربعهما رابعٌ أمامه.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني أبو إسحاق بن أبي عبد الله، عن عبد الواحد بن أبي عوق، عن زياد، مولى سعد، عن سعد، قال: رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن النبي صلى الله عليه وسلّم، أحدهما عن يساره، والآخر عن يمينه، وإني لأراه ينظر إلى ذا مرةً وإلى ذا مرة، سروراً بما ظفره الله تعالى.

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن حمزة بن صهيب، عن أبيه، قال: ما أدري كم يدٍ مقطوعة وضربةٍ جائفة لم يدم كلمها يوم بدر قد رأيتها.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني محمد بن يحيى، عن أبي عفير، عن رافع بن خديج، عن أبي بردة بن نيار، قال: جئت يوم بدر بثلاثة رءوس، فوضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإني رأيت رجلاً أبيض طويلاً ضربه فتدهدي أمامه، فأخذت رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ذاك فلانٌ من الملائكة. وكان ابن عباس يقول: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم، فيقول: إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علنيا ما ثبتنا، ليسوا بشيء، وذلك قول الله تبارك وتعالى: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا.. " ، إلى آخر الآية.
فحدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: كان السائب بن أبي حبيش الأسدي يحدث في زمن عمر بن الخطاب يقول: والله، ما أسرني أحدٌ من الناس. فيقال: فمن؟ فيقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها، فيدركني رجل أبيض طويل على فرسٍ أبلق بين السماء والأرض، فأوثقني رباطاً، وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطاً، وكان عبد الرحمن بنادي في المعسكر: من أسر هذا؟ فليس أحد يزعم أنه أسرني، حتى انتهى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا ابن أبي حبيش، من أسرك؟ فقلت: لا أعرف، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسره ملك من الملائكة كريم، اذهب يا ابن عوف بأسيرك! فذهب بي عبد الرحمن.
فقال السائب: فما زالت تلك الكلمة أحفظها، وتأخر إسلامي حتى كان ما كان من إسلامي.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، عن عمارة بن أكيمة الليثي، عن حكيم بن حزام، قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بوادي خلص بجادٌ من السماء قد سد الأفق ووادي خلص ناحية الرويثة فإذا الوادي يسيل نملاً، فوقع في نفسي أن هذا شيءٌ من السماء أيد به محمد، فما كانت إلا الهزيمة، وهي الملائكة.
قالوا: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قتل أبي البختري، وكان قد لبس السلاح يوماً بمكة في بعض ما كان بلغ من النبي صلى الله عليه وسلّم من الأذى، فقال: لا يعترض اليوم أحدٌ لمحمد بأذى إلا وضعت فيه السلاح. فشكر ذلك له النبي صلى الله عليه وسلّم. قال أبو داود المازني: فلحقته فقلت: إن رسول الله قد نهى عن قتلك إن أعطيت بيدك. قال: وما تريد إلى؟ إن كان نهى عن قتلي قد كنت أبليته ذلك، فأما أن أعطى بيدي، فو اللات والعزى لقد علم نسوة بمكة أني لا أعطي بيدي، وقد عرفت أنك لا تدعني، فافعل الذي تريد. ورماه أبو داود بسهم، وقال: اللهم سهمك، وأبو البختري عبدك، فضعه في مقتل! وأبو البختري دارع، ففتق السهم الدرع فقتله. ويقال إن المجذر بن ذياد قتل أبا البختري ولا يعرفه. وقال المجذر في ذلك شعراً عرف أنه قتله. ونهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل، وقال: ائسروه ولا تقتلوه! وكان كارهاً للخروج إلى بدر، فلقيه خبيب بن يساف فقتله ولا يعرفه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: لو وجدته قبل أن تقتله لتركته لنسائه. ونهى عن قتل زمعة بن الأسود، فقتله ثابت بن الجذع ولا يعرفه.
قالوا: ولما لحم القتال، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم رافع يديه يسأل الله تعالى النصر وما وعده، يقول: اللهم إن ظهر على هذه العصابة ظهر الشرك، ولا يقول لك دين! وأبو بكر رضي الله عنه يقول: والله، لينصرنك الله وليبيضن وجهك. فأنزل الله عز وجل ألفاً من الملائكة مردفين عند أكناف العدو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر أبشر، هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء، آخذٌ بعنان فرسه، بين السماء والأرض. فلما نزل إلى الأرض تغيب عني ساعةً ثم طلعن على ثناياه النقع، يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته.

قالوا: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأخذ من الحصباء كفًّا فرماهم بها، وقال: شاهت الوجوه! اللهم، ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم! فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيءٍ، والمسلمون يقتلون ويأسرون، وما بقي منهم أحدٌ إلا امتلأ وجهه وعيناه، ما يدري أين يتوجه من عينيه، والملائكة يقتلونهم والمؤمنون.
وقال عدي بن أبي الزغباء يوم بدر:
أنا عديٌّ والسحل ... أمشي بها مشي الفحل
يعني درعه. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: من عدي؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله عدي. قال: وماذا؟ قال: ابن فلان. قال: لست أنت عدياً! فقال عدي بن أبي الزغباء: أنا رسول الله عدي. قال: وماذا؟ قال: والسحل أمشي بها مشى الفحل. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: وما السحل؟ قال: الدرع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم العدي، عدي بن أبي الزغباء! وكان عقبة بن أبي معيط بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلّم مهاجر بالمدينة، فكان يقول:
يا راكب الناقة القصواء هاجرنا ... عما قليلٍ تراني راكب الفرس
أعل رمحي فيكم ثم أنهله ... والسيف يأخذ منكم كل ملتبس
أنشدنيها ابن أبي الزناد. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم وبلغه قوله: اللهم أكبه لمنخره واصرعه! قال: فجمع به فرسه يوم بدر، فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلّم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فضرب عنقه صبراً.
وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: إني لأجمع أدراعاص لي يوم بدر بعد أن ولي الناس، فإذا أمية بن خلف، وكان لي صديقاً في الجاهلية، وكان اسمى عبد عمرو فلما جاء الإسلام سميت عبد الرحمن، فكان يلقاني فيقول: يا عبد عمرو، فلا أجيبه. فيقول: إني لا أقول لك عبد الرحمن، إن مسيلمة باليمامة يتسمى بالرحمن فأنا لا أدعوك إليه.فكان يدعوني عبد الإله، فلما كان يوم بدر رأيته على جمل أورق، ومعه ابنه علي، فناداني: يا عبد عمرو. فأبيت أن أجيبه. فنادي: يا عبد الإله. فأجبته، فقال: أما لكم حاجةٌ في اللبن؟ نحن خير لك من أدراعك هذه. فقلت: امضيا! فجعلت أسوقهما أمامي. وقد رأى أمية أنه قد أمن بعض الأمن، فقال لي أمية: رأيت رجلاً فيكم اليوم معلماً، في صدره ريشة نعامة، من هو؟ قلت: حمزة بن عبد المطلب. فقال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. ثم قال: فمن رجل دحداح قصير، معلم بعصابة حمراء؟ قال، قلت: ذاك رجل من الأنصار يقال له سماك بن خرشة. فقال: وبذاك أيضاً يا عبد الإله صرنا اليوم جزراً لكم! قال: فبينا هو معي أزجيه أمامي، ومعه ابنه، إذ بصر به بلالٌ وهو يعجن عجيناً له، فترك العجين وجعل يفتل يديه من العجين فتلاً ذريعاً، وهو ينادي: يا معشر الأنصار، أمية بن خلف رأس الكفر، لا نجوت إن نجا! قال عبد الرحمن: فأقبلوا كأنهم عوذٌ حنت إلى أولادها، حتى طرح أمية على ظهره، واضطجعت عليه، وأقبل الحباب بن المنذر فأدخل سيفه فاقتطع أرنبة أنفه، فلما فقد أمية أنفه قال: إيه عنك! أي خل بيني وبينهم. قال عبد الرحمن: فذكرت قول حسان أو عن ذلك الأنف جادع وأقبل إليه خبيب بن يساف فضربه حتى قتله، وقد ضرب أمية خبيب بن يساف حتى قطع يده من المنكب، فأعادها النبي صلى الله عليه وسلّم فالتحمت واستوت، فتزوج خبيب بعد ذلك ابنة أمية بن خلف، فرأت تلك الضربة فقالت: لا يشل الله يد رجلٍ فعل هذا! فقال خبيب: وأنا والله قد أوردته شعوب.
فكان خبيب يحدث قال: فأضربه فوق العاتق، فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره وعليه الدرع. وأنا أقول: خذها وأنا ابن يساف! وأخذت سلاحه، ودرعه مقطوعة. وأقبل علي بن أمية، فيعترض له الحباب فقطع رجله، فصاح صيحة ما سمع مثلها قط جزعاً، ولقيه عمار فضربه ضرة فقتله. ويقال إن عماراً لاقاه قبل الضربة، فاختلفا ضربات فقلته. والأول أثبت أنه ضربه بعد ما قطعت رجله، وقد سمعنا في قتل أمية غير ذلك.
حدثنا الواقدي قال: حدثني عبيد بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة بن رافع، عن أبيه، قال: لما كان يوم بدر وأحدقنا بأمية بن خلف، وكان له فيهم شأن، ومعي رمحي ومعه رمحه، فتطاعنا حتى سقطت رماحنا ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى انثلما، ثم بصرت بفتق في درعه تحت إبطه، فخششت السيف فيه حتى قتلته، وخرج السيف وعليه الودك. وقد سمعنا وجهاً آخر.

حدثني محمد بن قدامة بن موسى، عن أبيه، عن عائشة بنت قدامة، قالت: قال صفوان بن أمية بن خلف لقدامة بن مظعون: يا قدامة، أنت المشلى بأبي يوم بدر الناس! فقال قدامة: لا والله، ما فعلت، ولو فعلت ما اعتذرت من قتل مشرك. قال صفوان: فمن يا قدام المشلي به يوم بدر الناس؟ قال: رأيت فتية من الأنصار أقبلوا إليه، فيهم معمر بن حبيب بن عبيد بن الحارث، يرفع سيفه ويضعه فيه. فيقول صفوان: أبو قرد! وكان معمر رجلاً دميماً، فسمع بذلك الحارث بن حاطب فغضب له، فدخل على أم صفوان، وهي كريمة بنت معمر بن حبيب، فقال: ما يدعنا صفوان من الأذى في الجاهلية والإسلام! فقالت: وما ذاك؟ فأخبرها بمقالة صفوان لمعمر حين قال أبو قرد. فقالت أم صفوان: يا صفوان، تنتقص معمر بن حبيب من أهل بدر؟ والله، لا أقبل لك كرامةً سنةً. قال صفوان: يا أمه، والله لا أعود أبداً، تكلمت بكلمة لم ألق بها بالاً.
حدثنا محمد قال: حدثني الواقدي قال: فحدثني محمد بن قدامة، عن أبيه، عن عائشة بنت قدامة، قالت: قيل لأم صفوان بن أمية، ونظرت إلى الحباب بن المنذر بمكة: هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر. قالت: دعونا من ذكر من قتل على الشرك! قد أهان الله عليًّا بضربة الحباب بن المنذر، وأكرم الله الحباب بضربه عليًّا، قد كان على الإسلام حين خرج من ها هنا، فقتل على غير ذلك.
قالوا: وقال الزبير بن العوام: لما كان يومئذٍ لقيت عبيدة بن سعيد ابن العاص على فرسٍ، عليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول - وقد كانت له صبية صغيره يحملها، وكان له بطين وكانت مسقمةً - أنا أبو ذات الكرش! أنا أبو ذات الكرش! قال: وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينه ووقع، وأطأ برجلي على خده حتى أخرجت العنزة من حدقته وأخرجت حدقته. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم العنزة، فكانت تحمل بين يديه، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، رضوان الله عليهم.
ولما جال المسلمون واختلطوا، أقبل عاصم بن أبي عوف بن صبيرة السهمي كأنه ذئب يقول: يا معشر قريش، عليكم بالقاطع، مفرق الجماعة، الآتي بما لا يعرف، محمد! لا نجوت إن نجا! ويعترضه أبو دجانة، فاختلفا ضربتين وضربه أبو دجانة فقتله. ووقف على سبله يسلبه، فمر عمر بن الخطاب وهو على تلك الحال، فقال: دع سلبه حتى يجهض العدو، وأنا أشهد لك به، ويقبل معبد بن وهب، فضرب أبا دجانة ضربة، برك أبو دجانة كما يبرك الجمل، ثم انتهض، وأقبل عليه أبو دجانة فضربه ضربات لم يصنع سيفه شيئاً، حتى يقع معبد بحفرة أمامه لا يراها، وبرك عليه أبو دجانة، فذبحه ذبحاً، وأخذ سلبه.
قالوا: ولما كان يومئذٍ، ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل، قالوا: أبو الحكم، لا يخلص إليه، فإن ابني ربيعة قد عجلا وبطرا، ولم تحام عليهما عشيرتهما. فاجتمعت بنو مخزوم فأحدقوا به، فجعلوه في مثل الحرجة. وأجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلاً منهم، فألبسوها عبد الله ابن المنذر بن أبي رفاعة، فصمد له علي عليه السلام فقتله وهو يراه أبا جهل، ومضى عنه وهو يقول: خذها وأنا من بني عبد المطلب! ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، فصمد له حمزة وهو يراه أبا جهل فضربه فقتله، وهويقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب! ثم ألبسوها حرملة بن عمرو، فصمد له علي عليه السلام فقتله، وأبو جهل في أصحابه. ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم، فأبى أن يلبسها يومئذ. فقال معاذ بن عمرو ابن الجموح: نظرت إلى أبي جهل في مثل الحرجة، وهم يقولون: أبو الحكم، لا يخلص إليه! فعرفت أنه هو، فقلت: والله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه! فصمدت له حتى إذا أمكنتني منه غرة حملت عليه، فضربته ضربة وطرحت رجله من الساق، فشبهتها بالنواة تنزو من تحت المرضخ. ثم أقبل ابنه عكرمة علي، فضربني على عاتقي، وطرح يدي من العاتق، إلا أنه قد بقيت جلدة، فإني أسحب يدي بجلدة من خلفي، فلما آذتني وضعت عليها رجلي، فتمطيت عليها حتى قطعتها. ثم لاقيت عكرمة وهو يلوذ كل ملاذ، فلو كانت يدي معي لرجوت يومئذ أن أصيبه. ومات معاذ في زمن عثمان.

حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني أبو مروان، عن إسحاق بن عبد الله، عن عامر بن عثمان، عن جابر بن عبد الله، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلّم نفل معاذ بن عمرو بن الجموح سيف أبي جهل وهو عند آل معاذ بن عمرو اليوم، به فلٌّ بعد أن أرسل النبي صلى الله عليه وسلّم إلى عكرمة بن أبي جهل فسأله: من قتل أباك؟ قال: الذي قطعت يده. فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى معاذ بن عمرو، وكان عكرمة قد قطع يده يوم بدر.
حدثني ثابت بن قيسن عن نافع بن جبير بن مطعم أنه سمعه يقول: ما كان بنو المغيرة يشكون أن سيف أبي الحكم صار إلى معاذ بن عمرو بن الجموح، وهو الذي قتله يوم بدر.
حدثنا محمد بن شجاع قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني أبو إسحاق، عن يونس بن يوسف، قال: حدثني من حدثةة معاذ بن عمرو أنه قضى له النبي صلى الله عليه وسلّم بسلب أبي جهل. قال: فأخذت درعه وسيفه، فبعت سيفه بعد. وقد سمعت في قتله غير هذا وأخذ سلبه.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن عمرو بن الحكم بن ثوبان، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: عبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بليلٍ فصفنا، فأصبحنا ونحن على صفوفنا، فإذا بغلامين ليس منهما واحدٌ إلا وقد ربطت حمائل سيفه في عنقه، فالتفت إلى أحدهما فقال: يا عم، أيهم أبو جهل؟ قال، قلت: وما تصنع به يا ابن أخي؟ قال: بلغني أنه يسب رسول الله، فحلفت لئن رأيته لأقتلنه أو لأموتن دونه. فأشرت له إليه، والتفت إلى الآخر فقال لي مثل ذلك، فأشرت له إليه فقلت: من أنتما؟ قالا: ابنا الحارث. قال: فجعلا لا يطرفان عن أبي جهل حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه وقتلهما.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني محمد بن عوف من ولد معوذ بن عفراء، عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت، قال: لما كان يومئذٍ قال عبد الرحمن، ونظر إليهما عن يمينه وعن شماله: ليته كان إلى جنبي من هو آيد من هذين الفتيين. فلم أنشب أن التفت إلى عوفٌ، فقال: أيهم أبو جهل؟ فقلت: ذاك حيث ترى. فخرج يعدو إليه كأنه سبع، ولحقه أخوه، فأنا أنظر إليهما يضطربان بالسيوف، ثم نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مر بهما في القتلى وهما إلى جنبه.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: أخبرنا محمد بن رفاعة بن ثعلبة بن أبي مالك قال: سمعت أبي ينكر ما يقول الناس في ابني عفراء من صغرهم، ويقول: كانا يوم بدر أصغرهما ابن خمس وثلاثين سنة، فهذا يربط حمائل سيفه؟ والقول الأول أثبت.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني عبد الحميد بن جعفر، وعبد الله بن أبي عبيد، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن ربيع بنت معوذ، قالت: دخلت في نسوة من الأنصار على أسماء بنت مخربة أم أبي جهل في زمن عمر بن الخطاب، وكان ابنها عبد الله بن أبي ربيعة يبعث إليها بعطرٍ من اليمن، وكانت تبيعه إلى لأعطيه، فكنا نشتري منها، فلما جعلت لي في قواريري، ووزنت لي كما وزنت لصواحبي، قالت: اكتبن لي عليكن حقي. فقلت: نعم، أكتب لها على الربيع بنت معوذ. فقالت أسماء: حلقي، وإنك لابنة قاتل سيده؟ قالت، قلت: لا. ولكن ابنة قاتل عبده. قالت: والله، لا أبيعك شيئاً أبدا. فقلت: وأنا، والله، لا أشتري منك شيئاً أبداً! فوالله، ما هو بطيبٍ ولا عرفٍ! والله يا بني ما شممت عطراً قط كان أطيب منه، ولكن يا بني، غضبت!

قالوا: ولما وضع الحرب أوزارها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يلتمس أبو جهل. قال ابن مسعود: فوجدته في آخر رمقٍ، فوضعت رجلي على عنقه فقلت: الحمد لله الذي أخزاك! قال: إنما أخزى الله عبد ابن أم عبد ! لقد ارتقيت مرتقي صعباً يا رويعي الغنم، لمن الدائرة؟ قلت: لله ولرسوله. قال ابن مسعود: فأقتلع بيضته عن قفاه، فقلت: إني قاتلك يا أبا جهل! قال: لست بأول عبد قتل سيده! أما إن أشد ما لقيته اليوم في نفسي لقتلك إياي، ألا يكون ولي قتلي رجلٌ من الأحلاف أو من المطيبين! فضربه عبد الله ضربة، ووقع رأسه بين يديه، ثم سلبه، فلما نظر إلى جسده، نظر إلى حصره كأنها السياط. وأقبل بسلاحه، ودرعه، وبيضته، فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أبشر، يا نبي الله بقتل عدو الله أبي جهل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أحقاً، يا عبد الله؟ فو الذي نفسي بيده، لهو أحب إلى من حمر النعم أو كما قال، قال: وذكرت للنبي صلى الله عليه وسلّم ما به من الآثار، فقال: ذلك ضرب الملائكة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قد أصابه جحش من دفعٍ دفعته في مأدبة ابن جدعان، فجحشت ركبته. فالتمسوه فوجدوا ذلك الأثر. ويقال إن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي كان عند النبي صلى الله عليه وسلّم تلك الساعة، فوجد في نفسه وأقبل على ابن مسعود فقال: أنت قتلته؟ قال: نعم، الله قتله. قال أبو سلمة: أنت وليت قتله؟ قال: نعم. قال: لو شاء لجعلك في كمه. فقال ابن مسعود: فقد والله قتلته وجردته. قال أبو سلمة: فما علامته؟ قال: شامة سوداء ببطن فخذه اليمنى. فعرف أبو سلمة النعت، وقال: جردته! ولم يجرد قرشي غيره! قال ابن مسعود: والله، إنه لم يكن في قريش ولا في حلفائها أحدٌ أعدي لله ولا لرسوله منه، وما أعتذر من شيء صنعته به. فأسكت أبو سلمة، فسمع أبو سلمة بعد ذلك يستغفر من كلامه في أبي جهل.
وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أبي جهل، وقال: اللهم، قد أنجزت ما وعدتني، فتمم على نعمتك! وقال: فآل ابن مسعود يقولون: سيف أبي جهل عندنا، محلى بفضة، غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ. فاجتمع قول أصحابنا أن معاذ بن عمرو وابني عفراء أثبتوه، وضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق، فكلٌّ قد شرك في قتله.
قالوا: ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مصرع ابنى عفراء فقال: يرحم الله ابنى عفراء، فإنهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر! فقيل: يا رسول الله، ومن قتله معهما؟ قال: الملائكة، وذافه ابن مسعود، فكلٌّ قد شرك في قتله.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني معمر، عن الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم، اكفني نوفل بن خويلد! وأقبل نوفل يومئذٍ وهو مرعوب، قد رأى قتل أصحابه، وكان في أول ما التقوا هم والمسلمون، يصيح بصوتٍ له زجل، رافعاً صوته: يا معشر قريش، إن هذا اليوم يوم العلاء والرفعة! فلما رأى قريشاً، قد انكسرت جعل يصيح بالأنصار: ما حاجتكم إلى دمائنا؟ أما ترون ما تقتلون؟ أما لكم في اللبن من حاجة؟ فأسره جبار بن صخر فهو يسوقه أمامه، فجعل نوفل يقول لجبار ورأى علياًّ مقبلاً نحوه قال: يا أخا الأنصار، من هذا؟ واللات والعزى، إني لأرى رجلاً، إنه ليريدني! قال: هذا علي بن أبي طالب. قال: ما رأيت كاليوم رجلاً أسرع في قومه منه. فيصمد له علي عليه السلام فيضربه، فنشب سيف علي في حجفته ساعة، ثم نزعه فيضرب ساقيه، ودرعه مشمرة، فقطعهما، ثم أجهز عليه فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من له علمٌ بنوفل بن خويلد؟ فقال علي: أنا قتلته. قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه! وأقبل العاص بن سعيد يحث للقتال، فالتقى هو وعلي، فقتله علي فكان عمر بن الخطاب يقول لابنه سعيد بن العاص: إني لأراك معرضاً، تظن أني قتلت أباك؟ في أصل ابن أبي حية، والله ما قتلت أباك ولا أعتذر من قتل مشرك، ولقد قتلت خالي بيدي، العاص بن هشام بن المغيرة، فقال سعيد: لو قتلته لكان على الباطل وأنت على الحق. قال: قريش أعظم الناس أحلاماً، وأعظمها أمانةً، لا يبغيهم أحدٌ الغوائل إلا كبه الله لفيه.

وكان علي عليه السلام يقول: إني يومئذٍ بعد ما ارتفع النهار، ونحن المشركون قد اختلطت صفوفنا وصفوفهم، خرجت في إثر رجل منهم، فإذا رجلٌ من المشركين على كثيب رمل وسعد بن خيثمة، وهما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة. والمشرك مقنع في الحديد، وكان فارساً، فاقتحم عن فرسه، فعرفني وهو معلمٌ ولا أعرفه، فناداني: هلم ابن أبي طالب للبراز! قال: فعطفت عليه فانحط إلى مقبلاً، وكنت رجلاً قصيراً، فانحططت راجعاً لكي ينزل إلي، فكرهت أن يعوني بالسيف. فقال: يا ابن أبي طالب، فررت؟ فقلت: قريباً مفرٌّ، ابن الشتراء! قال: فلما استقرت قدماي وثبت أقبل، فلما دنا مني ضربني، فاتقيت بالدرفة فوقع سيفه فلحج يعني لزم فأضربه على عاتقه وهو دارع، فارتعش، ولقد فض سيفي درعه، فظننت أن سيفي سيقتله، فإذا بريق سيف من ورائي، فطأطأت رأسي ويقع السيف فأطن قحف رأسه بالبيضة، وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلبّ فالتفت من ورائي فإذا حمزة بن عبد المطلب.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني عمر بن عثمان الجحشي عن أبيه، عن عمته، قالت: قال عكاشة بن محصن: انقطع سيفي في يوم بدر، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم عوداً، فإذا هو سيف أبيض طويل، فقاتلت به حتى هزم الله المشركين فلم يزل عنده حتى هلك.
حدثنا محمد قال: أخبرنا الواقدي قال، حدثني أسامة بن زيد: عن داود بن الحصين، عن رجالٍ من بني عبد الأشهل عدة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قضيباً كان في يده من عراجين ابن طاب، فقال: اضرب به! فإذا هو سيفٌ جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد. وقال: بينا حارثة بن سراقة كارعٌ في الحوض، إذ أتاه سهمٌ غرب فوقع في نحره، فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه. فبلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله، فقالت أمه: والله، لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسأله، فأن كان ابني في الجنة لم أبك عليه، وإن كان ابني في النار بكيته لعمر الله فأعولته! فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بدر جاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، قد عرفت موقع حارثة من قلبي، فأردت أن أبكي عليه فقلت: لا أفعل حتى أسأل رسول الله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته فأعولته. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: هبلت، أجنةٌ واحدة؟ إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى قالت: فلا أبكي عليه أبداً! ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإناءٍ من ماءٍ فغمس يده فيه ومضمض فاه، ثم ناول أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت، ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما، ففعلتا فرجعتا من عند النبي صلى الله عليه وسلّم، وما بالمدينة امرأتان أقر أعيناً منهما ولا أسر.
قالوا: وكان هبيرة بن أبي وهب لما رأى الهزيمة انخزل ظهره فعقر فلم يستطع أن يقوم، فأتاه أبو أسامة الجشمي حليفه، ففتق درعه عنه واحتمله، ويقال ضربه أبو داود المازني بالسيف فقط درعه، ووقع لوجهه وأخلد إلى الأرض وجاوزه أبو داود، وبصر به ابنا زهير الجشميان، أبو أسامة ومالك وهما حليفاه، فذبا عنه حتى نجوا به، واحتمله أبو أسامة فنجا به، وجعل مالك يذب عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. حماه كلباه! الحليف مثل أبي أسامة كأنه رقل! الرقل النخلة الطويلة ويقال إن الذي ضربه مجذر بن ذياد.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني موسى بن يعقوب، عن عمه، قال: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال: سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر، فجعل الشيخ يكره ذلك حتى ألح عليه، فقال حكيم: التقينا فاقتتلنا، فسمعت صوتاً وقع من السماء إلى الأرض مثل وقع الحصاة في الطست، وقبض النبي صلى الله عليه وسلّم القبضة فرمى بها فانهزمنا.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني أبو إسحاق بن محمد، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد، عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير، قال: سمعت نوفل بن معاوية الديلي يقول: انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع كوقع الحصا في الطساس بين أيدينا ومن خلفنا، فكان ذلك أشد الرعب علينا.

وكان حكيم بن حزام يقول: انهزمنا يوم بدر فجعلت أسعى وأقول: قاتل الله ابن الحنظلية! يزعم أن النهار قد ذهب، والله إن النهار لكما هو! قال حكيم: وما ذاك بي إلا حبًّا أن يأتي الليل فيقصر عنا طلب القوم. فيدرك حكيماً عبيد الله وعبد الرحمن ابنا العوام على جمل لهما، فقال عبد الرحمن لأخيه: انزل فاحمل أبا خالد. وكان عبيد الله رجلاً أعرج لا رجلة به، فقال عبيد الله: إنه لا رجلة بي كما ترى. قال عبد الرحمن: والله إن منه بد، ألا نحمل رجلاً إن متنا كفانا ما خلفنا من عيالنا، وإن عشنا حمل كلنا! فنزل عبد الرحمن وأخوه وهو أعرج، فحملاه، فكانوا يتعاقبون الجمل، فلما دنا من مكة فكان بمر الظهران، قال: والله، لقد رأيت ها هنا أمراً ما كان يخرج على مثله أحدٌ له رأى، ولكنه شؤم ابن الحنظلية! إن جزوراً نحرت ها هنا فلم يبق خباء إلا إصابه من دمها. فقالا: قد رأينا ذلك، ولكن رأيناك وقومنا مضيتم فمضينا معكم، فلم يكن لنا أمرٌ معكم.
بسم الله الرحمن الرحيم، قرىء على أبي القاسم بن أبي حية، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع قال: حدثني محمد بن عمر الواقدي قال: فحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن مخلد بن خفاف، عن أبيه، قال: كانت الدروع في قريش كثيرة، فلما انهزموا جعلوا يلقونها، وجعل المسلمون يتبعونهم ويلقطون ما طرحوا، ولقد رأيتني يومئذٍ ألتقط ثلاثة أدرع جئت بها أهلي، كانت عندنا بعد، فزعم لي رجلٌ من قريش ورأى درعاً منها عندنا فعرفها فقال: هذه درع الحارث بن هشام.
قال الوافدي: فحدثني محمد بن أبي حميد، عن عبد الله بن عمرو ابن أمية، قال: سمعت أبي عمرو بن أمية قال: أخبرني من انكشف يومئذٍ منهزماً ، وإنه ليقول في نفسه: ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء! قالوا: وكان قباث بن أشيم الكناني يقول: شهدت مع المشركين بدراً، وإني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني وكثرة ما معنا من الخيل والرجال، فانهزمت فيمن انهزم، فلقد رأيتني وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجهٍ، وإني لأقول في نفسي: ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء! وصاحبني رجلٌ، فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا، فقلت لصاحبي: أبك نهوض؟ قال: لا والله، ما هو بي، قال: وعقر، وترفعت، فلقد صبحت غيقة عن يسار السقيا بينها وبين الفرع ليلة، والمدينة ثمانية برد قبل الشمس، كنت هادياً بالطريق ولم أسلك المحاج، وخفت من الطلب فتنكبت عنها، فلقيني رجلٌ من قومي بغيقة فقال: ما وراءك؟ قلت: لا شيء! قتلنا وأسرنا وانهزمنا، فهل عندك من حملان؟ فقال: فحملني على بعيرٍ، وزودني زاداً حتى لقيت الطريق بالجحفة، ثم مضيت حتى دخلت مكة، وإني لأنظر إلى الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم، فعرفت أنه يقدم ينعي قريشاً بمكة، فلو أردت أن أسبقه لسبقته، فتنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار، فقدمت وقد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم، وهم يلعنون الخزاعي ويقولون: ما جاءنا بخبر! فمكثت بمكة، فلما كان بعد الخندق قلت: لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد! وقد وقع في قلبي الإسلام. فقدمت المدينة فسألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: هو ذاك في ظل المسجد مع ملإ من أصحابه.
فأتيته، وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت فقال: يا قباث بن أشيم، أنت القائل يوم بدر ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء؟ قلت: أشهد أنك رسول الله، وأن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحدٍ قط. وما ترمرمت به إلا شيئاً حدثت به نفسي، فلولا أنك نبي ما أطلعك الله عليه، هلم حتى أبايعك. فعرض علىّ الإسلام فأسلمت.

قالوا: فلما تصاف المسلمون والمشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا. فلما انهزموا كان الناس ثلاث فرق، فرقةٌ قامت عند خيمة النبي صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر رضي الله عنه معه في الخيمة وفرقةٌ أغارت على النهب، وفرقةٌ طلبت العدو فأسروا وغنموا. فتكلم سعد بن معاذ، وكان ممن أقام على خيمة النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، ما منعنا أن نطلب العدو زهادةٌ في الأجر، ولا جبنٌ عن العدو. ولكنا خفنا أن يعري موضعك فتميل عليك خيلٌ من خيل المشركين ورجالٌ من رجالهم، وقد أقام عند خيمتك وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ولم يشذ أحدٌ منهم، والناس يا رسول الله كثير، ومتى تعط هؤلاء لا يبق لأصحابك شيءٌ، والأسرى والقتلى كثيرٌ والغنيمة قليلةٌ. فاختلفوا، فأنزل الله عز وجل: " يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " ، فرجع الناس وليس لهم من الغنيمة شيء. ثم أنزل الله عز وجل: " واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول " ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهم.
فحدثني يعقوب بن مجاهد أبو حزرة، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه، عن جده، عبادة بن الصامت، قال: سلمنا الأنفال لله ولرسوله، ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلّم بدراً، ونزلت بعد: " واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه " . فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمسلمين الخمس فيما كان من أول غنيمة بعد بدر. فحدثني عبد المهيمن بن عباس بن سهل، عن أبيه، عن أبي أسيد الساعدي، مثله.
وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن عكرمة، قال: اختلف الناس في الغنائم يوم بدر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالغنائم أن ترد في المقسم، فلم يبق منها شيء إلا رد. فظن أهل الشجاعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخصهم بها دون غيرهم من أهل الضعف. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تقسم بنهم على سواءٍ، فقال سعد: يا رسول الله، أيعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما يعطي الضعيف؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟ فحدثني عبد الحميد بن جعفر قال: سألت موسى بن سعد بن زيد ابن ثابت: كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر في الأسرى، والأسلاب، والأنفال؟ فقال: نادى مناديه يومئذٍ: من قتل قتيلاً فله سلبه، ومن أسر أسيراً فهو له! فكان يعطي من قتل قتيلاً سلبه. وأمر بما وجد في العسكر وما أخذوا بغير قتلا، فقسمه بينهم عن فواق. فقلت لعبد الحميد بن جعر: فمن أعطى سلب أبي جهل؟ قال: اختلف فيه عندنا، فقال قائل: أخذه معاذ بن عمرو بن الجموح، وقال قائل: أعطاه ابن مسعود فقلت لعبد الحميد: من أخبرك؟ قال: أما الذي قال دفعه إلى معاذ بن عمرو فأخبرنيه خارجة بن عبد الله بن كعب، وأما الذي قال ابن مسعود فإنه حدثنيه سعيد بن خالد القارظي. قالوا: وقد أخذ علي عليه السلام درع الوليد بن عتبة ومغفره وبيضته، وأخذ حمزة سلاح عتبة، وأخذ عبيدة بن الحارث درع شيبة بن ربيعة حتى وقعت إلى ورثته.
فحدثني محمد بن يحيى بن سهل، عن عمه محمد بن سهل بن أبي حثمة، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يرد الأسرى والأسلاب وما أخذوا في المغنم، ثم أقرع بينهم في الأسرى، وقسم الأسلاب التي نفل الرجل نفسه في المبارزة، وما أخذه في العسكر، فقسمه بينهم عن فواق. والثبت عندنا من هذا أن كل ما جعله لهم فإنه قد سلمه لهم، وما لم يجعل فقد قسمه بينهم، فقد جمعت الغنائم واستعمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عد الله بن كعب بن عمر المازني. حدثني بذلك محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وقسمها بسير سير شعب بمضيق الصفراء. وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلّم استعمل عليها خباب بن الأرت.

فحدثني ابن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة، عن عبد الله بن مكنف الحارثي من حارثة الأنصار قال: لما جمعت الغنائم كان فيها إبلٌ ومتاع وأنطعا وثياب، فقسمها الوالي فجعل يصيب الرجل البعير ورثةٌ معه، وآخر بعيران، وآخر أنطاع. وكانت السهمان على ثلاثمائة وسبعة عشر سهماً، والرجال ثلاثمائة وثلاثة عشر، والخيل فرسان لهما أربعة أسهم. وثمانية نفرٍ لم يحضروا وضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهامهم وأجورهم، فكلهم مستحق في بدر، ثلاثة من المهاجرين لا اختلاف فيهم عندنا: عثمان بن عفان، خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ابنته رقية، وماتت يوم قدوم زيد بن حارثة، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتحسسان العير، بلغا الحوراء الحوراء وراء ذي المروة بينها وبينها ليلتان على الساحل، وبين ذي المروة والمدينة ثمانية بردٍ أو أكثر قليلاً. ومن الأنصار: أبو لبابة بن عبد المنذر، خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي، خلفه على قباء وأهل العالية، والحارث بن حاطب، أمره بأمره في بني عمرو ابن عوف، وخوات بن جبير، كسر بالروحاء، والحارث بن الصمة، كسر بالروحاء فهؤلاء لا اختلاف فيهم عندنا. وقد روي أن سعد بن عبادة ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره، وقال حين فرغ من القتال ببدر: لئن لم يكن شهدها سعد بن عبادة، لقد كان فيها راغباً. وذلك أن سعد بن عبادة لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجهاد، كان يأتي دور الأنصار يحضهم على الخروج، فنهش في بعض تلك الأماكن فمنعه ذلك من الخروج، فضرب له بسهمه وأجره. وضرب لسعد بن مالك الساعدي بسهمه وأجره، وكان تجهز إلى بدر فمرض بالمدينة فمات خلافه وأوصى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم. وضرب لرجلٍ من الأنصار، وضرب لرجلٍ آخر، وهؤلاء الأربعة ليس بمجتمعٍ عليهم كاجتماعهم على الثمانية.
حدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضرب لقتلى بدر، أربعة عشر رجلاً قتلوا ببدر.
قال زيد بن طلحة: حدثني عبد الله بن سعد بن خيثمة قال: أخذنا سهم أبي الذي ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين قسم الغنائم، وحمله إلينا عويم بن ساعدة.
حدثني ابن أبي سبرة عن المسور بن رفاعة، عن عبد الله بن مكنف، قال: سمعت السائب بن أبي لبابة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسهم لمبشر بن عبد المنذر، وقدم بسهمه علينا معن بن عدي.
وكانت الإبل التي أصابوا يومئذٍ مائة بعير وخمسين بعيراً، وكان معهم أدمٌ كثير حملوه للتجارة، فغنمه المسلمون يومئذٍ. وكانت يومئذٍ فيما أصابوا قطيفة حمراء، فقال بعضهم: ما لنا لا نرى القطيفة؟ ما نرى رسول الله إلا أخذها. فأنزل الله عز وجل: " وما كان لنبيٍّ إن يغل " إلى آخر الآية. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن فلاناً غل قطيفة. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرجل، فقال: لم أفعل يا رسول الله! فقال الدال: يا رسول الله، احفروا ها هنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فحفروا هناك فاستخرجت القطيفة. فقال قائل: يا رسول الله، استغفر لفلان! مرتين أو مراراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دعونا من آتي جرم! وكانت الخيل فرسين، فرسٌ للمقداد يقال لها سبحة، وفرسٌ للزبير، ويقال لمرثد. فكان المقداد يقول: ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ بسهمٍ ولفرسي بسهم. وقائل يقول: ضرب رسول الله يومئذٍ للفرس بسهمين ولصاحبه بسهم.
فحدثني عبد المجيد بن أبي عبس، عن أبي عفير محمد بن سهل، قال: رجع أبو بردة بن نيار بفرسٍ قد غنمه يوم بدر، وكان لزمعة بن الأسود، صار في سهمه. وأصاب المسلمون من خيولهم عشرة أفراس، وأصابوا لهم سلاحاً وظهراً. وكان جمل أبي جهل يومئذٍ فيها، فغنمه النبي صلى الله عليه وسلّم، فلم يزل عنده يضرب عليه في إبله ويغزو عليه حتى ساقه في هدى الحديبية، فسأله المشركون يومئذٍ الجمل بمائة بعير، فقال: لولا أنا سميناه في الهدى لفعلنا. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم صفي من الغنيمة قبل أن يقسم منها شيء.

فحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، ومحمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قالا: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفه ذا الفقار يومئذٍ، وكان لمنبه بن الحجاج، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد غزا إلى بدر بسيفٍ وهبه له سعد بن عبادة يقال له العضب، ودرعه ذات الفضول. فسمعت ابن أبي سبرة يقول: سمعت صالح بن كيسان يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر وما معه سيف. وكان أول سيف تقلده سيف منبه بن الحجاج، غنمه يوم بدر.
وكان أبو أسيد الساعدي يحدث فميا حدثني به عبد المهيمن بن عباس ابن سهل، عن أبيه، عن أبي أسيد، وكان إذا ذكر أرقم بن أبي الأرقم قال: ما يومي منه بواحد! فيقال: ما هو؟ فقال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين أن يردوا ما في أيديهم مما أخذوا من الأنفال. قال: فرددت سيف ابن عائذ المخزومي، واسم السيف المرزبان، وكان له قيمة وقدر، وأنا أطمع أن يرده إلى. فكلم رسول الله فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يمنع شيئاً يسأله، فأعطاه السيف. وخرج بني لي يفعة، فاحتملته الغول فذهبت به متوركة ظهراً. فقيل لأبي أسيد: وكانت الغيلان ذلك الزمان؟ قال: نعم، ولكنها قد هلكت، فلقي ابني ابن الأرقم، فبهش إليه ابني وبكى مستجيراً به، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقالت الغول: أنا حاضنته. فلها عنه، والصبي يكذبها، فلم يعرج عليه. وخرج من داري فرسٌ لي فقطع رسنه، فلقيه بالغابة، فركبه حتى إذا دنا من المدينة أفلت منه، فتعذر إلى أنه أفلت مني، فلم أقدر عليه حتى الساعة.
حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيف العاص ابن منبه يوم بدر فأعطانيه، ونزلت في: " يسئلونك عن الأنفال.. " .
قالوا: وأحذى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مماليك حضروا بدراً ولم يسهم لهم، ثلاثة أعبد: غلامٌ لحاطب بن أبي بلتعة، وغلامٌ لعبد الرحمن ابن عوف، وغلامٌ لسعد بن معاذ. واستعمل شقران غلام النبي صلى الله عليه وسلّم على الأسرى، فأحذوه من كل أسيرٍ ما لو كان حراً ما أصابه في المقسم.
فحدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: رميت يوم بدر سهيل بن عمرو فقطعت نساه، فأتبعت أثر الدم حتى وجدته قد أخذه مالك بن الدخشم، وهو آخذٌ بناصيته. فقلت: أسيري، رميته! فقال مالك: أسيري، أخذته! فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخذه منهما جميعاً. فأفلت سهيل بالروحاء من مالك ابن الدخشم، فصاح في الناس فخرج في طلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: من وجده فليقتله! فوجده النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يقتله.
فحدثني عيسى بن حفص بن عاصم، عن أبيه، قال: أصاب أبو بردة بن نيار أسيراً من المشركين يقال له معبد بن وهب، من بني سعد ابن ليث. فلقيه عمر بن الخطاب، وكان عمر رضي الله عنه يحض على قتل الأسرى، لا يرى أحداً في يديه أسيراً إلا أمر بقتله، وذلك قبل أن يتفرق الناس. فلقيه معبد، وهو أسيرٌ مع أبي بردة، فقال: أترون يا عمر أنكم قد غلبتم؟ كلا واللات والعزى! فقال عمر: عباد الله المسلمين! أتكلم وأنت أسيرٌ في أيدينا؟ ثم أخذه من أبي بدرة فضرب عنقه. ويقال إن أبا بردة قتله.
فحدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا تخبروا سعداً بقتل أخيه، فيقتل كل أسيرٍ في أيديكم.
فحدثني خالد بن الهيثم مولى بني هاشم، عن يحيى بن أبي كثير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتعاطى أحدكم أسير أخيه فيقتله. ولما أتى بالأسرى كره ذلك سعد بن معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا عمرو، كأنه شق عليك الأسرى أن يؤسروا. قال: نعم يا رسول الله، كانت أول وقعة التقينا فيها والمشركون، فأحببت أن يذلهم الله وأن يثخن فيهم القتل.

وكان النضر بن الحارث أسره المقداد يومئذ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بدر وكان بالأثيل عرض عليه الأسرى، فنظر إلى النضر بن الحارث فأبده البصر، فقال لرجلٍ إلى جنبه: محمد والله قاتلي، لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت! فقال الذي إلى جنبه: والله ما هذا منك إلا رعب. فقال النضر لمصعب بن عمير: يا مصعب، أنت أقرب من ها هنا بي رحماً. كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي، هو والله قاتلي إن لم تفعل. قال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا. وتقول فيه نبيه كذا وكذا. قال: يا مصعب فليجعلني كأحد أصحابي، إن قتلوا قتلت، وإن من عليهم من علي. قال مصعب: إنك كنت تعذب أصحابه. قال: أما والله، لو أسرتك قريشٌ ما قتلت أبداً وأنا حي. قال مصعب: والله، إني لأراك صادقاً، ولكن لست مثلك قطع الإسلام العهود! فقال المقداد: أسيري! قال النبي صلى الله عليه وسلّم: اضرب عنقه، اللهم أغن المقداد من فضلك! فقتله علي بن أبي طالب عليه السلام صبراً بالسيف بالأثيل.
ولما أسر سهيل بن عمرو، قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، انزع ثنيتيه! يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً أبداً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، ولعله يقوم مقاماً لا تكرهه. فقام سهيل بن عمرو حين جاءه وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم بخطبة أبي بكر رضي الله عنه بمكة كأنه كان يسمعها. قال عمر حين بلغه كلام سهيل: أشهد إنك لرسول الله! يريد حيث قال النبي صلى الله عليه وسلّم " لعله يقوم مقاماً لا تكرهه " .
وكان علي عليه السلام يحدث يقول: أتى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر فخيره في الأسرى أن يضرب أعناقهم، أو يأخذ منهم الفداء ويستشهد منكم في قابل عدتهم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه فقال: " هذا جبريل يخيركم في الأسرى بين أن نضرب رقابهم، أو نأخذ منهم الفدية ويستشهد منكم في قابلٍ عدتهم " . قالوا: بل نأخذ الفدية ونستعين بها، ويستشهد منا فندخل الجنة، فقبل منهم الفداء وقتل منهم في قابلٍ عدتهم بأحد.
قالوا: ولما حبس الأسرى ببدر استعمل عليهم شقران، وكانا المسلمون قد اقترعوا عليهم طمعوا في الحيا فقالوا: لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا، ولا نعلم أحداً آثر عند محمد منه! فبعثوا إلى أبي بكر، فأتاهم فقالوا: يا أبا بكر، إن فينا الآباء والأبناء والإخوان والعمومة وبني العم، وأبعدنا قريب. كلم صاحبك فليمن علينا أن يفادنا. فقال: نعم إن شاء الله، لا آلوكم خيراً! ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قالوا: ابعثوا إلى عمر بن الخطاب فإنه من قد علمتم، فلا نأمن أن يفسد عليكم، لعله يكف عنكم. فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل ما قالوا لأبي بكر، فقال: لن آلوكم شراً! ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فوجد أبا بكر والناس حوله، وأبو بكر يلينة ويفثؤه ويقول: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة والإخوان وبنو العم، وأبعدهم منك قريب، فامنن عليهم من الله عليك، أو فادهم يستنقذهم الله بك من النار فتأخذ منهم ما أخذت قوةً للمسلمين، فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك! ثم قام فتنحى ناحية، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يجبه، ثم جاء عمر فجلس مجلس أبي بكر، فقال: يا رسول الله، هم أعداء الله، كذبوك وقاتلوك وأخرجوك! اضرب رقابهم، هم رءوس الكفر وأئمة الضلالة، يوطىء الله عز وجل بهم الإسلام ويذل بهم أهل الشرك! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يجبه، وعاد أبو بكر إلى مقعده الأول فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة والإخوان وبنو العم، وأبعدهم منك قريب، فامنن عليهم أو فادهم، هم عترتك وقومك، لا تكن أول من يستأصلهم، يهديهم الله خير من أن تهلكهم. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يرد عليه شيئاً.

وتنحى ناحية، فقام عمر فجلس مجلسه فقال: يا رسول الله، ما تنتظر بهم؟ اضرب أعناقهم، يوطئ الله بهم الإسلام ويذل أهل الشرك، هم أعداء الله، كذبوك وقاتلوك وأخرجوك! يا رسول الله، اشف صدور المؤمنين، لو قدروا على مثل هذا منا ما أقالوناها أبداً! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يجبه، فقام ناحية فجلس، وعاد أبو بكر فكلمه مثل كلامه الذي كلمه به، فلم يجبه فتنحى ناحية، ثم قام عمر فكلمه كلامه فلم يجبه. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل قبته فمكث فيها ساعة، ثم خرج والناس يخوضون في شأنهم، يقول بعضهم: القول ما قال أبو بكر! وآخرون يقولون: القول ما قال عمر! فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: ما تقولون في صاحبيكم هذين؟ دعوهما فإن لهما مثلاً، مثل أبي بكر كمثل ميكائيل ينزل برضاء الله وعفوه عن عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، كان ألين على قومه من العسل، أوقد له قومه النار وطرحوه فيها، فما زاد على أن قال: " أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " . وقال: " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيمٌ " . ومثله مثل عيسى إذ يقول: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " . ومثل عمر في الملائكة كمثل جبرين ينزل بالسخطة من الله والنقمة على أعداء الله، ومثله في الأنبياء كمثل نوح، كان أشد على قومه من الحجارة إذ يقول: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " . فدعا عليهم دعوة أغرق الله الأرض جميعها، ومثل موسى إذ يقول: " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يومنوا حتى يروا العذاب الأليم " . وإن بكم عيلة، فلا يفوتنكم رجلٌ من هؤلاء إلا بفداءٍ أو ضربة عنق. فقال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء قال ابن واقد: هذا وهمٌ، سهيل بن بيضاء من مهاجرة الحبشة، ما شهد بدراً، إنما هو أخٌ له يقال له سهل فإني رأيته يظهر الإسلام بمكة. فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يرد عله. قال عبد الله: فما مرت على ساعةٌ قط. كانت أشد علي من تلك الساعة، فجعلت أنظر إلى السماء أتخوف أن تسقط علي الحجارة، لتقدمي بين يدي الله ورسوله بالكلام. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأسه فقال: إلا سهيل بن بيضاء! قال: فما مرت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل ليشدد القلب فيه حتى يكون أشد من الحجارة، وإنه ليلين القلب فيه حتى يكون ألين من الزبد. وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم الفداء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لو نزل عذابٌ يوم بدر ما نجا منه إلا عمر. كان يقول: اقتل ولا تأخذ الفداء. وكان سعد بن معاذ يقول: اقتل ولا تأخذ الفداء.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر: لو كان مطعم بن عدي حيًّا لوهبت له هؤلاء النتيى. وكانت لمطعم بن عيد عند النبي صلى الله عليه وسلّم إجارةٌ حين رجع من الطائف.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال:أمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأسرى يوم بدر أبا عزة عمرو ابن عبد الله بن عمير الجمحي، وكان شاعراً، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال: لي خمس بنات ليس لهن شيءٌ، فتصدق بي عليهن يا محمد. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال أبو عزة: أعطيك موثقاً لا أقاتلك ولا أكثر عليك أبداً. فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما خرجت قريش إلى أحد جاءه صفوان بن أمية فقال: اخرج معنا! فقال: إني قد أعطيت محمداً موثقاً ألا أقاتله ولا أكثر عليه أبداً، وقد من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء. فضمن صفوان أن يجعل بناته مع بناته إن قتل، وإن عاش أعطاه مالاً كثيراً لا يأكله عياله. فخرج أبو عزة يدعة العرب ويحشرها، ثم خرج مع قريش يوم أحد، فأسر ولم يوسر غيره من قريش، فقال: يا محمد، إنما خرجت مكرهاً، ولي بنات فامنن علي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أين ما أعطيتني من العهد والميثاق؟ لا والله، لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمدٍ مرتين!

حدثني إسحاق بن حازم، عن ربيعة بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين، يا عاصم بن ثابت، قدمه فاضرب عنقه! فقدمه عاصم فضرب عنقه.
قالوا: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر بالقلب أن تغور، ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف، فإنه كان مسمناً انتفخ من يومه، فلما أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: اتركوه! ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عتبة يجر إلى القليب، وكان رجلاً جسيماً، في وجهه أثر الجدري، فتغير وجه ابنه أبي حذيفة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: يا أبا حذيفة كأنك ساءك ما أصاب أباك. قال: لا والله يا رسول الله، ولكني رأيت لأبي عقلاً وشرفاً، كنت أرجو أن يهديه الله إلى الإسلام، فلما أخطأه ذلك ورأيت ما أصابه غاظني. قال أبو بكر: كان والله يا رسول الله أبقى في العشيرة من غيره، وقد كان كارهاً لوجهه، ولكن الحين ومصارع السوء! قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الحمد لله الذي جعل خذ أبي جهل الأسفل، وصرعه وشفانا منه! فلما توافوا في القليب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطوف عليهم وهم مصرعون، وأبو بكر يخبره بهم رجلاً رجلاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يحمد الله ويشكره ويقول: الحمد لله الذي أنجز ما وعدني، فقد وعدني إحدى الطائفتين.
قال: ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهل القليب، فناداهم رجلاً رجلاً: يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. بئس القوم كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس! قالوا: يا رسول الله، تنادى قوماً قد ماتوا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد علموا أن ما وعدهم ربهم حق! قالوا: وكان انهزام القوم وتوليهم حين زالت الشمس، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببدر وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم نفراً من أصحابه أن يعينوه، فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالأثيل الأثيل واد طوله ثلاثة أميال وبينه وبين بدر ميلان، فكأنه بات على أربعة أميال من بدر قبل غروب الشمس فنزل به، وبات به وبأصحابه جراحٌ، وليست بالكثيرة، وقال لأصحابه من رجلٌ الليلة يحفظنا؟ فأسكت القوم، فقام رجلٌ فقال: من أنت؟ قال: ذكوان بن عبد قيس. قال: اجلس.ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلّم، فقام رجلٌ فقال: من أنت؟ فقال: ابن عبد قيس. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: اجلس. ثم مكث ساعة، ثم قام رجلٌ فقال: من أنت؟ فقال: أبو سبع. ثم مكث ساعة وقال: قوموا ثلاثتكم. فقام ذكون بن عبد قيس وحده، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: فأين صاحباك؟ قال: يا رسول الله، أنا الذي أجبتك الليلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فحفظك الله! فكان يحرس المسلمين تلك الليلة، حتى كان آخر الليل، فارتحل. قال: ويقال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العصر بالأثيل فلما صلى ركعة تبسم، فلما سلم سئل عن تبسمه، فقال: مر بي ميكائيل وعلى جناحه النقع، فتبسم إلي وقال إني كنت في طلب القوم، وأتاه جبرين حين فرغ من قتال أهل بدر، على فرسٍ أنثى معقود الناصية، قد عصم ثنيته الغبار، فقال: يا محمد، إن ربي بعثني إليك وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى، هل رضيت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم.

وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالأسرى، حتى إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط، وكان أسره عبد الله بن سلمة العجلاني، فجعل عقبة يقول: يا ويلي، علام أقتل يا معشر قريش من بين من ها هنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لعداوتك لله ولرسوله. قال: يا محمد، منك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي، إن قتلتهم قتلتني وإن مننت عليهم مننت علي، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يا محمد، من للصبية؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: النار، قدمه يا عاصم، فاضرب عنقه! فقدمه عاصم فضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بئس الرجل كنت والله ما علمت، كافراً بالله وبرسوله وبكتابه، مؤذياً لنبيه، فأحمد الله الذي هو قتلك وأقر عيني منك! ولما نزلوا سير شعب بالصفراء قسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الغنائم بها بين أصحابه. حدثني بذلك محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، عن جده.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من الأثيل، فجاءوا يوم الأحد شد الضحى، وفارق عبد الله زيداً بالعقيق، فجعل عبد الله ينادي على راحلته: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقتل المشركين وأسرهم! قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة. قال عاصم بن عدي: فقمت إليه فنحوته فقلت: أحقاً ما تقول، يا ابن رواحة؟ قال: إي والله، وغداً يقدم رسول الله إن شاء الله ومعه الأسرى مقرنين.ثم اتبع دور الأنصار بالعالية العالية بنو عمرو بن عوف وخطمة ووائل، منازلهم بها فبشرهم داراً داراً، والصبيان يشتدون معه ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق! حتى انتهوا إلى بني أمية بن زيد.
وقدم زيد بن حارثة على ناقة النبي صلى الله عليه وسلّم القصواء يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلي صاح على راحلته: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وأبو البختري، وزمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة. فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة، ويقولون: ما جاء زيد إلا فلاًّ! حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا، وقدم زيد حين سووا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم التراب بالبقيع.
فقال رجلٌ من المنافقين لأسامة بن زيد: قتل صاحبكم ومن معه. وقال رجلٌ من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر: قد تفرق أصحابكم تفرقاً لا يجتمعون منه أبداً، وقد قتل علية أصحابه وقتل محمد، هذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلاًّ. قال أبو لبابة: يكذب الله قولك! وقالت يهود: ما جاء زيد إلا فلاًّ! قال أسامة بن زيد: فجئت حتى خلوت بأبي، فقلت: يا أبه، أحق ما تقول؟ قال: إي والله حقاًّ يا بني! فقويت في نفسي، فرجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين، ليقدمنك رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك! فقال: يا أبا محمد، إنما هو شيء سمعت الناس يقولونه.
فقدم بالأسرى وعليهم شقران، وهم تسعة وأربعون رجلاً الذين أحصوا وهم سبعون في الأصل، مجتمع عليه، لا شك فيه، واستعمل عليهم شقران غلام النبي صلى الله عليه وسلّم، قد شهد بدراً ولم يعتقه يومئذ، ولقيه الناس يهنئونه بالروحاء بفتح الله، فلقيه وجوه الخزرج، فقال سلمة بن سلامة بن وقش: ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله ما قتلنا إلا عجائز صلعاً. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: يا ابن أخي، أولئك الملأ، لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم! فقال سلمة: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، إنك يا رسول الله لم تزل عني معرضاً منذ كنا بالروحاء في بدأتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أما ما قلت للأعرابي وقعت على ناقتك فهي حبلى منك، ففحشت وقلت ما لا علم لك به! وأما ما قلت في القوم، فإنك عمدت إلى نعمةٍ من نعم الله تزهدها. فاعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلّم معذرته، فكان من علية أصحابه.

فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: ولقيه أبو هند البياضي مولى فروة بن عمرو، ومعه حميتٌ مملوءٌ حيساً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنما أبو هند رجلٌ من الأنصار فأنكحوه! وأنكحوا إليه.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي سفيان، قال: ولقيه أسيد ابن حضير فقال: يا رسول الله، الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك! والله يا رسول الله، ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدواً، ولكني ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه عدوٌ ما تخلفت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدقت.
وحدثني عبد الله بن نوح، عن خبيب بن عبد الرحمن، قال: لقيه عبد الله بن أنيس بتربان فقال: يا رسول الله، الحمد لله على سلامتك وما ظفرك! كنت يا رسول الله ليالي خرجت موروداً، فلم يفارقين حتى كان بالأمس فأقبلت إليك. فقال: آجرك الله! وكان سهيل بن عمرو لما كان بشنوكة شنوكة فيما بين السقيا وملل، كان مع مالك بن الدخشم الذي أسره فقال: خل سبيلي للغائط. فقام به، فقال سهيل: إني أحتشم فاستأخر عني! فاستأخر عنه، ومضى سهيل على وجهه، انتزع يده من القران ومضى، فلما أبطأ سهيل على مالك أقبل فصاح في الناس، فخرجوا في طلبه. وخرج النبي صلى الله عليه وسلّم في طلبه. فقال: من وجده فليقتله! فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد دفن نفسه بين سمرات، فأمر به فربطت يداه إلى عنقه، ثم قرنه إلى راحلته، فلم يركب خطوة حتى قدم المدينة فلقي أسامة بن زيد.
فحدثني إسحاق بن حازم، عن عبد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، ورسول الله على راحلته القصواء، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين يديه، وسهيل مجنوب، ويداه إلى عنقه، فلما نظر أسامة إلى سهيل قال: يا رسول الله، أبو يزيد! قال: نعم، هذا الذي كان يطعم بمكة الخبز.
وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن يحيى بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقدم بالأسرى حين قدم بهم، وسودة بنت زمعة عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ، وذلك قبل أن يضرب الحجاب. قالت سودة: فأتينا فقيل لنا: هؤلاء الأسرى قد أتي بهم. فخرجت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه، وإذا أبو يزيد مجموعةٌ يداه إلى عنقه في ناحية البيت، فوالله إن ملكت حين رأيته مجموعةً يداه إلى عنقه أن قلت: أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم! ألا متم كراماً؟ فوالله ما راعني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم من البيت: يا سودة أعلى الله وعلى رسوله؟ فقلت: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق نبياً ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعةً يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.
فحدثني خالد بن إياس قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي جهم قال: دخل خالد بن هشام بن المغيرة وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة في منزل أم سلمة، وأم سلمة في مناحة آل عفراء، فقيل لها: أتي بالأسرى. فخرجت فدخلت عليهم، فلم تكلمهم حتى رجعت، فتجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فقالت: يا رسول الله، إن بني عمي طلبوا أن يدخل بهم علي فأضيفهم، وأدهن رءوسهم، وألم من شعثهم، ولم أحب أن أفعل ذلك حتى أستأمرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لست أكره شيئاً من ذلك! فافعلى من ذلك ما بدا لك.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: استوصوا بالأسرى خيراً. فقال أبو العاص بن الربيع: كنت مع رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إلي. وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد: وكانوا يحملوننا ويمشون.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: قدم بالأسرى قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلّم بيوم. ويقال قدموا في آخر النهار من اليوم الذي قدم فيه.
قالوا: ولما توجه المشركون إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم سماراً، يسمرون بذي طوًى في القمر حتى يذهب الليل، يتناشدون الأشعار ويتحدثون، فبينا هم كذلك ليلةً إلى أن سمعوا صوتاً قريباً منهم، ولا يرون القائل، رافعاً صوته يتغنى:

أزار الحنيفيون بدراً مصيبةً ... سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أرنت لها صم الجبال وأفزعت ... قبائل ما بين الوتير وخيبرا
أجازت جبال الأخشبين وجردت ... حرائر يضربن الترائب حسرا
أنشدنيه عبد الله بن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر، فاستمعوا للصوت فلا يرون أحداً، فخرجوا في طلبه فلا يرون أحداً، فخرجوا فزعين حتى جازوا الحجر فوجدوا مشيخة منهم جبلةً سماراً، فأخبروهم الخبر فقالوا لهم: إن كان ما تقولون حقاً، إن محمداً وأصحابه يسمون الحنيفية وما يعرفون اسم الحنيفية يومئذ. فما بقي أحدٌ من الفتيان الذين كانوا بذي طوًى إلا وعك، فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثاً حتى قدم الحيسمان بن حابس الخزاعي بخبر أهل بدر ومن قتل منهم، فهو يخبرهم قتل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وابني الحجاج، وأبي البختري، وزمعة بن الأسود.
قال: وصفوان بن أمية في الحجر جالسٌ يقول: لا يعقل هذا شيئاً مما يتكلم به، سلوه عني! فقالوا: صفوان بن أمية، لك به علم؟ قال: نعم، ذاك في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه مقتولين قال: ورأيت سهيل بن عمرو أسر، والنضر بن الحارث. قالوا: وما يدريك؟ قال: رأيتهما مقرونين في الحبال.
قالوا: بلغ النجاشي مقتل قريش بمكة وما ظفر الله به نبيه، فخرج في ثوبين أبيضين، ثم جلس على الأرض، ثم دعا جعفر بن أبي طالب وأصحابه فقال: أيكم يعرف بدراً؟ فأخبروه، فقال النجاشي: أنا عارف بها، قد رعيت الغنم في جوانبها، هي من الساحل على بعض نهار، ولكني أردت أن أتثبت منكم، قد نصر الله رسوله ببدر، فأحمد الله على ذلك. قال بطارقته: أصلح الله الملك! إن هذا لشيءٌ لم تكن تصنعه، تلبس ثوبين وتجلس على الأرض! فقال: إني من قومٍ إذا أحدث الله لهم نعمةً ازدادوا بها تواضعاً. ويقال إنه قال: إن عيسى بن مريم عليه السلام كان إذا حدثت له نعمةٌ ازداد بها تواضعاً.
ولما رجعت قريش إلى مكة قام فيهم أبو سفيان بن حرب فقال: يا معشر قريش، لا تبكوا على قتلاكم، ولا تنح عليهم نائحة، ولا يبكهم شاعرٌ، وأظهروا الجلد والعزاء، فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم، فأكلكم ذلك عن عداوة محمد وأصحابه، مع أنه إن بلغ محمداً وأصحابه شمتوا بكم، فيكون أعظم المصيبتين شماتتهم، ولعلكم تدركون ثأركم، والدهن والنساء على حرامٌ حتى أغزو محمداً. فمكثت قريش شهراً لا يبكيهم شاعرٌ ولا تنوح عليهم نائحةٌ.
فلما قدم بالأسرى أذل الله بذلك رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافقٌ إلا خضد عنقه لوقعة بدر. فقال عبد الله بن نبتل: ليت أنا كنا خرجنا معه حتى نصيب معه غنمية! وفرق الله في صبحها بين الكفر والإيمان، وقالت اليهود فيما بينها: هو الذي نجده منعوتاً، والله لا ترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت. وقال كعب بن الأشرف: بطن الأرض اليوم خيرٌ من ظهرها، هؤلاء أشراف الناس وساداتهم، وملوك العرب، وأهل الحرم والأمن، قد أصيبوا. فخرج إلى مكة فنزل على أبي وداعة بن ضبيرة، فجعل يرسل هجاء المسلمين ورثاء قتلى بدر من قريش، فأرسل أبياته هذه، يقول:
طحنت رحى بدرٍ لمهلك أهله ... ولمثل بدرٍ تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياض ... لا تبعدوا إن الملوك تصرع
ويقول أقوامٌ أذل بسخطهم ... إن ابن أشرف ظل كعباً يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا ... ظلت تسيخ بأهلها وتصدع
نبئت أن الحارث بن هشامهم ... في الناس يبني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما ... يسعى على الحسب القديم الأروع

قال الواقدي: أملاها علي عبد الله بن جعفر، ومحمد بن صالح، وابن أبي الزناد، قالوا: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حسان بن ثابت الأنصاري فأخبره بمنزله عند أبي وداعة، فجعل يهجو من نزل عنده حتى رجع كعبٌ إلى المدينة. فلما أرسل هذه الأبيات أخذها الناس منه وأظهروا المراثي وجعل من لقي من الصبيان والجواري ينشدون هذه الأبيات بمكة، ثم إنهم رثوا بها، فناحت قريش على قتلاها شهراً، ولم تبق دارٌ بمكة إلا فيها نوح، وجز النساء شعر الرءوس، وكان يؤتي براحلة الرجل منهم أو بفرسه فتوقف بين أظهرهم فنوحون حولها، وخرجن إلى السكك فسترن الستور في الأزقة وقطعن الطرق فخرجن ينحن، وصدقوا رؤيا عاتكة وجهيم بن الصلت.
وكان الأسود بن المطلب قد ذهب بصره، وقد كمد على من قتل من ولده، كان يحب أن يبكي على ولده، وتأبى ذلك عليه قريش، فكان يقول لغلامه بين اليومين: احمل معي خمراً واسلك بي الفج الذي سلك أبو حكيمة. فيأتي به على الطريق عند فج، فيجلس فيسقيه حتى ينتشي، ثم يبكي على أبي حكيمة وإخوته، ثم يحثى التراب على رأسه ويقول لغلامه: ويحك! اكتم علي أن تعلم بي قريش، فإني أراها لم تجمع البكاء على قتلاها.
فحدثني مصعب بن ثابت، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، قالت: قالت: قريش حين رجعوا إلى مكة وقتل أهل بدر: لا تبكوا على قتلاكم فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم فيأرب بكم القوم، ألا فأمسكوا عن البكاء! قالت: وكان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده زمعة، وعقيل، والحارث بن زمعة فكان يحب أن يبكي على قتلاه. فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلامه وقد ذهب بصره، هل بكت قريشٌ على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق! فذهب الغلام ورجع إليه فقال: إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلته. فذلك حين يقول:
تبكي أن يضل لها بعيرٌ ... ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تصاغرت الخدود
فبكي إن بكيت على عقيل ... وبكى حارثاً أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمى جميعاً ... وما لأبي حكيمة من نديد
على بدرٍ سراة بني هصيصٍ ... ومخزومٍ ورهط أبي الوليد
ألا قد ساد بعدهم رجالٌ ... ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا
أخبرني ابن أبي الزناد قال: سمعت أبي ينشد، تصاغرت الخدود. ولا ينكر الجدود: قالوا: ومشى نساء قريش إلى هند بنت عتبة فقلن: ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك؟ فقالت: حلقي، أنا أبكيهم فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بنا، ونساء بني الخزرج! لا والله، حتى أثأر محمداً وأصحابه، والدهن على حرامٌ إن دخل رأسي حتى نغزو محمداً. والل، لو أعلم أن الحزن يذهب من قلبي بكيت، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى نأري بعيني من قتلة الأحبة. فمكثت على حالها لا تقرب الدهن، وما قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد.
وبلغ نوفل بن معاوية الديلي، وهو في أهله، وقد كان شهد معهم بدراً، أن قريشاً بكت على قتلاها، فقدم فقال: يا معشر قريش، لقد خفت أحلامكم، وسفه رأيكم، وأطعتم نساءكم، ومثل قتلاكم يبكي عليهم؟ هم أجل من البكاء، مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد وأصحابه، فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم. فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه فقال: يا أبا معاوية، غلبت والله! ما ناحت امرأةٌ من بني عبد شمس على قتيلٍ لها إلى اليوم، ولا بكاهن شاعرٌ إلا نهيته، حتى ندرك ثأرنا من محمد وأصحابه، وإني لأنا الموتور الثائر، قتل ابني حنظلة وسادة أهل هذا الوادي، أصبح هذا الوادي مقشعراً لفقدهم.

فحدثني معاذ بن محمد الأنصاري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لما رجع المشركون إلى مكة وقتل صناديدهم وأشرافهم، أقبل عمير ابن وهب بن عمير الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر، فقال صفوان بن أمية: قبح الله العيش بعد قتلي بدر. قال عمير بن وهب: أجل والله، ما في العيش بعدهم خيرٌ، ولولا دين علي لا أجد له قضاءً، وعيالٌ لا أدع لهم شيئاً، لرحلت إلى محمدٍ حتى أقتله إن ملأت عيني منه. فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق، فإن لي عندهم علة. أقول: قدمت على ابني هذا الأسير. ففرح صفوان بقوله ذلك وقال: يا أبا أمية، وهل نراك فاعلاً؟ قال: إي ورب هذه البنية! قال صفوان: فعلي دينك، وعيالك أسوة عيالي، فأنت تعلم أنه ليس بمكة رجل أشد توسعاً على عياله مني. فقال عمير: قد عرفت بذلك يا أبا وهب. قال صفوان: فإن عيالك مع عيالي، لا يسعني شيءٌ ويعجز عنهم، ودينك علي. فحمله صفوان على بعيرٍ وجهزه، وأجرى على عياله مثل ما يجري على عيال نفسه. وأمر عمير بسيفه فشحذا وسم، ثم خرج إلى المدينة وقال لصفوان: اكتم علي أياماً حتى أقدمها. وخرج فلم يذكره صفوان، وقدم عميرٌ فنزل على باب المسجد وعقل راحلته، وأخذ السيف فتقلده. ثم عمد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو في نفرٍ من أصحابه يتحدثون ويذكرون نعمة الله عليهم في بدر، فرأى عميراً وعليه السيف، ففزع عمر منه وقال لأصحابه: دونكم الكلب! هذا عدو الله الذي حرض بيننا يوم بدر، وحزرنا للقوم، وصعد فينا وصوب، يخبر قريشاً أنه لا عدد لنا ولا كمين. فقاموا إليه فأخذوه، فانطلق عمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هذا عمير بن وهب، قد دخل المسجد ومعه السلاح، وهو الغادر الخبيث الذي لا نأمنه على شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: أدخله علي! فخرج عمر فأخذ بخماله سيفه فقبض بيده عليها، وأخذ بيده الأخرى قائمة السيف، ثم أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: يا عمر، تأخر عنه! فلما دنا عمير من النبي صلى الله عليه وسلّم قال: أنعم صباحاً! قال النبي صلى الله عليه وسلّم: قد أكرمنا الله عن تحيتك وجعل تحيتنا السلام، وهي تحية أهل الجنة. قال عمير: إن عهدك بها لحديث. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أبدلنا الله بها خيراً منها، فما أقدمك يا عمير؟ قال: قدمت في أسيري عندكم تقاربوننا فيه، فإنكم العشيرة والأهل. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: فما بال السيف؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت من شيءٍ؟ وإنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي، ولعمري إن لي لهماً غيره! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اصدق، ما أقدمك؟ قال: ما قدمت إلا في أسيرى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر؟ ففزع عمير فقال: ماذا شرطت له؟ قال: تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك ويعول عيالك، والله حائلٌ بيني وبينك. قال عمير: أشهد أنك رسول الله وأنك صادقٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله! كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء. وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان كما قلت، فلم يطلع عليه غيري وغيره، وقد أمرته أن يكتم عني ليالي مسيري فأطلعك الله عليه، فآمنت بالله ورسوله، وشهدت أن ما جئت به حقٌّ، الحمد لله الذي ساقني هذا المساق! وفرح المسلمون حين هداه الله، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع، وهوالساعة أحب إلي من بعض ولدي. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: علموا أخاكم القرآن وأطلقوا له أسيره. فقال عمير: يا رسول الله، إني كنت جاهداً على أطفاء نور الله، فله الحمد أن هداني، فائدن لي فألحق قريشاً فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، فلعل الله يهديهم ويستنقذهم من الهلكة. فأذن له فخرج فلحق بمكة، فكان صفوان يسأل عن عمير كل راكب يقدم من المدينة ويقول: هل حدث بالمدينة من حدث؟ ويقول لقريش: أبشروا بوقعةٍ تنسيكم وقعة بدر. فقدم رجلٌ من المدينة، فسأله صفوان عن عمير فقال: أسلم. فلعنه صفوان ولعنه المشركون بمكة وقالوا: صبأ عمير! فحلف صفوان ألا يكلمه أبداً ولا ينفعه، وطرح عياله. وقدم عمير عليهم على تلك الحال، فدعاهم إلى الإسلام وخبرهم بصدق رسول الله صلى الله

عليه وسلّم، فأسلم معه بشرٌ كثير.يه وسلّم، فأسلم معه بشرٌ كثير.
فحدثني محمد بن أبي حميد، عن عبد الله بن عمرو بن أمية، قال: لما قدم عمير بن وهب نزل في أهله ولم يقرب صفوان بن أمية، فأظهر الإسلام ودعا إليه، فبلغ صفوان فقال: قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله، وإنما رحل من عندي، أنه قد ارتكس، ولا أكلمه من رأسي أبداً، ولا أنفعه ولا عياله بنافعة أبداً. فوقف عليه عمير، وهو في الحجر، فقال: أبا وهب! فأعرض عنه، فقال عمير: أنت سيد من ساداتنا، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر والذبح له، أهذا دين؟ شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. فلم يجبه صفوان بكلمة.
المطعمون من المشركين ببدروكان المطعمون في عبد مناف، الحارث بن عامر بن نوفل، وشيبة وعتبة ابني ربيعة، ومن بني أسد: زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، ونوفل بن خويلد بن العدوية، ومن بني مخزوم: أبو جهل، ومن بني جمح: أمية بن خلف، ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج، قال: وكان سعيد بن المسيب يقول: ما أطعم أحدٌ ببدر إلا قتل. قال: وقد اختلف علينا فيهم، وهذا أثبت عندنا. وقد ذكروا عدة، منهم سهيل وأبو البختري وغيرهما.
فحدثني هشام بن عمارة، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة في فداء الأسرى، فاضطجعت في المسجد بعد العصر، وقد أصابني الكرى فنمت، فأقيمت صلاة المغرب فقمت فزعاً بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب " والطور " " وكتاب مسطورٍ " ، فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد، فكان يومئذٍ أول ما دخل الإسلام قلبي.
فحدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، قال: قدم من قريش أربعة عشر رجلاً في فداء أصحابهم.
وحدثني شعيب بن عبادة، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: قدم خمسة عشر رجلاً، فكان أول من قدم المطلب بن أبي وداعة، ثم قدموا بعده بثلاث ليال.
فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن يزيد ابن النعمان بن بشير، عن أبيه، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفداء يوم بدر أربعة آلاف لكل رجل.
فحدثني إسحاق بن يحيى قال: سألت نافع بن جبير: كم كان الفداء؟ قال: أرفعهم أربعة آلاف، إلى ثلاثة آلاف، إلى ألفين، إلى ألف، إلى قومٍ لا مال لهم، من عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أبي وداعة: إن له بمكة ابناً كيساً له مال، وهومغلٍ فداءه. فافتداه بأربعة آلاف، وكان أول أسير افتدى. وذلك أن قريشاً قالت لابنه المطلب ورأته يتجهز، يخرج إلى أبيه، فقالوا: لا تعجل، فإنا نخاف أن تفسد علينا في أسارانا، ويرى محمد تهالكنا فيغلي علينا الفدية، فإن كنت تجد فإن كل قومك لا يجدون من السعة ما تجد. فقال: لا أخرج حتى تخرجوا. فخادعهم حتى إذا غفلوا خرج من الليل مشرقاً على راحلته، فسار أربع ليال إلى المدينة، فافتدى أباه بأربعة آلاف. فلامته في ذلك قريش فقال: ما كنت لأترك أبي أسيراً في أيدي القوم وأنتم متضجعون. قال أبو سفيان بن حرب: إن هذا غلامٌ حدثٌ، معجبٌ برأيه، وهو مفسد عليكم! إني والله غير مفتد عمرو بن أبي سفيان ولو مكث سنة أو يرسله محمد! والله ما أنا بأعوز كم، ولكني أكره أن يدخل علي أو أدخل عليكم ما يشق عليكم، ويكون عمرو كأسوتكم.
أسماء النفر الذين قدموا في الأسرىمن بني عبد شمس: الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعمرو بن الربيع أخو أبي العاص، ومن بني نوفل بن عبد مناف: جبير بن مطعم، ومن عبد الدار: طلحة بن أبي طلحة، ومن بني أسد: عثمان بن أبي حبيش، ومن بني محزوم: عبد الله بن أبي ربيعة، وخالد بن الوليد، وهشام بن الوليد بن المغيرة، وفروة بن السائب، وعكرمة بن أب جهل، ومن بني جمح: أبي بن خلف، وعمير بن وهب، ومن بني سهم: المطلب بن أبي وداعة، وعمرو بن قيس، ومن بني مالك بن حسل: مكرز بن حفص بن الأخيف.

فحدثني المنذر بن سعد، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة يقال: إنها من جزع ظفار، كانت خديجة بنت خويلد أدخلته بها على أبي العاص حين بني بها. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم القلادة عرفها ورق لها، وذكر خديجة ورحم عليها، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا إليها متاعها فعلتم. فقالوا: نعم، يا رسول الله. فأطلقوا أبا العاص بن الربيع وردوا على زينب متاعها. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلّم على أبي العاص أن يخلي سبيلها، فوعده بذلك، وقدم في فدائه عمرو بن الربيع أخوه. وكان الذي أسره عبد الله بن جبير بن النعمان أخو خوات بن جبير.
ذكر سورة الأنفال

" يسئلونك عن الأنفال " قال: لما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر اختلفوا، فادعت كل طائفة أنهم أحق به، فنزلت هذه الآية، وهي قوله تبارك وتعالى: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً " يقول: زادتهم يقيناً. وفي قوله: " أولئك هم المؤمنون حقاً " . يقول: يقيناً. وفي قوله: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " . يقول: لما أمرك ربك أن تخرج إلى بدر هو الحق. وأخبرني ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي في قوله: " من بيتك " . قال: من المدينة. وفي قوله: " وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " . كره خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقوامٌ من أصحابه إلى بدر، قالوا: نحن قليل وما الخروج برأي! حتى كان في ذلك اختلاف كبير. وفي قوله: " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم " . لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم دون بدر نزل عليه جبريل عليه السلام فخبره بمسير قريش، وهو يريد عيرها، فوعده الله إما العير وإما لقاء قريش فيصيبهم. فلما كان ببدر أخذوا السقاء، وسألوهم عن العير فجعلوا يخبرونهم عن قريش، فلا يحب ذلك المسلمون لأنها شوكة، ويحبون العير. وفي قوله: " ويريد الله أن يحق الحق بكلماته " . يقول: يظهر الدين. " ويقطع دابر الكافرين " يعني من قتل ببدر من قريش. " ليحق الحق " يعني ليظهر الحق، " ويبطل الباطل " الذي جاءوا به، " ولو كره المجرمون " يعني قريشاً. " إذا تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين " يعني بعضهم على أثر بعض. " وما جعله الله إلا بشرى " يعني عدد الملائكة الذين أخبرهم بها، وليعلمن أن الله ينصركم. " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " يقول ألقى عليكم النوم أمناً منه فقذفه في قلوبكم، " وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به " وكان بعضهم قد أجنب، " ويذهب عنكم رج الشيطان " يقول: يصلي ولا يغتسل! " وليربط على قلوبكم " بالطمأنينة، " ويثبت به الأقدام " كان الموضع دهساً فلبده. " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا " فكان الملك يتصور في صورة الرجل فيقول: اثبت فإنهم ليسوا بشيء، " سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب " فكانت أفئدتهم تخفق، لها وجبان كالحصاة يرمي بها في الطست، " فاضربوا فوق الأعناق " يعني الأعناق، " واضربوا منهم كل بنانٍ " يداً ورجلاً. " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " يقول كفروا بالله وجحدوا رسوله. وفي قوله " ذلكم فذوقوه " يعني القتل ببدر، " وأن للكافرين عذاب النار " . " إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً " إلى قوله: " وبئس المصير " يوم بدر خاصة. " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " قول الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: أنا قتلت فلاناً، " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " حين رمى النبي صلى الله عليه وسلّم بالقبضة تراباً: " وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً " يعني نصره إياهم يوم بدر. " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " قول أبو جهل: اللهم، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه، " وإن تنتهوا " لمن بقي من قريش، " فهو خيرٌ لكم " يعني تسلموا، " وإن تعودوا " للقتال، " نعد " بالقتل لكم، " ولن تغنى عنكم فئتكم شيئاً " قالوا: لنا جماعة بمكة نغزوه غزوة تصيبه. " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون " يعني الدعاء، هذه الآية في يوم أحد، عاتبهم عليها. " لاتخونوا الله والرسولا وتخونوا أماناتكم " يقول: لا تنافقوا وأدوا كل ما استودعتم. " واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ " يقول: إذا كثر ماله عظمت فتنته وتطاول به، وإذا كان ولده كثيراً رأى أنه عزيزٌ. وفي قوله " يجعل لكم فرقاناً " يعني مخرجاً. " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك " هذا بمكة قبل الهجرة، حين أراد الخروج إلى المدينة. " وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا.. " إلى آخر الآية. " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ " قال: المتكلم بهذا النضر بن الحارث، فأنزل الله عز وجل فيه " أفبعذابنا يستعجلون " " فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين " يوم بدر. " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " يعني أهل مكة، " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني يصلون. ثم رجع فقال " وما لهم ألا

يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام " يعني الهزيمة والقتل. وفي قوله " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " يوم بدر. " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " إلى قوله " ثم يغلبون " حيث خرجوا إلى بدر حسرةً وندامةً، " ثم يغلبون " فقتلوا ببدر، يقول: ثم " إلى جهنم يحشرون " . " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " يقول: إن يسلموا يغفر لهم ما قد مضى من أعمالهم، وإن يعودوا فقد رأيتم من قتل ببدر. " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ " يعني لا يكون شرك، " ويكون الدين كله لله " لا يذكر إساف ولا نائلة. " واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " . قال: الذي لله هو للرسول، والذي لذي القربى قرابة رسول الله، " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " يعني يوم بدر فرق بين الحق والباطل. " إذ أنتم بالعدوة الدنيا " يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم حين نزلوا ببدر، والمشركون بالعدوة القصوى، بينهم قوز من رمل، والركب ركب أبي سفيان قد لصق بالبحر أسفل من بدر، " ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد " لا محالة يأتي ركب قبل ركب، " ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً " قتل من قتل ببدر، " ليهلك من هلك عن بينةٍ " يقول: يقتل من قتل عن عذر وحجة، ويحيا من حي منهم عن عذر وحجة. " إذ يريكهم اله في منامك قليلاً " قال: نام النبي صلى الله عليه وسلّم يومئذ فقللوا في عينه، " ولو أراكم كثيراً لفشلتم " يقول: رعبتم، " ولتنازعتم " يقول: اختلفتم، " ولكن الله سلم " يعني الاختلاف بينكم، " إنه عليمٌ بذات الصدور " يعني ضعف قلوبكم. " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً " يعني جميعاً، فلا تفروا وكبروا. " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا " يعني على السيف، يقول: كبروا الله في أنفسكم ولا تظهروا التكبير، فإن إظهار في الحرب فشل. " ولا تكونوا كالذين خرجوا من دياركم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله " يعني مخرج قريش إلى بدر. " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جارٌ لكم " هذا كله كلام سراقة بن جعشم، يقول فيما يروون: تصور إبليس في صورته يومئذٍ. " فلما تراءت الفئتان " يعني النبي صلى الله عليه وسلّم وقريشاً نكص إبليس وهو يرى الملائكة تقتل وتأسر وقال: " إني بريءٌ منكم إني أرى ما لا ترون " رأى الملائكة. " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ غر هؤلاء دينهم " نفرٌ كانوا أقروا بالإسلام، فلما قلل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في أعينهم فلوا، وقالوا هذا الكلام فقتلوا على كفرهم. " يضربون وجوههم وأدبارهم " يعني أستاههم ولكنه كنى. أخبرنا بذلك الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد وأسامة بن زيد، عن أبيه. " كدأب آل فرعون " كفعل آل فرعون. وفي قوله " إن شر الدواب عند الله الذين كفروا " إلى قوله " وهم لا يتقون " يعني قينقاع، بني النضير، وقريظة. " فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم " اقتلهم. " وإما تخافن من قومٍ خيانة " إلى آخر الآية، نزلت في بني قينقاع، سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلّم بهذه الآية. " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ " قال: الرمى، " ومن رباط الخيل " يقول: ارتبطوا لخيل تصهل وترى، " وآخرين من دونهم لا تعملونهم الله يعلمهم " . يعني خيبر. " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " إلى آخر الآية. يعني قربظة. " وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره " يعني قريظة والنضير حين قالوا: نحن نسلم ونتبعك. " يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " على القتال، " إن يكن منكم عشرون صابرون " نزلت في بدر ثم نسخت بقوله " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين " فصار الرجل يغلب الرجلين " ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " يعني أخذ المسلمين الأسرى يوم بدر، " تريدون عرض الدنيا " يقول الفداء، " والله يريد الآخرة " يريد أن يقتلوا. " لولا كتابٌ من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذابٌ عظيمٌ " قال سبق إحلال الغنيمة. " فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً " قال: إحلال الغنائم. " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا " يعني قريشاً الذين هاجروا قبل بدر، وآووا ونصروا الأنصار، وأما قوله: " والذين آمنوا

ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيءٍ حتى يهاجروا " يقول: ليس بينكم وبينهم وراثة حتى يهاجروا، " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ " يعني مدة وعهد. " والذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ " يقول: لا تولوا أحدا من الكافرين، بعضهم أولياء بعض، ثم نسخ آية الميراث. " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله إن الله بكل شيءٍ عليمٌ " .اجروا مالكم من ولايتهم من شيءٍ حتى يهاجروا " يقول: ليس بينكم وبينهم وراثة حتى يهاجروا، " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ " يعني مدة وعهد. " والذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ " يقول: لا تولوا أحدا من الكافرين، بعضهم أولياء بعض، ثم نسخ آية الميراث. " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله إن الله بكل شيءٍ عليمٌ " .
وفي قوله " يوم نبطش البطشة الكبرى " يوم بدر. " فسوف يكون لزاماً " يوم بدر. " أو يأتيهم عذاب يومٍ عقيمٍ " يوم بدر. " حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذابٍ شديدٍ " يوم بدر. " سيهزم الجمع ويولون الدبر " يوم بدر. " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " فلم يكن إلا يسيراً حتى كان وقعة بدر. " وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلاً " نزلت قبل وقعة بدر بيسير. " واجعل لي من لدنكم سلطاناً نصيراً " يوم بدر. " واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين " من قبل يوم بدر. " ومن يولهم يومئذٍ دبره " قال: يوم بدر خاصة، وكان قد فرض عليهم إذا لقي عشرون مائتين لا يفرون، فإنهم إذا لم يفروا غلبوا. ثم خفف عنهم فقال " فإن يكن منكن مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين " فنسخت الأولى، فكان ابن عباس يقول: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر. وفي قوله: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار " يعني قريشاً يوم بدر. وفي قوله: " حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب " قال بالسيوف يوم بدر. وفي قوله " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر " يقول: السيف يوم بدر.
حدثني محمد بن هلال، عن أبيه، عن أبي هريرة، في قوله عز وجل " أخذنا مترفيهم بالعذاب " قال: يوم بدر.
حدثنا الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن مجاهد، قال: بالسيوف يوم بدر. حدثنا عمر بن عثمان المخزومي عن عبد الملك بن عبيد، عن مجاهد، عن أبي بن كعب، في قوله: " أو يأتيهم عذاب يومٍ عقيمٍ " قال: يوم بدر.
ذكر من أسر من المشركينحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: وحدثني محمد ابن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد قالا: أسر من بني هاشم عقيل بن أبي طالب، قال محمود: أسره عبيد بن أوس الظفري، وأسر نوفل بن الحارث جبار بن صخر، وعتبة حليف لبني هاشم من بني فهر.
حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، قال: أسر من بني المطلب بن عبد مناف رجلان: السائب بن عبيد، وعبيد بن عمرو بن علقمة، أسرهما سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي. حدثني بذلك ابن أبي حبيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأنصاري. ولم يقدم لهما أحدٌ، وكانا لا مالا لهما، ففك رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهما بغير فدية.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عقبة بن أبي معيط قتل صبراً بالصفراء قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، وكان الذي أسره عبد الله بن سلمة العجلاني، والحارث بن أبي وجزة، وكان الذي أسره سعد بن أبي وقاص، فقدم في فدائه الوليد ابن عقبة بن أبي معيط، فافتداه بأربعة آلاف، فحدثني محمد بن يحيى ابن سهل، عن أبي عفير، أن سعد بن أبي وقاص، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يرد الأسرى، كان الذي رده، أسره سعد أول مرة، ثم اقترعوا عليه فصار أيضاً له. وعمرو بن أبي سفيان، صار في سهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرعة، كان أسره علي، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلّم بغير فدية لسعد بن النعمان بن أكال من بني معاوية، خرج معتمراً فحبس بمكة، وأبو العص بن الربيع، أسره خراش بن الصمة. حدثنيه إسحاق ابن خارجة بن عبد الله، عن أبيه، قال: قدم في فدائه عمرو بن الربيع أخوه. وحليفٌ لهم يقال له أبو ريشة، افتداه عمرو بن الربيع، وعمرو بن الأزرق افتكه عمرو بن الربيع، وكان الذي صار في سهمه تميم مولى خراش بن الصمة، وعقبة بن الحارث بن الحضرمي، وكان الذي أسره عمارة بن حزم، فصار في القرعة لأبي بن كعب، افتداه عمرو بن سفيان ابن أمية، وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس، أسره عمار بن ياسر، فقدم في فدائه ابن عمه.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عدي بن الخيار، وكان الذي أسره خراش بن الصمة حدثني بذلك أيوب بن النعمان وعثمان بن عبد شمس، ابن أخي عتبة بن غزوان، حليفٌ لهم، أسره حارثة بن النعمان، وأبو ثور، افتداهم جبير بن مطعم، وكان الذي أسر أبا ثور أبو مرثد الغنوي في ثلاثة.
ومن بني عبد الدار بن قصي: أبو عزيز بن عمير، أسره أبو اليسر ثم اقترع عليه فصار لمحرز بن نضلة، وأبو عزيز أخوه مصعب بن عمير لأمه وأبيه. فقال معصب لمحزر: اشدد يديك به، فإن له أما بمكة كثيرة المال. فقال له أبو عزيز: هذه وصاتك بي يا أخي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك! فبعثت أمه فيه بأربعة آلاف، وذلك بعد أن سألت أغلى ما تفادى به قريش، فقيل لها أربعة آلاف. والأسود بن عامر بن الحارث ابن السباق، أسره حمزة بن عبد المطلب، فقدم في فدائها طلحة بن أبي طلحة اثنان.
ومن بني أسد بن عبد العزي: السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد، أسره عبد الرحمن بن عوف، والحارث بن عائذ بن أسد، أسره حاطب بن أبي بلتعة، وسالم بن شماخ، أسره سعد بن أبي وقاص، قدم في فدائهم عثمان بن أبي حبيش بأربعة آلاف لكل رجل ثلاثة. ومن بين تيم: مالك بن عبد الله بن عثمان، أسره قطبة بن عامر بن حديدة، فمات بالمدينة أسيراً.
ومن بني مخزوم: خالد بن هشام بن المغيرة، أسره سواد بن غزية وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، أسره بلال، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وكان أفلت يوم نخلة، فأسره وقاد بن عبد الله التميمي يوم بدر، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك، فقد كنت أفلت في المرة الأولى يوم نخلة. فقدم في فدائهم عبد الله بن أبي ربيعة وافتداهم بأربعة آلاف، كل رجلٍ منهم. والوليد بن الوليد بن المغيرة، أسره عبد الله بن جحش، فقدم في فدائه أخوه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد، فتمنع عبد الله بن جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف، فجعل هشام لا يريد أن يبلغ ذلك، يريد ثلاثة آلاف، فقال خالد لهشام: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبي فيه إلا كذا وكذا لفعلت. ثم خرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فأفلت فأتي النبي صلى الله عليه وسلّم فأسلم، فقيل له: ألا أسلمت قبل أن تفتدي؟ قال: كرهت أن أسلم حتى افتدي بمثل ما افتدي به قومي. فأسلم وحدثني يحيى بن المغيرة، عن أبيه، أنه أخبره بمثل ذلك إلا أنه قال: أسره سليط بن قيس المازني وقيس بن السائب، كان أسره عبدة بن الحسحاس، فحبسه عنده حيناً وهو يظن أن له مالاً، وقدم أخوه فروة بن السائب في فدائه، فأقام أيضاً حيناً، ثم افتداه بأربعة آلاف درهم فيها عرضً.

ومن بني أبي رفاعة: صيفي بن أبي رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان لا مال له، أسره رجل من المسلمين، فمكث عندهم ثم أرسله، وأبو المنذر بن أبي رفاعة افتدى بألفين، وعبد الله، وهو أبو عطاء بن السائب بن عابد بن عبد الله، افتدى بألف درهم، أسره سعد ابن أبي وقاص، والمطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم، وكان الذي أسره أبو أيوب الأنصاري، لم يكن له مالٌ فأرسله بعد حين، وخالد بن الأعلم حليفٌ لهم عقيلي، وهو الذي يقول:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدما
قدم في فدائه عكرمة بن أبي جهل، كان الذي أسره حباب بن المنذر بن الجموح ثمانية.
ومن بني جمح: عبد الله بن أبي بن خلف، والذي أسره فروة بن عمرو البياضي، قدم في فدائه أبوه أبي بن خلف، فتمنع به فروة حيناً، وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن وهب، من عليه النبي صلى الله عليه وسلّم وأحلفه ألا يكثر عليه أحداً، فأرسله بغير فدية، فأسر يوم أحد فضرب عنقه، ووهب بن عمير بن وهب بن خلف، قدم أبوه عمير بن وهب بن خلف في فدائه حين بعثه صفوان إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأسلم فأرسل له ابنه بغير فداء، وكان الذي أسره رفاعة بن رافع الزرقي، وربيعة بن دراج بن العنبس بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح، وكان لا مال له فأخذ منه شيئاً وأرسله، والفاكه مولى أمية بن خلف، أسره سعد بن أبي وقاص أربعة.
ومن بني سهم بن عمرو: أبو وداعة بن ضبيرة، وكان أول أسير افتدى، قدم في فدائه ابنه المطلب، افتداه بأربعة آلاف، وفروة بن خنيس بن حذافة بن سعيد بن سعد بن سهم، وكان الذي أسره ثابن بن أقرم قدم في فدائه عمرو بن قيس، افتداه بأربعة آلاف، وحنظلة بن قبيصة بن حذافة بن سعيد بن سعد بن سهم، كان الذي أسره عثمان ابن مظعون، والحجاج بن الحارث بن سعد، أسره عبد الرحمن بن عوف، فأفلت فأخذه أبو داود المازني أربعة.
ومن بني مالك بن حسل: سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود ابن نصر بن مالك، قدم في فدائه مكرز بن حفص بن الأخيف، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، فقال مالك:
أسرت سهيلاً فلم أبتغ ... به غيره من جميع الأمم
وخندف تعلم أن الفتى ... سهيلاً فتاها إذا تظلم
ضربت بذى السيف حتى انحنى ... وأكرهت نفسي على ذى العلم
فلما قدم مكرز انتهى إلى رضاهم في سهيل ودفع الفداء، أربعة آلاف، قالوا: هات مالنا. قال: نعم، اجعلوا رجلاً مكان رجل وخلوا سبيله. فكان عبد الله بن جعفر يقول: رجلاً برجلٍ! وكان محمد بن صالح وابن أبي الزناد يقولان: رجلاً برجلٍ! فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرز بن حفص، وبعث سهيل بالمال مكانه من مكة. وعبد بن زمعة بن قيس بن نصر بن مالك، أسره عمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو، وعبد العزى بن مشنوء بن وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الرحمن، وكان الذي أسره النعمان بن مالك ثلاثة. ومن بني فهر: الطفيل بن أبي قنيع، وابن جحدم.
فحدثني محمد بن عمرو، عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: كان الأسرى الذين يحصون تسعة وأربعين.
فحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن ابن المسيب، قال: كان الأسرى سبعين والقتلى سبعين.
فحدثني حمزة بن عبد الواحد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أبي عكرمةن عن ابن عباس، مثله.
وحدثني محمد، عن الزهري، قال: كان الأسرى زيادة على سبعين والقتلى زيادة على سبعين.
فحدثني يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، قال: أسر يوم بدر أربعة وسبعون.
تسمية المطعمين في طريق بدر من المشركينحدثني عبد الله بن جعفر، عن محمد بن عثمان اليربوعي، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قال: كان المطعمون في بدر تسعة، من عبد مناف ثلاثة: الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، ومن بني أسد: زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، ونوفل بن خويلد ابن العدوية اثنان ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام واحد ومن بني جمح: أمية بن خلف واحد، ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج رجلان.

فحدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن موسى بن عقبة، قال: أول من نحر لهم أبو جهل بمر الظهران عشراً، ثم أمية بن خلف بعسفان تسعاً، وسهيل بن عمرو بقديد عشراً. ومالوا إلى المياه من نحو البحر، ضلوا الطريق، فأقاموا بها يوماً فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعة، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشراً، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم قيس الجمحي تسعاً، ثم نحر لهم فلان عشراً، ونحر لهم الحارث بن عامر تسعاً، ثم نحر أبو البختري على ماء بدرٍ عشراً، ونحر لهم مقيس على ماء بدر تسعاً، ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم. قال ابن أبي الزناد: والله، ما أظن مقيس كان يقدر على واحدة، ولا يعرف الواقدي قيس الجمحي. حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور، عن أبيها، قال: كان النفر يشتركون في الطعام، فينسب إلى الرجل الواحد ويسكت عن سائرهم.
تسمية من استشهد من المسلمين ببدرحدثني عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري: كم استشهد من المسلمين ببدر؟ قال: أربعة عشر رجلاً. ثم عدهم علي، فهم هؤلاء الذين سميت. وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمرو بن رومان مثله، ستى من المهاجرين وثمانية من الأنصار، من بني المطلب بن عبد مناف: عبيدة بن الحارث، قتله شيبة بن ربيعة، فدفنه النبي صلى الله عليه وسلّم بالصفراء. ومن بني زهرة: عمير بن أبي وقاص، قتله عمرو بن عبد أخبرنيه أبو بكر بن إسماعيل بن محمد، عن أبيه وعمير بن عبد عمرو ذو الشمالين، قتله أبو أسامة الجشمي. ومن بني عدي بن كعب: عاقل ابن أبي البكير حليف لهم من بني سعد بن بكر، قتله مالك بن زهير الجشمي، ومهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي، أخبرنيه ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قال: وحدثنيه محمد بن عبد الله، عن الزهري. ويقال أول قتيل قتل من المهاجرين مهجع مولى عمر. ومن بني الحارث بن فهر: صفوان بن بيضاء، قتله طعيمة بن عدي، وحدثني بذلك محرز بن جعفر بن عمرو، عن جعفر بن عمرو، ومن الأنصار، من بني عمرو بن عوف: مبشر بن عبد المنذر، قتله أبو ثور، وسعد بن خيثمة، قتله عمرو بن عبد، ويقال طعيمة بن عدي. ومن بني عدي بن النجار: حارثة بن سراقة، رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله. قال الواقدي: وسمعت المكيين يقولون ابن العرقة. ومن بني مالك بن النجار: عوف ومعوذ ابنا عفراء، قتلهما أبو جهل. ومن بني سلمة بن حرام: عمير بن الحمام بن الجموح، قتله خالد بن الأعلم. حدثني محمد بن صالح قال: أول قتيل قتل من الأنصار في الإسلام عمير ابن الحمام، قتله خالد بن الأعلم، ويقال حارثة بن سراقة، رماه حبان ابن العرقة. ومن بني زريق: رافع بن المعلي، قتله عكرمة بن أبي جهل. ومن بني الحارث بن الخزرج: يزيد بن الحارث بن فسحم، قتله نوفل بن معاوية الديلي. حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قتل أنسة مولى النبي صلى الله عليه وسلّم ببدر. حدثني الثوري، عن الزبير بن عدي، عن عطاء، أن النبي صلى الله عليه وسلّم على قتلي بدر. وحدثني عبد ربه بن عبد الله، عن عطاء، عن ابن عباس، مثله.
حدثني يونس بن محمد الظفري قال: أراني أبي أربعة قبور بسير شعب من مضيف الصفراء فقال: هؤلاء من شهداء بدر من المسلمين. وثلاثة بالدبة أسفل من العين المستعجلة. وأراني قبر عبيدة بن الحارث بذات أجدال بالمضيق أسفل من الجدول. وحدثني يونس بن محمد، عن معاذ بن رفاعة أن معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جرحه بالمدينة. وعبيد بن السكن، اشتكى فمات حي قدم.
حدثني يحيى بن عبد العزيز، عن سعيد بن عمرو، قال: أول أنصاري قتل في الإسلام عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، قتله عامر بن الحضرمي ببدر، وأول من قتل من المسلمين من المهاجرين مهجع، قتله عامر بن الحضرمي، ومن الأنصار عمير بن الحمام، قتله خالد بن الأعلم. ويقال أولهم حارثة بن سراقة، قتلة حبان بن العرقة رماه بسهم.
تسمية من قتل من المشركين ببدر

من بني عبد شمس بن عبد مناف: حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. حدثني موسى بن محمد، عن أبيه، بذلك. وحدثني يونس بن محمد، عن أبيه، مثله. قال: وحدثنيه ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين. والحارث بن الحضرمي، قتله عمار ابن ياسر. وعامر بن الحضرمي، قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. حدثني بذلك عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون. وعمير بن أبي عمير وابنه، وموليان لهم، قتل سالمٌ مولى أبي حذيفة عمير بن أب عمير. وعبيدة بن سعيد بن العاص، قتله الزبير بن العوام. حدثني بذلك أبو حمزة عبد الواحد بن ميمون، عن عروة بن الزبير، قال ابن حيويه: رأيت في نسخة عتيقة: أبو حمزة عبد الملك بن ميمون. وحدثنيه محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة. والعاص بن سعيد، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام. حدثني بذلك محمد بن صالح، عن عاصم بن عمرو بن رومان، وموسى بن محمد، عن أبيه، مثله. وعقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالصفراء صبراً بالسيف. وعتبة بن ربيعة، قتلة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وشيبة بن ربيعة، قتله عبيدة بن الحارث، وذفف عليه حمزة وعلي. والوليد بن عتبة بن ربيعة، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وعامر بن عبد الله حليف لهم من أنمار، قتله علي بن ابي طالب عليه السلام. فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قال: قتله سعد بن معاذ اثنا عشر.
ومن بني نوفل بن عبد مناف، الحارث بن عامر بن نوفل، قتله خبيب بن يساف، وطعيمة بن عدي، قتله حمزة بن عبد المطلب اثنان.
ومن بني أسد: ربيعة بن الأسود، قتله أبو دجانة، أخبرنيه عبد الله ابن جعفر، عن ابن أبي عون. وحدثني عبد الله بن جعفر، عن جعفر بن عمرو، قال: قتله ثابت بن الجذع. والحارث بن ربيعة، قتلة علي بن أبي طالب عليه السلام. وعقيل بن الأسود بن المطلب، قتله حمزة وعلي، شركا في قتله. وحدثني أبو معشر قال: قتله على وحده. وأبو البختري وهو العاص بن هشام، قتله المجذر بن ذياد. حدثني بذلك سعيد بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن يحيى بن حبان. وحدثني سعيد بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن عباد بن تميم، قال: قتله أبو داود المازني. وحدثني يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن أيوب ابن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: قتله أبو داود المازني. وحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: قتله أبو اليسر. ونوفل بن خويلد ابن أسد، وهو ابن العدوية، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. حدثني بذلك محمد بن صالح، عن عاصم بن عمرو بن رومان، قال: وحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصينت، قال: وحدثني عمر بن أبي عاتكة، عن أبي الأسود خمسة.
ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة، قتله علي ابن أبي طالب صبراً، بالسيف بالأثيل بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، وزيد ابن مليص مولى عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله علي ابن أبي طالب. حدثني بذلك أيوب بن النعمان، عن عكرمة بن مصعب العبدي. وحدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة، قال: قتله بلال.
ومن بني تيم بن مرة: عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام. حدثني بذلك موسى بن محمد، عن أبيه، وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان، قتله صهيب. حدثني بذلك موسى بن محمد، عن أبيه اثنان.
ومن بني مخزوم بن يقظة، ثم من بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم: أبو جهلن ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ وعوف ابنا عفراء، وذفف عليه عبد الله بن مسعود، والعاص بن هشام بن المغيرة، قتله عمر بن الخطاب رضي الله عنه. حدثنيه إبراهيم بن سعد، عن محمد ابن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن نافع بن جبير، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمرو بن رومان، مثله ويزيد بن تميم التميمي حليفٌ لهم، قتله عمار بن ياسر. حدثني بذلك عبد الله بن أبي عبيدةن عن أبيه. ويقال علي عليه السلام. وأبو مسافع الأشعري حليفٌ لهم، قتله أبو دجانة. وحرملة بن عمرو بن أبي عتبة، قتله عليٌّ أصحابنا جميعاً على ذلك.
ومن بني الوليد بن المغيرة: أبو قيس بن الوليد قتله عليٌّ عليه السلام. أخبرينه عبد الله بن جعفر، عن جعفر بن عمرو.

ومن بني الفاكه بن المغيرة: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، قتله حمزة بن عبد المطلب. وقال لي إسحاق بن خارجة: إن حباب بن عمرو ابن المنذر قتله.
ومن بني أمية بن المغيرة: مسعود بن أبي أمية، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومن بني عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم من بني رفاعة، وهو أمية بن عابد: رفاعة بن أبي رفاعة، قتله سعد بن الربيع. وأبو المنذر بن أبي رفاعة، قتله معن بن عدي العجلاني. وعبد الله بن أبي رفاعة، قتله علي بن أبي طالب، وزهير بن أبي رفاعة قتله أبو أسيد الساعدي. حدثني بذلك أبي بن العباس بن سهل، عن أبيه. والسائب بن أبي رفاعة، قتله عبد الرحمن بن عوف.
ومن بني أبي السائب، وهو صيفي بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم: السائب بن أبي السائب، قتله الزبير بن العوام. والأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله حمزة بن عبد المطلب، أخبرنا أصحابنا جميعاً بذلك. وحليفان لهم من طيىء: عمرو بن سفيان، قتله يزيد بن رقيش، وأخوه جبار بن سفيان، قتله أبو بردة بن نيار.
ومن بني عمران بن مخزوم: حاجز بن السائب بن عويمر بن عائذ، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام. وعويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم، قتله النعمان بن أبي مالك تسعة عشر.
ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص: أمية بن خلف، قتله خبيب بن يساف وبلال، شركا فيه. أخبرنيه ابن أبي طوالة، عن خبيب بن عبد الرحمن، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، ويزيد بن رومان، بذلك. وحدثني عبيد بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة بن رافع، قال: قتله رفاعة بن رافع بن مالك. وعلي بن أمية بن خلف، قتله عمار بن ياسر. وأوس بن المعير بن لوذان، قتله عثمان بن مظعون وعليٌ بن أبي طالب، شركا فيه. وحدثني قدامة بن موسى، عن عائشة بنت قدامة، قالت: قتله عثمان بن مظعون. ومنبه بن الحجاج، قتله أبو اليسر ويقال: علي، ويقال: أبو أسيد الساعدي. حدثني أبي بن عباس، عن أبيه، عن أبي أسيد، قال: أنا قتلت منبه بن الحجاج. ونبيه بن الحجاج، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام. والعاص بن منبه، قتله علي بن أبي طالب. وأبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، قتله أبو دجانة. وحدثني أبو معشر، عن أصحابه، قالوا: قتله علي عليه السلام. وحدثني حفص بن عمر بن عبد الله بن جبير مولى علي عليه السلام بذلك. وعاصم ابن أبي عوف بن ضبيرة بن سعيد بن سعد، قتله أبو دجانة سبعة.
ومن بني عامر بن لؤي ثم من بني مالك بن حسل: معاوية بن عبد قيس حليفٌ لهم، قتله عكاشة بن محصن. ومعبد بن وهب، حليفٌ لهم من كلب، قتله أبو دجانة. حدثني بذلك ابن أبي سبرة، عن سعد بن سعيد أخي يحيى. وحدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة. وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم، قال: قتله أبو دجانة. فجميع من يحصى فتله تسعة وأربعون رجلاً.
منهم من قتله أمير المؤمنين على عليه السلام وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً.
تسمية من شهد بدراً من قريش والأنصار
من شهد الوقعة، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهم وهو غائب، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، قال: وحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، ويزيد بن رومان. وحدثني موسى بن محمد، عن أبيه، بذلك: ثمانية نفر ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهامهم وأجورهم.
وحدثني سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: شهد بدراً من الموالي عشرون رجلاً. وحدثني عبد الله ابن جعفر قال: سمعت عبد الله بن حسن يقول: ما شهد بدراً إلا قرشيٌّ أو أنصاريٌّ، أو حليفٌ لقرشي أو حليفٌ لأنصاري، أو مولى لهم.
من بني هاشم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الطيب المبارك، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، ويزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن حصين الغنوي، ومرثد بن أبي مرثد، حليفان لحمزة، وأنسة مولى النبي صلى الله عليه وسلّم، وأبو كبشة مولى النبي صلى الله عليه وسلّم. وشهدها شقران، وهو مملوك للنبي صلى الله عليه وسلّم، ولم يسهم له بشيء، وكان على الأسرى فأحذاه كل رجل له أسيرٌ، فأصاب أكثر مما أصاب رجلٌ من القوم ثمانية سوى شقران.

فحدثني عبد العزيز بن محمد عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلّم ضرب لجعفر بن أبي طالب بسهمه وأجره ولم يذكره أصحابنا، وليس في صدر الكتاب تسميته.
ومن بني المطلب بن عبد مناف: عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عبد مناف، والحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، والطفيل بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، ومسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف أربعة.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عثمان بن عفان بن أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس رضي الله عنه، لم يحضر، تخلف على ابنة النبي صلى الله عليه وسلّم رقية، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره ذكره القوم جميعاً وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبي حذيفة. ومن حلفائهم من بني غنم بن دودان: عبد الله بن جحش بن رئاب، وعكاشة بن محصن، وأبو سنان بن محصن، وسنان ابن أبي سنان بن محصن، وشجاعٌ بن وهب، وعتبة بن وهب. وربيعة ابن أكثم، ويزيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة بن عبد الله، ومن حلفائهم من بني سليم: مالك بن عمرو، ومدلاج بن عمرو، وثقاف بن عمرو، وحليفٌ لهم من طيء سويد بن مخشى. حدثني به أبو معشر، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قال: وزعم لي عبد الله بن جعفر الزهري أنه أربد بن حميرة، وأنه يكنى أبا مخشى، وأنه من بني أسد بن خزيمة من أنفسهم. وأخبرنا بعض أصحابنا أن صبيحاً مولى العاص تجهز إلى بدر فاشتكى، فحمل على بعيره أبا سلمة بن عبد الأسد، ثم شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلّم هم ستة عشر سوى صبيح.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر بن أهيب ابن نسيب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة، أخوه سليمٌ. ومن بني مازن: حباب مولى عتبة بن غزوان اثنان.
ومن بني أسد بن عبد العزي: الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة حليفٌ لهم، وسعد مولى حاطب ثلاثة.
ومن بني عبد بن قصي: طليب بن عمير بن وهب. حدثني بذلك عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، ومحمد بن عبد الله بن عمرو. وحدثنيه قدامة بن موسى، عن عائشة بنت قدامة.
ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير، وسويبط بن حرملة بن مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار بن قصي اثنان.
ومن بني زهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة، وسعد بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمير ابن أبي وقاص. ومن حلفائهم: عبد الله بن مسعو الهذلي، والمقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة، بن ثمامة بن مطرود بن زهير بن ثعلبة ابن مالك بن الشريد بن فأس بن ذريم بن القين بن أهود بن بهراء، وهو الذي كان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث بن عبد بن الحارث بن زهرة، وخباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد مولى أم سباع بنت أنمار. أخبرني بنسب خباب، موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن أسد بن عبد العزي يتيم عروة. ومسعود بن الربيع من القارة، وذو اليدينت عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن غبشان بن سليم ابن مالك بن أفصى بن خزاعة ثمانية.
ومن بني تيم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو عبد اله بن عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره، وبلال ابن رباح، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وصهيب بن سنان خمسة.
ومن بني مخزوم بن يقظة: أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وشماس بن عثمان بن الشريد، وأرقم بن أبي الأرقم، وعمار بن ياسر، ومعتب بن عوف بن الحمراء، حليفٌ لهم من خزاعه خمسة.

ومن بني عدي بن كعب: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي ابن رياح، وزيد بن الخطاب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، كان النبي صلى الله عليه وسلّم بعثه هو وطلحة يتحسبان العير، فضرب له بسهمه وأجره، وعمرو بن سراقة بن المعتمر بن أنس بن أذاة بن رياح. ومن حلفائهم من بني سعد بن ليث: عاقل بن أبي البكير، قتل ببدر، وخالد بن أبي البكير، قتل يوم الرجيع، وإياس بن أبي البكير، وعامر ابن أبي البكير، ومهجع مولى عمر من اليمن، وخولي وابنه حليفان لهم، وعامر بن ربيعة العنزي عنز بطن من ربيعة حليفٌ لهم، وواقد بن عبد الله التميمي، حليفٌ لهم ثلاثة عشر.
ومن بني جمح بن عمرو: عثمان بن مظعون، وقدامة بن مظعون، وعبد الله ابن مظعون، والسائب بن عثمان بن مظعونن ومعمر بن الحارث خمسة.
ومن بني سهم بن عمرو: خنيس بن حذافة بن قيس.
ومن بني مالك بن حسل: عبد الله بن مخرمة بن عبد العزي، وعبد الله ابن سهيل بن عمرو، كان أقبل مع المشركين فانحاز إلى المسلمين، ووهب بن سعد بن أبي سرح. حدثني به محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: وحدثنيه ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قال: وحدثنيه عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد. وأبو سبرة ابن أبي رهم، وعمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو، وسعد بن خولة، حليف لهم يماني، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود. حدثني به عبد الله بن جعفر، عن عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن عمرو بن عطاء، بذلك وهم ستة سوى حاطب. حدثني عطاء بن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبيه، قال: خرج عبد الله بن سهيل مع أبيه في نفقته، وخرج ولا يشك أبوه أنه على دينه، فلما قربوا انحاز حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل القتال، فغاظ أباه ذلك. فقال سهيل: فجعل الله لي وله في ذلك خيراً.
ومن بني الحارث بن فهر: أبو عبيدة، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح، وصفوان بن بيضاء، وسهيل بن بيضاء، وعياض بن زهير، ومعمر بن أبي سرح، وعمرو بن أبي عمرو، وهم من بني ضبة وهم ستة.
فحدثني نافع بن أبي نافع أبو الحصيب، وابن أبي سبرة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، قال: كانت سهمان قريش يوم بدر مائة سهم. حدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: كانت قريش ستة وثمانين رجلاً، والأنصار مائتين وسبعة وعشرين رجلاً. وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير، قال: كانت قريش ثلاثة وسبعين رجلاً، والأنصار أربعين ومائتي رجل.
ومن الأنصار، من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وعمرو بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أوي بن معاذ بن النعمان: والحارث بن أنس بن رافع بن امرىء القيس.
ومن بني عبد بن كعب بن عبد الأشهل بني زعورا: سعد بن مالك ابن عبد بن كعب، وسلمة بن سلامة بن وقش، وعباد بن بشر بن وقش، وسلمة بن ثابت بن وقش، ورافع بن يزيد بن كرز بن سكن بن زعورا بن عبد الأشهل، والحارث بن خزمة بن عدي بن أبي غنم بن سالم ابن عوف بن عمرو بن عوف، حليفٌ لهم من بني حارثة من القواقلة، داره فيهم، ومحمد بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة ابن الحارث، من بني حارثة، وسلمة بن أسلم بن حريش بن عدي بن مجدعة، قتل يوم جسر أبي عبيد سنة أربع عشرة، وأبو الهيثم بن التيهان، وعبيد بن التيهان، حليفان لهم من بلى، وعبد الله بن سهل خمسة عشر رجلاً.
ومن بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: مسعود بن عبد سعد بن عامر بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة، وأبو عبس بن جبر بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة. ومن حلفائهم أبو بردة بن نيار بن بلى وهم ثلاثة. وحدثني عبد المجيد بن أبي عبس، عن أبيه ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد مثله عبد المجيد بن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر.
ومن بني ظفر، من بني سواد بن كعب: قتادة بن النعمان بن زيد، وعبيد بن أوس بن مالك بن سواد.

ومن بني رزاح بن كعب: نصر بن الحارث بن عبد رزاح بن ظفر بن كعب، ومن حلفائهم رجلان من بلى، عبد الله بن طارق بن مالك ابن تيم بن شعبة بن سعد الله بن فران بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، قتل بالرجيع وأخوه لأمه معتب بن عبيد بن أناس بن تيم ابن شعبة بن سعد الله بن فران بن بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ثمانية. حدثني بذلك عبد المجيد بن أبي عبس، عن أبيه، ومحمد ابن صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد. وحدثنيه ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، مثله.
ومن بني أمية بن زيد بن مالك بن عوف: مبشر بن عبد المنذر ابن زنبر، قتل ببدر، ورفاعة بن عبد المنذر، وسعد بن عبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن أمية بن زيد بن أمية، وعويم بن ساعدة ورافع بن عنجدة اسم أمه عنجدة وعبيد بن أبي عبيد، وثعلبة بن حاطب، وأبو لبابة بن عبد المنذر، استعمله النبي صلى الله عليه وسلّم على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره، رده من الروحاء، والحارث بن حاطب، رده من المدينة، ضرب له بسهمه وأجره تسعة.
ومن بني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف: عاصم ابن ثابت بن قيس وقيس أبو الأقلح، كنيته ابن عصمة بن مالك بن أمية بن ضبيعة، قتل بالرجيع، والأحوص الشاعر من ولده ومعتب بن قشير بن مليل بن زيد بن العطاب وأبو مليل بن الأزعر بن زيد بن العطاف، لا عقب له، وعمير بن معبد بن الأزعر، لا عقب له، وسهل ابن حنيف بن واهب بن عكيم بن الحارث بن ثعلبة خمسة.
ومن بني عبيد بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف: أنيس بن قتادة ابن ربيعة بن خالد بن الحارث بن عبيد بن زيد، قتل يوم أحد، وهو زوج خنساء بنت خذام، لا عقب له. ومن حلفائهم: معن بن عدي ابن الجد بن العجلان قتل يوم اليمامة، وربعي بن رافع، وثابت بن أقرم، قتل يوم طليحة، وعبد الله بن سلمة بن مالك بن الحارث بن عدي بن الجد بن العجلان، وزيد بن أسلم بن ثعلبة بن عدي بن الجد ابن العجلان، لا عقب له. وخرج عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان، فرده النبي صلى الله عليه وسلّم وضرب له بأجره وسهمه إلى مسجد الضرار لشيء بلغه عنهمن وسالم مولى ثبيتة بنت يعار، قتل يوم اليمامة.
حدثني أفلح بن سعيد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش، عن أبي البداح بن عاصم بذلك ثمانية.
ومن بني ثعلبة بن عمرو بن عوف: عبد الله بن جبير بن النعمان، قتل يوم أحد، أمير النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد على الرماة، وعاصم ابن قيس، وأبو ضياح بن ثابت،وأبو حنة وليس في بدرٍ أبو حنة وسالم بن عمير، وهو أحد البكائين، والحارث بن النعمان بن أبي خذمة وخوات بن جبير بن النعمان، كسر بالروحاء. حدثني عبد الملك بن سليمان، عن خوات بن صالح، عن أبيه، ذلك ثمانية.
ومن بني جحجبي بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف: المنذر ابن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بن حريش بن جحجبي بن كلفة، ويكنى أبا عبدة، وليس له عقب، ولأحيحة عقب من غيره ومن حلفائهم من بني أنيف: أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة بن بيحان، وكان اسن أبي عقيل عبد العزى فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الرحمن عدو الأوثان، قتل باليمامة، وهو أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة ابن بيحان بن عامر بن أنيف بن جشم بن عبد الله بن تيم بن يراش بن عامر بن عبيلة بن قسميل بن فران بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة اثنان.
ومن بني غنم بن السلم بن امرىء القيس بن مالك بن الأوس بن حارثة: سعد بن خيثمة، قتل ببدر، والمنذر بن قدامة، ومالك بن قدامة، وابن عرفجة، وتميم مولى بني غنم بن السلم خمسة. فهؤلاء الأوس.
ومن بني معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف: جابر بن عتيك بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن معاوية، ومالك بن ثابت بن نميلة، حليفٌ لهم من مزينة، ونعمان بن عصر، حليف لهم من بلي، والحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية، ليس ثبت.
ومن بني مالك بن النجار بن عمرو بن الخزرج، ثم من بني غنم بن مالك، ثم من بني ثعلبة بن عبد عوف بن غنم: أبو أيوب، واسمه خالد ابن زيد بن كليب بن ثعلبة، مات بأرض الروم زمن معاوية.
ومن بني عسيرة بن عبد عوف: ثابت بن خالد بن النعمان بن خنساء بن عسيرة.
ومن بني عمرو بن عبد عوف، عمارة بن حزم بن زيد، وسراقة بن كعب بن عبد العزي بن غزية بن عمرو بن عبد.

ومن بني عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك: حارثة بن النعمان، وسليم ابن قيس بن قهد، واسم قهد خالد بن قيس بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة ابن غنم.
ومن بني عائذ بن ثعلبة بن غنم: سهيل بن رافع بن أبي عمرو بن عائذ ابن ثعلبة بن غنم، وعدي بن أبي الزغباء، واسم ابن الزغباء سنان بن سبيع ابن ثعلبة بن ربيعة بن بديل بن سعد بن عدي بن نصر بن كاهل بن نصر ابن مالك بن غطفان بن قيس بن جهينة ثمانية.
ومن بني زيد بن ثعلبة بن غنم: مسعود بن أوس بن زيد، وأبو خزيمة ابن أوس بن أصرم بن زيد بن ثعلبة، ورافع بن الحارث بن سواد بن زيد بن ثعلبة ثلاثة.
ومن بني سواد بن مالك بن غنم بن عوف: عوف ومعوذ ومعاذ، بنو الحارث بن رفاعة بن سواد بنو عفراء، وهي ابنة عبيد بن ثعلبة، ونعيمان ابن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد، وعامر بن مخلد بن سواد، وعبد الله بن قيس بن خالد بن خلدة بن الحارث بن سواد، وعمرو بن قيس بن سواد، وقيس بن عمرو بن قيس بن زيد بن سواد، وثابت بن عمرو بن زيد بن عدي ين سواد، وعصيمة حليفٌ لهم، ورجلٌ من جهينة يقال له وديعة بن عمرو بن جراد بن يربوع بن طحيل بن عمرو بن غنم ابن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة. فحدثني عبد الله بن أبي عبيدة، عن أبيه، قال: سمعت الربيع بنت معوذ بن عفراء تقول: أبو الحمراء مولى الحارث بن رفاعة قد شهد بدراً.
قال: فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، مثله اثنا عشر بأبي الحمراء. فجميع من شهد من بني غنم بن مالك بن النجار ثلاثة وعشرون بأبي الحمراء.
ومن بني عامر بن مالك بن النجار، ثم من بني عمرو بن مبذول، ثم من بني عتيك بن عمرو بن مبذول: ثعلبة بن عمرو بن محصن بن عمرو ابن عتيك، وسهل بن عتيك بن النعمان بن عمرو بن عتيك، والحارث ابن الصمة بن عمرو بن عتيك، كسر بالروحاء، ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره حدثينه أصحابنا جميعاً وقتل يوم بئر معونة، وهم ثلاثة.
ومن بني عمرو بن مالك، وهم بنو حديلة، ثم من بني قيس بن عبيد ابن زيد بن رفاعة بن معاوية بن عمرو بن مالك: أبي بن كعب بن قيس ابن عبيد، وأنس بن معاذ بن أنس بن قيس بن عبيد اثنان.
ومن بني عدي بن عمرو بن مالك بن النجار: أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، أخو حسان بن ثابت، وأبو شيخ، واسمه أبي بن ثابت ابن المنذر بن حرام بن عمرو، وأبو طلحة، واسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام ثلاثة.
ومن بني عدي بن النجار: حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن ماكل، قتل يوم بدر، وعمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي، ويكنى عمرو أبا حكيمة، وسليط بن قيس بن عمرو بن عبيد ابن مالك بن عدي بن عامر، وأبو سليط واسمه أسيرة بن عمرو بن عامر ابن مالك، قتل يوم أحد، وعمرو يكنى أبا خارجة بن قيس بن مالك ابن عدي بن عامر بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدي بن عامر، وعامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بن مالك بن عدي بن عامر، ومحرز ابن عامر بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي، وثابت بن خنساء ابن عمرو بن مالك بن عدي بن عامر، قتل يوم أحد، وسواد بن غزية ابن أهيب، حليفٌ لهم من بلى ثمانية.
ومن بني حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار: قيس ابن السكن بن قيس بن زيد بن حرام، ويكنى قيس أبا زيد، وأبو الأعور كعب بن الحارث بن جندب بن ظالم بن عبس بن حرام بن جندب، وسليم بن ملحان، وحرام بن ملحان بن خالد بن زيد بن حرام خمسة.
ومن بني مازن بن النجار: ثم من بني عوف بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن: قيس بن أبي صعصعة، واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول. فحدثني بن أبي صعصعة، واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول. فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الله بن عبد الرحمن، أن النبي صلى الله عليه وسلّم استعمله على المشاة، وهو كان عامل النبي صلى الله عليه وسلّم على المغانم يوم بدر، وعصيم حليفٌ لهم من بني أسد ثلاثة.
ومن بني خنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن: عمير، ويكنى أبا داود بن عامر بن مالك بن خنساء، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء ابن مبذول اثنان.
ومن بني ثعلبة بن مازن: قيس بن مخلد بن ثعلبة بن صخر بن حبيب ابن الحارث بن ثعلبة بن مازن.

ومن بني دينار بن النجار، ثم من بني مسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار النعمان بن عبد عمرو بن مسعود بن عبد الأشهل، والضحاك ابن عبد عمرو بن مسعود بن عبد الأشهل، وسليم بن الحارث بن ثعلبة، وهو أخٌ للنعمان والضحاك ابني عبد عمرو لأمهما، وكعب بن زيد، قتل يوم الخندق، وارتث يوم بئر معونة من القتلى، وجابر بن خالد بن عبد الأشهل بن حارثة، وسعيد بن سهيل بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار.
ومن بني قيس بن مالك بن كعب بن حارثة بن دينار: كعب بن زيد ابن مالك وبجير بن أبي بجير حليفٌ لهم وهم ثمانية.
ومن بني الحارث بن الخزرج، ثم من بني امرىء القيس بن ثعلبة. سعد بن ربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرىء القيس، قتل بأحد، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرىء القيس، قتل يوم مؤتة، وخلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرىء القيس، قتل يوم بني قريظة، وخارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك، وكان صهراً لأبي بكر، ابنته خارجة امرأة أبي بكر، قتل يوم أحد أربعة.
ومن بني زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث ابن الخزرج: بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس، قتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد، وسبيع بن قيس بن عيشة بن أمية بن عامر بن عدي ابن كعب بن الخزرج، وعبادة بن قيس بن مالك، وسماك بن سعد، وعبد الله بن عمير، ويزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، وهو الذي يقال له فسحم ستة.
ومن بني جشم بن الحارث بن الخزرج، ومن بني أخيه، وأخوه زيد ابن الحارث بن الخزرج، وهما التوأمان: خبيب بن يساف بن عنبة ابن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه بن زيد بن الخزرج بن الحارث، وهو الذي أرى الأذان، وأخوه حريث بن زيد، حدثني به شعيب بن عبادة، عن بشير بن محمد، عن أبيه، أن حريثاً شهد بدراً، وأصحابنا على ذلك، وسفيان بن بشر خمسة.
ومن بني جدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج: تميم بن يعار ابن قيس بن عدي بن أمية بن جدارة، وعبد الله بن عمير من بني جدارة، ويزيد بن المزين، وعبد الله بن عرفطة أربعة.
ومن بني الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج عبد الله بن الربيع ابن قيس بن عباد بن الأبجر واحد.
ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني عبيد بن مالك بن سالم بن غنم بن الخزرج، وهم بنو الحبلى، وإنما كان سالم عظيم البطن فسمي الحبلى: عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك، ابن السلول، وإنما السلول امرأة وهي أم أبي، وأوس بن خولى بن عبد الله بن الحارث بن عبيد بن مالك اثنان.
ومن بني جوء بن عدي بن مالك بن سالم بن غنم: زيد بن وديعة ابن عمرو بن قيس بن جزء، ورفاعة بن عمرو بن زيد بن عمرو بن ثعلبة ابن مالك بن سالم بن غنم، وعامر بن سلمة بن عامر بن عبد الله، حليف لهم من أهل اليمن، وعقبة بن وهب بن كلدة، حليف لهم من بني عبد الله بن غطفان، ومعبد بن عباد بن قشعر بن القدم بن سالم بن غنم، ويكنى أبا خميصة، وعاصم بن العكير حليفٌ لهم ستة.
ومن بني سالم بن عمرو بن عوف بن الخزرج، ثم من بني العجلان بن غنم بن سالم: نزفل بن عبد الله بن نضلة بن مالك بن العجلان، وغسان ابن مالك بن ثعلبة بن عمرو بن العجلان، ومليل بن وبرة بن خالد بن العجلان، وعصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان أربعة.
ومن بني أصرم بن فهر بن غنم بن سالم: عبادة بن الصامت بن أصرم، وأخوه أوس بن الصامت.
ومن بني دعد بن فهر بن غنم: النعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد، وهو الذي يسمى قوقلاً. قال الواقدي: إنما سمي قوقلاً لأنه كان إذا استجار به رجلٌ قال له: قوقل بأعلا يثرب وأسفلها فأنت آمن، فسمي القوقل.
ومن بني قريوش بن غنم بن سالم: أمية بن لوذان بن سالم بن ثابت ابن هزال بن عمرو بن قريوش بن غنم.
ومن بني دعد رجلان.
ومن بني مرضخة بن غنم بن مالك: مالك بن الدخشم واحد.

ومن بني لوذان بن غنم: ربيع بن إياس، وأخوه ورقة بن إياس بن عمرو بن غنم، وعمرو بن إياس، حليفٌ لهم من أهل اليمن. وحلفاؤهم من بلى، ثم من بني غصينة: المجذر بن ذياد بن عمرو بن زمرة بن عمرو ابن عمارة، وعبدة بن الحسحاس بن عمرو بن زمرة، وبحاث بن ثعلبة ابن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة، وأخوه عبد الله بن ثعلبة بن خزمة ابن أصرم، وحليفٌ لهم من بهراء، يقال له عتبة بن ربيعة بن خلف بن معاوية. حدثني شعيب بن عبادة، عن بشير بن محمد، عن أبيه، بذلك. قال: وأصحابنا جميعاً أن الحليف ثبت ثمانية.
ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، ثم من بني زيد بن ثعلبة ابن الخزرج: أبو دجانة، وهو سماك بن خرشة بن لوذان بن عبد ود ابن ثعلبة، قتل يوم اليمامة، والمنذر بن عمرو، قتل يوم بئر معونة أميراً للنبي صلى الله عليه وسلّم على القوم اثنان.
ومن بني ساعدة، من بني البدي بن عامر بن عوف: أبو أسيد الساعدي، واسمه مالك بن ربيعة بن البدي، ومالك بن مسعود، وهؤلاء بنو البدي. حدثني أبي عن عباس بن سهل، عن أبيه، عن جده، قال: تجهز سعد ابن مالك يخرج إلى بدر فمرض فمات، فموضع قبره عند دار ابن فارط، فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره. وحدثني عبد المهيمن، عن أبيه، عن جده، قال: مات بالروحاء، وأسهم له النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو من بني البدي.
ومن بني طريف بن الخزرج بن ساعدة: عبد ربه بن حق بن أوس ابن قيس بن ثعلبة بن طريف، وكعب بن جماز بن مالك بن ثعلبة حليفٌ لهم من غسان، وضمرة بن عمرو بن كعب بن عدي بن عامر بن رفاعة بن كليب بن مردغة بن عدي بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة، وبسبس بن عمرو بن ثعلبة بن خرشة بن زيد بن عمرو بن سعيد بن ذبيان بن رشدان بن قيس بن جهينة خمسة.
ومن بني جشم بن الخزرج، ثم من بني سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم، من بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة: خراش بن الصمة بن عمرو بن الجموح بن حرام، وعمير بن حرام، وتميم مولى خراش بن الصمة، وعمير بن الحمام بن الجموح، قتل ببدر، ومعاذ بن الجموح، ومعوذ بن عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة، قتل بأحد، وهو أبو جابر، وحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب، وخلاد ابن عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام، وحبيب بن الأسود مولى لهم، وثابت بن ثعلبة بن زيد بن ثعلبة الذي يقال له الجذع، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بن حرام أحد عشر رجلاً.
حدثني عبد العزيز بن محمد، عن يحيى بن أسامة، عن ابني جابرن عن أبيهما، أن معاذ بن الصمة بن عمرو بن الجموح شهد بدراً، وليس بمجتمع عليه.
ومن بني عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، ثم من بني خنساء بن سنان بن عبيد: بشر بن البراء بن معرور بن صخر بن سنان بن صيفي بن صخر بن خنساء، وعبد الله بن الجد بن قيس بن صخر بن خنساء، وسنان بن صيفي بن صخر بن خنساء، وعتبة بن عبد الله بن صخر بن خنساء، وحمزة بن الحمير قال: وسمعت أنه خارجة بن الحمير وعبد الله ابن الحمير، حليفان لهم من أشجع من بني دهمان.
ومن بني نعمان بن سنان بن عبيد بن عبد بن عدي بن غنم: عبد اللن ابن عبد مناف بن النعمان بن سنان، ونعمان بن سنان مولى لهم، وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان، وخليدة بن قيس بن النعمان بن سنان، ويقال لبدة بن قيس أربعة.
ومن بني خناس بن سنان بن عبيد بن عدي: يزيد بن المنذر بن سرح بن خناس، وأخوه معقل بن المنذر بن سرح بن خناس، وعبد الله ابن النعمان بن بلذمة بن خناس ثلاثة.
ومن بني خنساء بن عبيد: جبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن عبيد واحد.
ومن بني ثعلبة بن عبيد: الضحاك بن حارثة بن ثعلبة بن عبيد، وسواد بن زيد بن ثعلبة بن عبيد.
ومن بني عدي بن غنم بن كعب بن سلمة: عبد الله بن قيس بن صخر بن حرام بن ربيعة بن عدي بن غنم، وأخوه معبد بن قيس بن صخر ابن حرام بن ربيعة بن عدي بن غنم.
ومن بني سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، ثم من بني حديدة: يزيد ابن عامر بن حديدة، ويكنى يزيد أبا المنذر، وسليم بن عمرو بن حديدة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعنترة مولى سليم بن عمرو بن حديدة.

ومن بني عدي بن نابى بن عمرو بن سواد: عبس بن عامر بن عدي ابن ثعلبة بن غنمة بن عدي، وثعلبة بن غنمة، وأبو اليسر، واسمه كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن سواد، وسهل بن قيس بن أبي كعب ابن القين، قتل بأحد، ومعاذ بن جبل بن عائد بن عدي بن كعب وثعلبة وعبد الله ابنا أنيس اللذان كسرا أصنام بني سلمة.
ومن بني زريق بن عامر بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم ابن الخزرج، ثم من بني مخلد بن عامر بن زريق: قيس بن محصن ابن خالد بن مخلد، والحارث بن قيس بن خالد بن مخلد، وجبير بن إياس بن خالد بن مخلد، وسعيد بن عثمان بن خالد بن مخلد، ويكنى أبا عبادة، وعقبة بن عثمان بن خالد، وذكوان بن عبد قيس بن خالد ابن مخلد، ومسعود بن خلدة بن عامر بن مخلد سبعة.
ومن بني خالد بن عامر بن زريق: عباد بن قيس بن عامر بن خالد ابن عامر بن زريق واحد.
ومن بني خلدة بن عامر بن زريق: أسعد بن يزيد بن الفاكه بن زيد ابن خلدة بن عامر، والفاكه بن بشر بن الفاكه بن زيد بن خلدة، ومعاذ ابن ماعص بن قيس بن خلدة، وأخوه عائذ بن ماعص، ومسعود بن سعد ابن قيس بن خلدة، قتل يوم بئر معونة خمسة.
ومن بني العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق: رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، وخلاد بن رافع بن مالك بن العجلان، وعبيد بن زيد ابن عامر بن العجلان ثلاثة.
ومن بني حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج: رافع بن المعلى بن لوذان بن حارثة بن زيد بن حارثة بن ثعلبة بن عدي ابن مالك، وأخوه هلال بن المعلى، قتل ببدر اثنان.
ومن بني بياضة بن عامر بن زريق بن عامر بن عبد حارثة: زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان بن عامر بن عدي بن أمية بن بياضة، وفروة بن عمرو بن وذفة بن عبيد بن عامر، وخالد بن قيس بن مالك بن العجلان ابن علي بن عامر بن بياضة، ورحيلة بن ثعلبة بن خالد بن ثعلبة بن بياضة أربعة.
ومن بني أمية بن بياضة: حليفة بن عدي بن عمرو بن مالك بن عامر بن فهيرة بن عامر بن بياضة، وغنام بن أوس بن غنام بن أوس ابن عمرو بن مالك بن عامر بن بياضة، وعطية بن نويرة بن عامر بن عطية ابن عامر بن بياضة. حدثني بذلك خالد بن القاسم، عن زرعة بن عبد الله ابن زياد بن لبيد أن الرجلين ثبت. قال الواقدي: وليس بمجتمع عليهما.
ذكر سرية قتل عصماء بنت مروانحدثني عبد الله بن الحارث، عن أبيه، أن عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، كانت تحت يزيد بن زيد بن حصن الخطمي، وكانت تؤذي النبي صلى الله عليه وسلّم، وتعيب الإسام، وتحرض على النبي صلى الله عليه وسلّم، وقالت شعراً:
فباست بني مالكٍ والنبيت ... وعوفٍ وباست بني الخزرج
أطعتم أتاوى من غيركم ... فلا من مرادٍ ولا مذحج
ترجونه بعد قتل الرءوس ... كما يرتجي مرق المنضج

قال عمير بن عدي بن خرشة بن أمية الخطمي حين بلغه قولها وتحريضها: اللهم، إن لك علي نذراً لئن رددت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة لأقتلنها ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ ببدر فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بدر جاءها عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها، وحولها نفرٌ من ولدها نيامٌ، منهم من ترضعه في صدرهان فجسها بيده، فوجد الصبي ترضعه فنحاه عنها، ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهراها، ثم خرج حتى صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلّم نظر إلى عمير فقال: أقتلت بنت مروان؟ قال: نعم بأبي أنت يا رسول الله. وخشي عمير أن يكون افتات على النبي صلى الله عليه وسلّم بقتلها فقال: هل علي في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان، فإن أول ما سمعت هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلّم بقتلها فقال: هل علي في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان، فإن أول ما سمعت هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلّم. قال عمير: فالتفت النبي صلى الله عليه وسلّم إلى من حوله فقال: إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجلٍ نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى هذا الأعمى الذي تشدد في طاعة الله. فقال: لا تقل الأعمى، ولكنه البصير! فلما رجع عمير من عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجد بنيها في جماعةٍ يدفنونها، فأقبلوا إليه حين رأوه مقبلاً من المدينة، فقالوا: يا عمير، أنت قتلتها؟ فقال: نعم، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون، فو الذي نفسي بيده، لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم. فيومئذٍ ظهر الإسلام في بني خطمة، وكان منهم رجال يستخفون بالإسلام خوفاً من قومهم، فقال حسان بن ثابت يمدح عمير بن عدي، أنشدنا عبد الله بن الحارث:
بني وائلٍ وبني واقف ... وخطمة دون بني الخزرج
متى ما دعت أختكم ويحها ... بعولتها والمنايا تجى
فهزت فتًى ماجداً عرقه ... كريم المداخل والمخرج
فضرجها من نجيع الدماء ... قبيل الصباح ولم يحرج
فأوردك الله برد الجنا ... ن جذلان في نعمة المولج
حدثني عبد الله بن الحارث، عن أبيه، قال: كان قتل عصماء لخمس ليالٍ بقين من رمضان، مرجع النبي صلى الله عليه وسلّم من بدر، على رأس تسعة عشر شهراً.
سرية قتل أبي عفكحدثنا سعيد بن محمد، عن عمارة بن غزية، وحدثناه أبو مصعب إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت، عن أشياخه، قالا: إن شيخاً من بني عمرو بن عوف يقال له أبو عفك، وكان شيخاً كبيراً، قد بلغ عشرين ومائة سنة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة، كان يحرض على عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم، ولم يدخل في الإسلام. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بدر رجع وقد ظفره الله بما ظفره، فحسده وبغى فقال:
قد عشت حيناً وما إن أرى ... من الناس داراً ولا مجمعا
أجم عقولاً وآتي إلى ... منيبٍ سراعاً إذا ما دعا
فسلبهم أمرهم راكبٌ ... حراماً حلالاً لشتى معا
فلو كان بالملك صدقتم ... وبالنصر تابعتم تبعا
فقال سالم بن عمير، وهو أحد البكائين من بني النجار: علي نذرٌ أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه. فأمهل فطلب له غرةً، حتى كانت ليلةٌ صائفةٌ، فنام أبو عفك بالفناء في الصيف في بني عمرو بن عوف، فأقبل سالم بن عمير، فوضع السيف على كبده حتى خش في الفراش، وصاح عدو الله فثاب إليه أناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه. وقالوا: من قتله؟ والله لم نعلم من قتله لقتلناه به! فقالت النهدية في ذلك، وكانت مسلمة، هذه الأبيات:
تكذب دين الله والمرء أحمدا ... لعمر الذي أمناك إذ بئس ما يمنى
حباك حنيفٌ آخر الليل طعنةً ... أبا عفك خذها على كبر السن
فإني وإن أعلم بقاتلك الذي ... أياتك حلس الليل من إنسٍ أو جنى
فحدثني معن بن عمر قال: أخبرني ابن رقيش قال: قتل أبو عفك في شوال على رأس عشرين شهراً.
غزوة قينقاع

غزوة قينقاع يوم السبت للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً، حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلّم إلى هلال ذي القعدة.
حدثني عبد الله بن جعفر، عن الحارث بن الفضيل، عن ابن كعب القرظي، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة، وادعته يهود كلها، وكتب بينه وبينها كتاباً. وألحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل قوم بلحفائهم، وجعل بينه وبينهم أماناً، وشرط عليهم شروطاً، فكان فيما شرط ألا يظاهروا عليه عدواً. فلما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحاب بدر وقدم المدينة، بغت يهود وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم من العهد، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم فجمعهم، ثم قال: يا معشر يهود، أسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله، قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش. فقالوا: يا محمد، لا يغرنك من لقيت، إنك قهرت قوماً أغماراً. وإنا والله أصحاب الحرب، ولئن قاتلتنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا. فبينا هم على ما هم عليه من إظهار العداوة ونبذ العهد، جاءت امرأةٌ نزيعةٌ من العرب تحت رجلٍ من الأنصار إلى سوق بني قينقاع، فجلست عند صائع في حلي لها، فجاء رجلٌ من يهود قينقاع فجلس من ورائها ولا تشعر، فخل درعها إلى ظهرها بشوكة، فلما قامت المرأة بدت عورتها فضحكوا منها. فقام إليه رجلٌ من المسلمين فاتبعه فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع، وتحايشوا فقتلوا الرجل، ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وحاربوا، وتحصنوا في حصنهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحاصرهم، فكانوا أول من سار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأجلى يهود قينقاع، وكانوا أول يهود حاربت.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، قال: لما نزلت هذه الآية: " وإما تخافن من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواءٍ إن الله لا يحب الخائنين " ، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بهذه الآية.

قالوا: فحصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب. قالوا: أفننزل وننطلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إلا على حكمي! فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأمر بهم فربطوا. قال: فكانوا يكتفون كتافاً. قالوا: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على كتافهم المنذر بن قدامة السالمي. قال: فمر بهم ابن أبي وقال: حلوهم! فقال المنذر: أتحلون قوماً ربطهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ والله لا يحلهم رجلٌ إلا ضربت عنقه. فوثب ابن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأدخل يده في جنب درع النبي صلى الله عليه وسلّم من خلفه فقال: يا محمد، أحسن في موالي! فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلّم غضبان، متغير الوجه، فقال: ويلك، أرسلني! فقال: لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربع مائة دارع وثلثمائة حاسر، منعوني يوم الحدائق ويوم بعاث من الأحمر والأسود، تريد أن تحصدهم في غداةٍ واحدة؟ يا محمد، إني امروءٌ أخشى الدوائر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خلوهم، لعنهم الله، ولعنه معهم! فلما تكلم ابن أبي فيهم تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من القتل وأمر بهم أن يجلوا من المدينة ، فجاء ابن أبي بحلفائه معه، وقد أخذوا بالخروج، يريد أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم في ديارهم، فيجد على باب النبي صلى الله عليه وسلم عويم بن ساعدة، فذهب ليدخل فرده عويم وقال: لا تدخل حتى يؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لك. فدفعه ابن أبي، فغلظ عليه عويم حتى جحش وجه ابن أبي الجدار فسال الدم، فتصايح حلفاؤه من يهود، فقالوا: أبا الحباب، لا نقيم أبداً بدارٍ أصاب وجهك فيها هذا، لا نقدر أن نغيره. فجعل ابن أبي يصيح عليهم، وهو يمسح الدم عن وجهه، يقول: ويحكم، قروا! فجعلوا يتصايحون: لا نقيم أبداً بدار أصاب وجهك فيها هذا، لا نستطيع له غيراً! ولقد كانوا أشجع يهود، وقد كان ابن أبي أمرهم أن يتحصنوا، وزعم أنه سيدخل معهم، فخذلهم ولم يدخل معهم، ولزموا حصنهم فما رموا بسهم ولا قاتلوا حتى نزلوا على صلح رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحكمه، وأموالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلما نزلوا وفتحوا حصنهم، كان محمد بن مسلمة هو الذي أجلاهم وقبض أموالهم. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من سلاحهم ثلاث قسيٍّ، قوس تدعى الكتوم كسرت بأحد، وقوس تدعى الروحاء، وقوس تدعى البيضاء، وأخذ درعين من سلاحهم، درعاً يقال له الصغدية وأخرى فضة، وثلاثة أسياف، سيف قلعي، وسيف يقال له بتار، وسيف آخر، وثلاثة أرماح. قال: ووجدوا في حصونهم سلاحاً كثيراً وآلة للصياغة، وكانوا صاغة.
قال محمد بن مسلمة: فوهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم درعاً من دروعهم، وأعطى سعد بن معاذ درعاً له مذكورة، يقال لها السحل، ولم يكن لهم أرضون ولا قراب يعني مزارع. وخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب منهم، وقسم ما بقي على أصحابه. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبادة بن الصامت أن يجيلهم، فجعلت قينقاع تقول: يا أبا الوليد، من بين الأوس والخزرج ونحن مواليك فعلت هذا بنا؟ قال لهم عبادة: لما حاربتم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله إني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم. وكان ابن أبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف. فقال عبد الله بن أبي: تبرأت من حلف مواليك؟ ما هذه بيدهم عندك! فذكره مواطن قد أبلوا فيها، فقال عبادة: أبا الحباب، تغيرت القلوب ومحا الإسلام العهود، أما والله إنك لمعصم بأمرٍ سترى غبه غداً! فقالت قينقاع: يا محمد، إن لنا ديناً في الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: تعجلوا وضعوا! وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس فقال لهم: ولا ساعةً من نهار، لكن ثلاث لا أزيدكم عليها! هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولو كانت أنا ما نفستكم. فلما مضت ثلاث خرج في آثارهم حتى سلكوا إلى الشام، وهو يقول: الشرف الأبعد، الأقصى، فأقصى! وبلغ خلف ذباب، ثم رجع ولحقوا بأذرعات. وقد سمعنا في إجلائهم حيث نقضوا العهد غير حديث ابن كعب.

فحدثني محمد، عن الزهري، عن عروة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رجع من بدر حسدوا فأظهروا الغش، فنزل عليه جبريل عليه السلام بهذه الآية: " وإما تخافن من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواءٍ إن الله لا يحب الخائنين " . قال: فلما فرغ جبريل، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فأنا أخافهم. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم بهذه الآية، حتى نزلوا على حكمه، ولرسول الله أموالهم، ولهم الذرية والنساء.
فحدثني محمد بن القاسم، عن أبيه، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال: إني لبالفلجتين مقبل من الشام، إذ لقيت بني قينقاع يحملون الذرية والنساء، قد حملوهم على الإبل وهم يمشون، فسألتهم فقالوا: أجلانا محمدٌ وأخذ أموالنا. قلت: فأين تريدون؟ قالوا: الشام. قال سبرة: فلما نزلوا بوادي القرى أقاموا شهراً، وحملت يهود وادي القرى من كان راجلاً منهم، وقووهم، وساروا إلى أذرعات فكانوا بها، فما كان أقل بقاءهم.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا لبابة بن عبد المنذر على المدينة ثلاث مرات: بدر القتال، وبني قينقاع، وغزوة السويق.
غزوة السويقغزوة السويق في ذي الحجة، على رأس اثنين وعشرين شهراً. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الأحد لخمس ليالٍ خلون من ذي الحجة، فغاب خمسة أيام.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، وإسحاق بن حازم، عن محمد بن كعب، قالا: لما رجع المشركون إلى مكة من بدر حرم أبو سفيان الدهن حتى يثأر من محمد وأصحابه بمن أصيب من قومه. فخرج في مائتي راكب في حديث الزهري، وفي حديث ابن كعب في أربعين راكباً حتى سلكوا النجدية. فجاءوا بني النضير ليلاً، فطرقوا حيى بن أخطب ليستخبروه من أخبار النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فأبى أن يفتح لهم، وطرقوا سلام بن مشكم ففتح لهم فقراهم، وسقى أبا سفيان خمراً، وأخبره من أخبار النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه. فلما كان بالسحر خرج فمر بالعريض، فيجد رجلاً من الأنصار مع أجير له في حرثه فقتله وقتل أجيره، وحرق بيتين بالعريض وحرق حرثاً لهم، ورأى أن يمينه قد حلت، ثم ذهب هارباً، وخاف الطلب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فندب أصحابه فخرجوا في أثره، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون فيلقون جرب السويق وهي عامة زادهم فجعل المسلمون يمرون بها فيأخذونها، فسميت تلك الغزوة غزوة السويق لهذا الشأن، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة. فقال أبو سفيان، في حديث الزهري، هذه الأبيات:
سقاني فرواني كميتاً مدامةً ... على ظمأ مني سلام بن مشكم
وذاك أبو عمرو يجود وداره ... بيثرب مأوى كل أبيض خضرم
كان الزهري يكنيه أبا عمرو، والناس يكنونه أبا الحكم. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر.
فحدثني محمد، عن الزهري، قال: كانت في ذي الحجة، على رأس اثنين وعشرين شهراً.
غزوة قرارة الكدرإلى بني سليم وغطفان للنصف من المحرم، على رأس ثلاثة وعشرين شهراً، غاب خمس عشرة ليلة.

حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى قرارة الكدر، وكان الذي هاجه على ذلك أنه بلغه أن بها جمعاً من غطفان وسليم. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم، وأخذ عليهم الطريق حتى جاء فرأى آثار النعم ومواردها، ولم يجد في المجال أحداً، فأرسل في أعلى الوادي نفراً من أصحابه، واستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بطن الوادي، فوجد رعاءً فيهم غلامٌ يقال له يسار، فسألهم عن الناس فقال يسار: لا علم لي بهم، إنما أورد لخمسٍ وهذا يومٌ ربعي، والناس قد ارتبعوا إلى المياه، وإنما نحن عزاب في النعم. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد ظفر بنعم، فانحدر إلى المدينة حتى إذا صلى الصبح فإذا هو بيسار فرآه يصلي. فأمر القوم أن يقسموا غنائمهم، فقال القوم: يا رسول الله، إن أقوى لنا أن نسوق النعم جميعاً، فإن فينا من يضعف عن حظه الذي يصير إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اقتسموا! فقالوا: يا رسول الله، إن كان أنما بك العبد الذي رأيته يصلي، فنحن نعطيكه في سهممك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قد طبتم به نفساً؟ قالوا: نعم. فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأعتقه، وارتحل الناس فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة، واقتسموا غنائمهم فأصاب كل رجل منهم سبعة أبعرة، وكان القوم مائتين.
فحدثني عبد الصمد بن محمد السعدي، عن حفص بن عمر بن أبي طلحة، عمن أخبره، عن أبي أروى الدوسي، قال: كنت في السرية وكنت ممن يسوق النعم، فلما كنا بصرار على ثلاثة أميال من المدينة خمس النعم، وكان النعم خمسمائة بعير، فأخرج خمسه وقسم أربعة أخماس على لمسلمين، فأصابهم بعيران بعيران.
حدثنا عبد الله بن نوح، عن أبي عفير، قال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المدينة ابن أم مكتوم، وكان يجمع بهم ويخطب إلى جنب المنبر، يجعل المنبر عن يساره.
قتل ابن الأشرفوكان قتله على رأس خمسة وعشرين شهراً في ربيع الأول.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، ومعمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، وإبراهيم بن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، فكل قد حدثني بطائفة، فكان الذي اجتمعوا لنا عليه قالوا: إن ابن الأشراف كان شاعراً وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، ويحرض عليهم كفار قريش في شعره.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام، فيهم أهل الحلقة والحصون، ومنهم حلفاء للحيين جميعاً الأوس والخزرج. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم، وكان الرجل يكون مسلماً وأبوه مشركاً. فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه أذًى شديداً، فأمر الله عز وجل والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم أنزل: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذًى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " . وفيهم أنزل الله عز وجل: " ود كثيرٌ من أهل الكتاب " . الآية.
فلما أبى ابن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وسلّم وأذى المسلمين، وقد بلغ منهم، فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين وأسر من أسر منهم، فرأى الأسرى مقرنين، كبت وذل، ثم قال لقومه: ويلكم، والله لبطن الأرض خيرٌ لكن من ظهرها اليوم! هؤلاء سراة الناس قد قتلوا وأسروا، فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا. قال: وما أنتم وقد وطىء قومه وأصابهم؟ ولكني أخرج إلى قريش فأحضهم وأبكي قتلاهم، فلعلهم ينتدبون فأخرج معهم. فخرج حتى قدم مكة ووضع رحله عند أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وتحته عاتكة بنت أسيد ابن أبي العيص، فجعل يرثي قريشاً ويقول:
طحنت بدرٍ لمهلك أهله ... ولمثل بدرٍ تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضه ... لا بتعدوا إن الملوك تصرع
ويقول أقوامٌ أذل بسخطهم ... إن ابن أشرف ظل كعباً يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا ... ظلت تسيخ بأهلها وتصدع

كم قد أصيب بها من ابيض ماجدٍ ... ذي بهجة يأوى إليه الضيع
طلق اليدين إذا الكواكب أخلفت ... حمال أثقالٍ يسود ويربع
نبئت أن بني المغيرة كلهم ... خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبهٌ ... هل نال مثل المهلكين التبع
فأجابه حسان بن ثابت، يقول:
أبكي لكعبٍ ثم على بعبرةٍ ... منه وعاش مجدعاً لا يسمع
ولقد رأيت ببطن بدرٍ منهم ... قتلى تسح لها العيون وتدمع
فابكى فقد أبكيت عبداً راضعاً ... شبه الكليب للكليبة يتبع
ولقد شفى الرحمن منهم سيداً ... وأحان قوماً قاتلوه وصرعوا
ونجا وأفلت منهم من قلبه ... شغفٌ يظل لخوفه يتصدع
ونجا وأفلت منهم متسرعاً ... فلٌ فليلٌ هاربٌ يتهزع
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حسان، فأخبره بنزول كعب على من نزل، فقال حسان:
ألا أبلغوا عني أسيداً رسالةً ... فخالك عبدٌ بالسراب مجرب
لعمرك ما أوفى أسيدٌ بجاره ... ولا خالدٌ ولا المفاضة زينب
وعتاب عبدٌ غير موفٍ بذمة ... كذوب شؤون الرأس قردٌ مدرب

فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان؟ فتحول، فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حسان فقال: ابن الأشرف نزل على فلان. فلا يزال يهجوهم حتى نبذ رحله، فلما لم يجد مأوى قدم المدينة. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلّم قدوم ابن الأشرف قال: اللهم، اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من لي بابن الأشرف، فقد آذاني؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا به يا رسول الله، وأنا أقتله. قال: فافعل! فمكث محمد بن مسلمة أياماً لا يأكل، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد، تركت الطعام والشراب؟ قال: يا رسول الله، قلت لا قولاً فلا أدري أفي لك به أم لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عليك الجهد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: شاور سعد بن معاذ في أمره. فاجتمع محمد بن مسلمة ونفرٌ من الأوس منهم عباد بن بشر، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، فقالوا: يا رسول الله نحن نقتله، فأذن لنا فلنقل، فإنه لا بد لنا منه. قال: قالوا! فخرج أبو نائلة إليه، فلما رآه كعب أنكر شأنه، وكاد يذعر، وخاف أن يكون وراءه كمين، فقال أبو نائلة: حدثت لنا حاجةٌ إليك. قال، وهو في نادي قومه وجماعتهم: ادن إلي فخبرني بحاجتك. وهو متغير اللون مرعوبٌ فكان أبو نائلة ومحمد ابن مسلمة أخويه من الرضاعة فتحدثنا ساعة وتناشدا الأشعار، وابنسط كعب وهو يقول بين ذلك: حاجتك! وأبو نائلة يناشده الشعر وكان أبو نائلة يقول الشعر فقال كعب: حاجتك. لعلك أن تحب أن يقوم من عندنا؟ فلما سمع ذلك القوم قاموا. قال أبو نائلة: إني كرهت أن يسمع القوم ذرو كلامنا، فيظنون! كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، وحاربتنا العرب ورمتنا عن قوسٍ واحدةٍ، وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس وضاع العيال، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل. فقال كعب: قد والله كنت أحدثك بهذا يا ابن سلامة، أن الأمر سيصير إليه. فقال أبو نائلة: ومعي رجالٌ من أصحابي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاماً أو تمراً وتحسن في ذلك إلينا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة. قال كعب: أما إن رفافي تقصف تمراً، من عجوة تغيب فيها الضرس، أما والله ما كنت أحب يا أبا نائلة أن أرى هذه الخصاصة بك، وإن كنت من أكرم الناس علي، أنت أخي، نازعتك الثدي! قال سلكان: اكتم عنا ما حدثتك من ذكر محمد. قال كعب: لا أذكر منه حرفاً. ثم قال كعب: يا أبا نائلة، اصدقني ذات نفسك، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتنحي عنه. قال: سررتني يا أبا نائلة! فماذ ترهنونني، أبناءكم ونساءكم؟ فقال: لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا! ولكنا نرهنك من الحلقة ما ترضى به. قال كعب: إن في الحلقة لوفاء. وإنما يقول ذلك سلكان لئلا ينكرهم إذا جاءوا بالسلاح. فخرج أبو نائلة من عنده على ميعاد، فأتى أصحابه فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده. ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلّم عشاءً فأخبروه، فمشى معهم حتى أتى البقيع، ثم وجههم، ثم قال: امضوا على بركة الله وعونه! ويقال: وجههم بعد أن صلوا العشاء وفي ليلةٍ مقمرةٍ مثل النهار، في ليلة أربع عشرة من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهراً.

قال: فمضوا حتى أتوا ابن الأشرف، فلما انتهى إلى حصنه هتف به أبو نائلة، وكان ابن الأشرف حديث عهدٍ بعرس، فوثب فأخذت امرأته بناحية ملحفته وقالت: أين تذهب؟ إنك رجلٌ محارب، ولا ينزل مثلك في هذه الساعة. فقال: ميعاد، إنما هو أخي أبو نائلة، والله لو وجدني نائماً ما أيقظني. ثم ضرب بيده الملحفة وهو يقول: لو دعي الفتى لطعنةٍ أجاب. ثم نزل إليهم فحياهم، ثم جلسوا فتحدثوا ساعةً حتى انبسط إليهم، ثم قالوا له: يا ابن الأشرف، هل لك أن تتمشى إلى شرج العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا؟ قال: فخرجوا يتماشون حتى وجهوا قبل الشرج، فأدخل أبو نائله يده في رأس كعب ثم قال: ويحك، ما أطيب عطرك هذا يا أبا الأشرف! وإنما كان كعب يدهن بالمسك الفتيت بالماء والعنبر حتى يتلبد في صدغيه، وكان جعداً جميلاً. ثم مشى ساعةً فعاد بمثلها حتى اطمأن إليه، وسلسلت يداه في شعره وأخذ بقرون رأسه، وقال لأصحابه: اقتلوا عدو الله! فضربوه بأسيافهم، فالتفت عليه فلم تغن شيئاً، ورد بعضها بعضاً، ولصق بأبي نائلة. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولاً معي كان في سيفي فانتزعته في سرته، ثم تحاملت عليه فقططته حتى انتهى إلى عانته، فصاح عدو الله صيحة ما بقي أطم من آطام يهود إلا قد أوقدت عليه نار. فقال ابن سنينة، يهودي من يهود بني حارثة، وبينهما ثلاثة أميال: إني لأجد ريح دم بيثرب مسفوح. وقد كان أصاب بعض القوم الحارث بن أوس بسيفه وهم يضربون كعباً، فكلمه في رجله. فلما فرغوا احتزوا رأسه ثم حملوه معهم، ثم خرجوا يتشدون وهم يخافون من يهود الأرصاد، حتى أخذوا على بني أمية بن زيد ثم على قريظة، وإن نيرانهم في الآطام لعالية، ثم على بعاث، حتى إذا كانوا بحرة العريض نزف الحارث الدم فأبطأ عليهم فناداهم: أقرءوا رسول الله مني السلام! فعطفوا عليه فاحتملوه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلّم. فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلك الليلة يصلي، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف أن قد قتلوه. ثم انتهوا يعدون حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفاً على باب المسجد، فقال: أفلحت الوجوه! فقالوا: ووجهك يا رسول الله! ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله. ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل في جرحه فلم يؤذه، فقال في ذلك عباد بن بشر:
صرخت فه فلم يجفل لصوتي ... وأوفى طالعاً من فوق قصر
فعدت فقال من هذا المنادي ... فقلت أخوك عباد بن بشر
فقال محمدٌ أسرع إلينا ... فقد جئنا لتشكرنا وتقرى
وترفدنا فقد جئنا سغاباً ... بنصف الوسق من حبٍّ وتمر
وهذى درعنا رهناً فخذها ... لشهرٍ إن وفى أو نصف شهر
فقال معاشرٌ سغبوا وجاعوا ... لقد عدموا الغنى من غير فقر
وأقبل نحونا يهوى سريعاً ... وقال لنا لقد جئتم لأمر
وفي أيماننا بيضٌ حدادٌ ... مجربةٌ بها الكفار نفرى
فعانقه ابن مسلمة المرادي ... به الكفان كالليث الهزبر
وشد بسيفه صلتاً عليه ... فقطره أبو عبس بن جبر
وصلت وصاحباي فكان لما ... قتلناه الخبيث كذبح عتر
ومر برأسه نفرٌ كرامٌ ... هم ناهوك من صدقٍ وبر
وكان الله سادسنا فأبنا ... بأفضل نعمةٍ وأعز نصر
قال ابن أبي حبيبة: أنا رأيت قائل هذا الشعر. قال ابن أبي الزناد: لولا قول ابن أبي حبيبة لظننت أنها ثبت.
قالوا: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من ظفرتم به من رجال اليهوج فاقتلوه. فخافت اليهود فلم يطلع عظيمٌ من عظمائهم ولم ينطقوا، وخافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف.

وكان ابن سنية من يهود بني حارثة، وكان حليفاً لحويصة بن مسعود، قد أسلم، فعدا محيصة على ابن سنينة فقتله، فجعل حويصة يضرب محيصة، وكان أسن منه، يقول: أي عدو الله، أقتلته؟ أما والله لرب شحمٍ في بطنك من ماله! فقال محيصة: والله، لو أمرني بقتلك الذي أمرني بقتله لقتلتك. قال: والله، لو أمرك محمد أن تقتلني لقتلتني؟ قال: نعم. قال حويصة: والله، إن ديناً يبلغ هذا لدين معجب. فأسلم حويصة يومئذٍ، فقال محيصة وهي ثبت، لم أر أحداً يدفعها يقول:
يلوم ابن أمي لو أمرت بقتله ... لطبقت ذفراه بأبيض قاضب
حسامٍ كالون الملح أخلص صقله ... متى ما تصوبه فليس بكاذب
وما سرني أني قتلتك طائعاً ... ولو أن لي ما بين بصري ومأرب
ففزعت اليهود ومن معها من المشركين، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم حين أصبحوا فقالوا: قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا قتل غيلةً بلا جرم ولا حدث علمناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان له السيف. ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أن يكتب بينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينهم وبينه كتابً تحت العذق في دار رملة بنت الحارث. فحذرت اليهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف.
فحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: قال مروان بن الحكم، وهو على المدينة وعنده ابن يامني النضري: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدراً. ومحمد بن مسلمة جالسٌ شيخ كبير، فقال: يا مروان، أيغدر رسول الله عندك؟ والله، ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والله، لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد. وأما أنت يا ابن يامين، فلله علي إن أفلت، وقدرت عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك! فكان ابن يامين لا ينزل في بني قريظة حتى يبعث له رسولاً ينظر محمد بن مسلمة، فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر، وإلا لم ينزل. فبينا محمد بن مسلمة في جنازة وابن يامين بالبقيع، فرأى نعشاً عليه جرائد رطبة لامرأة، جاء فحله. فقام الناس فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، ما تصنع.؟ نحن نكفيك! فقام إليه فلم يزل يضربه بها جريدةً جريدةً حتى كسر تلك الجرائد على وجهه ورأسه حتى لم يترك فيه مصحاً، ثم أرسله ولا طباخ به، ثم قال: والله، لو قدرت على السيف لضربتك به.
شأن غزوة غطفان بذي أمروكانت في ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهراً. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الخميس لثنتي عشرة خلت في ربيع، فغاب أحد عشر يوماً.

حدثني محمد بن زياد بن أبي هنيدة قال: حدثنا ابن أبي عتاب، وحدثني عثمان بن الضحاك بن عثمان، وحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله بن أبي بكر، فزاد بعضهم على بعض في الحديث، وغيرهم قد حدتنا أيضاً، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن جمعاً من ثعلبة ومحارب بذي أمر، قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، جمعهم رجلٌ منهم يقال له دعثور ابن الحارث بن محارب، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين، فخرج في أربعمائة رجل وخمسين، ومعهم أفراس، فأخذ على المنقى، ثم سلك مضيق الخبيت، ثم خرج إلى ذي القصة، فأصاب رجلاً منهم بذي القصة يقال له جبار من بني ثعلبة، فقالوا: أين تريد؟ قال: أريد يثرب. قالوا: وما حاجتك بيثرب؟ قال: أردت أن أرتاد لنفسي وأنظر. قالوا: هل مررت بجمع، أو بلغك خبر لقومك؟ قال: لا، إلا أنه قد بلغني أن دعثور بن الحارث في أناس من قومه عزل. فأدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وقال: يا محمد، إنهم لن يلاقوك، إن سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائرٌ معك ودالك على عورتهم. فخرج به النبي صلى الله عليه وسلّم وضمه إلى بلال، فأخذ به طريقاً أهبطه عليهم من كثيب، وهربت منه الأعراب فوق الجبال، وقبل ذلك ما قد غيبوا سرحهم في ذرى الجبال وذراريهم، فلم يلاق رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحداً، إلا أنه ينظر إليهم في رءوس الجبال. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذا أمر وعسرك معسكرهم فأصابهم مطرٌ كثيرٌ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحاجته فأصابه ذلك المطر فبل ثوبه، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وادي ذي أمر بينه وبين أصحابه. ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف، وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها والأعراب ينظرون إلى كل ما يفعل، فقالت الأعراب لدعثور، وكان سيدها وأشجعها: قد أمكنك محمد، وقد انفرد من أصحابه حيث إن غوث بأصحابه لم يغث حتى تقتله. فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً، ثم أقبل مشتملاً على السيف حتى قام على رأس النبي صلى الله عليه وسلّم بالسيف مشهوراً، فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الله! قال: ودفع جبريل عليه السلام في صدره، ووقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقام به على رأسه فقال: من يمنعك مني اليوم؟ قال: لا أحد. قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله، لا أكثر عليك جمعاً أبداً! فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفه، ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه فقال: أما والله لأنت خير مني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنا أحق بذلك منك. فأتى قومه فقالوا: أين ما كنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك؟ قال: والله، كان ذلك ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل، دفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله لا أكثر عليه! وجعل يدعو قومه إلى الإسلام، ونزلت هذه الآية فيه: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم " الآية. وكانت غيبة النبي صلى الله عليه وسلّم إحدى عشرة ليلة، واستخلف النبي صلى الله عليه وسلّم على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
غزوة بني سليم ببحران بناحية الفرعلليالٍ خلون من جمادى الأولى، على رأس سبعة وعشرين شهراً، غاب رسول الله صلى الله عيه وسلم عشراً.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعاً من بني سليم كثيراً، ببحران، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لذلك ولم يظهر وجهاً، فخرج في ثلثمائة رجل من أصحابه فأغذوا السير حتى إذا كانوا دون بحران بليلةٍ، لقي رجلاً من بني سليم فاستخبروه عن القوم وعن جمعهم، فأخبره أنهم قد افترقوا أمس ورجعوا إلى مائهم، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلّم فحبس مع رجل من القوم، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلّم حتى ورد بحران، وليس به أحدٌ، وأقام أياماً ثم رجع ولم يلق كيداً، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرجل. وكانت غيبته عشر ليال.

حدثني عبد الله بن نوح، عن محمد بن سهل، قال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المدينة ابن أم مكتوم.
؟شأن سرية القردة فيها زيد بن حارثة، وهي أول سرية خرج فيها زيد رضي الله عنه أميراً، وخرج لهلال جمادى الآخرة على رأس سبعة وعشرين شهراً.
حدثني محمد بن الحسن بن أسامة بن زيد، عن أهله، قالوا: كانت قريش قد حذرت طريق الشام أن يسلكوها، وخافوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، وكانوا قوماً تجاراً، فقال صفوان بن أمية: إن محمداً وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك، وإن أقمنا نأكل رءوس أموالنا ونحن في دارنا هذه، ما لنا بها نفاق، إنما نزلناها على التجارة، إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى أرض الحبشة. قال له الأسود بن المطلب: فنكب عن الساحل، وخذ طريق العراق. قال صفوان: لست بها عارفا. قال أبو زمعة: فأنا أدلك على أخبر دليل بها يسلكها وهو مغمض العين إن شاء الله. قال: من هو؟ قال: فرات بن حيان العجلي. قد دوخها وسلكها. قال صفوان: فذلك والله فأرسل إلى فرات. فجاءه فقال: إني أريد الشام وقد عور علينا محمدٌ متجرنا لأن طريق عيراتنا عليه. فأردت طريق العراق. قال فرات: فأنا أسلك بك في طريق العراق، ليس يطأها أحدٌ من أصحاب محمد إنما هي أرض نجد وفيافٍ. قال صفوان: فهذه حاجتي. أما الفيافي فنحن شاتون وحاجتنا إلى الماء اليوم قليل. فتجهز صفوان بن أمية، وأرسل معه أبو زمعة بثلثمائة مثقال ذهب ونقر فضة، وبعث معه رجالاً من قريش ببضائع، وخرج معه عبد الله بن أبي ربيعة وحويطب بن عبد العزي في رجال من قريش. وخرج صفوان بمالٍ كثير نقر فضة وآنية فضة وزن ثلاثين ألف درهم، وخرجوا على ذات عرق.
وقدم المدينة نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو على دين قومه، فنزل على كنانة بن أبي الحقيق في بني النضير فشرب معه، وشرب معه سليط بن النعمان بن أسلم ولم تحرم الخمر يومئذٍ وهو يأتي بني النضير ويصيب من شرابهم. فذكر نعيم خروج صفوان في عيره وما معهم من الأموال، فخرج من ساعته إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة في مائة راكب، فاعترضوا لها فأصابوا العير، وأفلت أعيان القوم وأسروا رجلاً أو رجلين، وقدموا بالعير على النبي صلى الله عليه وسلّم فخمسها، فكان الخمس يومئذٍ قيمة عشرين ألف درهم، وقسم ما بقي على أهل السرية. وكان في الأسرى فرات بن حيان، فأتى به فقيل له: أسلم، إن تسلم نتركك من القتل، فأسلم فتركه من القتل.
؟
غزوة أحديوم السبت لسبعٍ خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهراً. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المدينة ابن أم مكتوم.

حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، ومحمد بن صالح بن دينار، ومعاذ ابن محمد، وابن أبي حبيبة، ومحمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، ويونس بن محمد الظفري، ومعمر بن راشد، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وأبو معشر، في رجال لم أسم، فكلٌّ قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت كل الذي لدثوني، قالوا: لما رجع من حضر بدراً من المشركين إلى مكة، والعير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة وكذلك كانوا يصنعون فلم يحركها أبو سفيان ولم يفرقها لغيبة أهل العير، مشت أشراف قريش إلى أبي سفيان بن حرب: الأسود بن المطلب بن أسد، وجبير بن مطعم، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وعبد الله ابن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزي، وحجير بن أبي إهاب، فقالوا: يا أبا سفيان، انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها، فقد عرفت أنها أموال أهل مكة ولطيمة قريش، وهم طيبو الأنفس، يجهزون بهذه العير جيشاً إلى محمد، وقد ترى من قتل من آبائنا، وأبنائنا، وعشائرنا. قال أبو سفيان: وقد طابت أنفس قريش بذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا والله الموتور الثائر، قد قتل ابن حنظلة ببدر وأشراف قومي. فلم تزل العير موقوفةً حتى تجهزوا للخروج إلى أحد، فباعوها وصارت ذهباً عيناً، فوقف عند أبي سفيان. ويقال إنما قالوا: يا أبا سفيان، بع العير ثم اعزل أرباحها. وكانت العير ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار ديناراً، وكان متجرهم من الشام غزة، لا يعدونها إلى غيرها. وكان أبو سفيان قد حبس عير زهرة لأنهم رجعوا من طريق بدر، وسلم ما كان لمخرمة بن نوفل ولبني أبيه وبني عبد مناف بن زهرة، فأبي مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة جميعاً. وتكلم الأخنس فقال: ما لعير بني زهرة من بني عيرات قريش؟ قال أبو سفيان: لأنهم رجعوا عن قريش. قال الأخنس: أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير، لا تخرجوا في غير شيء، فرجعنا. فأخذت زهرة عيرها، وأخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف، لا عشائر لهم ولا منعة، كل ما كان لهم من العير. فهذا يبين أنما أخرج القوم أرباح العير. وفيهم نزلت: " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله الآية.
فلما أجمعوا على المسير قالوا: نسير في العرب فنستنصرهم فإن عب مناة غير متخلفين عنا، هم أوصل العرب لأرحامنا، ومن اتبعنا من الأحابيش.
فاجتمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش يسيرون في العرب يدعونهم إلى نصرهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، وابن الزبعري، وأبا عزة الجمحي، فأطاع النفر وأبي أبو عزة أن يسير، وقال: من علي محمدٌ يوم بدر ولم يمن على غيري، وحلفت لا أظاهر عليه عدواً أبداً. فمشى إليه صفوان بن أمية فقال: اخرج؟ فأبى فقال: عاهدت محمداً يوم بدر لا أظاهر عليه عدواً أبداً، وأنا أفي له بما عاهدته عليه من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء. فقال له صفوان: اخرج معنا، فإن تسلم أعطك من المال ما شئت، وإن تقتل كان عيالك مع عيالي. فأبى أبو عزة حتى كان الغد، وانصرف عنه صفوان بن أمية آيساً منه، فلما كان الغد جاءه صفوان وجبير بن مطعم، فقال له صفوان الكلام الأول فأبى، فقال جبير: ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي إليك أبو وهب في أمرٍ تأبى عليه! فأحفظه، فقال: فأنا أخرج! قال: فخرج في العرب يجمعها، وهو يقول:
يا بني عبد مناة الرزام ... أنتم حماةٌ وأبوكم حام
لا تسلموني لا يحل إسلام ... لا تعدوني نصركم بعد العام
قال: وخرج معه النفر فألبوا العرب وجمعوها، وبلغوا ثقيفاً فأوعبوا فلما أجمعوا المسير وتألب من كان معهم من العرب وحضروا، اختلفت قريش في إخراج الظعن معهم.

فحدثني بكير بن مسمار، عن زياد مولى سعد، عن نسطاس، قال: قال صفوان بن أمية: اخرجوا بالظعن، فأنا أول من فعل، فإنه أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر، فإن العهد حديث ونحن قوم مستميتون لا نريد أن نرجع إلى دارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه. فقال عكرمة بن أبي جهل: أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه. وقال عمرو بن العاص مثل ذلك، فمشى في ذلك نوفل بن معاوية الديلي فقال: يا معشر قريش هذا ليس برأي، أن تعرضوا حرمكم عدوكم، ولا آمن أن تكون الدائرة لهم، فتفتضحوا في نسائكم، فقال صفوان بن أمية: لا كان غير هذا أبداً! فجاء نوفل إلى أبي سفيان فقال له تلك المقالة، فصاحت هند بنت عتبة: إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك، نعم، نخرج فنشهد القتال، فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر فقتلت الأحبة يومئذٍ. قال أبو سفيان: لست أخالف قريشاً، أنا رجلٌ منها، ما فعلت فعلت، فخرجوا بالظعن.
قالوا: فخرج أبو سفيان بن حرب بامرأتين هند بنت عتبة، وأميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة. وخرج صفوان بن أمية بامرأتين، برزة بنت مسعود الثقفي، وهي أمي عبد الله الأكبر، وبامرأته البغوم بنت المعذل بن كنانة، وهي أم عبد الله بن صفوان الأصغر. وخرج طلحة بن أبي طلحة بامرأته سلافة بنت سعد بن شهيد، وهي من الأوس، وهي أم بني طلحة، أم مسافع، والحارث، وكلاب، وجلاس، بني طلحة. وخرج عكرمة بن أبي جهل بامرأته أم جهيم بنت الحارث بن هشام. وخرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة. وخرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب مع ابنها أبي عزيز بن عمير العبدري. وخرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته رملة بنت طارق بن علقمة. وخرج كنانة بن علي بن ربيعة ابن عبد العزي بامرأته أم حكيم بنت طارق. وخرج سفيان بن عويف بامرأته قتيلة بنت عمرو بن هلال. وخرج النعمان وجابر ابنا مسك الذئب بأمهما الدغنية. وخرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة، وهي التي رفعت لواء قريش حين سقط حتى تراجعت قريش إلى لوائها. قالوا: وخرج سفيان بن عويف بعشرة من ولده، وحشدت بنو كنانة. وكانت الألوية يوم خرجوا من مكة ثلاثة ألوية عقدوها في دار الندوة لواء يحمله سفيان بن عويف، ولواء في الأحابيش يحمله رجل منهم، ولواء يحمله طلحة بن أبي طلحة. ويقال: خرجت قريش ولفها على لواءٍ واحدٍ يحمله طلحة بن أبي طلحة. قال ابن واقد: وهو أثبت عندنا.

=======

ج2. كتاب : المغازي الواقدي


وخرجت قريش وهم ثلاثة آلاف بمن ضوى إليهم، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل، وخرجوا بعدة وسلاحٍ كثيرٍ، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير. فلما أجمعوا المسير كتب العباس ابن عبد المطلب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره أن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلوا بك فاصنعه. وقد توجهوا إليك، وهم ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح. فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة ووجده بقباء، فخرج حتى يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على باب مسجد قباء يركب حماره، فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبياً ما فيه، فدخل منزل سعد بن الربيع فقال: في البيت أحد؟ فقال سعد: لا، فتكلم بحاجتك. فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب، وجعل سعد يقول: يا رسول الله ، إني لأرجو أن يكون في ذلك خيرٌ، وقد أرجعت يهود المدينة والمنافقون، وقالوا: ما جاء محمداً شيءٌ يحبه. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة واستكتم سعداً الخبر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه فقالت: ما قال لك رسول الله؟ فقال: ما لك ولذلك، لا أم لك؟ قالت: قد كنت أسمع عليك. وأخبرت سعداً الخبر، فاسترجع سعد وقال: لا أراك تستمعين علينا وأنا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم تكلم بحاجتك! ثم أخذ يجمع لبتها، ثم خرج يعدو بها حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجسر وقد بلحت، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي سألتني عما قلت، فكتمتها فقالت قد سمعت قول رسول الله! فجاءت بالحديث كله، فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شيءٌ فتظن أني أفشيت سرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خل سبيلها. وشاع الخبر في الناس بمسير قريش، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفرٍ من خزاعة، ساروا من مكة أربعاً، فوافوا قريشاً وقد عسكروا بذي طوىً، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخبر، ثم انصرفوا فوجدوا قريشاً ببطن رابغ فنكبوا عن قريش ورابغ على ليالٍ من المدينة.
فحدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن عمرو بن أبي حكيمة الأسلمي، قال: لما أصبح أبو سفيان بالأبواء أخبر أن عمرو ابن سالم وأصحابه راحوا أمس ممسين إلى مكة، فقال أبو سفيان: أحلف بالله أنهم جاءوا محمداص فخبروه بمسيرنا، وحذروه، وأخبروه بعددنا، فهم الآن يلزمون صياصيهم، فما أرانا نصيب منهم شيئاً من وجهنا. فقال صفوان: إن لم يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، فتركناهم ولا أموال لهم فلا يجتبرونها أبداً، وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل معهم، ونحن نقاتل على وترٍ عندهم ولا وتر لهم عندنا.
وكان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلاً من أوس الله حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة، فأقام مع قريش وكان دعا قومه فقال لهم: إن محمداً ظاهرٌ فاخرجوا بنا إلى قومٍ نوازرهم.
فخرج إلى قريش يحرضها ويعلمها أنها على الحق، وما جاء به محمدٌ باطل، فسارت قريش إلى بدر ولم يسر معها، فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها، وكان يقول لقريش: إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم رجلان، وهؤلاء معي نفرٌ من قومي وهم خمسون رجلاً. فصدقوه بما قال وطمعوا بنصره.
وخرج النساء معهن الدفوف، يحرضن الرجال ويذكرنهم قتلى بدر في كل منزل، وجعلت قريش ينزلون كل منهل، ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا جمعوا من العير ويتقوون به في مسيرهم، ويأكلون من أزوادهم مما جمعوا من الأموال. وكانت قريش لما مرت بالأبواء قالت: إنكم قد خرجتم بالظغن معكم، ونحن نخاف على نسائنا. فتعالوا ننبش قبر أم محمد، فإن النساء عورة، فإن يصب من نسائكم أحداً قلتم هذه رمة أمك، فإن كان برلً بأمه كما يزعم، فلعمري ليفادينكم برمة أمه، وإن لم يظفر بأحدٍ من نسائكم، فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثيرٍ إن كان بها براً. واستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي من قريش في ذلك فقالوا: لا تذكر من هذا شيئاً، فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا.

وكانت قريش يوم الخميس بذي الحليفة، صبيحة عشر من مخرجهم من مكة، لخمس ليالٍ مضين من ضوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً، ومعهم ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس. فلما أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان فأنزلهم بالوطاء. وبعث النبي صلى الله عليه وسلّم عينين له، أنساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق، فسارا معهم حتى نزلوا بالوطاء. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبراه.
وكان المسلمون قد ازدرعوا العرض والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف، إلى العرصة، عرصة البقل اليوم وكان أهله بنو سلمة، وحارثة، وظفر، وعبد الأشهل، وكان الماء يومئذٍ بالجرف أنشاطاً، لا يريم سائق الناضح مجلساً واحداً، ينفتل الجمل في ساعة، حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي حفر معاوية بن أبي سفيان. فكانوا قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس المدينة، فقدم المشركون على زرعهم وخلوا فيه إبلهم وخيولهم وقد شرب الزرع في الدقيق، وكان لأسيد بن حضير في العرض عشرون ناضحاً يسقي شعيراً وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم وآلة حرثهم. وكان المشركون يرعون يوم الخميس حتى أمسوا، فلما أمسوا جمعوا الإبل وقصلوا عليها القصيل، وقصلوا على خيولهم ليلة الجمعة، فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهورهم في الزرع وخيلهم حتى تركوا العرض ليس به خضراء.
فلما نزلوا وحلوا العقد واطمأنوا، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم، فدخل فيهم وحزر ونظر إلى جميع ما يريد، وبعثه سراً وقال للحباب: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى قلة. فرجع إليه فأخبره خالياً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما رأيت؟ قال: رأيت يا رسول الله عدداً، حزرتهم ثلاثة آلاف، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعاً ظاهرة، حزرتها سبعمائة درع. قال: هل رأيت ظعناً؟ قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار الأكبار يعني الطبول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، لا تذكر من شأنهم حرفاً، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول.
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل المشركين عشرة أفراس، فركضوا في أثره فوقف لهم على نشرٍ من الحرة، فراشقهم بالنبل مرة وبالحجارة مرة حتى انكشفوا عنه. فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض، فاستخرج سيفاً كان له ودرع حديدٍ كانا دفنا في ناحية المزرعة، فخرج بهما يعدو حتى أتى بني عبد الأشهل فخبر قومه بما لقي منهم. وكان مقدمهم يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبعٍ خلون من شوال.
وباتت وجوه الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، في عدةٍ، ليلة الجمعة، عليهم السلاح، في المسجد بباب النبي صلى الله عليه وسلّم خوفاً من بيات المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ليلة الجمعة، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم واجتمع المسلمون خطب.
فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود ابن لبيد، قال: ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم على المنبر، فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأني في درعٍ حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته، ورأيت بقراً تذبح، ورأيت كأني مردفٌ كبشاً. فقال الناس: يا رسول الله، فما أولتها؟ قال: أما الدروع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبةٌ في نفسي، وأما البقر المذبح، فقتلى في أصحابي، وأما مردفٌ كبشاص، فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله، وحدثني عمر بن عقبة، عن سعيد، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: وأما انقصام سيفي، فقتل رجل من أهل بيتي.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن المسور ابن مخرمة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ورأيت في سيفي فلا فكرهته، فهو الذي أصاب وجهه الله صلى الله عليه وسلم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: أشيروا علي! ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب أن يوافق على مثل ما رأى وعلى ما عبر عليه الرؤيا. فقام عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله، كنا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة. والله، لربما مكث الوالدان شهراً ينقلون الحجارة إعداداً لعدونا، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك. يا رسول الله، إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط وما خرجنا إلى عدوٍ قط إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه، فدعهم يا رسول الله، فإنهم إن أقاموا بشر محبس، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيراً. يا رسول الله، أطعني في هذا الأمر واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة. وكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع رأى ابن أبي، وكان ذلك رأى الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المهاجريرن والأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: امكثوا في المدينة، واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة، فنحن أعلم بها منهم، وارموا من فوق الصياصي والآطام. فكانوا قد شبكوا المدينة بالبنينان من كل ناحية فهي كالحصن. فقال فتيانٌ أحداٌ لم يشهدوا بدراً، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخروج إلى عدوهم، ورغبوا في الشهادة، وأحبوا لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا! وقال رجالٌ من أهل السن وأهل النية، منهم حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، في غيرهم من الأوس والخزرج: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلثمائة رجل فظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشرٌ كثيرٌ، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم لما يرى من إلحاحهم كارهٌ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم، يتسامون كأنهم الفحول. وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري: يا رسول الله، نحن والله بين إحدى الحسنين إما يظفرنا الله بهم فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، والأخرى يا رسول الله، يرزقنا الله الشهادة. والله يا رسول الله، ما أبالي أيهما كان، إن كلاً لفيه الخير! فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم رجع إليه قولاً، وسكت. فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة. وكان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائماً، ويوم السبت صائماً، فلاقاهم وهو صائم.

قالوا: وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم: يا رسول الله، أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك وأني منهم، فلم تحرمنا الجنة؟ فو الذي لا إله إلا هو لأدخلنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدقت! فاستشهد يومئذٍ. وقال إياس بن أوس ابن عتيك: يا رسول الله، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح، نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم ويذبح فينا، فنصير إلى الجنة ويصيرون إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها! فيكون هذا جرأة لقريش، وقد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا لم نزرع، وقد كنا يا رسول الله في جاهليتنا والعرب يأتوننا، ولا يطعمون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا حتى نذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا، لا نحصر أنفسنا في بيوتنا. وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول الله، إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعوا العيون والأرصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا، ويجترىء علينا العرب حولنا حتى يطعموا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا وعسى الله أن يظفرنا بهم فتلك عادة الله عندنا، أو تكون الأخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخزرج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنت حريصاً على الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً! وقد والله يا رسول الله أصحبت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك، فقتل بأحد شهيداً.
وقالوا: قال أنس بن قتادةك يا رسول الله، هي إحدى الحسنيين، إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر في قتلهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني أخاف عليكم الهزيمة.

قالوا: فلما أبوا إلا الخروج صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجمعة بالناس، ثم وعظ الناس وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا. ففرح الناس بذلك حيث أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشرٌ كثيرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمرهم بالتهيو لعدوهم. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العصر بالناس، وقد حشد الناس وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام، فحضرت بنو عمرو بن عوف ولفها والنبيت ولفها وتلبسوا السلاح. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه ولبساه، وصف الناس له ما بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه، فجاءهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا: قلتم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه وما رأيتم له فيه هوًى أو رأى فأطيعوه. فبينا القوم على ذلك من الأمر، وبعض القوم يقول: القول ما قال سعد! وبعضهم على البصيرة على الشخوص، وبعضهم للخروج كارهٌ، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قد لبس لأمته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها بمنطقةٍ من حمائل سيف من أدم، كانت عند آل أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد، واعتم، وتقلد السيف. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ندموا جميعاً على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما كان لنا أن نلح على رسول الله في أمرٍ يهوى خلافه. وندمهم أهل الرأي الذين كانوا يشيرون بالمقام، فقالوا: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك. فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم.
حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: كان مالك بن عمرو النجاري مات يوم الجمعة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلبس لأمته ثم خرج وهو موضوع عند موضع الجنائز صلى عليه، ثم دعا بدابته فركب إلى أحد.
حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه قال: قال له جعال بن سراقة وهو موجه إلى أحد: يا رسول الله، إنه قيل لي إنك تقتل غداً! وهو يتنفس مكروباً، فضرب النبي صلى الله عليه وسلّم بيده في صدره وقال: أليس الدهر كله غداً.

ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح ويقال إلى سعد بن عبادة، ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، ويقال إلى مصعب بن عمير. ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلّم بفرسه فركبه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلّم القوم وأخذ قناة بيده زج الرمح يومئذٍ من شبه والمسلمون متلبسون السلاح قد أظهروا الدروع، فيهم مائة دارع. فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج السعدان أمامه يعدوان سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ كل واحد منهما دارع، والناس عن يمينه وعن شماله حتى سلك على البدائع، ثم زقاق الحسى، حتى أتى الشيخين، وهم أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان، فسمي الأطمان الشيخين حتى انتهى إلى رأس الثنية، التفت فنظر إلى كتيبةٍ خشناء لها زجلٌ خلفه، فقال: ما هذه؟ قالوا: يا رسول الله، هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أتى الشيخين فعسكر به. وعرض عليه غلمانٌ: عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديح، فردهم. قال رافع بن خديج، فقال ظهير بن رافع: يا رسول الله إنه رامٍ! وجعلت أتطاول وعلي خفان لي، فأجازني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما أجازني قال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان الحارثي، وهو زوج أمه: يا أبة، أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني، وأنا أصرع رافع بن خديج. فقال مري بن سنان الحارثي: يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: تصارعا! فصرع سمرة رافعاً فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت أمه امرأة من بني أسد.
وأقبل ابن أبي فنزل ناحيةً من العسكر، فجعل حفاؤه ومن معه من المنافقين يقولون لابن أبي: أشرت عليه بالرأي ونصحته وأخبرته أن هذا رأي من مضى من آبائك، وكان ذلك رأيه مع رأيك فأني أن يقبله، وأطاع هؤلاء الغلمان الذين معه! فصادفوا من ابن أبي نفاقاً وغشاً.
فبات رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالشيخين، وبات ابن أبي في صحابه، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من عرض أصحابه وغابت الشمس فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم نازل في بني النجار. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الحرس محمد بن مسلمة بن خمسين رجلاً، يطوفون بالعسكر حتى أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان المشركون قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أدلج، ونزل بالشيخين، فجمعوا خيلهم وظهروا واستعملوا على حرسهم عكرمة بن أبي جهل في خيلٍ من المشركين، وباتت صاهلةً خيلهم لا تهدأ، وتدنو طلائعهم حتى تلصق بالحرة، فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم، ويهابون موضع الحرة ومحمد بن مسلمة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال حين صلى العشاء: من يحفظنا الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أنت؟ قال: ذكوان بن عبد قيس. قال: اجلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من رجلٌ يحفظنا هذه الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا فقال: من أنت.؟ قال: أنا أبو سبع. قال: اجلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من رجلٌ يحفظنا هذه الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا. فقال: ومن أنت؟ قال: ابن عبد قيس. قال: اجلس. ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ساعةً ثم قال: قوموا ثلاثتكم. فقام ذكوان بن عبد قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أين صاحباك؟ فقال ذكوان: أنا الذي كنت أجبتك الليلة. قال: فاذهب، حفظك الله! قال: فلبس درعه وأخذ درقته، وكان يطوف بالعسكر تلك الليلة، ويقال كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يفارقه.

ونام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أدلج، فلما كان في السحر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أين الأدلاء؟ من رجلٌ يدلنا على الطريق ويخرجنا على القوم من كثب؟ فقام أبو حثمة الحارثي فقال: أنا يا رسول الله. ويقال أوس بن قيظي، ويقال محيصة وأثبت ذلك عندنا أبو حثمة. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فركب فرسه، فسلك به في بني حارثة، ثم أخذ في الأموال حتى يمر بحائط مربع بن قيظي، وكان أعمى البصر منافقاً، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حائطه قام يحثى التراب في وجوههم وجعل يقول: إن كنت رسول الله، فلا تدخل حائطي. فيضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوسٍ في يده، فشجه في رأسه فنزل الدم، فغضب له بعض بني حارثة ممن هو على مثل رأيه، فقال: هي عداوتكم يا بني عبد الأشهل، لا تدعونا أبداً لنا. فقال أسيد بن حضير: لا والله، ولكنه نفاقكم. والله، لولا أني لا أدري ما يوافق النبي صلى الله عليه وسلّم من ذلك لضربت عنقه وعنق من هو على مثل رأيه! فأسكتوا.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس أبي بردة بن نيار بذنبه، فأصاب كلاب سيفه فسل سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صاحب السيف، شم سيفك، فإني إخال السيوف ستسل فيكثر سلها! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب الفأل ويكره الطيرة.
ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الشيخين درعاً واحدةً، حتى انتهى إلى أحد، فلبس درعاً أخرى، ومغفراً وبيضةً فوق المغفر. فلما نهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الشيخين زحف المشركون على تعبيةٍ حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد إلى موضع القنطرة اليوم جاء وقد حانت الصلاة، وهو يرى المشركين، أمر بلالاً فأذن وأقام وصلى بأصحابه الصبح صفوفاً، وارتحل ابن أبي من ذلك المكان في كتيبة كأنه هيق يقدمهم، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: أذكركم الله ودينكم ونبيكم، وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم. فقال ابن أبي: ما أرى يكون بينهم قتال، ولئن أطعتني يا أبا جابر لترجعن، فإن أهل الرأي والحجى قد رجعوا، ونحن ناصروه في مدينتنا، وقد خالفنا وأشرت عليه بالرأي، فأبى إلا طواعية الغلمان. فلما أبى علي عبد الله أن يرجع ودخلوا أزقة المدينة، قال لهم أبو جابر: أبعدكم الله، إن الله سيغني النبي والمؤمنين عن نصركم! فانصرف ابن أبي وهو يقول: أيعصيني ويطيع الولدان؟ وانصرف عبد الله بن عمرو بن حرام يعدو حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو يسوي الصفوف. فلما أصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم سر ابن أبي، وأظهر الشماتة وقال: عصاني وأطاع من لا رأي له! وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصف أصحابه، وجعل الرماة خمسين رجلاً على عينين، عليهم عبد الله بن جبير، وقيل عليهم سعد ابن أبي وقاص. قال ابن واقد: والثبت عندنا عبد الله بن جبير. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصف أصحابه، فجعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة، وجعل عينين عن يساره، وأقبل المشركون فاستدبروا المدينة في الوادي، واستقبلوا أحداً. ويقال جعل النبي صلى الله عليه وسلّم عينين خلف ظهره، واستدبر الشمس واستقبلها المشركون والقول الأول أثبت عندنا، أن أحداً خلف ظهره وهو مستقبل المدينة.
حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن الحصين عن عبد الرحمن بن عمرو، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد، والقوم نزول بعينين، أتى أحداً حتى جعله خلف ظهره. قال: ونهى أن يقاتل أحدٌ حتى يأمره، فلما سمع بذلك عمارة بن يزيد بن السكن قال: أترى زروع بني قيلة، ولما نضارب؟

وأقبل المشركون، قد صفوا صفوفهم واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ولهم مجتبتان مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية ويقال عمرو بن العاص وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة، وكانوا مائة رامٍ. ودفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وصاح أبو سفيان يومئذٍ: يا بني عبد الدار، نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا! إنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنما يؤتي القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، وخلوا بيننا وبينه، فإنا قومٌ مستميتون موتورون، نطلب ثأرا حديث العهد، وجعل أبو سفيان يقول: إذا زالت الألوية فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها! فغضب بنو عبد الدار وقالوا: نحن نسلم لواءنا! لا كان هذا أبداً، فأما المحافظة عليه، فسترى! ثم أسندوا الرماح إليه، وأحدقت بنو عبد الدار باللواء، وأغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ. فقال أبو سفيان: فنجعل لواءً آخر؟ قالوا: نعم، ولا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار، لا كان غير ذلك أبداً! وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخطب الناس فقال: يا أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه. ثم إنكم اليوم بمنزل أجرٍ وذخرٍ لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديدٌ، شديدٌ كربه، قليلٌ من يصبر عليه إلا من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريصٌ على رشدكم، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر. يا أيها الناس، جدد في صدري أن من كان على حرامٍ فرق الله بينه وبينه، ومن رغب له عنه غفر الله ذنبه، ومن صلى علي صلى الله عليه وملائكته عشراً، ومن أحسن من مسلم أو كافرٍ وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبياً أو امرأة أو مريضاً أو عبداً مملوكاً، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والل غني حميدٌ. ما أعلم من عملٍ يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عملٍ يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه قد نفث في روعي الروح الأمين، أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أقصى رزقها، لا ينقص منه شيءٌ وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته. قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبهاً من الأمر لم يعلمها كثيرٌ من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه. وليس ملكٌ إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد. والسلام عليكم! حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله، قال: إن أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر، طلع في خمسين من قومه معه عبيد قريش، فنادى أبو عامر، وهو عبد عمرو: يا آل أوس، أنا أبوعامر! فقالوا: لا مرحباً بك ولا أهلاً يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ومعه عبيد أهل مكة، فتراموا بالحجارة هم والمسلمون حتى تراضخوا بها ساعة، حتى ولى أبو عامر وأصحابه، ودعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز. ويقال: إن العبيد لم يقاتلوا، وأمروهم بحفظ عسكرهم.
قال: وجعل نساء المشركين قبل أن يلتقي الجمعان أمام صفوف المشركين يضربن بالأكبار والدفاف والغرابيل، ثم يرجعن فيكن في مؤخر الصف، حتى إذا دنوا منا تأخر النساء يقمن خلف الصفوف، فجعلن كلما ولي رجلٌ حرضنه وذكرنه قتلاهم ببدر.

وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح عيره نساء بني ظفرٍ فقلن: يا قزمان، قد خرج الرجال وبقيت! يا قزمان ألا تستحي مما صنعت؟ ما أنت إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار! فأحفظنه، فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه وكان يعرف بالشجاعة فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يسوي صفوف المسلمين، فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه. وكان أول من رمى بسهم من المسلمين، فجعل يرسل نبلاً كأنها الرماح، وإنه ليكت كتيت الجمل. ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ذكره قال: من أهل النار. فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار! يا آل أوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع! قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل، ثم يطلع ويقول: أنا الغلام الظفري! حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع. فمر بن قتاده بن النعمان فقال: أبا الغيداق! قال له قزمان: يا لبيك! قال: هنيئاً لك الشهادة! قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دينٍ، ما قاتلكت إلا على الحفاظ أن تسير قريشٌ إلينا حتى تطأ سعفنا. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلّم جراحته فقال: من أهل النار. فأندبته الجراحة، فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
قالوا: وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الرماة فقال: احموا لنا ظهورنا، فإنا نخاف أن نؤتي من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم، حتى ندخل عسكرهم، فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، اللهم، إني أشهدك عليهم! وارشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل. وكان للمشركين مجنبتان، ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. قالوا: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ميمنة وميسرةً، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب. والرماة يحمون ظهورهم، يرشقون خيل المشركين بالنبل، فتولى هوارب. قال بعض الرماة: لق درمقت نبلنا، ما رأيت سهماً واحداً مما نرمي به خيلهم يقع بالأرض إلا في فرسٍ أو رجلٍ قالوا: ودنا القوم بعضهم من بعض، وقدموا صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، وصفوا صفوفهم، وأقاموا النساء خلف الرجال بين أكتافهم يضربن بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها يحرضن ويذمرن الرجال ويذكرون من أصيب ببدر ويقلن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وصاح طلحة بن أبي طلحة: من يبارز؟ فقال علي عليه السلام: هل لك في البراز؟ قال طلحة: نعم. فبرزا بين الصفين. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسٌ تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا فبدره علي فضربه على رأسه، فمضى السيف حتى فلق هامته حتى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة وانصرف علي عليه السلام. فقيل لعلي: ألا ذففت عليه؟ قال: إنه لما صرع استقبلتني عورته فعطفني عليه الرحم، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى سيقتله هو كبش الكتيبة.
ويقال حمل عليه طلحة، فاتقاه علي بالدرقة فلم يصنع سيفه شيئاً. وحمل عليه علي عليه السلام، وعلى طلحة درع مشمرة، فضرب ساقيه فقطع رجليه، ثم أراد أن يذفف عليه، فسأله بالرحم فتركه علي فلم يذفف عليه، حتى مر به بعض المسلمين فذفف عليه. ويقال إن عليا ذفف عليه. فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأظهر التكبير، وكبر المسلمون. ثم شد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم على كتائب المشركين، فجعلوا يضربون حتى نقضت صفوفهم، وما قتل إلا طلحة. ثم حمل لواءهم بعد طلحة عثمان بن أبي طلحة، أبو شيبة، وهو أمام النسوة، يرتجز ويقول:
إن على أهل اللواء حقا ... أن تخضب الصعدة أو تندقا

فتقدم باللواء، والنساء يحرضن ويضربن بالدفوف، وحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكتفه، حتى انتهى إلى مؤتزره حتى بدا سحره، ثم رجع وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج! ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته، وكان دارعاً وعليه مغفر لا رفرف له، فكانت حنجرته بادية، فأدلع لسانه إدلاع الكلب. ويقال: إن أبا سعد لما حمل اللواء قام النساء خلفه يقلن:
ضرباً بني عبد الدار ... ضرباً حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار
فقال سعد بن أبي وقاص: فأضربه فأقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرى، فأحمل على يده اليسرى فضربتها فقطعتها، فأخذ اللواء بذراعيه جميعاً فضمه إلى صدره، ثم حنى عليه ظهره. قال سعد: فأدخل سية القوس بين الدرع والمغفر فأقلع المغفر فأرمي به وراء ظهره ثم ضربته حتى قتلته، ثم أخذت أسلبه درعه، فنهض إلى سبيع بن عبد عوف ونفرٌ معه فمنعوني سلبه. وكان سلبه أجود سلب رجل من المشركين درع فضفاضة، ومغفر، وسيف جيد، ولكن حيل بيني وبينه. وهذا أثبت القولين، وهكذا اجتمع عليه، أن سعداً قتله.
ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وقال: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! فقتله، فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد وهي مع النساء، فقالت: من أصابك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! قالت سلافة: أقلحي والله! أي من رهطي.
ويقال قال: خذها وأنا ابن كسرة كانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب. فقال لأمه حين سألته من قتلك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن كسرة! قالت سلافة: إحدى والله كسرى! تقل: إنه رجلٌ منا. فيومئذٍ نذرت أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر، وجعلت تقول: لمن جاء به مائة من الإبل.
ثم حمله كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله الزبير بن العوام، ثم حمله الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله، ثم حمله أرطاة بن شرحبيل، فقتله علي عليه السلام، ثم حمله شريح بن قارظ، فلسنا ندري من قتله، ثم حمله صواب غلامهم، فاختلف في قتله، فقائل قال سعد بن أبي وقاص، وقائلق علي عليه السلام، وقائلٌ قزمان وكان أثبتهم عندنا قزمان. قال: انتهى إليه قزمان، فحمل عليه فقطع يده اليمنى، فاحتمل اللواء باليسرى، ثم قطع اليسرى فاحتضن اللواء بذراعيه وعضديه، ثم حنى عليه ظهره، وقال: يا بني عبد الدار، هل أعذرت؟ فحمل عليه قزمان فقتله.

وقالوا: ما ظفر الله نبيه في موطنٍ قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد، حتى عصوا الرسول وتنازعوا في الأمر. لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون منهزمين، لا يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح حيث التقينا. قال الواقدي: وقد روي كثير من الصحابة ممن شهد أحداً، قال كل واحد منهم والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، ما دون أخذهن شيءٌ لمن أراد ذلك. وكلما أتى خالد من قبل ميسرة النبي صلى الله عليه وسلّم ليجوز حتى يأتي من قبل السفح فرده الرماة، حتى فعلوا ذلك مراراً، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوعز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هذا، فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا لا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون، يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهضوهم عن العسكر، ووقعوا ينتهبون العسكر،قال بعض الرماة لبعض: لم تقيمون ها هنا في غير شيءٍ؟ قد هزم الله العدو وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين فاغتموا مع إخوانكم فقال: بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لكم: " احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا " ؟ فقال الآخرون لم يرد رسول الله هذا، وقد أذل الله المشركين وهزمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم. فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير وكان يومئذٍ معلماً بثياب بيض فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسول صلى الله عليه وسلّم، وألا يخالف لرسول الله أمرٌ فعصوا وانطلقوا، فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا نفير ما يبلغون العشرة، فيهم الحارث بن أنس بن رافع، يقول: يا قوم، اذكروا عهد نبيكم إليكم، وأطيعوا أميركم. قال: فأبوا وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وخلوا الجبل وجعلوا ينتهبون، وانتقضت صفوف المشركين واستدارت رجالهم، وحالت الريح، وكانت أول النهار إلى أن رجعوا صباً، فصارت دبوارً حيث المشركون، بينا المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم.
قال نسطاس مولى صفوان بن أمية، وكان أسلم فحسن إسلامه: كنت مملوكاً فكنت فيمن خلف في العسكر، ولم يقاتل يومئذٍ مملوكٌ إلا وحشى، وصواب غلام بني عبد الدار. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، خلفوا غلمانكم على متاعكم يكونون هم الذين يقومون على رحالكم. فجمعنا بعضها إلى بعض، وعقلنا الإبل، وانطلق القوم على تعبيتهم ميمنةً وميسرةً، وألبسنا الرحال الأنطاع. ودنا القوم بعضهم إلى بعض، فاقتتلوا ساعة ثم إذا أصحابنا منهزمون، فدخل أصحاب محمد عسكرنا ونحن في الرحال، فأحدقوا بنا، فكنت فيمن أسروا. وانتهبوا العسكر أقبح انتهاب، حتى إن رجلاً منهم قال: أين مال صفوان بن أمية؟ فقلت: ما حمل إلا نفقة، هي في الرحل. فخرج يسوقني حتى أخرجتها من العيبة خمسين ومائة مثقال. وقد ولي أصحابنا وأيسنا منهم، وانحاش النساء، فهن في حجرهن سلمٌ لمن أرادهن. وصار النهب في أيدي الرجال، فإنا لعلي ما نحن عليه من الاستسلام إلى أن نظرت إلى الجبل، فإذا الخيل مقبلة فدخلوا العسكر فلم يكن أحدٌ يردهم، قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة وجاءوا إلى النهب والرماة ينتهبون، وأنا أنظر إليهم متأبطي قسيهم وجعابهم، كل رجل منهم في يديه أو حضنه شيءٌ قد أخذه، فلما دخلت خيلنا دخلت على قومٍ غارين آمنين، فوضعوا فيهم السيوف فقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً. وتفرق المسلمون في كل وجهٍ، وتركوا ما انتهبوا وأجلوا عن عسكرنا، فرجعنا متاعنا بعد فما فقدنا منه شيئاً، وخلوا أسرانا، ووجدنا الذهب في المعرك. ولقد رأيت رجلاً من المسلمين ضم صفوان بن أمية إليه ضمة ظننت أنه سيموت حتى أدركته به رمقٌ، فوجأته بخنجر معي فوق، فسألت عنه بعد فقيل: رجلٌ من بني ساعدة. ثم هداني الله عز وجل بعد للإسلام.

فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، قال: ما علمنا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذين أغاروا على النهب، فأخذوا ما أخذوا من الذهب، بقي معه من ذلك شيءٌ رجع به حيث غشنا المشركون واختلطوا إلا رجلين: أحدهما عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح، جاء بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون ديناراً، فشدها على حقويه من تحت ثيابه، وجاء عباد بن بشر بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالاً، ألقاها في جيب قميصه، وعليه قميص والدرع فوقها قد حزم وسطه. فأتيا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد، فلم يخمسه ونفلهما إياه.
قال رافع بن خديج: فلما انصرف الرماة وبقي من بقي، نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل وتبعه عكرمة في الخيل، فانطلقا إلى بعض الرماة فحملوا عليهم. فراموا القوم حتى أصيبوا، ورامى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. وأقبل جعال بن سراقة وأبو بردة بن نيار، وكانا قد حضرا قتل عبد الله بن جبير، وهما آخر من انصرف من الجبل حتى لحقا القوم، وإن المشركين على متون الخيل، فانتقضت صفوفنا. ونادى إبليس وتصور في صورة جعال بن سراقة: إن محمداً قد قتل! ثلاث صرخات. فابتلي يومئذٍ جعال بن سراقة بيلية عظيمةٍ حين تصور إبليس في صورته، وإن جعال ليقاتل مع المسلمين أشد القتال، وإنه إلى جنب أبي بردة بن نيار وخوات بن جبير، فوالله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا. وأقبل المسلمون على جعال بن سراقة يريدون قتله يقولون: هذا الذي صاح إن محمداً قد قتل. فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة بن نيار أنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح، وأن الصائح غيره. قال رافع: وشهدت له بعد.
يقول رافع بن خديج: فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا، واختلط المسلمون، وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً، ما يشعرون به من العجلة والدهش، ولقد جرح يومئذٍ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة وما يدري، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! قال: وكر أبو زعنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين ما يشعر إنه ليقول: خذها وأنا أبو زعنة! حتى عرفه بعد. فكان إذا لقيه قال: انظر إلى ما صنعت بي. فيقول له أبو زعنة: أنت ضربت أسيد بن حضير ولا تشعر، ولكن هذا الجرح في سبيل الله. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقل صلى الله عليه وسلّم: هو في سبيل الله، يا أبا بردة، لك أجره حتى كأنه ضربك أحدٌ من المشركين، ومن قتل فهو شهيدٌ.
وكان اليمان حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين كبيرين، قد رفعا في الآطام مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك، ما نستبقي من أنفسنا، فوالله ما نحن إلا هامة اليوم أو غداً، فما بقي من أجلنا قد ظمء دابة. فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم، نعل الله يرزقنا الشهادة قال: فلحقا برسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد من النهار. فأما رفاعة فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فالتقت عليه سيوف المسلمين وهم لا يعرفونه، حين اختلطوا وحذيفة يقول: أبي! أبي! حتى قتل فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، ما صنعتم! فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيراً، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديته أن تخرج. ويقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، فتصدق حذيفة بن اليمان بدمه على المسلمين.
وأقبل يومئذٍ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة! فأقبلوا عنقاً واحدةً: لبيك داعي الله! لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربةً في رأسه مثقلةً وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون: أمت! أمت! فكف بعضهم عن بعض.
فحدثني الزبير بن سعد، عن عبد الله بن الفضلن قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير اللواء، فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لمصعب في آخر النهار: تقدم يا مصعب! فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه ملك أيد به. وسمعت أبا معشر يقول مثل ذلك.

فحدثتني عبيدة بنت نائل، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها سعد ابن أبي وقاص، فال: لقد رأيتني أرمى بالسهم يومئذٍ فيرده علىّ رجلٌ أبيض حسن الوجه، لا أعرفه حتى كان بعد فظننت أنه ملك.
حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص، قال: لقد رأيت رجلين عليهما ثياب بيض، أحدهما عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلّم والآخر عن يساره، يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.
حدثني عبد الملك بن سليم، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر. قال عبيد بن عمير: ولم تقاتل الملائكة يوم أحد.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الحميد بن سهيل، عن عمر بن الحكم قال: لم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد بملك واحد، إنما كانوا يوم بدر.
حدثني ابن خديج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة مثله.
حدثني معمر بن راشد، عن ابن أبي لحيح، عن مجاهد، قال: حضرت الملائكة يومئذٍ ولم تقاتل.
حدثني سفيان بن سعيد، عن عبد الله بن عثمان، عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
حدثني ابن أبي سبرة، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: قد وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذٍ.
حدثني يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، عن أبي بشير المازني، قال: لما صاح الشيطان أزب العقبة إن محمداً قد قتل، لما أراد الله عز وجل من ذلك، سقط في أيدي المسلمين وتفرقوا في كل وجه، وأصعدوا في الجبل. فكان أول من بشرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سالمٌ كعب بن مالك. قال كعب: فجعلت أصيح، ويشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإصبعه على فيه أن اسكت.
فحدثني موسى بن شيبة بن عمرو بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن أبيها، قال: لما انكشف الناس كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبشرت به المؤمنين حياً سوياً. قال كعب: وأنا في الشعب. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كعباً بلامته وكانت صفراء أو بعضها فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ونزع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمته فلبسها كعب. وقاتل كعب يومئذٍ قتالاً شديداً حتى جرح سبعة عشر جرحاً.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ، فعرفت عينيه من تحت المغفر، فناديت: يا معشر الأنصار، أبشروا! هذا رسول الله! فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن اصمت.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن الأعرج، قال: لما صاح الشيطان إن محمداً قد قتل، قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، إيكم قتل محمداً؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعرك هل يرى محمداً بين القتلى، فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا القتيل؟ قال: لا. قال: هذا خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، هذا سيد بلحارث بن الخزرج. ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه فقال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت الشرف. قال: ثم مر بذكوان ابن عبد قيس، فقال: هذا من ساداتهم. ومر بابنه حنظلة فقال: من هذا يا ابن عامر؟ قال: هذا أعز من ها هنا علي، هذا حنظلة بن أبي عامر. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتله لرأيناه، كذب ابن قميئة! ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندكم قتل محمد؟ قال خالد: رأيته أقبل في نفرٍ من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حقٌّ! كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت محمد بن مسلمة يقول: سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول يومئذٍ، وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه، وإنه ليقول: إلي يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول الله! فما عرج منهما واحدٌ عليه ومضيا.

حدثني ابن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم، واسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول: الحمد لله الذي هداني للإسلام! لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب رحمه الله حين جالوا وانهزموا يوم أحد، وما معه أحدٌ، وإني لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحدٌ غيري، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرت إليه موجهاً إلى الشعب.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم وسطها، كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذٍ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا! وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى جنبه، ما معه أحدٌ، ثم جاوزه، ولقي عبد الله ابن شهاب صفوان بن أمية، فقال صفوان: ترحت، ألم يمكنك أن تضرب محمداً فتقطع هذه الشأفة، فقد أمكنك الله منه؟ قال: وهل رأيته؟ قال: نعم، أنت إلى جنبه. قال: والله ما رأيته. أحلف بالله إنه مناً ممنوعٌ، خرجنا أربعةً تعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن نملة بن أبي نملة واسم أبي نملة عبد الله بن معاذ، وكان أبوه معاذ أخاً للبراء بن معرور لأمه فقال: لما نكشف المسلمون ذلك اليوم نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما معه أحدٌ إلا نفير، فأحدق به أصحابه من المهاجرين والأنصار وانطلقوا به إلى الشعب، وما للمسلمين لواءٌ قائمٌ، ولا فئةٌ، ولا جمعٌ، وإن كتائب المشركين لتحوشهم مقبلةً ومدبرةً في الوادي، يلتقون ويفترقون، ما يرون أحداً من الناس يردهم. فاتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنظر إليه وهو يوم أصحابه، ثم رجع المشركون نحو عسكرهم وتآمروا في المدينة وفي طلبنا، فالقوم على ما هم عليه من الاختلاف. وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أصحابه، فكأنهم لم يصبهم شيءٌ حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم سالماً.
حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه، قال: حمل مصعب اللواء فلما جال المسلمون ثبت به، فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضرب يده اليمنى فقطعها، وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل " . وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى عليه فقطع يده اليسرى، فحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " الآية. ثم حمل عليه الثالثة فأنفذه واندق الرمح، ووقع مصعب وسقط اللواء، وابتدره رجلان من بني عبد الدار، سويبط بن حرملة وأبو الروم، وأخذه أبو الروم فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون.

وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، عن المقداد، قال: لما تصاففنا للقتال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت راية مصعب بن عمير، فلما قتل أصحاب اللواء وهزم المشركون الهزيمة الأولى، وأغار المسلمون على عسكرهم فانتهبوا، ثم كروا على المسلمين فأتوا من خلفهم فتفرق الناس، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحاب الألوية، فأخذ اللواء مصعب بن عمير ثم قتل. وأخذ راية الخزرج سعد بن عبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قائمٌ تحتها، وأصحابه محدقون به. ودفع لواء المهاجرين إلى أبي الروم العبدري آخر النهار، ونظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير، فناوشوهم ساعةً واقتتلوا على الاختلاط من الصفوف. ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزى، يا آل هبل! فأوجعوا والله فينا قتلاً ذريعاً، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما نالوا. لا والذي بعثه بالحق، إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم زال شبراً واحداً، إنه لفي وجه العدو، وتثوب إليه طائفةٌ من أصحابه مرة وتتفرق عنه مرة، فربما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا. وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما هو في عصابةٍ صبروا معه، أربعة عشر رجلاً، سبعةٌ من المهاجرين وسبعةٌ من الأنصار: أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، ومن الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. ويقال ثبت سعد بن عبادة، ومحمد ابن مسلمة، فيجعلونهما مكان أسيد بن حضير وسعد بن معاذ. وبايعه يومئذٍ ثمانيةٌ على الموت ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار: علي، والزبير، وطلحة عليهم السلام، وأبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب ابن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحدٌ. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى قريب من المهراس.
وحدثني عتبة بن جبيرة، عن يعقوب بن عمرو بن قتادة، قال: ثبت بين يديه يومئذٍ ثلاثون رجلاً كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما لحمه القتال وخلص إليه، وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة حتى كثرت به الجراحة، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: من رجلٌ يشري نفسه؟ فوثب فئة من الأنصار خمسةٌ، منهم عمارة بن زياد بن السكن، فقاتل حتى أثبت، وفاءت فئةٌ من المسلمين فقاتلوا حتى أجهضوا أعداء الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمارة بن زياد: ادن مني! إلي، إلي! حتى وسده رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدمه وبه أربعة عشر جرحاً، حتى مات. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ يذمر الناس ويحضهم على القتال، وكان رجالٌ من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي، منهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول لسعد بن أبي وقاص: ارم، فداك أبي وأمي! ورمي حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن وجاءت يومئذٍ تسقى الجرحى فعقلها وانكشف عنها، فاستغرب في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له فقال: ارم! فوقع السهم في ثغرة نحر حبان فوقع مستلقياً وبدت عورته. قال سعد: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صحك يومئذٍ وسدد رميتك! ورمي يومئذٍ مالك بن زهير الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي، وكان هو وحبان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأكثرا فيهم القتل بالنبل، يتستران بالصخر ويرميان المسلمين. فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير وراء صخرة، قد رمى وأطلع رأسه، فيرميه سعد فأصاب السهم عينه حتى خرج من قفاه، فنزا في السماء قامةً ثم رجع فسقط فقتله الله عز وجل.

ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ عن قوسه حتى صارت شظايا، فأخذها قتادة بن النعمان وكانت عنده. وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. قال قتادة بن النعمان: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: أي رسول الله، إن تحتي امرأةً شابة جميلة أحبها وتحبني وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني. فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فردها فأبصرت وعادت كما كانت، فلم تضرب عليه ساعةً من ليلٍ ولا نهار، وكان يقول بعد أن أسن: هي والله أقوى عيني! وكانت أحسنهما.
وباشر رسول الله صلى الله عليه وسلّم القتال، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله وتكسرت سية قوسه، وقبل ذلك انقطع وتره، وبقيت في يده قطعةٌ تكون شبراً في سية القوس، وأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له، فقال: يا رسول الله، لا يبلغ الوتر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مده، يبلغ! قال عكاشة: فو الذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوسه، فما زال يرمى القوم، وأبو طلحة أمامهم يستره مترساً عنه، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت، فأخذها قتادة بن النعمان. وكان أبو طلحة يوم أحد قد نثر كنانته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم وكان رامياً وكان صيتاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من أربعين رجلاً. وكان في كنانته خمسون سهماً، فنثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جعل يصيح: يا رسول الله، نفسي دون نفسك! فلم يزل يرمي بها سهماً سهماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطلع رأسه خلف أبي طلحة بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله، وهو يقول: نحرى دون نحرك، جعلني الله فداك! فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم يا أبا طلحة! فيرمي بها سهماً جيداً.
وكان الرماة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم المذكور منهم: سعد بن أبي وقاص، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمقداد بن عمرو، وزيد بن حارثة، وحاطب بن أبي بلتعة، وعتبة بن غزوان، وخراش بن الصمة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وبشر بن البراء بن معرور، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، وأبو طلحة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقتادة بن النعمان.
ورمى يومئذٍ أبو رهم الغفاري بسهمٍ فوقع في نحره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبصق عليه فبرأ، وكان أبو رهم يسمى المنحور.
وكان أربعةٌ من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرفهم المشركون بذلك عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة، وأبي بن خلف. ورمى عتبة يومئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأربعة أحجارٍ وكسر رباعيته أشظى باطنها، اليمنى السفلى وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر في وجنته وأصيبت ركبتاه فجحشتا. وكانت حفرٌ حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفاً على بعضها ولا يشعر به. والثبت عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابن قميئة، والذي رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. وأقبل ابن قميئة وهو يقول: دلوني على محمد، فو الذي يحلف به، لئن رأيته لأقتلنه! فعلاه بالسيف، ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل السيف، وكان عليه صلى الله عليه وسلّم درعان، فوقع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحفرة التي أمامه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئاً إلا وهن الضربة بثقل السيف، فقد وقع لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وانتهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم وطلحة يحمله من ورائه، وعلى آخذٌ بيديه حتى استوى قائماً.
حدثني الضحاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، عن أبي بشير المازني، قال: حضرت يوم أحد وأنا غلامٌ، فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسيف، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقع على ركبتيه في حفرةٍ أمامه حتى توارى، فجعلت أصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه. قال: فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذاً بحضنه حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

ويقال إن الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جبهته ابن شهاب، والذي أشظى رباعيته وأدمى شفتيه عتبة بن أبي وقاص، والذي رمى وجنتيه حتى غاب الحلق في وجنتيه ابن قميئة، وسال الدم في شجته التي في جبهته حتى أخضل الدم لحيته صلى الله عليه وسلّم. وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله عز وجل: " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم.. " الآية.
وقال سعد بن أبي وقاص: سمعته يقول: اشتد غضب الله على قومٍ أدموا فا رسول الله، اشتد غضب الله على قومٍ أدموا وجه رسول الله، اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله! قال سعد: فقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولقد حرصت على قتله حرصا ًما حرصته على شيء قط وإن كان ما علمته لعاقاً بالوالد سيىء الخلق. ولقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله، ولكن راغ مني روغان الثعلب، فلما كان الثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا عبد الله ما تريد؟ تريد أن تقتل نفسك؟ فكففت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم لا يحولن الحول على أحدٍ منهم! قال: والله، ما حال الحول على أحدٍ ممن رماه أو جرحه! مات عتبة، وأما ابن قميئة فإنه اختلف فيه. فقائل يقول قتل في المعرك، وقائل يقول إنه رمى يوم أحد بسعن. فأصاب مصعب بن عمير فقال: خذها وأنا ابن قميئة! فقتل مصعباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أقمأه الله! فعمد إلى شاة يحتلبها فنطحته بقرنها وهو معتقلها فقتلته، فوجد ميتاً بين الجبال، لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان عدو الله قد رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو رجل من بني الأدرم من بني فهر.
ويقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على تلك الحال، يركض فرسه مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن زهير، دلوني على محمد، فو الله لأقتلنه أو لأموتتن دونه! فتعرض له أبو دجانة فقال: هلم إلى من يقي نفس محمد بنفسه! فضرب فرسه فعرقبها، فاكتسعت الفرس، ثم علاه بالسيف وهو يقول: خذها وأنا ابن خرشة! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إليه يقول: اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راضٍ.
حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عيسى بن طلحة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول: لما كان يوم أحد ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإنسانٌ قد أقبل من قبل المشرق يطير طيراناً، فقلت: اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله! حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبو عبيد ة بن الجراح، فبدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني، فأنزعه من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال أبو بكر: فتركته. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عليكم صاحبكم! يعني طلحة بن عبيد الله. فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقة المغفر فنزعها، وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم.
ويقال إن الذي نزع الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عقبة بن وهب بن كلدة، ويقال أبو اليسر وأثبت ذلك عندنا عقبة ابن وهب بن كلدة.

وكان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصيب وجهه يوم أحد فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل مالك بن سنان يملج الدم بفيه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. فقيل لمالك: تشرب الدم؟ فقال: نعم، أشرب دم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من مس دمه دمي، لم تصبه النار. قال أبو سعيد: فكنا ممن رد من الشيخين، لم نجز مع المقاتلة، فلما كان من النهار وبلغنا مصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتفرق الناس عنه، جئت مع غلمان من بني خدرة نعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وننظر إلى سلامته فنرجع بذلك إلى أهلنا، فلقينا الناس منصرفين ببطن قناة، فلم يكن لنا همة إلا النبي صلى الله عليه وسلّم ننظر إليه، فلما نظر إلي قال: سعد بن مالك؟ قلت: نعم، بأبي وأمي! فدنوت منه فقبلت ركبته وهو على فرسه. ثم قال: آجرك الله في أبيك! ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجةٌ في جبهته عند أصول الشعر، وإذا شفته السفلى تدمي، وإذا رباعيته اليمنى شظية، فإذا على جرحه شيءٌ أسود. فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصيرٌ محرقٌ. وسألت: من دمي وجنتيه؟ فقيل: ابن قميئة. فقلت: من شجه في جبهته؟ فقيل: ابن شهاب. فقلت: من أصاب شفته؟ فقيل: عتبة. فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، فما نزل إلا حملاً، وأرى ركبتيه مجحوشتين، يتكىء على السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ حتى دخل بيته. فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، ثم انصرف إلى بيته، والناس في المسجد يوقدون النيران يكمدون بها الجراح. ثم أذن بلالٌ بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجلس بلالٌ عند بابه حتى ذهب ثلث الليل ثم ناداه: الصلاة، يا رسول الله! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد كان نائماً. قال: فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه، يمشي وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فحمدوا الله على ذلك وناموا، وكانت وجوه الخزرج والأوس في المسجد على باب النبي صلى الله عليه وسلّم يحرسونه فرقاً من قريش أن تكر.
قالوا: وخرجت فاطمة في نساءٍ، وقد رأت الذي بوجهه صلى الله عليه وسلّم فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله! وذهب علي عليه السلام يأتي بماءٍ من المهراس، وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم. فأتي بماءٍ في مجنه، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشرب منه وكان قد عطش فلم يستطع، ووجد ريحاً من الماء كرهها فقال: هذا ماءٌ آجنٌ. فمضمض منه فاه للدم في فيه، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها. ولما أبصر النبي صلى الله عليه وسلّم سيف علي عليه السلام مختضباً قال: إن كنت أحسنت القتال، فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم. فلم يطق أن يشرب منه، فخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم.

قال كعب بن مالك: رأيت أم سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها يوم أحد، وكانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت أم أيمن تسقي الجرحى. فلما لم يجد محمد بن مسلمة عندهم ماءً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد عطش يومئذٍ عطشاً شديداً، ذهب محمد إلى قناة وأخذ سقاءه حتى استقى من حسىٍ قناة عند قصور التيميين اليوم فأتي بماءٍ عذبٍ فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير. وجعل الدم لا ينقطع، وجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن. فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ وهي تغسل الدم، وعلي عليه السلام يصب الماء عليها بالمجن أخذت قطعة حصيرٍ فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم. ويقال إنها داوته بصوفةٍ محترقة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد يداوي الجرح الذي في وجهه بعظمٍ بالٍ حتى يذهب أثره، ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهراً أو أكثر من شهر، ويداوي الأثر الذي بوجهه بعظمٍ بالٍ.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما كان يوم أحد أقبل أبي بن خلف يركض فرسه، حتى إذا دنا من النبي صلى الله عليه وسلّم اعترض له ناسٌ من أصحابه ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: استأخروا عنه! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحربته في يده فرماه ما بين سابغة البيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع أبي عن فرسه، فكسر ضلعٌ من أضلاعه، واحتملوه ثقيلاً حتى ولوا قافلين فمات بالطريق، ونزلت فيه: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " .
فحدثني يونس بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر، عن عبد الله ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كان أبي بن خلف قدم في فداء ابنه، وكان أسر يوم بدر، فقال: يا محمد، إن عندي فرساً لي أجلها فرقاً من ذرةٍ كل يوم، أقتلك عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بل، أنا أقتلك عليها إن شاء الله. ويقال قال ذلك بمكة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلمته بالمدينة فقال: أنا أقتله عليها إن شاء الله.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في القتال لا يلتفت وراءه، فكان يقول لأصحابه: إني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي، فإذا رأيتموه فآذنوني به. فإذا بأبي يركض على فرسه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمد، لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، ما كنت صانعاً حين يغشاك! فقد جاءك، وإن شئت عطف عليه بعضنا. فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ودنا أبي فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث ابن الصمة. ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير، فتطايرنا عنه تطاير الشعارير، ولم يكن أحدٌ يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحربة في عنقه وهو على فرسه، فجعل يخور كما يخور الثور. ويقول له أصحابه: أبا عامر، والله ما بك بأسٌ، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره.
قال: واللات والعزى، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون! أليس قال: لأقتلنك؟ فاحتملوه وشغلهم ذلك عن طلب النبي صلى الله عليه وسلّم، ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعظم أصحابه في الشعب، ويقال تناول الحربة من الزبير بن العوام.

وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوىٍّ من الليل، إذا نارٌ تأجج، فهبتها، وإذا رجلٌ يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش! وإذا رجلٌ يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله، هذا أبي بن خلف. فقلت: ألا سحقاً! ويقال مات بسرف. ويقال لما تناول الحربة من الزبير حمل أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليضربه، فاستقبله مصعب بن عمير وجهه، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرجةً بين سابغة والبيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع وهو يخور. قال: وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يحضر فرساً له أبلق، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعليه لأمةٌ له كاملةٌ، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم موجهٌ إلى الشعب، وهو يصيح: لا نجوت إن نجوت! فيقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويعثر به فرسه في بعض تلك الحفر التي كانت حفر أبو عامر، فيقع الفرس لوجهه، وخرج الفرس عائراً فأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيعقرونه، ويمشي إليه الحارث بن الصمة فتضاربا ساعةً بسيفين، ثم يضرب الحارث رجله وكانت الدرع مشمرة فبرك وذفف عليه. وأخذ الحارث يومئذٍ درعاً جيدة ومغفراً وسيفاً جيداً، ولم يسمع بأحدٍ سلب يومئذٍ غيره. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إلى قتالهما وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرجل، فإذا عثمان بن عبد الله بن المغيرة، فقال: الحمد لله الذي أحانه. وكان عبد الله بن جحش أسره ببطن نخلة حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافتدى فرجع إلى قريش حتى غزا أحداً فقتل به. ويرى مصرعه عبيد بن حاجز العامري عامر بن لؤي فأقبل يعدو كأنه سبع، فيضرب الحارث بن الصمة ضربةً جرحه على عاتقه، فوقع الحارث جريحاً حتى احتمله أصحابه. ويقبل أبو دجانة على عبيد فتناوشا ساعة من نهار، وكل واحد منهما يتقي بالدرقة ضرب السيف، ثم حمل عليه أبو دجانه فاحتضنه، ثم جلد على الأرض، ثم ذبحه بالسيف كما تذبح الشاة، ثم انصرف فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقالوا: إن سهل بن حنيف جعل ينضح بالنبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نبلوا سهلاً فإنه سهلٌ! ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أبي الدرداء، والناس منهزمون كل وجه، فقال: نعم الفارس عويمر قال الواقدي: غير أنه يقال لم يشهد أحداً.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث بن علقمة، ولقي أحد بني عوف فاختلفا ضربات، كل ذلك يروغ أحدهما عن صاحبه. قال: فنظر إليهما كأنهما سبعان ضاريان، يقفان مرة ويقتتلان مرة، ثم تعانقا فضبط أحدهما صاحبه فوقعا للأرض، فعلاه أبو أسيرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة، ونهض عنه. ويقبل خالد بن الوليد، وهو على فرس أدهم أغر محجل، يجر قناة طويلة، فطعنه من خلفه، فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره، ووقع أبو أسيرة ميتاً، وانصرف خالد بن الوليد يقول: أنا أبو سليمان! قالوا: وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذٍ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قتالاً شديداً، فكان طلحة يقول: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين انهزم أصحابه، وكر المشركون وأحدقوا بالنبي صلى الله عليه وسلّم من كل ناحية، فما أدرى أقوم من بين يديه أو من ورائه، أو عن يمينه أو عن شماله، فأذب بالسيف من بين يديه مرة وأخرى من وراءه حتى انكشفوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ لطلحة: قد أنحب! وقال سعد بن أبي وقاص وذكر طلحة فقال: يرحمه الله، إنه كان أعظمنا غناءً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد! قيل: كيف يا أبا إسحاق؟ قال: لزم النبي صلى الله عليه وسلم وكنا نتفرق عنه ثم نثوب إليه، لقد رأيته يدور حول النبي صلى الله عليه وسلّم يترس بنفسه.

وسئل طلحة: يا أبا محمد، ما أصاب إصبعك؟ قال: رمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان لا تخطىء رميته، فاتقيت بيدي عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأصاب خنصري. فشك فشل إصبعه. وقال حين رماه. حس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لو قال بسم الله لدخل الجنة والناس ينظرون! من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله، طلحة ممن قضى نحبه.
وقال طلحة: لما جال المسلمون تلك الجولة ثم تراجعوا، أقبل رجلٌ من بني عامر بن لؤي بن مالك بن المضر يجر رمحاً له، على فرس كميت أغر، مدججاً في الحديد، يصيح: أنا أبو ذات الودع، دلوني على محمد! فأضرب عرقوب فرسه فانكسعت، ثم أتناول رمحه فوالله ما أخطأت به عن حدقته، فخار كما يخور الثور، فما برحت به واضعاً رجلي على خده حتى أزرته شعوب. وكان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبة، ضربه رجلٌ من المشركين ضربتين، ضربة وهو مقبل والأخرى وهو معرض عنه، وكان قد نزف منها الدم. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد فقال: عليك بابن عمك! فأتي طلحة بن عبيد الله وقد نزف الدم، فجعلت أنضح في وجهه الماء وهو مغشيٌّ عليه، ثم أفاق فقال: ما فعل رسول الله؟ فقلت: خيراً، هو أرسلني إليك. قال: الحمد لله، كل مصيبةٍ بعده جللٌ.
وكان ضرار بن الخطاب الفهري يقول: نظرت إلى طلحة بن عبيد الله قد حلق رأسه عند المروة في عمرةٍ، فنظرت إلى المصلبة في رأسه. فقال ضرار: أنا والله ضربته هذه، استقبلني فضربته ثم أكر عليه وقد أعرض فأضربه أخرى.
وقالوا: لما كان يوم الجمل وقتل علي عليه السلام من قتل من الناس ودخل البصرة، جاءه رجلٌ من العرب فتكلم بين يديه، ونال من طلحة فزبره علي وقال: إنك لم تشهد يوم أحد وعظم غنائه في الإسلام مع مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فانكسر الرجل وسكت، فقال رجلٌ من القوم: وما كان غناؤه وبلاوه يوم أحد يرحمه الله؟ فقال علي: نعم، يرحمه الله! فلقد رأيته وإنه ليترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإن السيوف لتغشاه والنبل من كل ناحية، وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقال قائل: إن كان يوماً قد قتل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصاب رسول الله فيه الجراحة. فقال علي عليه السلام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ليت أني غودرت مع أصحاب نحص الجبل. قال ابن أبي الزناد: نحص الجبل أسفله. ثم قال علي عليه السلام: لقد رأيتني يومئذٍ وإني لأذبهم في ناحية، وإن أبا دجانة لفي ناحيةٍ يذب طائفة منهم، وإن سعد بن أبي وقاص يذب طائفة منهم، حتى فرج الله ذلك كله. ولقد رأيتني وانفردت منهم يومئذٍ خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل، فدخلت وسطها بالسيف فضربت به واشتملوا علي حتى أفضيت إلى آخرهم، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت، ولكن الأجل استأجر ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قال الواقدي: وحدثني جابر بن سليم، عن عثمان بن صفوان، عن عمارة بن خزيمة، قال: حدثني من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وإنه ليحوشهم يومئذٍ كما تحاش الغنم، ولقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل. ثم برز والسيف في يده وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون منه إلى جمعٍ منهم، وصار الحباب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وكان الحباب يومئذٍ معلماً بعصابةٍ خضراء في مغفره.
وطلع يومئذٍ عبد الرحمن بن أبي بكر على فرس، مدججاً لا يرى منه إلا عيناه، فقال: من يبارز؟ أنا عبد الرحمن بن عتيق. قال: فنهض إليه أبو بكر فقال: يا رسول الل، أبارزه. وقد جر أبو بكر سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: شم سيفك وراجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما وجدت لشماس بن عثمان شبهاً إلا الجنة يعني مما يقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يرمي يميناً ولا شمالاً إلا رأى شماساً في ذلك الوجه يذب بسيفه. حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فترس بنفسه دونه حتى قتل، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم: ما وجدت لشماس شبهاً إلا الجنة.

وكان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث مع طائفة من الأنصار، وقد بلغوا بني حارثة فرجعو سراعاً، فصادفوا المشركين في كرتهم فدخلوا في حومتهم، وما أفلت منهم رجلٌ حتى قتلوا. ولقد ضاربهم قيس بن محرث وامتنع بسيفه حتى قتل منهم نفراً، فما قتلوه إلا بالرماح، نظموه، ولقد وجد به أربع عشرة طعنةً قد جافته، وعشر ضربات في بدنه.
وكان عباس بن عبادة بن نضلة، وخارجة بن زيد بن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، وعباس رافع صوته يقول: يا معشر المسلمين، الله ونبيكم! هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم، فيوعدكم النصر فما صبرتم! ثم نزع مغفره عن رأسه وخلع درعه فقال لخارجة بن زيد: هل لك في درعي ومغفري؟ قال خارجة: لا، أنا أريد الذي تريد. فخالطوا القوم جميعاً، وعباس يقول: ما عذرنا عند ربنا إن أصيب رسول الله ومنا عين تطرف؟ يقول خارجة: لا عذر لنا عند ربنا ولا حجة. فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي، ولقد ضربه عباس ضربتين فجرحه جرحين عظيمين، فارتث يومئذٍ جريحاً فمكث جريحاً سنةً ثم استبل. وأخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحاً، فمر به صفوان ابن أمية فعرفه فقال: هذا من أكابر أصحاب محمد وبه رمقٌ! فأجهز عليه. وقتل أوس بن أرقم.
وقال صفوان بن أمية: من رأى خبيب بن يساف؟ وهويطلبه ولا يقدر عليه. ومثل يومئذٍ بخارجة وقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر يعني أمية بن خلف الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد، قتلت ابن قوقل، وقتلت ابن أبي زهير: وقتلت أوس بن أرقم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قالوا: وما حقه؟ قال: يضرب به العدو. فقال عمر: أنا. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك الشرط، فقام الزبير فقال: أنا. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى وجد عمر والزبير في أنفسهما. ثم عرضه الثالثة، فقال أبو دجانة: أنا يا رسول الله آخذه بحقه. فدفعه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فصدق به حين لقي العدو، وأعطى السيف حقه. فقال أحد الرجلين إما عمر وإما الزبير: والله لأجعلن هذا الرجل من شأني، الذي أعطاه النبي السيف ومنعنيه. قال: فاتبعته. قال: فوالله ما رأيت أحداً قاتل أفضل من قتاله، لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا يحيك عمد به إلى الحجارة فشحذه، ثم يضرب به في العدو حتى رده كأنه منجل. وكان حين أعطاه السيف مشى بين الصفين واختال في مشيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين رآه يمشي تلك المشية: إن هذه لمشيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
وكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يعلمون في الزحوف، أحدهم أبو دجانة، كان يعصب رأسه بعصابةٍ حمراء، وكان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال، وكان علي عليه السلام يعلم بصوفةٍ بيضاء، وكان الزبير يعلم بعصابةٍ صفراء، وكان حمزة يعلم بريش نعامة.
قال أبو دجانة: إني لأنظر يومئذٍ إلى امرأةٍ تقذف الناس وتحوشهم حوشاً منكراً، فرفعت عليها السيوف وما أحسبها إلا رجلاً. قال: وأكره أن أضرب بسيف رسول الله امرأة! والمرأة عمرة بنت الحارث.
وكان كعب بن مالك يقول: أصابني الجراح يوم أحد، فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين أشد المثلى وأقبحه، قمت فتجاوزت عن القتلى حتى تنحيت، فإني لفي موضعي، إذ أقبل خالد بن الأعلم العقيلي جامع اللأمة يحوز المسلمين يقول: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم! مدججاً في الحديد يصيح: يا معشر قريش، لا تقتلوا محمداً، ائسروه أسيراً حتى نعرفه بما صنع. ويصمد له قزمان، فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه رأيت منها سحره، ثم أخذ سيفه وانصرف. وطلع عليه آخر من المشركين ما رأى منه إلا عينيه، فضربه ضربةً واحدة حتى جزله باثنين. قال: قلنا من هو؟ قال: الوليد بن العاص بن هشام. ثم يقول كعب: إني لأنظر يومئذٍ وأقول: ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع بالسيف! ثم ختم له بما ختم له به. فيقول: ما هو وما ختم له به؟ فقال: من أهل النار، قتل نفسه يومئذٍ.

قال كعب: وإذا رجلٌ من المشركين جامع اللأمة يصيح: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم. وإذا رجلٌ من المسلمين عليه لأمته، فمشيت حتى كنت من ورائه ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أكثرهما عدةً وأهبةً. فلم أزل أنظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه بالسيف، فمضى السيف حتى بلغ وركيه، وتفرق المشرك فرقتين. وكشف المسلم عن وجهه فقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.
قال: وكان رشيد الفارسي مولى بني معاوية لقي رجلاً من المشركين من بني كنانة مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن عويم! فيعترض له سعدٌ مولى حاطب فضربه ضربةً جزله باثنين ويقبل عليه رشيد فيضربه على عاتقه، فقطع الدرع حتى جزله باثنين، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الفارسي! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ألا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري؟ فيعترض له أخوه، وأقبل يعدو كأنه كلب، يقول:أنا ابن عويم! ويضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر، ففلق رأسه، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أحسنت يا أبا عبد الله! فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ ولا ولد له.
وقال أبو النمر الكناني: أقبلت يوم أحد فقد انكشف المسلمون، وأنا مع المشركين، وقد حضرت في عشرة من إخوتي، فقتل منهم أربعةٌ. وكانت الريح للمسلمين أول ما التقينا، فلقد رأيتني وانكشفنا مولين، وأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم على نهب العسكر، حتى بلغت على قدمي الجماء، ثم كرت خيلنا فقلنا: والله ما كرت الخيل إلا عن أمرٍ رأته. فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل، حتى نجد القوم قد أخذ بعضهم بعضاً، يقاتلون على غير صفوف، ما يدري بعضهم من يضرب، وما للمسلمين لواءٌ قائمٌ، ومع رجل من بني عبد الدار لواءنا. وأسمع شعار أصحاب محمد بينهم: أمت! أمت! فأقول في نفسي: ما أمت! وإني لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن أصحابه محدقون به، وإن النبل لتمر عن يمينه وعن شماله وتقصر بين يديه وتخرج من ورائه، ولقد رميت يومئذٍ بخمسين مرماةً فأصبت منها بأسهمٍ بعض أصحابه. ثم هداني الله إلى الإسلام.
فكان عمرو بن ثابت بن وقش شاكاً في الإسلام، فكان قومه يكلمونه في الإسلام فيقول: لو أعلم ما تقولون حقاً ما تأخرت عنه! حتى إذا كان يوم أحد بدا له الإسلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد، فأسلم وأخذ سيفه فخرج حتى دخل في القوم، فقاتل حتى أثبت، فوجد في القتلى جريحاً ميتاً، فدنوا منه وهو بآخر رمقٍ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ قال: الإسلام، آمنت بالله وبرسوله، ثم أخذت سيفي وحضرت، فرزقني الله الشهادة. ومات في أيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنه لمن أهل الجنة.
قالوا: قال الواقدي: فحدثني خارجة بن عبد الله بن سليمان، عن داود ابن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول، والناس حوله: أخبروني برجلٍ يدخل الجنة لم يصل لله سجدة قط! فيسكت الناص فيقول أبو هريرة: هو أخو بني عبد الأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش.
قالوا: وكان مخيريق اليهودي من أحبار اليهود، فقال يوم السبت ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد: يا معشر اليهود، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي، وأن نصره عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت! ثم أخذ سلاحه ثم حضر مع النبي صلى الله عليه وسلّم فأصابه القتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مخيريق خير يهود. وقد كان مخيريق حين خرج إلى أحد قال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله! فهي عامة صدقات النبي صلى الله عليه وسلّم.
وكان حاطب بن أمية منافقاً، وكان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق، شهد أحداً مع النبي صلى الله عليه وسلّم فارتث جريحاً، فرجع به قومه إلى منزله فقال أبوه، وهو يرى أهل الدار يبكون عنده: أنتم والله صنعتم هذا به! قالوا: كيف؟ قال: غررتموه من نفسه حتى خرج فقتل، ثم صار منكم في شيءٍ آخر، تعدونه جنة يدخل فيها، جنة من حرمل! قالوا: قاتلك الله! قال: هو ذاك! ولم يقر بالإسلام.

قالوا: وكان قزمان عديداً في بني ظفر لا يدري ممن هو، وكان لهم حائطاً محباً، وكان مقلاً لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعاً يعرف بذلك في حروبهم، تلك التي كانت تكون بينهم. فشهد أحداً فقاتل قتالاً شديداً فقتل ستة أو سبعة، وأصابته الجراح فقيل للنبي صلى الله عليه وسلّم: قزمان قد أصابته الجراح، فهو شهيد! قال: من أهل النار. فأتي إلى قزمان فقيل له: هنيئاً لك يا أبا الغيداق الشهادة! قال: بم تبشرون؟ والله ما قاتلنا إلا على الأحساب. قالوا: بشرناك بالجنة. قال: جنة من حرمل، والله ما قاتلنا على جنة ولا على نار، إنما قاتلنا على أحسابنا! فأخرج سهماً من كنانته، فجعل يتوجأ به نفسه، فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره. فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: من أهل النار.
وكان عمرو بن الجموح رجلاً أعرجن فلما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلّم المشاهد أمثال الأسد أراد بنوه أن يحبسوه وقالوا: أنت رجلٌ أعرج، ولا حرج عليك، وقد ذهب بنوك مع النبي صلى الله عليه وسلّم. قال: بخ! يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم! فقالت هند بنت عمرو بن حرام امرأته: كأني أنظر إليه مولياً، قد أخذ درقته، يقول: اللهم لا تردني إلى أهلي خزياً! فخرج ولحقه بنوه يكلمونه في القعود، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أما أنت، فقد عذرك الله تعالى ولا جهاد عليك. فأبى فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لبنيه: لا عليكم أن تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة. فخلوا عنه فقتل يومئذٍ شهيداً.
فقال أبو طلحة: نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون، ثم ثابوا وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ضلعه في رجله، يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة! ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً.
وكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم خرجت في نسوة تستروح الخبر ولم يضرب الحجاب يومئذٍ، حتى إذا كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بني حارثة إلى الوادي، لقيت هند بنت عمرو بن حرام أخت عبد الله بن عمرو ابن حرام تسوق بعيراً لها، عليها زوجها عمرو بن الجموح، وابنها خلاد ابن عمرو، وأخوها عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر. فقالت عائشة: عندك الخبر، فما وراءك؟ فقالت هند: خيراً، أما رسول الله فصالحٌ، وكل مصيبة بعده جلل. واتخذ الله من المؤمنين شهداء، " ورد الله للذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " . قالت: من هؤلاء؟ قالت: أخي، وابن خلاد، وزوجي عمرو بن الجموح. قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها...حل! تزجر بعيرخا، ثم برك بعيرها فقلت: لما عليه! قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك، فزجرته فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعةً إلى أحد فأسرع. فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبرتهبذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فإن الجمل مأمور، هل قال شيئاً؟ قالت: إن عمراً لما وجه إلى أحد استقبل القبلة وقال: اللهم لا تردني إلى أهلي خزياً وارزقني الشهادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فلذلك الجمل لا يمضي! إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح. يا هند، ما زالت الملائكة مظلةً على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن. ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى قبرهم، ثم قال: يا هند، قد ترافقوا في الجنة جميعاً، عمرو بن الجموح، وابنك خلاد، وأخوك عبد الله. قالت هند: يا رسول الله، ادع الله، عسى أن يجعلني معهم.
قال جابر بن عبد الله: اصطبح ناسٌ الخمر يوم أحد، منهم أبي، فقتلوا شهداء.
قال جابر: كان أبي أول قتيلٍ قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس أبو أبي الأعور السلمي، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل الهزيمة.
قال جابر: لما استشهد أبي جعلت عمتي تبكير، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ما يبكيها؟ ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها حتى دفن.

وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل يوم أحد بأيام وكأني رأيت مبشر بن عبد المنذر يقول: أنت قادمٌ علينا في أيام. فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة. نسرح منها حيث نشاء. قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى، ثم أحييت. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: هذه الشهادة يا أبا جابر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبرٍ واحد. ويقال إنهما وجدا وقد مثل بهما كل المثل، قطعت آرابهما يعني عضواً عضواً فلا تعرف أبدانهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ادفنوهما جميعاً في قبرٍ واحد. ويقال إنما أمر بدفنهما في قبرٍ واحد لما كان بينهما من الصفاء فقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبرٍ واحد. وكان عبد الله بن عمرو بن حرام رجلاً أحمر أصلع، ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح طويلاً، فعرفا ودخل السيل عليهما، وكان قبرهما مما يلي السيل فحفر عنهما، وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرحٌ في وجهه، فيده على وجهه، فأميطت يده عن جرحه فثعب الدم، فردت إلى مكانها فسكن الدم.
قال جابر: فرأيت أبي في حفرته فكأنه نائم، وما تغير من حاله قليلٌ ولا كثير. فقيل له: أفرأيت أكفانه؟ فقال: إنما كفن في نمرة خمر بها وجهه وعلى رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك وبين وقت دفنه ستة وأربعون سنة. فشاورهم جابر في أن يطيب بمسكٍ، فأبى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وقالوا: لا تحدثوا فيهم شيئاً. ويقال إن معاوية لما أراد أن يجري كظامة والكظامة عينٌ أحدثها معاوية نادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيلٌ بأحد فليشهد! فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم طرايا يتثنون، فأصابت المسحاة رجلاً منهم فثعب دماً. قال أبو سعيد الخدري: لا ينكر بعد هذا منكر أبداً. ووجد عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبرٍ واحد، ووجد خارجة بن زيد بن أبي زهير وسعد بن الربيع في قبرٍ واحد. فأما قبر عبد الله وعمرو بن الجموح فحول، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرهما، وأما قبر خارجة وسعد بن الربيع فتركا، وذلك لأن مكانهما كان معتزلاً، وسوى عليهما التراب، ولقد كانوا يحفرون التراب، فكلما حفروا فتراً من تراب فاح عليهم المسك.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لجابر: يا جابر، ألا أبشرك؟ قال، قلت: بلى بأبي وأمي؟ قال: فإن الله أحيا أباك. ثم كلمه كلاماً فقال: تمن على ربك ما شئت. فقال: أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك، ثم أحيا فأقتل مع نبيك. قال: إني قد قضيت أنهم لا يرجعون.
قالوا: وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة، وهي امرأة غزية بن عمرو، وشهدت أحداً هي وزوجها وابناها، وخرجت، معها شنٌّ لها في أول النهار تريد أن تسقي الجرحى، فقاتلت يومئذٍ وأبلت بلاءً حسناً، فجرحت اثني عشر جرحاً بين طعنةٍ برمحٍ أو ضربةٍ بسيف.

فكانت أم سعد بنت سعد بن ربيع تقول: دخلت عليها فقالت لها: يا خالة، حدثني خبرك. فقالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاءٌ فيها ماءٌ، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعلت أباشر القتال وأدب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراح. فرأيت على عاتقها جرحاً له غورٌ أجوف، فقلت: يا أم عمارة، من أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة، وقد ولي الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يصيح: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا؟ فاعترض له مصعب بن عمير وأناس معه، فكنت فيهم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضرباتٍ، ولكن عدو الله كان عليه درعان. قلت: يدك، ما أصابها؟ قالت: أصيبت يوم اليمامة لما جعلت الأعراب ينهزمون بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا، فأخلصت الأنصار، فكنت معهم، حتى انتهينا إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة، ودخلتها وأنا أريد عدو الله مسيلمة، فيعترض لي رجلٌ منهم فضرب يدي فقطعها، فوالله ما كانت لي ناهيةٌ ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عب الله بن زيد المازني يمسح سيفه بثيابه. فقلت: قتلته؟ قال: نعم. فسجدت شكراً لله.
وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان! وكان يراها تقاتل يومئذٍ أشد القتال، وإنها لحاجزةٌ ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً. فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها، فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها ثلاثة عشر جرحاً. وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلّم: إلى حمراء الأسد! فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم. ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك.
حدثنا عبد الجبار بن عمارة، عن عمارة بن غزية قال: قالت أم عمارة: قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل! فألقى ترسه فأخذته فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله! فيقبل رجلٌ على فرسٍ فضربني، وترست له فلم يصنع سيفه شيئاً وولى، وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره. فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يصيح: يا ابن أم عمارة، أمك، أمك! قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: جرحت يومئذٍ جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجلٌ كأنه الرقل ولم يعرج علي ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اعصب جرحك. فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلّم واقفٌ ينظر، ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة.؟ قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هذا ضارب ابنك. قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقدت يا أم عمارة! ثم أقبلنا إليه نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك.

حدثنا يعقوب بن محمد، عن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: أتى عمر بن الخطاب، بمروط، فكان فيها مرطٌ واسع جيد، فقال بعضهم: إن هذا المرط لثمن كذا وكذا، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد وذلك حدثنا ما دخلت على ابن عمر. فقال: أبعث به إلى من هو أحق منها، أم عمارة نسيبة بنت كعب. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد يقول: ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني.
فقال الواقدي: حدثني سعيد بن أبي زيد. عن مروان بن أبي سعيد ابن المعلى، قال: قيل لأم عمارة: هل كن نساء قريش يومئذٍ يقاتلن مع أزواجهن؟ فقالت: أعوذ بالله، ما رأيت امرأة منهن رمت بسهمٍ ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجلٌ أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلةً ويقلن: إنما أنت امرأة! ولقد رأيتهن ولين منهزماتٍ مشمراتٍ ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق. ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلقٌ، قاعدةً خاشيةً من الخيل ما بها مشيٌ، ومعها امرأة أخرى، حتى كر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذٍ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، قال: سمعت عبد الله بن زيد ابن عاصم يقول: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما تفرق الناس عنه دنوت منه، وأمي تذب عنه، فقال: يا ابن أم عمارة! قلت: نعم. قال: ارم! فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر، وهو على فرس، فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقراً، والنبي صلى الله عليه وسلّم ينظر ويتبسم، فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال: أمك، أمك! اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيتٍ! مقام أمك خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك يعني زوج أمه خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقامك لخيرٌ من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت! قالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. قال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
قالوا: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد. وكان قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة! فأشهدت عليه أنه قد دخل بها. وتعلق بعبد الله بن حنظلة، ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس.
وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد وهو يسوي الصفوف، قال: فلما انكشف المشركون اعترض حنظلة ابن أبي عامر لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس، ويقع أبو سفيان إلى الأرض، فجع يصيح: يا معشر قريش، أنا أبو سفيان بن حرب! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالاً لا يلتفتون إليه من الهزيمة حتى عاينه الأسود بن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه، فمشى حنظلة إليه بالرمح وقد أثبته، ثم ضربه الثانية فقتله. وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعض قريش، فنزل عن صدر فرسه وردف وراء أبي سفيان فذلك قول أبي سفيان. فلما قتل حنظلة مر عليه أبوه، وهو مقتولٌ إلى جنب حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن جحش، فقال: إن كنت لأحذرك هذا الرجل من قبل هذا المصرع، والله إن كنت لبراً بالوالد، شريف الخلق في حياتك، وإن مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم. وإن جزى الله هذا القتيل لحمزة خيراً ، أو أحداً من أصحاب محمد، فجزاك الله خيراً. ثم نادى: يا معشر قريش، حنظلة لا يمثل به وإن كان خالفني وخالفكم، فلم يأل لنفسه فيما يرى خيراً. فمثل بالناس وترك فلم يمثل به.

وكانت هند أول من مثل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وأمرت النساء بالمثل جدع الأنوف والآذان فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخدمتان، ومثل بهم كلهم إلا حنظلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماءٍ المزن في صحاف الفضة. قال أبو أسيد الساعدي: فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماءً. قال أبو أسيد: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته أنه خرج وهو جنبٌ.
وأقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، بغنمٍ لهما من جبل مزينة، فوجدا المدينة خلوفاً فسألا: أين الناس؟ قفالوا: بأحد، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقاتل المشركين من قريش. فقالا: لا نبتغي أثراً بعد عين. فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلّم بأحد فيجدان القوم يقتتلون، والدولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من ورائهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشد القتال. فانفرقت فرقةٌ من المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من لهذه الفرقة؟ فقال وهب بن قابوس: أنا يا رسول الله. فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع، فانفرقت فرقةٌ أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من لهذه الكتيبة؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله. فقام فذبها بالسيف حتى ولوا، ثم رجع المزني. ثم طلعت كتيبةٌ أخرى فقال: من يقوم لهؤلاء؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله. فقال: قم وأبشر بالجنة. فقام المزني مسروراً يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل. فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إلى المسلمون، حتى خرج من أقصاهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: اللهم ارحمه! ثم يرجع فيهم فما زال كذلك، وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوجد به يومئذٍ عشرون طعنةً برمح، كلها قد خلصت إلى مقتل، ومثل به أقبح المثل يومئذٍ. ثم قام ابن أخيه فقاتل كنحو قتاله حتى قتل، فكان عمر بن الخطاب يقول: إن أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني.
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فلما فتح الله علينا وقسمت بيننا غنائمنا، فأسقط فتًى من آلل قابوس من مزينة، فجئت سعداً حين فرغ من نومه فقال: بلال؟ قلت: بلال! قال: مرحباً بك، من هذا معك؟ قلت: رجلٌ من قومي من آل قابوس. قال سعد: ما أنت يا فتًى من المزني الذي قتل يوم أحد؟ قال: ابن أخيه. قال سعد: مرحباً وأهلاً، ونعم الله بك عيناً، ذلك الرجل شهدت منه يوم أحد مشهداً ما شهدته من أحد. لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم وسطنا والكتائب تطلع من كل ناحية، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليرمي ببصره في الناس يتوسمهم يقول: من لهذه الكتيبة؟ كل ذلك يقول المازني: أنا يا رسول الله! كل ذلك يردها، فما أنسى آخر مرة قامها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قم وأبشر بالجنة! قال سعد: وقمت على أثره، يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذٍ من الشهادة، فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه رحمه الله، ووددت والله إني كنت أصبت يومئذٍ معه، ولكن أجلي استأخر.ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله وقال: اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك. فقال بلال: إنه يستحب الرجوع. فرجعنا.
وقال سعد: أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفاً عليه وهو مقتول، وهو يقول: رضي الله عنه فإني عنك راضٍ. ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام على قدميه وقد نال النبي صلى الله عليه وسلّم من الجراح ما ناله، وإني لأعلم أن القيام ليشق عليه على قبره حتى وضع في لحده، وعليه بردة لها أعلام خضر، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم البردة على رأسه فخمره، وأدرجه فيها طولاً وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه وهو في لحده، ثم انصرف. فما حالٌ أموت عليها أحب إلي من أن ألقى الله تعالى على حال المزني.

قالوا: ولما صاح إبليس، إن محمداص قد قتل تفرق الناس، فمنهم من ورد المدينة، فكان أول من دخل المدينة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة. ثم ورد بعده رجالٌ حتى دخلوا على نسائهم، حتى جعل النساء يقلن: أعن رسول الله تفرون؟ قال: يقول ابن أم مكتوم: أعن رسول الله تفرون؟ ثم جعل يؤفف بهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم خلفه بالمدينة، يصلي بالناس، ثم قال: اعدلوني على الطريق يعني طريق أحد فعدلوه على الطريق، فجعل يستخبر كل من لقي عن طريق أحد حتى لحق القوم، فعلم بسلامة النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم رجع. وكان ممن ولى فلان، والحارث ابن حاطب، وثعلبة بن حاطب، وسواد بن غزية، وسعد بن عثمان، وعقبة ابن عثمان، وخارجة بن عامر، بلغ ملل، وأوس بن قيظي في نفرٍ من بني حارثة، بلغوا الشقرة ولقيتهم أم أيمن تحثى في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك! فوجهت إلى أحد مع نسياتٍ معها.
وقد قال بعض من يروى الحديث: إن المسلمين لم يعدوا الجبل، وكانوا في سفحه، ولم يجاوزوه إلى غيره، وكان فيه النبي صلى الله عليه وسلّم.
ويقال: إنه كان بين عبد الرحمن وعثمان كلامٌ، فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه فقال: اذهب إلى أخيك فبلغه عني ما أقول لك، فإني لا أعلم أحداً يبلغه غيرك. قال الوليد: أفعل. قال: قل، يقول لك عبد الرحمن: شهدت بدراً ولم تشهد، وثبت يوم أحد ووليت عنه، وشهدت بيعة الرضوان ولم تشهدها. فجاءه فأخبره فقال عثمان: صدق أخي! تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي مريضة، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمي وأجرى فكنت بمنزلة من حضر. ووليت يوم أحد، فقد عفا الله ذلك عني، فأما بيعة الرضوان فإني خرجت إلى أهل مكة، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن عثمان في طاعة الله وطاعة رسوله. وبايع النبي صلى الله عليه وسلّم إحدى يديه الأخرى، فكانت شمال النبي صلى الله عليه وسلّم خيراً من يميني. فقال عبد الرحمن حين جاءه الوليد بن عقبة: صدق أخي! ونظر عمر بن الخطاب إلى عثمان بن عفان فقال: هذا ممن عفا الله عنه، والله ما عفا الله عن شيءٍ فرده، وكان تولى يوم التقى الجمعان.
وسأل رجلٌ ابن عمر عن عثمان فقال: إنه أذنب يوم أحد ذنباً عظيماً، فعفا الله عنه، وهو ممن تولى يوم التقى الجمعان، وأذنب فيكم ذنباً صغيراً فقتلتموه!.
وقال علي: لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وهو دارع مقنع في الحديد، ما يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: يومٌ بيوم بدر. فيعترض له رجلٌ من المسلمين فيقتله أمية. قال علي عليه السلام: وأصمد له فأضربه بالسيف على هامته وعليه بيضةٌ وتحت البيضة مغفر فنبا سيفي، وكنت رجلاً قصيراً. ويضربني بسيفه فأتقي بالدرقة، فلحج سيفه فأضربه، وكانت درعه مشمرة، فأقطع رجليه، ووقع فجعل يعالج سيفه حتى خلصه من الدرقة، وجعل يناوشني وهو باركٌ على ركبتيه، حتى نظرت إلى فتق تحت إبطه فأخش بالسيف فيه، فمال ومات وانصرفت عنه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ: أنا ابن العواتك. وقال أيضاً: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب! وقالوا: أتينا عمر بن الخطاب في رهط من المسلمين قعوداً، ومر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك فقال: ما يقعدكم؟ قالوا: قتل رسول الله: قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه! ثم جالد بسيفه حتى قتل. فقال عمر بن الخطاب: إني لأرجو أن يبعثه الله أمةً وحده يوم القيامة. ووجد به سبعون ضربةً في وجهه، ما عرف حتى عرفت أخته حسن بنانه، ويقال حسن ثناياه.
قالوا: ومر مالك بن الدخشم على خارجة بن زيد بن أبي زهير، وهو قاعدٌ في حشوته، به ثلاثة عشر جرحاً، كلها قد خلصت إلى مقتل، فقال: أما علمت أن محمداً قد قتل؟ قال خارجة: فإن كان قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقد بلغ محمد، فقاتل عن دينك! ومر على سعد بن الربيع وبه اثنا عشر جرحاً، كلها قد خلص إلى مقتلٍ، فقال: علمت أن محمداً قد قتل؟ قال سعد بن الربيع: أشهد أن محمداً قد بلغ رسالة ربه، فقاتل عن دينك، فإن الله حي لا يموت!

وقال منافق: إن رسول الله قد قتل فارجعوا إلى قومكم، فإنهم داخلوا البيوت.
حدثني عبد الله بن عمار، عن الحارث بن الفضيل الخطمي. قال: أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذٍ والمسلمون أوزاعٌ، قد سقط في أيديهم، فجعل يصيح: يا معشر الأنصار، إلي! إلي! أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمدٌ قد قتل فإن الله حي لا يموت! فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم! فنهض إليه نفرٌ من الأنصار، فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، وقد وقفت لهم كتيبةٌ خشناء، فهيا رؤساؤهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فجعلوا يناوشونهم. وحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح، فطعنه فأنفذه فوقع ميتاً. وقتل من كان معه من الأنصار. فيقال إن هؤلاء لآخر من قتل من المسلمين، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الشعب مع أصحابه، فلم يكن هناك قتالٌ.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أحد قد خاصم إليه يتيمٌ من الأنصار أبا لبابة في عذقٍ بينهما، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي لبابة، فجزع اليتيم على العذق، وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم العذق إلى أبي لبابة لليتيم، فأبى أبو لبابة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لأبي لبابة: لك به عذقٌ في الجنة. فأبى أبو لبابة، فقال ابن الدحداحة: يا رسول الله، أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه، مالي؟ قال: عذقٌ في الجنة. قال: فذهب ثابت بن الدحداحة فاشترى من أبي لبابة ابن عبد المنذر ذلك العذق بحديقة نخل، ثم رد على الغلام العذق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: رب عذقٍ مذللٍ لابن الدحداحة في الجنة.
فكانت ترجى له الشهادة لقوله صلى الله عليه وسلّم حتى قتل بأحد.
ويقبل ضرار بن الخطاب فارساً، يجر قناة له طويلة، فيطعن عمرو ابن معاذ فأنفذه، ويمشي عمرو إليه حتى غلب، فوقع لوجهه. يقول ضرار: لا تعدمن رجلاً زوجك من الحور العين. وكان يقول: زوجت عشرة من أصحاب محمد. قال ابن واقد: سألت ابن جعفر، هل قتل عشرة؟ فقال: لم يبلغنا أنه قتل إلا ثلاثة. وقد ضرب يومئذٍ عمر بن الخطاب حيث جال المسلمون تلك الجولة بالقناة. قال: يا ابن الخطاب، إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك! وكان ضرار بن الخطاب يحدث ويذكر وقعة أحد، ويذكر الأنصار ويترحم عليهم، ويذكر غناءهم في الإسلام، وشجاعتهم، وتقدمهم على الموت، ثم يقول: لما قتل أشراف قومي ببدر جعلت أقول: من قتل أبا الحكم؟ يقال: ابن عفراء. من قتل أمية بن خلف؟ يقال: خبيب ابن يساف. من قتل فلاناً؟ فيسمي لي. من أسر سهيل بن عمرو؟ قالوا: مالك بن الدخشم. فلما خرجنا إلى أحد وأنا أقول: إن أقاموا في صياصيهم فهي منيعة، لا سبيل لنا إليهم، نقيم أياماً ثم ننصرف، وإن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم معنا عددٌ كثيرٌ أكثر من عددهم وقوم موتورون خرجنا بالظعن يذكرننا قتلى بدر، ومعنا كراعٌ ولا كراع معهم، ومعنا سلاح أكثر من سلاحهم. فقضى لهم أن خرجوا، فالتقينا، فوالله ما أقمنا لهم حتى هزمنا وانكشفنا مولين، فقلت في نفسي: هذه أشد من وقعة بدر! وجعلت أقول لخالد بن الوليد: كر على القوم! فجعل يقول: وترى وجهاً نكر فيه؟ حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خالياً، فقلت: أبا سليمان، انظر وراءك! فعطف عنان فرسه، فكر وكررنا معه، فانتهينا إلى الجبل فلم نجد عليه أحداً له بالٌ، وجدنا نفيراً فأصبناهم، ثم دخلنا العسكر، والقوم غارون ينتهبون العسكر، فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه، ووضعنا السيوف فيهم حيث شئنا. وجعلت أطلب الأكابر من الأوس والخزرج قتلة الأحبة فلا أرى أحداً، قد هربوا، فما كان حلب ناقة حتى تداعيت الأنصار بينها، فأقبلت فخالطونا ونحن فرسان، فصبروا لنا، وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي وترجلت، فقتلت منهم عشرة. ولقيت من رجلٍ منهم الموت الناقع حتى وجدت ريح الدم، وهو معانقي، ما يفارقني حتى أخذته الرماح من كل ناحية ووقع، فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي ولم يهني بأيديهم.

وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: من له علم بذكوان بن عبد قيس؟ قال علي عليه السلام: أنا رأيت يا رسول الله فارساً يركض في أثره حتى لحقه وهو يقول: لا نجوت إن نجوت! فحمل عليه بفرسه، وذكوان راجلٌ، فضربه وهو يقول: خذها وأنا ابن علاج! فأهويت إليه وهو فارس، فضربت رجله بالسيف حتى قطعتها عن نصف الفخذ، ثم طرحته من فرسه فذففت عليه، وإذا هو أبو الحكم بن الأخنس بن شريق ابن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي.
وحدثني صالح بن خوات، عن يزيد بن رومان، قال: قال خوات بن جبير: لما كر المشركون انتهوا إلى الجبل، وقد عرى من القوم، وبقي عبد الله بن جبير في عشرة نفرٍ، فهم على رأس عينين، فلما طلع خالد ابن الوليد وعكرمة في الخيل، قال لأصحابه: انبسطوا نشراً لئلا يجوز القوم! فصفوا وجه العدو، واستقبلوا الشمس، فقاتلوا ساعة حتى قتل أميرهم عبد الله بن جبير، وقد جرح عامتهم، فلما وقع جردوه ومثلوا به أقبح المثل، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته، فكانت حشوته قد خرجت منها، فلما جال المسلمون تلك الجولة مررت به على تلك الحال، فلقد ضحكت في موضعٍ ما ضحك فيه أحدٌ قط ونعست في موضعٍ ما نعس فيه أحدٌ، وبخلت في موضعٍ ما بخل فيه أحد. فقيل: ما هي؟ قال: حملته فأخذت بضبعيه، وأخذ أبو حنة برجليه، وأخذ أبو حنة برجليه، وقد شددت جرحه بعمامتي، فبينا نحن نحمله والمشركين ناحيةً إلى أن سقطت عمامتي من جرحه فخرجت حشوته، ففزع صاحبي وجعل يلتفت وراءه يظن أنه العدو، فضحكت. ولقد شرع لي رجلٌ برمح يستقبل به ثغرة نحري، فغلبني النوم وزال الرمح. ولقد رأيتني حين انتهيت إلى الحفر له، ومعي قوسي، وغلظ علينا الجبل فهبطنا به الوادي، فحفرت بسية القوس وفيها الوتر، فقلت: لا أفسد الوتر! فحللته ثم حفرت بسيتها حتى أنعمنا، ثم غيبناه وانصرفنا، والمشركون بعد ناحيةً، وقد تحاجزنا، فلم يلبثوا أن ولوا.
قالوا: وكان وحشيٌّ عبداً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل ويقال كان لجبير بن مطعم فقالت ابنة الحارث: إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر، إن قتلت محمداً، أو حمزة بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب، فإني لا أرى في القوم كفؤاً لأبي غيرهم. قال وحشي: أما رسول الله فقد علمت أني لا أقدر عليه، وأن أصحابه لن يسلموه. وأما حمزة فقلت: والله لو وجدته نائماً ما أيقظته من هيبته، وأما علي فقد كنت ألتمسه. قال: فبينا أنا في الناس ألتمس علياً إلى أن طلع علي، فطلع رجلٌ حذرٌ مرسٌ، كثير الالتفات، فقلت: ما هذا صاحبي الذي ألتمس! إذ رأيت حمزة يفرى الناس فرياً، فكمنت إلى صخرة، وهو مكبسٌ، له كثيب، فاعترض له سباع ابن أم أنمار وكانت أمه ختانة بمكة مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان سباع يكنى أبا نيار فقال له حمزة: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا. هلم إلي! فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به، فبرك عليه فشحطه شحط الشاة. ثم أقبل إلى مكبسا حين رآني، فلما بلغ المسيل وطىء على جرفٍ فزلت قدمه، فهززت حربتي حتى رضيت منها، فأضرب بها في خاضرته حتى خرجت من مثانته. وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون: أبا عمارة! فلا يجيب، فقلت: قد والله مات الرجل! وذكرت هنداً وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا موته ولا يروني، فأكر عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة، فقلت: ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟. قالت: سلبى! فقلت: هذه كبد حمزة. فمضغتها ثم لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها. فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير. ثم قالت: أرني مصرعه! فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة، وقدمت يكبده معها.

فحدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن الزهري، عن عرو، قال: حدثنا عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فمررنا بحمص بعد العصر، فقلنا: وحشى! فقالوا: لا تقدرون عليه، هو الآن يشرب الخمر حتى يصبح. فبتنا من أجله وإنا لثمانون رجلاً، فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله، فإذا شيخٌ كبيرٌ، قد طرحت له زربية قدر مجلسه، فقلنا له: أخبرنا عن قتل حمزة وعن مسيلمة، فكره ذلك وأعرض عنه، فقلنا له: ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك. فقال: إني كنت عبداً لجبير بن مطعم بن عدي، فلما خرج الناس إلى أحد دعاني فقال: قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي، قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر، فلم تزل نساؤنا في حزنٍ شديدٍ إلى يومي هذا، فإن قتلت حمزة فأنت حر. قال: فخرجت مع الناس ولي مزاريق، وكنت أمر بهند بنت عتبة فتقول: إيه أبا دسمة، اشف واشتف! فلما وردنا أحداً نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هداً فرآني وأنا قد كمنت له تحت شجرة، فأقبل نحوي ويعترض له سباع الخزاعي، فأقبل إليه فقال: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علنيا هلم إلي! قال: وأقبل حمزة فاحتمله حتى رأيت برقان رجليه، ثم ضرب به الأرض ثم قتله. وأقبل نحوي سريعاً حتى يعترض له جرفٌ فيقع فيه، وأزرقه بمزراقي فيقع في ثنته حتى خرج من بين رجليه، فقتلته، وأمر بهند بنت عتبة فأعطتني حليها وثيابها.
وأما مسيلمة، فإنا دخلنا حديقة الموت، فلما رأيته زرقته بالمزراق وضربه رجلٌ من الأنصار بالسيف، فربك أعلم أينا قتله إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق الدير: قتله العبد الحبشي.
قال عبيد الله: فقلت: أتعرفني؟ قال: فأكر بصره علي، وقال: ابن عدي ولعاتكة بنت أبي العيص! قال: قلت: نعم. قال: أما والله ما لي بك عهدٌ بعد أن رفعتك إلى أمك في محفتها التي ترضعك فيها، ونظرت إلى برقان قدميك حتى كأن الآن.
وكان في ساقي هند خدمتان من جزع ظفار، ومسكتان من ورق، وخواتم من ورق، كن في أصابع رجليها، فأعطتني ذلك.
وكانت صفيه بنت عبد المطلب تقول: رفعنا في الآطام ومعنا حسان بن ثابت ونحن في فارع، فجاء نفرٌ من اليهود يرمون الأطم، فقلت: عندك يا ابن الفريعة! فقال: لا والله، ما أستطيع، ما يمنعني أن أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد! ويصعد يهودي إلى الأطم فقلت: شد على يدي السيف، ثم برئت! ففعل. قالت: فضربت عنقه، ثم رميت برأسه إليهم، فلما رأوه انكشفوا. قالت: وإني في فارع أول النهار مشرفة على الأطم، فرأيت المزراق يزرق به، فقلت: أومن سلاحهم المزاريق؟ أفلا أراه هوى إلى أخي ولا أشعر. قالت: ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وكانت تحدث تقول: كنت أعرف انكشاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا أعلم على الأطم، يرجع حسان إلى أقصى الأطم، فإذا رأى الدولة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أقبل حتى يقف على جدار الأطم. قالت: ولقد خرجت والسيف في يد، حتى إذا كنت في بني حارثة أدركت نسوة من الأنصار وأم أيمن معهن، فكان الجمز منا حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه أوزاعٌ، فأول من لقيت علي ابن أخي، فقال: ارجعي يا عمة فإن في الناس تكشفاً فقلت: رسول الله؟ فقال: صالحٌ بحمد الله! قلت: ادللني عليه حتى أراه. فأشار لي إليه إشارةً خفيةً من المشركين، فانتهيت إليه وبه الجراحة. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ما فعل عمي؟ ما فعل عمي حمزة؟ فخرج الحارث بن الصمة فأبطأ، فخرج علي بن أبي طالب، وهو يرتجز ويقول:
يا رب إن الحارث بن الصمه ... كان رفيقاً وبنا ذا ذمه
قد ضل في مهامهٍ مهمه ... يلتمس الجنة فيما تمه

قال الواقدي: سمعتها من الأصبغ بن عبد العزيز وأنا غلام، وكان بسن أبي الزناد حتى انتهى إلى الحارث ووجد حمزة مقتولاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم يمشي حتى وقف عليه، فقال: ما وقفت موقفاً قط أغيظ إلي من هذا الموقف! فطلعت صفية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا زبير أغن عني أمك، وحمزة يحفر له. فقال: يا أمه، إن في الناس تكشفاً فارجعي. فقالت: ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت: يا رسول الله، أين ابن أمي حمزة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هو في الناس. قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه. قال الزبير: فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن حمزة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لولا أن يحزن ذلك نساءنا، لتركناه للعافية يعني السباع والطير حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع وحواصل الطير.
ونظر صفوان بن أمية إلى حمزة يومئذٍ وهو يهد الناس فقال: من هذا؟ قالوا: حمزة بن عبد المطلب. فقال: ما رأيت كاليوم رجلاً أسرع في قومه وكان يومئذٍ معلماً بريشة نسر. ويقال: لما أصيب حمزة جاءت صفية بنت عبد المطلب تطلبه، فحالت بينها وبينه الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دعوها! فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإذا نشجت ينشج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكانت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلّم تبكي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا بكت بكى، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: لن أصاب بمثلك أبداً! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أبشرا! أتاني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوبٌ في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله.
قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثلاً شديداً فأحزنه ذلك المثل، ثم قال: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم! فنزلت هذه الآية: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين " . فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمثل بأحدٍ.
وجعل أبو قتادة يريد أن ينال من قريش، لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قتل حمزو وما مثل به، كل ذلك يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلّم أن اجلس ثلاثاً وكان قائماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أحتسبك عند الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا قتادة، إن قريشاً أهل أمانةٍ، من بغاهم العواثر كبه الله لفيه، وعسى إن طالت بك مدةٌ أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم، لولا أن تبطر قريشٌ لأخبرتها بما لها عند الله. قال أبو قتادة: والله يا رسول الله، ما غضبت إلا لله ولرسوله حين نالوا منه ما نالوا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم! وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله، إن هؤلاء قد نزلوا حيث ترى، وقد سألت الله عز وجل ورسوله فقلت: اللهم إني أقسم عليك أن نلقى العدو غداً فيقتلونني ويبقرونني ويمثلون بي، فألقاك مقتولاً قد صنع هذا بي، فتقول: فيم صنع بك هذا! فأقول: فيك! وأنا أسألك أخرى: أن تلى تركتي من بعدي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج عبد الله وقاتل حتى قتل، ومثل به كل المثل ودفن، ودفن هو وحمزة في قبرٍ واحد. وولى تركته رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاشترى لأمه مالاً بخيبر.

وأقبلت حمنة بنت جحش وهي أخته، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا حمن، احتسبي! قالت: من يا رسول الله! قال: خالك حمزة. قالت: إنا الله وإنا إلي راجعون، غفر اللله له ورحمه، هنيئاً له الشهادة! ثم قال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟ قال: أخوك. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئاً له الجنة! ثم قال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟ قالت: مصعب بن عمير. قالت: واحزناه! ويقال إنها قالت: واعقراه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن للزوج من المرأة مكاناً ما هو لأحد. ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لم قلت هذا؟ قالت: يا رسول الله، ذكرت يتم بنيه فراعني. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لولده أن يحسن عليهم من الخلف، فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت له محمد بن طلحة، وكان أوصل الناس لولده. وكانت حمنة خرجت يومئذٍ إلى أحد مع النساء يسقين الماء.
وخرجت السميراء بنت قيس إحدى نساء بني دينار، وقد أصيب ابناها مع النبي صلى الله عليه وسلّم بأحد، النعمان بن عبد عمرو، وسليم بني الحارث، فلما نعيا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قالوا: خيراً، هو بحمد الله صالحٌ على ما تحبين. قالت: أرونيه أنظر إليه! فأشاروا لها إليه فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جللٌ. وخرجت تسوق بابنيها بعيراً تردهما إلى المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها فقالت: ما وراءك؟ قالت: أما رسول الله، بحمد الله فبخير، لم يمت! واتخذ الله من المؤمنين شهداء " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال " . قالت: من هؤلاء معك؟ قالت: ابناي.....حل! حل! وقالوا: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من يأتيني بخبر سعد بن ربيع؟ فإني قد رأيته وأشار بيده إلى ناحيةٍ من الوادي وقد شرع فيه اثنا عشر سناناً. قال: فخرج محمد بن مسلمة ويقال أبي بن كعب فخرج نحو تلك الناحية. قال: وأنا وسط القتلى أتعرفهم، إذ مررت به صريعاً في الوادي، فناديته فلم يجب، ثم قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسلني إليك! فتنفس كما يتنفس الكير، ثم قال: وإن رسول الله لحيٌّ؟ قال: قلت: نعم، وقد أخبرنا أنه شرع لك اثنا عشر سناناً. قال: طعنت اثنتي عشرة طعنة، كلها أجافتني، أبلغ قومك الأنصار السلام وقل لهم: الله، والله! وما عاهدتم عليه رسول الله ليلة العقبة! والله ما لكم عذرٌ عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عينٌ تطرف! ولم أرم من عنده حتى مات. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم استقبل القبلة رافعاً يديه يقول: اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راضٍ! قالوا: ولما صاح إبليس إن محمداً قد قتل يحزنهم بذلك، تفرقوا في كل وجهٍ، وجعل الناس يمرون على النبي صلى الله عليه وسلّم، لا يلوى عليه أحد منهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى المهراس، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أصحابه في الشعب.
فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لما صار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم كانوا فئته.

وحدثني الضحاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، قال: لما انتهى إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا فئته، فانتهى إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاعٌ، يذكرون مقتل من قتل منهم ويذكرون ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال كعب: وكنت أول من عرفه وعليه المغفر. قال: فجعلت أصيح: هذا رسول الله حياً سوياً! وأنا في الشعب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومىء إلى بيده على فيه أ اسكت، ثم دعا بلأمتي وكانت صفراء أو بعضها فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونزع لأمته. قال: وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أصحابه في الشعب بين السعدين، سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، يتكفأ في الدرع، وكان إذا مشى تكفأ تكفؤاً صلى الله عليه وسلّم ويقال إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله وكان رسو الله صلى الله عليه وسلّم قد جرح يومئذ، فما صلى الظهر إلا جالساً. قال: فقال له طلحة: يا رسول الله، إني بي قوة! فحمله حتى انتهى إلى الصخرة على طريق أحد من أراد شعب الجزارين لم يعدها رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى غيرها، ثم حمله طلحة حتى ارتفع عليها، ثم مضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه. فلما نظر المسلمون من معه جعلوا يولون في الشعب، ظنوا أنهم من المشركين، حتى جعل أبو دجانة يليح إليهم بعمامةٍ حمراء على رأسه، فعرفوه فرجعوا، أو بعضهم.
ويقال إنه لما طعل في النفر الذين ثبتوا معه، الأربعة عشر سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار وجعلوا يولون في الجبل، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتبسم إلى أبي بكر وهو إلى جنبه، ويقول له: ألح إليهم! فجعل أبو بكر يليح، ولا يرجعون حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه، فأوفى على الجبل فجعل يصيح ويليح، فوقفوا حتى تلاحق المسلمون. ولقد وضع أبو بردة بن نيار سهماً على كبد قوسه، فأراد أن يرمي به القوم، فلما تكلموا وناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكأنهم لم يصبوا في أنفسهم مصيبةٌ حين أبصروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبينا هم كذلك عرض الشيطان بوسوسته وتخزيته لهم حين أبصروا عدوهم قد انفرجوا عنهم. قال رافع بن خديج: إني إلى جنب أبي مسعود الأنصاري وهو يذكر من قتل من قومه ويسأل عنهم، فيخبر برجال، منهم سعد بن ربيع وخارجة بن زهير، وهو يسترجع ويترحم عليهم، وبعضهم يسأل بعضاً عن حميمه، فهم يخبرون بعضهم بعضاً. فبيناهم على ذلك رد الله المشركين ليذهب بالحزن عنهم، فإذا عدوهم فوقهم قد علوا، وإذا كتائب المشركين. فنسوا ما كانوا يذكرون، وندبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحضنا على القتال، وإني لأنظر إلى فلان وفلان في عرض الجبل يعدون.
فكان عمر يقول: لما صاح الشيطان قتل محمد أقبلت أرقى في الجبل كأني أرويةٌ، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " الآية، وأبو سفيان في سفح الجبل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. اللهم ليس لهم أن يعلونا! فانكشفوا.
قال أبو أسيد الساعدي: لقد رأيتنا قبل أن يلقى علينا النعاس، وإنا لسلمٌ لمن أرادنا، لما بنا من الحزن، فألقى علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف، وفزعنا وكأنا لم يصبنا قبل ذلك نكبةٌ.
وقال طلحة بن عبيد الله: غشينا النعاس حتى كان حجف القوم تناطح.
وقال الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجلٌ إلا وذقنه في صدره من النوم، فأسمع معتب بن قشير يقول وإني لكالحالم " لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا " فأنزل الله تعالى فيه: " لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا " .
قال أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذٍ في أربعة عشر رجلاً من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد أصابنا النعاس أمنةً منه، ما منهم رجلٌ إلا يغط غطيطاً حتى إن الحجف لتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به، وأخده بعد ما تثلم، وإن المشركين لتحتنا.
وقال أبو طلحة: ألقى علينا النعاس، فكنت أنعس حتى سقط سيفي من يدي. وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذٍ، فكل منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان.

وقالوا: لما تحاجزوا أراد أبو سفيان الانصراف، وأقبل يسير على فرسٍ له حواء أنثى، فأشرف على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في عرض الجبل فنادى بأعلى صوته: اعل هبل! ثم يصيح: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يومٌ بيوم بدر، ألا إن الأيام دولٌ، وإن الحرب سجالٌ، وحنظلة بحنظلة! فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، أجيبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بلى، فأجبه! فقال أبو سفيان: اعل هبل! فقال عمر: الله أعلى وأجل! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت، فعال عنها! ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وهذا عمر. فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، ألا إن الأيام دولٌ، وإن الحرب سجالٌ، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! قال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك! لقد خبنا إذن وخسرنا! قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال عمر: الله مولانا ولا مولى لكم! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب، فعال عنها. ثم قال: قم إلي يا ابن الخطاب، أكلمك. فقام عمر فقال أبو سفيان: أنشدك بدينك، هل قتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة وكان ابن قميئة أخبرهم أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلّم. ثم قال أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عيثاً ومثلاً، ألا إن ذلك لم يكن عن رأى سراتنا. ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إذ كان ذلك فلم نكرهه. ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول! فوقف عمر وقفةً ينتظر ما يقول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قل، نعم. فقال عمر: نعم! ثم انصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون فاشتدت شفقتهم من أن يغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص: ائتنا بخبر القوم، إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهي الغارة على المدينة، والذي نفسي بيده، لئن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم.
قال سعد: فوجهت أسعى، وأرصدت في نفسي إن أفزعني شيءٌ رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأنا أسعى، فبدأت بالسعي حين ابتدأت، فخرجت في آثارهم حتى إذا كانوا بالعقيق، وكنت حيث أراهم وأتأملهم، فإذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فقلت: إنه الظغن إلى بلادهم. فوقفوا وقفةً بالعقيق وتشاوروا في دخول المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: قد أصبتم القوم، فانصرفوا فلا تدخلوا عليهم وأنتم كالون، ولكم الظفر، فإنكم لا تدرون ما يغشاكم. قد وليتم يوم بدر، والله ما تبعوكم الظفر لهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نهاهم صفوان! فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين، قد دخلوا في المكيمين، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو كالمنكسر، فقال: وجه القوم يا رسول الله إلى مكة، امتطوا الإبل وجنبوا الخيل. فقال: ما تقول؟ فقلت ذلك، ثم خلا بي فقال: حقاً ما تقول؟ قلت: نعم يا رسول الله. فقال: مالي رأيتك منكسراً؟ قال، فقلت: كرهت أن آتي المسلمين فرحاً بقفولهم إلى بلادهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن سعداً لمجرب! ويقال إن سعداً لما رجع يرفع صوته بأن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشير إلى سعد أن اخفض صوتك! قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الحرب خدعةٌ! فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم، فإنما رجهم الله تبارك وتعالى.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك، ولا تفت أعضاد المسلمين. فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل فرجع، فما ملك أن جعل يصيح سروراً بانصرافهم.
فلما قدم أبو سفيان على قريش بمكة لم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه! وحلق رأسه.

وقيل لعمرو بن العاص: كيف كان افتراق المشركين والمسلمين يوم أحد؟ فقال: ما تريد إلى ذلك؟ قد جاء الله بالإسلام ونفى الكفر وأهله. ثم قال: لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم وتفرقوا في كل وجهٍ. وفاءت لهم فئةٌ بعد، فتشاورت قريش فقالوا: لنا الغلبة، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس، وقد تخلف ناسٌ من الأوس والخزرج، ولا نأمن أن يكروا علينا وفينا جراحٌ، وخيلنا عامتها قد عقرت من النبل. فمضوا، فما بلغنا الروحاء حتى قام علينا عدة منها، ومضينا.
ذكر من قتل بأحد من المسلمينحدثنا محمد بن شجاع قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني سليمان ابن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: قتل من الأنصار بأحد سبعون.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن ربيح بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخذري مثله. وحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن مجاهدٍ مثله، أربعةٌ من قريش وسائرهم من الأنصار المزني، وابن أخيه، وابنا الهبيت أربعة وسبعون، هذا المجتمع عليه.
ومن بني هاشم: حمزة بن عبد المطلب، قتله وحشي، هذا الأصح لا. اختلاف فيه عندنا.
ومن بني أمية: عبد الله بن جحش بن رئاب، قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق.
ويقال خمسة من قريش من بني أسد: سعد مولى حاطب، ومن بني مخزوم: شماس بن عثمان بن الشريد، قتله أبي بن خلف.
ويقال إن أبا سلمة بن عبد الأسد أصابه جرحٌ بأحد، فلم يزل جريحاً حتى مات بعد ذلك. فغسل ببني أمية بن زيد بالعالية بين قرنى البئر التي صارت لعبد الصمد بن علي اليوم.
ومن بني عبد الدار: مصعب بن عمير، قتله ابن قميئة.
ومن بني سعد بن ليث: عبد الله وعبد الرحمن ابنا الهبيت.
ومن مزينة رجلان: وهب بن قابوس، وابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس.
ومن الأنصار، ثم من بني عبد الأشهل، اثنا عشر رجلاً: عمرو بن معاذ بن النعمان، قتله ضرار بن الخطاب، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، قتله أبو سفيان ابن حرب، وعمرو بن ثابت بن وقش، قتله ضرار بن الخطاب، ورفاعة ابن وقش، قتله خالد بن الوليد، واليمان أبو حذيفة، قتله المسلمون خطأً، ويقال عتبة بن مسعود قتله خطأً، وصيفي بن قيظي، قتله ضرار بن الخطاب، والحباب بن قيظي، وعباد بن سهل، قتله صفوان بن أمية. ومن أهل راتج، وهم إلى عبد الأشهل: إياس بن أوس بن عتيك بن عبد الأعلم ابن زعوراء بن جشم، قتله ضرار بن الخطاب، وعبيد بن التيهان، قتله عكرمة بن أبي جهل، وحبيب بن قيم.
ومن بني عمرو بن عوف، ثم من بني ضبيعة بن زيد: أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد بن ضبيعة، وهو أبو البنات الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدق الله عز وجل.
ومن بني أمية بن زيد بن ضبيعة: حنظلة بن أبي عامر، قتله الأسود ابن شعوب.
ومن بني عبيد بن زيد: أنيس بن قتادة، قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق، وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير النبي صلى الله عليه وسلّم على الرماة، قتله عكرمة بن أبي جهل.
ومن بني غنم بن السلم بن مالك بن أوس: خيثمة أبو سعد، قتله هبيرة بن أبي وهب.
ومن بني العجلان: عبد الله بن سلمة، قتله ابن الزبعري.
ومن بني معاوية: سبسق بن حاطب بن الحارث بن هيشة، قتله ضرار بن الخطاب ثمانية.
ومن بلحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد بن أبي زهير، قتله صفوان ابن أمية، وسعد بن ربيع، دفنا في قبرٍ واحد. وأوس بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن ثعلبة بن كعب أربعة.
ومن بني الأبجر، وهم بنو خدرة: مالك بن سنان بن الأبجر، وهو أبو أبي سعيد الخدري، قتله غراب بن سفيان ، وسعد بن سويد بن قيس بن عامر بن عمار بن الأبجر، وعتبة بن ربيع بن رافع بن معاوية ابن عبيد بن ثعلبة ثلاثة.
ومن بني ساعدة: ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد بن تميلة، وحارثة ابن عمرو، ونفث بن فورقبن البدي ثلاثة.
ومن بني طريف: عبد الله بن ثعلبة، وقيس بن ثعلبة، وطريف وضمرة، حليفان لهم من جهينة.

ومن بني عوف بن الخزرج، من بني سالم، ثم من بني مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم: نوفل بن عبد الله، قتله سفيان بن عويف، والعباس بن عبادة بن نضلة، قتله سفيان بن عبد شمس السلمى، والنعمان بن مالك بن ثعلبة بن غنم، قتله صفوان بن أمية، وعبدة بن الحسحاس، دفنا في قبرٍ واحد. ومجذر بن ذياد، قتله الحارث بن سويد غيلةً.
حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة، قال: دفن ثلاثة نفر يوم أحد في قبرٍ واحد نعمان بن مالك والمجذر بن ذياد، وعبدة بن الحسحاس.

وكانت قصة مجذر بن ذياد أن حضير الكتائب جاء بني عمرو بن عوف فكلم سويد بن الصامت، وخوات بن جبير، وأبا لبابة بن عبد المنذر ويقال سهل بن حنيف فقال: تزوروني فأسقيكم من الشراب وأنحر لكم، وتقيمون عندي أياماً. قالوا: نحن نأتيك يوم كذا وكذا. فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزوراً وسقاهم الخمر، وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم، وكان سويد يومئذٍ شيخاً كبيراً. فلما مضت الثلاثة الأيام، قالوا: ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا. فقال حضير: ما أحببتم! إن أحببتم فأقيموان وإن أحببتم فانصرفوا فخرج الفتيان بسويد يحملانه حملاً من الثمل، فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريباً من بني غصينة وهي وجاه بني سالم إلى مطلع الشمس. فجلس سويد وهو يبول، وهو ممتلى سكراً، فبصر به إنسان من الخزرج، فخرج حتى أتى المجذر بن ذياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟ قال: ما هي؟ قال: سويد! أعزل لا سلاح معه، ثملٌ! قال: فخرج المجذر ابن ذياد بالسيف صلتاً، فلما رآه الفتيان وليا، وهما أعزلان لا سلاح معهما والعداوة بين الأوس والخزرج فانصرفا سريعين. وثبت الشيخ ولا حراك به، فوقف عليه مجذر بن ذياد، فقال: قد أمكن الله منك! فقال: ما تريد بي؟ قال: قتلك. قال: فارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ، وإذا رجعت إلى أمك فقل: إني قتلت سويد بن الصامت. وكان قتله هيج وقعة بعاث، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت ومجذر بن ذياد، فشهدا بدراً فجعل الحارث يطلب مجذراً ليقتله بأبيه، فلا يقدر عليه يومئذٍ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذراً غيلةً، وأمره بقتله. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قباء في اليوم الذي أخبره جبريل، في يومٍ حارٍّ، وكان ذلك يوماً لا يركب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قباء، إنما كانت الأيام التي يأتي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم قباء يوم السبت ويوم الاثنين. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلي. وسمعت الأنصار فجاءت تسلم عليه، وأنكروا إتيانه في تلك الساعة وفي ذلك اليوم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتحدث ويتصفح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عويم بن ساعدة فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن ذياد، فإنه قتله يوم أحد. فأخذه عويم فقال الحارث: دعني أكلم رسول الله! فأبى عويم عليه، فجابذه يريد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يركب، ودعا بحماره على باب المسجد، فجعل الحارث يقول: قد والله قتلته يا رسول الله. والله ما كان قتلي إياه رجوعاً عن الإسلام ولا ارتياباً فيه، ولكنه حمية الشيطان وأمرٌ وكلت فيه إلى نفسي. وإني أتوب إلى الله وإلى رسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، وأطعم ستين مسكيناً، إني أتوب إلى الله ورسوله! وجعل يمسك بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبنو المجذر حضورٌ لا يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئاً حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم فاضرب عنقه! وركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقدمه عويم على باب المسجد فضرب عنقه. ويقال: إن خبيب بن يساف، نظر إليه حين ضرب عنقه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم يفحص عن هذا الأمر. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حماره فنزل عليه جبريل فخبره بذلك في مسيره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عويماً فضرب عنقه. وقال حسان بن ثابت:
يا حار في سنةٍ من نوم أولكم ... أم كنت ويلك مغتراً بجبريل
وأنشدني مجمع بن يعقوب وأشياخهم أن سويد بن الصامت قال عند مقتله هذه الأبيات:
أبلغ جلاساً وعبد الله مألكةً ... وإن كبرت فلا تخذلهما حار
اقتل جدارة إما كنت لاقيها ... والحي عوفاً على عرفٍ وإنكار

ومن بني سلمة: عنترة مولى بني سلمة، قتله نوفل بن معاوية الديلي.
ومن بلحبلى: رفاعة بن عمرو.
ومن بني حرام: عبد الله بن عمرو بن حرام، قتله سفيان بن عبد شمس، وعمرو بن الجموح، وخلاد بن عمرو بن الجموح، قتله الأسود بن جعونه ثلاثة.
ومن بني حبيب بن عبد حارثة: المعلى بن لوذان بن حارثة بن رستم بن ثعلبة، قتله عكرمة بن أبي جهل.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق.
ومن بني النجار، ثم من بني سواد: عمرو بن قيس، قتله نوفل بن معاوية الديلي، وابنه قيس بن عمرو، وسليط بن عمرو، وعامر بن مخلد.
ومن بني عمرو بن مبذول: أبو أسيره بن الحارث بن علقمة بن عمرو ابن مالك، قتله خالد بن الوليد، وعمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو.
ومن بني عمرو بن مالك، وهم بنو مغالة: أوس بن حرام.
ومن بني عدي بن النجار: أنس بن النضر بن ضمضم، قتله سفيان ابن عويف.
ومن بني مازن بن النجار: قيس بن مخلد، وكيسان مولاهم، ويقال عبدٌ لهم لم يعتق.
ومن بني دينار: سليم بن الحارث، والنعمان بن عمرو، وهما ابنا السميراء بنت قيس.
استشهد من بني النجار اثنا عشر.
تسمية من قتل من المشركينمن بني أسد: عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث، قتله أبو دجانة.
ومن بني عبد الدار: طلحة بن أبي طلحة يحمل لواءهم، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وعثمان بن طلحة، قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبو سعيد بن أبي طلحة، قتله سعد بن أبي وقاص، ومسافع بن طلحة بن طلحة، قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن طحلة، قتله عاصم بن ثابت، وكلاب بن طلحة، قتله الزبير ابن العوام، والجلاس بن طلحة، قتله طلحة بن عبيد الله، وأرطاة بن عبد شرحبيل، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقاسط بن شريح بن عثمان ثم حمله صؤاب فيقال قتله قزمان، وأبو عزيز بن عمير، قتله قزمان.
ومن بني زهرة: أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وسباع بن عبد العزى الخزاعي، واسم عبد العزى عمرو بن نضلة بن عباس بن سليم وهوابن أم أنمار، قتله حمزة بن عبد المطلب.
ومن بني مخزوم: هشام بن أبي أمية بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد ابن العاص بن هشام، قتله قزمان، وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله علي بن أبي طالب، وخالد بن الأعلم العقيلي، قتله قزمان. حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: أقبل قزمان يشد على المشركين، وتلقاه خالد بن الأعلم، وكل واحد منهما راجلٌ، فاضطربا بأسيافهما.
فيمر بهما خالد بنالوليد فحمل الرمح على قزمان، فسلك الرمح في غير مقتل، شطب الرمح، ومضى خالد وهو يرى أنه قد قتله. فضربه عمرو بن العاص وهما على تلك الحالن وطعنه أخرى فلم يجهز عليه، فلم يزالا يتجاولان حتى قتل قزمان خالد بن الأعلم، ومات قزمان من جراحة به من ساعته. وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، قتله الحارث بن الصمة خمسة.
ومن بني عامر بن لؤي: عبيد بن حاجز، قتله أبو دجانة، وشيبة ابن مالك بن المضر، قتله طلحة بن عبيد الله.
ومن بني جمح: أبي بن خلف، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيده، وعمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، وهو أبوعزة، أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسيراً يوم أحد ولم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد أسيراً غيره، فقال: يا محمد، من علي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك تقول: سخرت بمحمد مرتين! ثم أمر به عاصم بن ثابت فضرب عنقه. قال أبو عبد الله الواقدي: وسمعنا في أسره غير ذلك. حدثنا بكير بن مسمار قال: لما انصرف المشركون عن أحد نزلوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة، ثم رحلوا وتركوا أبا عزة نائماً مكانه حتى ارتفع النهار ولحقه المسلمون، وهو مستنبهٌ يتلدد، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت، فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم فضرب عنقه.
ومن بني عبد مناة بن كنانة: خالد بن سفيان بن عويف، وأبو الشعثاء بن سفيان بن عويف، وأبو الحمراء بن سفيان بن عويف، وغراب بن سفيان بن عويف.

قالوا: فلما انصرف المشركون عن أحد أقبل المسلمون على أمواتهم، فكان حمزة بن عبد المطلب فيمن أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أولاً، صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: رأيت الملائكة تغسله، لأن حمزة رضي الله عنه كان جنباً ذلك اليوم. ولم يغسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الشهداء، وقال: لفوهم بدمائهم وجراحهم، فإنه ليس أحدٌ يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة بجرحه، لونه لون دمس، وريحه ريح مسك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ضعوهم، أنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة. فكان حمزة أول من كبر عليه صلى الله عليه وسلّم أربعاً. ثم جمع إليه الشهداء، فكان كلما أتى بشهيدٍ وضع إلى جنب حمزة بن عبد المطلب فصلى عليه وعلى الشهداء، حتى صلى عليه سبعين مرة لأن الشهداء سبعون. ويقال كان يؤتي بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، ثم يرفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتي بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب فيصلي عليهم، حتى فعل ذلك سبع مرات. ويقال كبر عليهم تسعاً وسبعاً وخمساً.
وكان طلحة بن عبيد الله، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، يقولون: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلى أحد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنا على هؤلاء شهيدٌ. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أليسوا إخواننا، أسلموا كما أسلمنا، وجاهدوا كما جاهدنا؟ قال: بلى، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئاً، ولا أدري ما تحدثون بعدي. فبكى أبو بكر وقال: إنا لكائنون بعدك؟ وحدثني أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: لم يصل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلّم مثله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ للمسلمين: احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآناً. فكان المسلمون يقدمون أكثرهم قرآناً في القبر. وكان ممن يعرف أنه دفن في قبر واحد: عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح، وخارجة بن زيد، وسعد بن ربيع، والنعمان بن مالك، وعبدة بن الحسحاس، في قبرٍ واحد. فلما واروا حمزة بن عبد المطلب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببردة تمد عليه وهو في القبر، فجعلت البردة إذا خمروا رأسه بدت قدماه، وإذا خمروا رجليه تنكشف عن وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: غطوا وجهه! وجعل على رجليه الحرمل، فبكى المسلمون يومئذٍ فقالوا: يا رسول الله، عم رسول الله ، لا نجد له ثوباً! فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: تفتتح يعني الأرياف والأمصار فيخرج إليها الناس، ثم يبعثون إلى أهليهم: إنكم بأرضٍ حجازٍ جرديةٍ الجردية التي ليس بها شيءٌ من الأشجار والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. والذي نفسي بيده، لا يصبر واحدٌ على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة! قالوا: وأتى عبد الرحمن بن عوف بطعام، فقال: حمزة أو رجل آخر لم يوجد له كفن، وقتل مصعب بن عمير ولم يوجد له كفنٌ إلا بردة ، وكانا خيراً مني. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مصعب ابن عمير، وهو مقتولٌ في بردة، فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحدٌ أرق حلةً ولا أحسن لمةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة. ثم أمر به يقبر، ونزل في قبره أخوه أبو الروم، وعامر بن ربيعة، وسويبط بن عمرو ابن حرملة. ونزل في قبر حمزة عليٌّ، والزبير، وأبو بكر، وعمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسٌ على حفرته.

وكان الناس أو عامتهم قد حملوا قتلاهم إلى المدينة، فدفن ببقيع الجبل منهم عدةٌ، عند دار زيد بن ثابت اليوم بالسوق، سوق الظهر، ودفن ببني سلمة بعضهم، ودفن مالك بن سنان في موضع أصحاب العباء الذي عند دار نخلة. ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ردوا القتلى إلى مضاجعهم! وكان الناس قد دفنوا قتلاهم، فلم يرد أحدٌ إلا رجلاً واحداً أدركه المنادي ولم يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزومي، كان حمل إلى المدينة وبه رمقٌ فأدخل على عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلّم، فقالت: أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم: ابن عمي يدخل على غيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: احملوه إلى أم سلمة. فحمل إليها فمات عندها، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ترده إلى أحد، فدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها، وكان قد مكث يوماً وليلة، ولكنه لم يذق شيئاً، ولم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يغسله.
قالوا: وكان من دفن هناك من المسلمين، إنما دفن في الوادي. وكان طلحة بن عبيد الله إذا سئل عن تلك القبور المجتمعة بأحد يقول: قوم من الأعراب كانوا زمان الرمادة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هناك، فماتوا فتلك قبورهم. وكان عباد بن تميم المازني ينكر تلك القبور ويقول: إنما هم قوم ماتوا زمان الرمادة، وكان ابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن محمد يقولان: لا نعرف تلك القبور المجتمعة، إنما هي قبور ناس من أهل البادية، وقبور من قبور الشهداء قد غيبت، لا نعرفهم بالوداي وبالمدينة ونواحيها، إلا أنا نعرف قبرحمزة بن عبد المطلب، وقبر سهل بن قيس، وقبر عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يزورهم في كل حول، وإذا تفوه الشعب رفع صوته فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار! ثم أبو بكر رضي الله عنه كل حول يفعل مثل ذلك، ثم عمرو بن الخطاب رضي الله عنه يفعل مثل ذلك، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم معاوية حين مر حاجاً أو معتمراً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ليت أني غودرت مع أصحاب الجبل. وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم تأتيهم بين اليومين والثلاثة. فتبكي عندهم وتدعو. وكان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ماله بالغابة، فيأتي من خلف قبور الشهداء فيقول: السلام عليكم! ثلاثاً، ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم السلام؟ لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مصعب بن عمير فوقف عليه، ودعا، وقرأ: " رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً " ، أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم! والذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه. وكان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة فيدعو ويقول لمن معه: لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا عليه السلام، فلا تدعوا السلام عليهم وزيارتهم. وكان أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد يحدث أنه كان يذهب مع محمد بن مسلمة وسلمة بن سلامة بن وقش في الأشهر إلى أحد، فيسلمان على قبر حمزة أولها، ويقفان عنده وعند قبر عبد الله بن عمرو ابن حرام مع قبور من هناك. وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم تذهب فتسلم عليهم في كل شهرٍ فتظل يومها، فجاءت يوماً ومعها غلامها نبهان، فلم يسلم فقالت: أي لكع، ألا تسلم عليهم؟ والله لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا إلى يوم القيامة. وكان أبو هريرة يكثر الاختلاف إليهم. وكان عبد الله بن عمرو إذا ركب إلى الغابة فبلغ ذباب، عدل إلى قبور الشهداء فسلم عليهم، ثم رجع إلى ذباب حتى استقبل الطريق طريق الغابة ويكره أن يتخذهم طريقاً، ثم يعارض الطريق حتى يرجع إلى طريقه الأولى. وكانت فاطمة الخزاعية قد أدركت تقول: رأيتني وغابت الشمس بقبور الشهداء ومعي أختٌ لي، فقلت لها: تعالى، نسلم على قبر حمزة وننصرف. قالت: نعم. فوقفنا على قبره فقلنا: السلام عليك يا عم رسول الله. فسمعنا كلاماً رد علينا: وعليكما السلام ورحمة الله. قالتا: وما قربنا أحدٌ من الناس.

قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من دفن أصحابه دعا بفرسه فركبه، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحت، ولا مثل لبني سلمة وبني عبد الأشهل، ومعه أربعة عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل الحرة قال: اصطفوا فنثني على الله! فاصطف الناس صفين خلفهم النساء، ثم دعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:اللهم، لك الحمد كله! اللهم، لا قابض لما بسطت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت! اللهم إني أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك! اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول! اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف والغناء يوم الفاقة، عائذاً بك اللهم من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت منا! اللهم توفنا مسلمين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين! اللهم عذب كفره أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدون عن سبيلك! اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك! إله الحق! آمين! وأقبل حتى نزل ببني حارثة يميناُ حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم، فقال: لكن حمزة لا بواكي له.
فخرج النساء ينظرون إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت أم عامر الأشهلية تقول: قيل لنا قد أقبل النبي صلى الله عليه وسلّم ونحن في النوح على قتلانا، فخرجنا فنظرت إليه فإذا عليه الدرع كما هي، فنظرت إليه فقلت: كل مصية بعدك جللٌ.
وخرجت أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفٌ على فرسه، وسعد بن معاذ آخذٌ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مرحباً بها! فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: أما إذ رأيتك سالماً، فقد أشوت المصيبة. فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعاً وهم اثنا عشر رجلاً وقد شفعوا في أهليهم. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خل أبا عمرو الدابة. فخلى الفرس وتبعه الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشيةٌ، وليس فيهم مجروحٌ إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان، اللون لون دمٍ والريح ريح مسك، فمن كان مجروحاً فليقر في داره وليداو جرحه، ولا يبلغ معي بيتي عزمةً مني. فنادى فيهم سعدٌ: عزمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلّم جريحٌ من بني عبد الأشهل، فتخلف كل مجروح، فباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح، وإن فيهم لثلاثين جريحاً. ومضى سعد بن معاذ معه صلى الله عليه وسلّم إلى بيته، ثم رجع إلى نسائه فساقهن، ولم تبق امرأةٌ إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبكين بين المغر والعشاء. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين فرغ من النوم لثلث الليل، فسمع البكاء فقال: ما هذا؟ فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: رضي الله عنكن وعن أولادكن! وأمرنا أن نرد إلى منازلنا. قالت: فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل، معنا رجالنا، فما بكت منا امرأةٌ قط إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا.
ويقال إن معاذ بن جبل جاء بنساء بني سلمة، وجاء عبد الله بن رواحة بنساء بلحارث بن الخزرج، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما أردتا هذا! ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي.

وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم المغرب بالمدينة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة عند نكبةٍ قد أصابت أصحابه، وأصيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في نفسه. فجعل ابن أبي والمنافقون معه يشمتون ويسرون بما أصابهم ويظهرون أقبح القول. ورجع من رجع من أصحابه وعامتهم جريحٌ، ورجع عبد الله بن عبد اله بن أبي وهو جريح، فبات يكوى الجراحة بالنار حتى ذهب الليل، وجعل أبوه يقول: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خيرٌ.
وأظهرت اليهود القول السيء فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبيٌّ قط أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه! وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه ويأمرونهم بالتفرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجعل المنافقون يقولون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. حتى سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا عمر، إن الله مظهر دينه ومعز نبيه، ولليهود ذمةٌ فلا أقتلهم. قال: فهؤلاء المنافقون يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذاً من السيف، فقد بان لهم أمرهم وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله وإن محمداً رسول الله . يا ابن الخطاب، إن قريشاً لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن.
قالوا: فكان لعبد الله بن أبي مقام يقومه كل جمعة شرفاً له لا يريد تركه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أحد إلى المدينة جلس على المنبر يوم جمعة، فقام ابن أبي فقال: هذا رسول الله بين أظهركم، قد أكرمكم الله به، انصروه وأطيعوه. فلما صنع بأحد ما صنع قام ليفعل ذلك، فقام إليه المسلمون فقالوا: اجلس يا عدو الله! وقام إليه أبو أيوب وعبادة بن الصامت، وكانا أشد من كان عليه ممن حضر، ولم يقم إليه أحدٌ من المهاجري، فجعل أبو أيوب يأخذ بلحيته، وعبادة بن الصامت يدفع في رقبته، ويقولان له: لست لهذا المقام بأهل! فخرج بعد ما أرسلاه، وهو يتخطى رقاب الناس وهو يقول: كأنما قلت هجراً، قمت لأشد أمره! فلقيه معوذ بن عفراء فقال: مالك؟ قال: قمت ذلك المقام الذي كنت أقوم أولاً، فقام إلي رجالٌ من قومي، فكان أشدهم علي عبادة، وخالد بن زيد. فقال له: ارجع فيستغفر لك رسول الله. فقال: والله ما أبغى يستغفر لي. فنزلت هذه الآية: " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله... " الآية. قال: ولكأني أنظر إلى ابنه جالسٌ في الناس، ما يشد الطرف إليه، فجعل يقول: أخرجني محمد من مربد سهل وسهيل.
ما نزل من القرآن بأحد

قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور ابن مخرمة، قالت: قال أبي المسور بن مخرمة لعبد الرحمن بن عوف: حدثنا عن أحد! فقال: يا ابن أخي عد بعد العشرين ومائة من آل عمران فكأنك حضرننا: " وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين.. " إلى آخر الآية. قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القداح، إن رأى صدراص خارجاً قال: تأخر! وفي قوله: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا.. " إلى آخر الآية. قال: هم بنو سلمة وبنو حارثة، هموا ألا يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أحد، ثم عزم لهما فخرجوا. " ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلةٌ " ، يقول: قليل، كانوا ثلاثماشة وبضعة عشر رجلاً، " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ما أبلاكم ببدر من الظفر. " إذ تقول للمؤمنين " هذا يوم أحد، " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين " . " بلى إن تصبروا وتتقوا.. " الآية، كان نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يخرج إلى أحد: إني ممدكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " . " وما جعله الله إلا بشرى لكم " قال: فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بملك واحد يوم أحد. وقوله " مسومين " قال: معلمين. " وما جعله الله إلا بشى لكم " لتستبشروا بهم ولتطمئنوا إليهم. " ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين " يقول: نصيب منهم أحداً وينقلبون خائبين. " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " قال: يعني الذين انهزموا يوم أحد. ويقال نزلت في حمزة حين رأيى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما به من المثل فقال: لأمثلن بهم! فنزلت هذه الآية. ويقال نزل في رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين رمى يوم أحد فجعل يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً " قال: كان أهل الجاهلية إذا حل حق أحدهم فلم يجد عنده غريمه أخره عنه وأضعفه عليه. " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " قال: التكبيرة الأولى مع الإمام، " وجنةٍ عرضها السموات والأرض " فيقال الجنة في السماء الرابعة. " الذين ينفقون في السراء والضراء " قال: السراء اليسر والضراء العسر، " والكاظمين الغيظ " يعني عمن آذاهم، " والعافين عن الناس " ما أوتى إليهم. " والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، " ولم يصروا على ما فعلوا " فكان يقال لا كبيرة مع توبة ولا صغيرة مع إصرار. " هذا بيانٌ للناس " من العمى، " وهدىً " من الضلالة، " وموعظة للمتقين " . " ولا تهنوا " يقول: في قتال العدو، " ولا تحزنوا " على من أصيب منكم بأحد من القتل والجراح، " وأنتم الأعلون " يقول " قد أصبتم يوم بدر ضعف ما أصابكم منكم بأحد. " إن يمسسكم قرحٌ " يعني جراح، " فقد مس القوم قرحٌ مثله " يعني جراح يوم بدر، " وتلك الأيام نداولها بين الناس " يقول: لهم دولةٌ ولكم دولةٌ، والعاقبة لكم، " وليعلم الله الذين آمنوا " يقول: من قاتل مع نبيه، " ويتخذ منكم شهداء " من قتل بأحد، " وليمحص الله الذين آمنوا " يعني يبلوهم الذين قتلوا وثبتوا، " ويمحق الكافرين " يعني المشركين. " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " يعني من قتل بأحد وأبلى فيه، " ويعلم الصابرين " من يصبر يومئذٍ. " ولقد كنت تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " قال: السيوف في أيدي الرجال، كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قد تخلفوا عن بدر فكانوا هم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخروج إلى أحد فيصيبون من الأجر والغنيمة، فلما كان يوم أحد ولى منهم من ولى. ويقال هو في نفرٍ كانوا تكلموا قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أحد فقالوا: ليتنا نلقى جمعاً من المشركين فإما أن نظفر بهم أو نرزق الشهادة. فلما نظروا إلى الموت يوم أحد هربوا. " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " إلى آخر الآية. قال: إن إبليس تصور يوم أحد في صورى جعال بن سراقة الثعلبي فنادى إن محمد قد قتل فتفرق الناس في كل وجه، فقال عمر: إني أرقى في الجبل كأني أرويه حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ينزل عليه: " وما

محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل.. " الآية، " ومن ينقلب على عقبيه " يقول: تولى. " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً موجلاً " يقول: ما كان لها أن تموت دون أجلها، وهو قول ابن أبي حين رجع بأصحابه وقتل من قتل بأحد " لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا " . فأخبره الله أنه كتابٌ موجل، يقول الله عز وجل: " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها " يقول: من يعمل للدنيا نعطه منها ما يشاء، " ومن يرد ثواب الآخرة " يقول: يريد الآخرة، " نؤته منها وسنجزي الشاكرين " . " وكأين من نبيٍّ قاتل معه ربيون " قال: الجماعة الكثيرة، " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا " يقول: ما استسلموا في سبيل الله ولا ضعفت نياتهم، " وما استكانوا " يقول: ما ذلوا لعدوهم، " والله يحب الصابرين " يخبر أنهم صبروا. " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا " إلى قوله " وحسن ثواب الآخرة " يقول: أعطاهم النصر والظفر وأوجب لهم الجنة في الآخرة. " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين " يقول: إن تطيعوا اليهود والمنافقين فيما يخذلونكم ترتدوا عن دينكم. " بل الله مولاكمن " يعني المؤمنين، يقول: يتولاكم. " سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نصرت بالرعب شهراً أمامي وشهراً خلفي. " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " والحس القتل. يقول: الذي خبركم أنكم إن صبرتم أمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة، " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر " وهنتم عن العدو، وتنازعتم يعني اختلاف الرماة حيث وضعهم النبي صلى الله عليه وسلّم ومعصيتهم وتقدم النبي صلى الله عليه وسلّم ألا تبرحوا ولا تفارقوا موضعكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا نغنم فلا تشركونا، " من بعد ما أراكم ما تحبون " يعني هزيمة المشركين وتوليتم هاربين، " منكم من يريد الدنيا " يعني العسكر وما فيه من النهب، " ومنكم من يريد الآخرة " الذين ثبتوا من الرماة ولم يغنموا عبد الله بن جبير ومن ثبت معه. فقال ابن مسعود: ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد الدنيا حتى سمعت هذه الآية. قال: " ثم صرفكم عنهم " يقول: حيث كانت الدولة لكم عليهم، " ليبتليكم " ليرجع المشركون فيقتلوا من قتلوا منكم ويجرحوا من جرحوا منكم، " ولقد عفا عنكم " يعني عمن ولى يومئذٍ منكم ومن أراد ما أراد من النهب، فعفا عن ذلك كله. " إذ تصعدون " يعني في الجبل تهربون، " ولا تلوون على أحدٍ والرسول يدعوكم في أخراكم " كانوا يمرون منهزمين يصعدون إلى الجبل، ورسولهم يناديهم: يا معشر المسلمين، أنا رسول الله! إلي! إلي! فلا يلوى عليه أحد، فعفا ذلك عنهم. " فأثابكم غماً بغمٍّ " فالغم الأول الجراح والقتل، فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الغم الأول من الجراح والقتل. ويقال الغم الأول حيث صاروا إلى الجبل بهزيمتهم وتركهم النبي صلى الله عليه وسلّم، والغم الآخر حين تفرعهم المشركون، فعلوهم من فرع الجبل فنسوا الغم الأول. ويقال " غماً بغمٍّ " بلاءٌ على أثر بلاء، " ليكلا تحزنوا على ما فاتكم " يقول: لئلا تذكروا ما فاتكم من نهب متاعهم، " ولا ما أصابكم " من قتل منكم أو جرحز " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاساً " إلى قوله " ما قتلنا ههنا " قال الزبير رضي الله عنه: سمعت هذا القول من معتب بن قشير، وقد وقع علي النعاس وإني لكالحالم، أسمعه يقول هذا الكلام، واجتمع عليه أنه صاحب هذا الكلام. قال الله: " لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " يقول الله تعالى: لم يكن لهم بد من أن يصيروا إلى مضاجعهم، " ليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم " يقول: يخرج أضغانهم وغشهم، " والله عليمٌ بذات الصدور " يقول: ما يكنون من نصحٍ أو غش. " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " يعني من انهزم يوم أحد، يقول: أصابهم ببعض ذنوبهم، " ولقد عفا الله عنهم " يعني انكشافهم. " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " إلى قوله " ما ماتوا وما قتلوا " قال: نزلت في ابن أبي، يقول الله عز وجل للمؤمنين: لا تكلموا ولا تقولوا كما قال ابن أبي. وهو الذي قال الله تعالى فيه " كالذين كفروا " ، " ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم " . " ولئن قتلتم في سبيل الله أو

متم " إلى آخر الآية، يقول: من قتل بالسيف أو مات بإزاء عدو أو مرابط فهو خيرٌ مما يجمع من الدنيا. وقوله " لإلى الله تحشرون " يقول: تصيرون إليه جميعاً يوم القيامة " فبما رحمةٍ من الله لنت لهم " ، وقوله " لانفضوا من حولك " يعني أصحابه الذين انكشفوا بأحد، " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " أمره أن يشاورهم في الحرب وحده، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يشاور أحداً إلا في الحرب، " فإذا عزمت " أي جمعت، " فتوكل على الله " . " وما كان لنبيٍّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " قال: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا قد غنموا قطيفة حمراء، فقالوا: ما نرى النبي صلى الله عليه وسلّم إلا قد أخذها! فنزلت هذه الآية. " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله " يقول: من آمن بالله كمن كفر بالله؟ وقوله: " هم درجاتٌ عند الله " يقول: فضائل بينهم عند الله. قوله " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم، " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن، " ويزكيهم ويعلمهم " القرآن والحكمة والصواب في القول، " وإن كانوا من قبل لفى ضلالٍ مبينٍ " ، قوله " أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها.. " إلى آخر الآية، هذا ما أصابهم يوم أحد، قتل من المسلمين سبعون مع ما نالهم من الجراح. " قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم " بمعصيتكم الرسول، يعني الرماة، وقوله " قد أصبتم مثليها " قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " يوم أحد، " فبإذن الله وليعلم المؤمنين " . " وليعلم الذين نافقوا " يعلم من أبلى وقاتل وقتل، ويعلم الذين نافقوا، " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم " هذا ابن أبي، وقوله " أو ادفعوا " يقول: كثروا السواد ويقال الدعاء. قال ابن أبي يوم أحد: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم يقول الله " هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان " نزلت في ابن ابي، وفي قوله " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " هذا ابن أبي، " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " نزلت في ابن أبي. " ولا تحسبني الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً " إلى قوله " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قال ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طيرٍ خضر، ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها، وتاوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومطعمهم، ورأوا حسن منقلبهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب. قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.. " الآية. وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الشهداء على بارق نهر في الجنة في قبةٍ خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرةً وعشياً. وكان ابن مسعود يقول في هذه الآية: إن أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، فتسرح في أي الجنة شاءت، فأطلع ربك عليهم إطلاعهً فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا في الجنة نسرح في أيها نشاء؟ فأطلع عليهم ثانية فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقتل في سبيلك. وقوله " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " إلى آخر الآية، هؤلاء الذين غزوا حمراء الأسد. " إلى آخر الآية، يقول: من قتل بالسيف أو مات بإزاء عدو أو مرابط فهو خيرٌ مما يجمع من الدنيا. وقوله " لإلى الله تحشرون " يقول: تصيرون إليه جميعاً يوم القيامة " فبما رحمةٍ من الله لنت لهم " ، وقوله " لانفضوا من حولك " يعني أصحابه الذين انكشفوا بأحد، " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " أمره أن يشاورهم في الحرب وحده، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يشاور أحداً إلا في الحرب، " فإذا عزمت " أي جمعت، " فتوكل على الله " . " وما كان لنبيٍّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " قال: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا قد غنموا قطيفة حمراء، فقالوا: ما نرى النبي صلى الله عليه وسلّم إلا قد أخذها! فنزلت هذه الآية. " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله " يقول: من آمن بالله كمن كفر بالله؟ وقوله: " هم درجاتٌ عند الله " يقول: فضائل بينهم عند الله. قوله " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم، " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن، " ويزكيهم ويعلمهم " القرآن والحكمة والصواب في القول، " وإن كانوا من قبل لفى ضلالٍ مبينٍ " ، قوله " أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها.. " إلى آخر الآية، هذا ما أصابهم يوم أحد، قتل من المسلمين سبعون مع ما نالهم من الجراح. " قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم " بمعصيتكم الرسول، يعني الرماة، وقوله " قد أصبتم مثليها " قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " يوم أحد، " فبإذن الله وليعلم المؤمنين " . " وليعلم الذين نافقوا " يعلم من أبلى وقاتل وقتل، ويعلم الذين نافقوا، " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم " هذا ابن أبي، وقوله " أو ادفعوا " يقول: كثروا السواد ويقال الدعاء. قال ابن أبي يوم أحد: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم يقول الله " هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان " نزلت في ابن ابي، وفي قوله " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " هذا ابن أبي، " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " نزلت في ابن أبي. " ولا تحسبني الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً " إلى قوله " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قال ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طيرٍ خضر، ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها، وتاوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومطعمهم، ورأوا حسن منقلبهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب. قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.. " الآية. وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الشهداء على بارق نهر في الجنة في قبةٍ خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرةً وعشياً. وكان ابن مسعود يقول في هذه الآية: إن أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، فتسرح في أي الجنة شاءت، فأطلع ربك عليهم إطلاعهً فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا في الجنة نسرح في أيها نشاء؟ فأطلع عليهم ثانية فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقتل في سبيلك. وقوله " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " إلى آخر الآية، هؤلاء الذين غزوا حمراء الأسد.

حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لما كان في المحرم ليلة الأحد إذا عبد الله بن عمرو بن عوف المزني على باب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبلال جالسٌ على باب النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد أذن بلال وهو ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أن خرج، فنهض إليه المزني فقال: يا رسول الله، أقبلت من أهلي حتى إذا كنت بمللٍ فإذا قريش قد نزلوا، فقلت: لأدخلن فيه ولأسمعن من أخبارهم. فجلست معهم فسمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعنا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدتهم، فارجعوا نستأصل من بقى! وصفوان يأبى ذلك عليهم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فذكر لهما ما أخبره المزني، فقالا: اطلب العدو، ولا يقحمون على الذرية! فلما سلم ثاب الناس، وأمر بلالاً ينادي يأمر الناس بطلب عدوهم. وقالوا: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة يوم الأحد أمر بطلب عدوهم، فخرجوا وبهم الجراحات.

وفي قوله " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لما فاخشوهم فزادهم إيماناً " إلى قوله " واتبعوا رضوان الله " . فإن أبا سفيان بن حرب وعد النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحدٍ بدر الموعد الصفراء، على رأس الحول. فقيل لأبي سفيان: ألا توافي النبي؟ فبعث نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة يثبط المسلمين، وجعل له عشراً من الإبل إن هو ردهم، ويقول إنهم قد جمعوا جموعاص وقد جاءوكم في داركم، لا تخرجوا إليهم. حتى كاد ذلك يثبطهم أو بعضهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: والذي نفسي بيده، لو لم يخرج معي أحدٌ لخرجت وحدي. فأنهجت لهم بصائرهم، فخرجوا بتجارات وكان بدر موسماً. " فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ " في التجارة، يقول: اربحوا، " لم يمسهم سوءٌ " لم يلقوا قتالاً، وأقاموا ثمانية أيام ثم انصرفوا. " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون " يقول: الشيطان يخوفكم أولياءه ومن أطاعه. " ولا يخزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً " . " إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان " يقول: استحبوا الكفر على الإيمان. " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم " يقول: ما يصح أبدانهم، ويرزقهم ويريهم الدولة على عدوهم، يقول: أملى لهم ليزدادوا كفراً. " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب " يعني مصاب أهل أحد، " ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء " يعني يقرب من رسله. وفي قوله " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " إلى قوله " يوم القيامة " قال: يأتي كنز الذي لا يؤدي حقه ثعباناً في عنقه، ينهش لهزمتيه. يقول: أنا كنزك. " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء " قال: لما نزلت هذه الآية. " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " قال فنحاص اليهودي: الله فقيرٌ ونحن أغنياء ليستقرض منا؟ " ...وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ ونقول ذوقوا عذاب الحريق " . " ذلك بما قدمت أيديكم " من كفركم وقتلكم الأنبياء. " الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربانس تأكله النار " الآية والتي تليها، يعني يهود. " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " يعني اليهود، " ومن الذين أشركوا " يعني من العرب، " أذىً كثيراً.. " إلى آخر الآية. قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يؤمر بالقتال. " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " إلى قوله " ولهم عذابٌ أليمٌ " قال: أخذ على أحبار اليهود في أمر صفة النبي صلى الله عليه وسلّم ألا يكتموه. " فنبذوه وراء ظهورهم " واتخذوه مأكلةً وغيروا صفته. وقوله " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " قالت: نزلت في ناسٍ من المنافقين، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا غزا فقدم قالوا: إذا غزوت فنحن نخرج معك. فإذا غزا لم يخرجوا معه، ويقال هم اليهود. " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم " قال: يصلون قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، يعني مضطجعين. " ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا " قال: القرآن، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلّم. وقوله: " فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا " يعني المهاجرين الذين أخرجوا من مكة. " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " . " متاعٌ قليلٌ " يقول: تجارتهم وحرفتهم. " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " يعني عبد الله بن سلام. " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله " قال: لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم رباط، إنما كانت الصلاة بعد الصلاة.

وقال جابر بن عبد الله: لما قتل سعد بن ربيع بأحد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ثم مضى إلى حمراء الأسد. وجاء أخو سعد بن ربيع فأخذ ميراث سعد، وكان لسعد ابنتان وكانت امرأته حاملاً، وكان المسلمون يتوارثون على ما كان في الجاهلية حتى قتل سعد بن ربيع. فلما قبض عمهن المال ولم تنزل الفرائض وكانت امرأة سعد امرأة حازمة، صنعت طعاماً ثم دعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبزاص ولحماً وهي يومئذٍ بالأسواف. فانصرفنا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم من الصبح، فبينا نحن عنده جلوسٌ ونحن نذكر وقعة أحد ومن قتل من المسلمين، ونذكر سعد بن ربيع إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قوموا بنا! فقمنا معه ونحن عشرون رجلاً حتى انتهينا إلى الأسواف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخلنا معه فنجدها قد رشت ما بين صورتين وطرحت خصفة. قال جابر بن عبد الله: والله ما ثم وسادة ولا بساط، فجلسنا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يحدثنا عن سعد بن ربيع، يترحم عليه ويقول: لقد رأيت الأسنة شرعت إليه يومئذٍ حتى قتل. فلما سمع ذلك النسوة بكين، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما نهاهن عن شيءٍ من البكاء. قال جابر: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يطلع عليكم رجلٌ من أهل الجنة. قال: فتراءينا من يطلع، فطلع أبو بكر رضي الله عنه، فقمنا فبشرناه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم سلم ثم ردوا عليه ثم جلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يطلع عليكم من أهل الجنة. فتراءينا من يطلع من خلال السعف. فطلع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقمنا فبشرناه بما قال النبي صلى الله عليه وسلّم فسلم ثم جلس. ثم قال: يطلع عليكم رجلٌ من أهل الجنة. فنظرنا من خلال السعف، فإذا علي عليه السلام قد طلع، فقمنا فبشرناه بالجنة، ثم جاء فسلم ثم جلس، ثم أتى بالطعام. قال جابر: فأتى من الطعام بقدر ما ياكل رجلٌ واحدٌ أو اثنان، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده فيه فقال: خذوا بسم الله! فأكلنا منها حتى نهلنا، والله ما أرانا حركنا منها شيئاً.ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ارفعوا هذا الطعام! فرفعوه، ثم أتينا برطبٍ في طبقٍ في باكورة أو مؤخرٍ قليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بسم الله، كلوا! قال: فأكلنا حتى نهلنا، وإني لأرى في الطبق نحواً مما أتى به. وجاءت الظهر فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يمس ماءً، ثم رجع إلى مجلسه فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جاءت العصر فأتى ببقية الطعام يتشبع به، فقام النبي صلى الله عليه وسلّم فصلى العصر، ولم يمس ماءً، ثم قامت امرأة سعد بن ربيع فقالت: يا رسول الله، إن سعد بن ربيع قتل بأحد، فجاء أخوه فأخذ ما ترك، وترك ابنتين ولا مال لهما، وإنما ينكح يا رسول الله النساء على المال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم أحسن الخلافة على تركته، لم ينزل علي في ذلك شيءٌ، وعودي إلي إذا رجعت! فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بيته جلس على بابه وجلسنا معه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم برحاء حتى ظننا أنه أنزل عليه. قال: فسرى عنه والعرق يتحدر عن جبينه مثل الجمان. فقال: علي بامرأة سعد! قال: فخرج أبو مسعود عقبة بن عمرو حتى جاء بها. قال: وكانت امرأةٌ حازمةً جلدة، فقال: أين عم ولدك؟ قالت: يا رسول الله، في منزله. قال: ادعيه لي! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اجلسي! فجلست وبعث رجلاً يعدو إليه فأتى به وهو في بلحارث بن الخزرج، فأتى وهو متعب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:ادفع إلى بنات أخيك ثلثي ما ترك أخوك. فكبرت امرأته تكبيرة سمعها أهل المسجد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ادفع إلى زوجة أخيك الثمن وشأنك وسائر ما بيدك. ولم يورث الحمل يومئذٍ. وهي أم سعد بنت سعد بن ربيع امرأة زيد بن ثابت أم خارجة بن زيد. فلما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد تزوج زيد أم سعد بنت سعد وكانت حاملاً، فقال: إن كانت لك حاجةٌ أن تكلمي في ميراثك من أبيك، فإن أمير المؤمنين قد ورث الحمل اليوم، وكانت أم سعد يوم قتل أبوها سعد حملاً. فقالت: ما كنت لأطلب من أخي شيئاً.

ولما انكشف المشركون بأحد كان أول من قدم بخبر أحد وانكشاف المشركين عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، كره أن يقدم مكة وقدم الطائف فأخبر: إن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا، كنت أول من قدم عليكم! وذلك حين انهزم المشركون الانهزامة الأولى، ثم تراجع المشركون بعد فنالوا ما نالوا. وكان أول من أخبر قريشاً بقتل أصحاب محمد وظفر قريش وحشيٌّ.
وحدثني موسة بن شيبة، عن قطر بن وهب الليثي، قال: لما قدم وحشيٌّ على أهل مكة بمصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سار على راحلته أربعاً، فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون، فنادى بأعلى صوته: يا معشر قريش! مراراً، حتى ثاب الناس إليه وهم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون. فلما رضي منهم قال: أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمد مقتله لم يقتل مثلها في زحفٍ قط وجرحنا محمداً فأثبتناه بالجراح، وقتلت رأس الكتيبة حمزة. وتفرق الناس في كل وجهٍ بالشماتة بقتل أصحاب محمد وإظهار السرور، وخلا جبير بن مطعم بوحشيٍّ فقال: انظر ما تقول! قال وحشيٌّ: قد والله صدقت. قال: أقتلت حمزة؟ قال: قد والله زرقته بالمزراق في بطنه حتى خرج من بين رجليه، ثم نودى فلم يجب، فأخذت كبده وحملتها إليك لتراها. قال: أذهبت حزن نسائنا، وبردت حر قلوبنا! فأمر يومئذٍ نساءه بمراجعة الطيب والدهن.
وكان معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قد انهزم يومئذٍ، فمضى على وجهه فنام قريباً من المدينة، فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان ابن عفان رضي الله عنه فضرب بابه، فقالت امرأته أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ليس هو ها هنا، هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال: فأرسلى إليه، فإن له عندي ثمن بعيرٍ اشتريته عام أول فجئته بثمنه، وإلا ذهبت. قال: فأرسلت إلى عثمان فجاء، فلما رآه قال: ويحك، أهلكتني وأهلكت نفسك، ما جاء بك؟ قال: يا ابن عم، لم يكن لي أحدٌ أقرب إلي منك ولا أحق. فأدخله عثمان في ناحية البيت، ثم خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأخذ له أماناً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يأتيه عثمان: إن معاوية قد أصبح بالمدينة فاطلبوه. فطلبوه فلم يجدوه، فقال بعضهم: اطلبوه في بيت عثمان بن عفان فدخلوا بيت عثمان فسألوا أم كلثوم، فأشارت إليه فاستخرجوه من تحت حمارةٍ لهم، فانطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وعثمان جالسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما رآه عثمان قد أتى به قال: والذي بعثك بالحق، ما جئتك إلا أن أسألك أن تؤمنه، فهبه لي يا رسول الله! فوهبه له وأمنه وأجله ثلاثاً، فإن وجد بعدهن قتل. قال: فخرج عثمان فاشترى له بعيراً وجهزه، ثم قال: ارتحل! ارتحل. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، وخرج عثمان مع المسلمين إلى حمراء الأسد، وأقام معاوية حتى كان اليوم الثالث، فجلس على راحلته وخرج حتى إذا كان بصدور العقيق قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن معاوية قد أصبح قريباً فاطلبوه. فخرج الناس في طلبه فإذا هو قد أخطأ الطريق، فخرجوا في أثره حتى يدركه في يوم الرابع، وكان زيد بن حارثة وعمار بن ياسر أسرعا في طلبه، فأدركاه بالجماء فضربه زيد بن حارثة، وقال عمار: إن لي فيه حقاً! فرماه عمار بسهم فقتلاه، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبراه. ويقال: أدرك بثنية الشريد على ثمانية أميال من المدينة. وذلك حيث أخطأ الطريق، فأدركاه فلم يزالا يرميانه بالنبل واتخذاه غرضاً حتى مات.
غزوة حمراء الأسدوكانت يوم الأحد لثمانٍ خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهراً، ودخلوا المدينة يوم الجمعة وغاب خمساً.
قالوا: لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصبح يوم الأحد ومعه وجوه الأوس والخزرج، وكانوا باتوا في المسجد على بابه سعد بن عبادرة. وحباب بن المنذر، وسعد بن معاذ، وأوس بن خولي، وقتادة بن النعمان، وعبيد بن أوس في عدةٍ منهم. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الصبح أمر بلالاً أن ينادي: إن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس.

قال: فخرج سعد بن معاذ راجعاً إلى داره يأمر قومه بالمسير. قال: والجراح في الناس فاشيةٌ، عامة بني عبد الأشهل جريحٌ، بل كلها، فجاء سعد بن معاذ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن تطلبوا عدوكم. قال: يقول أسيد بن حضير، وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم. وجاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة فأمرهم بالمسير، فتلبسوا ولحقوا. وجاء أبو قتادة أهل خربى، وهم يداوون الجراح، فقال: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم بطلب عدوكم. فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم. فخرج من بني سلمة أربعون جراحات، وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحاً، وبقطبة ابن عامر بن حديدة تسع جراحات، حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلّم ببئر أبي عنبة إلى رأس الثنية الطريق الأولى يومئذٍ عليهم السلاح قد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم والجراح فيهم فاشيةٌ قال: اللهم ارحم بني سلمة! قال الواقدي: وحدثني عتبة بن جبيرة، عن رجالٍ من قومه، قالوا: إن عبد الله بن سهل، ورافع بن سهل بن عبد الأشهل رجعا من أحد وبهما جراحٌ كثيرة، وعبد الله أثقلهما من الجراح، فلما أصبحوا وجاءهم سعد ابن معاذ يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم بطلب عدوهم قال أحدهما لصاحبه: والله إن تركنا غزوةً مع رسول الله لغبنٌ! والله ما عندنا دابة نركبها وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله: انطلق بنا! قال رافع: لا والله، ما بي مشى. قال أخوه، انطلق بنا، نتجار ونقصد! فخرجا يزحفان، فضعب رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبةً، ويمشي الآخر عقبة، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند العشاء وهم يوقدون النيران، فأتى بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال: ما حبسكما؟ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخيرٍ وقال: إن طالت لكم مدةٌ كانت لكم مراكب من خيلٍ وبغال وإبل، وليس ذلك بخيرٍ لكم! حدثني عبد العزيز بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، قالك هذان أنس ومؤنس وهذه قصتهما.
وقال جابر بن عبد الله: يا رسول الله، إن منادياً نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس. وقد كنت حريصاً على الحضور، ولكن أبي خلفني على أخواتٍ لي وقال: يا بني، لا ينبغي لي ولك أن ندعهن ولا رجل عندهن، وأخاف عليهن وهن نسيات ضعاف، وأنا خراجٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لعل الله يرزقني الشهادة. فتخلفت عليهن فاستأثره الله على الشهادة وكنت رجوتها، فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قال جابر: فلم يخرج معه أحدٌ لم يشهد القتال بالأمس غيري، واستأذنه رجالٌ لم يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلوائه، وهو معقود لم يحل من الأمس، فدفعه إلى علي عليه السلام، ويقال دفعه إلى أبي بكر.

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوجٌ في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد شظيت، وشفته قد كلمت من باطنها، وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسجد فركع ركعتين، والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركعتين فدعا بفرسه على باب المسجد، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه، فقال: يا طلحة، سلاحك! فقلت: قريباً. قال طلحة: فأخرج أعدو فألبس درعي، وآخذ سيفي، وأطرح درقتي في صدري، وإني بي لتسع جراحات ولأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلّم مني بجراحي. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على طلحة فقال: ترى القوم الآن؟ قال: هم بالسيالة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة نفرٍ من أسلم طليعةً في آثار القوم: سليطاً ونعمان ابني سفيان بن خالد بن عوف بن دارم من بني سهم، ومعهما ثالثٌ من أسلم من بني عوير لم يسم لنا. فأبطأ الثالث عنهما وهما يجمزان، وقد انقطع قبال نعل أحدهما، فقال: أعطني نعلك. قال: لا والله، لا أفعل! فضرب أحدهما برجله في صدره، فوقع لظهره وأخذ نعليه. ولحق القوم بحمراء الأسد، ولهم زجلٌ، وهم يأتمرون بالرجوع، وصفوان ينهاهم عن الرجوع، فبصروا بالرجلين فعطفوا عليهما فأصابوهما. فانتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد فعسكروا، وقبروهما في قبرٍ واحد. فقال ابن عباس: هذا قبرهما وهما القرينان. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد. قال جابر: وكانت عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة ثلاثين جملاً حتى وافت الحمراء. وساق جزراً فنحروا في يومٍ اثنين وفي يومٍ ثلاثاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمرنا أن نوقد النيران. فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نارٍ حتى ترى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجهٍ حتى كان مما كبت الله تعالى عدونا.
وانتهى معبد بن أبي معبد الخزاعي، وهو يومئذٍ مشركً، وكان خزاعة سلماً للنبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت بغيرك. ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان وقريشاً بالروحاء، وهم يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل. فلماك جاء معبد إلى أبي سفيان قال: هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمداص وأصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران، وقد أجمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم، وغضبوا لقومهم غضباً شديداً ولمن أصبتم من أشرافهم، قالوا: ويلك! ما تقول؟ قال: والله ما نرى أن نرتحل حتى نرى نواصي الخيل! ثم قال معبد: لقد حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتاً:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تعدو بأسدٍ كرامٍ لا تنابلةٍ ... عند اللقاء ولا ميلس معازيل
فقلت ويل ابن حربٍ من لقائهم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل

وكان مما رد الله تعالى ابا سفيان وأصحابه كلام صفوان بن أمية قبل أن يطلع معبد وهو يقول: يا قوم، لا تفعلوا! فإن القوم قد حزنوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أرشدهم صفوان وما كان برشيدٍ، والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب! فانصرف القوم سراعاً خائفين من الطلب لهم، ومر بأبي سفيان نفرٌ من عبد القيس يريدون المدينة. فقال: هل مبلغو محمداً وأصحابه ما أرسلكم به، على أن أوقر لكم أباعركم زبيباص غداً بعطاظ إن أنتم جئتموني؟ قالوا: نعم. قال: حيثما لقيتم محمداً وأصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم، وأنا آثاركم. فانطلق أبو سفيان، وقدم الركب علىالنبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بالحمراء، فأخبروهم الذي أمرهم أبو سفيان، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل! وفي ذلك أنزل الله عز وجل: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح..الآية. وقوله: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم.. " الآية. وكان معبد قد أرسل رجلاً من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمه أن قد انصرف أبو سفيان وأصحابه خائفين وجلين. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة.
سرية أبي سلمة بن عبد الأسد
إلى قطن إلى بني الأسد في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً
قال الواقدي: حدثني عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد. وغيره أيضاً قد حدثني من حديث هذه السرية، وعماد الحديث عن عمر ابن عثمان، عن سلمة، قالوا: شهد أبو سلمة بن عبد الأسد أحداً، وكان نازلاً في بني أمية بن زيد بالعالية حين تحول من قباء، ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية. فجرح بأحد جرحاً على عضده فرجع إلى منزله، فجاءه الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سار إلى حمراء الأسد، فركب حماراً وخرج يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى لقيه حين هبط من العصبة بالعقيق، فسار مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة انصرف مع المسلمين ورجع من العصبة، فأقام شهراً يداوي جرحه حتى رأى أن قد برأ، ودمل الجرح على بغيٍ لا يدري به، فلما كان هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من الهجرة، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها. وعقد له لواءً وقال: سر حتى ترد أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تلاقي عليك جموعهم. وأوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة، منهم: أبو سبرة بن ابي رهم وهو أخو أبي سلمة لأمه أمه برة بنت عبد المطلب وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن مخرمة العامري. ومن بني مخزوم: معتب بن الفضل بن حمراء الخزاعي حليفٌ فيهم، وأرقم بن أبي الأرقم من أنفسهم. ومن بني فهر: أبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء. ومن الأنصار: أسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وأبو نائلة، وأبو عبس، وقتادة بن النعمان، ونضر بن الحارث الظفري، وأبو قتادة، وأبو عياش الزرقي، وعبد الله بن زيد، وخبيب بن يساف، ومن لم يسم لنا.

والذي هاجه أن رجلاً من طيىء قدم المدينة يريد امرأة ذات رحمٍ به من طيىء متزوجةً رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزل على صهره الذي هو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره أن طليحة وسلمة ابني خويلد تركهما قد سارا في قومهما ومن أطاعهما بدعوتهما إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريدون أن يدنوا للمدينة، وقالوا: نسير إلى محمدٍ في عقر داره، ونصيب من أطرافه، فإن لهم سرحاً يرعى جوانب المدينة، ونخرج على متون الخيل، فقد أربعنا خيلنا، ونخرج على النجائب المخبورة، فإن أصبنا نهباً لم ندرك، وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها، معنا خيلٌ ولا خيل معهم، ومعنا نجائب أمثال الخيل، والقوم منكبون قد أوقعت بهم قريش حديثاً، فهم لا يستبلون دهراً، ولا يثوب لهم جمعٌ. فقام فيهم رجلٌ منهم يقال له قيس بن الحارث بن عمير، فقال: يا قوم، والله ما هذا برأي! ما لنا قبلهم وترٌ وما هم نهبةٌ لمنتهبٍ، إن دارنا لبعيدة من يثرب وما لنا جمعٌ كجمع قريش. مكثت قريش دهراً تسير في العرب تستنصرها ولهم وترٌ يطلبونه، ثم ساروا وقد امتطوا الإبل وقادوا الخيل وحملوا السلاح مع العدد الكثير ثلاثة آلاف مقاتل سوى أتباعهم وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاثمائة رجل إن كملوا، فتغررون بأنفسك وتخرجون من بلدكم، ولا آمن أن تكون الدائرة عليكم. فكاذ ذلك أن يشككهم في المسير، وهم على ما هم عليه بعد. فخرج به الرجل الذي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره ما أخبر الرجل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا سلمة، فخرج في أصحابه وخرج معه الطائي دليلاً فأغذوا السير، ونكب بهم عن سنن الطريق، وعارض الطريق وسار بهم ليلاً ونهاراً، فسبقوا الأخبار وانتهوا إلى أدنى قطن ماء من مياه بني أسد، هو الذي كان عليه جمعهم فيجدون سرحاً فأغاروا على سرحهم فضموه، وأخذوا رعاءً لهم، مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم فجاءوا جمعهم فخبروهم الخبر وحذروهم جمع أبي سلمة، وكثروه عندهم فتفرق الجمع في كل وجهٍ، وورد أبو سلمة الماء فيجد الجمع قد تفرق، فعسكر وفرق أصحابه في طلب النعم والشاء، فجعلهم ثلاث فرق فرقةٌ أقامت معه، وفرقتنا أغارتا في ناحيتين شتى. وأوعز إليهما ألا يمعنوا في طلب وألا يبيتوا إلا عنده إن سلموا، وأمرهم ألا يفترقوا، واستعمل على كل فرقةٍ عاملاً منهم. فآبوا إليه جميعاً سالمين، قد أصابوا إبلاً وشاءص ولم يلقوا أحداً، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة راجعاً، ورجع معه الطائي، فلما ساروا ليلة قال أبو سلمة: اقتسموا غنائمكم. فأعطى أبو سلمة الطائي الدليل رضاه من المغنم، ثم أخرج صفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عبداً، ثم أخرج الخمس، ثم قسم ما بقي بين أصحابه فعرفوا سهمانهم، ثم أقبلوا بالنعم والشاء يسوقونها حتى دخلوا المدينة.
قال عمر بن عثمان: فحدثني عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبي سلمة، قال: كان الذي جرح أبا سلمة أبو أسامة الجشمي، رماه يوم أحد بمعبلةٍ في عضده، فمكث شهراً يداويه فبرأ فيما نرى، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً إلى قطن، وغاب بضع عشرة. فلما قدم المدينة انتقض الجرح، فمات لثلاث ليالٍ بقين من جمادى الآخرة، فغسل من اليسيرة بئر بني أمية بين القرنين، وكان اسمها في الجاهلية العبير فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلّم اليسيرة، ثم حمل من بني أمية فدفن بالمدينة.
قال عمر بن أبي سلمة: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشراً، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخل بها في ليالٍ بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس في النكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلّم في شوال وأعرس بي في شوال. وماتت أم سلمة في ذي القعدة سنة تسع وخمسين.

قال أبو عبد الله الواقدي: فحدثت عمر بن عثمان الجحشي، فعرف السرية ومخرج أبي سلمة إلى قطن، وقال: أما سمي لك الطائي؟ قلت: لا . قال: هو الوليد بن زهير بن طريف عم زينب الطائية، وكانت تحت طليب بن عمير، فنزل الطائي عليه فأخبره فذهب به طليب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبر خبر بني أسد وما كان من همومهم بالمسير. ورجع معهم الطائي دليلاً وكان خريتاً، فسار بهم أربعاً إلى قطن، وسلك بهم غير الطريق، لأن يعمى الخبر على القوم. فجاءوا القوم وهم غارون على صرمةٍ، فوجدوا الصرم قد نذروا بهم وخافوهم فهم معدون، فاقتتلوا فكانت بينهم جراحة، وافترقوا. ثم أغار الطائيون بعد ذلك على بني أسد فكان بينهم أيضاً جراح، وأصابوا لهم نعماً وشاءً، فما تخلصوا منهم شيئاً حتى دخل الإسلام.
قال الواقدي: وأصحابنا يقولون: أبو سلمة من شهداء أحد للجرح الذي جرح يوم أحد ثم انتقض به. وكذلك أبو خالد الزرقي من أهل العقبة، جرح اليمامة جرحاً، فلما كان في خلافة عمر انتقض به الجرح فمات فيه، فصلى عليه عمر وقال: هو من شهداء اليمامة لأنه جرح باليمامة.
قال الواقدي: فحدثت يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة حديث أبي سلمة كله فقال: أخبرني أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا سلمة في المحرم على رأس أربعة وثلاثين شهراً، في مائة وخمسة وعشرين رجلاً فيهم سعد بن أبي وقاص، وأبو حذيفة بن عتبة، وسالم مولى أبي حذيفة. فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى وردوا قطن، فوجدوا القوم قد جمعوا جمعاً فأحاط بهم أبو سلمة في عماية الصبح، وقد وعظ القوم وأمرهم بتقوى الله، ورغبهم في الجهاد وحضهم عليه، وأوعز إليهم في الإمعان في الطلب، وألف بين كل رجلين. فانتبه الحاضر قبل حملة القوم عليهم، فتهيئوا وأخذوا السلاح، أو من أخذه منهم، وصفوا للقتال. وحمل سعد بن أبي وقاص على رجلٍ منهم فضربه فأبان رجله، ثم ذفف عليه ، وحمل رجلٌ من الأعراب على مسعود ابن عروة، فحمل عليه بالرمح فقتله، وخاف المسلمون على صاحبهم أن يسلب من ثيابه فحازوه إليهم. ثم صاح سعد: ما ينتظر! فحمل أبو سلمة فانكشف المشركون على حاميتهم، وتبعهم المسلمون، ثم تفرق المشركون في كل وجةٍ، وأمسك أبو سلمة عن الطلب فانصرفوا إلى المحلة، فواروا صاحبهم وأخذوا ما خف لهم من متاع القوم، ولم يكن في المحلة ذرية، ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة، حتى إذا كانوا من الماء على مسيرة ليلة أخطأوا الطريق، فهجموا على نعم لهم فيهم رعاؤهم، وإنما نكبوا عن سننهم، فاستاقوا النعم واستاقوا الرعاء، فكانت غنائمهم سبعة أبعرة.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: قال سعد ابن أبي وقاص: فلما أخطأنا استأجرنا رجلاً من العرب دليلاً يدلنا على الطريق. فقال: أنا أهجم بكم على نعمٍ، فما تجعلون لي منه؟ قالوا: الخمس. قال: فدلهم على النعم وأخذ خمسه.
غزوة بئر معونةفي صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً

حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ومعمر بن راشد، وأفلح بن سعيد، وابن أبي سبرة، وأبو معشر، وعبدالله بن جعفر، وكل قد حدثني بطائفةٍ من هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض وغير هؤلاء المسلمين، وقد جمعت كل الذي حدثوني، قالوا: قدم عامر بن مالك بن جعفر أبو البراء ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرسين وراحلتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أقبل هدية مشركٍ! فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، إني أرى أمرك هذا أمراً حسناً شريفاً، وقومي خلفي، فلو أنك بعثت نفراً من أصحابك معي لرجوت أن يجيبوا دعوتك ويتبعوا أمرك، فإن هم اتبعوك فما أعز أمرك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني أخاف عليهم أهل نجد. فقال عامر: لا تخف عليهم، أنا لهم جارٌ أن يعرض لهم أحدٌ من أهل نجد. وكان من الأنصار سبعون رجلاً شببةً يسمون القراء، كانوا إذا أمسوا أتوا ناحيةً من المدينة فتدارسوا وصلوا، حتى إذا كان وجاه الصبح استعذبوا من الماء وحطبوا من الحطب فجاءوا به إلى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان أهلوهم يظنون أنهم في المسجد، وكان أهل المسجد يظنون أنهم في أهليهم. فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فخرجوا فأصيبوا في بئر معونة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلتهم خمس عشرة ليلة. وقال أبو سعيد الخدري: كانوا سبعين، ويقال إنهم كانوا أربعين، ورأيت الثبت على أنهم أربعون. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم معهم كتاباً، وأمر على أصحابه المنذر بن عمرو الساعدي، فخرجوا حتى كانوا على بئر معونة، وهو ماءٌ من مياءه بني سلمة، وهو بين أرض بني عامر وبني سليم، وكلا البلدين يعد منه.

فحدثني مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: خرج المنذر بدليلٍ من بني سليم يقال له المطلب، فلما نزلوا عليها عسكروا بها وسرحوا ظهرهم، وبعثوا في سرحهم الحارث بن الصمة، وعمرو بن أمية. وقدموا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عامر بن الطفيل في رجالٍ من بني عامر، فلما انتهى حرام إليهم لم يقرأوا الكتاب، ووثب عامر بن الطفيل على حرام فقتله، واستصرخ عليهم بني عامر فأبوا. وقد كان عامر بن مالك أبو براء خرج قبل القوم إلى ناحية نجد فأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد، فلا يعرضوا لهم، فقالوا: لن يخفر جوار أبي براء. وأبت عامر أن تنفر مع عامر بن الطفيل، فلما أبت عليه بنو عامر استصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلاً فنفروا معه ورأسوه، فقال عامر بن الطفيل: أحلف بالله ما أقبل هذا وحده! فاتبعو إثره حتى وجدوا القوم، قد استبطأوا صاحبهم فأقبلوا في إثره، فلقيهم القوم والمنذر معهم، فأحاطت بنو عامر بالقوم وكاثروهم، فقاتل القوم حتى قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وبقي المنذر بن عمرو، فقالوا له: إن شئت آمناك. فقال: لن أعطي بيدي ولن أقبل لكم أماناً حتى آتي مقتل حرام، ثم برىء مني جواركم. فآمنوا حتى أتى مصرع حرام، ثم برئوا إليه من جوارهم، ثم قاتلهم حتى قتل، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " أعنق ليموت " . وأقبل الحارث بن الصمة وعمرو بن أمية بالسرح، وقد ارتابا بعكوف الطير على منزلهم أو قريبٍ من منزلهم. فجعلا يقولان: قتل والله أصحابنا، والله ما قتل أصحابنا إلا أهل نجد! فأوفى على نشزٍ من الأرض فإذا أصحابهم مقتولون وإذا الخيل واقفةٌ. فقال الحارث بن الصمة لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر. فقال الحارث: ما كنت لأتأخر عن موطنٍ قتل فيه المنذر. فأقبلا للقوم فقاتلهم الحارث حتى قتل منهم اثنين، ثم أخذوه فأسروه وأسروا عمرو بن أمية. وقالوا للحارث: ما تحب أن نصنع بك، فإنا لا نحب قتلك؟ قال: أبلغوني مصرع المنذر وحرام، ثم برئت مني ذمتكم. قالوا: نفعل. فبلغوا به ثم أرسلوه، فقاتلهم فقتل منهم اثنين ثم قتل، فما قتلوه حتى شرعوا له الرماح فنظموه فيها. وقال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية، وهو أسيرٌ في أيديهم ولم يقاتل: إنه قد كانت على أمي نسمة، فأنت حرٌّ عنها! وجز ناصيته، وقال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية، هل تعرف أصحابك؟ قال، قلت: نعم. قال: فطاف فيهم وجعل يسأله عن أنسابهم فقال: هل تفقد منهم عن أحدٍ؟ قال: أفقد مولىً لأبي بكر يقال له عامر بن فهيرة. فقال: كيف كان فيكم؟ قال، قلت: كان من أفضلنا ومن أول أصحاب نبينا. قال: ألا أخبرك خبره؟ وأشار إلى رجلٍ فقال: هذا طعنه برمحه، ثم انتزع رمحه فذهب بالرجل علواً في السماء حتى والله ما أراه. قال عمرو، فقلت: ذلك عامر بن فهيرة! وكان الذي قتله رجلٌ من بني كلاب يقال له جبار بن سلمى، ذكر أنه لما طعنه قال، سمعته يقول: فزت والله! قال، فقلت في نفسي: ما قوله فزت؟ قال: فأتيت الضحاك بن سفيان الكلابي فأخبرته بما كان وسألته عن قوله فزت، فقال: الجنة. قال: وعرض علي الإسلام. قال: فأسلمت، ودعاني إلى الإسلام ما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة من رفعة إلى السماء علواً. قال: وكتب الضحاك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره بإسلامي وما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فإن الملائكة وارت جئته! وأنزل عليين.

فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبر بئر معزنة، جاء معها من ليلةٍ واحدةٍ مصابهم ومصاب مرثد بن أبي مرثد، وبعث محمد بن مسلمة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلتهم بعد الركعة من الصبح، في صبح تلك الليلة التي جاءه الخبر، فلما قال: سمع الله لمن حمده! قال: اللهم اشدد وطأتك على مضرا، اللهم، عليك ببني لحيان وزعبٍ ورعل وذكوان وعصية، فإنهم عصوا الله ورسوله، اللهم، عليك ببني لحيان وعضل والقارة، اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن ابن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، غفارٌ غفر الله لها، وأسلم سالمها الله! ثم سجد. فقال ذلك خمس عشرة، ويقال أربعين يوماً، حتى نزلت هذه الآية: " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم ... " الآية. وكان أنس بن مالك يقول: يا رب، سبعين من الأنصار يوم بئر معونة! وكان أبو سعيد الخدري يقول: قتلت من الأنصار في مواطن سبعين سبعين يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيد سبعون. ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة. وكان أنس بن مالك يقول: أنزل الله فيهم قرآناً قرأناها حتى نسخ: " بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه " .
قالوا: وأقبل أبو براء سائراً، وهو شيخٌ كبيرهم، فبعث من العيص ابن أخيه لبيد بن ربيعة بهديةٍ، فرسٍ، فدره النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: لا أقبل هدية مشركٍ! فقال لبيد: ما كنت أظن أن أحداً من مضر يرد هدية أبي براء. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لو قبلت هدية مشرك لقبلت هدية أبي براء. قال: فإنه قد بعث يستشفيك من وجعٍ به وكانت به الدبيلة. فتناول النبي صلى الله عليه وسلّم جبوبةً من الأرض فتفل فيها، ثم ناوله وقال: دفها بماءٍ ثم اسقها إياه. ففعل فبرىء. ويقال إنه بعث إليه بعكة عسل فلم يزل يلعقها حتى برىء. فكان أبو براء يومئذٍ سائراً في قومه يريد أرض بلى، فمر بالعيص فبعث ابنه ربيعة مع لبيد يحملان طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لربيعة: ما فعلت ذمة أبيك؟ قال ربيعة: نقضتها ضربةٌ بسيفٍ أو طعنةٌ برمح! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج ابن أبي براء فخبر أباه، فشق عليه ما فعل عامر بن الطفيل وما صنع بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا حركة به من الكبر والضعف، فقال: أخفرني ابن أخي من بين بني عامر. وسار حتى كانوا على ماءٍ من مياه بلى يقال له الهدم، فيركب ربيعة فرساً له ويلحق عامراً وهو على جملٍ له، فطعنه بالرمح فأخطأ مقاتله. وتصايح الناس، فقال عامر بن الطفيل: إنها لم تضرني! إنها لم تضرني! وقال: قضيت ذمة أبي براء. وقال عامر بن الطفيل: قد عفوت عن عمي، هذا فعله! وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: اهد بني عامر واطلب خفرتي من عامر بن الطفيل.
وأقبل عمرو بن أمية حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلّم، سار على رجليه أربعاً، فلما كان بصدور قناة لقى رجلين من بني كلاب، قد كانا قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكساهما، ولهما منه أمانٌ. ولم يعلم بذلك عمرو، فقايلهما فلما ناما وثب عليهما فقتلهما للذي أصابت بنو عامر من أصحاب بئر معونة. ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره بقتل أصحاب بئر معونة، فقال: أنت من بينهم! ويقال إن سعد بن أبي وقاص رجع مع عمرو بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ما بعثتك قط إلا رجعت إلي من بين أصحابك. ويقال إنه لم يكن معهم ولم يكن في السرية إلا أنصاري، وهذا الثبت عندنا. وأخبر عمرو النبي صلى الله عليه وسلّم بمقتل العامريين فقال: بئس ما صنعت، قتلت رجلين كان لهما مني أمانٌ وجوار، لأدينهما! فكتب إليه عامر بن الطفيل وبعت نفراً من أصحابه يخبره: إن رجلاً من أصحابك قتل رجلين من أصحابنا ولهما منك أمانٌ وجوار. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ديتهما، دية حرين مسلمين، فبعث بها إليهم.

حدثني مصعب، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: حرص المشركون بعروة بن الصلى أن يؤمنوه فأبى وكان ذا خلة بعامر، مع أن قومه بني سليم حرصوا على ذلك. فأبى وقال: لا أقبل لكم أماناً ولا أرغب بنفسي عن مصرع أصحابي. وقالوا حين أحيط بهم: اللهم، إنا لا نجد من يبلغ رسولك السلام غيرك، فاقرأ عليه السلام فأخبره جبريل عليه السلام بذلك.
تسمية من استشهد من قريشمن بني تيم: عامر بن فهيرة، ومن بني مخزوم: الحكم بن كيسان حليفٌ لهم، ومن بني سهم: نافع من بديل بن ورقاء، ومن الأنصار: المنذر بن عمرو، أمير القوم، ومن بني زريق معاذ بن ماعص، ومن بني النجار: حرام وسليم ابنا ملحان، ومن بني عمرو بن مبذول: الحارث ابن الصمة، وسهل بن عامر بن سعد بن عمرو، والطفيل بن سعد، ومن بني عمرو بن مالك: أنس بن معاوية بن أنس، وأبو شيخ أبي بن ثابت ابن المنذر، ومن بني دينار بن النجار: عطية بن عبد عمرو، وارتث من القتلى كعب بن زيد بن قيس قتل يوم الخندق، ومن بني عمرو بن عوف: عروة بن الصلت حليفٌ لهم من بني سليم، ومن النبيت: مالك بن ثابت، وسفيان بن ثابت. فجميع من استشهد ممن يحفظ اسمه ستة عشر رجلاً.
وقال عبد الله بن رواحة يرثي نافع بن بديل، سمعت أصحابنا ينشدونها:
رحم الله نافع بن بديلٍ ... رحمة المبتغى ثواب الجهاد
صارمٌ صادق اللقاء إذا ما ... أكثر الناس قال قول السداد
وقال أنس بن عباس السلمى، وكان خال طعمية بن عدي، وكان طعمية يكنى أبا الريان، خرج يوم بئر معونة يحرض قومه يطلب بدم ابن أخيه، حتى قتل نافع بن بديل بن ورقاء، فقال:
تركت ابن ورقاء الخزاعى ثاوياً ... بمعترك تسفى عليه الأعاصر
ذكرت أبا الريان لما عرفته ... وأيقنت أني يوم ذلك ثائر
سمعت أصحابنا يثبتونها. وقال حسان بن ثابت يرثي المنذر بن عمرو:
صلى الإله على ابن عمروٍ إنه ... صدق اللقاء وصدق ذلك أوفق
قالوا له أمرين فاختر فيهما ... فاختار في الرأي الذي هو أوفق
أنشدني ابن جعفر قصيدة حسان سحاً غير نزر.
غزوة الرجيعفي صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحاب الرجيع عيوناً إلى مكة ليخبروه خبر قريش، فسلكوا على النجدية حتى كانوا بالرجيع فاعترضت لهم بنو لحيان.

حدثني محمد بن عبد الله، ومعمر بن راشد، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل ابن أبي حثمة، ومعاذ بن محمد، في رجالٍ ممن لم أسم، وكل قد حدثني ببعض الحديث، وبعض القوم كان أرعى له من بعض، وقد جمعت الذي حدثوني، قالوا: لما قتل سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي مشت بنو لحيان إلى عضل والقارة، فجعلوا لهم فرائض على أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيكلموه، فيخرج إليهم نفراً من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام. فنقتل من قتل صاحبنا ونخرج بسائرهم إلى قريش بمكة فنصيب بهم ثمناً، فإنهم ليسوا لشيءٍ أحب إليهم من أن يؤتوا بأحد من أصحاب محمدٍ، يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر. فقدم سبعة نفرٍ من عضل والقارة وهما حيان إلى خزيمة مقرين بالإسلام، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن فنيا إسلاماً فاشياً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يقرئوننا القرآن ويفقهوننا في الإسلام. فبعث معهم سبعة نفر: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن أبي البكير، وعبدالله بن طارق البلوى حليفٌ في بني ظفر، وأخاه لأمه معتب بن عبيد، حليفٌ في بني ظفر، وخبيب بن عدي بن بلحارث بن الخزرج، وزيد ابن الدثنة من بني بياضة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. ويقال كانوا عشرة وأميرهم مرثد بن أبي مرثد، ويقال أميرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. فخرجوا حتى إذا كانوا بماءٍ لهذيل يقال له الرجيع قريب من الهدة خرج النفر فاستصرخوا عليهم أصحابهم الذين بعثهم اللحيانيون، فلم يرع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم إلا بالقوم، مائة رامٍ وفي أيديهم السيوف. فاخترط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسيافهم ثم قاموا، فقال العدو: ما نريد قتالكم، وما نريد إلا أن نصيب منكم من أهل مكة ثمناً، ولكم عهد الله وميثاقه لا نقتلكم. فأما خبيب بن عدي، وزيد ابن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فاستأسروا. وقال خبيب: إن لي عند القوم يداً. وأما عاصم بن ثابت، ومرثد، وخالد بن أبي البكير، ومعتب ابن عبيد، فأبوا أن يقبلوا جوارهم ولا أمانهم. وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشركٍ أبداً. فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:
ما علتي وأنا جلدٌ نابل ... النبل والقوس لها بلابل
تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حقٌّ والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل
إن لم أقاتلكم فأمى هابل
قال الواقدي: ما رأيت من أصحابنا أحداً يدفعه. قال: فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره! وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه. قال: فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قتل، وقد جرح رجلين وقتل واحداً. فقال عاصم وهو يقاتل:
أنا أبو سليمان ومثلى رامي ... ورثت مجداً معشراً كراما
أصبت مرثداً وخالداً قياما
ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه. وكانت سلافة بنت سعد بن الشهيد قد قتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين، الحارث، ومسافعاً، فنذرت لئن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت ذلك العرب وعلمته بنو لحيان فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة. فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته فلم يدن إليه أحدٌ إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيءٌ كثيرٌ لا طاقة لأحد به. فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر. فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً وكنا ما نرى في السماء سحاباً في وجهٍ من الوجوه فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يذكر عاصماً، وكان عاصم نذر إلا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك تنجساً به. فقال عمر رضي الله عنه: إن الله عز وجل ليحفظ المؤمنين، فمنعه الله عز وجل أن يمسوه بعد وفاته كما امتنع في حياته.

وقاتل معتب بن عبيد حتى جرح فيهم، ثم خلصوا إليه فقتلوه. وخرجوا بخبيب،وعبد الله بن طارق، وزيد بن الدثنة حتى إذا كانوا بمر الظهران، وهم موثقون بأوتار قسيهم، قال عبد الله بن طارق: هذا أول الغدر! والله لا أصاحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوةً يعني القتلى . فعالجوه فأبى، ونزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه، فانحازوا عنه فجعل يشد فيهم وينفرجون عنه، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بمر الظهران. وخرجوا بخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة حتى قدموا بهما مكة، فأما خبيب فابتاعه حجير بن ابي إهاب بثمانين مثقال ذهب. ويقال اشتراه بخمسين فريضة، ويقال اشترته ابنة الحارث بن عامر بن نوفل بمائةٍ من الإبل. وكان حجير إنما اشتراه لابن أخيه عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه قتل يوم بدر. وأما زيد بن الدثنة، فاشتراه صفوان بن أمية بخمسين فريضة فقلته بأبيه، ويقال إنه شرك فيه أناسٌ من قريش، فدخل بهما في شهر حرام، في ذي القعدة، فحبس حجير خبيب بن عدي في بيت امرأة يقال لها ماوي، مولاة لبني عبد مناف، وحبس صفوان بن أمية زيد بن الدثنة عند ناسٍ من بني جمح، ويقال عند نسطاس غلامه. وكانت ماوية قد أسلمت بعد فحسن إسلامها، وكانت تقول: والله ما رأيت أحداً خيراً من خبيب. والله لقد اطلعت عليه من صير الباب وإنه لفي الحديد، ما أعلم في الأرض حبة عنبٍ تؤكل، وإن في يده لقطف عنبٍ مثل رأس الرجل يأكل منه، وما هو إلا رزقٌ رزقه الله. وكان خبيب يتهجد بالقرآن، وكان يسمعه النساء فيبكين ويرققن عليه. قالت، فقلت له: يا خبيب، هل لك من حاجة؟ قال: لا، إلا إن تسقيني العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبريني إذا أرادوا قتلى. قالت: فلما انسلخت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله أتيته فأخبرته، فوالله ما رأيته اكترث لذلك، وقال: ابعثي لي بحديدةٍ أستصلح بها. قال: فبعثت إليه موسى مع ابني أبي حسين، فلما ولى الغلام قلت: أدرك والله الرجل ثأره، أي شيءٍ صنعت؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة، فيقتله ويقول رجلٌ برجل. فلما أتاه ابني بالحديدة تناولها منه ثم قال ممازحاً له: وأبيك إنك لجريءٌ! أما خشيت أمك غدرى حين بعثت معك بحديدةٍ وأنتم تريدون قتلي؟ قالت ماوية: وأنا أسمع ذلك فقلت: يا خبيب، إنما أمنتك بأمان الله وأعطيتك بإلهك، ولم أعطك لتقتل ابني. فقال خبيب: ما كنت لأقتله، وما نستخل في ديننا الغدر. ثم أخبرته أنهم مخرجوه فقاتلوه بالغداة. قال: فأخرجوه بالحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم، وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعةٌ من أهل مكة، فلم يتخلف أحدٌ، إما موتور فهو يريد أن يتشافى بالنظر من وتره، وإما غيره موتور فهو مخالف للإسلام وأهله. فلما انتهوا به إلى التنعيم، ومعه زيد بن الدثنة، فأمروا بخشبة طويلة فحفر لها، فلما انتهوا بخبيب إلى خشبته قال: هل أنتم تاركي فأصلى ركعتين؟ قالوا: نعم. فركع ركعتين أتمهما من غير أن يطول فيهما.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن العلاء، عن أبي هريرة، قال: " أول من سن الركعتين عند القتل خبيب " .
قالوا: ثم قال: أما والله لولا أن تروا أني جزعت من الموت لاستكثرت من الصلاة. ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
فقال معاوية بن أبي سفيان: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليضجعني إلى الأرض فرقاً من دعوة خبيب، ولقد جبذني يومئذٍ أبو سفيان جبذة، فسقطت على عجب ذنبي فلم أزل أشتكي السقطة زماناً.
وقال حويطب بن عبد العزي: لقد رأيتني أدخلت إصبعي في أذني وعدوت هرباً فرقاً أن أسمع دعاءه.
وقال حكيم بن حزام: لقد رأيتني أتوارى بالشجر فرقاً من دعوة خبيب.
فحدثني عبد الله بن يزيد قال: حدثني سعيد بن عمرو قال: سمعت جبير بن مطعم يقول: لقد رأيتني يومئذ أتستر بالرجال فرقاً من أن أشرف لدعوته.
وقال الحارث بن برصاء: والله ما ظننت أن تغادر دعوى خبيب منهم أحداً.

وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، قال: استعمل عمر بن الخطاب رضي الله علنه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على حمص، وكانت تصيبه غشيةٌ وهو بين ظهري أصحابه. فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فسأله في قدمةٍ قدم عليه من حمص فقال: يا سعيد، ما الذي يصيبك؟ أبك جنة؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني كنت فيمن حضر خبيباً حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلسٍ إلا غشي علي. قال: فزادته عند عمر خيراً.
وحدثني قدامة بن موسى، عن عبد العزيز بن رمانة، عن عروة بن الزبير، عن نوفل بن معاوية الديلي، قال: حضرت يومئذٍ دعوة خبيب، فما كنت أرى أن أحداً ممن حضر ينفلت من دعوته، ولقد كنت قائماً فأخلدت إلى الأرض فرقاً من دعوته، ولقد مكثت قريش شهراً أو أكثر وما لها حديث في أنديتها إلا دعوة خبيب.
قالوا: فلما صلى الركعتين حملوه إلى الخشبة، ثم وجهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطاُ، ثم قالوا: ارجع عن الإسلام، نخل سبيلك! قال: لا والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وان لي ما في الأرض جميعاً! قالوا: فتحب أن محمداً في مكانك وأنت جالسٌ في بيتك؟ قال: والله ما أحب أن يشاك محمدٌ بشوكةٍ وأنا جالسٌ في بيتي. فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب! قال: لا أرجع أبداً.! قالوا: أما واللات والعزى، لئن لم تفعل لنقتلنك! فقال: إن قتلي في الله لقليلٌ! فلما أبى عليهم، وقد جعلوا وجهه من حيث جاء، قال: أما صرفكم وجهي عن القبلة، فإن الله يقول: " فأينما تولوا فثم وجه الله.. " . ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس ها هنا أحدٌ يبلغ رسلولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام! فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان جالساً مع أصحابه، فأخذته غميةٌ كما كان يأخذه إذا أنزل عليه الوحي. قال: ثم سمعناه يقول: وعليه السلام ورحمة الله ثم قال هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام. قال: ثم دعوا أبناءً من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاماً، فأعطوا كل غلامٍ رمحاً، ثم قالوا: هذا الذي قتل آباءكم. فطعنوه برماحهم طعناً خفيفاً، فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه إلى الكعبة، فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته الذي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين! وكان الذي أجلبوا على قتل خبيب: عكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عبد الله بن قيس، والأخنس بن شريق، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن الأوقص السلمى. وكان عقبة بن الحارث بن عامر ممن حضر، وكان يقول: والله ما أنا قتلت خبيباً إن كنت يومئذٍ لغلاماً صغيراً. ولكن رجلاً من بني عبد الدار يقال له أبو ميسرة من عوف بن السباق أخذ بيدي فوضعها على الحربة، ثم أمسك بيدي ثم جعل يطعن بيده حتى قتله، فلما طعنه بالحربه أفلت، فصاحوا: يا أبا سروعة، بئس ما طعنه أبو ميسرة! فطعنه أبو سروعة حتى أخرجها من ظهره، فمكث ساعة يوحد الله ويشهد أن محمداً رسول الله. يقول الأخنس بن شريق: لو ترك ذكر محمد على حالٍ لتركه على هذه الحال، ما رأينا قط والداً يجد بولده ما يجد أصحاب محمد بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وكان زيد بن الدثنة عند آل صفوان بن أمية محبوساً في حديد، وكان يتهجد بالليل ويصوم النهار، ولا يأكل شيئاً مما أتى به من الذبائح. فشق ذلك على صفوان، وكانوا قد أحسنوا إساره، فأرسل إليه صفوان: فما الذي تأكل من الطعام؟ قال: لست آكل مما ذبح لغير الله، ولكني أشرب اللبن. وكان يصوم، فأمر له صفوان بعسٍّ من لبن عند فطره فيشرب منه حتى يكون مثلها من القابلة. فلما خرج به وبخبيب في يومٍ واحد التقيا، ومع كل واحد منهما فئامٌ من الناس، فالتزم كل منهما صاحبه وأوصى كل واحدٍ منهما صاحبه بالصبر على ما أصابه، ثم افترقا. وكان الذي ولى قتل زيد نسطاس غلام صفوان، خرج به إلى التنعيم فرفعوا له جذعاً، فقال: أصلي ركعتين! فصلى ركعتين ثم حملوه على الخشبة، ثم جعلوا يقولون لزيد: ارجع عن دينك المحدث واتبع ديننا، ونرسلك! قال: لا والله، لا أفارق ديني أبداً! قالوا: أيسرك أن محمداً في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ قال: ما يسرني أن محمداً أشيك بشوكة وأني في بيتي! قال: يقول أبو سفيان بن حرب: لا، ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حباً من أصحاب محمد بمحمد. وقال حسان بن ثابت، صحيحة سمعتها من يونس بن محمد الظفري:

فليت خبيباً لم تخنه أمانةٌ ... وليت خبيباً كان بالقوم عالما
شراه زهير بن الأغر وجامعٌ ... وكانا قديماً يركبان المحارما
أجرتم فلما أن أجرتم غدرتم ... وكنتم بأكناف الرجعي اللهازما
وقال حسان بن ثابت، ثبت قديمةٌ:
لو كان في الدار قرمٌ ذو محافظةٍ ... حامي الحقيقة ماضٍ خاله أنس
إذن حللت خبيباً منزلاً فسحاً ... ولم يشد عليك الكبل والحرس
ولم تقدك إلى التنعيم زعنفةٌ ... من المعاشر ممن قد نفت عدس
فاصبر خبيب فإن القتل مكرمةٌ ... إلى جنان نعيمٍ ترجع النفس
دلوك غدراً وهم فيها أولو خلفٍ ... وأنت ضيفٌ لهم في الدار محتبس
غزوة بني النضيرفي ربيع الأول، على رأس سبعةٍ وثلاثين شهراً من مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلّم.

حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل، وابن أبي حبيبة، ومعمر بن راشد، في رجالٍ ممن لم أسمهم، فكلٌّ قد حدثني ببعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد اجتمعت كل الذي حدثوني، قالوا: أقبل عمرو ابن أمية من بئر معونة حتى كان بقناة، فلقي رجلين من بني عامر فنسبهما فانتسبا، فقابلهما حتى إذا ناما وثب عليهما فقتلهما. ثم خرج حتى ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ساعته في قدر حلب شاة، فأخبره خبرهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بئس ما صنعت، قد كان لهما منا أمانٌ وعهد! فقال: ما شعرت، كنت أراهما على شركهما، وكان قومهما قد نالوا منا ما نالوا من الغدر بنا. وجاء بسلبهما، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعزل سلبهما حتى بعث به مع ديتهما. وذلك أن عامرابن الطفيل بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن رجلاً من أصحابك قتل رجلين من قومي، ولهما منك أمانٌ وعهد، فابعث بديتهما إلينا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بني النضير يستعين في ديتهما، وكانت بنو النضير حلفاء لبني عامر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم السبت فصلى في مسجد قباء ومعه رهطٌ من المهاجرين والأنصار، ثم جاء بني النضير فيجدهم في ناديهم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتهما عمرو بن أمية، فقالوا: نفعل، يا أبا القاسم، ما أحببت. قد أني لك أن تزورنا وأن تأتينا اجلس حتى نطعمك! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مستندٌ إلى بيتٍ من بيوتهم، ثم خلا بعضهم إلى بعضٍ فتناجوا، فقال حيي بن أخطب: يا معشر اليهود، قد جاءكم محمد في نفيرٍ من أصحابه لا يبلغون عشرة ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فاطرحوا عليه حجارةً من فوق هذا البيت الذي تحته فاقتلوه، فلن تجدوه أخلى منه الساعة! فإنه إن قتل تفرق أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من ها هنا من الأوس والخزرج حلفاوكم، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوماً من الدهر فمن الآن! فقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة. قال سلام بن مشكم: يا قوم، أطيعوني هذه المرة وخالفوني الدهر! والله إن فعلتم ليخبرن بأنا قد غدرنا به، وإن هذا نقض العهد الذي بيننا وبينه، فلا تفعلوا! ألا فوالله لو فعلتم الذي تريدون ليقومن بهذا الدين منهم قائم إلى يوم القيامة، يستأصل اليهود ويظهر دينه! وقد هيأ الصخرة ليرسلها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويحدرها، فلما أشرف بها جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما هموا به، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم سريعاً كأنه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة وجلس أصحابه يتحدثون وهم يظنون أنه قام يقضي حاجة، فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما مقامنا ها هنا بشيءٍ، لقد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمر. فقاموا، فقال حيي: عجل أبو القاسم! قد كنا نريد أن نقضي حاجته ونغديه. وندمت اليهود على ما صنعوا، فقال لهم كنانة بن صويراء: هل تدرون لم قام محمد؟ قالوا: لا والله، ما ندري وما تدري أنت! قال: بلى والتوراة، إني لأدري، قد أخبر محمدٌ ما هممتم به من الغدر، فلا تخدعوا أنفسكم، والله إنه لرسول الله، وما قام إلا أنه أخبر بما هممتم به. وإنه لآخر الأنبياء، كنتم تطمعون أن يكون م بني هارون فجعله الله حيث شاء. وإن كتبنا والذي درسنا في التوراة التي لم تغير ولم تبدل أن مولده بمكة ودار هجرته يثرب، وصفته بعينها ما تخالف حرفاً مما في كتابنا، وما يأتيكم به أولى من محاربته إياكم، ولكأني أنظر إليكم ظاعنين، يتضاغى صبيانكم، قد تركتم دوركم خلوفاً وأموالكم، وإنما هي شرفكم، فأطيعوني في خصلتين، والثالثة لا خير فيها! قالوا: ما هما؟ قال: تسلمون وتدخلون مع محمد، فتأمنون على أموالكم وأولادكم، وتكونون من علية أصحابه، وتبقى بأيديكم أموالكم، ولا تخرجون من دياركم. قالوا: لا نفارق التوراة وعهد موسى! قال: فإنه مرسل إليكم: اخرجوا من بلدي، فقولوا نعم فإنه لا يستحل لكم دماً ولا مالاً وتبقى أموالكم، إن شئتم بعتم، وإن شئتم أمسكتم. قالوا: أما هذا فنعم. قال: أما

والله إن الأخرى خيرهن لي. قال: أما والله لولا أني أفضحكم لأسلمت. ولكن والله لا تعير شعثاء بإسلامي أبداً حتى يصيبني ما أصابكم وابنته شعثاء التي كان حسان ينسب بها. فقال سلام بن مشكم: قد كنت لما صنعتم كارهاً، وهو مرسلٌ إلينا أن اخرجوا من داري، فلا تعقب يا حيي كلامه، وأنعم له بالخروج، فاخرج من بلاده! قال: أفعل، أنا أخرج!والله إن الأخرى خيرهن لي. قال: أما والله لولا أني أفضحكم لأسلمت. ولكن والله لا تعير شعثاء بإسلامي أبداً حتى يصيبني ما أصابكم وابنته شعثاء التي كان حسان ينسب بها. فقال سلام بن مشكم: قد كنت لما صنعتم كارهاً، وهو مرسلٌ إلينا أن اخرجوا من داري، فلا تعقب يا حيي كلامه، وأنعم له بالخروج، فاخرج من بلاده! قال: أفعل، أنا أخرج!

فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة تبعه أصحابه، فلقوا رجلاً خارجاً من المدينة فسألوه: هل لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: لقيته بالجسر داخلاً. فلما انتهى أصحابه إليه وجدوه قد أرسل إلى محمد ابن مسلمة يدعوه، فقال أبو بكر: يا رسول الله، قمت ولم نشعر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: همت اليهود بالغدر بي، فأخبرني الله بذلك فقمت. وجاء محمد بن مسلمة فقال: اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم، إن رسول الله أرسلني إليكم ان اخرجوا من بلده فلما جاءهم قال: إن رسول الله أرسلني برسالة، ولست أذكرها لكم حتى أعرفكم شيئاً تعرفونه. قال: أنشدكم بالتوراة التي أنزل الله على موسى، هل تعلمون أني جئتكم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وبينكم التوراة، فقلتم لي في مجلسكم هذا: يا ابن مسلمة، إن شئت أن نغديك غديناك، وإن شئت أن نهودك هودناك. فقلت لكم: غدوني ولا تهودوني، فإني والله لا أتهود أبداً! فغديتموني في صحفةٍ لكم، والله لكأني انظر إليها كانها جزعة، فقلتم لي: ما يمنعك من ديننا إلا أنه دين يهود. كأنك تريد الحنيفية التي سمعت بها، أما إن أبا عامر قد سخطها وليس عليها، أتاكم صاحبها الضحوك القتال، في عينيه حمرة، يأتي من قبل اليمن، يكرب البعير ويلبس الشملة، ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه، ليست معه آية، هو ينطق بالحكمة، كأنه وشيجتكم هذه، والله ليكونن بقريتكم هذه سلب وقتل ومثل! قالوا: اللهم نعم، قد قلناه لك ولكن ليس به. قال: قد فرغت، إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسلني إليكم يقول لكم: قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي! وأخبرهم بما كانوا ارتأوا من الرأي وظهور عمرو بن جحاش على البيت يطرح الصخرة، فأسكتوا فلم يقولوا حرفاً. ويقول: اخرجوا من بلدي، فقد أجلتكم عشراً فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه! قالوا: يا محمد، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجلٌ من الأوس. قال محمد: تغيرت القلوب. فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون وأرسلوا إلى ظهرٍ لهم بذى الجدر تجلب، وتكاروا من ناسٍ من أشجع إبلاً وأخذوا في الجهاز. فبينما هم على ذلك إذ جاءهم رسول ابن أبي، أتاهم سويد وداعس فقالا: يقول عبد الله بن أبي: لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة فإنهم لن يخذلوكم، ويمدكم حلفاؤكم من غطفان. وأرسل ابن أبي إلى كعب بن أسد يكلمه أن يمد أصحابه فقال: لا ينقض من بني قريظة رجلٌ واحدٌ العهد. فيئس ابن أبي من قريظة وأراد أن يلحم الأمر فيما بين بني النضير ورسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلم يزل يرسل إلى حيي حتى قال حيي: أنا أرسل إلى محمدٍ أعلمه أنا لا نخرج من دارنا وأموالنا، فليصنع ما بدا له. وطمع حيي فما قال ابن أبي، وقال حيي: نرم حصوننا، ثم ندخل ماشيتنا، وندرب أزقتنا، وننقل الحجارة إلى حصوننا، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماءنا واتن في حصوننا لا نخاف قطعه. فترى محمداً يحصرنا سنة؟ لا نرى هذا. قال سلام بن مشكم: منتك نفسك والله يا حيي الباطل، إني والله لولا أن يسفه رأيك أو يزرى بك لاعتزلتك بمن أطاعني من اليهود، فلا تفعل يا حيي، فوالله إنك لتعمل ونعلم معك أنه لرسول الله وأن صفته عندنا، فإن لم نتبعه وحسدناه حيث خرجت النبوة من بني هارون! فتعال فنقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج من بلاده، فقد عرفت أنك خالفتني في الغدر به، فإذا كان أوان الثمر جئنا أو جاء من جاء منا إلى ثمره فباع أو صنع ما بدا له، ثم انصرف إلينا فكأنا لم نخرج من بلادنا إذا كانت أموالنا بأيدينا، إنا إنما شرفنا على قومنا بأموالنا وفعالنا، فإذا ذهبت أموالنا من أيدينا كنا كغيرنا من اليهود في الذلة والإعدام. وإن محمداً إن سار إلينا فحصرنا في هذه الصياصي يوماً واحداً، ثم عرضنا عليه ما أرسل به إلينا، لم يقبله وأبى علينا. قال حيي: إن محمداً لا يحصرنا إلا إن أصاب منا نهزة، وإلا انصرف، وقد وعدني ابن أبي ما قد رأيت. فقال سلام: ليس قول ابن أبي بشيءٍ، إنما يريد ابن أبي أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمداً، ثم يجلس في بيته ويتركك. قد أراد من كعب بن أسد النصر فأبى كعب وقال: لا ينقض العهد رجلٌ من بني قريظة وأنا حيٌّ.

وإلا فإن ابن أبي قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد، وحصروا أنفسهم في صياصيهم وانتظروا نصرة ابن أبي، فجلس في بيته وسار محمد إليهم، فحصرهم حتى نزلوا على حكمه، فابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس كلهم، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حربهم كلها، إلى أن تقطعت حربهم فقدم محمد فحجز بينهم. وابن أبي لا يهودي على دين يهود، ولا على دين محمد، ولا هو على دين قومه، فكيف تقبل منه قولاً قاله؟ قال حيي: تأبى نفسي إلا عداوة محمدا وإلا قتاله. فإن ابن أبي قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد، وحصروا أنفسهم في صياصيهم وانتظروا نصرة ابن أبي، فجلس في بيته وسار محمد إليهم، فحصرهم حتى نزلوا على حكمه، فابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس كلهم، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حربهم كلها، إلى أن تقطعت حربهم فقدم محمد فحجز بينهم. وابن أبي لا يهودي على دين يهود، ولا على دين محمد، ولا هو على دين قومه، فكيف تقبل منه قولاً قاله؟ قال حيي: تأبى نفسي إلا عداوة محمدا وإلا قتاله.
قال سلام: فهو والله جلاونا من أرضنا، وذهاب أموالنا، وذهاب شرفنا، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا. فأبى حيي إلا محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له ساروك بن أبي الحقيق وكان ضعيفاً عندهم في عقله كأن به جنة يل حيي، أنت رجل مشئوم، تهلك بني النضير! فغضب حيي وقال: كل بني النضير قد كلمني حتى هذا المجنون. فضربه إخوته وقالوا لحيي: أمرنا لأمرك تبعٌ، لن نخالفك.
فأرسل حيي أخاه بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنا لا نبرح من دارنا وأموالنا، فاصنع ما أنت صانع. وأمره أن يأتي ابن أبي فيخبره برسالته إلى محمد، ويأمره بتعجيل ما وعد من النصر. فذهب جدي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالذي أرسله حيي، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو جالسٌ في أصحابه فأخبره، فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلّم التكبير، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت اليهود! وخرج جدي حتى دخل على ابن أبي وهو جالسٌ في بيته مع نفيرٍ من حلفائه، وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم بالمسير إلى بني النضير، فيدخل عبد الله بن عبد الله بن أبي على عبد الله أبيه وعلى النفر معه، وعنده جدي بن أخطب، فلبس درعه وأخذ سيفه فخرج يعدو، فقال جدي: لما رأيت ابن أبي جالساً في ناحية البيت وابنه عليه السلاح، يئست من نصره فخرجت أعدو إلى حيي، فقال: ما وراءك؟ قلت: الشر! ساعة أخبرت محمداً بما أرسلت به إليه أظهر التكبير وقال حاربت اليهود. فقال: هذه مكيدة منه. قال: وجئت ابن أبي فأعلمته، ونادى منادي محمد بالمسير إلى بني النضير. قال: وما رد عليك ابن أبي؟ فقال جدي: لم أر عنده خيراً. قال: أنا أرسل إلى حلفائي فيدخلون معكم. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير،فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه قاموا على جدر حصونهم، معهم النبل والحجارة. واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاحٍ ولا رجال ولم يقربوهم. وجعلوا يرمون ذلك اليوم بالنبل والحجارة حتى أظلموا، وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقدمون، من كان تخلف في حاجته، حتى تتاموا عند صلاة العشاء، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العشاء رجع إلى بيته في عشرة من أصحابه، عليه الدرع وهو على فرسٍ. وقد استعمل علياً عليه السلام على العسكر، ويقال أبا بكر رضي الله عنه. وبات المسلمون يحاصرونهم، يكبرون حتى أصبحوا، ثم أذن بلالٌ بالمدينة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه الذين كانوا معه، فصلى بالناس بفضاء بني خطمة. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وحملت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبةٌ من أدم.
وحدثني يحيى بن عبد العزيز قال: كانت القبة من غربٍ عليها مسوح، أرسل بها سعد بن عبادة، فأمر بلالاً فضربها في موضع المسجد الصغير الذي بفضاءٍ بني خطمة، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم القبة. وكان رجل من اليهود يقال له عزوك، وكان أعسر رامياً، فرمى فبلغ نبله قبة النبي صلى الله عليه وسلّم، فأمر بقبته فحولت إلى مسجد الفضيخ وتباعدت من النبل.

وأمسوا فلم يقربهم ابن أبي ولا أحدٌ من حلفائه وجلس في بيته، ويئست بنو النضير من نصره، وجعل سلام بن مشكم وكنانة بن صويراء يقولان لحيي: أين نصر ابن أبي كما زعمت؟ قال حيي: فما أصنع؟ هي ملحمة كتبت علينا. ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدرع وبات، وظل محاصرهم، فلما كان ليلة من الليالي فقد علي بن أبي طالب عليه السلام حين قرب العشاء، فقال الناس: ما نرى علياً يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دعوه، فإنه في بعض شأنكم! فلم يلبث أن جاء برأس عزوك، فطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني كمنت لهذا الخبيث فرأيت رجلاً شجاعاً، فقلت: ما أجرأه أن يخرج إذا أمسينا يطلب منا غرة. فأقبل مصلتاً سيفه في نفرٍ من اليهود، فشددت عليه فقتلته، وأجلى أصحابه ولم يبرحوا قريباً، فإن بعثت معي نفراً رجوت أن أظفر بهم. فبعث معه أبا دجانة، وسهل بن حنيف في عشرة من أصحابه، فأدركوهم قبل أن يدخلوا حصنهم، فقتلوهم وأتوا برءوسهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم برءوسهم فطرحت في بعض بئار بني خطمة.
وكان سعد بن عبادة يحمل التمر إلى المسلمين، فأقاموا في حصنهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالنخل فقطعت وحرقت. واستعمل على قطعها رجلين من أصحابه: أبا ليلى المازني، وعبد الله بن سلام، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون، فقيل لهما في ذلك فقال أبو ليلى: كانت العجوة أحرق لهم. وقال ابن سلام: قد عرفت أن الله سيغنمه أموالهم، وكانت العجوة خير أموالهم، فنزل في ذلك رضاءً بما صنعنا جميعاً.. " ما قطعتم من لينةٍ " ألوان النخل، للذي فعل ابن سلام، " أو تركتموها قائمةً على أصولها " يعني العجوة، " فبإذن الله " وقطع أبو ليلى العجوة " وليخزى الفاسقين " يعني بني النضير، رضاءً من الله بما صنع الفريقان جميعاً، فلما قطعت العجوة شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما لهن؟ قفيل: يجزعن على قطع العجوة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن مثل العجوة جزع عليه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: العجوة والعتيق الفحل الذي يؤبر به النخل من الجنة، والعجوة شفاءٌ من السم. فلما صحن صاح بهن أبو رافع سلام: إن قطعت العجوة ها هنا، فإن لنا بخيبر عجوة. قالت عجوزٌ منهن: خيبر، يصنع بها مثل هذا! فقال أبو رافع: فض الله فاك! إن حلفائي بخيبر لعشرة آلاف مقاتل. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوله فتبسم. وجزعوا على قطع العجوة فجعل سلام بن مشكم يقول: يا حيي، العذق خير من العجوة، يغرس فلا يطعم ثلاثين سنة يقطع! فأرسل حيي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا محمد، إنك كنت تنهي عن الفساد، لم تقطع النخل؟ نحن نعطيك الذي سألت؟ ونخرج من بلادك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلا الحلقة. فقال سلام: اقبل ويحك، قبل أن تقبل شراً من هذا! فقال حيي: ما يكون شراً من هذا؟ قال سلام: يسبى الذرية ويقتل المقاتلة مع الأموال، فالأموال اليوم أهون علينا إذا لحمنا هذا الأمر من القتل والسباء. فأبى حيي أن يقبل يوماً أو يومين، فلما رأى ذلك يامين بن عمير وأبو سعد ابن وهب قال أحدهما لصاحبه: وإنك لتعلم أنه لرسول الله، فما تنتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا؟ فنزلا من الليل فأسلما فأحرزا دماءهما وأموالهما.
ثم نزلت اليهود على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فلما أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لابن يامين: ألم تر إلى ابن عمك عمرو ابن جحاش وما هم به من قتلى؟ وهو زوج أخته، كانت الرواع بنت عمير تحت عمرو بن جحاش. فقال ابن يامين: أنا أكفيكه يا رسول الله. فجعل لرجلٍ من قيس عشرة دنانير على أن يقتل عمرو بن جحاش، ويقال خمسة أوسق من تمر. فاغتاله فقلته، ثم جاء ابن يامين إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره بقتله، فسر بذلك.

وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمسة عشر يوماً، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة وولى إخراجهم محمد بن مسلمة. فقالوا: إن لنا ديوناً على الناس إلى آجال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: تعجلوا وضعوا. فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد ابن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين ديناراً، وأبطل ما فضل. وكانوا في حصارهم يخربون بيوتهم مما يليهم، وكان المسلمون يخربون ما يليهم ويحرقون حتى وقع الصلح، فتحملوا، فجعلوا يحملون الخشب ونجف الأبواب. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لصفية بنت حيي: لو رأيتني وأنا أشد الرحل لخالك بحرى بن عمرو وأجليه منها! وحملوا النساء والصبيان، فخرجوا على بلحارث بن الخزرج، ثم على الجبلية، ثم على الجسر حتى مروا بالمصلى، ثم شقوا سوق المدينة، والنساء في الهوادج عليهن الحرير والديباج، وقطف الخز الخضر والحمر، وقد صف لهم الناس، فجعلوا يمرون قطاراً في أثر قطار، فحملوا على ستمائة بعير، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش. وقال حسان بن ثابت وهو يراهم وسراة الرجال على الرحال: أما والله إن لقد كان عندكم لنائلٌ للمجتدى وقرى حاضر للضيف، وسقيا للمدام، وحلمٌ على من سفه عليكم، ونجدةٌ إذا استنجدتم. فقال الضحاك بن خليفة: واصباحاه، نفسي فداؤكم! ماذا تحملتم به من السؤدد والبهاء، والنجدة والسخاء؟ قال، يقول نعيم ابن مسعود الأشجعي: فدىً لهذه الوجوه التي كأنها المصابيح ظاعنين من يثرب. من للمجتدى الملهوف؟ ومن للطارق السغبان؟ ومن يسقى العقار؟ ومن يطعم الشحم فوق اللحم؟ ما لنا بيثرب بعدكم مقام. يقول أبو عبس ابن جبر وهو يسمع كلامه، نعم، فالحقهم حتى ندخل معهم البار. قال نعيم: ما هذا جزاؤهم منكم، لقد استنصرتموهم فنصروكم على الخزرج، ولقد استنصرتم سائر العرب فأبوا ذلك عليكم. قال أبو عبس: قطع الإسلام العهود. قال: ومروا يضربون بالدفوف ويزمرون بالمزامير، وعلى النساء المعصفرات وحلى الذهب، مظهرين ذلك تجلداً. قال، يقول جبار بن صخر: ما رأيت زهاءهم لقوم زالوا من دار إلى دار. ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، ورفع مسك الجمل وقال: هذا مما نعده لخفض الأرض ورفعها، فإن يكن النخل قد تركناها فإنا نقدم على نخلٍ بخيبر.
فحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعدي الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: لقد مر يومئذٍ نساءٌ من نسائهم في تلك الهوادج قد سفرن عن الوجوه، لعلى لم أر مثل جمالهن لنساءٍ قط لقد رأيت الشقراء بنت كنانة يومئذٍ كأنها لؤلؤة غواص، والرواع بنت عمير مثل الشمس البازغه، في أيديهن أسورة الذهب، والدر في رقابهن. ولقى المنافقون عليهم يوم خرجوا حزناص شديداً، لقد لقيت زيد بن رفاعة بن التابوت وهو مع عبد الله بن أبي، وهو يناجيه في بني غنم وهو يقول: توحشت بيثرب لفقد بني النضير، ولكنهم يخرجون إلى عز وثروة من حلفائهم، وإلى حصون منيعة شامخة في رءوس الجبال ليست كما ها هنا. قال: فاستمعت عليهما ساعة، وكل واحد منهما غاشٌّ لله ولرسوله.
قالوا: ومرت في الظعن يومئذٍ سلمى صاحبة عروة بن الورد العبسي، وكان من حديثها أنها كانت امرأة من بني غفار، فسباها عروة من قومها فكانت ذات جمال، فولدت له أولاداً ونزلت منه منزلاً، فقالت له، وجعل ولده يعيرون بأمهم يا بني الأخيذة! فقالت: ألا ترى ولدك يعيرون؟ قال: فماذا ترين؟ قالت: تردني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوجونك. قال: نعم. فأرسلت إلى قومها أن القوه بالخمر ثم اتركوه حتى يشرب ويثمل، فإنه إذا ثمل لم يسأل شيئاً إلا أعطاه. فلقوه ونزل في بني النضير، فسقوه الخمر، فلما سكر سألوه سلمى فردها عليهم، ثم أنكحوه بعد. ويقال: إنما جاء بها إلى بني النضير وكان صعلوكاً يغير. فسقوه الخمر فلما انتشى منعوه، ولا شيء معه إلا هي، فرهنها فلم يزل يشرب حتى غلقت فلما صحا قال لها: انطلقي. قالوا: لا سبيل إلى ذلك، قد أغلقتها. فبهذا صارت عند بني النضير. قال عروة بن الورد:
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذبٍ وزور
وقالوا لست بعد فداء سلمى ... بمغنٍ ما لديك ولا فقير

فلا والله لو كاليوم أمرى ... ومن لي بالتدبير في الأمور
إذاً لعصيتهم في أمر سلمى ... ولو ركبوا عضاه المستعور
أنشدينها ابن أبي الزناد.
حدثني أبو بكر بن عبد الله، عن المسور بن رفاعة قال: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأموال وقبض الحلقة، فوجد من الحلقة خمسين درعا،ً وخمسين بيضةً، وثلثمائة سيف، وأربعين سيفاً. ويقال غيبوا بعض سلاحهم وخرجوا به.وكان محمد بن مسلمة الذي ولى قبض الأموال والحلقة وكشفهم عنها. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، ألا تخمس ما أصبت من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أجعل شيئاً جعله الله عز وجل لي دون المؤمنين! بقوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى.. " الآية، كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفياً، فكانت بنو النضير حبساً لنوائبه، وكانت فدك لابن السبيل، وكانت خيبر قد جزأها ثلاثة أجزاء فجزءان للمهاجرين وجزءٌ كان ينفق منه على أهله، فإن فضل رده على فقراء المهاجرين.
حدثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير، قال: إنما كان ينفق على أهله من بني النضير، كانت له خالصة، فأعطى من أعطى منها وحبس ما حبس. وكان يزرع تحت النخل زرعاً كثيراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدخل له منها قوت أهله سنةً من الشعير والتمر لأزوجه وبني عبد المطلب، فما فضل جعله في الكراع والسلاح، وإنه كان عند أبي بكر وعمر من ذلك السلاح الذي اشترى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد استعمل على أموال بني النضير أبا رافع مولاه، وربما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالباكورة منها، وكانت صدقاته منها ومن أموال مخيريق. وهي سبعة حوائط الميثب، والصافية، والدلال، وحسنى، وبرقة، والأعواف، ومشربة أم إبراهيم، وكانت أم إبراهيم تكون هناك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتيها هناك. وقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما تحول من بني عمرو بن عوف إلى المدينة تحول أصحابه من المهاجرين، فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحدٌ منهم على أحدٍ إلا بقرعة سهم.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أم العلاء، قالت: صار لنا عثمان بن مظعون في القرعة، وكان في منزلنا حتى توفى وكان المهاجرون في دورهم وأموالهم، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس فقال: ادع لي قومك! قال ثابت: الخزرج يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الأنصار كلها! فدا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم، وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجريتن على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم. فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا: يا رسول الله، بل تقسيمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار! فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أفاء الله عليه، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحداً من الأنصار من ذلك الفىء شيئا، إلا رجلين كانا محتاجين سهل بن حنيف، وأبا دجانة. وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، وكان سيفاً له ذكرٌ عندهم. قالوا: وكان ممن أعطى ممن سمى لنا من المهاجرين أبو بكر الصديق رضي الله عنه بئر حجر، وأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بئر جرم، وأعطى عبد الرحمن ابن عوف سوالة وهو الذي يقال له مال سليم. وأعطى صهيب بن سنان الضراطة، وأعطى الزبير بن العوام وأبا سلمة بن عبد الأسد البويلة. وكان مال سهل بن حينف وأبي دجانة معروفاً، يقال له مال ابن خرشة، ووسع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الناس منها.
ذكر ما نزل من القرآن في بني النضير

" سبح لله ما في السموات وما في الأرض " قال كل شيءٍ سبح له، وتسبيح الجدر النقض. حدثني ربيعة بن عثمان، عنحيي، عن أبي هريرة بذلك. " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " يعني بني النضير حين أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى الشام، وكان ذلك أول الحشر في الدنيا إلى الشام، " ما ظننتم أن يخرجوا " يقول عز وجل للمؤمنين: ما ظننتم ذلك، كان لهم عز ومنعة، " وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله " حين تحصنوا، " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " إلى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإجلاؤهم، " وقذف في قلوبهم الرعب " لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بساحتهم رعبوا وأيقنوا بالهلكة، وكان الرعب في قلوبهم له وجبان، " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " قال كانوا لما حصروا والمسلمون يحفرون عليهم من ورائهم وهم ينقبون مما يليهم، فيأخذون الخشب والنجف، " فاعتبروا يا أولى الأبصار " قال يعني يا أهل العقول. " ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء " يقول في أم الكتاب أن يجلوا. " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " يقول عصوا الله ورسوله وخالفوه. " ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها " الآية، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد استعمل على قطع نخلهم أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان ابن سلام يقطع اللون، فقال لهم بنو النضير: أنتم مسلمون ما يحل لكم عقر النخل. فاختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك، فقال بعضهم يقطع، وقال بعضهم لا يقطع. فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينةٍ " ألوان النخل سوى العجوة، " أو تركتموها قائمةً على أصولها " قال العجوة، " فبإذن الله وليخزي الفاسقين " يقول يغيظهم ما قطع من النخل. " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " قوله لله ولرسوله واحد " ولذى القربى " قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم " واليتامى والمساكين وابن السبيل " فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمس الخمس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعطي بني هاشم من الخمس ويزوج أياماهم. وكان عمر رضي الله عنه قد دعاهم إلى أن يزوج أياماهم ويخدم عائلهم ويقضي عن غارمهم، فأبوا إلا أن يسلمه كله، وأبي عمر رضي الله عنه. فحدثني مصعب بن ثابت، عن يزيد بن رومان، عن عروة، أن أبا بكر وعمر وعلياً كانوا يجعلونه في اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقوله " كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم " يقول لا يستن بها من بعد فتعطى الأغنياء، " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " يقول ما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أمرٍ ونهيٍ فهي بمنزلة ما نزل من الوحي. " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " يعني المهاجرين الأولين من قريش الذين هاجروا إلى المدينة قبل بدر. " والذين تبووأ الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " يعني الأنصار، يقول هم أهل الدار الأوس والخزرج، " ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ " لا يجدون في أنفسهم حسداً مما أعطى غيرهم، يعني المهاجرين حين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يعط الأنصار، فهذه الأثرة على أنفسهم حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: أعطهم ولا تعطنا وهم محتاجون، " ومن يوق شح نفسه " قال ظلم الناس. " والذين جاءوا من بعدهم " يعني الذين أسلموا فحق عليهم أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً " قول ابن أبي حين أرسل سويداً وداعساً إلى بني النضير: أقيموا ولا تخرجوا فإن معي من قومي وغيرهم ألفين، يدخلون معكم فيموتون عن آخرهم دونكم. يقول الله عز وجل " يشهد إنهم لكاذبون " يعني ابن أبي أصحابه. " لئن أخرجوا " حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يخرج من المنافقين إنسانٌ واحدٌ معهم، وقوتلوا فلم يدخل الحصن منهم إنسان، " ولئن نصروهم ليولن الأدبار " يعني ينهزمون من الرعب. " لأنتم أشدٌّ رهبةً في صدورهم من الله " يعني ابن ابي والمنافقين الذين معه خوفاً من المسلمين أن يقبلوا، " ذلك بأنهم قومٌ

لا يفقهون " " لا يقاتلونكم جميعاً " يعني بني النضير والمنافقين، " إلا في قرىً محصنةٍ " يقول في حصونهم، " أو من وراء جدرٍ بأسهم بينهم شديدٌ " بعضهم لبعض، " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " يعني المنافقين وبني النضير. " ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون " يقول دين بني النضير مخالف دين المنافقين وهم جميعاً، في عداوة الإسلام مجتمعون. " كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم " قال يعني قينقاع حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفرفلما كفر قال إني برىءٌ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال هذا مثلٌ لابن أبي وأصحابه الذين جاءوا بني النضير فقالوا: أقيموا في حصونكم فنحن نقاتل معكم إن قوتلتم، ونخرج إن أخرجتم كذباً وباطلاً، منوهم من أنفسهم. " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ " يقول ما عملت ليوم القيامة. " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " يقول أعرضوا عن ذكر الله تعالى فأضلهم الله تعالى أن يعملوا لأنفسهم خيراً. وقال " القدوس الظاهر، " والمهيمن " الشهيد.لا يفقهون " " لا يقاتلونكم جميعاً " يعني بني النضير والمنافقين، " إلا في قرىً محصنةٍ " يقول في حصونهم، " أو من وراء جدرٍ بأسهم بينهم شديدٌ " بعضهم لبعض، " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " يعني المنافقين وبني النضير. " ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون " يقول دين بني النضير مخالف دين المنافقين وهم جميعاً، في عداوة الإسلام مجتمعون. " كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم " قال يعني قينقاع حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفرفلما كفر قال إني برىءٌ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال هذا مثلٌ لابن أبي وأصحابه الذين جاءوا بني النضير فقالوا: أقيموا في حصونكم فنحن نقاتل معكم إن قوتلتم، ونخرج إن أخرجتم كذباً وباطلاً، منوهم من أنفسهم. " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ " يقول ما عملت ليوم القيامة. " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " يقول أعرضوا عن ذكر الله تعالى فأضلهم الله تعالى أن يعملوا لأنفسهم خيراً. وقال " القدوس الظاهر، " والمهيمن " الشهيد.
غزوة بدر الموعدوكانت لهلال ذي القعدة على رأس خمسةٍ وأربعين شهراً، وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيها ست عشرة ليلة، ورجع إلى المدينة لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، واستخلف علىالمدينة ابن رواحة.
حدثني الضحاك بن عثمان، ومحمد بن عمرو الأنصاري، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، وأبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، ومعمر بن راشد، وأبو معشر، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن عبد الله بن مسلم، وعبد الحميد بن جعفر، وابن أبي حبيبة، ومحمد بن يحيى بن سهل، وكل قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، قالوا: لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم أحد نادى: موعدٌ بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول، نلتقي فيه فنقتتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: قل نعم إن شاء الله.
ويقال قال أبو سفيان يومئذ: موعدكم بدر الصفراء بعد شهرين. قال ابن واقد: والأول أثبت عندنا. فافترق الناس على ذلك، ورجعت قريش فخبروا من قبلهم بالموعد وتهيئوا للخروج وأجلبوا، وكان هذا عندهم أعظم الأيام لأنهم رجعوا من أحد والدولة لهم، طمعوا في بدر الموعد أيضاً بمثل ذلك من الظفر. وكان بدر الصفراء مجمعاً يجتمع فيه العرب، وسوقاً تقوم لهلال ذي القعدة إلى ثمان ليالٍ خلون منه، فإذا مضت ثماني ليال منه تفرق الناس إلى بلادهم. فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجعل يحب أن يقيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بالمدينة ولا يوافقون الموعد. فكان كل من ورد عليه مكة يريد المدينة أظهر له: إنا نريد أن نغزو محمداً في جمعٍ كثيف. فيقدم القادم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيراهم على تجهز فيقول: تركت أبا سفيان قد جمع الجموع، وسار في العرب ليسير إليكم لموعدكم. فيكره ذلك المسلمون ويهيبهم ذلك.

ويقدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة، فجاءه أبو سفيان بن حرب في رجالٍ من قريش فقال: يا نعيم، إني وعدت محمداً وأصحابه يوم أحد أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول، وقد جاء ذلك. فقال نعيم: ما أقدمني إلا ما رأيت محمداً وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع، وقد تجلب إليه حلفاء الأوس من بلى وجهينة وغيرهم، فتركت المدينة أمس وهي كالرمانة. فقال أبو سفيان: أحقاً ما تقول؟ قال: إي والله. فجزوا نعيماً خيراً ووصاوه وأعانوه، فقال أبو سفيان: أسمعك تذكر ما تذكر، ما قد أعدوا؟ وهذا عام جدب قال نعيم: الأرض مثل ظهر الترس، ليس فيها لبعير شيءٌ وإنما يصلحنا عام خصب غيداق ترعى فيه الظهر والخيل ونشرب اللبن، وأنا أكره أن يخرج محمدٌ وأصحابه ولا أخرج فيجترئون علينا، ويكون الخلف من قبلهم أحب إلي. ونجعل لك عشرين فريضة، عشراً جذاعاً وعشراً حقاقاً، وتوضع لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها لك. قال نعيم: رضيت. وكان سهيل صديقاً لنعيم فجاء سهيلاً فقال: يا أبا زيد، تضمن لي عشرين فريضة على أن أقدم المدينة فأخذل أصحاب محمد؟ قال: نعم. قال: فإني خارج. فخرج على بعير حملوه عليه، وأسرع السير فقدم وقد حلق رأسه معتمراً، فوجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتجهزون، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أين يا نعيم؟ قال: خرجت معتمراً إلى مكة. فقالوا: لك علمٌ بأبي سفيان؟ قال: نعم، تركت أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب معه العرب، فهو جاءٍ فيما لا قبل لكم به، فأقيموا ولا تخرجوا فإنهم قد أتوكم في داركم وقراركم، فلن يفلت منكم إلا الشريد، وقتلت سراتكم وأصاب محمداً في نفسه ما أصابه من الجراح.فتريدون أن تخرجوا إليهم فتلقوهم في موضعٍ من الأرض؟ بئس الرأي رأيتم لأنفسكم وهوموسم يجتمع فيه الناس والله ما أرى أن يفلت منكم أحد! وجعل يطوف بهذا القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى رعبهم وكره إليهم الخروج، حتى نطقوا بتصديق قول نعيم، أو من نطق منهم.واستبشر بذلك المنافقون واليهود قالوا: محمدٌ لا يفلت من هذا الجمع! واحتمل الشيطان أولياءه من الناس لخوف المسلمين، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك، وتظاهرت به الأخبار عنده، حتى خاف رسول الله ألا يخرج معه أحد. فجاءه أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، وقد سمعا ما سمعا فقالا: يا رسول الله إن الله مظهرٌ دينه ومعزٌ نبيه، وقد وعدنا القوم موعداً ونحن لا نحب أن نتخلف عن القوم، فيرون أن هذا جبن منا عنهم، فسر لموعدهم، فوالله إن في ذلك لخيرة! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك ثم قال: والذي نفسي بيده، لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد! قال: فلما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم تكلم بما بصر الله وعز وجل المسلمين، وأذهب ما كان رعبهم الشيطان، وخرج المسلمون بتجارات لهم إلى بدر.
فحدثت عن يزيد، عن خصيفة، قال: كان عثمان بن عفان رحمه الله يقول: لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا، فما أرى أحداً له نية في الخروج، حتى أنهج الله تعالى للمسلمين بصائرهم، وأذهب عنهم تخويف الشيطان. فخرجوا فلقد خرجت ببضاعة إلى موسم بدر، فربحت للدينار ديناراً، فرجعنا بخير وفضلٍ من ربنا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسلمين وخرجوا ببضائع لهم ونفقات، فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذى القعدة، وقام السوق صبيحة الهلال، فأقاموا ثمانية أيامٍ والسوق قائمة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد خرج في ألق وخسمائة من أصحابه وكانت الخيل عشرة أفراس: فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفرس لأبي بكر، وفرس لعمر، وفرس لأبي قتادة، وفرس لسعيد بن زيد، وفرس للمقداد، وفرس للحباب، وفرس للزبير، وفرس لعباد بن بشر.

فحدثني علي بن زيد، عن أبيه، قال: قال المقداد: شهدت بدر الموعد على فرسي سبحة، أركب ظهرها ذاهباً وراجعاً، فلم يلق كيداً. ثم إن أبا سفيان قال: يا معشر قريش، قد بعثنا نعيم بن مسعود لأن يخذل أصحاب محمد عن الخروج وهو جاهد، ولكن نخرج نحن فنسير ليلة أو ليلتين ثم نخرج، فإن كان محمدٌ لم يخرج بلغه أنا خرجنا فرجعنا لأنه لم يخرج، فيكون هذا لنا عليه، وإن كان خرج أظهرنا أن هذا عام جدب لا يصلحنا إلى عامٌ عشب. قالوا: نعم ما رأيت. فخرج من قريش، وهم ألفان ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهوا إلى مجنة ثم قال: ارجعوا، لا يصلحنا إلا عام خصب غيداق، نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا. فسمى أهل مكة ذلك الجيش جيش السويق، يقولون: خرجوا يشربون السويق.
وكان يحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأعظم يومئذٍ علي بن أبي طالب عليه السلام. وأقبل رجلٌ من بني ضمرة يقال له مخشى بن عمرو، وهو الذي حالف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قومه في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأولى إلى ودان فقال والناس مجتمعون في سوقهم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر أهل ذلك الموسم فقال يا محمد، لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ليرفع ذلك إلى عدوه من قريش: ما أخرجنا إلا موعد أبو سفيان وقتال عدونا، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد، ثم جالدنا كم قبل أن نبرح من منزلنا هذا. فقال الضمري: بل، نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك، وسمع بذلك معبد ابن أبي معبد الخزاعي فانطلق سريعاً، وكان مقيماً ثمانية أيام، وقد رأى أهل الموسم ورأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسمع كلام مخشى، فانطلق حتى قدم مكة، فكان أول من قدم بخبر موسم بدر. فسألوه فأخبرهم بكثرة أصحاب محمد، وأنهم أهل ذلك الموسم، وما سمع من قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم للضمري، وقال: وافى محمدٌ في ألفين من أصحابه، وأقاموا ثمانية أيام حتى تصدع أهل الموسم. فقال صفوان بن أمية لأبي سفيان: قد والله نهيتك يومئذٍ أن تعد القوم، وقد اجترأوا علينا ورأوا أن قد أخلفناهم، وإنما خلفنا الضعف عنهم. فأخذوا في الكيد والنفقة في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم واستجلبوا من حولهم من العرب، وجمعوا الأموال العظام، وضربوا البعث على أهل مكة، فلم يترك أحدٌ منهم إلا أن يأتي بما قل أو كثر، فلم يقبل من أحدٍ منهم أقل من أوقية لغزوة الخندق. وقال معبد: لقد حملني ما رأيت أن قلت شعراً:
تهوى على دين أبيها الأتلد ... إذ جعلت ماء قديدٍ موعد
وماء ضجنان لها ضحى الغد ... إذ نفرت من رفقتي محمد
وعجوةٍ موضوعةٍ كالعنجد
ويزعمون أن حماماً قالها.
وأنزل الله عز وجل: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " الآية، يعني نعيم بن مسعود.
وقال كعب بن مالك قال الواقدي: أنشدنيها مشيخة آل كعب وأصحابنا جميعاً:
وعدنا أبا سفيان بدراً فلم نجد ... لموعده صدقاً وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... رجعت ذميماً وافتقدت المواليا
تركنا بها أوصال عتبة وابنة ... وعمراً أبا جهلٍ تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أفٍّ لدينكم ... وأمركم السيء الذي كان غاويا
وإني وإن عنفتموني لقائلٌ ... فدىً لرسول الله أهلي وما ليا
أطعنا فلم نعدل سواه بغيره ... شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا
وقال حسان بن ثابت الأنصاري ثبت ابن أبي الزناد وابن جعفر وغيرهما:
أقمنا على الرس النزوع ثمانيا ... بأرعن جرارٍ عريض المبارك
بكل كميتٍ جوزه نصف خلقه ... وأدمٍ طوالٍ مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامي تبدى أصوله ... مناسم أخفاف المطى الرواتك
إذا هبطت خورات من رمل عالجٍ ... فقولا لها ليس الطريق هنالك
ذروا فلجات الشام قد حال دونها ... ضرابٌ كأفواه المخاض الأوارك

بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربهم ... وأنصار حقٍّ أيدوا بملائك
فإن نلق في تطوافنا والتماسنا ... فرات بن حيانٍ يكن رهن هالك
وإن نلق قيس بن امرىء القيس بعده ... نزد في سواد وجهه لون حالك
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. هكذا كان.
سرية ابن عتيك إلى ابن رافعخرجوا ليلة الاثنين في السحر لأربع خلون من ذي الحجة، على رأس ستة وأربعين شهراً، وغابوا عشرة أيام.
حدثني أبو أيوب بن النعمان، عن أبيه، عن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، قال: خرجنا من المدينة حتى أتينا خيبر. قال: وقد كانت أم عبد الله بن عتيك بخيبر يهودية أرضعته، وقد بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، والأسودبن خزاعي، ومسعود بن سنان. قال: فانتهينا إلى خيبر، وبعث عبد الله إلى أمه فأعملها بمكانه، فخرجت إلينا بجراب مملوءٍ تمراً كبيساً وخبزاً. فأكلنا منه ثم قال لها: يا أماه، إنا قد أمسينا، بيتينا عندم فأدخلينا خيبر. فقالت أمه: كيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها؟ قال: أبا رافع. فقالت: لا تقدر عليه. قال: والله لأقتلنه أو لا لأقتلن دونه قبل ذلك. قالت: فادخلوا علي ليلاً. فدخلوا عليها فلما نام أهل خيبر، وقد قالت لهم: ادخلوا في خمر الناس، فإذا هدأت الرجل فاكمنوا! ففعلوا ودخلوا عليها ثم قالت: إن اليهود لا تغلق عليها أبوابها فرقاً أن يطرقها ضيف، فيصبح أحدهم بالفناء ولم يضف، فيجد الباب مفتوحاً فيدخل فيتعشى. فلما هدأت الرجل قالت: انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع فقولوا إنا جئنا لأبي رافع بهدية فإنهم سيفتحون لكم. ففعلوا ذلك، ثم خرجوا لا يمرون ببابٍ من بيوت خيبر إلا أغلقوه حتى أغلقوا بيوت القرية كلها، حتى انتهوا إلى عجلةً عند قصر سلام. قال: فصعدنا وقدمنا عبد الله بن عتيك، لأنه كان يرطن باليهودية، ثم استفتحوا على أبي رافع فجاءت امرأته فقالت: ما شأنك؟ فقال عبد الله بن عتيك ورطن باليهودية: جئت أبا رافعٍ بهدية. ففتحت له فلما رأت السلاح أرادت تصيح. قال عبد الله بن أنيس: وازدحمنا على الباب أينا يبدر إليه، فأرادت أن تصيح. قال: فأبشرت إليها السيف. قال: وأنا أكره أن يسبقني أصحابي إليه. قال: فسكنت ساعة. قال: ثم قلت لها: أين أبو رافع؟ وإلا ضربتك بالسيف! فقالت: هو ذاك في البيت. فدخلنا عليه فما عرفناه إلا ببياضة كأنه قطنة ملقاة، فعلوناه بأسيافنا فصاحت امرأته، فهم بعضنا أن يخرج إليها ثم ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهانا عن قتل النساء.قال: فلما انتهينا جعل سمك البيت يقصر علينا، وجعلت سيوفنا ترجع.

============

ج3. كتاب : المغازي الواقدي


قال ابن أنيس: وكنت رجلاً أعشى لا أبصر بالليل إلا بصراً ضعيفاً. قال: فتأملته كأنه قمر. قال: فأتكىء بسيفي على بطنه حتى سمعت خشه في الفراش وعرفت أنه قد قضى. قال: وجعل القوم يضربونه جميعاً، ثم نزلنا ونسى أبو قتادة قوسه فذكرها بعد ما نزل، فقال أصحابه دع القوس. فأبى فرجع فأخذ قوسه، وانفكت رجله فاحتملوه بينهم، فصاحت امرأته، فتصايح أهل الدار بعد ما قتل. فلم يفتح أهل البيوت عن أنفسهم ليلاً طويلاً، واختبأ القوم في بعض مناهر خيبر. وأقبلت اليهود وأقبل الحارث أبو زينب، فخرجت إليه امرأته فقالت: خرج القوم الآن. فخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارنا، يطلبوننا بالنيران في شعل السعف، ولربما وطئوا في النهر، فنحن في بطنه وهم على ظهره فلا يرونا، فلما أوعبوا في الطلب فلم يروا شيئاً رجعوا إلى امرأته فقالوا لها: هل تعرفين منهم أحداً؟ قالت: سمعت منهم كلام عبد الله بن عتيك، فإن كان في بلادنا هذه فهو معهم. فكروا الطلب الثانية، وقال القوم فيما بينهم: لو أن بعضنا أتاهم فنظر هل مات الرجل أم لا. فخرج الأسود بن خزاعي حتى دخل مع القوم وتشبه بهم، فجعل في يده شعلةً كشعلهم حتى كر القوم الثانية إلى القصر وكر معهم، ويجد الدار قد شحنت. قال: فأقبلوا جميعاً ينظرون إلى أبي رافع ما فعل. قال: فأقبلت امرأته معها شعلةٌ من نار ثم أحنت عليه تنظر أحي أم ميت هو، فقالت: فاظ وإله موسى! قال: ثم كرهت أن أرجع إلا بأمر بين. قال: فدخلت الثانية معهم، فإذا الرجل لا يتحرك منه عرق. قال: فخرجت اليهود في صيحةٍ واحدة. قال: وأخذوا في جهازه يدفنونه. قال: وخرجت معهم وقد أبطأت على أصحابي بعض الإبطاء. قال: فانحدرت عليهم في النهر فخبرتهم، فمكثنا في مكاننا بعض الإبطاء. قال: فانحدرت عليهم في النهر فخبرتهم، فمكثنا في مكاننا يومين حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا مقبلين إلى المدينة، كلنا يدعي قتله، فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلّم وهوعلى المنبر، فلما رآنا قال: أفلحت الوجوه! فقلنا أفلح وجهك يا رسول الله! قال: أقتلتموه؟ قلنا: نعم، وكلنا يدعي قتله. قال: عجلوا علي بأسيافكم. فأتينا بأسيافنا ثم قال: هذا قتله، هذا أثر الطعام في سيف عبد الله بن أنيس. قال: وكان ابن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم إليه هؤلاء النفر.
فحدثني أيوب بن النعمان قال: حدثني خارجة بن عبد الله قال: لما انتهوا إلى أبي رافع تشاجروا في قتله. قال: فاستهموا عليه فخرح سهم عبد الله بن أنيس. وكان رجلاً أعشى فقال لأصحابه: أين موضعه؟ قالوا: ترى بياضة كأنه قمر. قال: قد رأيت. قال: وأقبل عبدالله بن أنيس، وقام النفر مع المرأة يفرقون أن تصيح، قد شهروا سيوفهم عليها، ودخل عبد الله بن أنيس، فضرب بالسيف، فرجع السيف عليه لقصر السمك فاتكأ عليه وهو ممتلىءٌ خمراً حتى سمع خش السيف وهو في الفراش.
ويقال كانت السرية في شهر رمضان سنة ست.
غزوة ذات الرقاعفإنما سميت ذات الرقاع لأنه جبلٌ فيه بقع حمر وسواد وبياض خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة السبت لعشرٍ خلون من المحرم على رأس سبعة وأربعين شهراً. وقدم صراراً يوم الأحد لخمس بقين من المحرم وغاب خمس عشرة.

فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، وحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن جابر، وعن عبد الكريم بن أبي حفصة، عن جابر، وعبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله ابن أبي بكر، ومالك بن أنس، وعبدالله بن عمر، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله، وقد زاد بعضهم على بعضٍ في الحديث، وغيرهم قد حدثني به، قالوا: قدم قادم بجلبٍ له فاشترى بسوق النبط، وقالوا: من أين جلبت جلبك؟ قال: جئت من نجد وقد رأيت أنماراً وثعلبة قد جمعوا لكم جموعاً، وأراكم هادين عنهم. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم قوله، فخرج في اربعمائة من أصحابه، وقال قائل: كانوا سبعمائة أو ثمانمائة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة، حتى سلك على المضيق ثم أفضى إلى وادي الشقرة فأقام به يوماً، وبث السرايا فرجعوا إليه مع الليل، وخبروه أنهم لم يروا أحداً وقد وطئوا آثاراً حديثة. ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في اصحابه حتى أتى محالهم، فيجدون المحال ليس فيها أحد، وقد ذهبت الأعراب إلى رءوس الجبال وهم مطلون على النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد خاف الناس بعضهم بعضاً، والمشركون منهم قريب وخاف المسلمون أن يغيروا عليهم وهم غارون. وخافت الأعراب ألا يبرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى يستأصلهم.
وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة الخوف. فحدثني ربيعة ابن عثمان، عن أبي نعيم، عن جابر بن عبد الله، قال: فكان أول ما صلى يومئذٍ صلاة الخوف، وخاف أن يغيروا عليه وهم في الصلاة وهم صفوفٌ.
فحدثني عبد الله بن عثمان، عن أخيه، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ صلاة الخوف، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم القبلة وطائفةٌ خلفه وطائفةٌ مواجهة العدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعةً وسجدتين، ثم ثتب قائماً فصلوا خلفه ركعةً وسجدتين، ثم سلموا، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعةً وسجدتين، والطائفة الأولى مقبلة على العدو، فلما صلى بهم ركعةً ثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم ركعةً وسجدتين ثم سلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أصاب في محالهم نسوة، وكان في السبى جاريةٌ وضيئةٌ كان زوجها يحبها، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم راجعاً إلى المدينة حلف زوجها ليطلبن محمداً، ولا يرجع إلى قومه حتى يصيب محمداً، أو يهريق فيهم دماً، أو تتخلص صاحبته. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مسيره عشيةً ذات ريح، فنزل في شعبس استقبله فقال: من رجلٌ يكلونا الليلة؟ فقام رجلان، عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فقالا: نحن يا رسول الله نكلؤك. وجعلت الريح لا تسكن، وجلس الرجلان على فم الشعب، فقال أحدهما لصاحبه: أي الليل أحب إليك، أن أكفيك أوله فتكفيني آخره؟ قال: اكفني أوله. فنام عمار بن ياسر، وقام عباد بن بشر يصلي، وأقبل عدو الله يطلب غرةً وقد سكنت الريح، فلما رأى سوادة من قريبٍ قال: يعلم الله إن هذا لربيئة القوم! ففوق له سهماً فوضعه فيه فانتزعه فوضعه، ثم رماه بآخر فوضعه فيه فانتزعه فوضعه، ثم رماه الثالث فوضعه فيه، فلما غلب عليه الدم ركع الأعرابي أن عماراً قد قام علم أنهم قد نذروا به. فقال عمار: أي أخي، ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟ قال: كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها، ولولا أني خشيت أن اضيع ثغراً أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما انصرفت ولو أتى على نفسي. ويقال: الأنصاري عمارة بن حزم. قال ابن واقد: وأثبتهما عندنا عمار بن ياسر.
فكان جابر يقول: إنا لمع النبي صلى الله عليه وسلّم إذ جاء رجلٌ من أصحابه بفرخ طائرٍ ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إليه، فأقبل أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه في يدي الذي أخذ فرخه. فرأيت الناس عجبوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمةً لفرخه! والله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه! قال الواقدي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي على راحلته نحو المشرق في غزوته.

قال جابر: فإنا لفي منصرفنا أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا تحت ظل شجرة فقلت: هلم إلى الظل يا رسول الله. فدنا إلى الظل فاستظل، فذهبت لأقرب إليه شيئاً، فما وجدت إلا جرواً من قثاء في أسفل الغرارة. قال: فكسرته كسراً ثم قربته إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أين لكم هذا؟ فقلنا: شيء فضل من زاد المدينة. فأصاب منه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقد جهرنا صاحباً لنا، يرعى ظهرنا وعليه ثوبٌ متخرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أما له غير هذا؟ فقلنا: بلى يا رسول الله، إن له ثوبين جديدين في العيبة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خذ ثوبيك. فأخذ ثوبه فلبسهما ثم أدبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أليس هذا أحسن؟ ما له ضرب الله عنقه؟ فسمع ذلك الرجل فقال: في سبيل الله يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: في سبيل الله. قال جابر: فضربت عنقه بعد ذلك في سبيل الله.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتحدث عندنا إلى أن جاءنا علبة بن زيد الحارثي بثلاث بيضات أداحي. فقال: يا رسول الله، وجدت هذه البيضات في مفحص نعام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دونك يا جابر، فاعمل هذه البيضات! فوثبت فعملتهن، ثم جئت بالبيض في قصعة، وجعلت أطلب خبراً فلا أجده. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير خبز. قال جابر: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أمسك يده وأنا أظن أنه قد انتهى إلى حاجته، والبيض في القصعة كما هو. قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأكل منه عامة أصحابنا، ثم رحنا مبردين. قال جابر: وإنا لنسير إلى أن أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: ما لك يا جابر؟ فقلت: أي رسول الله جدى أن يكون لي بعير سوء، وقد مضى الناس وتركوني! قال: فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعيره فقال: أمعك ماء؟ فقلت: نعم. فجئته بقعبٍ من ماء، فنفث فيه ثم نضح على رأسه وظهره وعلى عجزه، ثم قال: أعطني عصاً. فأعطيته عصاً معي أو قال قطعت له عصاً من شجرة. قال: ثم نخسه، ثم قرعه بالعصا، ثم قال: اركب يا جابر. قال: فركبت. قال: فخرج، والذي بعثه بالحق، يواهق ناقته مواهقةً ما تفوته ناقته.
قال: وجعلت أتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: يا أبا عبد الله، أتزوجت؟ قلت: نعم. قال: بكراً أم ثيباً؟ فقلت: ثيباً. فقال: ألا جارية تلاعبها وتلاعبك! فقلت: يا رسول الله، بأبي وأمي إن أبي أصيب يوم أحد وترك تسع بنات، تزوجت امرأةً جامعةً تلم شعثهن وتقوم عليهن. قال: أصبت. ثم قال: إنا لو قدمنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها. قال، قلت: والله يا رسول الله، ما لنا نمارق. قال: أما إنها ستكون، فإذا قدمت فاعمل عملاً كيساً. قال: قلت: أفعل ما استطعت. قال: ثم قال: بعنى جملك هذا يا جابر. قلت: بل هولك يا رسول الله. قال: لا، بل بعنيه. قال: قلت نعم، سمني به. قال: فإني آخذه بدرهم. قال قلت: تغبنني يا رسول الله، قال: لا، لعمري! قال جابر: فما زال يزيدني درهماً درهماً حتى بلغ به أربعين درهماً أوقية فقال: أما رضيت؟ فقلت: هو لك. فقال: فظهره لك حتى تقدم المدينة. قال: ويقال إنه قال آخذه منك بأوقيةٍ وظهره لك فباعه على ذلك. قال: فلما قدمنا صراراً أمر بجزور فنحرت، فأقام به يومه ثم دخلنا المدينة.
قال جابر: فقلت للمرأة: قد أمرني النبي صلى الله عليه وسلّم أن أعمل عملاً كيساً. قالت: سمعاً وطاعةً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدونك فافعل. قال: ثم أصبحت فأخذت برأس الجمل فانطلقت حتى أنخته عند حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجلست حتى خرج، فلما خرج قال: أهذا الجمل؟ قلت: نعم يا رسول الله الذي اشتريت. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلالاً فقال: اذهب فأعطه أوقية، وخذ برأس جملك يا ابن أخي فهو لك. فانطلقت مع بلالٍ فقال بلال: أنت ابن صاحب الشعب؟ فقلت: نعم. فقال: والله لأعطينك ولأزيدينك. فزادني قيراطاً أو قراطين. قال: فما زال ذلك يثمر ويزيدنا الله به، ونعرف موضعه حتى أصيب ها هنا قريباً عندكم يعني الجمل.

قال الواقدي: وحدثني إسماعيل بن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: لما انصرفنا راجعين، فكنا بالشقرة، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا جبر، ما فعل دين أبيك؟ فقلت: عليه انتظرت يا رسول لله أن يجذ نخله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إذا جذذت فأحضرني. قال، قلت: نعم. ثم قال: من صاحب دين أبيك؟ فقلت: أبو الشحم اليهودي، له على أبي سقة تمر. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فمتى تجذها؟ قلت: غداً. قال: يا جابر، فإذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها، وألوان التمر على حدتها. قال: ففعلت، فجعلت الصحياني على حدة، وأمهات الجرادين على حدة، والعجوة على حدة، ثم عمدت إلى جماع من التمر مثل نخبة وقرن شقحة وغيرها من الأنواع، وهو أقل التمر، فجعلته حبلاً واحداً، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخبرته، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه علية أصحابه، فدخلوا الحائط وحضر أبو الشحم. قال: فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى التمر مصنفاً قال: اللهم بارك له! ثم انتهى إلى العجوة فمسها بيده وأصناف التمر، ثم جلس وسطها ثم قال: ادع غريمك. فجاء أبو الشحم فقال: اكتل! فاكتال حقه كله من حبلٍ واحدٍ وهو العجوة، وبقية التمر كما هو. ثم قال: يا جابر، هل بقي على أبيك شيء؟ قال، قلت: لا. قالت: وبقى سائر التمر، فأكلنا منه دهراً وبعنا منه حتى أدركت الثمرة من قابل، ولقد كنت أقول: لو بعت أصلها ما بلغت ما كان على أبي من الدين، فقضى الله ما كان على أبي من الدين. فلقد رأيتني والنبي صلى الله عليه وسلّم ليقول: ما فعل دين أبيك؟ فقلت: قد قضاه الله عز وجل. فقال: اللهم اغفر لجابر! فاستغفر لي في ليلةٍ خمساً وعشرين مرة.
حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، قال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
غزوة دومة الجندلفي ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهراً. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لخمس ليالٍ بقين من ربيع الأول، وقدم لعشرٍ بقين من ربيع الأخر.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن لبيد، عن أبي سلمة بن عبد الله. وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر، فكلاهما قد حدثنا بهذا الحديث، وأحدهما يزيد على صاحبه، وغيرهما قد حدثنا أيضاً.
قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يدنو إلى أدنى الشام، وقيل له إنها طرف من أفواه الشام، فلو دنوت لها كان ذلك مما يفزع قيصر. وقد ذكر له أن بدومة الجندل جمعاً كثيراً، وأنهم يظلمون من مر بهم من الضافطة، وكان بها سوقٌ عظيمٌ وتجار، وضوى إليهم قومٌ من العرب كثير، وهم يريدون أن يدنوا من المدينة. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس، فخرج في ألفٍ من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليلٌ له من بني عذرة يقال له مذكورٌ، هادٍ خريت، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم مغذاً للسير، ونكب عن طريقهم، ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من دومة الجندل وكان بينه وبينها يوم أو ليلة سير الراكب المعتق قال له الدليل: يا رسول الله، إن سوائمهم ترعى فأقم لي حتى أطلع لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج العذرى طليعةً حتى وجد آثار النعم والشاء وهم مغربون، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره وقد عرف مواضعهم، فسار النبي صلى الله عليه وسلّم حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه. وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بساحتهم، فلم يجد بها أحداً، فأقام بها أياماً وبث السرايا وفرقها حتى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا إليه. ولم يصادفوا منهم أحداً، وترجع السرية بالقطعة من الإبل، إلا إن محمد بن مسلمة أخذ رجلاً منهم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلّم فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس حيث سمعوا بأنك قد أخذت نعمهم. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الإسلام أياماً فأسلم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم استعمل على المدينة سباع بن عرفطة.
غزوة المريسيع

في سنة خمسٍ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، وقدم المدينة لهلال رمضان وغاب شهراً إلا ليلتين.
حدثنا الواقدي قال: حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، ومحمد بن صالح، وعبد الحميد بن جعفر، وابن أبي حبيبة، وهشام بن سعد، ومعمر بن راشد، وأبو معشر، وخالد بن إلياس وعائذ بن يحيى، وعمر بن عثمان المخزومي، وعبد الله بن يزيد بن قسيط، وعبد الله بن يزيد الهذلي، وكل قد حدثني بطائفةٍ، وغير هؤلاء قد حدثني قالوا: إن بلمصطلق من خزاعة كانا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء في بني مدلج، وكان رأسهم وسيدهم الحارث بن أبي ضرار، وكان قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وجعلت الركبان تقدم من ناحيتهم فيخبرون بمسيرهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلّم أن يقول فأذن له، فخرج حتى ورد عليهم ماءهم، فوجد قوماً مغرورين قد تألبوا وجمعوا الجموع، فقالوا: من الرجل؟ قال: رجلٌ منكم، قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني فتكون يدنا واحدةً حتى نستأصله. قال الحارث بن أبي ضرار: فنحن على ذلك، فعجل علينا. قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمعٍ كثيفٍ من قومي ومن أطاعني. فسروا بذلك منه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره خبر القوم، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس، وأخبرهم خبر عدوهم فأسرع الناس للخروج، وقادوا الخيول وهي ثلاثون فرساً، في المهاجرين منها عشرةٌ وفي الأنصار عشرون، ولرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرسان، وكان علي عليه السلام فارساً، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والمقداد بن عمرو، وفي الأنصار سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وأبو عبس بن جبر، وقتادة بن النعمان، وعويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، وسعد بن زيد الأشهلي، والحارث بن حزمة، ومعاذ بن جبل، وأبو قتادة، وأبي بن كعب، والحباب بن المنذر، وزياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، ومعاذ بن رفاعة بن رافع.
قالوا: وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشرٌ كثيرٌ من المنافقين لم يخرجوا في غزاةٍ قط مثلها، ليس بهم رغبةٌ في الجهاد إلا أن يصيبوا من عرض الدنيا. وقرب عليهم السفر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى سلك على الحلائق فنزل بها. فأتى يومئذٍ برجلٍ من عبد القيس، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم أين أهلك؟ قال: بالروحاء. قال: أين تريد؟ قال: إياك جئت لأومن بك وأشهد أن ما جئت به الحق، وأقاتل معك عدوك. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الحمد لله الذي هذاك للإسلام. قال: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة في أول وقتها. قال: فكان الرجل بعد ذلك يصلي حين تزيغ الشمس، وحين يدخل وقت العصر، حين تغرب الشمس، لا يؤخر الصلاة إلى الوقت الآخر.
قال: فلما نزل ببقعاء أصاب عيناً للمشركين فقالوا له: ما وراءك؟ أين الناس؟ قال: لا علم لي بهم.
فحدثني هشام بن سعد، عن يعقوب، عن زيد بن طلحة، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لتصدقن أو لأضربن عنقك. قال: فأنا رجلٌ من بلمصطلق، تركت الحارث بن أبي ضرار قد جمع لكم الجموع، وتجلب إليه ناسٌ كثير، وبعثني إليكم لآتيه بخبركم وهل تحركتم من المدينة. فأتى عمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الإسلام وعرضه عليه، فأبى وقال: لست بمتبع دينكم حتى أنظر ما يصنع قومي، إن دخلوا في دينكم كنت كأحدهم، وإن ثبتوا على دينهم فأنا رجلٌ منهم. فقال عمر: يا رسول الله، أضرب عنقه! فقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فضرب عنقه، فذهب الخبر إلى بلمصطلق. فكانت جويرية بنت الحارث تقول بعد أن أسلمت: جاءنا خبره ومقتله ومسير رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يقدم علينا النبي صلى الله عليه وسلّم فسىء أبي ومن معه وخافوا خوفاً شديداً، وتفرق عنهم من كان قد اجتمع إليهم من أفناء العرب، فما بقى منهم أحدٌ سواهم.

ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المريسيع وهو الماء فنزله، وضرب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قبةٌ من أدم، ومعه من نسائه عائشة وأم سلمة. وقد اجتمعوا على الماء وأعدوا وتهيأوا للقتال، فصف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي الله عنه، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، ويقال كان مع عمار بن ياسر رضي الله عنه راية المهاجرين. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم. ففعل عمر رضي الله عنه فأبوا. فكان أول من رمى رجلٌ منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعةً بالنبل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر أصحابه أن يحملوا، فحملوا حملة رجلٍ واحدٍ فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرةٌ منهم وأسر سائرهم. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرجال والنساء والذرية، وغنمت النعم والشاء، وما قتل أحدٌ من المسلمين إلا رجلٌ واحد.
وكان أبو قتادة يحدث قال: حمل لواء المشركين يومئذٍ صفوان ذو الشقر، فلم تكن لي بأهبةٍ حتى شددت عليه وكان الفتح، وكان شعارهم: يا منصور، أمت، أمت! وكان ابن عمر يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلّم أغار على بني المصطلق وهم غارون، ونعمهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. والحديث الأول أثبت عندنا.
وكان هاشم بن ضبابة قد خرج في طلب العدو، فرجع في ريحٍ شديدةٍ وعجاج، فتلقى رجلاً من رهط عبادة بن الصامت يقال له أوس، فظن أنه من المشركين فحمل عليه فقتله، فعلم بعد أنه مسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تخرج ديته. ويقال قتله رجلٌ من بني عمرو ابن عوف، فقدم أخوه مقيس على النبي صلى الله عليه وسلّم، فأمر له بالدية فقبضها، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى قريش مرتداً وهو يقول:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً ... يضرج ثوبيه دماء الأخادع
ثأرت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وترى وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
سمعت عبد الرحمن يقول: أنشدنيها أبي فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلّم دمه حتى قتله نميلة يوم الفتح.
وحدثني سعيد بن عبد الله بن أبي الأبيض، عن أبيه، عن جدته، وهي مولاة جويرية قالت: سمعت جويرية بنت الحارث تقول: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن على المريسيع فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به. قالت: فكنت أرى من الناس والخيل مالا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعلمت أنه رعب من الله تعالى يلقيه في قلوب المشركين. فكان رجلٌ منهم قد أسلم فحسن إسلامه يقول: لقد كنا نرى رجالاً بيضاً على خيلٍ بلق، ما كنا نراهم قبل ولا بعد.

حدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: حدثني ابن مسعود بن هنيدة، عن أبيه، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببقعاء فقال: أين تريد يا مسعود؟ فقلت: جئت لأن أسلم عليك وقد أعتقني أبو تميم. قال: بارك الله عليك، أين تركت أهلك؟ قال: تركتهم بموضعٍ يعرف بالخذوات، والناس صالحون، وقد رغب الناس في الإسلام وكثر حولنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فلله الحمد الذي هداهم! ثم قال مسعود: يا رسول الله، قد رأيتني أمس ولقيت رجلاً من عبد القيس فدعوته إلى الإسلام فرغبته فيه فأسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لإسلامه على يديك كان خيراً لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت. ثم قال: كن معنا حتى نلقى عدونا، فإني أرجو أن ينفلنا الله أموالهم. قال: فسرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى غنمه الله أموالهم وذراريهم، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم قطعةً من إبلٍ، وقطعةً من غنم، فقلت: يا رسول الله، كيف أقدر أن أسوق الإبل ومعي الغنم؟ اجعلها غنماً كلها أو إبلاً كلها. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: أي ذلك أحب إليك؟ قلت: تجعلها إبلاً. قال: أعطه عشراً من الإبل. قال: فأعطيتها. فيقال له: قارعه من المال أو من الخمس؟ قال: والله ما أدرى، فرجعت إلى أهلي، فوالله ما زلنا في خيرٍ منها إلى يومنا هذا.
فحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي جهم، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالأسرى فكتفوا وجعلوا ناحيةً، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب وأمر بما وجد في رحالهم من رثة المتاع والسلاح فجمع، وعمد إلى النعم والشاء فسيق. واستعمل عليهم شقران مولاه، وجمع الذرية ناحية، واستعمل على المقسم مقسم الخمس وسهمان المسلمين ومحمية بن جزء الزبيدي، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخمس من جميع المغنم، فكان يليه محمية بن جزء الزبيدي.
وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، وعبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قالا: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على خمس المسلمين محمية بن جزء الزبيدي. قالا: وكان يجمع الأخماس وكانت الصدقات على حدتها، أهل الفىء بمعزلٍ عن الصدقة، وأهل الصدقة بمعزلٍ عن الفىء، وكان يعطى من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف. فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفىء وأخرج من الصدقة، ووجب عليه الجهاد، فإن كره الجهاد وأباه لم يعط من الصدقة شيئاً، وخلوا بينه وبين أن يكسب لنفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يمنع سائلاً. فأتاه رجلان يسألانه من الخمس فقال: إن شئتما أعطيتكما منه، ولاحظ فيها لغنىٍّ ولا لقوىٍّ مكتسب. قالوا: فاقتسم السبى وفرق، فصار في أيدي الرجال، وقسمت الرثة وقسم النعم والشاء، وعدلت الجزور بعشرٍ من الغنم وبيعت الرثة فيمن يريد وأسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وللراجل سهم. وكانت الإبل ألفى بعيرٍ وخمسة آلاف شاة، وكان السبى مائتي أهل بيت. فصارت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس وابن عم له، فكاتبها على تسع أواق ذهب.

فحدثني عبدالله بن يزيد بن قسيط عن أبيه، عن ثوبان، عن عائشة رضي الله عنه، قالت: كانت جويرية جاريةً حلوة، لا يكاد يراها أحدٌ إلا ذهبت بنفسه، فبينا النبي صلى الله عليه وسلّم عندي ونحن على الماء إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابتها. قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي صلى الله عليه وسلّم، وعرفت أنه سيري منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله، إني امرأةٌ مسلمةٌ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأنا جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له، فتخلصني من ابن عمه بنخلات له بالمدينة، فكاتبني ثابت على مالا طاقة لي به ولا يدان، وما أكرهني على ذلك إلا أني رجوتك صلى الله عليك فأعنى في مكاتبتي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أو خيرٌ من ذلك؟ فقالت: ما هو يا رسول الله؟ قال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت! فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى ثابت فطلبها منه، فقال ثابت: هي لك يا رسول اله بأبي وأمي. فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما كان عليها من كتابتها، وأعتقها وتزوجها. وخرج الخبر إلى الناس، ورجال بني المصطلق قد اقتسموا وملكوا ووطى نساوهم، فقالوا: أصهار النبي صلى الله عليه وسلّم! فأعتنقوا ما بأيديهم من ذلك السبى.قالت عائشة رضي الله عنها: فأعتق مائة أهل بيت بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إياها، فلا اعلم امرأةً أعظم بركةً على قومها منها.
فحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: قالت جويرية: رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلّم بثلاث ليالٍ كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبرها أحداً من الناس، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما سبينا رجوت الرؤيا، فلما أعتقني وتزوجني والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجاريةٍ من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله عز وجل. ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جعل صداقها عتق كل أسيرٍ من بني المصطلق، ويقال جعل صداقها عتق أربعين من قومها.
فحدثني ابن أبي سبرة عن عمارة بن غزية، قال: كان السبى منهم من من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغير فداء، ومنهم من افتدى، وذلك بعد ما صار السبى في أيدي الرجال، فافتديت المرأة والذرية بست فرائض. وكانوا قدموا المدينة ببعض السبى، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوهم، فلم تبق امرأةٌ من بني المصطلق إلا رجعت إلى قومها. وهذا الثبت.
فحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن عبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع، عن عمران بن حصين، قال: قدم الوفد المدينة فافتدوا السبى بعد السهمان.
وحدثني عبد الله بن أبي الأبيض، عن جدته وهي مولاة جويرية كان عالماً بحديثهم، قالت: سمعت جويرية تقول: افتداني أبي من ثابت بن قيس بن شماس بما افتدى به امرأةٌ من السبى، ثم خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أبي فأنكحني. قالت: وكان اسمها بر فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلّم جويرية، وكان يكره أن يقال خرج من بيت برة. قال ابن واقد: وأثبت من هذا عندنا حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قضى عنها كتابتها وأعنقها وتزوجها.
وحدثني إسحاق بن يحيى، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقسم لها كما كان يقسم لنسائه، وضرب عليها الحجاب.
وحدثني الضحاك بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي محيرير، وأبي ضمرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبايا، وبنا شهوة النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا الفداء فأردنا العزل فقلنا: نعزل. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بين أظهرنا قبل أن نسأله عن ذلك، فسألناه فقال: ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلا هي كائنة. وكان أبو سعيد يقول: فقدم علينا وفودهم فافتدوا الذرية والنساء، ورجعوا بهن إلى بلادهم، وخير من خير منهن أن تقيم عند من صارت في سهمه، فأبين إلا الرجوع.

قال الضحاك: فحدثت هذا الحديث أبا النضر فقال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رجلٌ، من اليهود، وخرجت بجارية لي أبيعها في السوق، فقال لي: يا أبا سعيد، لعلك تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة! قال: فقلت كلا، إني كنت أعزل عنها. فقال: تلك الموءودة الصغرى. قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته ذلك. فقال: كذبت اليهود! كذبت اليهود!
الجزء الثاني
ذكر ما كان من أمر ابن أبيقالوا: فبينا المسلمون على ماء المريسيع قد انقطعت الحرب، وهو ماءٌ ظنون ، إنما يخرج في الدلو نصفه، أقبل سنان بن وبر الجهني - وهو حليفٌ في بني سالم - ومعه فتيان من بني سالم يستقون، فيجدون على الماء جمعاً من العسكر من المهاجرين والأنصار؛ وكان جهجا بن سعيد الغفاري أجيراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأدلى سنان وأدلى جهجا دلوه، وكان جهجا أقرب السقاء إلى سنان بن وبر، فالتبست دلو سنان ودلو جهجا، فخرجت إحدى الدلوين وهي دلو سنان بن وبر. قال سنان: فقلت: دلوي. فقال جهجا: والله، ما هي إلا دلوي. فتنازعا إلى أن رفع جهجا يده فضرب سناناً فسال الدم، فنادى: يا آل خزرج ! وثارت الرجال. قال سنان: وأعجزني جهجا هرباً وأعجز أصحابي، وجعل ينادي في العسكر: يا آل قريش! يا آل كنانة! فأقبلت إليه قريشٌ سراعاً. قال سنان: فلما رأيت ما رأيت ناديت بالأنصار. قال: فأقبلت الأوس والخزرج، وشهروا السلاح حتى خشيت أن تكون فتنةٌ عظيمة، حتى جاءني ناسٌ من المهاجرين يقولون: اترك حقك! قال سنان: وإذا ضربته لم يضررني شيئاً. قال سنان: فجعلت لا أستطيع أفتات على حلفائي بالعفو لكلام المهاجرين، وقومي يأبون أن أعفو إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أقتص من جهجا. ثم إن المهاجرين كلموا حلفائي، فكلموا عبادة بن الصامت وناساً من حلفائي، فكلمني حلفائي فتركت ذلك ولم أرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان ابن أبي جالساً في عشرة من المنافقين: ابن أبي، ومالك، وداعس، وسويد، وأوس بن قيظي، ومعتب بن قشير ، وزيد بن اللصيت ، وعبد الله بن نبتل - وفي القوم زيد بن أرقم، غلام لم يبلغ أو قد بلغ - فبلغه صياح جهجا: يا آل قريش! فغضب ابن أبي غضباً شديداً، وكان مما ظهر من كلامه وسمع منه أن قال: والله، ما رأيت كاليوم مذلة! والله، إن كنت لكارهاً لوجهي هذا ولكن قومي غلبوني! قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منتنا . والله، ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل " سمن كلبك يأكلك " . والله، لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفاً يهتف بما هتف به جهجا وأنا حاضر، لا يكون لذلك مني غيرٌ. والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل! ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم؛ أحللتموهم بلادكم فنزلوا منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتى استغنوا! أما والله، لو أمسكتم بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضاً للمنايا، فقتلتم دونه، فأيتمتم أولادكم وققلتم وكثروا فقام زيد بن أرقم بهذا الحديث كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجد عنده نفراً من أصحابه من المهاجرين والأنصار - أبا بكر، وعثمان، وسعداً، ومحمد بن مسلمة، وأوس بن خولي، وعباد بن بشر - فأخبره الخبر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وتغير وجهه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام، لعلك غضبت عليه! قال: لا والله، لقد سمعته منه. قال: لعله أخطأ سمعك! قال: لا يا نبي الله! قال: لعله شبه عليك! قال: لا والله، لقد سمعته منه يا رسول الله! وشاع في العسكر ما قال ابن أبي، وليس للناس حديثٌ إلا ما قال ابن أبي، وجعل الرهط من الأنصار يؤنبون الغلام ويقولون: عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل، وقد ظلمت وقطعت الرحم! فقال زيد: والله لقد سمعت منه! قال: ووالله، ما كان في الخزرج رجلٌ واحدٌ أحب إلي من عبد الله بن أبي؛ والله، لو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرجو أن ينزل الله تعالى على نبيه حتى يعلموا أنا كاذبٌ أم غيري، أو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق قولي. وجعل زيد يقول: اللهم، أنزل على نبيك ما يصدق حديثي! فقال قائل: يا رسول الله، مر عباد بن بشر فليأتك برأسه. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة. ويقال قال: قل لمحمد بن مسلمة، يأتك برأسه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرض عنه: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. وقام النفر من الأنصار الذين سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ورده على الغلام، فجاءوا إلى ابن أبي فأخبروه، وقال أوس بن خولي: يا أبا الحباب، إن كنت قلته فأخبر النبي يستغفر لك، ولا تجحده فينزل ما يكذبك. وإن كنت لم تقله فأت رسول الله فاعتذر إليه واحلف لرسول الله ما قلته. فحلف بالله العظيم ما قال من ذلك شيئاً. ثم إن ابن أبي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أبي، إن كانت سلفت منك مقالة فتب. فجعل يحلف بالله: ما قلت ما قال زيد، ولا تكلمت به! وكان في قومه شريفاً، فكان يظن أنه قد صدق، وكان يظن به سوء الظن.

فحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: لما كان من قول ابن أبي ما كان أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير، وأسرعت معه؛ وكان معي أجيرٌ استأجرته يقوم على فرسي، فاحتبس علي فوقفت له على الطريق أنتظره حتى جاء، فلما جاء ورأى ما بي من الغضب أشفق أن أقع به، فقال: أيها الرجل، على رسلك، فإنه قد كان في الناس أمرٌ من بعدك، فحدثني بمقالة ابن أبي. قال عمر: فأقبلت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فيء شجرة، عنده غليمٌ أسيود يغمز ظهره، فقلت: يا رسول الله، كأنك تشتكي ظهرك. فقال: تقحمت بي الناقة الليلة. فقلت: يا رسول الله، إيذن لي أن أضرب عنق ابن أبي في مقالته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو كنت فاعلاً؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذاً لأرعدت له آنفٌ بيثرب كثيرة؛ لو أمرتهم بقتله قتلوه. قلت: يا رسول الله، فمر محمد بن مسلمة يقتله. قال: لا يتحدث الناس أن محمداً قتل أصحابه. قال، فقلت: فمر الناس بالرحيل. قال: نعم. فأذنت بالرحيل في الناس.
ويقال: لم يشعر أهل العسكر إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلع على راحلته القصواء، وكانوا في حرٍ شديد، وكان لا يروح حتى يبرد، إلا أنه لما جاءه خبر ابن أبي رحل في تلك الساعة. فكان أول من لقيه سعد بن عبادة، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام! فقال: يا رسول الله، قد رحلت في ساعةٍ منكرةٍ ما كنت ترحل فيها! ويقال لقيه أسيد بن حضير - قال ابن واقد: وهو أثبت عندنا - فقال: يا رسول الله، خرجت في ساعةٍ منكرةٍ ما كنت تروح فيها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لم يبلغكم ما قال صاحبكم؟ قال: أي صاحب يا رسول الله؟ قال: ابن أبي، زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل! قال: فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت، فهو الأذل وأنت الأعز، والعزة لله ولك وللمؤمنين. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد جاء الله بك؛ وإن قومه لينظمون له الخرز، ما بقيت عليهم إلا خرزةٌ واحدةٌ عند يوشع اليهودي، قد أرب بهم فيها لمعرفته بحاجتهم إليها ليتوجوه، فجاء الله بك على هذا الحديث، فما يرى إلا قد سلبته ملكه.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير من يومه ذلك، وزيد ابن أرقم يعارض النبي صلى الله عليه وسلم براحلته، يريه وجهه في المسير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستحث راحلته فهو مغذٌّ في السير، إذ نزل عليه الوحي. قال زيد بن أرقم: فما هو إلا أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذه البرحاء ويعرق جبينه، وتثقل يدا راحلته حتى ما كاد ينقلها، عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ورجوت أن يكون ينزل عليه تصديق خبري. قال زيد بن أرقم: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأذني وأنا على راحلتي حتى ارتفعت من مقعدي ويرفعها إلى السماء، وهو يقول: وفت أذنك يا غلام، وصدق الله حديثك! ونزل في ابن أبي السورة من أولها إلى آخرها وحده " إذا جاءك المنافقون... " فحدثني عبيد الله بن الهرير، عن أبيه، عن رافع بن خديج، قال: سمعت عبادة بن الصامت يقول يومئذٍ لابن أبي قبل أن ينزل فيه القرآن: إيت رسول الله، يستغفر لك. قال: فرأيته يلوي رأسه معرضاً. يقول عبادة: أما والله لينزلن في لي رأسك قرآنٌ يصلى به.

وحدثني يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، عن عبادة بن الوليد ابن عبادة بن الصامت، قال: مر عبادة بن الصامت بعبد الله بن أبي عشية راح النبي صلى الله عليه وسلم من المريسيع، وقد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون فلم يسلم عليه، ثم مر أوس بن خولي فلم يسلم عليه، فقال ابن أبي: إن هذا الأمر قد تمالأتما عليه. فرجعا إليه فأنباه وبكتاه بما صنع، وبما نزل من القرآن إكذاباً لحديثه، وجعل أوس بن خولي يقول: لا أكذب عنك أبداً حتى أعلم أن قد تركت ما أنت عليه وتبت إلى الله، إنا أقبلنا على زيد بن أرقم نلومه ونقول له " كذبت على رجل من قومك " حتى نزل القرآن بتصديق حديث زيد وإكذاب حديثك. وجعل ابن أبي يقول: لا أعود أبداً! وبلغ ابنه عبد الله ابن عبد الله بن أبي مقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم " مر محمد بن مسلمة يأتك برأسه " فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني، فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا. والله، لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالدٍ مني، وما أكل طعاماً منذ كذا وكذا من الدهر، ولا يشرب شراباً إلا بيدي، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار، وعفوك أفضل، ومنك أعظم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله، ما أردت قتله وما أمرت به، ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا. فقال عبد الله: يا رسول الله، إن أبي كانت هذه البحرة قد اتسقوا عليه ليتوجوه عليهم، فجاء الله بك، فوضعه الله ورفعنا بك، ومعه قومٌ يطيفون به ويذكرون أموراً قد غلب الله عليها. قال: فلما انصرف من عند النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركه ولم يأمر بقتله، قال:
ألا إنما الدنيا حوادث تنتظر ... ومن أعجب الأحداث ما قاله عمر
يشير على من عنده الوحي هكذا ... ولم يستشره بالتي تحلق الشعر
ولو كان للخطاب ذنبٌ كذنبه ... فقلت له ما قال في والدي كشر
غداة يقول ابعث إليه محمداً ... ليقتله بئس لعمرك ما أمر
فقلت رسول الله إن كنت فاعلاً ... كفيتك عبد الله لمحك بالبصر
تساعدني كفٌّ ونفسٌ سخيةٌ ... وقلبٌ على البلوى أشد من الحجر
وفي ذاك ما فيه والأخرى غضاضةٌ ... وفي العين مني نحو صاحبها عور
فقال ألا لا يقتل المرء طائعاً ... أباه وقد كادت تطير بها مضر
أنشدنيها إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت، قال: أخذتها في الكتاب. وإبراهيم بن جعفر بن محمود، عن محمد بن مسلمة.

فحدثني عبيد الله بن الهرير، عن أبيه، عن رافع بن خديج، قال: لما رحنا من المريسيع قبل الزوال كان الجهد بنا يومنا وليلتنا، ما أناخ منا رجلٌ إلا لحاجته أو لصلاةٍ يصليها. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحث راحلته، ويخلف بالسوط في مراقها حتى أصبحنا، ومددنا يومنا حتى انتصف النهار أو كرب، ولقد راح الناس وهم يتحدثون بمقالة ابن أبي وما كان منه، فما هو إلا أن أخذهم السهر والتعب بالمسير، فما نزلوا حتى ما يسمع لقول ابن أبي في أفواههم - يعني ذكراً. وإنما أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ليدعوا حديث ابن أبي، فلما نزلوا وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً. ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس مبرداً، فنزل من الغد ماءً يقال له بقعاء فوق النقيع، وسرح الناس ظهرهم، فأخذتهم ريحٌ شديدةٌ حتى أشفق الناس منها، وسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخافوا أن يكون عيينة بن حصن خالف إلى المدينة، وقالوا: لم تهج هذه الريح إلا من حدثٍ! وإنما بالمدينة الذراري والصبيان. وكانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عيينة مدة، فكان ذلك حين انقضائها فدخلهم أشد الخوف، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس عليكم بأس منها، ما بالمدينة من نقبٍ إلا عليه ملكٌ يحرسه، وما كان ليدخلها عدوٌّ حتى تأتوها؛ ولكنه مات اليوم منافقٌ عظيم النفاق بالمدينة، فلذلك عصفت الريح. وكان موته للمنافقين غيظاً شديداً، وهو زيد بن رفاعة بن التابوت، مات ذلك اليوم.
فحدثني خارجة بن الحارث، عن عباس بن سهل، عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الريح يومئذٍ أشد ما كانت قط إلى أن زالت الشمس، ثم سكنت آخر النهار. قال جابر: فسألت حين قدمت قبل أن أدخل بيتي: من مات؟ فقالوا: زيد بن رفاعة بن التابوت. وذكر أهل المدينة أنهم وجدوا مثل ذلك من شدة الريح حين دفن عدو الله فسكنت الريح.
وحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عبادة بن الصامت يومئذٍ لابن أبي: أبا حباب، مات خليلك! قال: أي أخلائي؟ قال: من موته فتحٌ للإسلام وأهله. قال: من؟ قال: زيد بن رفاعة بن التابوت. قال: يا ويلاه، كان والله وكان! فجعل يذكر، فقلت: اعتصمت بالذنب الأبتر . قال: من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا الساعة أنه مات هذه الساعة. قال: فأسقط في يديه وانصرف كئيباً حزيناً. قالوا: وسكنت الريح آخر النهار فجمع الناس ظهورهم.

فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن ابن رومان، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قالا: وفقدت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء من بين الإبل، فجعل المسلمون يطلبونها في كل وجه، فقال زيد بن اللصيت - وكان منافقاً وهو في رفقة قومٍ من الأنصار، منهم عباد ابن بشر بن وقش، وسلمة بن سلامة بن وقش، وأسيد بن حضير - فقال: أين يذهب هؤلاء في كل وجه؟ قالوا: يطلبون ناقة رسول الله، قد ضلت. قال: أفلا يخبره الله بمكان ناقته؟ فأنكر القوم ذلك عليه فقالوا: قاتلك الله يا عدو الله، نافقت! ثم أقبل عليه أسيد بن حضير فقال: والله، لولا أني لا أدري ما يوافق رسول اللهمن ذلك لأنفذت خصيتك بالرمح يا عدو الله، فلم خرجت معنا وهذا في نفسك؟ قال: خرجت لأطلب من عرض الدنيا، ولعمري إن محمداً ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة، يخبرنا عن أمر السماء. فوقعوا به جميعاً وقالوا: والله، لا يكون منك سبيل أبداً ولا يظلنا وإياك ظلٌّ أبداً؛ ولو علمنا ما في نفسك ما صحبتنا ساعةً من نهار. ثم وثب هارباً منهزماً منهم أن يقعوا به ونبذوا متاعه، فعمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس معه فراراً من أصحابه متعوذاً به. وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما قال من السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق يسمع: إن رجلاً من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول اللهوقال " ألا يخبره الله بمكانها؟ فلعمري إن محمداً ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة! " ولا يعلم الغيب إلا الله، وإن رسول الله قد أخبرني بمكانها، وإنها في هذا الشعب مقابلكم، قد تعلق زمامها بشجرة، فاعمدوا عمدها. فذهبوا فأتوا بها من حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر المنافق إليها قام سريعاً إلى رفقائه الذين كانوا معه، فإذا رحله منبوذ، وإذا هم جلوسٌ لم يقم رجلٌ من مجلسه، فقالوا له حين دنا: لا تدن منا! قال: أكلمكم! فدنا فقال: أذكركم بالله، هل أتى أحدٌ منكم محمداً فأخبره بالذي قلت؟ قالوا: لا والله، ولا قمنا من مجلسنا هذا. قال: فإني قد وجدت عند القوم ما تكلمت به، وتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه قد أتي بناقته، وإني قد كنت في شكٍ من شأن محمدٍ فأشهد أنه رسول الله، والله لكأني لم أسلم إلا اليوم. قالوا له: فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك. فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستغفر له واعترف بذنبه. ويقال إنه لم يزل فسلاً حتى مات، وصنع مثل هذا في غزوة تبوك.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن شعيب بن شداد، قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقيع منصرفه من المريسيع ورأى سعةً، وكلأً، وغدراً كثيرةً تتناخس ، وخبر بمراءته وبراءته ، فسأل عن الماء فقيل: يا رسول الله، إذا صفنا قلت المياه وذهبت الغدر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة أن يحفر بئراً، وأمر بالنقيع أن يحمى، واستعمل عليه بلال بن الحارث المزني، فقال بلال: يا رسول الله، وكم أحمي منه؟ قال: أقم رجلاً صيتاً إذا طلع الفجر على هذا الجبل - يعني مقملاً - فحيث انتهى صوته فاحمه لخيل المسلمين وإبلهم التي يغزون عليها. قال بلال: يا رسول الله، أفرأيت ما كان من سوائم المسلمين؟ فقال: لا يدخلها. قلت: يا رسول الله، ارأيت المرأة والرجل الضعيف تكون له الماشية اليسيرة وهو يضعف عن التحول؟ قال: دعه يرعى. فلما كان زمان أبي بكر رضي الله عنه حماه على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حماه، ثم كان عمر فكثرت به الخيل، وكان عثمان فحماه أيضاً. وسبق النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بين الخيل وبين الإبل، فسبقت القصواء الإبل، وسبق فرسه - وكان معه فرسان، لزاز وآخر يقال له الظرب - فسبق يومئذٍ على الظرب، وكان الذي سبق عليه أبو أسيد الساعدي، والذي سبق على ناقته بلال.
ذكر عائشة رضي الله عنها وأصحاب الإفك

حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد، عن عيسى بن معمر، عن عباد ابن عبد الله بن الزبير قال، قلت لعائشة رضي الله عنها: حدثينا يا أمه حديثك في غزوة المريسيع. قالت: يا ابن أخي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج في سفرٍ أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وكان يحب ألا أفارقه في سفر ولا حضر. فلما أراد غزوة المريسيع أقرع بيننا فخرج سهمي وسهم أم سلمة، فخرجنا معه، فغنمه الله أموالهم وأنفسهم، ثم انصرفنا راجعين. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً ليس معه ماءٌ ولم ينزل على ماء. وقد سقط عقد لي من عنقي، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالناس حتى أصبحوا؛ وضج الناس وتكلموا وقالوا: احتبستنا عائشة. وأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس على غير ماءٍ وليس معهم ماء. فضاق بذلك أبو بكر رضي الله عنه فجاءني مغيظاً فقال: ألا ترين ما صنعت بالناس؟ حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على غير ماءٍ وليس معهم ماءٌ. قالت عائشة: فعاتبني عتاباً شديداً وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأسه على فخذي وهو نائم. فقال أسيد ابن حضير: والله، إني لأرجو أن تنزل لنا رخصة؛ ونزلت آية التيمم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان من قبلكم لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم، وجعلت لي الأرض طهوراً حيثما أدركتني الصلاة. فقال أسيد ابن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: وكان أسيد رجلاً صالحاً في بيتٍ من الأوس عظيم. ثم إنا سرنا مع العسكر حتى إذا نزلنا موضعاً دمثاً طيباً ذا أراك، قال: يا عائشة، هل لك في السباق؟ قلت: نعم. فتحزمت بثيابي وفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استبقنا فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة التي كنت سبقتيني. وكان جاء إلى منزل أبي ومعي شيءٌ فقال: هلميه! فأبيت فسعيت وسعى على أثري فسبقته. وكانت هذه الغزوة بعد أن ضرب الحجاب.
قالت: وكان النساء إذ ذاك إلى الخفة، هن إنما يأكلن العلق! من الطعام، لم يهيجن باللحم فيثقلن. وكان اللذان يرحلان بعيري رجلين، أحدهما مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له أبو موهبة، وكان رجلاً صالحاً. وكان الذي يقود بي البعير.

وإنما كنت أقعد في الهودج فيأتي فيحمل الهودج فيضعه على البعير، ثم يشده بالحبال ويبعث بالبعير، ويأخذ بزمام البعير فيقود بي البعير. وكانت أم سلمة يقاد بها هكذا فكنا نكون حاشيةً من الناس، يذب عنا من يدنو منا، فربما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبي وربما سار إلى جنب أم سلمة. قالت: فلما دنونا من المدينة نزلنا منزلاً فبات به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الليل، ثم ادلج وأذن للناس بالرحيل فارتحل العسكر. وذهبت لحاجتي فمشيت حتى جاوزت العسكر وفي عنقي عقدٌ في من جزع ظفار ، وكانت أمي أدخلتني فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قضيت حاجتي انسل من عنقي فلا أدري به، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده؛ وإذا العسكر قد نغضوا إلا عيرات ، وكنت أظن أني لو اقمت شهراً لم يبعث بعيري حتى أكون في هودجي، فرجعت في التماسه فوجدته في المكان الذي ظننت أنه فيه، فحبسني ابتغاؤه وأتى الرجلان خلافي، فرحلوا البعير وحملوا الهودج وهم يظنون أني فيه، فوضعوه على البعير ولا يشكون أني فيه - وكنت قبل لا أتكلم إذ أكون عليه فلم ينكروا شيئاً - وبعثوا البعير فقادوا بالزمام وانطلقوا، فرجعت إلى العسكر وليس فيه داعٍ ولا مجيب، ولا أسمع صوتاً ولا زجراً. قالت: فألتفع بثوبي واضطجعت وعلمت أني إن افتقدت رجع إلي. قالت: فوالله، إني لمضطجعة في منزلي، قد غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان ابن معطل السلمي ثم الذكواني على ساقة الناس من ورائهم، فادلج فأصبح عند منزلي في عماية الصبح، فيرى سواد إنسان فأتاني، وكان يراني قبل أن ينزل الحجاب، وأنا متلفعة، فأثبتني فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني. فخمرت وجهي بملحفتي، فوالله إن كلمني كلمةً غير أني سمعت استرجاعه حين أناخ بعيره. ثم وطي على يده مولياً عني، فركبت على رحله، وانطلق يقود بي حتى جئنا العسكر شد الضحا، فارتعج العسكر وقال أصحاب الإفك الذين قالوا - وتولى كبره عبد الله بن أبي - ولا أشعر من ذلك بشيء والناس يخوضون في قول أصحاب الإفك.
ثم قدمنا فلم أنشب أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى ذلك إلى أبوي، وأبواي لا يذكران لي من ذلك شيئاً، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لطفه بي ورحمته، فلا أعرف منه اللطف الذي كنت أعرف حين اشتكيت، إنما يدخل فيسلم فيقول: كيف تيكم؟ فكنت إذا اشتكيت لطف بي ورحمني وجلس عندي. وكنا قوماً عرباً لا نعرف الوضوء في البيوت، نعافها ونقذرها، وكنا نخرج إلى المناصع بين المغرب والعشاء لحاجتنا. فذهبت ليلةً ومعي أم مسطح ملتفعة في مرطها، فتعلقت به فقالت: تعس مسطح! فقلت: بئس لعمر الله ما قلت، تقولين هذا لرجلٍ من أهل بدر؟ فقالت لي مجيبة: ما تدرين وقد سال بك السيل. قلت: ماذا تقولين؟ فأخبرتني قول أصحاب الإفك، فقلص ذلك مني، وما قدرت على أن أذهب لحاجتي، وزادني مرضاً على مرضي، فما زلت أبكي ليلي ويومي. قالت: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فقلت: ائذن لي أذهب إلى أبوي، وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي فأتيت أبوي فقلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به وذكروا ما ذكروا ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً! فقالت: يا بنية، خفضي عليك الشأن، فوالله ما كانت جارية حسناء عند رجلٍ يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها القالة وكثر الناس عليها. فقلت: سبحان الله، وقد تحدث الناس بهذا كله؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم.
قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وأسامة فاستشارهما في فراق أهله.

قالت: وكان أحد الرجلين ألين قولاً من الآخر. قال أسامة: يا رسول الله، هذا الباطل والكذب، ولا نعلم إلا خيراً، وإن بريرة تصدقك. وقال عليٌّ رضي الله عنه: لم يضيق الله عليك، النساء كثيرٌ وقد أحل الله لك وأطاب، فطلقها وانكح غيرها. قالت: فانصرفا، وخلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببريرة فقال: يا بريرة، أي امرأةٍ تعلمين عائشة؟ قالت: هي أطيب من طيب الذهب، والله ما أعلم عليها إلا خيراً، والله يا رسول الله، لئن كانت علي غير ذلك ليخبرنك الله عز وجل بذلك، إلا أنها جاريةٌ ترقد عن العجين حتى تأتي الشاة فتأكل عجينها، وقد لمتها في ذلك غير مرة. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ولم تكن امرأة تضاهي عائشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرها. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد كنت أخاف عليها أن تهلك للغيرة علي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا زينب، ماذا علمت على عائشة؟ قالت: يا رسول الله، حاشى سمعي وبصري، ما علمت عليها إلا خيراً. والله، ما أكلمها وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق. قالت عائشة رضي الله عنها: أما زينب، فعصمها الله، وأما غيرها فهلك مع من هلك. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن فقالت: حاشى سمعي وبصري أن أكون علمت أو ظننت بها قط إلا خيراً. ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: من يعذرني مما يؤذيني في أهلي؟ ويقولون لرجل، والله ما علمت على ذلك الرجل إلا خيراً، وما كان يدخل بيتاً من بيوتي إلا معي، ويقولون عليه غير الحق. فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله؛ إن يك من الأوس آتك برأسه، وإن يك من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك. فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن الغضب بلغ منه، وعلى ذلك ما غمص عليه في نفاق ولا غير ذلك إلا أن الغضب يبلغ من أهله - فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. والله، ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنه من الخزرج؛ ولو كان من الأوس ما قلت ذلك، ولكنك تأخذنا بالذخول كانت بيننا وبينك في الجاهلية، وقد محا الله ذلك! فقال أسيد بن حضير: كذبت والله، لنقتلنه وأنفك راغمٌ، فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين! والله، لو نعلم ما يهوى رسول الله من ذلك في رهطي الأدنين ما رام رسول الله مكانه حتى آتيه برأسه؛ ولكني لا أدري ما يهوى رسول الله! قال سعد بن عبادة: تأبون يا آل أوس إلا أن تأخذونا بذحولٍ كانت في الجاهلية. والله، ما لكم بذكرها حاجة، وإنكم لتعرفون لمن الغلبة فيها، وقد محا الله بالإسلام ذلك كله. فقام أسيد بن حضير فقال: قد رأيت موطننا يوم بعاث! ثم تغالظوا، وغضب سعد بن عبادة فنادى: يا آل خزرج! فانحازت الخزرج كلها إلى سعد بن عبادة. ونادى سعد بن معاذ: يال أوس! فانحازت الأوس كلها إلى سعد بن معاذ. وخرج الحارث بن حزمة مغيراً حتى أتى بالسيف يقول: أضرب به رأس النفاق وكهفه. فلقيه أسيد بن حضير وهو في رهطه وقال: ارم به، يحمل السلاح من غير أمر رسول الله! لو علمنا أن لرسول الله في هذا هوىً أو طاعةً ما سبقتنا إليه. فرجع الحارث! واصطفت الأوس والخزرج، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحيين جميعاً أن اسكتوا، ونزل عن المنبر فهدأهم وخفضهم حتى انصرفوا.

قالت عائشة رضي الله عنها: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علي فجلس عندي، وقد مكث شهراً قبل ذلك لا يوحى إليه في شأني. قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئةً يبرئك الله، وإن كنت ألممت بشيءٍ مما يقول الناس فاستغفري الله عز وجل، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ذهب دمعي حتى ما أجد منه شيئاً، وقلت لأبي: أجب رسول الله. فقال: والله، ما أدري ما أقول وما أجيب به عنك. قالت: فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله. فقالت: والله، ما أدري ما أجيب عنك لرسول الله. وأنا جاريةٌ حديثة السن، لا أقرأ كثيراً من القرآن. قالت: فقلت: إني والله قد علمت أنكم سمعتم بهذا الحديث، فوقع في أنفسكم فصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ يعلم الله أني منه بريئة لتصدقوني. وإني والله ما أجد لي مثلاً إلا أبا يوسف إذ يقول: " بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون " والله ما يحضرني ذكر يعقوب، وما أهتدي من الغيظ الذي أنا فيه. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وقلت: والله يعلم أني بريئة، وأنا بالله واثقةٌ أن يبرئني الله ببراءتي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: فما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر. والله، ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا نعبد الله ولا ندع له شيئاً، فيقال لنا في الإسلام! قالت: وأقبل علي أبي مغضباً. قالت: فاستعبرت فقلت في نفسي: " والله لا أتوب إلى الله مما ذكرتم أبداً " ، وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأناً من أن ينزل في قرآنٌ يقرأه الناس في صلاتهم، ولكن قد كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه شيئاً يكذبهم الله عنى به لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبراً؛ فأما قرآن، فلا والله ما ظننته! قالت: فوالله، ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه، ولا خرج أحدٌ من أهل البيت حتى يغشاه من أمر الله ما كان يغشاه. قالت: فسجى بثوبه وجمعت وسادةٌ من أدمٍ تحت رأسه؛ فأما أنا حين رأيت ما رأيت فوالله لقد فرحت به وعلمت أني بريئة، وأن الله تعالى غير ظالمٍ لي. قالت: وأما ابواي فوالذي نفسي بيده ما سري عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً أن يأتي أمرٌ من الله تحقيق ما قال الناس. ثم كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهه وهو يضحك، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان، وهو يمسح جبينه، فكانت أول كلمة قالها " يا عائشة، إن الله قد أنزل براءتك " قالت: وسري عن أبوي وقالت أمي: قومي إلى رسول الله. فقلت: والله، لا أقوم إلا بحمد الله لا بحمدك، فأنزل الله هذه الآية: " إن الذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم لا تحسبوه " الآية. قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس مسروراً فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله،، ثم تلا عليهم بما نزل عليه في براءة عائشة. قالت: فضربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي، وكان مسطح بن أثاثة، وحسان ابن ثابت. قال أبو عبد الله: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يضربهم - وهو أثبت عندنا.
وكان سعيد بن جبير يقول في هذه الآية: من رمى محصنة لعنه الله في الدنيا والآخرة. فقال: إنما ذاك لأم المؤمنين خاصة.
فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أفلح مولى أبي أيوب، أن أم أيوب قالت لأبي أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أفكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك؟ فقالت: لا والله. قال: فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن وذكر أهل الإفك قال الله تعالى: " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفكٌ مبينٌ " ، يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب، ويقال إنما قالها أبي بن كعب.

فحدثني خارجة بن عبد الله بن سليمان، عن إبراهيم بن يحيى. عن أم سعد بنت سعد بن ربيع، قالت: قالت أم الطفيل لأبي بن كعب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: أي ذلك؟ قالت: ما يقولون. قال: هو والله الكذب، أو كنت تفعلين ذلك؟ قالت: أعوذ بالله. قال: فهي والله خير منك. قالت: وأنا أشهد، فنزلت هذه الآية.
قالوا: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً، ثم أخذ بيد سعد ابن معاذ في نفر، فخرج يقود به حتى دخل به على سعد بن عبادة ومن معه، فتحدثا عنده ساعة، وقرب سعد بن عبادة طعاماً، فأصاب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن معاذ ومن معه، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكث أياماً، ثم أخذ بيد سعد بن عبادة، ونفرٌ معه. فانطلق به حتى دخل منزل سعد بن معاذ، فتحدثا ساعةً وقرب سعد بن معاذ طعاماً. فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن عبادة ومن معهم، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يذهب ما كان في أنفسهم من ذلك القول الذي تقاولا.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس. عن عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتبس على قلادة عائشة رضي الله عنها بذات الجيش، فلما طلع الفجر أو كاد نزلت آية التيمم، فمسحنا الأرض بالأيدي ثم مسحنا الأيدي إلى المناكب ظهراً وبطناً، وكان يجمع بين الصلاتين في سفره.
فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن ابنن رومان، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، وعبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أمه؛ فكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وعماد الحديث عن ابن رومان، وعاصم وغيرهم، قالوا: لما قال ابن أبي ما قال، وذكر جعيل بن سراقة وجهجا، وكانا من فقراء المهاجرين، قال: ومثل هذين يكثر على قومي، وقد أنزلنا محمداً في دور كنانة وعزها! والله، لقد كان جعيل يرضى أن يسكت فلا يتكلم، فصار اليوم يتكلم. وقول ابن أبي أيضاً في صفوان ابن معطل وما رماه به، فقال حسان بن ثابت:
أمسى الجلابيب قد راوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد

فلما قدموا المدينة جاء صفوان إلى جعيل بن سراقة فقال: انطلق بنا، نضرب حسان، فوالله ما أراد غيرك وغيري، ولنحن أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. فأبى جعيل أن يذهب، فقال له: لا أفعل إلا أن يأمرني رسول الله، ولا تفعل أنت حتى تؤامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأبى صفوان عليه، فخرج مصلتاً السيف حتى ضرب حسان ابن ثابتٍ في نادي قومه، فوثبت الأنصار إليه فأوثقوه رباطاً - وكان الذي ولي ذلك منه ثابت بن قيس بن شماس - وأسروه أسراً قبيحاً. فمر بهم عمارة بن حزم فقال: ما تصنعون؟ أمن أمر رسول الله ورضائه أم من أمرٍ فعلتموه؟ قالوا: ما علم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : لقد اجترأت، خل عنه! ثم جاء به وبثابتٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوقهم، فأراد ثابتٌ أن ينصرف، فأبى عمارة حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حسان: يا رسول الله، شهر علي السيف في نادي قومي، ثم ضربني لأن أموت، ولا أراني إلا ميتاً من جراحتي. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفوان فقال: ولم ضربته وحملت السلاح عليه؟ وتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله آذاني وهجاني وسفه علي وحسدني على الإسلام. ثم أقبل على حسان فقال: أسفهت على قومٍ أسلموا؟ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احبسوا صفوان، فإن مات حسان فاقتلوه به. فخرجوا بصفوان ، فبلغ سعد بن عبادة ما صنع صفوان، فخرج في قومه من الخزرج حتى أتاهم، فقال: عمدتم إلى رجلٍ من أصحاب رسول الله تؤذونه وتهجونه بالشعر وتشتمونه، فغضب لما قيل له، ثم أسرتموه أقبح الإسار ورسول الله بين أظهركم! قالوا: فإن رسول الله أمرنا بحبسه وقال: إن مات صاحبكم فاقتلوه. قال سعد: والله، إن أحب إلى رسول الله للعفو، ولكن رسول الله قد قضى بينكم بالحق، وإن رسول الله يعني ليحب أن يترك صفوان. والله، لا أبرح حتى يطلق! فقال حسان: ما كان لي من حق فهو لك يا أبا ثابت. وأبى قومه، فغضب قيس ابنه غضباً شديداً فقال: عجباً لكم، ما رأيت كاليوم! إن حسان قد ترك حقه وتأبون أنتم! ما ظننت أن أحداً من الخزرج يرد أبا ثابتٍ في أمرٍ يهواه. فاستحيا القوم وأطلقوه من الوثاق؛ فذهب به سعدٌ إلى بيته فكساه حلة، ثم خرج صفوان حتى دخل المسجد ليصلي فيه، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صفوان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: من كساه؟ قالوا: سعد بن عبادة، فالله تعالىكساه الله من حلل الجنة. ثم كلم سعد بن عبادة حسان بن ثابت فقال: لا أكلمك أبداً إن لم تذهب إلى رسول الله فتقول: كل حقٍّ لي قبل صفوان فهو لك يا رسول الله. فأقبل حسان في قومه حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كل حقٍّ لي قبل صفوان بن معطل فهو لك. قال: قد أحسنت وقبلت ذلك. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً براحاً وهي بيرحاء وما حولها وسيرين، وأعطاه سعد بن عبادة حائطاً كان يجد مالاً كثيراً عوضاً له مما عفا عن حقه.
قال أبو عبد الله: فحدث هذا الحديث ابن أبي سبرة فقال: أخبرني سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير، أن حسان بن ثابت حبس صفوان، فلما برىء حسان أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال: يا حسان، أحسن فيما أصابك. فقال: هو لك يا رسول الله. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم براحاً وأعطاه سيرين عوضاً.
فحدثني أفلح بن حميد، عن أبيه، قال: ما كانت عائشة رضي الله عنها تذكر حسان إلا بخير. ولقد سمعت عروة بن الزبير يوماً يسبه لما كان منه، فقالت: لا تسبه يا بني، أليس هو الذي يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمدٍ منكم وقاء
وحدثني سعيد بن أبي زيد الأنصاري قال: حدثني من سمع أبا عبيدة ابن عبد الله بن زمعة الأسدي يخبر أنه سمع حمزة بن عبد الله بن عمر، أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حسان حجازٌ بين المؤمنين والمنافقين، لا يحبه منافقٌ ولا يبغضه مؤمن. وقال حسان يمدح عائشة رضي الله عنها:
حصانٌ رزانٌ لا تزن بريبةٍ ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد جاء عني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
هي أبيات أنشدنيها ابن أبي الزناد وابن جعفر

حدثني عبد الله بن جعفر بن مسلم، عن أبي عتيق، عن دابر بن عبد الله، قال: كنت رفيق عبد الله بن رواحة في غزوة المريسيع، فاقبلنا حتى انتهينا إلى وادي العقيق في وسط الليل فإذا الناس معرسون . قلنا: فأين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: في مقدم الناس، قد نام فقال لي عبد الله بن رواحة: يا جابر، هل لك بنا في التقدم والدخول على أهلنا؟ فقلت: يا أبا محمد، لا أحب أن أخالف الناس، لا أرى أحداً تقدم. قال ابن رواحة: والله، ما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقدم. قال جابر: أما أنا فلست ببارح. فودعني وانطلق إلى المدينة، فأنظر إليه على ظهر الطريق ليس معه أحد، فطرق أهله بلحارث بن الخزرج، فإذا مصباحٌ في وسط بيته وإذا مع امرأته إنسانٌ طويل، فظن أنه رجل، وسقط في يديه وندم على تقدمه. وجعل يقول، الشيطان مع الغر، فاقتحم البيت رافعاً سيفه، قد جرده من غمده يريد أن يضربهما. ثم فكر واذكر، فغمز امرأته برجله فاستيقظت فصاحت وهي توسن، فقال: أنا عبد الله، فمن هذا؟ قالت: رجيلة ماشطتي ، سمعنا بمقدمكم فدعوتها تمشطني فباتت عندي. فبات فلما أصبح خرج معترضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه ببئر أبي عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسير بين أبي بكر وبشير بن سعد، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بشير فقال: يا أبا النعمان. فقال: لبيك. قال: إن وجه عبد الله ليخبرك أنه قد كره طروق أهله. فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله: خبرك يا ابن رواحة. فأخبره كيف كان تقدم وما كان من لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تطرقوا النساء ليلاً. قال جابر: فكان ذلك أول ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جابر: فلم أر مثل العسكر ولزومه والجماعة، لقد أقبلنا من خيبر، وكنا مررنا على وادي القرى فانتهينا إلى الجرف ليلاً، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تطرقوا النساء ليلاً. قال جابر: فانطلق رجلان فعصيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيا جميعاً ما يكرهان.
غزوة الخندقعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء لثمانٍ مضت من ذي القعدة، فحاصروه خمس عشرة، وانصرف يوم الأربعاء لسبعٍ بقين سنة خمس؛ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه، وربيعة ابن عثمان، ومحمد عن الزهري، وعبد الصمد بن محمد، ويونس بن محمد الظفري، وعبد الله بن جعفر، ومعمر بن راشد، وحزام بن هشام، ومحمد بن يحيى بن سهل، وأيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك، وموسى بن عبيدة، وقدامة بن موسى، وعائذ بن يحيى الزرقي، ومحمد بن صالح، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وهشام بن سعد، ومجمع ابن يعقوب، وأبو معشر، والضحاك بن عثمان، وعبد الرحمن بن محمد ابن أبي بكر، وابن أبي حبيبة، وابن أبي الزناد، وأسامة بن زيد؛ فكلٌّ قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء قد حدثني، فكتبت كل ما حدثوني، قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر، وكان بها من اليهود قومٌ أهل عددٍ وجلدٍ، وليست لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير - كان بنو النضير سرهم، وقريظة من ولد الكاهن من بني هارون - فلما قدموا خيبر خرج حيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس من بني خطمة، وأبو عامر الراهب في بضعة عشر رجلاً إلى مكة يدعون قريشاً وأتباعها إلى حرب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمداً. قال أبو سفيان: هذا الذي أقدمكم ونزعكم ؟ قالوا: نعم، جئنا لنحافلكم على عداوة محمدٍ وقتاله. قال أبو سفيان: مرحباً وأهلاً، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد. قال النفر: فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريشٍ كلها أنت فيهم، وندخل نحن وأنتم بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها، ثم نحلف بالله جميعاً لا يخذل بعضنا بعضاً، ولتكونن كلمتنا واحدةً على هذا الرجل ما بقي منا رجل. ففعلوا فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا، ثم قالت قريش بعضها لبعض: قد جاءكم رؤساء أهل يثرب وأهل العلم والكتاب الأول، فسلوهم عما نحن عليه ومحمدٌ؛ ديننا خيرٌ أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت، وننحر الكوم، ونسقي الحجيج، ونعبد الأصنام. قالوا: اللهم، أنتم أولى بالحق منه؛ إنكم لتعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه. فأنزل الله تعالى في ذلك: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً " . فاتعدوا لوقتٍ وقتوه، فقال صفوان بن أمية: يا معشر قريش، إنكم قد وعدتم هؤلاء القوم لهذا الوقت وفارقوكم عليه، ففوا لهم به! لا يكون هذا كما كان، وعدنا محمداً بدر الصفراء فلم نف بموعده، واجترأ علينا بذلك، وقد كنت كارهاً لميعاد أبي سفيان يومئذ. فخرجت اليهود حتى أتت غطفان، وأخذت قريشٌ في الجهاز، وسيرت في العرب تدعوهم إلى نصرها، وألبوا أحابيشهم ومن تبعهم. ثم خرجت اليهود حتى جاءوا بني سليم، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش. ثم ساروا في غطفان، فجعلوا لهم تمر خيبر سنة، وينصرونهم ويسيرون مع قريشٍ إلى محمدٍ إذا ساروا. فأنعمت بذلك غطفان، ولم يكن أحدٌ أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن.
وخرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم من الظهر ألف بعيرٍ وخمسمائة بعير. وأقبلت سليم فلاقوهم بمر الظهران، وبنو سليم يومئذٍ سبعمائة؛ يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبي الأعور الذي كان مع معاوية بن أبي سفيان بصفين. وخرجت قريش يقودها أبو سفيان بن حرب، وخرجت بنو أسد وقائدها طلحة بن خويلد الأسدي، وخرجت بنو فزارة وأوعبت ، وهم ألفٌ يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع وقائدها مسعود بن رخيلة وهم أربعمائة - لم توعب أشجع. وخرج الحارث بن عوف يقود قومه بني مرة وهم أربعمائة. لما أجمعت غطفان السير أبي الحارث بن عوف المسير وقال لقومه: تفرقوا في بلادكم ولا تسيروا إلى محمد، فإني أرى أن محمداً أمر ظاهر، لو ناوأه من بين المشرق والمغرب لكانت له العاقبة. فتفرقوا في بلادهم ولم يحضر واحدٌ منهم؛ وهكذا روى الزهري وروت بنو مرة.

حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة قالا: شهدت بنو مرة الخندق وهم أربعمائة وقائدهم الحارث بن عوف المري، وهجاه حسان وأنشد شعراً، وذكروا مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ. فكان هذا أثبت عندنا أنه شهد الخندق في قومه، ولكنه كان أمثل تقيةً من عيينة.
قالوا: وكان القوم جميعاً الذين وافوا الخندق من قريش، وسليم، وغطفان، وأسد، عشرة آلاف؛ فهي عساكر ثلاثة، وعناج الأمر إلى أبي سفيان. فأقبلوا فنزلت قريش برومة وادي العقيق في أحابيشها ومن ضوى إليها من العرب، وأقبلت غطفان في قادتها حتى نزلوا بالزغابة إلى جانب أحد. وجعلت قريشٌ تسرح ركابها في وادي العقيق في عضاهه، وليس هناك شيءٌ للخيل غلا ما حملوه معهم من علف - وكان علفهم الذرة - وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها في عضاه الجرف. وقدموا في زمان ليس في العرض زرع، فقد حصد الناس قبل ذلك بشهر، فأدخلوا حصادهم وأتبانهم. وكانت غطفان ترسل خليها في أثر الحصاد - وكان خيل غطفان ثلاثمائة - بالعرض فيمسك ذلك من خيلهم ، وكادت إبلهم تهلك من الهزال. وكانت المدينة ليالي قدموا جديبة.
فلما فصلت قريشٌ من مكة إلى المدينة خرج ركبٌ من خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بفصول قريش، فساروا من مكة إلى المدينة أربعاً، فذلك حين ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم بالجد والجهاد، ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله. وشاورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله يكثر مشاورتهم في الحرب، فقال: أنبرز لهم من المدينة، أم نكون فيها ونخندقها علينا، أم نكون قريباً ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل؟ فاختلفوا، فقالت طائفة: نكون مما يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف. فقال قائل: ندع المدينة خلوفاً! فقال سلمان: يا رسول الله، إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا؛ فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين، وذكروا حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أن يقيموا ولا يخرجوا، فكره المسلمون الخروج وأحبوا الثبات في المدينة.
فحدثني أبو بكر بن أبي سبرة قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن جهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً له ومعه نفرٌ من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعاً ينزله، فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعاً خلف ظهره، ويخندق من المذاذ إلى ذباب إلى راتج . فعمل يومئذٍ في الخندق، وندب الناس، فخبرهم بدنو عدوهم، وعسكرهم إلى سفح سلع، وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدو عليهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل معهم في الخندق لينشط المسلمين؛ وعملوا، واستعاروا من بني قريظة آلةً كثيرةً من مساحي، وكرازين ومكاتل، يحفرون به الخندق - وهم يومئذٍ سلمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم يكرهون قدوم قريش. ووكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل جانبٍ من الخندق قوماً يحفرونه، فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب، وكانت الأنصار تحفر من ذباب إلى جبل بني عبيد، وكان سائر المدينة مشبكاً بالبنيان.
فحدثني محمد بن يحيى بن سهل، عن أبيه، عن جده، قال: كنت أنظر إلى المسلمين والشباب ينقلون التراب، والخندق بسطة أو نحوها، وكان المهاجرون والأنصار ينقلون على رؤوسهم في المكاتل، وكانوا إذا رجعوا بالمكاتل جعلوا فيها الحجارة يأتون بها من جبل سلع، وكانوا يجعلون التراب مما يلي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا يسطرون الحجارة مما يليهم كأنها حبال التمر - وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم يرمونهم بها.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يحمل التراب في المكاتل ويطرحه، والقوم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
هذا الجمال لا جمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر

وجعل المسلمون يومئذٍ إذا رأوا من الرجل فتوراً ضحكوا منه. وتنافس الناس يومئذٍ في سلمان الفارسي، فقال المهاجرون: سلمان منا!.. وكان قوياً عارفاً بحفر الخنادق. وقالت الأنصار: هو منا ونحن أحق به! فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم فقال: سلمان رجلٌ منا أهل البيت. ولقد كان يومئذٍ يعمل عمل عشرة رجالٍ حتى عانه يومئذٍ قيس بن أبي صعصعة، فلبط به ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مروه فليتوضأ له، وليغتسل به. ويكفإ الإناء خلفه. ففعل فكأنما حل من عقال.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن الفضيل بن مبشر قال: سمعت جابر ابن عبد الله يقول: لقد كنت أرى سلمان يومئذٍ، وقد جعلوا له خمسة أذرعٍ طولاً وخمساً في الأرض، فما تحينته حتى فرغ وحده، وهو يقول: اللهم، لا عيش إلا عيش الآخرة.
وحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، عن جده، عن كعب بن مالك قال: جعلنا يوم الخندق نرتجز ونحفر، وكنا - بني سلمة - ناحيةً، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا أقول شيئاً، فقلت: هل عزم على غيري؟ قالوا: حسان بن ثابت. قال: فعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهانا لوجدنا له وقلته على غيرنا، فما تكلمت بحرفٍ حتى فرغنا من الخندق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لا يغضب أحدٌ مما قال صاحبه، لا يريد بذلك سوءاً، إلا ما قال كعب وحسان فإنهما يجدان ذلك.
وحدثني يحيى بن عبد العزيز، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان جعيل بن سراقة رجلاً صالحاً، وكان ذميماً قبيحاً، وكان يعمل مع المسلمين يومئذٍ في الخندق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير اسمه يومئذٍ فسماه عمراً، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيلٍ عمرا ... وكان للبائس يوماً ظهرا
قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول من ذلك شيئاً غلا أن يقول عمرا .
فبينا المسلمون يحفرون، وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب مع المسلمين، فنظر إليه سعد بن معاذ وهو جالسٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله يا رسول الله الذي أبقاني حتى آمنت بك؛ إني عانقت أبا هذا يوم بعاث، ثابت بن الضحاك، فكانت اللبجة به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه نعم الغلام! وكان زيد بن ثابت قد رقد في الخندق، غلبته عيناه حتى أخذ سلاحه وهو لا يشعر، وهو في قر شديدٍ - ترسه، وقوسه، وسيفه - وهو على شفير الخندق مع المسلمين، فانكشف المسلمون يريدون يطيفون بالخندق ويحرسونه، وتركوا زيداً نائماً، ولا يشعرون به حتى جاءه عمارة بن حزم فأخذ سلاحه، ولا يشعر حتى فزع بعد فقد سلاحه، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا زيداً فقال: يا أبا رقاد، نمت حتى ذهب سلاحك! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من له علمٌ بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمارة بن حزم: أنا يا رسول الله، وهو عندي. فقال: فرده عليه، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يروع المسلم أو يؤخذ متاعه لاعباً جاداً .
حدثني علي بن عيسى، عن أبيه، ما كان في المسلمين يومئذٍ أحدٌ إلا يحفر في الخندق أو ينقل التراب، ولقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر - وكان أبو بكر وعمر لا يتفرقان في عمل، ولا مسير، ولا منزل - ينقلان التراب في ثيابهما يومئذٍ من العجلة، إذ لم يجدا مكاتل لعجلة المسلمين.
وكان البراء بن عازب يقول: ما رأيت أحداً أحسن في حلةٍ حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أبيض شديد البياض، كثير الشعر، يضرب الشعر منكبيه. ولقد رأيته يومئذٍ يحمل التراب على ظهره حتى حال الغبار بيني وبينه، وإني لأنظر إلى بياض بطنه.
وقال أبو سعيد الخدري: لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحفر الخندق مع المسلمين، والتراب على صدره وبين عكنه ، وإنه ليقول:
اللهم لولا أنت ما هتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
يردد ذلك.

وحدثني أبي بن عباس بن سهل، عن أبيه، عن جده، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فأخذ الكرزن وضرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً فصل الحجر، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، مم تضحك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضحك من قوم يؤتى بهم من المشرق في الكبول ، يساقون إلى الجنة وهم كارهون.
فحدثني عاصم بن عبد الله الحكمي، عن عمر بن الحكم، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب يومئذٍ بالمعول، فصادف حجراً صلداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه المعول، وهو عند جبل بني عبيد، فضرب ضربةً فذهبت أولها برقةً إلى اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت برقةً إلى الشام، ثم ضرب أخرى فذهبت برقةً نحو المشرق، وكسر الحجر عند الثالثة. فكان عمر بن الخطاب يقول: والذي بعثه بالحق، لصار كأنه سهلة وكان كلما ضرب ضربةً يتبعه سلمان ببصره ، فيبصر عند كل ضربةٍ برقة، فقال سلمان: يا رسول الله، رأيت المعول كلما ضربت به أضاء ما تحته. فقال: أليس قد رأيت ذلك؟ قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في الأولى قصور الشام، ثم رأيت في الثانية قصور اليمن، ورأيت في الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن. وجعل يصفه لسلمان فقال: صدقت والذي بعثك بالحق، إن هذه لصفته، واشهد أنك لرسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه فتوحٌ يفتحها الله عليكم بعدي يا سلمان، لتفتحن الشام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، ولتفتحن اليمن، وليفتحن هذا المشرق، ويقتل كسرى بعده. قال سلمان: فكل هذا قد رأيت.
قالوا: وكان الخندق ما بين جبل بني عبيد بخربي إلى راتج، فكان للمهاجرين من ذباب إلى راتج، وكان للأنصار ما بين ذباب إلى خربى، فهذا الذي حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحيةٍ وهي كالحصن. وخندقت بنو عبد الأشهل عليها بما يلي راتج إلى خلفها، حتى جاء الخندق من وراء المسجد، وخندقت بنو دينار من عند خربى إلى موضع دار ابن أبي الجنوب اليوم. ورفع المسلمون النساء والصبيان في الآطام، ورفعت بنو حارثة الذراري في أطمهم، وكان أطماً منيعاً، وكانت عائشة يومئذٍ فيه. ورفع بنو عمرو بن عوف النساء والذرية في الآطام، وخندق بعضهم حول الآطام بقباء، وحصن بنو عمرو بن عوف ولفها ، وخطمة، وبنو أمية، ووائل، وواقف، فكان ذراريهم في آطامهم.
فحدثني عبد الرحمن بن أبجر ، عن صالح بن أبي حسان، قال: أخبرني شيوخ بني واقف أنهم حدثوه أن بني واقف جعلوا ذراريهم ونساءهم في أطمهم، وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتعاهدون أهليهم بأنصاف النهار بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، فينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فغذا ألحوا أمرهم أن يأخذوا السلاح خوفاً عليهم من بني قريظة.
فكان هلال بن أمية يقول: اقبلت في نفرٍ من قومي وبني عمرو بن عوف، وقد نكبنا عن الجس وصفنة فأخذنا على قباء، حتى إذا كنا بعوسا إذا نفرٌ منهم فيهم نباش بن قيس القرظي، فنضحونا بالنبل ساعة، ورميناهم بالنبل، وكانت بيننا جراحة، ثم انكشفوا على حاميتهم ورجعنا إلى أهلنا، فلم نر لهم جمعاً بعد.
وحدثني أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، قال: كان الخندق الذي خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين جبل بني عبيد إلى راتج - وهذا أثبت الأحاديث عندنا. وذكروا أن الخندق له أبواب، فلسنا ندري أين موضعها.

فحدثني محمد بن زياد بن أبي هنيدة، عن محمد بن إبرايهم بن الحارث، عن جابر بن عبد الله، قال: أصاب الناس كديةً يوم الخندق فضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاء بماءٍ فصبه عليها فعادت كثيباً. قال جابر بن عبد الله: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفر، ورأيته خميصاً، ورأيته بين عكنه الغبار، فأتيت امرأتي فأخبرتها ما رأيت من خمص بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله، ما عندنا شيءٌ إلا هذه الشاة ومدٌّ من شعي. قال جابر: فاطحني وأصلحي. قالت: فطبخنا بعضها وشوينا بعضها، وخبز الشعير. قال جابر: ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثت حتى رأيت أن الطعام قد بلغ، فقلت: يا رسول الله، قد صنعت لك طعاماً فأت أنت ومن أحببت من أصحابك. فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في أصابعي، ثم قال: أجيبوا، جابر يدعوكم! فأقبلوا معه فقلت: والله، إنها لفضيحة! فأتيت المرأة فأخبرتها فقالت: أنت دعوتهم أو هو دعاهم؟ فقلت: بل هو دعاهم! قالت: دعهم، هو أعلم. قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه، فكانوا فرقاً، عشرةً عشرةً، ثم قال لنا: اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه. ففعلنا فجعلنا نغرف ونغطي البرمة ثم نفتحها، فما نراها نقصت شيئاً، ونخرج الخبز من التنور ثم نغطيه، فما نراه ينقص شيئاً. فأكلوا حتى شبعوا، وأكلنا وأهدينا، فعمل الناس يومئذٍ كلهم والنبي صلى الله عليه وسلم. وجعلت الأنصار ترتجز وتقول:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره
وحدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن محمد بن زائدة، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي واقد الليثي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز ورد من رد، وكان الغلمان يعملون معه، الذين لم يبلغوا ولم يجزهم، ولكنه لما لحم الأمر أمر من لم يبلغ أن يرجع إلى أهله إلى الآطام مع الذراري. وكان المسلمون يومئذٍ ثلاثة آلاف، فلقد كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليضرب مرةً بالمعول، ومرةً يغرف بالمسحاة التراب، ومرةً يحمل التراب في المكتل. ولقد رأيته يوماً بلغ منه، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتكأ على حجرٍ على شقه الأيسر، فذهب به النوم. فرأيت أبا بكر وعمر واقفين على رأسه ينحيان الناس أن يمروا به فينبهوه، وأنا قربت منه، ففزع ووثب، فقال: ألا أفزعتموني! فأخذ الكرزن يضرب به، وإنه ليقول:
اللهم إن العيش عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره
اللهم العن عضلاً والقاره ... فهم كلفوني أنقل الحجاره
فكان ممن أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ابن عمر؛ وهو ابن خمس عشرة، وزيد بن ثابت؛ وهو ابن خمس عشرة، والبراء بن عازب؛ وهو ابن خمس عشرة.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وكان حفره ستة أيام وحصنه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم دبر سلع، فجعله خلف ظهره والخندق أمامه، وكان عسكره هنالك. وضرب قبة من أدم، وكانت القبة عند المسجد الأعلى الذي بأصل الجبل - جبل الأحزاب - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعقب بين نسائه، فتكون عائشة اياماً، ثم تكون أم سلمة، ثم تكون زينب بنت جحش، فكان هؤلاء الثلاث اللاتي يعقب بينهن في الخندق، وسائر نسائه في أطم بني حارثة. ويقال: كن في المسير ، أطم في بني زريق، وكان حصيناً. ويقال: كان بعضهن في فارع - وكل هذا قد سمعناه.

فحدثني أبو أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: كان حيي بن أخطب يقول لأبي سفيان بن حرب ولقريشٍ في مسيره معهم: إن قومي قريظة معكم، وهم أهل حلقةٍ وافرة، هم سبعمائة مقاتلٍ وخمسون مقاتلاً. فلما نوا قال أبو سفيان لحيي بن أخطب: ائت قومك، حتى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد. فذهب حيي حتى أتى بني قريظة؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم صالح قريظة والنضير ومن بالمدينة من اليهود ألا يكونوا معه ولا عليه. ويقال: صالحهم على أن ينصروه ممن دهمه منهم، ويقيموا على معاقلهم الأولى التي بين الأوس والخزرج. ويقال إن حيي عدل من ذي الحليفة فسلك على العصبة حتى طرق كعب بن أسد، وكان كعب صاحب عقد بني قريظة وعهدها.
فكان محمد بن كعب القرظي يحدث يقول: كان حيي بن أخطب رجلاً مشئوماً؛ هو شأم بني النضير قومه، وشأم قريظة حتى قتلوا، وكان يحب الرئاسة والشرف عليهم، وله في قريشٍ شبهٌ - أبو جهل بن هشام. فلما أتى حيي إلى بني قريظة كرهت بنو قريظة دخوله دارهم، فكان أول من لقيه غزال بن سموأل، فقال له حيي: قد جئتك بما تستريح به من محمد، هذه قريشٌ قد حلت وادي العقيق، وغطفان بالزغابة. قال غزال: جئتنا والله بذل الدهر! قال حيي: لا تقل هذا! ثم وجه إلى باب كعب بن أسد فدق عليه، فعرفه كعب وقال: ما أصنع بدخول حيي علي، رجل مشئوم قد شأم قومه، وهو الآن يدعوني إلى نقض العهد! قال: فدق عليه، فقال كعب: إنك امرؤ مشئومٌ قد شأمت قومك حتى أهلكتهم، فارجع عنا فإنك إنما تريد هلاكي وهلاك قومي! فأبى حيي أن يرجع، فقال كعب: يا حيي، إني عاقدت محمداً وعاهدته، فلم نر منه إلا صدقاً؛ والله، ما أخفر لنا ذمةً ولا هتك لنا ستراً، ولقد أحسن جوارنا. فقال حيي: ويحك! إني قد جئتك ببحرٍ طامٍ وبعز الدهر، جئتك بقريشٍ على قادتها وسادتها، وجئتك بكنانة حتى أنزلتهم برومة، وجئتك بغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بالزغابة إلى نقمي ، قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل، والعدد عشرة آلاف، والخيل ألف فرس، وسلاح كثير، ومحمدٌ لا يفلت في فورنا هذا، وقد تعاقدوا وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه. قال كعب: ويحك! جئتني والله بذل الدهر وبسحابٍ يبرق ويرعد ليس فيه شيء. وأنا في بحرٍ لجيٍّ، لا أقدر على أن أريم داري، ومالي معي والصبيان والنساء؛ فارجع عني، فإنه لا حاجة لي فيما جئتني به. قال حيي: ويحك! أكلمك. قال كعب: ما أنا بفاعل. قال: والله، ما أغلقت دوني إلا لجشيشتك أن آكل معك منها، فلك ألا أدخل يدي فيها. قال: فأحفظه ، ففتح الباب فدخل عليه، فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى لان له، وقال: ارجع عني يومك هذا حتى أشاور رؤساء اليهود. فقال: قد جعلوا العهد والعقد إليك فأنت ترى لهم. وجعل يلح عليه حتى فتله عن رأيه، فقال كعب بن أسد: يا حيي، قد دخلت فيما ترى كارهاً له، وأنا أخشى ألا يقتل محمد، وتنصرف قريشٌ إلى بلادها، وترجع أنت إلى أهلك، وأبقى في عقر الدار وأقتل ومن معي. فقال حيي: لك ما في التوراة التي أنزلت على موسى يوم طور سيناء، لئن لم يقتل محمدٌ في هذه الفورة ورجعت قريشٌ وغطفان قبل أن يصيبوا محمداً، لأدخلن معك حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب العهد الذي كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا حيي بالكتاب الذي كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فشقه حيي، فلما شقه حيي علم أن الأمر قد لحم وفسد، فخرج على بني قريظة وهم حلقٌ حول منزل كعب بن أسد، فخبرهم الخبر. يقول الزبير بن باطا: واهلاك اليهود! تولى قريش وغطفان ويتركوننا في عقر دارنا وأموالنا وذرارينا، ولا قوة لنا بمحمد! ما بات يهوديٌّ على حزم قط، ولا قامت يهوديةٌ بيثرب أبداً. ثم أرسل كعب بن أسد إلى نفرٍ من رؤساء اليهود خمسة - الزبير بن باطا، ونباش بن قيس، وغزال ابن سموأل، وعقبة بن زيد، وكعب بن زيد، فخبرهم خبر حيي، وما أعطاه حيي أن يرجع إليه فيدخل معه فيصيبه ما أصابه. يقول الزبير ابن باطا: وما حاجتك إلى أن تقتل ويقتل معك حيي! قال: فأسكت كعب وقال القوم: نحن نكره نزري برأيك أو نخالفك، وحيي من قد عرفت شومه. وندم كعب بن أسد على ما صنع من نقض العهد، ولحم الأمر لما أراد الله تعالى من حربهم وهلاكهم.

فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في الخندق أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبته - وقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضروبة من أدمٍ في أصل الجبل عند المسجد الذي في أسفل الجبل - معه أبو بكر رضي الله عنه والمسلمون على خندقهم يتناوبون، معهم بضعةٌ وثلاثون فرساً، والفرسان يطوفون على الخندق ما بين طرفيه، يتعاهدون رجالاً وضعوهم في مواضع منه، إلى أن جاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، بلغني أن بني قريظة قد نقضت العهد وحاربت. فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من نبعث يعلم لنا علمهم؟ فقال عمر: الزبير بن العوام. فكان أول الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، فقال: اذهب إلى بني قريظة. فذهب الزبير فنظر، ثم رجع فقال: يا رسول الله، رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم. فذلك حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير وابن عمتي.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، فقال: إنه قد بلغني أن بني قريظة قد نقضوا العهد الذي بيننا وبينهم وحاربوا، فاذهبوا فانظروا إن كان ما بلغني حقاً؛ فإن كان باطلاً فأظهروا القول، وإن كان حقاً فتكلموا بكلامٍ تلحنون به أعرفه؛ لا تفتوا أعضاد المسلمين. فلما انتهوا إلى كعب بن أسد وجدوا القوم قد نقضوا العهد، فناشدوهم الله والعهد الذي كان بينهم، أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك قبل أن يلتحم الأمر، وألا يطيعوا حيي بن أخطب. فقال كعب: لا نرده أبداً؛ قد قطعته كما قطعت هذا القبال لقبال نعله. ووقع كعب بسعد بن معاذ يسبه، فقال أسيد بن حضير: تسب سيدك يا عدو الله؟ ما أنت له بكفء! أما والله يا ابن اليهود ، لتولين قريشٌ إن شاء الله منهزمةً وتتركك في عقر دارك، فنسير إليك فتنزل من جحرك هذا على حكمنا. وإنك لتعلم النضير؛ كانوا أعز منك وأعظم بهذه البلدة، ديتك نصف ديتهم، وقد رأيت ما صنع الله بهم. وقبل ذلك بنو قينقاع، نزلوا على حكمنا. قال كعب: يا ابن الحضير، تخوفونني بالمسير إلي؟ أما والتوراة، لقد رآني أبوك يوم بعاث - لولا نحن لأجلته الخزرج منها. إنكم والله ما لقيتم أحداً يحسن القتال ولا يعرفه؛ نحن والله نحسن قتالكم! ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين أقبح الكلام، وشتموا سعد بن عبادة شتماً قبيحاً حتى أغضبوه. فقال سعد بن معاذ: دعهم فإنا لم نأت لهذا، ما بيننا أشد من المشاتمة - السيف! وكان الذي يشتم سعد بن عبادة نباش بن قيس فقال: غضضت ببظر أمك! فانتفض سعد بن عبادة غضباً، فقال سعد بن معاذ: إني أخاف عليكم مثل يوم بني النضير. قال غزال بن سموأل: أكلت أير أبيك! قال سعد بن معاذ غير هذا القول أحسن منه. قال: ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد بن عبادة: عضل والقارة. وسكت الرجلان - يريد بعضل والقارة غدرهم بخبيب وأصحاب الرجيع - ثم جلسوا. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أبشروا يا معشر المسلمين بنصر الله وعونه. وانتهى الخبر إلى المسلمين بنقض بني قريظة العهد، فاشتد الخوف وعظم البلاء.
قرىء على ابن أبي حبيبة وأنا أسمع، قال: حدثنا محمد بن الثلجي قال: حدثنا الواقدي، قال: فحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبيد الله بن أبي بكر بن حزم قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير إلى بني قريظة. قال ابن واقد: والأول أثبت عندنا.
قالوا: ونجم النفاق، وفشل الناس، وعظم البلاء، واشتد الخوف، وخيف على الذراري والنساء، وكانوا كما قال الله تعالى: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر " ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وجاه العدو، لا يستطيعون الزوال عن مكانهم، يعتقبون خندقهم ويحرسونه. وتكلم قومٌ بكلامٍ قبيح، فقال معتب بن قشير: يعدنا محمدٌ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى حاجته، وما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً!

فحدثني صالح بن جعفر، عن ابن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله - يقول ذلك حين رأى ما بالمسلمين من الكرب. فسمعه معتب فقال ما قال.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل قال: همت بنو قريظة أن يغيروا على بيضة المدينة ليلاً، فأرسلوا حيي بن أخطب إلى قريشٍ أن يأتيهم منهم ألف رجلٍ، ومن غطفان ألف، فيغيروا بهم . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بذلك فعظم البلاء، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، ومعهم خيل المسلمين، فإذا أصبحوا أمنوا. فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: لقد خفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريشٍ وغطفان، ولقد كنت أوفى على سلع فأنظر إلى بيوت المدينة، فإذا رأيتهم هادين حمدت الله عز وجل، فكان مما رد الله به قريظة عما أرادوا أن المدينة كانت تحرس.
حدثني صالح بن خوات، عن ابن كعب، قال: قال خوات بن جبير: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محاصرو الخندق، فقال: انطلق إلى بني قريظة فانظر هل ترى لهم غرةً أو خللاً من موضعٍ فتخبرني. قال: فخرجت من عنده عند غروب الشمس، فتدليت من سلعٍ وغربت لي الشمس فصليت المغرب، ثم خرجت حتى أخذت في راتج، ثم على عبد الأشهل، ثم في زهرة، ثم على بعاث. فلما دنوت من القوم قلت: أكمن لهم. فكمنت ورمقت الحصون ساعة، ثم ذهب بي النوم فلم أشعر إلا برجلٍ قد احتملني وأنا نائم، فوضعني على عنقه ثم انطلق يمشي. قال: ففزعت ورجلٌ يمشي بي على عاتقه، فعرفت أنه طليعة من قريظة واستحييت تلك الساعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً شديداً، حيث ضيعت ثغراً أمرني به، ثم ذكرت غلبة النوم. قال: والرجل يرقل بي إلى حصونهم، فتكلم باليهودية فعرفته، قال: أبشر بجزرةٍ سمينة! قال: وذكرت وجعلت أرب بيدي - وعهدي بهم لا يخرجم منهم أحدٌ أبداً إلا بمعولٍ في وسطه. قال: فأضع يدي على المعول فأنتزعه، وشغل بكلام رجل من فوق الحصن، فانتزعته فوجأت به كبده فاسترخى وصاح: السبع! فأوقدت اليهود النار على آطامها بشعل السعف. ووقع ميتاً وانكشف، فكنت لا أدرك، وأقبل من طريقي التي جئت منها. وجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظفرت يا خوات! ثم خرج فأخبر أصحابه فقال: كان من أمر خوات كذا وكذا. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في أصحابه وهم يتحدثون، فلما رآني قال: أفلح وجهك! قلت: ووجهك يا رسول الله! قال: أخبرني خبرك. فأخبرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا أخبرني جبريل. وقال القوم: هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال خوات: فكان ليلنا بالخندق نهاراً. قال غير صالح: قال خوات: رأيتني وأنا أتذكر صسوء أثري عندهم بعد ممالحةٍ وخلصيةٍ مني لهم، فقلت: هم يمثلون بي كل المثل حتى ذكرت المعول.
حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: خرج نباش بن قيس ليلةً من حصنهم يريد المدينة، ومعه عشرةٌ من اليهود من أشدائهم وهم يقولون: عسى أن نصيب منهم غرة. فانتهوا إلى بقيع الغرقد، فيجدون نفراً من المسلمين من أصحاب سلمة بن أسلم بن حريش، فناهضوهم فراموهم ساعةً بالنبل، ثم انكشف القريظيون مولين. وبلغ سلمة بن أسلم وهم بناحية بني حارثة، فأقبل في أصحابه حتى انتهوا إلى حصونهم، فجعلوا يطيفون بحصونهم حتى خافت اليهود، وأوقدوا النيران على آطامهم وقالوا: البيات! وهدموا قرني بئر لهم وهوروها عليهم، فلم يقدروا يطلعوا من حصنهم وخافوا خوفاً شديداً.

وحدثني شيخٌ من قريش، قال ابن أبي الزناد وابن جعفر هذا أثبت من الذي في أحد، قال: كان حسان بن ثابت رجلاً جباناً، فكان قد رفع مع النساء في الآطام، فكانت صفية في أطم فارع، ومعها جماعةٌ وحسان معهم. فأقبل عشرةٌ من اليهود ورأسهم غزال بن سموأل من بني قريظة نهاراً، فجعلوا ينقمعون ويرمون الحصن، فقالت صفية لحسان: دونك يا أبا الوليد! قال: لا والله، لا أعرض نفسي لهؤلاء اليهود. ودنا أحدهم إلى باب الحصن يريد أن يدخل، فاحتجزت صفية بثوبها، ثم أخذت خشبةً فنزلت إليه فضربته ضربةً شدخت رأسه فقتلته، فهرب من بقي منهم.
واجتمعت بنو حارثة فبعثوا أوس بن قيظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله. إن بيوتنا عورة؛ وليس دارٌ من دور الأنصار مثل دارنا. ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعوا بذلك وتهيئوا للانصراف. فبلغ سعد بن معاذ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لا تأذن لهم؛ إنا والله ما أصابنا وإياهم شدةٌ قط إلا صنعوا هكذا. ثم أقبل عليهم فقال لبني حارثة: هذا لنا منكم أبداً؛ ما أصابنا وإياكم شدةٌ إلا صنعتم هكذا. فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: لقد رأيت لسعد ابن أبي وقاص ليلةً ونحن بالخندق لا أزاله أحبه أبداً. قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمةٍ في الخندق يحرسها، حتى إذا آذاه البرد جاءني فأدفأته في حضني. فإذا دفىء خرج إلى تلك الثلمة يحرسها ويقول: ما أخشى أن يؤتى الناس إلا منها. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضني قد دفىء وهو يقول: ليت رجلاً صالحاً يحرسني ! قالت: إلى أن سمعت صوت السلاح وقعقعة الحديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال: سعد بن أبي وقاص. قال: عليك بهذه الثلمة، فاحرسها. قالت: ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه.
قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله ابن أبي بكر بن حزم قال: قالت أم سلمة: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق فلم أفارقه مقامه كله، وكان يحرس نفسه في الخندق، وكنا في قرٍ شديد، فإني لأنظر إليه قام فصلى ما شاء أن يصلي في قبته، ثم خرج فنظر ساعةً فأسمعه يقول: هذه خيل المشركين تطيف بالخندق، من لهم؟ ثم نادى: يا عباد بن بشر. فقال عباد: لبيك! قال: أمعك أحد؟ قال: نعم، أنا في نفرٍ من اصحابي كنا حول قبتك. قال: فانطلق في أصحابك فأطف بالخندق، فهذه خيلٌ من خيلهم تطيف بكم يطمعون أن يصيبوا منكم غرة. اللهم ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم واغلبهم، لا يغلبهم غيرك! فخرج عباد بن بشر في أصحابه، فإذا بأبي سفيان في خيلٍ من المشركين يطيفون بمضيق الخندق. وقد نذر بهم المسلمون، فرموهم بالحجارة والنبل. فوقفنا معهم فرميناهم حتى أذلقناهم بالرمي فانكشفوا راجعين إلى منزلهم. ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده يصلي فأخبرته. قالت أم سلمة: فنام حتى سمعت غطيطه فما تحرك حتى سمعت بلالاً يؤذن بالصبح وبياض الفجر، فخرج فصلى بالمسلمين. فكانت تقول: يرحم الله عباد بن بشر، فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبة رسول الله يحرسها أبداً.
فحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: كان أسيد بن حضير يحرس الخندق في أصحابه، فانتهوا إلى مكان من الخندق تطفره الخيل، فإذا طليعةٌ من المشركين، مائة فارس أو نحوها، عليهم عمرو بن العاص يريدون أن يغيروا إلى المسلمين، فقام أسيد بن حضير عليها بأصحابه، فرموهم بالحجارة والنبل حتى أجهضوا عنا وولوا. وكان في المسلمين تلك الليلة سلمان الفارسي، فقال لأسيد: إن هذا مكان من الخندق متقارب، ونحن نخاف تطفره خيلهم - وكان الناس عجلوا في حفره. وبادروا فباتوا يوسعونه حتى صار كهيئة الخندق وأمنوا أن تطفره خيلهم. وكان المسلمون يتناوبون الحراسة، وكانوا في قر شديدٍ وجوع.

فحدثني خارجة بن الحارث، عن أبي عتيق السلمي، عن جابر بن عبد الله قال: لقد رأيتني أحرس الخندق، وخيل المشركين تطيف بالخندق وتطلب غرةً ومضيقاً من الخندق فتقتحم فيه، وكان عمرو بن العاص وخالد ابن الوليد هما اللذان يفعلان ذلك، يطلبان الغفلة من المسلمين. فلقينا خالد بن الوليد في مائة فارس، قد جال بخيله يريد مضيقاً من الخندق يريد أن يعبر فرسانه، فنضحناهم بالنبل حتى انصرف .
فحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: قال محمد بن مسلمة: أقبل خالد بن الوليد تلك الليلة في مائة فارس. فأقبلوا من العقيق حتى وقفوا بالمذاد وجاه قبة النبي صلى الله عليه وسلم. فنذرت بالقوم فقلت لعباد بن بشر، وكان على حرس قبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قائماً يصلي، فقلت: أتيت! فركع ثم سجد، وأقبل خالد في ثلاثة نفرٍ هو رابعهم، فأسمعهم يقولون: هذه قبة محمد، ارموا! فرموا، فناهضناهم حتى وقفنا على شفير الخندق، وهم بشفير الخندق من الجانب الآخر، فترامينا، وثاب إلينا أصحابنا، وثاب إليهم أصحابهم، وكثرت الجراحة بيننا وبينهم. ثم اتبعوا الخندق على حافتيه وتبعناهم والمسلمون على محارسهم، فكلما نمر بمحرس نهض معنا طائفةٌ وثبت طائفة، حتى انتهينا إلى راتجٍ فوقفوا وقفةً طويلة، وهم ينتظرون قريظة يريدون أن يغيروا على بيضة المدينة، فما شعرنا إلا بخيل سلمة بن أسلم بن حريش يحرس، فيأتون من خلف راتج، فلاقوا خالد بن الوليد فاقتتلوا واختلطوا، فما كان إلا حلب شاةٍ حتى نظرت إلى خيل خالد مولية، وتبعه سلمة بن أسلم حتى رده من حيث جاء. فأصبح خالد وقريشٌ وغطفان تزري عليه وتقول: ما صنعت شيئاً فيمن في الخندق ولا فيمن أصحر لك . فقال خالد: أنا أقعد الليلة، وابعثوا خيلاً حتى أنظر أي شيءٍ تصنع.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: والله، إني لفي جوف الليل في قبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، إلى أن سمعت الهيعة ، وقائلٌ يقول: يا خيل الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين " يا خيل الله " ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته فخرج من القبة، فإذا نفرٌ من الصحابة عند قبته يحرسونها، منهم عباد بن بشر، فقال: ما بال الناس؟ قال عباد: يا رسول الله، هذا صوت عمر بن الخطاب؛ الليلة نوبته ينادي: يا خيل الله والناس يثوبون إليه، وهو من ناحية حسيكة ما بين ذباب ومسجد الفتح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباد بن بشر: اذهب فانظر، ثم ارجع إلي إن شاء الله فأخبرني! قالت أم سلمة: فقمت على باب القبة أسمع كل ما يتكلمان به. قالت: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً حتى جاءه عباد بن بشر فقال: يا رسول الله، هذا عمرو بن عبد في خيل المشركين، معه مسعود بن رخية ابن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع ابن ريث بن غطفان، في خيل غطفان، والمسلمون يرامونهم بالنبل والحجارة. قالت: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس درعه ومغفره، وركب فرسه. وخرج معه أصحابه، حتى أتى تلك الثغرة، فلم يلبث أن رجع وهو مسرورٌ فقال: صرفهم الله، وقد كثرت فيهم الجراحة. قالت: فنام حتى سمعت غطيطه، وسمعت هائعةً أخرى، ففزع فوثب فصاح: يا عباد ابن بشر! قال: لبيك! قال: انظر ما هذا. فذهب ثم رجع فقال: هذا ضرار بن الخطاب في خيلٍ من المشركين، معه عيينة بن حصن في خيل غطفان عند جبل بني عبيد، والمسلمون يرامونهم بالحجارة والنبل. فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس درعه وركب فرسه، ثم خرج معه أصحابه إلى تلك الثغرة. فلم يأتنا حتى كان السحر، فرجع وهو يقول: رجعوا مفلولين، قد كثرت فيهم الجراحة. ثم صلى بأصحابه الصبح وجلس. فكانت أم سلمة تقول: قد شهدت معه مشاهد فيها قتالٌ وخوف - المريسيع، وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين - لم يكن من ذلك شيءٌ أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة ، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري، والمدينة تحرس حتى الصباح، يسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا خوفاً، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال .

حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، عن محمد بن مسلمة. قال: كنا حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائمٌ نسمع غطيطه، إذ وافت أفراسٌ على سلع، فبصر بهم عباد بن بشر فأخبرنا بهم، قال: فأمضى إلى الخيل، وقام عباد على باب قبة النبي صلى الله عليه وسلم آخذاً بقائم السيف ينظرني، فرجعت فقلت: خيل المسلمين أشرفت، عليها سلمة بن أسلم بن حريش، فرجعت إلى موضعنا. ثم يقول محمد بن مسلمة: كان ليلنا بالخندق نهاراً حتى فرجه الله.
حدثني خارجة بن الحارث، عن أبي عتيق، عن جابر، وحدثني الضحاك ابن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، قال: كان خوفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريشٍ حتى فرج الله ذلك.
قالوا: فكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً، وضرار بن الخطاب يوماً، فلا يزالون يجيلون خيلهم ما بين المذاذ إلى راتج، وهم في نشرٍ من أصحابهم، يتفرقون مرة ويجتمعون أخرى، حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفاً شديداً. ويقدمون رماتهم - وكان معهم رماة؛ حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي، وغيرهم من أفناء العرب - فعمدوا يوماً من ذلك فتناوشوا بالنبل ساعة، وهم جميعاً في وجهٍ واحد وجاه قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم، عليه الدرع والمغفر، ويقال على فرسه. فيرمي حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله ، فقال: خذها وأنا ابن العرقة! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرق الله وجهك في النار! ويقال أبو أسامة الجشمي رماه، وكان دارعاً. فكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: كنا في أطم بني حارثة قبل الحجاب ومعنا أم سعد بن معاذ، فمر سعد بن معاذ يومئذٍ عليه ردع خلوقٍ ما رأيت أحداً في الخلوق مثله، وعليه درعٌ له، مشمرة عن ذراعيه؛ والله، إني لأخاف عليه يومئذٍ من تشميرة درعه ما أصابه، فمر يرفل في يده الحربة، وهو يقول:
لبث قليلاً يدرك الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل
وأمه تقول: الحق برسول الله يا بني! وقد والله تأخرت، فقلت: والله يا أم سعد، لوددت أن درع سعد أسبغ على بنانه. قالت أم سعد: يقضي الله ما هو قاض! فقضى له أن أصيب يومئذٍ، ولقد جاء الخبر بأنه قد رمي، تقول أمه: واجبلاه! ثم إن روساءهم أجمعوا أن يغدوا جميعاً، فغدا أبو سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد، ونوفل بن معاوية الديلي، في عدة، فجعلوا يطيفون بالخندق؛ ومعه روساء غطفان - عيينة بن حصن، ومسعود بن رخيلة، والحارث بن عوف؛ ومن سليم رؤساوهم؛ ومن بني أسد طليحة بن خويلد. وتركوا الرجال منهم خلوفاً، يطلبون مضيقاً يريدون يقتحمون خيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانتهوا إلى مكانٍ قد أغفله المسلمون، فجعلوا يكرهون خيلهم ويقولون: هذه المكيدة، ما كانت العرب تصنعها ولا تكيدها. قالوا : إن معه رجلاً فارسياً، فهو الذي أشار عليهم بهذا. قالوا: فمن هناك إذاً؟ فعبر عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار ابن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد، وقام سائر المشركين من وراء الخندق لا يعبرون، وقيل لأبي سفيان: ألا تعبر؟ قال: قد عبرتم، فإن احتجتم إلينا عبرنا. فجعل عمرو بن عبدٍ يدعو إلى البراز ويقول:
ولقد بححت من الندا ... ء لجمعكم هل من مبارز

وعمرو يومئذٍ ثائر، قد شهد بدراً فارتث جريحاً فلم يشهد أحداً، وحرم الدهن حتى يثأر من محمدٍ وأصحابه، وهو يومئذٍ كبير - يقال بلغ تسعين سنة. فلما دعا إلى البراز قال علي كرم الله وجهه: أنا أبارزه يا رسول الله! ثلاث مرات. وإن المسلمين يومئذٍ كأن على رءوسهم الطير، لمكان عمرو وشجاعته. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، وعممه وقال: اللهم أعنه عليه! قال: وأقبل عمرو يومئذٍ وهو فارسٌ وعليٌّ راجل، فقال له عليٌ رضي الله عنه: إنك كنت تقول في الجاهلية: لا يدعوني أحدٌ إلى واحدةٍ من ثلاثٍ إلا قبلتها! قال: أجل! قال عليٌ: فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتسلم لله رب العالمين. قال: يا ابن أخي، أخر هذا عني. قال: فأخرى؛ ترجع إلى بلادك، فإن يكن محمدٌ صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن غير ذلك كان الذي تريد. قال: هذا ما لا تتحدث به نساء قريشٍ أبداً، وقد نذرت ما نذرت وحرمت الدهن. قال: فالثالثة؟ قال: البراز. قال فضحك عمرو ثم قال: إن هذه الخصلة ما كنت أظن أن أحداً من العرب يرومني عليها! إني لأكره أن أقتل مثلك، وكان أبوك لي نديماً؛ فارجع، فأنت غلامٌ حدث، إنما أردت شيخي قريش! أبا بكر وعمر. قال فقال عليٌّ رضي الله عنه: فإني أدعوك إلى المبارزة فأنا أحب أن أقتلك. فأسف عمرو ونزل وعقل فرسه فكان جابر يحدث يقول: فدنا أحدهما من صاحبه وثارت بينهما غبرةٌ فما نراهما، فسمعنا التكبير تحتها فعرفنا أن علياً قتله. فانكشف أصحابه الذين في الخندق هاربين، وطفرت بهم خيلهم، إلا أن نوفل ابن عبد الله وقع به فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل. ورجعوا هاربين، وخرج في أثرهم الزبير بن العوام وعمر بن الخطاب، فناوشوهم ساعة. وحمل ضرار بن الخطاب على عمر بن الخطاب بالرمح، حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه وقال: هذه نعمة مشكورة، فاحفظها يا ابن الخطاب! إني قد كنت حلفت لا تمكنني يداي من رجلٍ من قريشٍ ابداً. فانصرف ضرار راجعاً إلى أبي سفيان وأصحابه وهم قيامٌ عند جبل بني عبيد. ويقال: حمل الزبير على نوفل بن عبد الله بن المغيرة بالسيف حتى شقه باثنين وقطع أندوج سرجه - والأندوج: اللبد الذي يكون تحت السرج - ويقال إلى كاهل الفرس. فقيل: يا أبا عبد الله، ما رأينا سيفاً مثل سيفك! فيقول: والله، ما هو بالسيف ولكنها الساعد وهرب عكرمة وهبيرة فلحقا بأبي سفيان، وحمل الزبير على هبيرة فضرب ثفر فرسه فقطع ثفر فرسه وسقطت درعٌ كان محقبها الفرس، فأخذ الزبير الدرع، وفر عكرمة وألقى رمحه. فلما رجعوا إلى أبي سفيان قال: هذا يومٌ لم يكن لنا فيه شيء، ارجعوا! فنفرت قريشٌ فرجعت إلى العقيق، ورجعت غطفان إلى منازلها، واتعدوا يغدون جميعاً ولا يتخلف منهم أحد. فباتت قريش يعبئون أصحابهم، وباتت غطفان يعبئون أصحابهم، ووافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق قبل طلوع الشمس. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وحضهم على القتال، ووعدهم النصر إن صبروا، والمشركون قد جعلوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم فأخذوا بكل وجهٍ من الخندق.

فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال: قاتلونا يومهم وفرقوا كتائبهم، ونحوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبةً غليظةً فيها خالد بن الوليد، فقاتلهم يومه ذلك إلى هويٍ من الليل، ما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من المسلمين أن يزولوا من مواضعهم، وما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء، فجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله، ما صلينا! فيقول: ولا أنا والله ما صليت! حتى كشفهم الله تعالى فرجعوا متفرقين. فرجعت قريشٌ إلى منزلها، ورجعت غطفان إلى منزلها، وانصرف المسلمون إلى قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقام أسيد بن حضير على الخندق في مائتين من المسلمين، فهم على شفير الخندق إذ كرت خيلٌ من الشمركين يطلبون غرةً، عليهم خالد بن الوليد؛ فناوشوهم ساعةً ومع المشركين وحشي، فزرق الطفيل بن النعمان من بني سلمة بمزراقه فقتله، فكان يقول: أكرم الله تعالى حمزة والطفيل بحربتي ولم يهنى بأيديهما. فلما صار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبته أمر بلالاً فأذن. وكان عبد الله بن مسعود يقول: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذن وأقام للظهر، وأقام بعد لكل صلاةٍ إقامةً إقامةً.
وقد حدثني ابن أبي ذئب - وهو أثبت الحديثين عندنا - قال: أخبرني المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: جلسنا يوم الخندق حتى كان بعد المغرب بهويٍ من الليل حتى كفينا، وذلك قول الله عز وجل: " وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره، فأقام صلاة الظهر فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها. ثم أقام صلاة العصر فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها، ثم أقام المغرب فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العشاء فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها. قال: وذلك قبل أن ينزل الله صلاة الخوف: " فرجالاً أو ركباناً " .
وكان ابن عباس يحدث يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى - يعني العصر - ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً! وأرسلت بنو مخزوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون جيفة نوفل ابن عبد الله يشترونها بالدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي جيفة حمار! وكره ثمنه. فلما انصرف المشركون تلك الليلة لم يكن لهم قتالٌ جميعاً حتى انصرفوا، إلا أنهم لا يدعون يبعثون الطلائع بالليل، يطمعون في الغارة. وخرجت بعد ذلك طليعتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً، فالتقيا ولا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدو، فكانت بينهم جراحةٌ وقتلٌ؛ ولسنا نعرف من قتل ولم يسم لنا. ثم نادوا بشعار الإسلام، وكف بعضهم عن بعض، وكان شعارهم: حم لا ينصرون! فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جراحكم في سبيل الله، ومن قتل منكم فإنه شهيد. فكانوا بعد ذلك إذا دنا المسلمون بعضهم من بعضٍ نادوا بشعارهم؛ لأن يكف بعضهم عن بعض، فلا يرمون بنبلٍ ولا بحجر. كانوا يطيفون بالخندق بالليل حتى الصباح يتناوبون، وكذلك يفعل المشركون أيضاً، يطيفون بالخندق حتى يصبحوا. قال: فكان رجالٌ من أهل العوالي يطلعون إلى أهليهم، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليكم بني قريظة. فإذا ألحوا في كثرة ما يستأذنونه يقول: من ذهب منكم فليأخذ سلاحه فإني لا آمن بني قريظة، هم على طريقكم. وكان كل من يذهب منهم إنما يسلكون على سلعٍ حتى يدخلوا المدينة، ثم يذهبون إلى العالية.

فحدثني مالك بن أنس، عن صيفي مولى ابن أفلح، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته فوجده يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته. قال: فسمعت تحريكاً تحت سريره في بيته فإذا حية، فقمت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس. فلما جلست سلم وأشار إلى بيتٍ في الدار، فقال لي: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم فقال: إنه كان فيه فتىً حديث عهدٍ بعرس، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان يستأذنه بأنصاف النهار ليطلع إلى أهله، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة. قال: فأخذ الرجل سلاحه وذهب فإذا امرأته قائمةٌ بين البابين، فهيأ لها الرمح ليطعنها، وأصابته غيرةٌ فقالت: اكفف عليك رمحك حتى ترى ما في بيتك! فكف ودخل فإذا هو بحيةٍ منطوية على فراشه، فركز فيها رمحه فانتظمها فيه، ثم خرج به فنصبه في الدار، فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتاً، فما ندري أيهما كان أسرع موتاً، الفتى أو الحية. قال أبو سعيد: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقلنا: يا رسول الله، ادع الله أن يحييه. فقال: استغفروا لصاحبكم. ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
فحدثني قدامة بن موسى، عن عائشة بنت قدامة، عن أبيها، قال: بعثنا ابن أختنا ابن عمر يأتينا بطعامٍ ولحفٍ وقد بلغنا من الجوع والبرد، فخرج ابن عمر حتى إذا هبط من سلع - وذلك ليلاً - غلبته عيناه فنام حتى أصبح. فاهتممنا به فخرجت أطلبه فأجده نائماً، والشمس قد ضحته، فقلت: الصلاة، أصليت اليوم؟ قال: لا. قلت: فصل. فقام سريعاً إلى الماء، وذهبت إلى منزلنا بالمدينة فجئت بتمرٍ ولحاف واحد، فكنا نلبس ذلك اللحاف جميعاً - من قام منا في المحرس ذهب مقروراً ثم رجع حتى يدخل في اللحاف، حتى فرج الله ذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت بالصبا وأهلكت عادٌ بالدبور.
وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: جاءت الجنوب إلى الشمال فقالت: انطلقي بنصر الله ورسوله فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بليل. فبعث الله عز وجل الصبا، فأطفأت نيرانهم وقطعت أطناب فساطيطهم.
حدثني عمر بن عبد الله بن رياح الأنصاري، عن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، من بني عدي بن النجار، قال: كان المسلمون قد أصابتهم مجاعةٌ شديدة، فكان أهلوهم يبعثون إليهم بما قدروا عليه، فأرسلت عمرة بنت رواحة ابنتها بجفنة تمرٍ عجوةٍ في ثوبها، فقالت: يا بنية، اذهبي إلى أبيك بشير بن سعد، وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما. فانطلقت الجارية حتى تأتي الخندق، فتجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه وهي تلتمسهما، فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: بعثتني أمي إلى أبي وخالي بغدائهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاتيه! قالت: فأعطيته فأخذه في كفيه، ثم أمر بثوبٍ فبسط له، وجاء بالتمر فنشره عليه فوق الثوب، فقال لجعال بن سراقة: ناد بأهل الخندق أن هلم إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه يأكلون منه، حتى صدر أهل الخندق وإنه ليفيض من أطراف الثوب.
وحدثني شعيب بن عبادة، عن عبد الله بن معتب، قال: أرسلت أم عامر الأشهلية بقعبةٍ فيها حيسٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبته وهو عند أم سلمة، فأكلت أم سلمة حاجتها، ثم خرج بالبقية فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا وهي كما هي.

حدثنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة حتى حلص إلى كل امرىءٍ منهم الكرب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك أن تشأ لا تعبد! فبينا هم على ذلك من الحال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف - ولم يحضر الخندق الحارث بن عوف ولا قومه، ويقال حضرها الحارث بن عوف. قال ابن واقد: وهو أثبت القولين عندنا. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه وإلى عيينة: أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟ قالا: تعطينا نصف تمر المدينة. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك وجاءا في عشرةٍ من قومهما حين تقارب الأمر، فجاءوا وقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة وهو يريد أن يكتب الصلح بينهم. وعباد بن بشر قائمٌ على راس رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنعٌ في الحديد. فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدري بما كان من الكلام، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عيينة ماداً رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم ما يريدون، فقال: يا عين الهجرس ، اقبض رجليك! أتمد رجليك بين يدي رسول الله؟ ومعه الرمح. والله، لولا رسول الله لأنفذت خصيتيك بالرمح! ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن كان أمراً من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف! متى طمعوا بهذا منا؟ فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما في ذلك، وهو متكىءٌ عليهما، والقوم جلوسٌ، فتكلم بكلامٍ يخفيه، وأخبرهما بما قد أراد من الصلح. فقالا: إن كان هذا أمراً من السماء فامض له، وإن كان أمراً لم تؤمر فيه ولك فيه هوىً فامض لما كان لك فيه هوىً، فسمعاً وطاعةً، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف. وأخذ سعد بن معاذ الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت العرب رمتكم عن قوسٍ واحدةٍ فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم. فقالا: يا رسول الله، إن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا قط، أن يأخذوا تمرةً إلا بشرى أو قرى! فحين أتانا الله تعالى بك، وأكرمنا بك، وهدانا بك نعطي الدنية! لا نعطيهم أبداً إلا السيف! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شق الكتاب. فتفل سعد فيه، ثم شقه وقال: بيننا السيف! فقام عيينة وهو يقول: أما والله للتي تركتم خيرٌ لكم من الخطة التي أخذتم، وما لكم بالقوم طاقة. فقال عباد بن بشر: يا عيينة، أبالسيف تخوفنا؟ ستعلم أينا أجزع! وإلا فوالله لقد كنت أنت وقومك تأكلون العلهز والرمة من الجهد فتأتون هاهنا ما تطمعون بهذا منا إلا قرىً أو شرىً، ونحن لا نعبد شيئاً. فلما هدانا الله وأيدنا بمحمد صلى الله عليه وسلم سألتمونا هذه الخطة! أما والله، لولا مكان رسول الله ما وصلتم إلى قومكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعوا، بيننا السيف! رافعاً صوته. فرجع عيينة والحارث وهما يقولان: والله، ما نرى أن ندرك منهم شيئاً. ولقد أنهجت للقوم بصائرهم! والله، ما حضرت إلا كرهاً لقوم غلبوني. وما مقامنا بشيءٍ. مع أن قريشاً إن علمت بما عرضنا على محمدٍ عرفت أنا قد خذلناها ولم ننصرها. قال عيينة: هو والله ذلك! قال الحارث: أما إنا لم نصب بتعرضنا لنصر قريشٍ على محمد، والله لئن ظهرت قريشٌ على محمد ليكونن الأمر فيها دون سائر العرب، مع أني أرى أمر محمد أمراً ظاهراً. والله، لقد كان أحبار يهود خيبر وإنهم يحدثون أنهم يجدون في كتبهم أنه يبعث نبي من الحرم على صفته. قال عيينة: إنا والله ما جئنا ننصر قريشاً، ولو استنصرنا قريشاً ما نصرتنا ولا خرجت معنا من حرمها. ولكني كنت أطمع أن تأخذ تمر المدينة فيكون لنا به ذكرٌ مع ما لنا فيه من منفعة الغنيمة. مع أنا ننصر حلفاءنا من اليهود فهم جلبونا إلى ما ها هنا. قال الحارث: قد والله أبت الأوس والخزرج إلا السيف؛ والله لتقاتلن عن هذا السعف. ما بقي منها رجلٌ مقيم وقد أجدب الجناب وهلك الخف والكراع. قال عيينة: لا شيء. فلما

أتيا منزلهما جاءتهما غطفان فقالوا: ما وراءكم؟ قالوا: لم يتم الأمر؛ رأينا قوماً على بصيرةٍ وبذل أنفسهم دون صاحبهم، وقد هلكنا وهلكت قريش، وقريشٌ تنصرف ولا تكلم محمداً! وإنما يقع حر محمدٍ ببني قريظة؛ إذا ولينا جثم عليهم فحصرهم جمعةً حتى يعطوا بأيديهم. قال الحارث: بعداً وسحقاً! محمدٌ أحب إلينا من اليهود. منزلهما جاءتهما غطفان فقالوا: ما وراءكم؟ قالوا: لم يتم الأمر؛ رأينا قوماً على بصيرةٍ وبذل أنفسهم دون صاحبهم، وقد هلكنا وهلكت قريش، وقريشٌ تنصرف ولا تكلم محمداً! وإنما يقع حر محمدٍ ببني قريظة؛ إذا ولينا جثم عليهم فحصرهم جمعةً حتى يعطوا بأيديهم. قال الحارث: بعداً وسحقاً! محمدٌ أحب إلينا من اليهود.
ذكر نعيم بن مسعود

حدثنا عبد الله بن عاصم الأشجعي، عن أبيه قال: قال نعيم بن مسعود: كانت بنو قريظة أهل شرف وأموال، وكنا قوماً عرباً، لا نخل لنا ولا كرم، وإنما نحن أهل شاةٍ وبعير. فكنت أقدم على كعب بن أسد، فأقيم عندهم الأيام، أشرب من شرابهم وآكل من طعامهم، ثم يحملونني تمراً على ركابي ما كانت، فأرجع إلى أهلي. فلما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرت مع قومي، وأنا على ديني، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً، فاقامت الأحزاب ما أقامت حتى أجدب الجناب وهلك الخف والكراع، وقذف الله عز وجل في قلبي الإسلام. وكتمت قومي إسلامي، فأخرج حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء وأجده يصلي، فلما رآني جلس ثم قال: ما جاء بك يا نعيم؟ قلت: إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق، فمرني بما شئت يا رسول الله، فوالله لا تأمرني إلا مضيت له؛ قومي لا يعلمون بإسلامي ولا غيرهم. قال: ما استطعت أن تخذل الناس فخذل! قال، قلت: أفعل، ولكن يا رسول الله أقول فأذن لي، قال: قل ما بدا لك فأنت في حل. قال: فذهبت حتى جئت بني قريظة، فلما رأوني رحبوا وأكرموا وحيوا وعرضوا علي الطعام والشراب، فقلت: إني لم آت لشيءٍ من هذا؛ إنما جئتكم نصباً بأمركم، وتخوفاً عليكم؛ لأشير عليكم برأي، وقد عرفتم ودي إياكم وخاصةً ما بيني وبينكم. فقالوا: قد عرفنا ذلك وأنت عنندنا على ما تحب من الصدق والبر. قال: فاكتموا عني. قالوا: نفعل. قال: إن أمر هذا الرجل بلاء - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - صنع ما قد رأيتم ببني قينقاع وبني النضير، وأجلاهم عن بلادهم بعد قبض الأموال. وكان ابن أبي الحقيق قد سار فينا فاجتمعنا معه لنصركم، وأرى الأمر قد تطاول كما ترون، وإنكم والله، ما أنتم وقريشٌ وغطفان من محمدٍ بمنزلةٍ واحدة؛ أما قريشٌ وغطفان فهم قومٌ جاءوا سيارةً حتى نزلوا حيث رأيتم، فإن وجدوا فرصةً انتهزوها، وإن كانت الحرب، أو أصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم. وأنتم لا تقدرون على ذلك، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وقد غلظ عليهم جانب محمد، أجلبوا عليه أمس إلى الليل، فقتل رأسهم عمرو بن عبد، وهربوا منه ، مجرحين وهم لا غناء بهم عنكم؛ لما تعرفون عندكم. فلا تقاتلوا مع قريشٍ ولا غطفان حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم تستوثقون به منهم ألا يناجزوا محمداً. قالوا: أشرت بالرأي علينا والنصح. ودعوا له وتشكروا، وقالوا: نحن فاعلون. قال: ولكن اكتموا عني. قالوا: نعم، نفعل. ثم خرج إلى أبي سفيان بن حرب في رجالٍ من قريشٍ فقال: يا أبا سفيان، قد جئتك بنصيحةٍ فاكتم عني. قال: أفعل. قال: تعلم أن قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وأرادوا إصلاحه ومراجعته. أرسلوا إليه وأنا عندهم: إنا سنأخذ من قريشٍ وغطفان من أشرافهم سبعين رجلاً نسلمهم إليك تضرب أعناقهم وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم - يعنون بني النضير - ونكون معك على قريشٍ حتى نردهم عنك. فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهناً فلا تدفعوا إليهم أحداً واحذروهم على أشرافكم، ولكن اكتموا عني ولا تذكروا من هذا حرفاً. قالوا: لا نذكره. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إني رجلٌ منكم فاكتموا عني، واعلموا أن قريظة بعثوا إلى محمد - وقال لهم مثل ما قال لقريش - فاحذروا أن تدفعوا إليههم أحداً من رجالكم. وكان رجلاً منهم فصدقوه، وأرسلت اليهود غزال بن سموأل إلى أبي سفيان بن حرب وأشراف قريش: إن ثواءكم قد طال ولم تصنعوا شيئاً وليس الذي تصنعون برأي، إنكم لو وعدتمونا يوماً تزحفون فيه إلى محمد، فتأتون من وجهٍ وتأتي غطفان من وجهٍ ونخرج نحن من وجهٍ آخر، لم يفلت من بعضنا. ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برهان من أشرافكم يكونون عندنا، فإنا نخاف إن مستكم الحرب وأصابكم ما تكرهون شمرتم وتركتمونا في عقر دارنا وقد نابذنا محمداً بالعداوة. فانصر الرسول إلى بني قريظة ولم يرجعوا إليهم شيئاً، وقال أبو سفيان: هذا ما قال نعمي. فخرج نعيم إلى بني قريظة فقال: يا معشر بني قريظة، أنا عند أبي سفيان حتى جاء رسولكم إليه يطلب منه الرهان، فلم يرد عليه شيئاً فلما ولى قال: لو طلبوا مني عناقاً ما رهنتها! أنا أرهنهم سراة أصحابي يدفعونهم إلى محمدٍ يقتلهم! فارتأوا آراءكم حتى تأخذوا الرهن، فإنكم إن لم

تقاتلوا محمداً وانصرف أبو سفيان تكونوا على مواعدتكم الأولى. قالوا: ترجو ذلك يا نعيم؟ قال: نعم. قال كعب بن أسد: فإنا لا نقاتله. والله، لقد كنت لهذا كارهاً ولكن حيي رجلٌ مشئوم. قال الزبير بن باطا: إن انكشفت قريش وغطفان عن محمدٍ لم يقبل منا إلا السيف. قال نعيم: لا تخش ذلك يا أبا عبد الرحمن. قال الزبير: بلى والتوراة، ولو أصابت اليهود رأيها ولحم الأمر لتخرجن إلى محمدٍ ولا يطلبون من قريشٍ رهناً، فإن قريشاً لا تعطينا رهناً أبداً، وعلى أي وجهٍ تعطينا قريشٌ الرهن وعددهم أكثر من عددنا، ومعهم كراعٌ ولا كراع معنا، وهم يقدرون على الهرب ونحن لا نقدر عليه؟ وهذه غطفان تطلب إلى محمدٍ أن يعطيها بعض تمر الأوس وتنصرف، فأبى محمدٌ إلا السيف، فهم ينصرفون بغير شيء. فلما كان ليلة السبت كان مما صنع الله تعالى لنبيه أن قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إن الجناب قد أجدب، وهلك الكراع والخف، وغدرت اليهود وكذبت، وليس هذا بحين مقامٍ فانصرفوا! قالت قريش: فاعلم علم اليهود واستيقن خبرهم. فبعثوا عكرمة بن أبي جهل حتى جاء بني قريظة عند غروب الشمس مساء ليلة السبت فقال: يا معشر اليهود إنه قد طال المكث وجهد الخف والكراع وأجدب الجناب، وإنا لسنا بدار مقامة، اخرجوا إلى هذا الرجل حتى نناجزه بالغداة. قالوا: غداً السبت لا نقاتل ولا نعمل فيه عملاً، وإنا مع ذلك لا نقاتل معكم إذا انقضى سبتنا حتى تعطونا رهاناً من رجالكم يكونون معنا لئلا تبرحوا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب أن تشمروا إلى بلادكم وتدعونا وإياه في بلادنا ولا طاقة لنا به، معنا الذراري والنساء والأموال. فرجع عكرمة إلى أبي سفيان فقالوا: ما وراءك؟ قال: أحلف بالله إن الخبر الذي جاء به نعيم حقٌّ، لقد غدر أعداء الله. وارسلت غطفان إليهم مسعود بن رخيلة في رجالٍ منهم بمثل رسالة أبي سفيان، فأجابوهم بمثل جواب أبي سفيان. وقالت اليهود حيث رأوا ما رأوا منهم: نحلف بالله إن الخبر الذي قال نعيم لحقٌّ. وعرفوا أن قريشاً لا تقيم فسقط في أيديهم، فكر أبو سفيان إليهم وقال: إنا والله لا نفعل، إن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت اليهود مثل قولهم الأول، وجعلت اليهود تقول: الخبر ما قال نعيم. وجعلت قريشٌ وغطفان تقول: الخبر ما قال نعيم. ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، واختلف أمرهم، فكان نعيمٌ يقول: أنا خذلت بين الأحزاب حتى تفرقوا في كل وجه، وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره. فكان صحيح الإسلام بعداتلوا محمداً وانصرف أبو سفيان تكونوا على مواعدتكم الأولى. قالوا: ترجو ذلك يا نعيم؟ قال: نعم. قال كعب بن أسد: فإنا لا نقاتله. والله، لقد كنت لهذا كارهاً ولكن حيي رجلٌ مشئوم. قال الزبير بن باطا: إن انكشفت قريش وغطفان عن محمدٍ لم يقبل منا إلا السيف. قال نعيم: لا تخش ذلك يا أبا عبد الرحمن. قال الزبير: بلى والتوراة، ولو أصابت اليهود رأيها ولحم الأمر لتخرجن إلى محمدٍ ولا يطلبون من قريشٍ رهناً، فإن قريشاً لا تعطينا رهناً أبداً، وعلى أي وجهٍ تعطينا قريشٌ الرهن وعددهم أكثر من عددنا، ومعهم كراعٌ ولا كراع معنا، وهم يقدرون على الهرب ونحن لا نقدر عليه؟ وهذه غطفان تطلب إلى محمدٍ أن يعطيها بعض تمر الأوس وتنصرف، فأبى محمدٌ إلا السيف، فهم ينصرفون بغير شيء. فلما كان ليلة السبت كان مما صنع الله تعالى لنبيه أن قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إن الجناب قد أجدب، وهلك الكراع والخف، وغدرت اليهود وكذبت، وليس هذا بحين مقامٍ فانصرفوا! قالت قريش: فاعلم علم اليهود واستيقن خبرهم. فبعثوا عكرمة بن أبي جهل حتى جاء بني قريظة عند غروب الشمس مساء ليلة السبت فقال: يا معشر اليهود إنه قد طال المكث وجهد الخف والكراع وأجدب الجناب، وإنا لسنا بدار مقامة، اخرجوا إلى هذا الرجل حتى نناجزه بالغداة. قالوا: غداً السبت لا نقاتل ولا نعمل فيه عملاً، وإنا مع ذلك لا نقاتل معكم إذا انقضى سبتنا حتى تعطونا رهاناً من رجالكم يكونون معنا لئلا تبرحوا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب أن تشمروا إلى بلادكم وتدعونا وإياه في بلادنا ولا طاقة لنا به، معنا الذراري والنساء والأموال. فرجع عكرمة إلى أبي سفيان فقالوا: ما وراءك؟ قال: أحلف بالله إن الخبر الذي جاء به نعيم حقٌّ، لقد غدر أعداء الله. وارسلت غطفان إليهم مسعود بن رخيلة في رجالٍ منهم بمثل رسالة أبي سفيان، فأجابوهم بمثل جواب أبي سفيان. وقالت اليهود حيث رأوا ما رأوا منهم: نحلف بالله إن الخبر الذي قال نعيم لحقٌّ. وعرفوا أن قريشاً لا تقيم فسقط في أيديهم، فكر أبو سفيان إليهم وقال: إنا والله لا نفعل، إن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت اليهود مثل قولهم الأول، وجعلت اليهود تقول: الخبر ما قال نعيم. وجعلت قريشٌ وغطفان تقول: الخبر ما قال نعيم. ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، واختلف أمرهم، فكان نعيمٌ يقول: أنا خذلت بين الأحزاب حتى تفرقوا في كل وجه، وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره. فكان صحيح الإسلام بعد

فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لما قالت قريظة لعكرمة بن أبي جهل ما قالت، قال أبو سفيان بن حرب لحيي ابن أخطب: أين ما وعدتنا من نصر قومك؟ قد خلونا وهم يريدون الغدر بنا! قال حيي: كلا والتوراة، ولكن السبت قد حضر ونحن لا نكسر السبت، فكيف ننصر على محمدٍ إذا كسرنا السبت؟ فإذا كان يوم الأحد اغدوا على محمدٍ وأصحابه بمثل حرق النار. وخرج حيي بن أخطب حتى أتى بني قريظة فقال: فداءكم أبي وأمي، إن قريشاً قد اتهمتكم بالغدر واتهموني معكم، وما السبت لو كسرتموه لما قد حضر من أمر عدوكم؟ قال: فغضب كعب بن أسد، ثم قال: لو قتلهم محمدٌ حتى لا يبقى منهم أحدٌ ما كسرنا سبتنا. فرجع حيي إلى أبي سفيان بن حرب فقال: ألم أخبرك يا يهودي أن قومك يريدون الغدر؟ قال حيي: لا والله، ما يريدون الغدر، ولكنهم يريدون الخروج يوم الأحد. فقال أبو سفيان: وما السبت؟ قال: يوم من أيامهم يعظمون القتال فيه، وذلك أن سبطاً منا أكلوا الحيتان يوم السبت فمسخهم الله قردةً وخنازير. قال أبو سفيان: لا أراني أستنصر بأخوة القردة والخنازير! ثم قال أبو سفيان: قد بعثت عكرمة بن أبي جهل وأصحابه إليهم فقالوا: لا نقاتل حتى تبعثوا لنا بالرهان من أشرافكم. وقبل ذلك ما جاءنا غزال بن سموأل برسالتهم. قال أبو سفيان: أحلف باللات إن هو إلا غدركم، وإني لأحسب أنك قد دخلت في غدر القوم! قال حيي: والتوراة التي أنزلت على موسى يوم طور سيناء ما غدرت! ولقد جئتك من عند قومٍ هم أعدى الناس لمحمدٍ وأحرصهم على قتاله، ولكن ما مقام يومٍ واحدٍ حتى يخرجوا معك! قال أبو سفيان: لا والله ولا ساعة، لا أقيم بالناس انتظار غدركم. حتى خاف حيي ابن أخطب على نفسه من أبي سفيان، فخرج معهم من الخوف حتى بلغ الروحاء، فما رجع إلا متسرقاً لما أعطى كعب بن أسد من نفسه ليرجعن إليه، فدخل مع بني قريظة حصنهم ليلاً ويجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زحف إليهم ساعة ولت الأحزاب.
فحدثني صالح بن جعفر، عن أبي كعب القرظي، قال: كان حيي بن أخطب قال لكعب بن أسد حين جاءه، وجعل كعب يأبى فقال حيي: لا تقاتل حتى تأخذ سبعين رجلاً من قريشٍ وغطفان رهاناً عندكم. وذلك من حيي خديعة لكعب حتى ينقض العهد، وعرف أنه إذا نقض العهد لحم الأمر. ولم يخبر حيي قريشاً بالذي قال لبني قريظة، فلما جاءهم عكرمة يطلب منهم أن يخرجوا معه السبت قالوا: لا نكسر السبت، ولكن يوم الأحد، ولا نخرج حتى تعطونا الرهان. فقال عكرمة: أي رهان؟ قال كعب: الذي شرطتم لنا. قال: ومن شرطها لكم؟ قالوا: حيي بن أخطب. فأخبر أبا سفيان ذلك فقال لحيي: يا يهودي، نحن قلنا لك كذا وكذا؟ قال: لا والتوراة، ما قلت ذلك. قال أبو سفيان: بل هو الغدر من حيي. فجعل حيي يحلف بالتوراة ما قال ذلك.
حدثني موسى بن يعقوب، عن عمه قال، قال كعب: يا حيي لا نخرج حتى نأخذ من كل أصحابك من كل بطن سبعين رجلاً رهناً في أيدينا. فذكر ذلك حيي لقريشٍ ولغطفان وقيس. ففعلوا وعقدوا بينهم عقداً بذلك حتى شق كعبٌ الكتاب. فلما أرسلت إليه قريشٌ تستنصره قال: الرهن! فأنكروا ذلك واختلفوا؛ لما أراد الله عز وجل.

وحدثني معمر، عن الزهري قال، سمعته يقول: أرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان أن ائتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم. فسمع ذلك نعيم بن مسعود، وكان موادعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان عند عيينة حين ارسلت بذلك بنو قريظة إلى أبي سفيان وأصحابه. فأقبل نعيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها وما ارسلت به قريظة إلى الأحزاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلنا أمرناهم بذلك. فقام نعيم بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من عند رسول الله. قال: وكان نعيم رجلاً لا يكتم الحديث، فلما ولى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهباً إلى غطفان قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، ما هذا الذي قلت؟ إن كان أمرٌ من الله تعالى فامضه، وإن كان هذا راياً من قبل نفسك فإن شأن بني قريظة هو أهون من أن تقول شيئاً يؤثر عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو رأي رأيته الحرب خدعة. ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر نعيم، فدعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الذي سمعتني قلت آنفاً؟ اسكت عنه فلا تذكره! فانصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء عيينة بن حصن ومن معه من غطفان، فقال لهم: هل علمتم محمداً قال شيئاً قط إلا كان حقاً؟ قالوا: لا. قال: فإنه قال لي فيما ارسلت به إليكم بنو قريظة: " فلعلنا نحن أمرناهم بذلك " ، ثم نهاني أذكره لكم. فانطلق عيينة حتى لقي أبا سفيان بن حرب، فأخبره خبر نعيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: إنما أنتم في مكر بني قريظة. فقال أبو سفيان: نرسل إليهم الآن فنسألهم الرهن، فإن دفعوا الرهن إلينا فقد صدقونا، وإن أبوا ذلك فنحن منهم في مكر. فجاءهم رسول أبي سفيان فسألهم الرهن ليلة السبت فقالوا: هذه ليلة السبت ولسنا نقضي فيها ولا في يومها أمراً، فأمهل حتى يذهب السبت. فخرج الرسول إلى أبي سفيان فقال أبو سفيان، ورءوس الأحزاب معه هذا مكر من بني قريظة، فارتحلوا فقد طالت إقامتكم. فآذنوا الرحيل، وبعث الله تعالى عليهم الريح، حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رحله، فارتحلوا فولوا منهزمين.
ويقال إن حيي بن أخطب قال لأبي سفيان: أنا آخذ لك من بني قريظة سبعين رجلاً رهناً عندك حتى يخرجوا فيقاتلوا، فهم أعرف بقتال محمدٍ وأصحابه. فكان هذا الذي قال إن أبا سفيان طلب الرهن. قال ابن واقد: وأثبت الأشياء عندنا قول نعيم الأول.
وكان عبد الله بن أبي أوفى يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب! اللهم اهزمهم! فحدثني كثير بن زيد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب في مسجد الأحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء. قال: فعرفنا السرور في وجهه. قال جابر: فما نزل بي أمرٌ غائظٌ مهمٌّ إلا تحينت تلك الساعة من ذلك اليوم، فأدعو الله فأعرف الإجابة.
وكان ابن أبي ذئب يحدث، عن رجلٍ من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبل الذي عليه المسجد، فدعا في إزارٍ ورفع يديه مداً، ثم جاءه مرةً أخرى فصلى ودعا.
وكان عبد الله بن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخريق القابل الصاب على أرض بني النضير، وهو اليوم موضع المسجد الذي بأسفل الجبل. ويقال إنه صلى في تلك المساجد كلها التي حول المسجد الذي فوق الجبل. قال ابن واقد: وهذا أثبت الأحاديث.

وقالوا: لما كان ليلة السبت بعث الله الريح فقلعت وتركت وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى أن ذهب ثلث الليل، وكذلك فعل ليلة قتل ابن الأشرف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه الأمر أكثر الصلاة. قالوا: وكان حصار الخندق في قرٍ شديدٍ وجوع، فكان حذيفة بن اليمان يقول: لقد رأيتنا في الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ شديدة البرد، قد اجتمع علينا البرد والجوع والخوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجلٌ ينظر لنا ما فعل القوم جعله الله رفيقي في الجنة. فقال حذيفة: يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة والرجوع، فما قام منا رجلٌ! ثم عاد يقول ذلك ثلاث مرات، وما قام رجلٌ واحدٌ من شدة الجوع والقر والخوف. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لا يقوم أحد، دعاني فقال: يا حذيفة! قال: فلم أجد بداً من القيام حين فوه باسمي، فجئته ولقلبي وجبان في صدري، فقال: تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم؟ فقلت: لا، والذي بعثك بالحق، إن قدرت على ما بي من الجوع والبرد. فقال: اذهب فانظر ما فعل القوم، ولا ترمين بسهمٍ ولا بحجر، ولا تطعن برمح، ولا تضربن بسيفٍ حتى ترجع إلي. فقلت: يا رسول الله، ما بي يقتلوني ولكني أخاف أن يمثلوا بي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس عليك بأس! فعرفت أنه لابأس علي مع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول. ثم قال: اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يقولون. فلما ولى حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته! فدخل عسكرهم فإذا هم يصطلون على نيرانهم؛ وإن الريح تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قراراً ولا بناء. فاقبلت فجلست على نارٍ مع قوم، فقام أبو سفيان فقال: احذروا الجواسيس والعيون، ولينظر كل رجلٍ جليسه. قال، فالتفت إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت؟ وهو عن يميني. فقال: عمرو بن العاص. والتفت إلى معاوية بن أبي سفيان فقلت: من أنت؟ فقال: معاوية بن أبي سفيان. ثم قال أبو سفيان: إنكم والله لستم بدار مقام؛ لقد هلك الخف والكراع، وأجدب الجناب، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، وقد لقينا من الريح ما ترون! والله، ما يثبت لنا بناءٌ ولا تطمئن لنا قدر، فارتحلوا فإني مرتحل. وقام أبو سفيان، وجلس على بعيره وهو معقول، ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم، فما أطلق عقاله إلا بعد ما قام. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي: " لا تحدث شيئاً حتى تأتي " ثم شئت، لقتلته. فناداه عكرمة ابن أبي جهل: إنك رأس القوم وقائدهم، تقشع وتترك الناس؟ فاستحيى أبو سفيان فأناخ جمله ونزل عنه، وأخذ بزمامه وهو يقوده، وقال: ارحلوا! قال: فجعل الناس يرتحلون وهو قائمٌ حتى خف العسكر، ثم قال لعمرو ابن العاص: يا أبا عبد الله، لابد لي ولك أن نقيم في جريدةٍ من خيلٍ بإزاء محمدٍ وأصحابه، فإنا لا نأمن أن نطلب حتى ينفذ العسكر. فقال عمرو: أنا أقيم. وقال لخالد بن الوليد: ما ترى يا أبا سليمان؟ فقال: أنا أيضاً أقيم. فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس، وسار العسكر إلا هذه الجريدة على متون الخيل.
قالوا: وذهب حذيفة إلى غطفان فوجدهم قد ارتحلوا، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. وأقامت الخيل حتى كان السحر، ثم مضوا فلحقوا الأثقال والعسكر مع ارتفاع النهار بملل، فغدوا إلى السيالة. وكانت غطفان لما ارتحلت وقف مسعود بن رخيلة في خيلٍ من أصحابه، ووقف الحارث بن عوف في خيلٍ من أصحابه، ووقف فرسان من بني سليم في أصحابهم، ثم تحملوا جميعاً في طريقٍ واحدة، وكرهوا أن يتفرقوا حتى أتوا على المراض ، ثم تفرقت كل قبيلةٍ إلى محالها.
حدثني عبد الله بن جعفر، عن عثمان - يعني ابن محمد الأخنسي - قال: لما انصرف عمرو بن العاص قال: قد علم كل ذي عقلٍ أن محمداً لم يكذب. فقال عكرمة بن أبي جهل: أنت أحق الناس ألا يقول هذا. قال عمرو: لم؟ قال: لأنه نزل على شرف ابيك وقتل سيد قومك. ويقال: الذي تكلم به خالد بن الوليد، ولا ندري، لعلهما قد تكلما بذلك جميعاً. قال خالد بن الوليد: قد علم كل حليمٍ أن محمداً لم يكذب قط. قال أبو سفيان بن حرب: إن أحق الناس ألا يقول هذا أنت. قال: ولم؟ قال: نزل على شرف أبيك، وقتل سيد قومك أبا جهل.

حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: كان محاصرة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق بضعة عشر يوماً. وحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر ابن عبد الله، قال: عشرين يوماً. ويقال خمسة عشر يوماً، وهذا أثبت ذلك عندنا. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أصبح وليس بحضرته أحدٌ من العساكر، قد هربوا وذهبوا. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثبت أنهم انقشعوا إلى بلادهم، ولما أصبحوا أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الانصراف إلى منازلهم، فخرجوا مبادرين مسرورين بذلك. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعلم بنو قريظة رجعتهم إلى منازلهم، فأمر بردهم، وبعث من ينادي في أثرهم، فما رجع رجلٌ واحد. فكان ممن يردهم عبد الله بن عمر، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله: فجعلت أصيح في أثرهم في كل ناحية: إن رسول الله أمركم أن ترجعوا، فما رجع رجلٌ واحدٌ منههم من القر والجوع. فكان يقول: كره رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى سرعتهم، وكره أن يكون لقريشٍ عيون. قال جابر بن عبد الله: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أردهم، فجعلت أصيح بهم فما يرجع أحد، فانطلقت في أثر بني حارثة، فوالله ما أدركتهم حتى دخلوا بيوتهم، ولقد صحت فما يخرج إلي أحدٌ من جهد الجوع والقر، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألقاه في بني حرام منصرفاً، فاخبرته فضحك صلى الله عليه وسلم.
حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبي وجزة، قال: لما ملت قريش المقام، وأجدب الجناب، وضاقوا بالخندق، وكان أبو سفيان على طمعٍ أن يغير على بيضة المدينة، كتب كتاباً فيه: باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود إليك أبداً حتى نستأصلك، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يومٌ كيوم أحد، تبقر فيه النساء. وبعث بالكتاب مع أبي أسامة الجشمي، فلما أتى بالكتاب دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فدخل معه قبته، فقرأ عليه كتاب أبي سفيان. وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب... أما بعد، فقديماً غرك بالله الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمرٌ الله يحول بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى. وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق، فإن رسول الله ألهمني ذلك لما اراد من غيظك به وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يومٌ تدافعني بالراح، وليأتين عليك يومٌ أكسر فيه اللات، والعزى، وإساف، ونائلة، وهبل، حتى أذكرك ذلك. قال أبو عبد الله: فذكرت ذلك لإبراهيم بن جعفر فقال: أخبرني أبي أن في الكتاب ولقد علمت أني لقيت أصحابك بأحياء وأنا في عيرٍ لقريش، فما حصر أصحابك منا شعرةً، ورضوا بمدافعتنا بالراح. ثم أقبلت في عير قريش حتى لقيت قومي، فلم تلقنا، فأوقعت بقومي ولم أشهدها من وقعة. ثم غزوتكم في عقر داركم فقتلت وحرقت - يعني غزوة السويق - ثم غزوتك في جمعنا يوم أحد، فكانت وقعتنا فيكم مثل وقعتكم بنا ببدر، ثم سرنا إليكم في جمعنا ومن تألب إلينا يوم الخندق، فلزمتم الصياصي وخندقتم الخنادق.
باب ما أنزل الله من القرآن في الخندق

حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: وأنزل الله عز وجل في شأن الخندق يذكر نعمته وكفايته عدوهم بعد سوء الظن منهم ومقالة من تكلم بالنفاق، فقال: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها " . قال: وكانت الجنود التي أتت المؤمنين قريشاً وغطفان وأسداً وسليماً، وكانت الجنود التي بعث رسول الله عليهم الريح. وذكر: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا " وكان الذين جاءوههم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوا من أسلف منهم قريش وأسد وغطفان وسليم. " هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً " . " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً " ، قول معتب بن قشير ومن كان معه على مثل رأيه. " وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريقٌ منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورةٌ وما هي بعورةٍ إن يريدون إلا فراراً " ، يقول أوس بن قيظي ومن كان معه من قومه على مثل رأيه. " ولو دخلت عليهم من أقطارها " من نواحيها؛ " ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيراً " ، يعني المنافقين. " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار " إلى قوله تعالى " وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً " كان ثعلبة عاهد الله يوم أحد لا يولي دبراً أدباً بعد أحد. ثم ذكر أهل الإيمان حين أتاهم الأحزاب فحصروهم، وظاهرتهم بنو قريظة في الخندق فاشتد عليهم البلاء، فقالوا لما رأوا ذلك: " هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله " ، وذلك قوله في البقرة: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريبٌ " ، وفي قوله: " رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه " ، يقول قتل أو أبلى؛ " ومنهم من ينتظر " ، أن يقتل أو يبلى؛ " وما بدلوا تبديلاً " ، ما تغيرت نياتهم. " ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً " حدثني إسحاق بن يحيى، عن مجاهد، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد الله فقال: هذا ممن قضى نحبه.
ذكر من قتل من المسلمين يوم الخندقمن بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، رماه حبان بن العرقة فمات، ويقال رماه أبو أسامة الجشمي؛ وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن زعوراء بن جشم بن عبد الأشهر، قتله خالد بن الوليد، رماه بسهم؛ وعبد الله بن سهل الأشهلي، رماه رجلٌ من بني عويف فقتله. ومن بني سلمة: الطفيل بن النعمان. قتله وحشي، وكان وحشي يقول: أكرم الله بحربتي حمزة والطفيل؛ وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي، قتله هبيرة بن ابي وهب المخزومي. ومن بني دينار: كعب بن زيد، وكان قد ارتث يوم بئر معونة فصح حتى قتل في الخندق، قتله ضرار بن الخطاب. فجميع من استشهد من المسلمين ستة نفر.
ذكر من قتل من المشركينوقتل من المشركين: عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ود، قتله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، قتله الزبير بن العوام، ويقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ومن بني عبد الدار: عثمان بن منبه بن عبيد بن السباق، مات بمكة من رميةٍ رميها يوم الخندق؛ وهم ثلاثة نفر.
ذكر ما قيل من الشعر في الخندققال ضرار بن الخطاب: هكذا كان....
باب غزوة بني قريظةسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لسبعٍ بقين من ذي القعدة، فحاصرهم خمسة عشر يوماً، ثم انصرف يوم الخميس لسبعٍ خلون من ذي الحجة سنة خمس. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.

قالوا: لما انصرف المشركون عن الخندق، وخافت بنو قريظة خوفاً شديداً، وقالوا: محمدٌ يزحف إلينا! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بقتالهم حتى جاء جبريل عليه السلام. وكانت امرأة نباش بن قيس قد رأت، والمسلمون في حصار الخندق، قالت: أرى الخندق ليس به أحد، وأرى الناس تحولوا إلينا ونحن في حصوننا قد ذبحنا ذبح الغنم. فذكرت ذلك لزوجها، فخرج زوجها فذكرها للزبير بن باطا، فقال الزبير: ما لها لا نامت عينها، تولي قريشٌ ويحصرنا محمد! والتوراة، ولما بعد الحصار أشد منه! قالوا: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق دخل بيت عائشة رضي الله عنها فغسل رأسه واغتسل، ودعا بالمجمرة ليجمر، وقد صلى الظهر، وأتاه جبريل على بغلةٍ عليها رحالة وعليها قطيفة، على ثناياه النقع، فوقف عند موضع الجنائز فنادى: عذيرك من محارب! قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فقال : ألا أراك وضعت اللأمة ولم تضعها الملائكة بعد؟ لقد طردناهم إلى حمراء الأسد؛ إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزلٌ بهم حصونهم. ويقال جاءه على فرسٍ أبلق. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فدفع إليه لواء، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن في الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألا تصلوا العصر إلا ببني قريظة. ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والمغفر والدرع والبيضة، وأخذ قناةً بيده، وتقلد الترس وركب فرسه، وحف به أصحابه وتلبسوا السلاح وركبوا الخيل، وكانت ستةً وثلاثين فرساً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاد فرسين وركب واحداً، يقال له اللحيف، فكانت ثلاثة أفراس معه. وعليٌّ رضي الله عنه فارس، ومرثد بن أبي مرثد. وفي بني عبد مناف: عثمان بن عفان رضي الله عنه فارس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعكاشة بن محصن فارس، وسالم مولى أبي حذيفة، والزبير بن العوام. ومن بني زهرة: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص. ومن بني تيم: أبو بكر الصديق، وطلحة بن عبيد الله. ومن بني عدي: عمر بن الخطاب. ومن بني عامر بن لؤي: عبد الله بن مخرمة. ومن بني فهر: أبو عبيدة بن الجراح. ومن الأوس: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، ومحمد بن مسلمة، وأبو نائلة، وسعد بن زيد. ومن بني ظفر: قتادة ابن النعمان. ومن بني عمرو بن عوف: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، وثابت بن أقرم، وعبد الله بن سلمة. ومن بني سلمة: الحباب بن المنذر بن الجموح، ومعاذ بن جبل، وقطبة بن عامر بن حديدة. ومن بني مالك بن النجار: عبد الله بن عبد الله بن أبي. وفي بني زريق: رقاد بن لبيد، وفروة بن عمرو، وأبو عياش، ومعاذ بن رفاعة. ومن بني ساعدة: سعد ابن عبادة.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والخيل والرجالة حوله، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفرٍ من بني النجار بالصورين فيهم حارثة بن النعمان، قد صفوا عليهم السلاح، فقال: هل مر بكم أحد؟ قالوا: نعم، دحية الكلبي مر على بغلةٍ عليها رحالةٌ، عليها قطيفةٌ من إستبرق، فأمرنا بلبس السلاح، فأخذنا سلاحنا وصففنا، وقال لنا: هذا رسول الله يطلع عليكم الآن. قال حارثة بن النعمان: فكنا صفين، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل! فكان حارثة بن النعمان يقول: رايت جبريل من الدهر مرتين - يوم الصورين ويوم موضع الجنائز حين رجعنا من حنين. وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فنزل على بئر لنا أسفل حرة بني قريظة، وكان علي رضي الله عنه قد سبق في نفرٍ من المهاجرين والأنصار فيهم أبو قتادة.

فحدثني ابن ابي سبرة، عن أسيد بن أبي أسيد، عن أبي قتادة، قال: انتهينا إليهم فلما رأونا أيقنوا بالشر، وغرز عليٌّ رضي الله عنه الراية عند أصل الحصن، فاستقبلونا في صياصيهم يشتمون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. قال أبو قتادة: وسكتنا وقلنا: السيف بيننا وبينكم! وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه عليٌّ رضي الله عنه رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرني أن ألزم اللواء فلزمته، وكره أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أذاهم وشتمهم. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وتقدمه أسيد بن حضير فقال: يا أعداء الله، لا نبرح حصنكم حتى تموتوا جوعاً. إنما أنتم بمنزلة ثعلبٍ في جحر. قالوا: يا ابن الحضير، نحن مواليكم دون الخزرج! وخاروا ، وقال: لا عهد بيني وبينكم ولا إل . ودنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وترسنا عنه، فقال: يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت، أتشتمونني؟ قال: فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى: ما فعلنا! ويقولون: يا أبا القاسم، ما كنت جهولاً! ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماة من أصحابه.
فحدثني فروة بن زبيد، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد، تقدم فارمهم! فتقدمت حيث تبلغهم نبلي، ومعي نيفٌ على الخمسين، فرميناهم ساعةً وكأن نبلنا مثل جراد، فانجحروا فلم يطلع منهم أحد. وأشفقنا على نبلنا أن يذهب، فجعلنا نرمي بعضها ونمسك البعض. فكان كعب بن عمرو المازني - وكان رامياً - يقول: رميت يومئذٍ بما في كنانتي، حتى أمسكنا عنهم بعد أن ذهبت ساعةٌ من الليل. قال: وقد رمونا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقفٌ على فرسه عليه السلاح، وأصحاب الخيل حوله، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرفنا إلى منزلنا وعسكرنا فبتنا، وكان طعامنا تمراً بعث به سعد بن عبادة، أحمال تمر، فبتنا نأكل منها، ولقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يأكلون من ذلك التمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم الطعام التمر! واجتمع المسلمون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاءً، فمنهم من لم يصل حتى جاء بني قريظة، ومنهم من قد صلى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فما عاب على أحدٍ صلى، ولا على أحد لم يصل حتى بلغ بني قريظة. ثم غدونا عليهم بسحرة، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماة، وعبأ أصحابه فأحاطوا بحصونهم من كل ناحية، فجعل المسلمون يرامونهم بالنبل والحجارة، وجعل المسلمون يعتقبون فيعقب بعضهم بعضاً، فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم يراميهم حتى أيقنوا بالهلكة.
فحدثني الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا يراموننا من حصونهم بالنبل والحجارة أشد الرمي، وكنا نقوم حيث تبلغهم نبلنا

فحدثني الضحاك بن عثمان، عن جعفر بن محمود، قال: قال محمد ابن مسلمة: حصرناهم أشد الحصار، فلقد رأيتنا يوم غدونا عليهم قبل الفجر، فجعلنا ندنو من الحصن ونرميهم من كثب، ولزمنا حصونهم فلم نفارقها حتى أمسينا، وحضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد والصبر. ثم بتنا على حصونهم، ما رجعنا إلى معسكرنا حتى تركوا قتالنا وأمسكوا عنه وقالوا: نكلمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فأنزلوا نباش بن قيس، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً وقال: يا محمد، ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير؛ لك الأموال والحلقة وتحقن دماءنا، ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري، ولنا ما حملت الإبل إلا الحلقة. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فتحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إلا أن تنزلوا على حكمي. فرجع نباش إلى أصحابه بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب ابن أسد: يا معشر بني قريظة، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي الله، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل فهو حيث جعله الله. ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس علينا وعلى قومه، وقومه كانوا أسوأ منا. لا يستبقي محمدٌ رجلاً واحداً إلا من تبعه. أتذكرون ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم فقال: تركت الخمر والخمير والتأمير، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير؟ قالوا: وما ذلك؟ قال: يخرج من هذه القرية نبي، فإن خرج وأنا حيٌّ اتبعته ونصرته، وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه، فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر. قال كعب: فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به، فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونسائنا وأموالنا، فنكون بمنزلة من معه. قالوا: لا نكون تبعاً لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنبوة، ونكون تبعاً لغيرنا؟ فجعل كعب يرد عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا: لا نفارق التوراة ولا ندع ما كنا عليه من أمر موسى. قال: فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج في أيدينا السيوف إلى محمدٍ وأصحابه. فإن قتلنا قتلنا وما وراءنا أمرٌ نهتم به، وإن ظفرنا فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. فتضاحك حيي بن أخطب ثم قال: ما ذنب هؤلاء المساكين؟ وقالت رؤساء اليهود، الزبير بن باطا وذووه: ما في العيش خيرٌ بعد هؤلاء. قال: فواحدةٌ قد بقيت من الرأي لم يبق غيرها، فإن لم تقبلوها فأنتم بنو إستها. قالوا: ما هي؟ قال: الليلة السبت، وبالحري أن يكون محمدٌ وأصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتله، فنخرج فلعلنا أن نصيب منه غرة. قالوا: نفسد سبتنا، وقد عرفت ما أصابنا فيه؟ قال حيي: قد دعوتك إلى هذا وقريشٌ وغطفان حضورٌ فأبيت أن تكسر السبت، فإن أطاعتني اليهود فعلوا. فصاحت اليهود: لا نكسر السبت. قال نباش بن قيس: وكيف نصيب منهم غرة وأنت ترى أن أمرهم كل يوم يشتد. كانوا أول ما يحاصروننا إنما يقاتلون بالنهار ويرجعون الليل، فكان هذا لك قولاً لو بيتناهم. فهم الآن يبيتون الليل ويظلون النهار، فأي غرةٍ نصيب منهم؟ هي ملحمة وبلاء كتب علينا. فاختلفوا وسقط في أيديهم، وندموا على ما صنعوا، ورقوا على النساء والصبيان، وذلك أن النساء والصبيان لما رأوا ضعف أنفسهم هلكوا، فبكى النساء والصبيان، فرقوا عليهم.
فحدثني صالح بن جعفر، عن محمد بن عقبة، عن ثعلبة بن أبي مالك، قال: قال ثعلبة وأسيد ابنا سعية ، واسد بن عبيد عمهم : يا معشر بني قريظة، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأن صفته عندنا، حدثنا بها علماونا وعلماء بني النضير. هذا أولهم - يعني حيي بن أخطب - مع جبير بن الهيبان أصدق الناس عندنا، هو خبرنا بصفته عن موته. قالوا: لا نفارق التوراة! فلما رأى هؤلاء النفر إباءهم، نزلوا في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة، فأسلموا فأمنوا على أنفسهم وأهلهم وأموالهم.

فحدثني الضحاك بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبان، قال عمرو بن سعدى، وهو رجلٌ منهم: يا معشر اليهود، إنكم قد حالفتم محمداً على ما حالفتموه عليه، الا تنصروا عليه أحداً من عدوه، وأن تنصروه ممن دهمه؛ فنضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه، فلم أدخل فيه ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية، فوالله ما أدري يقبلها أم لا. قالوا: نحن لا نقر للعرب بخرجٍ في رقابنا يأخذوننا به، القتل خير من ذلك! قال: فإني بريءٌ منكم. وخرج في تلك الليلة مع بني سعية فمر بحرس النبي صلى الله عليه وسلم وعليهم محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: من هذا؟ فقال: عمرو بن سعدى. فقال محمد: مر! اللهم، لا تحرمني إقالة عثرات الكرام. فخلى سبيله وخرج حتى أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات به حتى أصبح، فلما أصبح غدا فلم يدر أين هو حتى الساعة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذلك رجلٌ نجاه الله بوفائه. ويقال إنه لم يطلع أحدٌ منهم ولم يبادر للقتال، في روايتنا.
حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: مر عمرو بن سعدى على الحرس، فناداه محمد بن مسلمة: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدى. قال محمد: قد عرفناك. ثم قال محمد: اللهم، لا تحرمني إقالة عثرات الكرام.
حدثني الثوري، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، قال: لما كان يوم بني قريظة قال رجلٌ من اليهود: من يبارز؟ فقام إليه الزبير فبارزه. فقالت صفية: واجدي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهما علا صاحبه قتله. فعلاه الزبير فقتله، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه.
قال ابن واقد: ولم يسمع بهذا الحديث في قتالهم وأراه وهل - هذا في خيبر.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: كان أول شيء عتب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي لبابة بن عبد المنذر أنه خاصم يتيماً له في عذق. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذق لأبي لبابة، فصيح اليتيم واشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة: هب لي العذق يا أبا لبابة - لكي يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليتيم. فأبى أبو لبابة أن يهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا لبابة، أعطه اليتيم ولك مثله في الجنة. فأبى أبو لبابة أن يعطيه.
قال الزهري: فحدثني رجلٌ من الأنصار قال: لما أبى أن يعطيه قال ابن الدحداحة - وهو رجلٌ من الأنصار: أرأيت يا سرول الله إن ابتعت هذا العذق فأعطيته هذا اليتيم، ألي مثله في الجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فانطلق ابن الدحداحة حتى لقي أبا لبابة فقال: أبتاع منك عذقك بحديقتي - وكانت له حديقة نخل. قال أبو لبابة: نعم. فابتاع ابن الدحداحة العذق بحديقةٍ من نخل، فأعطاه اليتيم. فلم يلبث ابن الدحداحة أن جاء كفار قريش إلى أحد، فخرج ابن الدحداحة فقتل شهيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب عذقٍ مذللٍ لابن الدحداحة في الجنة.
قالوا: فلما اشتد عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر.

فحدثني ربيعة بن الحارث، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن السائب بن أبي لبابة بن عبد المنذر، عن أبيه، قال: لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يرسلني إليهم، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بني الأوس. قال: فدخلت عليهم وقد اشتد عليهم الحصار، فبهشوا إلي وقالوا: يا أبا لبابة، نحن مواليك دون الناس كلهم. فقام كعب بن أسد فقال: أبا بشير، قد علمت ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يوم الحدائق وبعاث، وكل حربٍ كنتم فيها. وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمدً يأبى يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه. فلو زال عنا لحقنا بأرض الشام أو خيبر، ولم نطأ له حرا أبداً، ولم نكثر عليه جمعاً أبداً. قال أبو لبابة: أما ما كان هذا معكم، فلا يدع هلاككم - وأشرت إلى حيي بن أخطب. قال كعب: هو والله أوردني ثم لم يصدرني. فقال حيي: فما أصنع؟ كنت أطمع في أمره، فلما أخطأني آسيتك بنفسي، يصيبني ما أصابك. قال كعب: وما حاجتي إلى أن أقتل أنا وأنت وتسبى ذرارينا؟ قال حيي: ملحمةٌ وبلاءٌ كتب علينا. ثم قال كعب: ما ترى، فإنا قد اخترناك على غيرك؟ إن محمداً قد أبى إلا أن ننزل على حكمه، أفننزل ؟ قال: نعم، فانزلوا - وأومأ إلى حلقه، هو الذبح. قال: فندمت فاسترجعت، فقال لي كعب: ما لك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنت الله ورسوله. فنزلت وإن لحيتي لمبتلةٌ من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم. حتى أخذت من وراء الحصن طريقاً آخر حتى جئت إلى المسجد فارتبطت، فكان ارتباطي إلى الأسطوانة المخلقة التي تقال أسطوانة التوبة - ويقال ليس تلك، إنما ارتبط إلى أسطوانةٍ كانت وجاه المنبر عند باب أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أثبت القولين - وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهابي وما صنعت فقال: دعوه حتى يحدث الله فيه ما يشاء. لو جاءني استغفرت له؛ فإما إذ لم يأتني وذهب فدعوه! قال أبو لبابة: فكنت في أمرٍ عظيمٍ خمس عشرة ليلة. وأذكر رؤيا رأيتها.
فحدثني موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد: قال، قال أبو لبابة: رأيت في النوم ونحن محاصرو بني قريظة كأني في حمأةٍ آسنة، فلم أخرج منها حتى كدت أموت من ريحها. ثم أرى نهراً جارياً، فأراني اغتسلت منه حتى استنقيت، وأراني أجد ريحاً طيبة. فاستعبرها أبا بكر فقال: لتدخلن في أمرٍ تغتم له، ثم يفرج عنك. فكنت أذكر قول أبي بكر رضي الله عنه وأنا مرتبط، فأرجو أن تنزل توبتي.
فحدثني معمر، عن الزهري، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل أبا لبابة سبعاً بين يومٍ وليلةٍ عند الأسطوانة التي عند باب أم سلمة في حرٍّ شديد، لا يأكل فيهن ولا يشرب، وقال: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله علي. قال: فلم يزل كذلك حتى ما يسمع الصوت من الجهد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه بكرةً وعشيةً، ثم تاب الله تعالى عليه فنودي: إن الله قد تاب عليك! وارسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه ليطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه عنه أحدٌ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فأطلقه.
قال الزهري: فحدثتني هند بنت الحارث، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل عنه رباطه، وإن رسول الله ليرفع صوته يكلمه ويخبره بتوبته، وما يدري كثيراً مما يقول من الجهد والضعف. ويقال مكث خمس عشرة مربوطاً، وكانت ابنته تأتيه بتمراتٍ لفطره، فيلوك منهن ويترك ويقول: والله، ما أقدر على أن أسيغها فرقاً ألا تنزل توبتي. وتطلقه عند وقت كل صلاة، فإن كانت له حاجةٌ توضأ، وإلا أعادت الرباط. ولقد كان الرباط حز في ذراعيه، وكان من شعر، وكان يداويه بعد ذلك دهراً، وكان ذلك يبين في ذراعيه بعد مابرىء. وقد سمعنا في توبته وجهاً آخر.

حدثنا عبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، عن محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: إن توبة أبي لبابة نزلت في بيتي. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك في السحر فقلت: مم تضحك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة. قالت، قلت: أوذنه بذلك يا رسول الله؟ قال: ما شئت. قالت: فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، فقلت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال أبو لبابة: لا، حتى يأتي رسول الله فيكون هو الذي يطلق عني. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح أطلقه. ونزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم.. " الآية. ويقال نزلت: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " . وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: نزلت فيه: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم " . الآية. وأثبت ذلك عندنا قوله عز وجل: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً " .
وحدثني معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، قال: جاء أبو لبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أهجر دار قومي التي أصبت فيها هذا الذنب، فأخرج من مالي صدقةً إلى الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يجزىء عنك الثلث. فأخرج الثلث، وهجر أبو لبابة دار قومه. ثم تاب الله عليه، فلم يبن في الإسلام منه إلا خيرٌ حتى فارق الدنيا.
قالوا: ولما جهدهم الحصار ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رسول الله بأسراهم فكتفوا رباطاً، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة، ونحوا ناحيةً، وأخرجوا النساء والذرية من الحصون فكانوا ناحيةً واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة، قال: وجد فيها ألف وخمسمائة سيف، وثلثمائة درع، وألفا رمح، وألف وخمسمائة ترس وحجفة . وأخرجوا أثاثاً كثيراً، وآنيةً كثيرة، ووجدوا خمراً وجرار سكرٍن فهريق ذلك كله ولم يخمس. ووجدوا من الجمال النواضح عدة، ومن الماشية، فجمع هذا كله.
حدثني عمر بن محمد، عن أبي سعيد، عن جابر بن عبد الله قال: أنا كنت ممن كسر جرار السكر يومئذٍ.
حدثني خارجة بن عبد الله، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن محمد بن مسلمة، قال: وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، ودنت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، حلفاؤنا دون الخزرج، وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس حلفاء ابن أبي، وهبت له ثلثمائة حاسرٍ وأربعمائة دارع. وقد ندم حلفاؤنا على ما كان من نقضهم العهد، فهبهم لنا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، لا يتكلم حتى أكثروا عليه وألحوا ونطقت الأوس كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجلٍ منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ. وسعد يومئذٍ في المسجد في خيمة كعيبة بنت سعد بن عتبة، وكانت تداوي الجرحى، وتلم الشعث، وتقوم على الضائع والذي لا أحد له. وكان لها خيمة في المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سعداً فيها. فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم إلى سعد بن معاذ خرجت الأوس حتى جاءوه، فحملوه على حمارٍ بشندةٍ من ليفٍ، وعلى الحمار قطيفةٌ فوق الشندة وخطامه حبلٌ من ليفٍ. فخرجوا حوله يقولون: يا أبا عمرو، إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم فأحسن، فقد رأيت ابن أبي وما صنع في حلفائه. والضحاك بن خليفة يقول: يا أبا عمرو، مواليك، مواليك! قد منعوك في المواطن كلها، واختاروك على من سواك ورجوا عياذك ، ولهم جمالٌ وعدد. وقال سلمة بن سلامة بن وقش: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك وحلفائك؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب البقية! نصروك يوم البعاث والحدائق والمواطن، ولا تكن شراً من ابن أبي.

قال إبراهيم بن جعفر، عن أبيه: وجعل قائلهم يقول: يا أبا عمرو، وإنا والله قاتلنا بهم فقتلنا، وعاززنا بهم فعززنا! قالوا: وسعد لا يتكلم، حتى إذا أكثروا عليه قال سعد: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فقال الضحاك بن خليفة: واقوماه! ثم رجع الضحاك إلى الأوس فنعى لهم بني قريظة. وقال معتب بن قشير: واسوء صباحاه! وقال حاطب بن أمية الظفري: ذهب قومي آخر الدهر. وأقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس، فلما طلع سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم. فكان رجالٌ من بني عبد الأشهل يقولون: فقمنا له على أرجلنا صفين، يحييه كل رجلٍ منا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقائل يقول: إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله قوموا إلى سيدكم يعني به الأنصار دون قريش. قالت الأوس الذين بقوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: يا أبا عمرو، إن رسول الله قد ولاك الحكم، فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك. فقال سعد بن معاذ: أترضون بحكمي لبني قريظة؟ قالوا: نعم، قد رضينا بحكمك وأنت غائبٌ عنا، اختياراً منا لك ورجاء أن تمن علينا كما فعله غيرك في حلفائه من قينقاع، وأثرنا عندك أثرنا، وأحوج ما كنا اليوم إلى مجازاتك. فقال سعد: لا آلوكم جهداً. فقالوا: ما يعني بقوله هذا؟ ثم قال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت؟ قالوا: نعم. فقال سعد للناحية الأخرى التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنها إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلى من هاهنا مثل ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه: نعم. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله عز وجل من فوق سبعة أرقعة . وكان سعد بن معاذ في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا فقال: اللهم، إن كنت أبقيت من حرب قريشٍ شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتل من قومٍ كذبوا رسول الله، وآذوه وأخرجوه! وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها عنا وعنهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتنى حتى تقر عيني من بني قريظة! فأقر الله عينه منهم. فأمر بالسبي فسيقوا إلى دار أسامة بن زيد، والنساء والذرية إلى دار ابنة الحارث . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحمال التمر فنثرت عليهم، فباتوا يكدمونها كدم الحمر، وجعلوا ليلتهم يدرسون التوراة، وأمر بعضهم بعضاً بالثبات على دينه ولزوم التوراة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح والأثاث والمتاع والثياب، فحمل إلى دار بنت الحارث؛ وأمر بالإبل والغنم، فتركت هناك ترعى في الشجر. قالوا: ثم غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق، فأمر بخدودٍ فخدت في السوق ما بين موضع دار أبي جهم العدوي إلى أحجار الزيت بالسوق، فكان أصحابه يحفرون هناك، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علية أصحابه، ودعا برجال بني قريظة، فكانوا يخرجون رسلاً رسلاً، تضرب أعناقهم. فقالوا لكعب بن أسد: ما ترى محمداً يصنع بنا؟ قال: مايسوؤكم وما ينوؤكم، ويلكم! على كل حال لا تعقلون! ألا ترون أن الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله السيف، قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم! قالوا: ليس هذا بحين عتاب، لولا أنا كرهنا أن نزرى برأيك ما دخلنا في نقض العهد الذي كان بيننا وبين محمد. قال حيي: اتركوا ما ترون من التلاوم فإنه لا يرد عنكم شيئاً، واصبروا للسيف. فلم يزالوا يقتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذين يلون قتلهم علي والزبير. ثم أتي بحيي بن أخطب مجموعةً يداه إلى عنقه، عليه حلةٌ شقحية قد لبسها للقتل، ثم عمد إليها فشقها أنملةً لئلا يسلبه إياها أحد، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلع: ألم يمكن الله منك يا عدو الله؟ قال: بلى والله، ما لمت نفسي في عداوتك، ولقد التمست العز في مكانه ، وأبى الله إلا أن يمكنك مني، ولقد قلقلت كل مقلقل ، ولكنه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، لابأس بأمر الله! قدرٌ وكتابٌ، ملحمةٌ كتبت على بني إسرائيل! ثم أمر به فضرب عنقه، ثم أتي بغزال بن

سموأل فقال: ألم يمكن الله إلا بمعولٍ في وسطه. قال: فأضع يدي على المعول فأنتزعه، وشغل بكلام رجل من فوق الحصن، فانتزعته فوجأت به كبده فاسترخى وصاح: السبع! فأوقدت اليهود النار على آطامها بشعل السعف. ووقع ميتاً وانكشف، فكنت لا أدرك، وأقبل من طريقي التي جئت منها. وجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظفرت يا خوات! ثم خرج فأخبر أصحابه فقال: كان من أمر خوات كذا وكذا. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في أصحابه وهم يتحدثون، فلما رآني قال: أفلح وجهك! قلت: ووجهك يا رسول الله! قال: أخبرني خكان يوماً صائفاً. فقيلوهم وأسقوهم وأطعموهم، فلما أبردوا راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل من بقي، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلمى بنت قيس، وكانت إحدى خالاته، وكانت قد صلت القبلتين وبايعته، وكان رفاعة بن سموأل له انقطاع إليها وإلى أخيها سليط بن قيس وأهل الدار، وكان حين حبس أرسل إليها أن كلمي محمداً في تركي، فإن لي بكم حرمةً، وأنت إحدى أمهاته، فتكون لكم عندي يداً إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم المنذر؟ قالت: يا رسول الله، رفاعة بن سموأل كان يغشانا وله بنا حرمةٌ فهبه لي. وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوذ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، هو لك. ثم قالت: يا رسول الله، إنه سيصلي ويأكل لحم الجمل. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن يصل فهو خيرٌ له، وإن يثبت على دينه فهو شرٌّ له. قالت: فأسلم، فكان يقال له مولى أم المنذر، فشق ذلك عليه واجتنب الدار، حتى بلغ أم المنذر ذلك فأرسلت إليه: إني والله ما أنا لك بمولاة، ولكني كلمت رسول الله فوهبك لي، فحقنت دمك وأنت على نسبك. فكان بعد يغشاها، وعاد إلى الدار. فقال: ألم يمكن الله إلا بمعولٍ في وسطه. قال: فأضع يدي على المعول فأنتزعه، وشغل بكلام رجل من فوق الحصن، فانتزعته فوجأت به كبده فاسترخى وصاح: السبع! فأوقدت اليهود النار على آطامها بشعل السعف. ووقع ميتاً وانكشف، فكنت لا أدرك، وأقبل من طريقي التي جئت منها. وجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظفرت يا خوات! ثم خرج فأخبر أصحابه فقال: كان من أمر خوات كذا وكذا. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في أصحابه وهم يتحدثون، فلما رآني قال: أفلح وجهك! قلت: ووجهك يا رسول الله! قال: أخبرني خكان يوماً صائفاً. فقيلوهم وأسقوهم وأطعموهم، فلما أبردوا راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل من بقي، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلمى بنت قيس، وكانت إحدى خالاته، وكانت قد صلت القبلتين وبايعته، وكان رفاعة بن سموأل له انقطاع إليها وإلى أخيها سليط بن قيس وأهل الدار، وكان حين حبس أرسل إليها أن كلمي محمداً في تركي، فإن لي بكم حرمةً، وأنت إحدى أمهاته، فتكون لكم عندي يداً إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم المنذر؟ قالت: يا رسول الله، رفاعة بن سموأل كان يغشانا وله بنا حرمةٌ فهبه لي. وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوذ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، هو لك. ثم قالت: يا رسول الله، إنه سيصلي ويأكل لحم الجمل. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن يصل فهو خيرٌ له، وإن يثبت على دينه فهو شرٌّ له. قالت: فأسلم، فكان يقال له مولى أم المنذر، فشق ذلك عليه واجتنب الدار، حتى بلغ أم المنذر ذلك فأرسلت إليه: إني والله ما أنا لك بمولاة، ولكني كلمت رسول الله فوهبك لي، فحقنت دمك وأنت على نسبك. فكان بعد يغشاها، وعاد إلى الدار.

وجاء سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر فقالا: يا رسول الله، إن الأوس كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، ما كرهه من الأوس من فيه خير، فمن كرهه من الأوس لا أرضاه الله! فقام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، لا تبقين داراً من دور الأوس إلا فرقتهم فيها، فمن سخط ذلك فلا يرغم الله إلا أنفه، فابعث إلى داري أول دورهم. فبعث إلى بني عبد الأشهل باثنين، فضر أسيد بن حضير رقبة أحدهما، وضرب أبو نائلة الآخر. وبعث إلى بني حارثة باثنين، فضرب أبو بردة بن النيار رقبة أحدهما، وذفف عليه محيصة، وضرب الآخر أبو عبس بن جبر، ذفف عليه ظهير بن رافع. وبعث إلى بني ظفر بأسيرين.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قتل أحدهما قتادة بن النعمان، وقتل الآخر نضر بن الحارث. قال عاصم: وحدثني أيوب بن بشير المعاوي قال: أرسل إلينا - بني معاوية - بأسيرين، فقتل أحدهما جبر بن عتيك، وقتل الآخر نعمان بن عصر؛ حليفٌ لهم من بلى. قالوا: وأرسل إلى بني عمرو بن عوف بأسيرين، عقبة بن زيد وأخيه وهب بن زيد، فقتل أحدهما عويم بن ساعدة، والآخر سالم بن عمير. وأرسل إلى بني أمية بن زيد. وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكعب ابن أسد مجموعةً يداه إلى عنقه، وكان حسن الوجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كعب بن أسد؟ قال كعب: نعم يا أبا القاسم. قال: وما انتفعتم بنصح ابن خراش وكان مصدقاً بي، أما أمركم باتباعي وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟ قال: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني اليهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين اليهود. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدمه فاضرب عنقه. فقدمه فضرب عنقه.
فحدثني عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو ابن سعد بن معاذ، قال: لما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيي بن أخطب، ونباش بن قيس، وغزال بن سموأل، وكعب بن أسد وقام، قال لسعد بن معاذ: عليك بمن بقي. فكان سعد يخرجهم رسلاً رسلاً يقتلهم.
قالوا: وكانت امرأةٌ من بني النضير يقال لها نباتة، وكانت تحت رجلٍ من بني قريظة فكان يحبها وتحبه، فلما اشتد عليهم الحصار بكت إليه وقالت: إنك لمفارقي. فقال: هو والتوارة ما ترين، وأنت امرأةٌ فدلي عليهم هذه الرحى، فإنا لم نقتل منهم أحداً بعد، وأنت امرأةٌ، وإن يظهر محمدٌ علينا لا يقتل النساء. وإنما كان يكره أن تسبى، فأحب أن تقتل بجرمها. وكانت في حصن الزبير بن باطا، فدلت رحى فوق الحصن، وكان المسلمون ربما جلسوا تحت الحصن يستظلون في فينه، فأطلعت الرحى، فلما رآها القوم انفضوا، وتدرك خلاد بن سويد فتشدخ رأسه، فحذر المسلمون أصل الحصن. فلما كان اليوم الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتلوا، دخلت على عائشة فجعلت تضحك ظهراً لبطنٍ وهي تقول: سراة بني قريظة يقتلون! إذ سمعت صوت قائل يقول: يا نباتة. قالت: أنا والله التي أدعى. قالت عائشة: ولم؟ قالت: قتلني زوجي - وكانت جاريةً حلوة الكلام. فقالت عائشة: وكيف قتلك زوجك؟ قالت: كنت في حصن الزبير بن باطا، فأمرني فدليت رحىً على أصحاب محمد فشدخت رأس رجلٍ منهم فمات وأنا أقتل به. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فقتلت بخلاد بن سويد. قالت عائشة: لاأنسى طيب نفس نباتة وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل. فكانت عائشة تقول: قتلت بنو قريظة يومهم حتى قتلوا بالليل على شعل السعف.
حدثني إبراهيم بن ثمامة، عن المسور بن رفاعة عن محمد بن كعب القرظي، قال: قتلوا إلى أن غاب الشفق، ثم رد عليهم التراب في الخندق. وكان من شك فيه منهم أن يكون بلغ نظر إلى مؤتزره، إن كان أنبت قتل، وإن كان لم ينبت طرح في السبي.
فحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: كانوا ستمائة إلا عمرو بن السعدى وجدت رمته ونحا. قال ابن واقد: خروجه من الحصن أثبت.
وحدثني موسى بن عبيدة ، عن محمد بن المنكدر، قال: كانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة. وكان ابن عباس رحمه الله يقول: كانوا سبعمائة وخمسين.

قالوا: وكان نساء بني قريظة حين تحولوا في دار رملة بنت الحارث وفي دار أسامة يقلن: عسى محمدٌ أن يمن على رجالنا أو يقبل منهم فدية. فلما أصبحن وعلمن بقتل رجالهن صحن وشققن الجيوب، ونشرن الشعور، وضربن الخدود على رجالهن، فملأن المدينة. قال، يقول الزبير بن باطا: اسكتن؛ فأنتن أول من سبي من نساء بني إسرائيل منذ كانت الدنيا؟ ولا يرفع السبي عنهم حتى نلتقي نحن وأنتن ، وإن كان في رجالكن خيرٌ فدوكن ، فالزمن دين اليهود فعليه نموت وعليه نحيى.
فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن يحيى بن حبان، وحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، وكلٌّ قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، قالا: كان الزبير بن باطا من على ثابت بن قيس يوم بعاث، فأتى ثابت الزبير فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال ثابت: إن لك عندي يداً، وقد أردت أن أجزيك بها. قال الزبير: إن الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليه اليوم. فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه كان للزبير عندي يد، جز ناصيتي يوم بعاث فقال: اذكر هذه النعمة عندك. وقد أحببت أن أجزيه بها فهبه لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو لك. فأتها فقال: إن رسول الله قد وهبك لي. قال الزبير: شيخٌ كبير، لا أهل ولا ولد ولا مال بيثرب، ما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطني ولده. فأعطاه ولده فقال: يا رسول الله، أعطني ماله وأهله. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وولده وأهله، فرجع إلى الزبير فقال: إن رسول الله قد أعطاني ولدك وأهلك ومالك. فقال الزبير: يا ثابت، أما أنت فقد كافأتني وقضيت بالذي عليك. يا ثابت، ما فعل الذي كأن وجهه مرآةٌ صينيةٌ تتراءى عذارى الحي في وجهه - كعب بن أسد؟ قال: قتل. قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي؛ سيد الحيين كليهما، يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل - حيي بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل أول غادية اليهود إذا حملوا، وحاميتهم إذا ولوا - غزال بن سموأل؟ قال: قتل. قال: فما فعل الحول القلب الذي لايؤم جماعةً إلا فضها ولا عقدةً إلا حلها - نباش بن قيس؟ قال: قتل. قال: فما فعل لواء اليهود في الزحف - وهب بن زيد؟ قال: قتل. قال: فما فعل والي رفادة اليهود وأبو الأيتام والأرامل من اليهود - عقبة بن زيد؟ قال: قتل. قال: فما فعل العمران اللذان كانا يلتقيان بدراسة التوراة؟ قال: قتلا. قال: يا ثابت، فما خيرٌ في العيش بعد هؤلاء! أأرجع إلى دار كانوا فيها حلولاً فأخلد فيها بعدهم؟ لا حاجة لي في ذلك، فإني أسألك بيدي عندك إلا قدمتني إلى هذا القتال الذي يقتل سراة بني قريظة ثم يقدمني إلى مصارع قومي، وخذ سيفي فإنه صارم فاضربني به ضربةً وأجهز، وارفع يدك عن الطعام، وألصق بالرأس واخفض عن الدماغ، فإنه أحسن الجسد أن يبقى فيه العنق. يا ثابت، لا أصبر إفراغ دلوٍ من نضح حتى ألقى الأحبة. قال أبو بكر، وهو يسمع قوله: ويحك يا ابن باطا، إنه ليس إفراغ دلو، ولكنه عذابٌ أبدي. قال: يا ثابت، قدمني فاقتلني! قال ثابت: ما كنت لأقتلك. قال الزبير: ما كنت أبالي من قتلني! ولكن يا ثابت، انظر إلى امرأتي وولدي فإنهم جزعوا من الموت، فاطلب إلى صاحبك أن يطلقهم وأن يرد إليهم أموالهم. وأدناه إلى الزبير بن العوام، فقدمه فضرب عنقه. وطلب ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله وماله وولده، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما كان من ذلك على ولده، وترك امرأته من السبا، ورد عليهم الأموال من النخل والإبل والرثة إلا الحلقة، فإنه لم يردها عليهم. فكانوا مع آل ثابت بن قيس بن شماس.

قالوا: وكانت ريحانة بنت زيدٍ من بني النضير متزوجةً في بني قريظة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذها لنفسه صفياً، وكانت جميلة، فعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلم، فأبت إلا اليهودية. فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد في نفسه، فأرسل إلى ابن سعية فذكر له ذلك، فقال ابن سعية: فداك أبي وأمي، هي تسلم! فخرج حتى جاءها، فجعل يقول لها: لا تتبعي قومك، فقد رأيت ما أدخل عليهم حيي بن أخطب، فأسلمي يصطفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال: إن هاتين لنعلا ابن سعية يبشرني بإسلام ريحانة. فجاءه فقال: يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة! فسر بذلك.
فحدثني عبد الملك بن سليمان، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أيوب بن بشير المعاوي، قال: أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر، وكانت عندها حتى حاضت حيضةً، ثم طهرت من حيضها، فجاءت أم المنذر فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أم المنذر، فقال لها رسول الله: إن أحببت أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك بالملك فعلت. فقالت: يا رسول الله، إنه أخف عليك وعلي أن أكون في ملكك. فكانت في ملك النبي صلى الله عليه وسلم يطؤها حتى ماتت عنده.
فحدثني ابن أبي ذئب قال: سألت الزهري عن ريحانة فقال: كانت أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها، وكانت تحتجب في أهلها وتقول: لا يراني أحدٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا أثبت الحديثين عندنا. وكان زوج ريحانة قبل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم.
ذكر قسم المغنم وبيعهقالوا: لما اجتمعت المغانم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتاع فبيع فيمن يريد، وبيع السبي فيمن يريد، وقسمت النخل. فكان بنو عبد الأشهل، وظفر، وحارثة، وبنو معاوية، وهؤلاء النبيت ، لهم سهم. وكان بنو عمرو بن عوف ومن بقي من الأوس سهماً. وكانت سلمة، وزريق، وبلحارث بن الخزرج، سهماً. وكانت الخيل ستةً وثلاثين فرساً؛ فكانت أول ما أعلمت سهمان الخيل يوم المريسيع، ثم في بني قريظة أيضاً عمل فيها ما عمل في المريسيع. أسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهمٌ، وللراجل سهمٌ. وأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاد بن سويد، قتل تحت الحصن، وأسهم لأبي سنان بن محصن، مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرهم، وكان يقاتل مع المسلمين. وكان المسلمون ثلاثة آلاف، والخيل ستةً وثلاثين فرساً، فكانت السهمان على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهماً، للفرس سهمان ولصاحبه سهم.
وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: كانت الخيل في بني قريظة ستاً وثلاثين فرساً، وقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس، فلم يضرب إلا سهماً واحداً، وكانت السهمان ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهماً، وأسهم يومئذٍ على الأموال، فجزئت خمسة أجزاء، وكتب في سهم منها " لله " ، وكانت السهمان يومئذٍ بواء ، فخرجت السهمان، وكذلك الرثة والإبل والغنم والسبي. ثم فض أربعة أسهم على الناس، وأحذى النساء يومئذٍ اللاتي حضرن القتال، وضرب لرجلين - واحد قتل وآخر مات، وأحذى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءً شهدن بني قريظة ولم يسهم لهن - صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسميراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ فحدثني محمد بن عبد الله بن مالك بن محمد بن إبراهيم بن أسلم بن نجرة الساعدي، عن جده، قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيع سبي بني قريظة، فاشترى أبو الشحم اليهودي امرأتين، مع كل واحدة منهما ثلاثة أطفالٍ غلمانٍ، وجوارٍ بخمسين ومائة دينار، وجعل يقول: ألستم على دين اليهود؟ فتقول المرأتان: لا نفارق دين قومنا حتى نموت عليه! وهن يبكين.

فحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن أبيه، قال: لما سبي بنو قريظة - النساء والذرية - باع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف طائفةً، وبعث طائفةً إلى نجد، وبعث طائفةً إلى الشام مع سعد بن عبادة، يبيعهم ويشتري بهم سلاحاً وخيلاً، ويقال باعهم بيعاً من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فاقتسما فسهمه عثمان بمالٍ كثير، وجعل عثمان على كل من جاء من سبيهم شيئاً موفياً ، فكان يوجد عند العجائز المال ولا يوجد عند الشواب، فربح عثمان مالاً كثيراً - وسهم عبد الرحمن - وذلك أن عثمان صار في سهمه العجائز. ويقال: لما قسم جعل الشواب على حدةٍ والعجائز على حدة، ثم خير عبد الرحمن عثمان، فأخذ عثمان العجائز.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: كان السبي ألفاً من النساء والصبيان، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسه قبل بيع المغنم، جزأ السبي خمسة أجزاء؛ فأخذ خمساً، فكان يعتق منه ويهب منه، ويخدم منه من أراد. وكذلك صنع بما أصاب من رثتهم، قسمت قبل أن تباع؛ وكذلك النخل، عزل خمسه. وكل ذلك يسهم عليه صلى الله عليه وسلم خمسة أجزاء، ويكتب في سهمٍ منها " لله " ثم يخرج السهم، فحيث صار سهمه أخذه ولم يتخير. وصار الخمس إلى محمية ابن جزء الزبيدي، وهو الذي قسم المغنم بين المسلمين.
حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم ولا يتخير.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين سبي بني قريظة في القسم والبيع والنساء والذرية.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ: لا يفرق بين الأم وولدها حتى يبلغوا. فقيل: يا رسول الله، وما بلوغهم؟ قال: تحيض الجارية ويحتلم الغلام.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، قال: كان يومئذٍ يفرق بين الأختين إذا بلغتا، وبين الأم وابنتها إذا بلغت، وكانت الأم تباع، وولدها الصغار، من المشركين من العرب، ومن يهود المدينة وتيماء وخيبر يخرجون بهم، فإذا كان الوليد صغيراً ليس معه أم لم يبع من المشركين ولا من اليهود، إلا من المسلمين.
فحدثني عتبة بن جبيرة، عن جعفر بن محمود، قال: قال محمد ابن مسلمة: ابتعت يومئذٍ من السبي ثلاثة، امرأةً معها ابناها، بخمسة وأربعين ديناراً، وكان ذلك حقي وحق فرسي من السبي والأرض والرثة، وغيري كهيئتي. وكان أسهم للفارس ثلاثة أسهم، له سهم ولفرسه سهمان.
وحدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي - وكان يلقب قصياً - عن جعفر بن خارجة قال: قال الزبير بن العوام: شهدت بني قريظة فارساً، فضرب لي سهمٌ، ولفرسي سهم.
وحدثني عبد الملك بن يحيى، عن عيسى بن معمر، قال: كان مع الزبير يومئذٍ فرسان، فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم.
ذكر سعد بن معاذ

قالوا: لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة رجع إلى خيمة كعيبة بنت سعد الأسلمية، وكان رماه حبان بن العرقة - ويقال أبو أسامة الجشمي - فقطع أكحله، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، وانتفخت يده فتركه فسال الدم، فحسمه أخرى فانتفخت يده، فلما رأى ذلك قال: اللهم، رب السموات والأرضين السبع، فإنه لم يكن في الناس قومٌ أحب إلي أن أقاتل من قومٍ كذبوا رسولك، وأخرجوه من قريش! وإني أظن أن قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، وإن كان بقي بيننا وبينهم فأبقني أقاتلهم فيك! وإن كنت قد وضعت الحرب، فافجر هذا الكلم واجعل موتي فيه. فقد أقررت عيني من بني قريظة، لعداوتهم لك ولنبيك ولأوليائك! ففجره الله. وإنه لراقدٌ بين ظهري الليل وما يدرى به. ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، فأتاه وهو يسوق في نفرٍ من أصحابه، فوجدوه قد سجي بملاءةٍ بيضاء، وكان سعد رجلاً أبيض طويلاً، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسه وجعل رأسه في حجره ثم قال: اللهم إن سعداً قد جاهد في سبيلك، وصدق رسولك، وقضى الذي عليه، فاقبض روحه بخير ما تقبض فيه أرواح الخلق. ففتح سعد عينيه حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالته. ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس سعد من حجره ثم قام وانصرف، ولم يمت بعد ورجع إلى منزله، فمكث ساعةً من نهارٍ أو أكثر من ساعةٍ ومات خلافه. ونزل جبريل عليه السلام حين مات سعد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، معتجراً بعمامة من إستبرق، فقال: يا محمد، من هذا الرجل الصالح الذي مات فيكم؟ فتحت له أبواب السماء، واهتز له عرش الرحمن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: عهدي بسعد بن معاذ وهو يموت! ثم خرج فزعاً إلى خيمة كعيبة يجر ثوبه مسرعاً، فوجد سعداً قد مات. وأقبلت رجال بني عبد الأشهل، فاحتملوه إلى منزله. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره، فينقطع لعل أحدهم فلم يعرج عليها، ويسقط رداؤه فلم يلو عليه، وما يعرج أحدٌ على أحد حتى دخلوا على سعد. قال أبو عبد الله: وقد سمعنا أن النبي حضره حين توفي.
وأخبرني معاذ بن محمد، عن عطاء بن أبي مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما انفجرت يد سعد بالدم قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقه، والدم ينفح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته، لا يريد أحدٌ أن يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ازداد منه رسول الله صلى الله عليه وسلم قرباً، حتى قضى.
وحدثني سليمان بن داود، عن الحصين، عن أبيه، عن أبي سفيان، عن سلمة بن خريش، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن على الباب نريد أن ندخل على أثره، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في البيت أحدٌ إلا سعد مسجى. قال: فرأيته من ورائي، وجلس ساعةً ثم خرج فقلت: يا رسول الله، ما رأيت أحداً وقد رأيتك تتخطى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملكٌ من الملائكة أحد جناحيه، فجلست. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هنيئاً لك أبا عمرو! هنيئاً لك أبا عمرو!.
حدثني محمد بن صالح، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سعد تبكي وتقول:
ويل أم سعدٍ سعداً ... جلادةً وحداً
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: مهلاً يا أم سعد، لا تذكري سعداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعها يا عمر، فكل باكيةٍ مكثرةٌ إلا أم سعد، ما قالت من خيرٍ فلم تكذب. وأم سعد؛ كبشة بنت عبيد بن معاوية بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج، وأختها؛ الفارعة بنت عبيد بن معاوية بن عبيد، وهي أم سعد بن زرارة.
قالوا: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسل، فغسله الحارث ابن أوس بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسلمة بن سلامة بن وقش يصب الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر. فغسل بالماء الأولى، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، ثم كفن في ثلاثة أثوابٍ صحارية وأدرج فيها إدراجاً، وأتى بسريرٍ كان عند آل سبط، يحمل عليه الموتى، فوضع على السرير، فرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمله بين عمودي سريره حين رفع من داره إلى أن خرج.

وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي أمام جنازة سعد بن معاذ.
وحدثني سعيد بن أبي زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده. قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه موت سعد بن معاذ، فخرج بالناس، فلما برز إلى البقيع قال: خذوا في جهاز صاحبكم! قال أبو سعيد: وكنت أنا ممن حفر له قبره، وكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا قبره من تراب، حتى انتهينا إلى اللحد. قال ربيح: ولقد أخبرني محمد بن المنكدر، عن محمد بن شرحبيل ابن حسنة، قال: أخذ إنسانٌ قبضةً من قبر سعد بن معاذ فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك.
قالوا: ثم احتمل، فقيل: يا رسول الله، إن كنت لتقطعنا في ذهابك إلى سعد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خشينا أن تسبقنا الملائكة إليه كما سبقتنا إلى غسل حنظلة . وقالوا: يا رسول الله، كان سعد رجلاً جسيماً فلم نر أخف منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت الملائكة تحمله. قالوا: يا رسول الله، إن المنافقين يقولون إنما خف لأنه حكم في بني قريظة. قال: كذبوا، ولكنه خف لحمل الملائكة.
فكان أبو سعيد الخدري يقول: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فرغنا من حفرته، ووضعنا اللبن والماء عند القبر، وحفرنا له عند دار عقيل اليوم، وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره ثم صلى عليه، فلقد رأيت من الناس ما ملأ البقيع.
قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن الحصين، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: لما انتهوا إلى قبره نزل في قبره أربعة نفر: الحارث بن أوس بن معاذ، وأسيد بن حضير، وأبو نائلة، وسلمة بن سلامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقفٌ على قدميه على قبره؛ فلما وضع في لحده تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبح ثلاثاً، فسبح المسلمون ثلاثاً حين ارتج البقيع. ثم كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وكبر أصحابه ثلاثاً حتى ارتج البقيع بتكبيره فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل: يا رسول الله، رأينا لوجهك تغيراً وسبحت ثلاثاً! قال: تضايق على صاحبكم قبره، وضم ضمةً لو نجا منها أحدٌ لنجا منها سعد، فم فرج الله عنه.
حدثني إبراهيم بن الحصين، عن المسور بن رفاعة، قال: جاءت أم سعد - وهي كبشة بنت عبيد - تنظر إلى سعد في اللحد، فردها الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها! فأقبلت حتى نظرت إليه، وهو في اللحد قبل أن يبنى عليه اللبن والتراب، فقالت أحتسبك عند الله! وعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره؛ وجلس ناحيةً، وجعل المسلمون يردون تراب القبر ويسوونه، وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس حتى سوي على قبره ورش على قبره الماء، ثم أقبل فوقف عليه فدعا له، ثم انصرف.
ذكر من قتل من المسلمين في حصار بني قريظة خلاد بن سويد من بلحارث بن الخزرج، دلت عليه نباتة رحىً فشدخت رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: له أجر شهيدين! وقتلها به. ومات أبو سنان بن محصن، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، فهو في مقبرة بني قريظة اليوم.

حدثنا الواقدي قال: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: لما قتلت بنو قريظة، قدم حسيل بن نويرة الأشجعي خيبر، قد سار يومين، ويهود بني النضير - سلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، ويهود خيبر جلوسٌ في ناديهم يتحسبون خبر قريظة، قد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصرهم وهم يتوقعون ما هو كائن، فقالوا: ما وراءك؟ قال: الشر! قتلت مقاتلة قريظة صبراً بالسيف! قال كنانة: ما فعل حيي؟ قال حسيل: حيي قد طاح، ضربت عنقه صبراً. وجعل يخبرهم عن سراتهم - كعب بن أسد، وغزال بن سموأل، ونباش بن قيس - أنه حضرهم قتلوا بين يدي محمد. قال سلام بن مشكم: هذا كله عمل حيي بن أخطب، شأمنا أولاً وخالفنا في الرأي، فأخرجنا من أموالنا وشرفنا وقتل إخواننا. واشد من القتل سباء الذرية؛ لا قامت يهودية بالحجاز أبداً، ليس لليهود عزمٌ ولا رأي. قالوا: وبلغ النساء فصيحن، وشققن الجيوب، وجززن الشعور، وأقمن المآتم، وضوى إليهن نساء العرب. وفزعت اليهود إلى سلام بن مشك فقالوا: فما الرأي أبا عمرو؟ ويقال أبا الحكم. قال: وما تصنعون برأي لا تأخذون منه حرفاً. قال كنانة: ليس هذا بحين عتاب، قد صار الأمر إلى ما ترى. قال: محمد قد فرغ من يهود يثرب، وهو سائرٌ غليكم، فنازل بساحتكم، وصانع بكم ما صنع ببني قريظة. قالوا: فما الرأي؟ قال: نسير إليه بمن معنا من يهود خيبر، فلهم عدد، ونستجلب يهود تيماء، وفدك، ووادي القرى؛ ولا نستعين بأحدٍ من العرب، فقد رأيتم في غزوة الخندق ما صنعت بكم العرب بعد أن شرطتم لهم تمر خيبر نقضوا ذلك وخذلوكم، وطلبوا من محمدٍ بعض تمر الأوس والخزرج، وينصرفون عنه، مع أن نعيم بن مسعود هو الذي كادهم بمحمد، ومعروفهم إليه معروفهم! ثم نسير إليه في عقر داره فنقاتل على وترٍ حديثٍ وقديم. فقالت اليهود: هذا الرأي. فقال كنانة: إني قد خبرت العرب فرأيتهم أشداء عليه، وحصوننا هذه ليست مثل ما هناك، ومحمد لا يسير إلينا أبداً لما يعرف. قال سلام بن مشكم: هذا رجلٌ لا يقاتل حتى يؤخذ برقبته. فكان ذلك والله محمود! وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ
باب شأن سرية عبد الله بن أنيس
إلى سفيان بن خالد بن نبيحقال عبد الله بن أنيس: خرجت من المدينة يوم الإثنين لخمسٍ خلون من المحرم، على رأس أربعةٍ وخمسين شهراً، فغبت اثنتي عشرة ليلة، وقدمت يوم السبت لسبعٍ بقين من المحرم.

قال الواقدي: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن جبير، عن موسى بن جبير، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي، ثم اللحياني، وكان نزل عرنة وما حولها في ناسٍ من قومه وغيرهم، فجمع الجموع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وضوى إليه بشرٌ كثيرٌ من أفناء الناس. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس، فبعثه سريةً وحده إليه ليقتله. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انتسب إلى خزاعة. فقال عبد الله بن أنيس: يا رسول الله ما أعرفه، فصفه لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك إذا رأيته هبته وفرقت منه وذكرت الشيطان. وكنت لا أهاب الرجال، فقلت: يا رسول الله، ما فرقت من شيءٍ قط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، آيةٌ بينك وبينه أن تجد له قشعريرةً إذا رأيته. واستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أقول، فقال: قل ما بدا لك. قال: فأخذت سيفي لم أزد عليه، وخرجت أعتزي إلى خزاعة، فأخذت على الطريق حتى انتهيت إلى قديد، فأجد بها خزاعة كثيراً، فعرضوا علي الحملان والصحابة، فلم أرد ذلك وخرجت حتى أتيت بطن سرف، ثم عدلت حتى خرجت على عرنة، وجعلت أخبر من لقيت أني أريد سفيان بن خالد لأكون معه، حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي، ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه. فلما رأتيه هبته، وعرفته بالنعت الذي نعت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأيتني أقطر فقلت صدق الله ورسوله! وقد دخلت في وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا أمشي أومىء إيماءً براسي، فلما دنوت منه قال: من الرجل؟ فقلت: رجلٌ من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمدٍ فجئتك لأكون معك. قال: أجل، إني لفي الجمع له. فمشيت معه، وحدثته فاستحلى حديثي، وأنشدته شعراً، وقلت: عجباً لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث؛ فارق الآباء وسفه أحلامهم! قال: لم يلق محمدٌ أحداً يشبهني! قال: وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض، حتى انتهى إلى خبائه، وتفرق عنه أصحابه إلى منازل قريبةٍ منه وهم مطيفون به، فقال: هلم يا أخا خزاعة! فدنوت منه فقال لجاريته: احلبي! فحلبت ثم ناولتني، فمصصت ثم دفعته إليه، فعب كما يعب الجمل حتى غاب أنفه في الرغوة ، ثم قال: اجلس. فجلست معه، حتى إذا هدأ الناس وناموا وهدأ، اغتررته فقتلته وأخذت رأسه؛ ثم أقبلت وتركت نساءه يبكين عليه، وكان النجاء مني حتى صعدت في جبل فدخلت غاراً. وأقبل الطلب من الخيل والرجال توزع في كل وجهٍ، وأنا مختفٍ في غار الجبل، وضربت العنكبوت على الغار، وأقبل رجلٌ ومعه إداوةٌ ضخمةٌ ونعلاه في ديه، وكنت حافياً، وكان أهم أمري عندي العطش، كنت أذكر تهامة وحرها، فوضع إداوته ونعله وجلس يبول على باب الغار، ثم قال لأصحابه: ليس في الغار أحد، فانصرفوا راجعين، وخرجت إلى الإداوة فشربت منها وأخذت النعلين فلبستهما، فكنت أسير الليل وأتوارى النهار حتى جئت المدينة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما رآني قال: أفلح الوجه! قلت: أفلح وجهك يا رسول الله! فوضعت رأسه بين يديه، وأخبرته خبري، فدفع إلي عصاً فقال: تخضر بهذه في الجنة، فإن المتخضرين في الجنة قليل. فكانت عند عبد الله بن أنيس حتى إذا حضره الموت أوصى أهله أن يدرجوها في كفنه. وكان قتله في المحرم على رأس أربعة وخمسين شهراً
غزوة القرطاءحدثني خالد بن إلياس، عن جعفر بن محمود، قال: قال محمد مسلمة: خرجت في عشر ليالٍ خلون من المحرم، فغبت تسع عشرة، وقدمت لليلةٍ بقيت من المحرم على رأس خمسة وخمسين شهراً.

حدثني عبد العزيز بن محمد بن أنس الظفري، عن أبيه، وحدثنا عبد العزيز بن سعد، عن جعفر بن محمود، زاد أحدهما على صاحبه في الحديث، قالا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في ثلاثين رجلاً، فيهم عباد بن بشر، وسلمة بن سلامة بن وقش، والحارث ابن خزمة، إلى بني بكر بن كلاب، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار، حتى إذا كان بالشربة لقي ظعناً، فأرسل رجلاً من أصحابه يسأل من هم. فذهب الرسول ثم رجع إليه فقال: قومٌ من محارب. فنزلوا قريباً منه، وحلوا وروحوا ماشيتهم. فأمهلهم حتى إذا ظعنوا أغار عليهم، فقتل نفراً منهم وهرب سائرهم، فلم يطلب من هرب، واستاق نعماً وشاءً ولم يعرض للظعن. ثم انطلق حتى إذا كان بموضعٍ يطلعه على بني بكرٍ بعث عباد ابن بشر إليهم، فأوفى على الحاضر فأقام، فلما روحوا ماشيتهم وحلبوا وعطنوا جاء إل محمد بن مسلمة فأخبره، فخرج محمد بن مسلمة فشن عليهم الغارة، فقتل منهم عشرةً، واستاقوا النعم والشاء ثم انحدروا إلى المدينة، فما أصبح حين أصبح غلا بضرية ، مسيرة ليلة أو ليلتين. ثم حدرنا النعم، وخفنا الطلب، وطردنا الشاء أشد الطرد، فكانت تجري معنا كأنها الخيل، حتى بلغنا العداسة، فأبطأ علينا الشاء بالربذة ، فخلفناه مع نفرٍ من أصحابي يقصدون به، وطرد النعم فقدم به المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم. وكان محمد يقول: خرجت من ضرية، فما ركبت خطوةً حتى وردت بطن نخل ؛ فقدم بالنعم، خمسين ومائة بعير، والشاء وهي ثلاثة آلاف شاة، فلما قدمنا خمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فض على أصحابه ما قبي، فعدلوا الجزور بعشرٍ من الغنم، فأصاب كل رجلٍ منهم.
غزوة بني لحيانحدثني عبد الملك بن وهب أبو الحسن الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لهلال ربيع الأول سنة ستٍّ فبلغ غران وعسفان ، وغاب أربع عشرة ليلة.

حدثني معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، وحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيرهما قد حدثني، وقد زاد أحدهما على صاحبه، قالوا: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه وجداً شديداً، فخرج في مائتي رجل ومعهم عشرون فرساً في أصحابه فنزل بمضرب القبة من ناحية الجرف، فعسكر في أول نهاره وهو يظهر أنه يريد الشام، ثم راح مبرداً فمر على غرابات ، ثم على بين ، حتى خرج على صخيرات الثمام ، فلقي الطريق هناك. ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران حيث كان مصابهم، فترحم عليهم وقال: هنيئاً لكم الشهادة! فسمعت به لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدروا على أحد، ثم خرج حتى أتى عسفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إن قريشاً قد بلغهم مسيري وأني قد وردت عسفان، وهم يهابون أن آتيهم، فاخرج في عشرة فوارس. فخرج أبو بكر فيهم حتى أتوا الغميم، ثم رجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق أحداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا يبلغ قريشاً فيذعرهم، ويخافون أن نكون نريدهم - وخبيب بن عدي يومئذٍ في أيديهم. فبلغ قريشاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغميم، فقالت قريش: ما أتى محمد الغميم إلا يريد أن يخلص خبيباً. وكان خبيب وصاحباه في حديدٍ موثقين، فجعلوا في رقابهم الجوامع، وقالوا: قد بلغ محمد ضجنان وهو داخلٌ علينا! فدخلت ماوية على خبيب فأخبرته الخبر وقالت: هذا صاحبك قد بلغ ضجنان يريدكم. فقال خبيب: وهل؟ قالت: نعم. قال خبيب: يفعل الله ما يشاء! قالت: والله، ما ينتظرون بك إلا أن يخرج الشهر الحرام، ويخرجوك فيقتلوك ويقولون: أترى محمداً غزانا في الشهر الحرام ونحن لا نستحل أن نقتل صاحبه في الشهر الحرام؟ وكان مأسوراً عندهم، وخافوا أن يدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو يقول: آئبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون! اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة على الأهل! اللهم، أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال! اللهم، بلغنا بلاغاً صالحاً يبلغ إلى خير. مغفرةً منك ورضواناً! وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة أربع عشرة ليلةً، وكان استخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وكانت سنة ست في المحرم، وهذا أول ما قال هذا الدعاء، ذكره أصحابنا كلهم.
غزوة الغابةحدثني عبد العزيز بن عقبة بن سلمة بن الأكوع، عن غياس بن سلمة، عن أبيه، قال: أغار عيينة ليلة الأربعاء لثلاثٍ خلون من ربيع الآخر سنة ستٍّ، وغزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه يوم الأربعاء، فغبنا خمس ليالٍ ورجعنا ليلة الاثنين. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم.
حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، وحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، وعلي بن يزيد، وغيرهم، فكلٌّ قد حدثني بطائفة، قالوا: كانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين لقحةً، وكانت من شتى، منها ما أصاب في ذات الرقاع، ومنها ما قدم به محمد بن مسلمة من نجد. وكانت ترعى البيضاء ودون البيضاء، فأجدب ما هناك فقربوها إلى الغابة، تصيب من أثلها وطرفائها وتغدو في الشجر - قال أبو عبد الله: الغادية: تغدو في العضاه، أم غيلان وغيرها؛ والواضعة: الإبل ترعى الحمض؛ والأوارك: التي ترعى الأراك - فكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلةٍ عند المغرب. وكان أبو ذر قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليك من هذه الضاحية أن تغير عليك، ونحن لا نأمن من عيينة ابن حصن وذويه، هي في طرفٍ من أطرافهم فألح عليه أبو ذر فقال: يا رسول الله: ائذن لي. فلما ألح عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأني بك، قد قتل ابنك، وأخذت امرأتك، وجئت تتوكأ على عصاك. فكان أبو ذر يقول: عجباً لي! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لكأني بك " وأنا ألح عليه، فكان والله على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان المقداد بن عمرو يقول: لما كانت ليلة السرح جعلت فرسي سبحة لا تقر ضرباً بأيديها وصهيلاً. فيقول أبو معبد: والله، إن لها شأناً! فننظر آريها فإذا هو مملوءٌ علفاً، فيقول: عطشي! فيعرض الماء عليها فلا تريده، فلما طلع الفجر أسرجها ولبس سلاحه، وخرج حتى صلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئاً، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته، ورجع المقداد إلى بيته، وفرسه لا تقر، فوضع سرجها وسلاحه واضطجع، وجعل إحدى رجليه على الأخرى، فأتاه آتٍ فقال: إن الخيل قد صيح بها. فكان أبو ذر يقول: والله، إنا لفي منزلنا، ولقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قد روحت، وعطنت، وحلبت عتمتها ونمنا، فلما كان في الليل أحدق بنا عيينة في أربعين فارساً، فصاحوا بنا وهم قيامٌ على رءوسنا، فأشرف لهم ابني فقتلوه، وكانت معه امرأته وثلاثة نفرٍ فنجوا، وتنحيت عنهم وشغلهم عني إطلاق عقل اللقاح، ثم صاحوا في أدبارها، فكان آخر العهد بها. وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته وهو يتبسم. فكان سلمة بن الأكوع يقول: غدوت أريد الغابة للقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أبلغه لبنها، حتى ألقى غلاماً لعبد الرحمن بن عوف كان في إبلٍ لعبد الرحمن بن عوف، فأخطأوا مكانها واهتدوا إلى لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرني أن لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أغار عليها عيينة بن حصن في أربعين فارساً، فأخبرني أنهم قد رأوا مدداً بعد ذلك أمد به عيينة. قال سلمة: فأحضرت فرسي راجعاً إلى المدينة حتى وافيت على ثنية الوداع فصرخت بأعلى صوتي: يا صباحاه! ثلاثاً، أسمع من بين لابتيها.
فحدثني موسى بن محمد، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، قال: نادى: الفزع! الفزع! ثلاثاً، ثم وقف واقفاً على فرسه حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد مقنعاً فوقف واقفاً، فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو، عليه الدرع والمغفر شاهراً سيفه، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواءً في رمحه وقال: امض حتى تلحقك الخيول، إنا على أثرك. قال المقداد: فخرجت وأنا أسأل الله الشهادة، حتى أدرك أخريات العدو، وقد أذم بهم فرسٌ لهم فاقتحم فارسه وردف أحد أصحابه؛ فأخذ الفرس المذم فإذا هو ضرع ، أشقر، عتيق، لم يقو على العدو، وقد غدوا عليه من أقصى الغابة فحسر، فأربط في عنقه قطعة وترٍ وأخليه، وقلت: إن مر به أحد فأخذه جئته بعلامتي فيه. فأدرك مسعدة فأطعنه برمحٍ فيه اللواء، فزل الرمح وعطف علي بوجهه فطعنني وآخذ الرمح بعضدي فكسرته، وأعجزني هرباً، وأنصب لوائي فقلت: يراه أصحابي. ويلحقني أبو قتادة معلماً بعمامة صفراء على فرسٍ له، فسايرته ساعةً ونحن ننظر إلى دبر مسعدة، فاستحث فرسه فتقدم على فرسي، فبان سبقه فكان أجود من فرسي حتى غاب عني فلا أراه. ثم ألحقه فإذا هو ينزع بردته، فصحت: ما تصنع؟ قال: خيراً اصنع كما صنعت بالفرس. فإذا هو قد قتل مسعد وسجاه ببردة. ورجعنا فإذا فرس في يد علبة بن زيد الحارثي، فقلت: فرسي هذا وعلامتي فيه! فقال: تعال إلى النبي، فجعله مغنماً.
وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو ليسبق الخيل مثل السبع. قال سلمة: حتى لحقت القوم فجعلت أرميهم بالنبل، وأقول حين أرمي: خذها مني وأنا ابن الأكوع! فتكر علي خيلٌ من خيلهم، فإذا وجهت نحوي انطلقت هارباً فأسبقها، وأعمد إلى المكان المعور فأشرف عليه وأرمي بالنبل إذا أمكنني الرمي وأقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
فما زلت أكافحهم وأقول: قفوا قليلاً، يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار. فيزدادون علي حنقاً فيكرون علي، فأعجزهم هرباً حتى انتهيت بهم إلى ذي قرد . ولحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيول عشاءً، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاشٌ وليس لهم ماءٌ دون أحساء كذا وكذا، فلو بعثتني في مائة رجلٍ استنقذت ما بأيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملكت فأسجح . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم ليقرون في غطفان.
فحدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم، قال: توافت الخيل وهم ثمانية - المقداد، وأبو قتادة، ومعاذ بن معاعص، وسعد بن زيد، وأبو عياش الزرقي، ومحرز بن نضلة، وعكاشة بن محصن، وربيعة بن أكثم.

حدثني موسى بن محمد، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: من المهاجرين ثلاثة: المقداد، ومحرز بن نضلة، وعكاشة بن محصن. ومن الأنصار: سعد بن زيد، وهو أميرهم، وأبو عياش الزرقي فارس جلوة ، وعباد بن بشر، وأسيد بن حضير، وأبو قتادة.
قال أبو عياش: أطلع على فرسٍ لي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أعطيت فرسك من هو أفرس منك فتبع الخيول! فقلت: أنا يا رسول الله أفرس الناس. فركضعته، فما جرى بي خمسين ذراعاً حتى صرعني الفرس. فكان أبو عياش يقول: فعجباً! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لو أعطيت فرسك هذا من هو أفرس منك " وأقول: " أنا أفرس الناس " .
قالوا: وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم، والإبل، والقوم يعتقبون البعير والحمار، حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد؛ فاستنقذوا عشر لقائح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر. وكان محرز بن نضلة حليفاً في عبد الأشهل، فلما نادى الصريخ: الفزع! الفزع! كان فرسٌ لمحمد بن مسلمة يقال له ذو اللمة مربوطاً في الحائط، فلما سمع صاهلة الخيل صهل وجال في الحائط في شطنه، فقال له النساء: هل لك يا محرز في هذا الفرس فإنه كما ترى صنيعٌ جام تركبه فتلحق اللواء؟ وهو يرى راية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مر بها العقاب يحملها سعد. قالوا: فخجر فجزع وقطع وادي قناة فسبق المقداد، فيدرك القوم بهيقاً فاستوقفهم فوقفوا، فطاعنهم ساعةً بالرمح، ويحمل عليه مسعدة فطعنه بالرمح فدقه في صلبه، وتناول رمح محرز، وعار فرسه حتى رجع إلى آريه، فلما رآه النساء وأهل الدار قالوا قد قتل. ويقال: كان محرز على فرسٍ كان لعكاشة بن محصن يدعى الجناح، قاتل عليه. ويقال: الذي قتل محرز بن نضلة أوثار، وأقبل عباد بن بشر فيدرك أوثاراً، فتواقفا فتطاعنا حتى انكسرت رماحهما، ثم صارا إلى السيفين فشد عليه عباد ابن بشر فعانقه، ثم طعنه بخنجرٍ معه فمات.
وحدثني عمر بن أبي عاتكة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: كان أوثار وعمرو بن أوثار على فرسٍ لهما يقال له الفرط رديفين عليه، قتلهما عكاشة بن محصن.
فحدثني زكريا بن زيد، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن أم عامر بنت يزيد بن السكن، قالت: كنت ممن حض محرزاً على اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله إنا لفي أطمنا ننظر إلى رهج الغبار إذ أقبل ذو اللمة، فرس محمد بن مسلمة، حتى انتهى إلى آريه، فقلت: أصيب والله! فحملنا على الفرس رجلاً من الحي فقلنا: أطلع لنا رسول الله هل أصابه إلا خير، ثم ارجع إلينا سريعاً. قال: فخرج محضراً حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهيقا في الناس، ثم رجع فأخبرنا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمدنا الله تعالى على سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان قال، قال محرز بن نضلة: قبل أن يلتقي القوم بيومٍ رأيت السماء فرجت لي، فدخلت السماء الدنيا حتى انتهيت إلى السابعة، وانتهيت إلى سدرة المنتهى، فقيل لي: هذا منزلك. فعرضتها على أبي بكر وكان من أعبر الناس، فقال: أبشر بالشهادة! فقتل بعد ذلك بيوم.

وحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أمه، عن أبيه، قال: قال أبو قتادة: إني لأغسل رأسي، قد غسلت أحد شقيه، إذ سمعت فرسي جروة تصهل وتبحث بحافرها، فقلت: هذه حرب قد حضرت! فقمت ولم أغسل شق رأسي الآخر، فركبت وعلي بردةٌ لي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح: الفزع! الفزع! قال: وأدرك المقداد بن عمرو فسايرته ساعةً، ثم تقدمه فرسي وكانت أجود من فرسه، وقد أخبرني المقداد - وكان سبقني - بقتل مسعدة محرزاً. قال أبو قتادة للمقداد: يا أبا معبد، أنا أموت أو أقتل قاتل محرز. فضرب فرسه فلحقهم أبو قتادة، ووقف له مسعدة، وحمل عليه أبو قتادة بالقناة فدق صلبه ويقول: خذها وأنا الخزرجي! ووقع مسعدة ميتاً، ونزل أبو قتادة فسجاه ببردته، وجنب فرسه معه، وخرج يحضر في أثر القوم حتى تلاحق الناس. قال أبو قتادة: فلما مر الناس ونظروا إلى بردة أبي قتادة عرفوها فقالوا: هذا أبو قتادة قتيل! واسترجع أحدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولكنه قتيل أبي قتادة، وجعل عليه بردته لتعرفوا أنه قتيله. فخلوا بين أبي قتادة وبين قتيله وسلبه وفرسه، فأخذه كله، وكان سعد بن زيد قد أخذ سلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والله! أبو قتادة قتله، ادفعه إليه.
فحدثني عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أبي قتادة، قال: لما أدركني النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ونظر إلي قال: اللهم بارك له في شعره وبشره! وقال: أفلح وجهك! قلت: ووجهك يا رسول الله! قال: قتلت مسعدة؟ قلت: نعم. قال: فما هذا الذي بوجهك؟ قلت: سهمٌ رميت به يا رسول الله. قال: فادن مني! فدنوت مني فبصق عليه، فما ضرب عليه قط ولا قاح. فمات أبو قتادة وهو ابن سبعين سنة، وكأنه ابن خمس عشرة سنة. قال: وأعطاني يومئذٍ فرس مسعدة وسلاحه، وقال: بارك الله لك فيه! حدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، قال: قال سعد بن زيد الأشهلي: لما كان يوم السرح أتانا الصريخ، فأنا في بني عبد الأشهل، فألبس درعي وأخذت سلاحي، وأستوي على فرس لي جامٍّ حصانٍ، يقال له النجل ، فأنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الدرع والمغفر لا أرى إلا عيينة، والخيل تعدو قبل قناة، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا سعد امض، قد استعملتك على الخيل حتى ألحقك إن شاء الله. فقربت فرسي ساعة ثم خليته فمر يحضر، فأمر بفرسٍ حسير، فقلت: ما هذا؟ وأمر بمسعدة قتيل أبي قتادة، وأمر بمحرز قتيلاً فساءني، وألحق المقداد بن عمرو، ومعاذ بن ماعص؛ فأحضرنا ونحن ننظر إلى رهج القوم، وأبو قتادة في أثرهم، وأنظر إلى ابن الأكوع يسبق الخيل أمام القوم يرشقهم بالنبل، فوقفوا وقفةً ونلحق بهم فتناوشنا ساعةً، وأحمل على حبيب بن عيينة بالسيف فأقطع منكبه الأيسر، وخلي العنان، وتتايع فرسه، فيقع لوجهه، واقتحم عليه فقتله، وأخذت فرسه. وكان شعارنا: أمت أمت! وقد سمعنا في قتل حبيب بن عيينة وجهاً آخر.
فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: إن المسلمين لما تلاحقوا هم والعدو وقتل منهم محرز بن نضلة، وخرج أبو قتادة في وجهه، فقتل أبو قتادة مسعدة، وقتل أوثار وعمر بن أوثار، قتلهما عكاشة بن محصن، وإن حبيب بن عيينة كان على فرسٍ له، هو وفرقة ابن مالك بن حذيفة بن بدر، قتلهم المقداد بن عمرو. قالوا: وتلاحق الناس بذي قرد، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف.
فحدثني سفيان بن سعيد، وابن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي جهم، عن عبيد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، وصف طائفةً خلفه، وطائفة مواجهة العدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعةً وسجدتين، ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم، وأقبل الآخرون فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعةً وسجدتين، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكل رجلٍ من الطائفتين ركعة.

حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمارة بن معمر، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد يوماً وليلةً يتحسب الخبر، وقسم في كل مائةٍ من أصحابه جزوراً ينحرونها، وكانوا خمسمائة، ويقال كانوا سبعمائة. قالوا: واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم. وأقام سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة خمس ليالٍ حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأحمال تمر وبعشرة جزائر بذي قرد. وكان في الناس قيس بن سعد على فرس له يقال له الورد، وكان هو الذي قرب الجزر والتمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، بعثك أبوك فارساً، وقوى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو؛ اللهم ارحم سعداً وآل سعد! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم المرء سعد بن عبادة! فتكلمت الخزرج فقالت: يا رسول الله، هو بيتنا وسيدنا وابن سيدنا! كانوا يطعمون في المحل، ويحملون الكل ويقرون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر هم قالوا: يا رسول الله، ألا تسم بئرهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ولكن يشتريها بعضكم فيتصدق بها. فاشتراها طلحة بن عبيد الله فتصدق بها.
حدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: كان أمير الفرسان المقداد حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد.
حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله بن رافع بن خديج، عن المسور ابن رفاعة، عن ثعلبة بن أبي مالك، قال: كان سعيد بن زيد أمير القوم، وقال لحسان بن ثابت: أرأيت حيث جعلت المقداد رأس السرية وأنت تعلم أن رسول الله استعملني على السرية، وإنك لتعلم لقد نادى الصريخ: الفزع! فكان المقداد أول من طلع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امض حتى تلحقك الخيول. فمضى أول، ثم توافينا بعد عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد مضى المقداد أولنا، فاستعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على السرية. فقال حسان: يا ابن عم، والله ما أردت إلا القافية حيث قلت: غداة فوارس المقداد... فحلف سعد بن زيد ألا يكلم حساناً أبداً. والثبت عندنا أن أميرهم سعد بن زيد الأشهلي.
قالوا: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقبلت امرأة أبي ذر على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، وكانت في السرح، فكان فيها جمل أبي جهل، فكان مما تخلصه المسلمون، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته من أخبار الناس، ثم قالت: يا رسول الله، إني نذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها فآكل من كبدها وسنامها. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقةٌ من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله.
حدثني فائد مولى عبد الله، عن عبد الله بن علي، عن جدته سلمى، قالت: نظرت إلى لقوح على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها السمراء، فعرفتها فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذه لقحتك السمراء على بابك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مستبشراً، وإذا رأسها بيد ابن أخي عيينة، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها ثم قال: أيم بك؟ فقال: يا رسول الله، أهديت لك هذه اللقحة. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقبضها منه، ثم أقام يوماً أو يومين، ثم أمر له بثلاث أواقٍ من فضة، فجعل يتسخط. قال، فقلت: يا رسول الله، أتثيبه على ناقةٍ من إبلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم وهو ساخطٌ علي! ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الرجل ليهدي لي الناقة من إبلي أعرفها كما أعرف بعض أهلي، ثم أثيبه عليها فيظل يتسخط علي، ولقد هممت ألا أقبل هديةً إلا من قرشي أو أنصاري - وكان أبو هريرة يقول: أو ثقفي أو دوسي .
ذكر من قتل من المسلمين ومن المشركينمن المسلمين واحد: محرز بن نضلة، قتله مسعدة.

وقتل من المشركين: مسعدة بن حكمة، قتله أبو قتادة؛ وأوثار وابنه عمرو بن أوثار، قتلهما عكاشة بن محصن؛ وحبيب بن عيينة، قتله المقداد. وقال حسان بن ثابت...
سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر
في شهر ربيع الأول سنة ستحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد ربه بن سعدي، قال: سمعت رجلاً من بني أسد بن خزيمة يحدث القاسم بن محمد يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً - منهم ثابت بن أقرم، وشجاع بن وهب، ويزيد بن رقيش. فخرج سريعاً يغذ السير، ونذر القوم فهربوا من مائهم فنزلوا علياء بلادهم، فانتهى إلى الماء فوجد الدار خلوفاً، فبعث الطلائع يطلبون خبراً أو يرون أثراً حديثاً، فرجع إليه شجاع بن وهب فأخبره أنه رأى أثر نعمٍ قريباً، فتحملوا فخرجوا حتى يصيبوا ربيئةً لهم قد نظر ليلته يسمع الصوت، فلما أصبح نام فأخذوه وهو نائم، فقالوا: الخبر عن الناس! قال: وأين الناس؟ قد لحقوا بعلياء بلادهم! قالوا: فالنعم؟ قال: معهم. فضربه أحدهم بسوطٍ في يده. قال: تؤمنني على دمي وأطلعك على نعمٍ لبني عمٍّ لهم، لم يعلموا بمسيركم إليهم؟ قالوا: نعم. فانطلقوا معه، فخرج حتى أمعن، وخافوا أن يكونوا معه في غدر، فقربوه فقالوا: والله، لتصدقنا أو لنضربن عنقك! قال: تطلعون عليهم من هذا الظريب . قال: فأوفوا على الظريب فإذا نعمٌ رواتع، فأغاروا عليه فأصابوه، وهربت الأعراب في كل وجه، ونهى عكاشة عن الطلب، واستاقوا مائتي بعير فحدروها إلى المدينة، وأرسلوا الرجل، وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصب منهم أحدٌ ولم يلقوا كيداً.
سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة
إلى بني ثعلبة وعوال في ربيع الآخرحدثني عبد الله بن الحارث، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في عشرة، فورد عليهم ليلاً، فكمن القوم حتى نام ونام أصحابه، فأحدقوا به وهم مائة رجل، فما شعر القوم إلا بالنبل قد خالطتهم. فوثب محمد بن مسلمة وعليه القوس، فصاح بأصحابه: السلاح! فوثبوا فتراموا ساعةً من الليل، ثم حملت الأعراب بالرماح فقتلوا منهم ثلاثة، ثم انحاز أصحاب محمدٍ إليه فقتلوا من القوم رجلاً، ثم حمل القوم فقتلوا من بقي. ووقع محمد بن مسلمة جريحاً، فضرب كعبه فلا يتحرك، وجردوهم من الثياب وانطلقوا، فمر رجلٌ على القتلى فاسترجع، فلما سمعه محمدٌ تحرك له فإذا هو رجلٌ مسلم، فعرض على محمدٍ طعاماً وشراباً وحمله حتى ورد به المدينة. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلاً إلى مصارعهم فلم يجد أحداً واستاق نعماً ثم رجع. قال أبو عبد الله: فذكرت هذه السرية لإبراهيم بن جعفر ابن محمود بن محمد بن مسلمة فقال: أخبرني أبي أن محمد بن مسلمة خرج في عشرة نفر: أبو نائلة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، ونعمان بن عصر، ومحيصة بن مسعود، وحويصة، وأبو بردة ابن نيار، ورجلان من ميزنة، ورجلٌ من غطفان، فقتل المزنيان والغطفاني، وارتث محمد بن مسلمة من القتلى. قال محمد: فلما كانت غزوة خيبر نظرت إلى أحد النفر الذين كانوا ولوا ضربي يوم القصة، فلما رآني قال: أسلمت وجهي لله! فقلت: اولى!
سرية أميرها أبو عبيدة إلى ذي القصةفي ربيع الآخر سنة ستٍ ليلة السبت، وغاب ليلتين.
حدثني عبد الرحمن بن زياد الأشجعي، عن عيسى بن عميلة، وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضل، عن أبيه، زاد أحدهما على صاحبه، قالا: أجدبت بلاد بني ثعلبة وأنمار، ووقعت سحابةٌ بالمراض إلى تغلمين ، فصارت بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، وكانوا قد أجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة، وسرحهم يومئذٍ يرعى ببطن هيقا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلاً من المسلمين حين صلوا صلاة المغرب، فباتوا ليلتهم يمشون حتى وافوا ذي القصة مع عماية الصبح، فأغار عليهم فأعجزهم هرباً في الجبل، وأخذ رجلاً منهم ووجد نعماً من نعمهم فاستاقه، ورثةً من متاع؛ فقدم به المدينة، فأسلم الرجل فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام عليه خمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم ما بقي عليهم.
سرية زيد بن حارثة إلى العيص
في جمادى الأولى سنة ست

حدثني موسى بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الغابة بلغه أن عيراً لقريش أقبلت من الشام، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب، فأخذوها وما فيها. وأخذوا يومئذٍ فضةً كثيرةً لصفوان ، وأسروا ناساً ممن كان في العير معهم، منهم أبو العاص بن الربيع، والمغيرة بن معاوية بن أبي العاص. فأما أبو العاص فلم يغد أن جاء المدينة، ثم دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سحراً، وهي امرأته، فاستجارها فأجارته. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر قامت زينب على بابها فنادت بأعلى صوتها فقالت: إني قد أجرت أبا العاص! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده، ما علمت بشيءٍ مما كان حتى سمعت الذي سمعتم، المومنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد إلى أبي العاص ما أخذ منه من المال، ففعل وأمرها ألا يقربها، فإنها لا تحل له ما دام مشركاً. ثم كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وكانت معه بضائع لغير واحدٍ من قريش، فأدوا إليه كل شيء؛ حتى إنهم ليردون الإداوة والحبل، حتى لم يبق شيءٌ. ورجع أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي حق حقه. قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم شيء؟ قالوا: لا والله. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لقد أسلمت بالمدينة، وما منعني أن أقيم بالمدينة إلا أن خشيت أن تظنوا أني أسلمت لأن أذهب بالذي لكم. ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه زينب بذلك النكاح. ويقال إن هذه العير كانت أخذت طريق العراق، ودليلها فرات بن حيان العجلي.
قال محمد بن إبراهيم: وأما المغيرة بن معاوية فأفلت، فتوجه تلقاء مكة فأخذ الطريق نفسها، فلقيه سعد بن أبي وقاص قافلاً في سبعة نفر، وكان الذي أسر المغيرة خوات بن جبير، فأقبل به حتى دخلوا المدينة بعد العصر وهم مبردون.
قال محمد بن إبراهيم، فأخبرني ذكوان مولى عائشة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: احتفظي بهذا الأسير! وخرج النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فلهوت مع امرأة أتحدث معها، فخرج وما شعرت به، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره فقال: أين الأسير؟ فقلت: والله ما أدري، غفلت عنه، وكان ها هنا آنفاً. فقال: قطع الله يدك! قالت: ثم خرج فصاح بالناس، فخرجوا في طلبه فأخذوه بالصورين، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقلب بيدي، فقال: مالكِ؟ فقلت: أنظر كيف تقطع يدي؛ قد دعوت علي بدعوتكم! قالت: فاستقبل القبلة فرفع يديه ثم قال: اللهم إنما أنا بشر، أغضب وآسف كما يغضب البشر. فأيما مؤمن أو مؤمنةٍ دعوت عليه بدعوةٍ فاجعلها له رحمة.
سرية زيد بن حارثة إلى الطرف
في جمادى الآخرة سنة ستحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن عمران بن مناح، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى الطرف إلى بني ثعلبة، فخرج في خمسة عشر رجلاً، حتى إذا كانوا بالطرف أصاب نعماً وشاءً. وهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إليهم، فانحدر زيد بن حارثة حتى صبح المدينة بالنعم، وخرجوا في طلبه حتى أعجزهم، فقدم بعشرين بعيراً. ولم يكن قتالٌ فيها، وإنما غاب أربع ليال.
حدثني ابن أبي سبرة، عن أبي رشد، عن حميد بن مالك، عن من حضر السرية، قال: أصابهم بعيران أو حسابهما من الغنم، فكان كل بعير عشراً من الغنم. وكان شعارنا: أمت! أمت!
سرية زيد بن حارثة إلى حسمي
في جمادى الآخرة سنة ست

حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أقبل دحية الكلبي من عند قيصر، قد أجاز دحية بمالٍ وكساه كسى. فأقبل حتى كان بحسمي، فلقيه ناسٌ من جذام فقطعوا عليه الطريق، وأصابوا كل شيء معه فلم يصل إلى المدينة إلا بسمل ، فلم يدخل بيته حتى انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال: دحية الكلبي. قال: ادخل. فدخل فاستخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان من هرقل حتى أتى على آخر ذلك، ثم قال: يا رسول الله، أقبلت من عنده حتى كنت بحسمي فأغار علي قومٌ من جذام، فما تركوا معي شيئاً حتى أقبلت بسملي ، هذا الثوب.
فحدثني موسى بن محمد قال: سمعت شيخاً من سعد هذيم كان قديماً يخبر عن أبيه يقول: إن دحية لما أصيب - أصابه الهنيد بن عارض وابنه عارض بن الهنيد، وكانا والله نكدين مشؤومين، فلم يبقوا معه شيئاً، فسمع بذلك نفرٌ من بني الضبيب فنفروا إلى الهنيد وابنه. فكان فيمن نفر منهم النعمان بن أبي جعال في عشرة نفر، وكان نعمان رجل الوادي ذا الجلد والرماية . فارتمى النعمان وقرة بن أبي أصفر الصلعي، فرماه قرة فأصاب كعبه فأقعده إلى الأرض. ثم انتهض النعمان فرماه بسهمٍ عريض السروة ، فقال: خذها من الفتى! فخل السهم في ركبته فشنجه وقعد، فخلصوا لدحية متاعه فرجع به سالماً إلى المدينة.
قال موسى، فسمعت شيخاً آخر يقول: إنما خلص متاع دحية رجلٌ كان صحبه من قضاعة، هو الذي كان استنقذ له كل شيءٍ أخذ منه رده على دحية. ثم إن دحية رجع إلى المدينة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاستسعى النبي صلى الله عليه وسلم دم الهنيد وابنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير، فخرج زيد بن حارثة معه.
وقد كان رفاعة بن زيد الجذامي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وأقام بالمدينة، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب معه كتاباً، فكتب معه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، لرفاعة بن زيد إلى قومه عامةً ومن دخل معهم يدوهم إلى الله وإلى رسوله. فمن أقبل منهم فهو من حزب الله وحزب رسوله، ومن ارتد فله أمان شهرين. فلما قدم رفاعة على قومه بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم قرأه عليهم فأجابوه وأسرعوا، ونفذوا إلى مصاب دحية الكلبي فوجدوا أصحابه قد تفرقوا.

وقدم زيد بن حارثة خلافهم على رسول الله، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة رجل، ورد معه دحية الكلبي. وكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليلٌ من بني عذرة. وقد اجتمعت غطفان كلها ووائل ومن كان من سلامات وبهراء حين جاء رفاعة بن زيد بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نزلوا - الرجال ورفاعة - بكراع رؤية لم يعلم. وأقبل الدليل العذري بزيد بن حارثة حتى هجم بهم، فأغاروا مع الصبح على الهنيد وابنه ومن كان في محلتهم، فأصابوا ما وجدوا، وقتلوا فيهم فأوجعوا ، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم، فأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان. وكان الدليل إنما جاء بهم من قبل الأولاج ، فلما سمعت بذلك الضبيب بما صنع زيد بن حارثة ركبوا، فكان فيمن ركب حبان بن ملة وابنه، فدنوا من الجيش وتواصوا لا يتكلم أحد إلا حبان بن ملة ، وكانت بينهم علامةٌ إذا أراد أحدهم أن يضرب بسيفه قال قودي! فلما طلعوا على العسكر طلعوا على الدهم من السبي والنعم، والنساء والأسارى أقبلوا جميعاً، والذي يتكلم حبان بن ملة يقول: إنا قومٌ مسلمون. وكان أول من لقيهم رجلٌ على فرس، عارضٌ رمحه، فأقبل يسوقهم، فقال رجل منهم: قودي! فقال حبان: مهلاً! فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال له حبان: إنا قوم مسلمون. قال له زيد: اقرأ أم الكتاب! وكان زيد إنما يمتحن أحدهم بأم الكتاب لا يزيده. فقرأ حبان، فقال له زيد: نادوا في الجيش إنه قد حرم علينا ما أخذناه منهم بقراءة أم الكتاب. فرجع القوم ونهاهم زيد أن يهبطوا واديهم الذي جاءوا منه، فأمسوا في أهليهم، وهم في رصدٍ لزيد وأصحابه، فاستمعوا حتى نام أصحاب زيد بن حارثة، فلما هدأوا وناموا ركبوا إلى رفاعة بن زيد - وكان في الركب في تلك الليلة أبو زيد بن عمرو، وأبو أسماء بن عمرو، وسويد بن زيد وأخوه، وبرذع بن زيد، وثعلبة بن عدي - حتى صبحوا رفاعة بكراع رؤية، بحرة ليلى ، فقال حبان : إنك لجالسٌ تحلب المعزى ونساء جذام أسارى . فأخبره الخبر فدخل معهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة - ساروا ثلاثاً - فابتداهم رفاعة فدفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كتب معه، فلما قرأ كتابه استخبرهم فأخبروه بما صنع زيد بن حارثة. فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقال رفاعة: يا رسول الله أنت أعلم، لا تحرم علينا حلالاً ولا تحل لنا حراماً. قال أبو زيد : أطلق لنا يا رسول الله من كان حياً، ومن قتل فهو تحت قدمي هاتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق معهم يا علي! فقال علي: يا رسول الله، لا يطيعني زيدٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سيفي فخذه. فأخذه فقال: ليس معي بعيرٌ أركبه. فقال بعض القوم: هذا بعير! فركب بعير أحدهم وخرج معهم حتى لقوا رافع ابن مكيث بشير زيد بن حارثة على ناقةٍ من إبل القوم، فردها علي على القوم. ورجع رافع بن مكيث مع عليٍّ رضي الله عنه رديفاً حتى لقوا زيد بن حارثة بالفحلتين ، فلقيه عليٌّ وقالك إن رسول الله يأمرك أن ترد على هؤلاء القوم ما كان بيدك من أسيرٍ أو سبيٍ أو مال. فقال زيد: علامة من رسول الله! فقال عليٌّ: هذا سيفه! فعرف زيد السيف فنزل فصاح بالناس فاجتمعوا فقال: من كان بيده شيءٌ من سبيٍ أو مالٍ فليرده، فهذا رسول رسول الله. فرد إلى الناس كل ما أخذ منهم، حتى إن كانوا ليأخذون المرأة من تحت فخذ الرجل.
حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن يسر بن محجن الديلي، عن أبيه، قال: كنت في تلك السرية، فصار لكل رجلٍ سبعة أبعرةٍ وسبعون شاة، ويصير له من السبي المرأة والمرأتاه، فوطئوا بالملك بعد الاستبراء، حتى رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى أهله، وكان قد فرق وباع منه.
سريةٌ أميرها عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل
في شعبان سنة ست

حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فقال: وتجهز فإني باعثك في سريةٍ من يومك هذا، أو من غدٍ إن شاء الله. قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي العداة، فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف. قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر، وعمر، وناس من المهاجرين، فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: ما خلفك عن أصحابك؟ قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السحر، فهم معسكرون بالجرف وكانوا سبعمائة رجل، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وعلي ثياب سفري. قال: وعلى عبد الرحمن ابن عوف عمامةٌ قد لفها على رأسه. قال ابن عمر: فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه بعمامة سوداء، فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف! قال: وعلى ابن عوف السيف متوشحه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليداً. قال ابن عمر: ثم بسط يده، فقال: يا أيها الناس، اتقوا خمساً قبل أن يحل بكم؛ ما نقض مكيال قومٍ إلا أخذهم الله بالسنين ونقصٍ من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قومٌ عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قومٌ الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قومٍ إلا سلط الله عليهم الطاعون، وما حكم قومٌ بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض.
قال: فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها دعاهم إلى الإسلام، فمكث بها ثلاثة أيامٍ يدعوهم إلى الإسلام. وقد كانوا أبوا أول ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً وكان رأسهم. فكتب عبد الرحمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، وبعث رجلاً من جهينة يقال له رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر. فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عوف، عن صالح بن إبراهيم، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الرحمن بن عوف إلى كلب، وقال: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم أو ابنة سيدهم. فلما قدم دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا وأقام على إعطاء الجزية. وتزوج عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ بن عمرو ملكهم، ثم قدم بها المدينة، وهي أم أبي سلمة.
سرية علي بن أبي طالب
رضي الله عنه إلى بني سعد، بفدك في شعبان سنة ست

حدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه في مائة رجلٍِ إلى حي سعد، بفدك، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار الليل وكمن النهار حتى انتهى إلى الهمج ، فأصاب عيناً فقال: ما أنت؟ هل لك علم بما وراءك من جمع بني سعد؟ قال: لا علم لي به. فشدوا عليه فأقر أنه عينٌ لهم بعثوه إلى خيبر، يعرض على يهود خيبر نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم ويقدمون عليهم، فقالوا له: فأين القوم؟ قال: تركتهم وقد تجمع منهم مائتا رجل، ورأسهم وبر ابن عليم. قالوا: فسر بنا حتى تدلنا. قال: على أن تؤمنوني! قالوا: إن دللتنا عليهم وعلى سرحهم أمناك، وإلا فلا أمان لك. قال: فذاك! فخرج بهم دليلاً لهم حتى ساء ظنهم به، وأوفى بهم على فدافد وآكام، ثم أفضى بهم إلى سهولةٍ فإذا نعمق كثيرٌ وشاءٌ، فقال: هذا نعمهم وشاءهم. فأغاروا عليه فضموا النعم والشاء. قال: أرسلوني! قالوا: لا حتى نأمن الطلب! ونذر بهم الراعي رعاء الغنم والشاء، فهربوا إلى جمعهم فحذروهم، فتفرقوا وهربوا، فقال الدليل: علام تحبسني؟ قد تفرقت الأعراب وأنذرهم الرعاء. قال علي رضي الله عنه: لم نبلغ معسكرهم. فانتهى بهم إليه فلم ير أحداً، فأرسلوه وساقوا النعم والشاء، النعم خمسمائة بعير، وألفا شاة.
حدثني أبير بن العلاء، عن عيسى بن عليلة، عن أبيه، عن جده، قال: إني لبوادي الهمج إلى بديع ، ما شعرت إلا ببني سعد يحملون الظعن وهم هاربون، فقلت: ما دهاهم اليوم؟ فدنوت إليهم فلقيت رأسهم وبر بن عليم، فقلت: ما هذا المسير؟ قال: الشر، سارت إلينا جموع محمدٍ وما لا طاقة لنا به، قبل أن نأخذ للحرب أهبتها، وقد أخذوا رسولاً لنا بعثناه إلى خيبر، فأخبرهم خبرنا وهو صنع بنا ما صنع. قلت: ومن هو؟ قال: ابن أخي، وما كنا نعد في العرب فتىً واحداً أجمع قلبٍ منه. فقلت: إني أرى أمر محمد أمراً قد أمن وغلظ، أوقع بقريشٍ فصنع بهم ما صنع، ثم أوقع بأهل الحصون بيثرب، قينقاع وبني النضير وقريظة، وهو سائر إلى هؤلاء بخيبر. فقال لي وبر: لا تخش ذلك! إن بها رجالاً، وحصوناً منيعة، وماءً واتناً ، لا دنا منهم محمد أبداً، وما أحراهم أن يغزوه في عقر داره. فقلت: وترى ذلك؟ قال: هو الرأي لهم. فمكث علي رضي الله عنه ثلاثاً ثم قسم الغنائم وعزل الخمس وصفى النبي صلى الله عليه وسلم لقوحاً تدعى الحفدة قدم بها.
سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة
في رمضان سنة ست

حدثني أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن الحسين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: خرج زيد بن حارثة في تجارةٍ إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ خصيتي تيس فدبغهما ثم جعل بضائعهم فيهما، ثم خرج حتى إذا كان دون وادي القرى ومعه ناسٌ من أصحابه، لقيه ناسٌ من بني فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه حتى ظنوا أن قد قتلوا، وأخذوا ما كان معه؛ ثم استبل زيد فقدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فبعثه في سريةٍ فقال لهم: اكمنوا النهار وسيروا الليل. فخرج بهم دليلٌ لهم، ونذرت بهم بنو بدر فكانوا يجعلون ناطوراً لهم حين يصيحون فينظر على جبلٍ لهم مشرفٍ وجه الطريق الذي يرون أنهم يأتون منه، فينظر قدر مسيرة يومٍ فيقول: اسرحوا فلا باس عليكم هذه ليلتكم! فلما كان زيد بن حارثة وأصحابه على نحو مسيرة ليلة أخطأ بهم دليلهم الطريق، فأخذ بهم طريقاً أخرى حتى أمسوا وهم على خطأ، فعرفوا خطأهم، ثم صمدوا لهم في الليل حتى صبحوهم، وكان زيد بن حارثة نهاهم حيث انتهوا عن الطلب. قال: ثم وعز إليهم ألا يفترقوا. وقال: إذا كبرت فكبروا. وأحاطوا بالحاضر ثم كبر وكبروا، فخرج سلمة بن الأكوع فطلب رجلاً منهم حتى قتله، وقد أمعن في طلبه، وأخذ جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر وجدها في بيتٍ من بيوتهم؛ وأمها أم قرفة، وأم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن زيد. فغنموا، وأقبل زيد بن حارثة، وأقبل سلمة بن الأكوع بالجارية، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر له جمالها، فقال: يا سلمة، ما جاريةٌ أصبتها؟ قال: جارية يا رسول الله رجوت أن أفتدي بها امرأةً منا من بني فزارة، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً يسأله: ما جاريةٌ أصبتها؟ حتى عرف سلمة أنه يريدها فوهبها له، فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحزن بن أبي وهب، فولدت له امرأةً ليس له منها ولد غيرها.
فحدثني محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتى زيد فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه عرياناً، ما رأيته عرياناً قبلها، حتى اعتنقه وقبله، ثم سأله فأخبره بما ظفره الله.
ذكر من قتل أم قرفةقتلها قيس بن المحسر قتلاً عنيفاً؛ ربط بين رجليها حبلاً ثم ربطها بين بعيرين، وهي عجوزٌ كبيرة. وقتل عبد الله بن مسعدة، وقتل قيس بن النعمان بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر.
سريةٌ أميرها عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم
في شوال سنة ستقال الواقدي: حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود، قال: سمعت عروة بن الزبير قال: غزا عبد الله بن رواحة خيبر مرتين؛ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم البعثة الأولى إلى خيبر في رمضان في ثلاثة نفر ينظر إلى خيبر، وحال أهلها وما يريدون وما يتكلمون به، فأقبل حتى أتى ناحية خيبر فجعل يدخل الحوائط، وفرق أصحابه في النطاة، والشق، والكتيبة ، ووعوا ما سمعوا من أسير وغيره. ثم خرجوا بعد إقامة ثلاثة أيام، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لليالٍ بقين من رمضان، فخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما رأى وسمع، ثم خرج إلى أسير في شوال.

فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن ابن عباس، قال: كان أسير رجلاً شجاعاً، فلما قتل أبو رافع أمرت اليهود أسير بن زارم، فقام في اليهود فقال: إنه والله ما سار محمد إلى أحدٍ من اليهود إلا بعث أحداً من أصحابه فأصاب منهم ما أراد، ولكني أصنع ما لا يصينع أصحابي. فقالوا: وما عسيت أن تصنع ما لم يصنع أصحابك؟ قال: أسير في غطفان فأجمعهم. فسار في غطفان فجمعها، ثم قال: يا معشر اليهود، نسير إلى محمدٍ في عقر داره، فإنه لم يغز أحدٌ في داره إلا أدرك منه عدوه بعض ما يريد. قالوا: نعم ما رأيت. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وقدم عليه خارجة بن حسيل الأشجعي، فاستخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وراءه فقال: تركت أسير بن زارم يسير إليك في كتائب اليهود. قال ابن عباس رضي الله عنه: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلاً. قال عبد الله بن أنيس: فكنت فيهم، فاستعمل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة. قال: فخرجنا حتى قدمنا خيبر فأرسلنا إلى أسير: إنا آمنون حتى نأتيك فنعرض عليك ما جئنا له؟ فقال: نعم، ولي مثل ذلك منكم؟ قلنا: نعم. فدخلنا عليه فقلنا: إن رسول الله بعثنا إليك أن تخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك، وشاور اليهود فخالفوه في الخروج وقالوا: ما كان محمدٌ يستعمل رجلاً من بني إسرائيل. فقال: بلى، قد مللنا الحرب. قال: فخرج معه ثلاثون رجلاً من اليهود مع كل رجلٍ رديفٌ من المسلمين. قال: فسرنا حتى إذا كنا بقرقرة ثبار ندم أسير حتى عرفنا الندامة فيه. قال عبد الله ابن أنيس: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له. قال: فدفعت بعيري فقلت: غدراً أي عدو الله! ثم تناومت فدنوت منه لأنظر ما يصنع، فتناول سيفي، فغمزت بعيري وقلت: هل من رجلٍ ينزل فيسوق بنا؟ فلم ينزل أحد، فنزلت عن بعيري فسقت بالقوم حتى انفرد أسير، فضربته بالسيف فقطعت مؤخرة الرجل وأندرت عامة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وفي يده مخرش من شوحط، فضربني فشجني مأمومةً ، وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجلٍ واحدٍ أعجزنا شداً، ولم يصب من المسلمين أحدٌ، ثم أقبلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم: تمشوا بنا إلى الثنية نتحسب من أصحابنا خبراً. فخرجوا معه، فلما أشرفوا على الثنية فإذا هم بسرعان أصحابنا. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه. قال: وانتهينا إليه فحدثناه الحديث، فقال: نجاكم الله من القوم الظالمين! قال عبد الله بن أنيس: فدنوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفث في شجتي، فلم تقح بعد ذلك اليوم ولم تؤذني، وقد كان العظم فل؛ ومسح على وجهي ودعا لي، وقطع قطعةً من عصاه فقال: أمسك هذا معك علامةً بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متحخصراً . فلما دفن جعلت معه تلي جسده دون ثيابه.
فحدثني خارجة بن الحارث، عن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، قال: كنت أصلح قوسي. قال: فجئت فوجدت أصحابي قد وجهوا إلى أسير بن زارم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أرى أسير ابن زارم! أي اقتله.
سريةٌ أميرها كرز بن جابر
لما أغير على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم بذي الجدر في شوال سنة ست، وهي على ثمانية أميالٍ من المدينة

حدثنا خارجة بن عبد الله، عن يزيد بن رومان، قال: قدم نفرٌ من عرينة ثمانيةٌ على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فاستوبأوا المدينة فأمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، وكان سرح المسلمين بذي الجدر، فكانوا بها حتى صحوا وسمنوا. وكانوا استأذنوه يشربون من ألبانها وأبوالها، فأذن لهم فغدوا على اللقاح فاستاقوها ، فيدركهم مولى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه نفرٌ فقاتلهم، فأخذوه فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات. وانطلقوا بالسرح، فأقبلت امرأة من بني عمرو بن عوف على حمارٍ لها حتى تمر بيسار تحت شجرة، فلما رأته وما به - وقد مات - رجعت إلى قومها وخبرتهم الخبر، فخرجوا نحو يسار حتى جاءوا به إلى قباء ميتاً. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم عشرين فارساً، واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهري، فخرجوا في طلبهم حتى أدركهم الليل، فباتوا بالجرة وأصبحوا فاغتدوا لا يدرون أين يسلكون، فإذا هم بامرأة تحمل كتف بعير، فأخذوها فقالوا: ما هذا معك؟ قالت: مررت بقومٍ قد نحروا بعيراً فأعطوني. قالوا: أين هم؟ قالت: هم بتلك القفار من الحرة، إذا وافيتم عليها رأيتم دخانهم. فساروا حتى أتوهم حين فرغوا من طعامهم، فأحاطوا بهم فسألوهم أن يستأسروا، فاستأسروا بأجمعهم لم يلفت منهم إنسانٌ، فربطوهم، وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، فخرجوا نحوه.
قال خارجة: فحدثني يزيد بن رومان قال: حدثني أنس بن مالك قال: فخرجت أسعى في آثارهم مع الغلمان حتى لقي بهم النبي صلى الله عليه وسلم بالزغابة بمجمع السيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم وصلبوا هناك. قال أنس: إني لواقفٌ أنظر إليهم.
قال الواقدي: فحدثني إسحاق، عن صالح مولى التومه، عن أبي هريرة، قال: لما قطع النبي صلى الله عليه وسلم أيدي أصحاب اللقاح وأرجلهم وسمل أعينهم نزلت هذه الآية: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ... " الآية. قال: فلم تسمل بعد ذلك عين.
قال: فحدثني أبو جعفر، عن أبيه، عن جده، قال: ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بعثاً إلا نهاهم عن المثلة.
وحدثني ابن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: لم يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم لساناً قط، ولم يسمل عيناً، ولم يزد على قطع اليد والرجل.
وحدثني ابن أبي حبيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن، قال: أمير السرية ابن زيد الأشهلي.
حدثني ابن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: لما ظفروا باللقاح خلفوا عليها سلمة بن الأكوع، ومعه أبو رهم الغفاري، وكانت اللقاح خمس عشرة لقحةً غزاراً. فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الزغابة وجلس في المسجد، إذا اللقاح على باب المسجد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليها فتفقد منها لقحةً له يقال لها الحناء فقال: أي سلمة، أين الحناء؟ قال: نحرها القوم ولم ينحروا غيرها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر مكاناً ترعاها فيه. قال: ما كان أمثل من حيث كانت بذي الجدر. قال: فردها إلى ذي الجدر. فكانت هناك، وكان لبنها يراح به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلي ليلةٍ وطبٌ من لبن.
قال ابن أبي سبرة: فحدثني إسحاق بن عبد الله، عن بعض ولد سلمة بن الأكوع، أنه أخبره أن سلمة بن الأكوع أخبره بعدة العشرين فارساً فقال: أنا، وأبو رهم الغفاري، وأبو ذر، وبريدة بن الخصيب، ورافع بن مكيث، وجندب بن مكيث، وبلال بن الحارث المزني، وعبد الله بن عمرو بن عوف المزني، وجعال بن سراقة، وصفوان بن معطل، وأبو روعة معبد بن خالد الجهني، وعبد الله بن بدر، وسويد بن صخر، وأبو ضبيس الجهني.
غزوة الحديبية

قال: حدثنا ربيعة بن عمير بن عبد الله بن الهرم، وقدامة بن موسى، وعبد الله بن يزيد الهذلي، ومحمد بن عبد الله بن أبي سبرة، وموسى بن محمد، وأسامة بن زيد الليثي، وأبو معشر، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ويونس بن محمد، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، ومجمع بن يعقوب، وسعيد بن أبي زيد الزرقي، وعابد ابن يحيى، ومحمد بن صالح عن عاصم بن عمر، ومحمد بن يحيى ابن سهل بن أبي حثمة، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، ومعاذ بن محمد، وعبد الله بن جعفر، وحزام بن هشام عن أبيه؛ فكلٌّ قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وبعضهم أوعى لهذا الحديث من بعض، وغير هؤلاء المسمين قد حدثني، أهل الثقة، وكتبت كل ما حدثوني، قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في النوم أنه دخل البيت، وحلق رأسه، وأخذ مفتاح البيت، وعرف مع المعرفين ، فاستنفر أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا وتهيئوا للخروج. وقدم عليه بسر بن سفيان الكعبي في ليالٍ بقيت من شوال سنة ستٍّ، فقدم مسلماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً له، وهو على الرجوع إلى أهله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بسر، لا تبرح حتى تخرج معنا فإنا إن شاء الله معتمرون. فأقام بسر وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان يبتاع له بدناً، فكان بسر يبتاع البدن ويبعث بها إلى ذي الجدر حتى حضر خروجه، فأمر بها فجلبت إلى المدينة، ثم أمر بها ناجية بن جندب الأسلمي أن يقدمها إلى ذي الحليفة، واستعمل على هديه ناجية بن جندب. وخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، لا يشكون في الفتح، للرؤيا التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرجوا بغير سلاحٍ إلا السيوف في القرب، وساق قومٌ من أصحابه الهدي، أهل قوة - أبو بكر وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم - ساقوا هدياً حتى وقف بذي الحليفة، وساق سعد بن عبادة بدناً. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتخشى يا رسول الله علينا من أبي سفيان بن حرب وأصحابه، ولم نأخذ للحرب عدتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أدري، ولست أحب أحمل السلاح معتمراً. وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، لو حملنا السلاح معنا، فإن رأينا من القوم ريباً كنا معدين لهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست أحمل السلاح، إنما خرجت معتمراً. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة، فاغتسل في بيته ولبس ثوبين من نسج صحار ، وركب راحلته القصواء من عند بابه، وخرج المسلمون، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بالبدن فجللت ، ثم أشعر بنفسه منها عدة، وهن موجهاتٌ إلى القبلة، في الشق الأيمن. ويقال دعا ببدنةٍ واحدةٍ فأشعرها في الجانب الأيمن، ثم أمر ناجية بن جندب بإشعار ما بقي، وقلدها نعلاً نعلاً، وهي سبعون بدنة فيها جمل أبي جهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غنمه ببدر، وكان يكون في لقاحه بذي الجدر. وأشعر المسلمون بدنهم، وقلدوا النعال في رقاب البدن، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان من ذي الحليفة فأرسله عيناً له، وقال: إن قريشاً قد بلغها أني أريد العمرة، فخبر لي خبرهم، ثم القني بما يكون منهم. فتقدم بسر أمامه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فقدمه أمامه طليعةً في خيل المسلمين عشرين فارساً، وكان فيها رجالٌ من المهاجرين والأنصار - المقداد بن عمرو وكان فارساً، وكان أبو عياش الزرقي فارساً، وكان الحباب بن المنذر فارساً، وكان عامر بن ربيعة فارساً، وكان سعيد ابن زيد فارساً، وكان أبو قتادة فارساً،، وكان محمد بن مسلمة فارساً، في عدةٍ منهم. ويقال أميرهم سعد بن زيد الأشهلي. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فصلى ركعتين، ثم خرج ودعا براحلته فركبها من باب المسجد، فلما انبعثت به مستقبلةً القبلة أحرم ولبى بأربع كلمات: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك، لبيك! إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك! وأحرم عامة المسلمين بإحرامه، ومنهم من لم يحرم إلا من الجحفة. وسلك طريق البيداء ، وخرج معه المسلمون ست عشرة مائة، ويقال ألف وأربعمائة، ويقال ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلاً؛ خرج معه من

أسلم مائة رجلٍ، ويقال سبعون رجلاً؛ وخرج معه أربع نسوة: أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم عمارة، وأم منيع، وأم عامر الأشهلية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالأعراب فيما بين مكة والمدينة فيستنفرهم، فيتشاغلون له بأموالهم وأبنائهم وذراريهم - وهم بنو بكر، ومزينة، وجهينة - فيقولون فيما بينهم: أيريد محمد يغزو بنا إلى قوم معدين مؤيدين في الكراع والسلاح؟ وإنما محمد وأصحابه أكلة جزور! لن يرجع محمدٌ وأصحابه من سفرهم هذا أبداً! قومٌ لا سلاح معهم ولا عدد، وإنما يقدم على قومٍ حديثٍ عهدهم بمن أصيب منهم ببدر!م مائة رجلٍ، ويقال سبعون رجلاً؛ وخرج معه أربع نسوة: أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم عمارة، وأم منيع، وأم عامر الأشهلية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالأعراب فيما بين مكة والمدينة فيستنفرهم، فيتشاغلون له بأموالهم وأبنائهم وذراريهم - وهم بنو بكر، ومزينة، وجهينة - فيقولون فيما بينهم: أيريد محمد يغزو بنا إلى قوم معدين مؤيدين في الكراع والسلاح؟ وإنما محمد وأصحابه أكلة جزور! لن يرجع محمدٌ وأصحابه من سفرهم هذا أبداً! قومٌ لا سلاح معهم ولا عدد، وإنما يقدم على قومٍ حديثٍ عهدهم بمن أصيب منهم ببدر! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الخيل، ثم يقدم نجية بن جندب مع الهدي، وكان معه فتيانٌ من أسلم، وقدم المسلمون هديهم مع صاحب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب مع الهدي وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح يوم الثلاثاء بملل، فراح من مللٍ وتعشى بالسيالة، ثم أصبح بالروحاء، فلقي بها أصراماً من بني نهد، معهم نعمٌ وشاءٌ، فدعاهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا له وانقطعوا من الإسلام، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبنٍ مع رجل منهم. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم وقال: لا أقبل هدية مشرك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاع منهم فابتاعوه من الأعراب فسر القوم؛ وجاءوا بثلاثة أضبٍّ أحياء يعرضونها، فاشتراها قوم أحلة من العسكر. فأكلوا وعرضوا على المحرمين فأبوا حتى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: كلوا فكل صيدٍ ليس لكم حلالاً في الإحرام تأكلونه، إلا ما صدتم أو صيد لكم. قالوا: يا رسول الله، فوالله ما صدنا ولا صادته إلا هؤلاء الأعراب، أهدوا لنا وما يدرون أن يلقونا، إنما هم قوم سيارة يصبحون اليوم بأرض وهم الغد بأرضٍ أخرى يتبعون الغيث، وهم يريدون سحابةً وقعت من الخريف بفرش ملل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلٍ منهم فسأله: أين تريدون؟ فقال: يا محمد، ذكرت لنا سحابةٌ وقعت بفرش ملل منذ شهر، فأرسلنا رجلاً منا يرتاد البلاد، فرجع إلينا فخبرنا أن الشاة قد شبعت وأن البعير يمشي ثقيلاً مما جمع من الحوض، وأن الغدر كثيرةٌ مرويةٌ، فأردنا أن نلحق به.
فحدثني عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب ابن عبد الله بن حنطب، عن أبي قتادة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية ومنا المحل والمحرم، حتى إذا كنا بالأبواء، وأنا محلٌّ، رأيت حماراً وحشياً، فأسرجت فرسي فركبت فقلت لبعضهم: ناولني سوطي! فأبى أن يناولني فقلت: ناولني رمحي! فأبى، فنزلت فأخذت سوطي ورمحي ثم ركبت فرسين فحملت على الحمار فقتلته، فجئت به أصحابي المحرمين والمحلين، فشك المحرمون في أكله، حتى أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان تقدمنا بقليل، فأدركناه فسألناه عنه فقال: أمعكم منه شيءٌ؟ قال: فأعطيته الذراع فأكلها حتى أتى على آخرها وهو محرم. فقيل لأبي قتادة: وما خلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: طبخنا الحمار فلما نضج لحقناه وأدركناه.

وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة، أنه حدثه أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء يومئذٍ بحمارٍ وحشيٍّ، فأهداه له فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الصعب: فلما رآني وما بوجهي من كراهية رد هديتي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نرده إلا أنا حرم. قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فقلت: يا رسول الله، إنا نصبح العدو والغارة في غلس الصبح فنصيب الولدان تحت بطون الخيل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم مع الآباء. وقال: سمعته يومئذٍ يقول: " لا حمى إلا لله ولرسوله " . ويقال إن الحمار يومئذٍ كان حياً.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن جده، عن أبي رهم الغفاري، قال: لما نزلوا الأبواء أهدى إيماء بن رخصة جزراً ومائة شاة، وبعث بها مع ابنه خفاف بن إيماء وبعيرين يحملان لبناً، فانتهى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أرسلني بهذه الجزر واللبن أليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى حللتم ها هنا؟ قال: قريباً، كان ماءٌ عندنا قد أجدب فسقنا ماشيتنا إلى ماءٍ ها هنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف البلاد ها هنا؟ قال: يتغذى بعيرها، وأما الشاة فلا تذكر. فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته، وأمر بالغنم ففرق في أصحابه، وشربوا اللبن عسا عسا حتى ذهب اللبن، وقال: بارك الله فيكم! فحدثني أبو جعفر الغفاري، عن أسيد بن أبي أسيد، قال: أهدي يومئذٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ودان ثلاثة أشياء؛ معيشاً ، وعتراً ، وضغابيس ؛ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من الضغابيس والعتر وأعجبه، وأمر به فأدخل على أم سلمة زوجته، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه هذه الهدية ويرى صاحبها أنها طريفة.
وحدثني سيف بن سليمان، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: لما كنا بالأبواء وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنفخ تحت قدرٍ لي ورأسي يتهافت قملاً وأنا محرم، فقال: هل يؤذيك هوامك يا كعب؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: فاحلق رأسك. قال: ونزلت فيه هذه الآية: " ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ " . فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أذبح شاةً، أو أصوم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، كل مسكينٍ مدين " أي ذلك فعلت أجزأك " . ويقال إن كعب بن عجرة أهدى بقرةً قلدها وأشعرها. وقال ناجية بن جندب: عطب لي بعيرٌ من الهدي حين نظرت إلى الأبواء، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبوء فأخبرته فقال: انحرها واصبغ قلائدها في دمها، ولا تأكل أنت ولا أحدٌ من أهل رفقتك منها شيئاً، وخل بين الناس وبينها. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجحفة لم يجد بها ماءً، فبعث رجلاً في الروايا إلى الخرار، فخرج الرجل غير بعيدٍ فرجع بالروايا فقال يا رسول الله، ما أستطيع أن أمضي قدماً رعباً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس! وبعث رجلاً آخر فخرج بالروايا، حتى إذا كان بالمكان الذي أصاب الأول الرعب فرجع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ فقال: لا والذي بعثك بالحق، ما أستطيع أن أمضي رعباً! قال: اجلس! ثم بعث رجلاً آخر، فلما جاوز المكان الذي رجع منه الرجلان قليلاً وجد مثل ذلك الرعب فرجع، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه فأرسله بالروايا وخرج السقاء معه، وهم لا يشكون في الرجوع لما رأوا من رجوع النفر، فوردوا الخرار فاستقوا ثم أقبلوا بالماء؛ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشجرةٍ فقم ما تحتها، فخطب الناس فقال: أيها الناس، إني كائنٌ لكن فرطاً ، وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا؛ كتاب الله وسنته بأيديكم! ويقال: قد تركت فيكم كتاب الله وسنة نبيه.

ولما بلغ المشركين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة راعهم ذلك، واجتمعوا له وشاوروا فيه ذوي رأيهم فقالوا: يريد أن يدخل علينا في جنوده معتمراً، فتسمع به العرب، وقد دخل علينا عنوةً وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا! والله، لا كان هذا أبداً ومنا عينٌ تطرف، فارتأوا رأيكم! فأجمعوا أمرهم، وجعلوه إلى نفرٍ من ذوي رأيهم - صفوان بن أمية، وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل - فقال صفوان: ما كنا لنقطع أمراً حتى نشاوركم؛ نرى أن نقدم مائتي فارسٍ إلى كراع الغميم ونستعمل عليها رجلاً جلداً. فقالت قريش: نعم ما رأيت! فقدموا على خيلهم عكرمة ابن أبي جهل - ويقال خالد بن الوليد - واستنفرت قريشٌ من أطاعها من الأحابيش، وأجلبت ثقيفٌ معهم؛ وقدموا خالد بن الوليد في الخيل، ووضعوا العيون على الجبال حتى انتهوا إلى جبلٍ يقلل من وزر وزع كانت عيونهم عشرة رجالٍ قام عليهم الحكم بن عبد مناف، يوحي بعضهم إلى بعضٍ الصوت الخفي: فعل محمدٌ كذا وكذا! حتى ينتهي ذلك إلى قريشٍ ببلدح. وخرجت قريشٌ إلى بلدح فضربوا بها القباب والأبنية، وخرجوا بالنساء والصبيان فعسكروا هناك، ودخل بسر بن سفيان مكة فسمع من كلامهم ورأى منهم ما رأى، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه بغدير ذات الأشطاط من وراء عسفان، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بسر، ما وراءك؟ قال: يا رسول الله، تركت قومك، كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، قد سمعوا بمسيرك ففزعوا وهابوا أن تدخل عليهم عنوةً، وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا لك جلد النمور ليصدوك عن المسجد الحرام، وقد خرجوا إلى بلدح وضربوا بها الأبنية، وتركت عمادهم يطعمون الجزر أحابيشهم ومن ضوى إليهم في دورهم، وقدموا الخيل عليها خالد بن الوليد، مائتي فارس، وهذه خيلهم بالغميم، وقد وضعوا العيون على الجبال ووضعوا الأرصاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: هذا خالد بن الوليد على خيل المشركين بالغميم. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فكيف ترون يا معشر المسلمين في هؤلاء الذين استنفروا إلي من أطاعهم ليصدونا عن المسجد الحرام؟ أترون أن نمضي لوجهنا إلى البيت فمن صدنا عنه قاتلناه، أم ترون أن نخلف هؤلاء الذين استنفروا لنا إلى أهليهم فنصيبهم؟ فإن اتبعونا اتبعنا منهم عنقٌ يقطعها الله، وإن قعدوا قعدوا محزونين موتورين! فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: الله ورسوله أعلم! نرى يا رسول الله أن نمضي لوجهنا فمن صدنا عن البيت قاتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن خيل قريشٍ فيها خالد بن الوليد بالغميم. فقال أبو هريرة: فلم أر أحداً كان أكثر مشاورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مشاورته أصحابه في الحرب فقط. قال: فقام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. والله يا رسول الله، لو سرت إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل. وتكلم أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، نرى أن نصمد لما خرجنا له، فمن صدنا قاتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نخرج لقتال أحد، إنما خرجنا عماراً. ولقيه بديل بن ورقاء في نفرٍ من أصحابه فقال: يا محمد، لقد اغتررت بقتال قومك جلابيب العرب، والله ما أرى معك أحداً له وجه، مع أني أراكم قوماً لا سلاح معكم! قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: عضضت بظر اللات! قال بديل: أما والله لولا يدٌ لك عندي لأجبتك، فوالله ماأتهم أنا ولا قومي ألا أكون أحب أن يظهر محمد! إني رأيت قريشاً مقاتلتك عن ذراريها وأموالها، قد خرجوا إلى بلدح فضربوا الأبنية، معهم العوذ المطافيل، ورادفوا على الطعام، يطعمون الجزر من جاءهم، يتقوون بهم على حربكم، فر رأيك!

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصحف كاملا وورد

  سُورَةُ الفَاتِحَةِ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ١ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٣ مَ...