الخلاصة في حياة الأنبياء
موسى وهارون عليهما السلام
في الزمن الماضي كان يعيش في مصر ملك جبار طاغية، يعرف بفرعون، استعبد قومه وطغى عليهم، وقسم رعيته إلى عدة أقسام، استضعف طائفة منهم، وأخذ في ظلمهم واستخدامهم في أخس الأعمال شرفًا ومكانة، وهؤلاء هم بنو إسرائيل الذين يرجع نسبهم إلى نبي الله يعقوب-عليه السلام- وقد دخلوا مصر عندما كان سيدنا يوسف -عليه السلام- وزيراً عليها.
وحدث أن فرعون كان نائمًا، فرأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس، فأحرقت مصر جميعها إلا بيوت بني إسرائيل، فلما استيقظ، خاف وفزع من هذه الرؤيا، فجمع الكهنة والسحرة وسألهم عن تلك الرؤية فأخبروه بأن غلامًا سيولد في بني إسرائيل، يكون سببا لهلاك أهل مصر، ففزع فرعون من هذه الرؤيا العجيبة، وأمر بقتل كل مولود ذكر يولد في بني إسرائيل، خوفا من أن يولد هذا الغلام.
ومرت السنوات، ورأى أهل مصر أن بني إسرائيل قل عددهم بسبب قتل الذكور الصغار، فخافوا أن يموت الكبار مع قتل الصغار، فلا يجدون من يعمل في أراضيهم، فذهبوا إلى فرعون وأخبروه بذلك، ففكر فرعون، ثم أمر بقتل الذكور عامًا، وتركهم عامًا آخر.
فولد هارون في العام الذي لا يُقتل فيه الأطفال. أما موسى فقد ولد في عام القتل، فخافت أمه عليه، واحتار تفكيرها في المكان الذي تضعه فيه بعيدًا عن أعين جنود فرعون الذين يتربصون بكل مولود من بني إسرائيل لقتله، فأوحى الله إليها أن ترضعه وتضعه في صندوق، ثم ترمي هذا الصندوق في النيل إذا جاء الجنود، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص.
(1/178)
فجهزت صندوقًا صغيرًا، وأرضعت ابنها، ثم وضعته في الصندوق، وألقته في النيل عندما جاء جنود فرعون، وأمرت أخته بمتابعته، والسير بجواره على البر لتراقبه، وتتعرف على المكان الذي استقر فيه الصندوق.
وظل الصندوق طافيًا على وجه النهر وهو يتمايل يمينًا ويساراً، تتناقله الأمواج من جهة إلى أخرى، ثم استقرت به تلك الأمواج ناحية قصر فرعون الموجود على النيل، ولما رأت أخته ذلك أسرعت إلى أمها لتخبرها بما حدث. وكانت السيدة آسية زوجة فرعون تمشي في حديقة القصر كعادتها، ويسير من خلفها جواريها، فرأت الصندوق على شاطئ النهر من ناحية القصر، فأمرت جواريها أن يأتين به، ثم فتحنه أمامها، ونظرت آسية في الصندوق، فوقع نظرها على طفل صغير، فألقى الله في قلبها محبة هذا الطفل الصغير.
وكانت آسية عقيمًا لا تلد، فأخذته وضمته إلى صدرها ثم قبلته، وعزمت على حمايته من القتل والذبح، وذهبت به إلى زوجها، وقالت له في حنان ورحمة: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (9) سورة القصص.فلما رأى فرعون تمسك زوجته بهذا الطفل، وافق على طلبها ولم يأمر بقتله، واتخذه ولدًا
ومرت ساعات قليلة وزوجة فرعون تحمل الطفل فرحة مسرورة به، تضمه إلى صدرها وتقبله، وفجأة بكى موسى بشدة، فأدركت السيدة آسية أنه قد حان وقت رضاعته فأمرت بإحضار مرضعة لترضعه، وتهتم بأمره، فجاء إلى القصر عدد كثير من المرضعات، لكن الطفل امتنع عن أن يرضع منهن، مما جعل أهل القصر ينشغلون بهذا الأمر، واشتهر هذا الأمر بين الناس، فعرفت أخته بذلك، فذهبت إلى القصر، وقابلت السيدة آسية زوجة فرعون، وأخبرتها أنها تعلم مرضعة تصلح لهذا الطفل. ففرحت امرأة فرعون، وطلبت منها أن تسرع، وتأتي بتلك المرضعة، فذهبت إلى أمها فوجدتها حزينة على ابنها حزنًا كبيرًا، فأخبرتها بما حدث بينها وبين زوجة فرعون، فهدأت نفس أم موسى وارتاح بالها.
ذهبت أم موسى مع ابنتها إلى قصر فرعون، ولما دخلته أتوها بالرضيع، وبمجرد أن قدمت له ثديها أقبل عليه الطفل وشرب وارتوى، وأخذت الأم ابنها إلى بيته الذي ولد فيه، فعاش موسى فترة رضاعته مع أبيه وأمه وإخوته، ولما عاد إلى قصر فرعون اهتموا بتربيته تربية حسنة، فنشأ وتربى كأبناء الملوك والأمراء قويًّا جريئًا متعلماً.
كبر موسى، وصار رجلاً قويًّا شجاعًا، وذات يوم، كان يسير في المدينة فرأى رجلين يتشاجران، أحدهما من قومه بني إسرائيل، والآخر قبطي من أهل مصر، فاستغاث الإسرائيلي بموسى، فأقبل موسى، وأراد منع المصري من الاعتداء، فدفعه بيده فسقط على الأرض ميتًا، فوجد موسى نفسه في موقف عصيب، لأنه لم يقصد قتل هذا الرجل، بل كان يريد الدفاع عن مظلوم فقط، وحزن موسى، وتاب إلى الله ورجع إليه، وأخذ يدعوه سبحانه أن يغفر له هذا الذنب.
(1/180)
ولكن سرعان ما انتشر الأمر في المدينة، وأخذ الناس يبحثون عن القاتل، ليعاقبوه، فلم يعثروا عليه، ومرت الأيام، وبينما موسى كعادته يسير في المدينة؛ فوجد الرجل الإسرائيلي نفسه يتشاجر مع مصري آخر، واستغاث مرة ثانية بموسى فغضب موسى من هذا الأمر، ثم تقدم ليفض هذا النزاع، فظنَّ الإسرائيلي أن موسى سيقبل عليه؛ ليضربه لأنه غضبان منه، فقال له: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} (19) سورة القصص.
وعلم المصريون أن موسى هو القاتل، فأخذوا يفكرون في الانتقام منه، وجاء إليه من ينصحه بأن يبتعد عن المدينة. فخرج موسى من المدينة وهو خائف، يتلفت يمينًا ويساراً يترقب أهلها، ويدعو الله أن ينجيه من القوم الظالمين.
خرج موسى وليس في ذهنه مكان معين يتوجه إليه، ثم هداه تفكيره إلى أن يذهب إلى أرض مدين، فتوكل على الله، وواصل السير إليها.
فلما وصل إلى مدين، توجه ناحية شجرة بجوار بئر، وجلس تحتها فوجد فتاتين، ومعهما أغنامهما تقفان بعيدًا عن الازدحام حتى ينتهي الناس، فتقدم موسى منهما، وسألهما عن سبب وقوفهما بعيدًا، فأخبرتاه أنهما لا يسقيان حتى ينتهي الناس من سقي أغنامهم، ويخف الزحام، وقد خرجا يسقيان لأن أباهما شيخ كبير لا يستطيع أن يتحمل مشقة هذا العمل، فتقدم موسى وسقى لهما أغنامهما، ثم عاد مرة أخرى إلى ظل الشجرة ليأخذ المزيد من الراحة بعد عناء السفر. وأخذ يدعو ربه قائلاً: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (24) سورة القصص
ولما عادت الفتاتان إلى أبيهما، قصتا عليه ما حدث، فأعجب الأب بهذا الرجل الغريب وشهامته ومروءته، وأمر إحدى ابنتيه أن تخرج إليه، وتدعوه للحضور حتى يكافئه، فجاءت إليه إحدى الفتاتين لتخبره بدعوة الأب، فلبى موسى الدعوة، وذهب إلى إحدى الفتاتين لتخبره بدعوة الأب، فلبى موسى الدعوة، وذهب إلى هذا الرجل الصالح، فسأله الرجل عن اسمه وقصته، فقص عليه موسى ما حدث، فطمأنه الشيخ، وطلبت إحدى الفتاتين من أبيها أن يستأجر موسى ليعينهما فهو رجل قوي أمين.
وقد عرض الشيخ على موسى-عليه السلام-أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يعمل عنده أجيرا لمدة ثماني سنوات، أو عشرًا إذا شاء.
فوافق موسى على هذا الأمر، وتزوج إحدى البنتين، واستمر يرعى الغنم عند ذلك الشيخ عشر سنين، ثم أراد موسى الرحيل والعودة بأهله إلى مصر، فوافق الشيخ الصالح على ذلك، وأكرمه وزوده بما يعينه في طريق عودته إلى مصر.
سار موسى بأهله تجاه مصر، حتى حل عليهم الظلام، فجلسوا يستريحون من أثر هذا السفر، حتى يكملوا المسير بعد ذلك في الصباح، وكان الجو شديد البرودة، فأخذ موسى يبحث عن شيء يستدفئون عليه، فرأى ناراً من بعيد، فطلب من أهله الانتظار؛ حتى يذهب إلى مكان النار، ويأتي منها بشيء يستدفئون به
توجه موسى وفي يده عصاه ناحية النار التي شاهدها، ولما وصل إليها نداء يقول: ( يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) [طه: 11-16]. ثم سأله الله-عز وجل-عما يحمله في يمينه. فقال موسى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (18) سورة طه.
فأمره الله-عز وجل-أن يلقي هذه العصا، فألقاها فانقلبت العصا وتحولت إلى ثعبان كبير يتحرك ويسير بسرعة، فولَّى موسى من الخوف هاربًا، فأمره الله -عز وجل-أن يعود ولا يخاف، وسوف تعود عصاه كما كانت أول مرة، فمد موسى يده إلى تلك الحية ليأخذها، فإذا بها عصا كما كانت
وكان موسى أسمر اللون، فأمره الله-عز وجل-أن يدخل يده في ثيابه ثم يخرجها، فخرجت بيضاء ناصعة البياض، فكانت هاتان معجزتين من الله لنبيه موسى، لتثبيته في رسالته المقبلة إلى فرعون وملئه، ثم أمره الله-عز وجل-بالذهاب إلى فرعون لهدايته وتبليغه الدعوة، فاستجاب موسى لأمر ربه، ولكنه قبل أن يذهب أخذ يدعو ربه بأن يوفقه لما هو ذاهب إليه، ويسأله العون والمدد، فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35))[طه: 25-35].
فاستجاب الله-عز وجل-دعاءه، فتذكر موسى أنه قتل رجلاً من المصريين، فخاف أن يقتلوه، فطمأنه الله-سبحانه-بأنهم لن يصيبوه بأذى، فاطمأن موسى.
وعاد موسى إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حدث بينه وبين الله-عز وجل-، ليشاركه في توصيل الرسالة إلى فرعون وقومه، ويساعده في إخراج بني إسرائيل من مصر، ففرح هارون بذلك، وأخذ يدعو مع موسى ويشاركه في نشر الدعوة.
(1/184)
وكان فرعون شديد البطش والظلم ببني إسرائيل فتوجه هارون وموسى -عليهما الصلاة والسلام-إلى ربهما يدعوانه بأن ينقذهما من طغيان فرعون. فقال لهما الله تعالى مطمئنًا ومثبتًا: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) [طه: 43-48].
فلما ذهب موسى مع أخيه هارون إلى فرعون قاما بدعوته إلى الله، وإخراج بني إسرائيل معهم، لكن فرعون راح يستهزئ بهما، ويسخر منهما، ومما جاءا به، وذكر موسى بأنه هو الذي رباه في قصره وظل يرعاه حتى قتل المصري وفرَّ هاربًا، فأخبره موسى أن الله قد هداه وجعله نبيًّا، لكي يدعوه إلى عبادة الله وطاعته، ولكن فرعون لم يستجب له، فعرض عليه موسى أن يأتي له بدليل يبين له صدق رسالته. فطلب فرعون منه الدليل إن كان صادقًا، فألقى موسى عصاه فتحولت إلى حية كبيرة، فخاف الناس وفزعوا من هذا الثعبان، فمد موسى يده إليها وأخذها فعادت عصا كما كانت. ثم أدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء ناصعة البياض.
ولكن فرعون يعلن في قومه أن موسى ساحر، فأشار عليه القوم أن يجمع السحرة من كل مكان لمواجهة موسى وسحره، على أن يكون هذا الاجتماع يوم الزينة، وكان هذا اليوم يوم عيد فرعون وقومه، حيث يجتمع الناس جميعًا، في مكان فسيح أمام قصر فرعون للاحتفال
وسارع فرعون في إعلان الموعد لجميع الناس، ليشهدوا هذا اليوم، وكتب إلى كل السحرة ليعدوا العدة لذلك اليوم.. وجاء اليوم المنتظر، وتسابق الناس إلى ساحة المناظرة، ليروا من المنتصر؛ موسى أم السحرة؟
وقبل أن يخرج فرعون إلى موسى اجتمع مع السحرة، وأخذ يرغبهم ويعدهم ويمنيهم بآمال عظيمة إذ ما انتصروا على موسى وأخيه وتفوقوا عليهما، وكان السحرة يطمعون فيما عند فرعون من أجر ومكانة.
وبعد لحظات خرج فرعون ومن خلفه السحرة إلى ساحة المناظرة، ثم جلس في المكان الذي أُعد له هو وحاشيته، ووقف السحرة أمام موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام-.
بعد ذلك رفع فرعون يده إيذانا ببدء المناظرة. وعرض السحرة على موسى أحد أمرين؛ إما أن يلقي عصاه أولاً أو يلقوا عصيهم أولاً. فترك لهم موسى البداية.
فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فسحروا أعين الناس، وتحولت جميع الحبال والعصيان إلى حيات تسعى وتتحرك أمام أعين الحاضرين، فخاف الناس من هول ما يرونه أمامهم، حتى موسى وهارون-عليهما السلام-أصابهما الخوف، ليس من هذه الحيات المزيفة ، ولكن من غفلة الناس الذين أخذوا يلوِّحون لفرعون بالنصر قبل أن يضع موسى عصاه ، فأوحى الله لموسى ألا يخاف ويلقي عصاه، فاطمأن موسى وأخوه لأمر الله، ثم ألقى عصاه فتحولت إلى حية عظيمة تبتلع حبال السحرة وعصيهم. فلما رأى السحرة ذلك علموا أنها معجزة من معجزات الله وليست سحرًا، فشرح الله صدورهم للإيمان بالله وتصديق ما جاء به موسى فسجدوا لله الواحد الأحد، معلنين إيمانهم برب موسى وهارون.
وهنا اشتد غيظ فرعون وأخذ يهدد السحرة، ويقول لهم: (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71))[طه: 71].
(1/186)
لكن السحرة لم يخافوا ولم يفزعوا من كلامه وتهديداته، بعد أن أدخل الله في قلوبهم نور الحق والإيمان، فقالوا: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76))[طه: 72-76].
فغضب فرعون غضبا شديدا، وأخذ المضللون من قومه يحرضونه على موسى وبني إسرائيل، فأصدر فرعون أوامره لجنوده أن يقتلوا أبناء الذين آمنوا من بني إسرائيل، ويتركوا النساء، واستطاع فرعون بهذه التهديدات أن يرهب الضعاف والذين في قلوبهم مرض من قوم موسى، فلم يؤمنوا به خوفًا من فرعون وبطشه، وحتى أولئك الذين آمنوا لم يسلموا تمامًا من الخوف والرهبة من فرعون.
فلما رأى موسى ما أصاب قومه من خوف وهلع، توجه إلى الله بدعاء أن ينجيه والمؤمنين من كيد فرعون.
وأخذ فرعون يفكر في حيلة للخلاص من موسى، وذات يوم جمع أعوانه وعشيرته وأعلن لهم ما توصل إليه، وهو أن يقتل موسى ..وبعد أن انتهى من كلامه إذا برجل من قومه وعشيرته قد آمن بموسى سرًّا يقول له: ({وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: 28]، ثم أخذ يدعو المصريين للإيمان بالله ويحذرهم من العذاب. فأعرض فرعون عنه ولم يستمع إلى نصيحته.
ومرت الأيام، وأخذ فرعون وأعوانه في تعذيب بني إسرائيل وتسخيرهم في العمل، ولم يسمع لما طلبه منه موسى في أن يتركه وقومه يخرجون من مصر إلى الشام فسلط الله عليهم أعوام جدب وفقر حيث قلَّ ماء النيل، ونقصت الثمار، وجاع الناس، وعجزوا أمام بلاء الله-عز وجل-، وأنزل الله بهم أنواعًا أخرى من العذاب إضافة إلى ما هم فيه كالطوفان الذي أغرق زروعهم وديارهم، والجراد الذي أكل ما بقي من زروعهم وأشجارهم وسلط عليهم السوس، فأكل ما اختزنوه في صوامعهم من الحبوب والدقيق، وأرسل إليهم الضفادع، فأقلقت راحتهم، وحوَّل مياههم التي تأتي من النيل والآبار والعيون دمًا.
كل هذه البلايا أصابت فرعون وقومه، أما موسى ومن آمن معه فلم يحدث لهم أي شيء، فكان هذا دليلاً وبرهانًا على صدق ما جاء به موسى وأخيه هارون.
ومرت الأيام، واستمرت تلك البلايا، بل إنها كانت تزداد يومًا بعد يوم، فذهب المصريون إلى فرعون يشيرون عليه أن يطلق سراح بني إسرائيل مقابل أن يدعو موسى ربه أن يكشف ذلك الضر عنهم، ويشفع لهم عند ربه هذا العذاب والضيق.
فدعا موسى ربه، حتى استجاب له، وكشف ما أصاب فرعون وقومه من عذاب وبلاء.
(1/188)
وزاد فرعون في عناده وكفره بالله، ولما رأى موسى إصرار فرعون على كفره وجحوده، وتماديه في غيِّه وتكذيبه بكل الآيات التي جاء بها، رفع يديه إلى السماء متوجهًا إلى الله متضرعًا ومتوسلاً إليه سبحانه أن يخلص بني إسرائيل من يدي فرعون وجنوده، وأن يعذب الكفرة بالعذاب المهين.
واستجاب الله-سبحانه وتعالى-دعاء نبيه ورسوله موسى، وجاء الأمر الإلهي إلى موسى أن يخرج مع بني إسرائيل من مصر ليلاً، ولا يخاف من العاقبة، وأخبره أن فرعون سيتبعه، ولكن الله منجيه هو ومن آمن معه وسيغرق فرعون وجنوده.
فأخبر موسى بني إسرائيل بالخبر، وطلب منهم أن يتجهزوا للخروج معه إذا جنَّ الليل، فأسرع قوم موسى يتجهزون للرحيل من مصر، فهي الساعة التي طال انتظارهم بها.
وسار موسى وقومه في اتجاه البحر، وبعد ساعات طويلة كان موسى ومن معه قد قطعوا شوطًا طويلاً على أقدامهم، ووصل خبر خروج بني إسرائيل من مصر إلى فرعون فهاج هياجًا شديدًا، وأصدر أوامره أن يجتمع إليه في الحال جميع جنوده.
وفي لحظات اجتمع إلى فرعون عدد كبير من الجنود والفرسان، فأخذهم وخرج بهم يتعقب أثر موسى وقومه حتى أدركهم عند شروق الشمس، وهنا تملك بني إسرائيل الرعب والفزع من هول الموقف الذي هم فيه، فالبحر أمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، فراحوا يتخيلون ما سيوقعه فرعون بهم من ألوان العذاب والنكال، وظنوا أن فرعون سيدركهم لا محالة.
(1/189)
فأخذ موسى يطمئنهم ويذكرهم بأن الله سينصرهم وينجيهم، فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، ففعل، فانشقَّ طريق يابس، فاندفع بنو إسرائيل فيه قبل أن يصل فرعون وجنوده إليهم، ولما وصل فرعون ومن معه إلى الشاطئ، كان بنو إسرائيل قد خرجوا إلى الشاطئ الآخر، ولما رأى فرعون أن الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل مازال موجودًا، اندفع هو الآخر بجنوده للحاق بهم، ولما وصل فرعون وجنوده إلى منتصف البحر، تحول الطريق إلى ماء، وغرقوا جميعاً. ولما أدرك فرعون أنه سيغرق أراد أن ينجو بحيلة فقال: { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) سورة يونس.
لكن هيهات لقد نفذ أمر الله، وغرق فرعون وعاين الموت، وأيقن أنه لا نجاة له منه، وفي هذا الوقت لا تنفع التوبة، ولا ينفع الندم، لقد بلغت الروح الحلقوم، وجاء إيمان فرعون متأخراً فقد حضر الموت، وفات أوان التوبة. قال تعالى : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (18) سورة النساء .
وبعد أن لفظ فرعون أنفاسه الأخيرة، حملت الأمواج جثته، وألقتها على شاطئ البحر ليراها المصريون، ويدركوا جميعًا أن الرجل الذي عبدوه وأطاعوه من دون الله، لم يستطع دفع الموت عن نفسه، وأصبح عبرة لكل متكبر جبار. {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (92) سورة يونس .
(1/190)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ شَكُّوا فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ ، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ أَنْ يُلْقِيهِ بِجَسَدِهِ سَوِيّاً بِلاَ رُوحٍ ، لِيَتَحَقَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مَوْتِهِ وَهَلاَكِهِ ، فَتَكُونَ تِلْكَ آيَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ ، وَصِدْقِ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ غَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللهِ ، لاَ يَتَّعِظُونَ بِهَا ، وَلاَ يَعْتَبِرُونَ(1).
( وَكَانَ هَلاَكُ فِرْعَونَ وَنَجَاةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، " فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ : مَا هَذا الذِي تَصُومُونَهُ؟ فَقَالُوا يَوْمَ ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ . فَقَالَ النَّبِيُّ لأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوهُ " ) ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ )(2)
وبعد أن عبر بنو إسرائيل البحر، ساروا متوجهين إلى الأرض المقدسة، وفي الطريق رأوا قومًا يعبدون أصنامًا، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا مثل هؤلاء الكفار، فصبر موسى عليهم وبين لهم جهلهم، وبين لهم نعم الله عليهم التي لا تحصى، وأن الله فضلهم على خلقه، وأنه نجاهم من فرعون وجنوده، وهو وحده المستحق للعبادة والطاعة. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (138) سورة الأعراف .
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 294)
(2) - برقم (4680)
(1/191)
وواصل موسى ومن معه المسير، وحرارة الشمس تلفح وجوههم، فذهب بنو إسرائيل إلى موسى يشكون له ذلك، فسخر الله لهم الغمام يقف معهم إذا وقفوا، ويسير معهم إذا ساروا، ليظلهم ويقيهم ليهيب الشمس الحارقة. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (57) سورة البقرة .
ولما عطشوا أوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه التي يحملها معه الحجر، فرفع موسى عصاه وهوى بها على حجر في الجبل وإذا بمعجزة جديدة من معجزات موسى تحدث أمام عيون بني إسرائيل، حيث تتفجر بمجرد وقوع العصا على الحجر اثنتا عشرة عينًا، بعدد قبائل بني إسرائيل الذين كانوا معه، مما جعل موسى يخص لكل قبيلة عينًا تشرب منها. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60) سورة البقرة .
(1/192)
ولما جاعوا أدركتهم نعمة الله، حيث ساق لهم المن، وهو نوع من الحلوى، والسلوى وهو نوع من الطير يشبه السمان، فأخذوا يأكلون منه، ولكنهم سرعان ما سئموا هذا الطعام وملُّوا منه، فذهبوا إلى موسى يشكون له ذلك {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (61) سورة البقرة.
فتعجب موسى، ثم أخبرهم بأن ذلك يكون في الأرض، فليذهبوا إلى مكان يزرعون فيه ويعملون حتى يتحقق لهم ما يطلبون.
وعاش بنو إسرائيل في أمان واطمئنان، وأصبحوا في حاجة إلى قانون يحتكمون إليه، وشريعة تنظم حياتهم، فأوحى الله إلى موسى أن يخرج بمفرده إلى مكان معين، ليعطيه الشريعة التي يتحاكم إليها بنو إسرائيل وتنظم حياتهم، فاستخلف موسى أخاه هارون على قومه، ووعظه وذكره بالله، وحذره من المضلين الذين يحاولون أن يفسدوا غيرهم.
(1/193)
ثم ذهب الجبل الذي تلقى فيه بربه عندما كان عائدًا من مدين إلى مصر، وعنده أنزلت عليه التوراة، ولما رأى موسى إكرام ربه له، وتفضله الزائد عليه، طلب من الله أن يمكنه من رؤيته سبحانه، ظنًا منه أن رؤية الله ممكنة في الدنيا، فرد الله على موسى مبينًا أن الإنسان بتكوينه هذا لا يقدر على رؤية الله-عز وجل-، وحتى يطمئن قلب موسى، فقد أخبره الله أنه سيتجلَّى للجبل، وما على موسى إلا أن ينظر إلى الجبل، ويلاحظ ما سيحدث، ونظر موسى إلى الجبل، فرآه قد اندك وتهدم.
ولقد صور لنا القرآن ذلك: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143) سورة الأعراف.
فأخذ موسى الألواح التي فيها التوراة، وكانت تتضمن المواعظ والأحكام التي بها تنتظم حياة بني إسرائيل وتستقيم. {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة
(1/194)
وحدث في بني إسرائيل بعد أن تركهم موسى أن قام رجل منهم يعرف بالسامري، وجمع ما معهم من الحلي والذهب، وصنع لهم صنما مجوفًا على هيئة عجل إذا دخل فيه الهواء من جانب خرج من الجانب الآخر محدثا صوتًا يشبه صوت العجل، وأخبرهم أن هذا هو إلههم وإله موسى، فصدقه بنو إسرائيل، وعبدوا العجل وتركوا عبادة الله الواحد الأحد، فتوجه إليهم نبي الله هارون ينصحهم ويعظهم، وأنهم قد فتنوا بهذا الأمر، لكنهم استمروا في جهلهم، ولم ينتفعوا بنصح هارون، بل اعترضوا عليه وكادوا أن يقتلوه، وأعلنوا له أنهم لن يتركوا عبادة هذا العجل، حتى يرجع إليهم موسى. {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} (148) سورة الأعراف
ولما عاد موسى ووجد قومه على تلك الحالة، غضب منهم غضبًا شديدًا، ومن شدة حزنه وغضبه مما فعله قومه ألقى الألواح التي فيها التوراة من يديه، وتوجه إلى أخيه هارون وأمسك برأسه وجذبه إليه بشدة، وقال له بصوت ظهر فيه الغضب: (يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)) [طه: 92-93].
(1/195)
فقال هارون: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94))[طه: 94]، وأخبره أن القوم كادوا أن يقتلوه، فتركه موسى وتوجه إلى السامري؛ ذلك الرجل الذي صنع هذا العجل، وسأله عن الأمر، فأخبره السامري بما حدث، فأحرق موسى ذلك العجل حتى جعله ذرات صغيرة، ثم رمى بتلك الذرات في البحر.{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) [طه/90-98]
هنا أحس بنو إسرائيل بسوء صنيعهم فندموا عليه، وأعلنوا توبتهم إلى الله، وسألوه الرحمة والمغفرة، فأوحى الله-عز وجل-إلى موسى أن هارون برئ منهم وأنه حاول معهم كثيرًا ليبتعدوا عن عبادة العجل، فاطمأن قلب موسى إلى أن أخاه لم يشارك في ذلك الإثم، فتوجه إلى الله تعالى مستغفرًا لنفسه ولأخيه، قائلاً: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (151) سورة الأعراف.
(1/196)
واختار موسى سبعين رجلاً من خيرة قومه، وذهب بهم إلى مكان حدده الله-عز وجل-، فلما وصلوا إلى ذلك المكان، فإذا بهم يطلبون أن يروا الله جهرة، فغضب موسى منهم غضبًا شديداً، وأنزل الله عليهم صاعقة دمرتهم، وأخذت أرواحهم. فأخذ موسى يدعو الله ويتضرع إليه أن يرحمهم. {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) }سورة الأعراف .
وشاء الله-عز وجل-ألا يخزي نبيه موسى، فاستجاب له وأحيا أولئك الذين قتلتهم الصاعقة لعلهم يشكرون الله على نعمة إحيائهم من بعد موتهم، ورجع موسى بهم إلى قومه فأخذ التوراة وراح يقرؤها على بني إسرائيل ويشرح لهم ما فيها من مواعظ وأحكام، وأخذ عليهم المواثيق والعهود ليعلموا بما فيها من غير مخالفة، فلما وعدوه أن يلتزموا بما فيها أخذهم وسار في اتجاه الأرض المباركة وهي فلسطين، لكنهم راحوا يتنكرون للتوراة وما جاء فيها من أوامر وأحكام، فأراد الله أن ينتقم منهم، فرفع من الجبل صخرة كبيرة وحركها حتى صارت كأنها سحابة تظلهم، ففزعوا منها، وحسبوا أن الله سيلقيها عليهم، فتوجهوا إلى الله بالاستغاثة والدعاء، وتابوا إلى الله لينقذهم من الهلاك، فصرف الله عنهم تلك الصخرة رحمة منه وفضلاً.
(1/197)
ثم أوحى الله إلى موسى بأنه قد حان الوقت لاستقرار بني إسرائيل، ودخولهم الأرض المقدسة (فلسطين). ففرح موسى بذلك فرحًا شديدًا. ولكن بني إسرائيل جبناء خائفون، حيث إنهم أعلنوا ذلك لموسى فقالوا: { يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (22) سورة المائدة.
وهنا قام رجلان مؤمنان منهم، فقالا لهم: { رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (23) سورة المائدة ، فما كان رد بني إسرائيل إلا أن قالوا: { يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (24) سورة المائدة.
فاشتد غضب موسى على هؤلاء القوم الذين ينسون نعمة الله عليهم، فأخذ يدعو ربه أن يباعد بينه وبين هؤلاء الفاسقين.
فجاءه الجواب من الله عز وجل، قال تعالى: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } (26) سورة المائدة .
وهكذا حكم الله على بني إسرائيل أن يتيهوا في الأرض مدة أربعين سنة؛ نتيجة اعتراضهم على أوامر الله، وعدم امتثالهم لما أمرهم به موسى، وراح بنو إسرائيل يسيرون في الصحراء بلا هدى واستمروا في التيه حتى دخلوا الأرض المقدسة بعد ذلك على يد يوشع بن نون بعد أن جمع شملهم.
--------------
موسى والخضر
(1/198)
في يوم من الأيام خطب موسى-عليه السلام-في بني إسرائيل، ووعظهم موعظة بليغة، فاضت منها العيون، ورقت لها القلوب .. ثم انصرف عائدًا من حيث جاء، فتبعه رجل وسار خلفه حتى إذا اقترب منه، سأله قائلاً: يا رسول الله، هل في الأرض أعلم منك؟ قال: لا. فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم لله-سبحانه-وأوحى إليه أن في مجمع البحرين عبدًا هو أعلم منك، فنهض موسى، وسأل ربه عن علامة يعرفه بها.
فأوحى الله إليه أن يأخذ معه في سفره حوتًا ميتًا، وفي المكان الذي ستعود الحياة فيه إلى الحوت فسيجد العبد الصالح، فأخذ موسى حوتًا ميتًا في وعاء، ثم انطلق لمقابلة العبد الصالح، واصطحب معه في هذه الرحلة يوشع بن نون، وكان غلامًا صغيرًا.
سار موسى مع غلامه سيرًا طويلاً حتى وصلا إلى صخرة كبيرة بجوار البحر، فجلسا يستريحان عندها من أثر السفر، فوضعا رأسيهما وناما، وبعد فترة استيقظ الفتى يوشع بن نون قبل أن يستيقظ موسى، فرأى شيئًا عجيبًا، رأى أن الحوت تحرك ودبت فيه الحياة، ثم سقط الحوت بجوار الشاطئ، وجاء موج البحر فحمله إلى الداخل، فلما استيقظ موسى نسي الفتى أن يخبره بما حدث وأخذا يسيران في طريقهما لمقابلة الرجل الصالح.
ومرت الساعات ومازال موسى وغلامه يسيران بجد ونشاط لمقابلة الرجل الصالح، حتى أحسَّ موسى بالجوع، فطلب من فتاه أن يحضر الحوت منه، فأخبر موسى أنه نسيه هناك عند المكان الذي جلسا فيه ليستريحا من أثر التعب، وقد أحياه الله، ثم قفز وأخذ طريقه في البحر، فأخبره موسى أن هذا هو المكان الذي يريده.
(1/199)
ورجع موسى وغلامه إلى تلك الصخرة التي نسيا عندها الحوت، فوجدا رجلا جالسًا مغطًى بثوب، اسمه الخضر، فأقبل عليه موسى وألقى عليه السلام، فكشف الخضر الغطاء عن وجهه وقال: وهل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى. قال الخضر: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال الخضر: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدًا. فقال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك. يا موسى إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه. وفجأة جاء طائر صغير وشرب من البحر بمنقاره، فقال الخضر لموسى: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر. [البخاري] (1).
ثم أخبر الخضر موسى بأنه لا يتحمل ما سيراه من أمره، فوعده موسى بالصبر، وحسن الطاعة، فطلب منه الخضر ألا يسأله عن شيء حتى يذكره هو له.
فوافق موسى على ذلك، وانطلقا يسيران على شاطئ البحر، فمرت من أمامهما سفينة عظيمة، فكلم الخضر أصحابها، أن يركب هو وموسى معهم، فحملوهما، ولم يأخذا منهما أجراً، لأنهم كانوا يعرفون الخضر جيدًا.
ولما سارت السفينة فوجئ موسى بأن الخضر قد خلع لوحًا من السفينة، فاقترب من الخضر، وقال له: قوم حملونا بغير نول (أجر) عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها. فقال الخضر: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً. فتذكر موسى ما اشترطه عليه الخضر، فاعتذر إليه بأنه قد نسي. فقبل الخضر عذر موسى، ولم يؤاخذه هذه المرة على نسيانه، ولما رست السفينة على الشاطئ نزل موسى والخضر وسارا تجاه القرية، وفي الطريق رأى الخضر غلامًا ظريفًا يلعب مع الغلمان فأقبل عليه وقتله، فلما رأى موسى ذلك أنكر عليه ما فعل، لأنه قتل نفسًا بغير وجه حق. فذكَّره الخضر بأنه لن يستطيع معه صبرًا.
فأحس موسى أنه قد تسرع في الاستفسار عن سبب مقتل هذا الغلام، فاعتذر للخضر، ووعده أنه إن سأله عن شيء بعد ذلك فليفارقه.
__________
(1) - صحيح البخارى (4726)
(1/200)
فقبل الخضر عذر موسى في هذه المرة أيضًا، وسارا في طريقهما حتى بلغ قرية ما، فطلبا من أهلها طعامًا فرفضوا، وبينما هما يسيران، وجدا فيها جدارًا ضعيفًا مائلاً معرضًا للسقوط، فاقترب الخضر منه، وقام بإصلاحه وتقويته، فتحير موسى في أمر هذا العبد الصالح، وتعجب من سلوكه مع أولئك الذين رفضوا أن يطعموهما، وذكر للخضر أنه يستحق أن يأخذ أجرًا على ما فعل.
فأخبره الخضر أنه لابد أن يفارقه، وأخذ يفسر له ما حدث؛ فبين له أن السفينة كانت لمساكين يعملون عليها في نقل الركاب من ساحل إلى ساحل مقابل أجر زهيد، وكان هناك ملك جبار يأخذ كل سفينة صالحة من أهلها ظلمًا وعدوانًا، وأنه أراد أن يعيبها بكسر أحد الألواح حتى لا يأخذها ذلك الطاغية، لأنه لا يأخذ السفن التالفة.
وأن الغلام الذي قتله كان أبواه مؤمنين، وكان هذا الغلام كافرًا، فرأى أن قتله فيه رحمة بأبويه وحفاظًا على إيمانهما حتى لا يتابعانه على دينه، وعسى الله أن يرزقهما غلامًا غيره خيرًا منه دينًا وخلقًا وأكثر منه برًا.
وأن الجدار كان مملوكًا لغلامين يتيمين وكان أبوهما صالحا، وكان تحت الجدار كنز من الذهب، ولو تركه حتى يسقط لظهر هذا الكنز، ولم يستطع الغلامان لضعفهما أن يحافظا عليه، لذلك أصلح الجدار لهما حتى يكبرا ويأخذا كنزهما بسبب صلاح أبيهما ، فإن صلاح الآباء تصل بركته إلى الأبناء.(1)
--------------
قصة بقرة بني إسرائيل
__________
(1) - الحديث بطوله في صحيح البخارى ( 4726 )
(1/201)
إن السمات الرئيسية لطبيعة بني إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه:انقطاع الصلة بين قلوبهم , وذلك النبع الشفيف الرقراق:نبع الإيمان بالغيب , والثقة بالله , والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل . ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف , وتلمس الحجج والمعاذير , والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان !لقد قال لهم نبيهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . . وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي للاستجابة والتنفيذ . فنبيهم هو زعيمهم الذي أنقذهم من العذاب المهين , برحمة من الله ورعاية وتعليم ; وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره وليس رأيه , إنما هو أمر الله , الذي يسير بهم على هداه . . فماذا كان الجواب ? لقد كان جوابهم سفاهة وسوء أدب , واتهاما لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم ! كأنما يجوز لإنسان يعرف الله -فضلا على أن يكون رسول الله - أن يتخذ اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس:
(قالوا:أتتخذنا هزوا ?) .
وكان رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله ; وأن يردهم برفق , وعن طريق التعريض والتلميح , إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه ; وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بجاهل بقدر الله , لا يعرف ذلك الأدب ولا يتوخاه:(قال:أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . .
(1/202)
وكان في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم , ويرجعوا إلى ربهم , وينفذوا أمر نبيهم . . ولكنها إسرائيل ! نعم . لقد كان في وسعهم - وهم في سعة من الأمر - أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها , فإذا هم مطيعون لأمر الله , منفذون لإشارة رسوله . ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم , فإذا هم يسألون: (قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ?) . . والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئا فيما أنهى إليهم ! فهم أولا:يقولون: (ادع لنا ربك) . . فكانما هو ربه وحده لا ربهم كذلك ! وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه ! وهم ثانيا:يطلبون منه أن يدعو ربه ليبين لهم: (ما هي ?) والسؤال عن الماهية في هذا المقام - وإن كان المقصود الصفة - إنكار واستهزاء . . ما هي ? إنها بقرة . وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة ولا سمة . بقرة وكفى !
هنا كذلك يردهم موسى إلى الجادة , بأن يسلك في الإجابة طريقا غير طريق السؤال . إنه لا يجبههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي . . إنما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين . يجيبهم عن صفة البقرة:قال:إنها بقرة لا فارض ولا بكر , عوان بين ذلك . .
إنها بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة , وسط بين هذا وذاك . ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة آمرة حازمة:(فافعلوا ما تؤمرون) . .
ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية ; وكان حسبهم وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين , ولمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي . أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم , لا عجوز ولا صغيرة , متوسطة السن , فيخلصوا بها ذمتهم , وينفذوا بذبحها أمر ربهم , ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق . . ولكن إسرائيل هي إسرائيل !
لقد راحوا يسألون:(قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ?) . .
(1/203)
هكذا مرة أخرى: (ادع لنا ربك) ! ولم يكن بد - وقد شققوا الموضوع وطلبوا التفصيل - أن يأتيهم الجواب بالتفصيل:(قال:إنه يقول , إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) . .
وهكذا ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار - وكانوا من الأمر في سعة - فأصبحوا مكلفين أن يبحثوا لا عن بقرة . . مجرد بقرة . . بل عن بقرة متوسطة السن , لا عجوز ولا صغيرة , وهي بعد هذا صفراء فاقع لونها ; وهي بعد هذا وذلك ليست هزيلة ولا شوهاء: (تسر الناظرين) . . وسرور الناظرين لا يتم إلا أن تقع أبصارهم على فراهة وحيوية ونشاط والتماع في تلك البقرة المطلوبة ; فهذا هو الشائع في طباع الناس:أن يعجبوا بالحيوية والاستواء ويسروا , وأن ينفروا من الهزال والتشويه ويشمئزوا .
ولقد كان فيما تلكأوا كفاية , ولكنهم يمضون في طريقهم , يعقدون الأمور , ويشددون على أنفسهم , فيشدد الله عليهم . لقد عادوا مرة أخرى يسألون من الماهية:(قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) . .
ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل:(إن البقر تشابه علينا) . .
وكأنما استشعروا لحاجتهم هذه المرة . فهم يقولون:(وإنا إن شاء الله لمهتدون) . .
ولم يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيدا , وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصرا وضيقا , بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة , كانوا في سعة منها وفي غنى عنها: (قال:إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث , مسلمة لا شية فيها) . .
وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر . صفراء فاقع لونها فارهة فحسب . بل لم يعد بد أن تكون - مع هذا - بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع ; وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة .
هنا فقط . . وبعد أن تعقد الأمر , وتضاعفت الشروط , وضاق مجال الاختيار: (قالوا:الآن جئت بالحق) . .
(1/204)
الآن ! كأنما كان كل ما مضى ليس حقا . أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة ! (فذبحوها وما كادوا يفعلون) !!
عندئذ - وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف - كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف:
(وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها , والله مخرج ما كنتم تكتمون , فقلنا:اضربوه ببعضها . كذلك يحيي الله الموتى , ويريكم آياته لعلكم تعقلون) . .
وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة . جانب دلالتها على قدرة الخالق , وحقيقة البعث , وطبيعة الموت والحياة . وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة:
لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة . . لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ; ثم جعل كل فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه . ولم يكن هناك شاهد ; فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته ; وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه , وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح . . وهكذا كان , فعادت إليه الحياة , ليخبر بنفسه عن قاتله , وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله ; وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين .
ولكن . فيم كانت هذه الوسيلة , والله قادر على أن يحيي الموتى بلا وسيلة ? ثم ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث ?
إن البقر يذبح قربانا كما كانت عادة بني إسرائيل . . وبضعة من جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل . وما في هذه البضعة حياة ولا قدرة على الأحياء . . إنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله , التي لا يعرف البشر كيف تعمل . فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و: (كذلك يحيي الله الموتى) . . كذلك بمثل هذا الذي ترونه واقعا ولا تدرون كيف وقع ; وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر .
(1/205)
إن المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس . ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير . . كيف ? . . هذا ما لا أحد يدريه . وما لا يمكن لأحد إدراكه . . إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية , لا سبيل إليه في عالم الفانين ! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها: (ويريكم آياته لعلكم تعقلون) . .
قال تعالى :{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) [البقرة/67-73] }.
----------------
قصة قارون مع موسى
(1/206)
فتح الله عليه أبواب النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء. طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية. فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة. فمن هو هذا الغني، ومن يكون ذلك الثري، وما هي قصته، وكيف كانت نهايته؟!!
استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية: قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (76) سورة القصص.
بدأت القصة بتحديد البطل؛ فبطل القصة: قارون، وحددت قومه من قوم موسى، ويقال ابن عم موسى عليه السلام، وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.
فقارون موجود في زمن نبي من أنبياء الله وهو موسى عليه السلام، وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.
والأمر الثاني: الإشارة إلى أن قرابته لموسى، وصلته به، لم تغن عنه شيئاً من عذاب الله تعالى.
(1/207)
فبغى عليهم فلم يحدد نوع ذلك البغي، وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه. بغى عليهم بالكبر، بغى عليهم باغتصاب أموالهم، بغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، بغى عليهم بالظلم بغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.
وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، آتيناه فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون، ولا بعلمه، ولا بأفضليته، فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.
هو الرزق لا حل لديك ولا ربط ... ولا قلم يجدي عليك ولا خط
فطير يطوف الأرض شرقاً ومغرباً ... وآخر يعطى الطيبات ولا يخطو
يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تحمل على ستين بغلاً أغرّ محجلاً.
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة، رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، بغى على قومه.
(1/208)
المشهد الثاني: مشهد أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ، وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، وللزوجة حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه(1). ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقاً لسعادته في الآخرة. وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وعظ بها قارون، فقال تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص .
فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟
أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ..} (78) سورة القصص.
__________
(1) - قالَ سَلْمَانُ لأبي الدرداءَ : إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ . فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « صَدَقَ سَلْمَانُ » . صحيح البخارى (1968 )
(1/209)
أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافياً في رده، جريئاً في مقولته؛ مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر.
ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية، ونهاية القصة، فقال تعالى: {.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (78) سورة القصص .
كانت المشاهد الأولى تحكي البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي عن العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء بعد ذلك مشهد من مشاهد القصة، وهو المشهد الذي يخرج فيه قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة، وغاية الكبر، ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم، وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية، وأفكار دنيوية.
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (79) سورة القصص. وهنا يتدخل أهل العلم والحكمة مرة أخرى، ويتأنقون في النصيحة، ويجتهدون في الموعظة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (80) سورة القصص.
(1/210)
فذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فيجب أن يكونوا أعلى نفساً، وأكبر قلباً، ولا يلقاها إلا الصابرون، الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا، لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.
ثم يجيء المشهد المرعب في القصة، مشهد الخاتمة المشينة، والمصرع الوخيم، والانتقام العظيم {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (81) سورة القصص. فابتلعته وابتعلت داره , وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا , لا ينصره أحد , ولا ينتصر بجاه أو مال .وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس .
هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة، واشتدت المحنة. هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِى بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا أَمْرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ وَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »(1).
__________
(1) - مسند أحمد (11666) صحيح لغيره -يتجلجل : يتحرك مع جلبة فى حركته
(1/211)
وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، قال تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (82) سورة القصص.
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس , ولم يؤتهم ما آتى قارون . وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة . وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله . فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب . ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف . إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء . وعلموا أن الكافرين لا يفلحون . وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال , ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين , ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين .
ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها، وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (83) سورة القصص.(1)
__________
(1) - انظر موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1080)قصة قارون
(1/212)
تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم . العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية . تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق . تلك الدار الآخرة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) . . فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ; ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها . إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله , ومنهجه في الحياة . أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا . ولا يبغون فيها كذلك فسادا . أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة . تلك الدار العالية السامية .
(والعاقبة للمتقين) الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه .
وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه . الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها . والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (84) سورة القصص
--------------
بعض الدروس المستفادة من القصة:
1- أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئاً. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ »(1).
2- أن الرزق هو من عند الله تعالى فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.
أما ترى البحر والصياد منتصبٌ ... لرزقه ونجوم الليل محتبكه
قد غاص في لُجة والموج يلطمه ... ... وعينه لم تزل في كلكل الشبكة
حتى إذا بات مسروراً بليلته ... ... بالحوت قد شق سفّود الردى حنكه
شراه منه الذي قد بات ليلته ... ... خِلْواً من البرد في خير من البركة
سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا ... ... هذا يصيد وهذا يأكل السمكة
__________
(1) - صحيح مسلم (7028 )
(1/213)
3- عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.
يقول أحد المتكبرين:
أتيه على جن البلاد وإنسها ... ... فلو لم أجد خلقاً لتهت على نفسي
أتيه فما أدري من التيه من أنا ... ... سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي
4- مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.
5- وفي قوله تعالى :(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة , ولا تنس نصيبك من الدنيا) . يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم . المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا , كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها .
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ; وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها , فتنمو الحياة وتتجدد , وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض . ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة , فلا ينحرفون عن طريقها , ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم , وتقبل لعطاياه , وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان , ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة , التي لا حرمان فيها , ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .
(وأحسن كما أحسن الله إليك) . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف , والإحسان به إلى الخلق , وإحسان الشعور بالنعمة , وإحسان الشكران .
6- من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك , غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح , غير حاسب لله حسابا , ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !
(1/214)
والإسلام يعترف بالملكية الفردية , ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ; ولا يهوِّن من شأن الجهد الفردي أو يلغيه . ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل , لا يحرم الفرد ثمرة جهده , ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ; ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال , ورقابتها على طرق تحصيله , وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .
7- في كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب , وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا , ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ? ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى , كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع , غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه , ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه , ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
8- المتصلون بالله لهم ميزان آخر يقيم الحياة , وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفسا , وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد . وهؤلاء هم (الذين أوتوا العلم) . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (80) سورة القصص
(1/215)
ثواب الله خير من هذه الزينة , وما عند الله خير مما عند قارون. والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون. . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون. وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة. درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض , والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.
9 - أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله. فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟!
10 - يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.
11 - أن الصبر سبب للخير والفلاح، والتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.
12 - أن العاقبة للمتقين، والفوز للصالحين، والآخرة للمؤمنين المجتهدين المتواضعين.
- - - - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
إلياس (عليه السلام)
في منطقة تسمى بعلبك (موجودة حاليًا في لبنان) كان يعيش مجموعة من بني إسرائيل، أغواهم الشيطان فانحرفوا عن منهج الله، يُقَالُ إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ نَبِيٌّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ عَبَدُوا الصَّنَمَ (بَعْلاً)، فَدَعَاهُمْ نَبِيُّهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.
فَحَذَّرَ قَوْمَهُ بَأْسَ اللهِ، وَقَالَ لَهُمْ: أَلاَ تَخَافُونَ اللهَ فَتَمْتَثِلُوا لأَوَامِرِهِ، وَتَتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؟
وَاللهُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ الآبَاءِ السَّالِفِينَ فَهُوَ الحَقِيقُ بِالعِبَادَةِ.
(1/216)
فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ ضَرُورَةِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَسَيَكُونُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ فِي العَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.إِلاَّ الذِين عَبَدُوا اللهَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ، فَهَؤُلاَءِ لاَ يَعذِّبُهُمْ اللهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
وَجَعَلَ اللهُ ذِكْراً حَسَناً بَيْنَ النَّاسِ تَتَنَاقَلُهُ الأَجْيَالُ، وَجَعَلَهُ مُحَبَّباً إِلى النَّاسِ جَمِيعاً.
سَلاَمٌ مِنَ اللهِ عَلَى إِلْيَاسَ (وَإِلْ يَاسِينَ لُغَةٌ فِي إِلْيَاسَ).وَمِثْلُ هَذَا الجَزَاءِ الحَسَنِ الذِي جَازَى اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ إِلْيَاسَ، يُجَازِي عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ المُحْسِنِينَ.
وَإِنَّ إِلْيَاسَ مِنْ عِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ.
قال تعالى مبينا قصته: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) [الصافات: 123 - 132].
وقد مدح الله -سبحانه- إلياس -عليه السلام- وأثنى عليه ثناءً جميلاً، وذلك لأنه أخلص في العبادة، وأحسن في عمله، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} (85) سورة الأنعام.
- - - - - - - - - - - - - - - -
اليسع (عليه السلام)
(1/217)
نبي من أنبياء الله، ذكره الله في كتابه العزيز مرتين، وأثنى عليه، ولم يشر القرآن الكريم إلى قصة اليسع ولا إلى قومه، وروي أنه أرسل إلى بني إسرائيل بعد إلياس -عليه السلام- ومكث بينهم فترة يدعوهم إلى الله مستمسكًا بمنهاج إلياس وشريعته حتى توفاه الله -تعالى- وبعد وفاة اليسع -عليه السلام- كثرت ذنوب بني إسرائيل، وازدادت معاصيهم، وقتلوا من جاءهم من الأنبياء بعد ذلك فسلط الله عليهم ملوكًا جبارين يحكمونهم، وسلط الله عليهم الأعداء.
وقد بين الله -سبحانه- لنا فضل اليسع -عليه السلام- عندما ذكره مع إخوانه الأنبياء -صلوات الله عليهم- فقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام/85 - 90]
(1/218)
أي وَهَدَى اللهُ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ أَيْضاً : زَكَرِيّا وَابْنَهُ يَحْيِى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَإِلْيَاسَ ، وَقَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ جَمِيعاً مِنَ الصَّالِحِينَ . وَكَانَتْ لِهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ مِيزَةُ الزُّهْدِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَلَذَّاتِها ، وَزِينَتِهَا ، لِذَلِكَ خَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ .
وَمِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ ، مِمَّنْ هَدَاهُمُ اللهُ ، يَذْكُرُ تَعَالَى : إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ ، وَاليَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوْطاً فَهَدَاهُمْ ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّة ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُهْتَدِينَ ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى العَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ .
وَهَدَى اللهُ بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ - لاَ كُلّهُمْ إذْ إِنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ الأَقْرَبِينَ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدِي أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، كَآزَرَ أَبِي إِبْرَاهِيم ، وَابْنِ نُوحٍ وَزَوْجَةِ لُوطٍ - . وَيَقُولُ تَعَالَى إنَّهُ اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَهَدَاهُمُ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ .
وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ أَحَداً ، لَهَلَكَ عَمَلُهُمْ ، وَلَضَاعَ أَجْرُ أَعَمْالِ الخَيْرِ التِي عَمَلُوهَا ، ( وَهَذا تَشْدِيدٌ لأَمْرِ الشِّرْكِ ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ ) .
(1/219)
أُولَئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ، بِأنْ آتَاهُمُ الكِتَابَ (صُحُفَ إِبْرَاهِيم، وَتَوْرَاةِ مُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى) كَمَا آتَاهُمُ العِلْمَ وَالفِقْهَ فِي الدِّينِ (الحُكْمَ)، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّةَ لِيَهْدُوا النَّاسَ إلى اللهِ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ، وَلَطْفٌ مِنْهٌ بِخَلْقِهِ، فَإنْ يَكْفُرْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ فِي الأَرْضِ مِنَ البَشَرِ (هَؤلاءِ) بِالكِتَابِ وَالحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِرِعَايَتِهَا قَوماً مُؤْمِنِينَ، لاَ يَجْحَدُونَ مِنْهَا شَيْئاً، وَلاَ يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفاً. (وَهُمُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَاُر وَالمُؤْمِنُونَ - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا المَقْطَعِ مِنَ الآيَةِ).
وَهَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، الذِينَ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَالذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ آتَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، هُمُ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ هِدَايَةً كَامِلَةً، فَاهْتَدِ، يَا مُحَمَّدُ، بِهُدَاهُمْ، وَاقْتَدِ بِهِمْ، فِي الأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ، وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ، وَالعَفْوِ عَنْهُم، وَقُلْ لِقَوْمِكَ إنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً عَلَى إِبْلاغِ رِسَالَةِ رَبِّي إلَيْكُمْ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيَّ مِنَ القُرْآنِ، فَهَذَا القُرْآنُ هُوَ تَذْكِيرٌ (ذِكْرَى) لِلْعَالَمِينَ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ فَيَرْشُدُونَ مِنَ الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلَةِ.
ولقد أثنى الله على اليسع -عليه السلام- فقال: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ} (48) سورة ص.
(1/220)
أي وَاذْكُر أَنْبِيَاءَ اللهِ إِسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَ الكِفْلِ الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُصْطَفَيْن الأَخْيَارِ وَتَأَمَّلْ صَبْرَهُمْ، وَرَحْمَةَ اللهِ بِهِمْ.
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
داود (عليه السلام)
لقد ذكر الله لنا في القرآن قصصاً كثيرة، وهذه القصص جاءت متنوعة متكررة، بل ربما تكررت القصة الواحدة عشرات المرّات في عشرات السور، بعضها بشكل إجمالي وبعضه تفصيلي.
والقصص لم ترد في القرآن إلا لتدبرها والوقوف عندها، وكثير منها يعالج ما يستجد في حياة الناس من قضايا وأحداث، وهذا بعض معجزات القرآن. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ [ص:29]، قال الله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
إن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي ورائدها الناصح وإنه هو مدرستها التي تتلقى فيه دروس حياتها وتستمع فيه إلى الإرشادات والتوجيهات.
إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى، ولا مجرد آيات تُحفظ وتردد، أو تعاويذ يتبرك بها، بل هو دستور شامل، دستور للتربية كما أنه دستور للحياة العملية، بل هو منهج الحياة، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة حية، على أهل الإسلام الذين يربيهم المولى جل وعلا بالأحداث والأقدار، فيُهرعون إلى القرآن فيجدونه غضاً طرياً كأنما أنزل البارحة في أحداثهم وشؤونهم، يقدم القرآن الزاد لأمة الإسلام في جميع أجيالها: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:2، 3].
(1/221)
ولهذا تتنوع القصص في كتاب الله ويكثر ضرب الأمثال للقياس والاعتبار كما قال سبحانه في إجلاء بني النضير فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الأَبْصَارِ [الحشر:2].
ولهذا المعنى تجد في سرد القصص القرآني متعة إيمانية وحقائقَ وجودية تتكرر في الأمم والأجيال ما وجدت نفس تتحرك.
ومن أكثر القصص وروداً في القرآن قصص بني إسرائيل، ومن أهم أسباب ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه الأمة ستمرُّ في بعض أجيالها بالأدوار التي مر بها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف مشابهة بمواقف بني إسرائيل، فلهذا عرض الله عليها مزالق الطريق مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة، ولترى صورتها في تلك المرآة المرفوعة في آيات القرآن، فتتجنب المزالق والنكبات.
ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأَه لنتلمس عنده توجيهات حياتنا المعاصرة في يومنا وغدنا، كما كان الصحابة الكرام تتلقاه، وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد، وسنجد فيه عجائب لا تخطر على بال، سنجد كلماتِه وعباراتِه وتوجيهاته وقصصه حية نابضة، تنبض وتتحرك وتشير إلى طريق الخلاص والنجاة، وتقول لنا: هذا فافعلوه، وهذا لا تفعلوه، وتقول لنا: هذا عدو، وهذا صديق، وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة، وكذا فاتخذوا من العدة، وتقول لنا حديثاً طويلاً مفصلاً دقيقاً في كل ما يعرض لنا من الشؤون، وسنجد عندئذ في القرآن متاعاً وحياة، وعندها سندرك معنى قول الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فهي دعوة للحياة الدائمة المتجددة تحت ظلال آيات القرآن، لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.
(1/222)
ومن قصص القرآن ما قصه الله علينا في حادثة جرت لبني إسرائيل بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام، بعدما ضاع ملكهم ونهبت مقدساتهم وذَلوا لأعدائهم، وذاقوا الويلات منهم بسبب ترك الوحي والتوراة، ثم انتفضت نفوسهم، انتفضت فيها العقيدة والإيمان، واشتاقوا للقتال في سبيل الله، وعلموا أنه لا عز لهم إلا بالجهاد في سبيله، فقالوا لنبيٍ لهم: {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]}.
لقد اجتمع ملأٌ من بني إسرائيل من أهل الرأي والمشورة فقالوا لأحد أنبيائهم: عيّن لنا ملكاً نقاتل تحت رايته في سبيل الله، لا في سبيل غيره، وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في سبيل الله، فيه إشارة إلى انتفاضة العقيدة في قلوبهم ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وحق، وأن عدوهم على ضلال وكفر وباطل.
إن هذا الوضوح في انتفاضة العقيدة هو نصف الطريق إلى النصر، فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل، وأنه مسلم، وعدوُه كافر، ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف، وهو في سبيل الله، فلا يغشاه غبش أو ظلمة لا يدري معها أين يسير؟!
(1/223)
واستوثق منهم نبيهم، وهو يعلم حال أمته من خُلف الوعد ونقض العهد ونكث المواثيق فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ فأنتم في سعة الآن، فأما إذا استجبتم فتقرر القتال، فتلك فريضة مكتوبة، ولا يمكن أن ننكل عنها كلمة تليق بنبي صادق يخبر عن كوامن النفوس وضعفها، وههنا تُستثار الحماسة في نفوسهم فيقولون: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا.
فالأمر واضح عندهم، أعداؤهم أعداء الله، وقد أخرجوهم من ديارهم وسبَوا أبناءهم، ولكن هذه الحماسة لم تدم، فها هو القرآن يقول: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ تذهب الحماسات التي انتفخت في ساعات الرخاء، وليست هذه سِمَة خاصة ببني إسرائيل وحدهم، بل هي سِمَة لكل جماعة أو طائفة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة وصفة بشرية عامة لا يغيرها إلاّ التربية الإيمانية العميقة، ولهذا عقب الله على فعلهم بقوله:{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }وهو يشير بشيء من الإنكار ووصم الكثرة الكاثرة بالظلم، فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي طالما تغنت به فخذلته، وهي تعرف أنه الحق وتخلت عنه للمبطلين. وكم من الناس في دنيا الناس اليوم من يعرف الحق، لكنه يخذله ولا ينصره {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
(1/224)
ثم يمضي السياق القرآني ليغور في النفس الإسرائيلية، ويقدم لنا تجارب حية نلمسها في حياتنا اليومية، وذلك بعد أن بين اختيار النبي لطالوت ملكاً عليهم، فأنكروا ذلك، وهم الذين طلبوا تعيينه ثم بيّن النبي لهم أن الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم، فهو وحي من الله ولا بد من التسليم له، ثم أخبرهم عن آية ملكه وشرعيته بمجيء التابوت{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة:247، 248]}.
(1/225)
وينتقل بنا السياق القرآني إلى أهم أحداث هذه القصة فيقول:{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ [البقرة:249]}، ويتجلى في هذا المقطع مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل "طالوت" إنه مُقدِمٌ على معركة، ومعه جيش من أمة مغلوبة عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه جيش أمة قوية كثيرة العدد مدججة السلاح، فلا بد إذن من قوة كامنة يضيفها لأتباعه تقف بها أمام القوة الظاهرة الغالبة، وأدرك أن هذه القوة لا تكون إلا في الإرادة، الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات، الإرادة التي تصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، الإرادة التي تُؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، مهما كان ثمنها، فتجتاز بإرادتها الابتلاء بعد الابتلاء.
ولهذا أراد طالوت أن يختبر الأتباع والجنود فقال:{ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } وصحت فراسة طالوت في أتباعه المتحمسين ويأتي الجواب بشربهم من النهر{ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ }فئة تُقاتل عدوها تُبتلى بالعطش! ومن يأمرها به؟ الله من فوق سبع سماوات! أيّ تربية هذه؟ ما الغاية؟ وما الهدف؟
لقد سقط الضِّعاف في الاختبار وتمحّص الصف، وتخلف المتخلفون بعصيانهم{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]}.
(1/226)
كان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن طالوت وأتباعه ،لأنهم بِذرة ضعف وخذلان وهزيمة، الجيوش ليست بالعدد الضخم ولا بالقوة المادية ولا بعابرات القارات ولا بالقنابل العنقودية والانشطارية، ولكن بالقلب الصامد والإرادة الجازمة وقبله الإيمان الثابت.
وكان ذلك النهر هو النهر الذي يفصل بين الأردن وفلسطين، قال السُّدي رحمه الله: كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب من النهر ستة وسبعون ألفاً، وتبقى مع طالوت أربعة آلاف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من اغترف غرفة بيده رَوَى، ومن شرب منه لم يروَ).
والثابت في صحيح البخارى (3958 ) عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَمِائَةٍ ".
وهل انتهت الغربلة عند هذا الحد؟ لم تنتهِ التجارب بعد ذلك لأن النفس البشرية لا يمكن التنبؤ بمفاجآتها:{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ [البقرة:249]}.
(1/227)
لم يكونوا يستشعرون أنهم قلة، فلما رأَوا الواقع رأَوا أنهم أضعف من مقاومته لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ إنهم مؤمنون لم ينكِصوا عن عهدهم مع نبيهم ولا ملكهم، ولكنهم أمام أعداد ضخمة وأسلحة متنوعة، وفي مثل هذه الحال لا يصمد إلاّ من كانت له موازين غير موازين الدنيا، برزت في هذه اللحظة الصعبة فئة قليلة من ثلاثمائة وبضعة عشر، صَفوة الصَّفوة ونخبة النخبة، برزت ههنا فئة مؤمنة متصلة بالموازين الربانية، فتكلموا من واقع إيمانهم وثقتهم بالله، أمام الجيوش الكبيرة والأعداد الغفيرة والأسلحة الثقيلة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
وتأمل اللفظ كَم مّن فِئَةٍ صيغة تكثير، وهذا يدل على أن من بين الثلاثمائة وبضعة عشر قوم استقرؤوا أحوال الأنبياء والرسل من قبلهم، واستحضروا نصر الله لهم في أصعب اللحظات:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]}، وقال سبحانه في الآية الأخرى:{ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]}.
(1/228)
إن المؤمن المتجرد من موازين الدنيا، والمتعلق بالموازين الربانية، يدرك قاعدة عظيمة من قواعد السنن الربانية، هذه القاعدة تقول: إن المنصورين قلة، وعادة ما يوصفون بأنهم فئة أو شرذمة، وقد قال هذا فرعون من قبل في موسى وأتباعه: {إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:54-56]}، هذه الفئة المؤمنة إذا ثبتت على إيمانها، رَقَت الدَّرج الشاق وصعِدت السلم الطويل، حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، لأنها اتصلت بالله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين، وقاهر المتكبرين، وهي في كل ذلك تكِل النصر إلى الله فتقول:{ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]}، ويعللون نصرهم بعلته الحقيقية وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فلولا صبرهم لما انتصروا.
ونمضي مع القصة لنرى فيها مزيداً من العبر والدروس، نشاهد فيها أن الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، لم تزلزلها كثرة العدد، ولا قوته مع ضعفها وقلتها، بل في مثل هذه اللحظات هي التي تحدد وتقرر مصير المعركة، بعد أن تجردت لربها، وأخلصت له، وانقطعت عن الخلق، واتصلت بالخالق، واستغنت عن جميع الناس، هنا يقول الله تعالى عنهم:{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:250، 251]}، فبرزوا وظهروا للعيان أمام الأعداء وقالوا:{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]}.
(1/229)
إيمان أمام كفر، وحق أمام باطل، وتَمَنٍّ للشهادةِ والموت أمام حِرْص على الحياة، ماذا تكون النتيجة؟ {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} ويُعلّمَ القرآن المؤمنين أن النصر على الأعداء بإذن الله لا بإذن غيره، ليتضح التصور الكامل للوجود، ولما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تحركه.
إن المؤمنين ستار رقيق لقدرة الله، يفعل الله بهم ما يريد، ويُنفّذ بهم ما يختار بإذنه، ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه، وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين، إنه عبد الله، اختاره الله لدوره، وهذه مِنَّة من الله وفضل، وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قَدَر الله النافذ، ثم يكرمه الله بعد كرامة الاختيار بفضل الثواب ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أُثيب.
ويستيقن المؤمن وهو يقاتل أعداء الله نبل الغاية، وطهارة القصد، ونظافة الطريق، فليس له في شيء من هذا كله مصلحة ذاتية، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة، قائم بما يريد، استحق هذا كله بالنية الطيبة، والعزم على الطاعة، والتوجه إلى الله في خلوص.
ويبرز في السياق داود عليه السلام فيقول الله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة:251]}، كان داود فتى صغيراً من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مهيباً، ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك، أن الأمور لا تجري بظواهرها إنما تجري بحقائقِها، وحقائقُها لا يعلمها إلاّ هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده، وقد أراد الله أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم الظالم على يد هذا الفتى الصغير داود، ليريَ الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم إنما هم ضعاف، يغلبهم الفتية الصغار، حين يشاء الله أن يقتلهم.
(1/230)
ومن الحكم البليغة في هذه القصة: أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، وكانت بدايات التمكين هي تلك الانتفاضة، انتفاضة العقيدة والايمان في نفوسهم، بعد الضلال والانتكاس والشرود.
وتصل بنا القصة إلى هذه الخاتمة، ويعلَن النصر الأخير للعقيدة الواثقة، لا للقوة المادية وللإرادة المستعلية، لا للكثرة العددية، حينئذ تأتي الآيات القرآنية مُعلنةً عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى، إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات، إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]}.
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث والأسماء، لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض، من اصطراع القوى وتنافس الطاقات، وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموَّار، وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف، تموج بالناس في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات، ومن ورائها جميعاً قدرة الله تعالى، تقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف.
وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء، يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة، تعرف الحق الذي بينه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله، إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وأن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله، وابتغاءً لرضاه، وهنا يُمضي الله أمره وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
(1/231)
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله، لا بد وأن تَغْلِبَ في النهاية وتنتصر، لأنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. قال الله تعالى:{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]}، وقال سبحانه: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت:18]}، وقال عز وجل:{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]}، وقال تعالى:{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]}(1)..
وجمع الله لداود الملك والنبوة، فكان ملكًا نبيًّا، وأنزل عليه الزبور، وهو كتاب مقدس فيه كثير من المواعظ والحكم، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (163) سورة النساء .
وأعطى الله لداود صوتًا جميلاً لم يعطه لأحد من قبله، فكان إذا قرأ كتابه الزبور، وسبح الله، وقف الطير في الهواء يسبح الله معه، وينصت لما يقرؤه وكذلك الجبال فإنها كانت تسبح معه في الصباح والمساء، قال تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) } [ص:18-20] .
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3093)وقتل داود جالوت بتصرف واختصار
(1/232)
وأيد الله داود بمعجزات كثيرة دالة على نبوته، فألان له الحديد، حتى يسهل عليه صنع الدروع والمحاريب التي تستخدم في الحروب والقتال قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} سورة سبأ.
وقال تعالى في قصة اختبار وامتحان النبي داود عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص/21 - 26]
(1/233)
أي وَهَلْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ ذَلِكَ النَّبَإِ العَجِيبِ ، نَبَأ الخُصُومِ الذِينَ تَسَلَّقُوا سُورَ الغُرْفَةِ التِي كَانَ دَاوُدُ يَتَعَبَّدُ رَبَّهُ فِيهَا ( المِحْرَابَ ) ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ السُّورِ ، لاَ مِنَ البَابِ ، وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ؟
وَقَدْ دَخَلَ الخَصْمَانِ عَلَى دَاوُدَ وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجَ هُوَ إِلَى النَّاسِ ، فَخَافَ هُوَ مِنَ الدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ بِالتَّسَوُّرِ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ بِالتَّسَوُّرِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ شَرّاً ، فَطَمْأَنَهُ الخَصْمَانِ ، وَقَالاَ لَهُ إِنَّهُمَا خَصْمَانِ تَجَاوَزَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ ، وَقَدْ جَاءَا إِلَيْهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالحَقِّ والعَدْلِ ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَجُورَ فِي حُكْمِهِ ، وَأَنْ يَهْدِيَهُمَا إِلَى الحُكْمِ السَّوِيِّ العَادِلِ .
وَقَالَ أَحَدُ الخَصْمَينِ لِدَاوُدَ : إِنَّهُ يَمْلِكُ شَاةً وَاحِدَةً وَإِنَّ صَاحِبَهُ يَمْلِكُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ شَاةً ( نَعْجَةً ) ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ مَالِكُ النِّعَاجِ الكَثِيرَةِ : أَعْطِنِي نَعْجَتَكَ لأَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِي ، وَأْكْفُلَهَا لَكَ ، وَغَلَبَنِي فِي المُحَاجَّةِ ، لأَنَّهُ جَاءَ بِحُجَجٍ - لَمْ أَسْتَطِعْ لَهَا دَفْعاً .
(1/234)
فَقَالَ دَاوُدُ لِلْمُتَكَلِّمِ مِنَ الخَصْمَين : إِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ ظَلَمَكَ وَجَارَ عَلَيْكَ إِذْ طَلَبَ مِنْكَ نَعْجَتَكَ الوَحِيدَةَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ . وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الذِينَ يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَجورُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَثْنَاءَ التَعَامُلِ ، إِلاَّ المُتَقَّينَ الصَّالِحِينَ ، فَهؤُلاَءِ يُرَاقِبُونَ الله وَيَخْشَوْنَهُ ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الظُّلْمِ والجَورِ وَلكِنَّ هَؤُلاَءِ قَلِيلُونَ .
وَلَمَّا تَوَارَى الخَصْمَانِ أَدْرَكَ دَاوُدُ أَنَّ اللهَ أَرَادَ اخْتِبَارَهُ وَفِتْنَتَهُ ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ، وَخَرَّ سَاجِداً تَائِباً .
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ، وَغَفَرَ لَهُ ، وَسَتَكُونُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ قُرْبَةٌ يُقَرِّبُهُ اللهُ بِهَا ، وَسَيَكُونُ لَهُ حُسْنُ مَرْجِعٍ ، لِتَوْبَتِهِ وَعَدْلِهِ التَّامِ فِي مُلْكِهِ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِدَاوُدَ : إِنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ، نَافِذَ الكَلِمَةِ والحُكْمِ بَينَ الرَّعِيَّةِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ ، وَأَنْ لاَ يَتَّبعَ الهَوَى لأَنَّ اتِّبَاعَ الهَوَى يَكُونُ سَبَباً لِلضَّلاَلَةِ وَالجَوْرِ عَنِ الطَّرِيقِ القَويمِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى .
ثَمَّ يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُدَاهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ( يَوْمَ الحِسَابِ ) عَذَابٌ شَدِيدٌ لِنِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ اليَومَ ، وَإِنَّ الله سَيُحَاسِبُ العِبَادَ فِيهِ عَلَى أَعَمَالِهِمْ جَمِيعاً ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا .
وكان داود يتقرب إلى الله بالذكر والدعاء والصلاة، لذلك مدحه الله بقوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص،
(1/235)
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ والأَنْبِيَاء قَبْلَهُ كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ، وَاسْتَهْزَأَتْ بِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ لَهُمْ وَعْدَهُ بِأَنَّ النَّصْرَ والغَلَبَةَ سَتْكُونُ لَهُمْ، وَأَنَّ الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ سَيَكُونُونَ هُمُ المَخْذُوِلِينَ الخَاسِرِينَ.
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّداً بالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الكَفَرَةُ الطُّغَاةُ مِنْ قَوْمِهِ الذِين قَالُوا عَنْهُ مَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً مَجْنُونٌ، وَمَرَّةً كَذَابٌ. . وَقَالُوا عَنْهُ سَاخِرِينَ: أَأُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ دُونِنَا.
وَيُذَكِّرُ اللهُ رَسُولَهُ بِقِصَّةِ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الذِي حَبَاهُ اللهُ بالقُوَّةِ والسُّلْطَانِ (ذَا الأَيْدِ)، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ أَوَّاباً كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى رَبِّهِ، طَائِعاً تَائِباً َذَاكِراً، وَكَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً، وَكَانَ يَقُومُ ثُلُثَ الليلِ مُتَعَبِّداً رَبَّهُ. (1)
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِى يُبَلِّغُنِى حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى وَأَهْلِى وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ». قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ قَالَ «كَانَ أَعْبَدَ الْبَشَرِ» .. [الترمذي] (2).
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 3866)
(2) - سنن الترمذي (3828) حسن
(1/236)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِىِّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ» أخرجه البخاري. (1)
وكان داود لا يأكل إلا من عمل يده، لأنه يعلم أن أفضل الكسب هو ما يكسبه الإنسان من صنع يده، عَنِ الْمِقْدَامِ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» [البخارى] (2)
وقد مات داود -عليه الصلاة والسلام- وتولى من بعده ابنه سليمان -عليه السلام- الحكم وجعله الله نبيًّا، قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (16) سورة النمل.
---------------
الدروس والعبر
1 - تجليات فضل اللَّه على عباده.
ترادف نعم اللَّه على عباده عامة وعلى أنبيائه وأوليائه خاصة لا ينكره إلا جاحد، وقد خصَّ اللَّه نبيه داود بمزيد من فضله وظهر ذلك واضحًا في المظاهر الآتية:
سخر اللَّه له الجبال والطير تردد معه ذكره وتسبيحه.
ألان في يده الحديد فصار كالعجينة يصنع منه ما يشاء.
يسَّر له تلاوة الزبور، وآتاه الملك فجمع له الخيرين خير الدنيا والآخرة.
أنعم عليه بالقوة في البدن والحكمة في الرأس والعدل في الحكم.
أنعم عليه بالذرية الصالحة: "وورث سليمان داود".
2 - الشكر قيد النعمة:
__________
(1) - صحيح البخارى (3420)
(2) - صحيح البخاري (2072)
شكر النعمة يمنعها من الزوال ويجلب المزيد، ويمنع النقمة، وبهذا قضى العزيز الحميد، فقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (7) سورة إبراهيم، وقليل من الناس من يعرف النعمة فيقرُّ بها للمنعم سبحانه ويشكره عليها بوضعها فيما أمر سبحانه، وكان داود عليه السلام من هذا القليل الشاكر، فاستحق من اللَّه الثناء: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبأ.
3 - بنو إسرائيل لم يشكروا نعمة اللَّه عليهم:
لم يشكر اليهود نعمة اللَّه عليهم بإنزال التوارة، فحرفوها وبدلوها ولم يعملوا بما فيها، ولم يشكروا نعمة اللَّه عليهم بتتابع الأنبياء فيهم، فآذوا أنبياء اللَّه حال حياتهم وبعد مماتهم، ومنهم من قتلوه، ومن ذلك ما فعلوه مع نبي اللَّه داود عليه السلام وهو المبجل فيهم، فوصفوه بالثائر السفاح الذي يحب سفك الدماء وإقامة الملك على جماجم البشر، وإن شئت التفاصيل فراجع العهد القديم، سفر الملوك الثاني الفصول من (5 - 20)، وكذلك ما نسبوا إلى نبيهم داود زورًا وبهتانًا أن داود عليه السلام قد رأى امرأة جاره وهي تغتسل فأحبَّها حبًا شديدًا، فأرسل زوجها في إحدى المعارك، وأمر القائد أن يجعله في المقدمة لعله يقتل فيتزوج امرأته، وتوراة اليهود التي كتبوها بأيديهم- وليست التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى- تمتلئ بهذه السفاهات التي أنزه سمع القارئ وبصره عنها.
فهم لم يتركوا نبيّا إلا أساءوا إليه، بل لم يسلم اللَّه سبحانه وتعالى من افتراءاتهم، فتعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا
ومن هنا فقد حذرنا اللَّه أن نكون مثلهم، وذكر ذلك في كتابه الكريم تصريحًا وتلميحًا. (1)
إن القرآن تحدث عن سيدنا داود عليه السلام بما يتناسب مع مقام النبوة واصفا له بأنه أواب رجاع إلى اللّه، آتاه اللّه الملك والحكمة وفصل الخطاب، وألان له الحديد وعلمه منطق الطير، وعصمه كما عصم جميع الأنبياء مما يخل بقدره وشرفه
وليس من المعقول أن يغتصب امرأة لا تحل له، أو يفكر فى حيلة يتخلص بها من زوجها ليتزوجها هو، إن هذه الحادثة يتنزه أن يتورط فيها واحد من عامة الناس فكيف بالمصطفين الأخيار من رسل الله الذين بُعثوا للدعوة إلى القيم الأخلاقية العالية، وحاول المغرمون بالغرائب والناقلون عن أهل الكتاب دون تحوط لما ينقلون أن يَحْمِلُوا على تلك الحادثة قول الله تعالى وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) [ص/21 - 26].
إن ظاهر الآيات يدل على خصومة حقيقية بين فريقين فى غنم مشتركة بينهما، وأن داود عليه السلام وقع فى خطأ، استغفر ربه منه وخر راكعا ورجع إلى اللّه، كما أن أمر الله لداود بالحكم بالحق وعدم اتباع الهوى قد يفهم منه أنه ظلم فى حكمه ومال مع الهوى، فكيف يكون ذلك؟ إن الكلام فى تفسير هذه الآيات كثيرة، وادعى بعض المفسرين أن "النعجة "هى المرأة، وأن القصة درس لداود الذى طمع فى زوجة القائد "أوريا" ولم يقنع بما عنده من النساء. وهو كلام يتنافى مع مقام الأنبياء.
ومن أحسن ما قيل فى ذلك أن الخصومة حقيقية فى شركة أغنام، وأن المتخاصمين أرادا التحاكم إلى داود على عَجل حتى يحسم النزاع غير أن داود كان إذ ذاك فى خلوته الخاصة، يعبد ربه كنظام وضعه لنفسه فى توزيع أعماله بين اللّه والناس، ولم يجد الخصمان وسيلة للوصول إليه إلا تسور المحراب الذى يتعبد فيه، فظن داود أن مجيئهم فى هذا الوقت وبهذه الصورة يراد به شر، فطمأناه وطرحا أمامه الموضوع، وبدأ أحد الخصمين بتوجيه الاتهام إلى الطرف الآخر، فنطق داود بالحكم بإدانة صاحب الغنم الكثيرة قبل أن يدلى بحجته، وهنا أحس داود أنه كان على غير صواب فى ظنه أن هؤلاء يريدون به شرا، وأن الله امتحنه بالخوف منهم، فاستغفره مما حدَّث به نفسه، ومَنَّ الله عليه بقبول استغفاره، وأنزله عنده منزلا كريما.
ثم نبهه إلى أن مما يساعد على إصابة الحق والعدل فى الحكم، التأنى، حتى تسمع حجة الطرفين معا، وعدم التأثر بمظاهر الناس، والبعد بالعواطف عن التدخل فى الحكم، فقد يكون المدعى مخطئا وظاهره يوحى بالصدق، كإخوة يوسف الذين رموه فى الجب وجاءوا أباهم عشاء يبكون مدعين أن الذئب أكله.
إن الذى وقع من داود عليه السلام هو ظنه أن الخصمين أرادا به سوءا، فندم على هذا الظن واستغفر ربه، وهو ظن له ما يبرره، والأنبياء - وإن كان ما وقع منه لا يؤاخذ عليه - مقامهم يضعهم دائما فى موضع حساس، لا يحبون أن يؤخذ عليهم ما هو فى صورة ما يؤاخذ عليه. ونطقه بالحكم قبل سماع المدعى عليه ربما كان لأنه سكت ولم يتكلم، فكان سكوته إقرارا بما نسب إليه، وتوجيه الله له باتباع الحق وعدم الميل مع الهوى-على الرغم من صواب حكمه - لا يدل على ظلمه أو ميله مع العواطف، فقد يكون توجيها بالاستمرار على اتباع الحق كما قال سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) سورة الأحزاب، فلم يكن منه عصيان حتى يؤمر بالتقوى.
وبعد، فإن مما نتأسى به فى قصة داود عليه السلام الرجوع إلى الله فى كل الأحوال، والصبر على ما يقوله أهل الباطل، وعدم الأنفة من مزاولة أى عمل لكسب عيش شريف، وأن الصوت الحسن نعمة من نعم الله، تلين به القلوب وترتاح إليه الأعصاب، فليكن ترويحنا عن النفس بما شرع اللّه، وبما يعطيها نقاء وصفاء واستقامة، بعيدا عما يغضب الله " فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 134) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4603) رقم الفتوى 24594 ما ذكره المفسرون من قصة داود أكثره من الإسرائيليات
(1/239)
4 - أفضل ما أكل الإنسان من عمل يده:
هذا أيضًا مما تعلمناه من قصة داود عليه السلام، فعلى الرغم من كونه خليفة في الأرض وملكًا على أمة امتد ملكها، إلا أنه كان يأكل من عمل يده: {وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد}، فكان عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها.
وهكذا الأنبياء والصالحون، فمنهم من كان يرعى الغنم، ومنهم من كان نجارًا؛ كزكريا عليه السلام، ومنهم من عمل بالنجارة زمنًا مثل نوح عليه السلام، ومنهم من عمل بالتجارة فكان يبيع ويشتري في الأسواق، وكبار الصحابة رضي اللَّه عنهم كان الواحد منهم يعمل بيده ويحمل على ظهره ليكتسب قوته ويتصدق من عمل يده، فقد أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل وكسب القوت، حتى ولو كان العمل في الاحتطاب، فلا غضاضة في ذلك، فهذا خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في ذلك، وأعمال الصحابة كذلك شاهدة على ذلك، فكانوا يتناوبون فيما بينهم في سماع النبي صلى الله عليه وسلم والجلوس عنده وفي طلب الرزق، ومن عجب أن يخفى ذلك على كثير من شبابنا ممن يدعون طلب العلم ويتخذونه حرفة لهم، حتى أصبحوا عالة على غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5 - من المعجزات المحسوسة أن ألان اللَّه الحديد لداود عليه السلام فجعله مطاوعًا له يشكله كما يشاء، وهذه آية من آيات اللَّه الكونية ودليل على قدرة اللَّه سبحانه، فهو الذي جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وجعل الماء سلاحًا أغرق فرعون، ونجا موسى، وألان الحديد لداود، وهكذا فلله جنود السماوات والأرض يفعل ما يشاء ويختار؛ ولكن أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة.
(1/240)
6- وفي قوله تعالى : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل - عليهم صلوات الله - الطريق الذي يضمهم أجمعين . فكلهم سار في هذا الطريق . كلهم عانى . وكلهم ابتلي . وكلهم صبر . وكان الصبر هو زادهم جميعاً وطابعهم جميعاً . كل حسب درجته في سلم الأنبياء . . لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات ; مفعمة بالآلام ; وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكاً للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء . وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال . .
ونستعرض حياة الرسل جميعاً - كما قصها علينا القرآن الكريم - فنرى الصبر كان قوامها , وكان العنصر البارز فيها . ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها . .
لكأنما كانت تلك الحياة المختارة - بل إنها لكذلك - صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية , لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات ; وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض ; وتتجرد من الشهوات والمغريات ; وتخلص لله وتنجح في امتحانه , وتختاره على كل شيء سواه . . ثم لتقول للبشرية في النهاية:هذا هو الطريق . هذا هو الطريق إلى الاستعلاء , وإلى الارتفاع . هذا هو الطريق إلى الله .
(1/241)
7- وهذا التسبيح من الجبال لله - تعالى - إنما هو على سبيل الحقيقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو - عز وجل - بدليل قوله - سبحانه - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } والقول بأن تسبيح الجبال كان بلسان الحال ضعيف لأمور منها : المخالفة لظاهر ما تدل عليه الآية من أن هناك تسبيحا حقيقيا بلسان المقال ، ومنها : أن تقييد التسبيح بكونه بالعشى والإِشراق . وبكونه مع داود ، يدل على أنه تسبيح بلسان المقال ، إذ التسبيح بلسان الحال موجود منها فى كل وقت ، ولا يختص بكونه فى هذين الوقتين أو مع داود .
وخص - سبحانه - وقتي العشي والإِشراق بالذكر . للإِشارة إلى مزيد شرفهما ، وسمو درجة العبادة فيهما .(1)
8- قال القرطبى في تفسيره : فإن قيل : لِم فزع داود وهو نبيّ ، وقد قويت نفسه بالنبوّة ، واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذِية ومنهما كان يخاف . ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } [ طه : 45 ] فقال الله عز وجل : «لاَ تَخَافا» . وقالت الرسل للوط : { لاَ تَخَفْ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } [ هود : 81 ].(2)
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3608)
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4770)
(1/242)
ألا ترى إلى موسى وهارون - عليهما السلام - كيف قالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} - أى: فرعون -، فقال الله لهما: {لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} ثم بين - سبحانه - ما قاله أولئك الخصوم لداود عندما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع، فقال: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط}.
9 - أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب، قصة حقيقية، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس فى شأن غنم لهما، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التى حكاها القرآن الكريم، فزع منهما داود - عليه السلام - وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه، وأن الله - تعالى - يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث.
فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه، وإنما يريدان التحاكم إليه فى مسألة معينة، استغفر ربه من ذلك الظن السابق - أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله - تعالى - له. .
والذى يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا فى تأييد هذا المعنى.
(1/243)
قال أبو حيان ما ملخصه - بعد أن ذكر جملة من الآراء - : والذى أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفى غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا فى محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا فى حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم . . . وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونة ، وخر ساجدا منيبا إلى الله - تعالى - فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ولم يتقدم سوى قوله - تعالى - : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم فى شئ منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشئ مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله - تعالى - فى كتابه . يمر على ما أراده - تعالى - ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه .
والخلاصة : أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات ، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة . لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل . بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا . لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء . الذين صانهم الله - تعالى - من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها .
قال الإِمام ابن حزم ما ملخصه : " ما حكاه الله - تعالى - عن داود قول صادق صحيح . لا يدل على شئ مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولَّدها اليهود .
وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك . مختصيمن فى نعاج من الغنم .
(1/244)
ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء. فقد كذب الله - تعالى - ما لم يقل، وزاد فى القرآن ما ليس فيه. . لأن الله - تعالى - يقول: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} فقال لهو: لم يكونوا خصمين. ولا بغى بعهضم على بعض. ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة. ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له: {أَكْفِلْنِيهَا. .}.
10 - هناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات. منها: أن استغفار داود - عليه السلام - إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزالة التى جعلت داود يستغفر ربه - إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر، فإنه لما قال له: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ. .} فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل.
والذى نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب، ولا يتناسب مع منزلة داود - عليه السلام - الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته، أن لا يحكم القاضى بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام آخر.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟.
قلت: ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، ولكنه لم يحك فى القرآن لأنه معلوم، ويروى أنه قال: أريد أخذها منه وأكمل نعانجى مائة فقال داود: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا. وأشار إلى طرف الأنف والجبهة. .
(1/245)
والخلاصة أن الخصومة حقيقية بين اثنتين من البشر، واستغفار داود - عليه السلام - سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإِيذائه، وأن هذا ابتلاء من الله - تعالى - ابتلاه به، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم فى خصومة، فاستغفر ربه من ذلك الظن. فغفر الله - تعالى - له. (1)
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
سليمانُ (عليه السلام)
نبي من أنبياء الله، أرسله الله إلى بني إسرائيل، وتولَّى الملك بعد وفاة والده داود -عليهما السلام- وكان حاكمًا عادلاً بين الناس، يقضي بينهم بما أنزل الله، وسخر الله له أشياء كثيرة: كالإنس والجن والطير والرياح ... وغير ذلك، يعملون له ما يشاء بإذن ربه، ولا يخرجون عن طاعته، وإن خرج منهم أحدٌ وعصاه ولم ينفذ أمره عذبه عذابًا شديدًا، وألان له النحاس، وسخر الله له الشياطين، يأتون له بكل شيء يطلبه، ويعملون له المحاريب والتماثيل والأحواض التي ينبع منها الماء.
قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) [سبأ/12 - 14]}.
وعلم الله -سبحانه- سليمان لغة الطيور والحيوانات، وكان له جيش عظيم قوى يتكون من البشر والجن والطير، قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} [النحل:17].
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3612)
(1/246)
وَجُمِعَ لِسُلَيمانَ جُنودُهُ مِنَ الجنِّ والإِنسِ والطَّيرِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَرَكِبَ فيهمْ في أُبَّهةٍ عظيمةٍ ليُحَارِبَ بهِمْ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ في طَاعَةِ اللهِ، وَكَانَ يَتَولَّى أَمرَ كُلِّ فِئةٍ وازِعُونَ مِنْهُمْ يُلْزِمُونَ كلَّ واحدٍ مَكَانَهُ، لكيْلا يَتَقَدَّمَ عنْهُ في الموْكِبِ، أثْنَاءَ السَّيْرِ.
وكان سليمان دائم الذكر والشكر لله على هذه النعم، كثير الصلوات والتسابيح والاستغفار، وقد منح الله عز وجل سليمان -عليه السلام- الذكاء منذ صباه، فذات يوم ذهب كعادته مع أبيه داود -عليه السلام- إلى دار القضاء فدخل اثنان من الرجال، أحدهما كان صاحب أرض فيها زرع، والآخر كان راعيًا للغنم، وذلك للفصل في قضيتهما، فقال صاحب الأرض: إن هذا الرجل له غنم ترعى فدخلت أرضى ليلاً، وأفسدت ما فيها من زرع، فاحكم بيننا بالعدل، ولم يحكم داود في هذه القضية حتى سمع حجة الآخر، عندها تأكد من صدق ما قاله صاحب الأرض، فحكم له بأن يأخذ الغنم مقابل الخسائر التي لحقت بحديقته، لكن سليمان -عليه السلام- رغم صغر سنه، كان له حكم آخر، فاستأذن من أبيه أن يعرضه، فأذن له، فحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها، ويأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بلبنها وصوفها، فإذا ما انتهى صاحب الغنم من إصلاح الأرض أخذ غنمه، وأخذ صاحب الحديقة حديقته.
(1/247)
وكان هذا الحكم هو الحكم الصحيح والرأي الأفضل، فوافقوا على ذلك الحكم وقبلوه بارتياح، وأعجب داود -عليه السلام- بفهم ابنه سليمان لهذه القضية مع كونه صغيرًا، ووافق على حكم ابنه، وقد حكى الله -عز وجل- ذلك في القرآن قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) [الأنبياء/78 - 81]}.
موقف سليمان عليه السلام مع النملة فيقول الله عز وجل: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} [النمل/17 - 20].
(1/248)
إن الله سبحانه وتعالى آتى سليمان خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، ومع هذا فقد أعطى عليه الصلاة والسلام، ملكاً عظيماً وسلطاناً واسعاً، ومع هذا العلم الذي أعطى سليمان، ومع هذا الملك أيضاً، لم يمنعه كل هذا، أن يأخذ درساً من أصغر مخلوقات الله، وهي النملة، ويستفيد منها، ولم يغتر بملكه ولا بعلمه عليه الصلاة والسلام، كما هو شأن بعض حاملي الشهادات في زماننا هذا، والله المستعان.
يقف سليمان عليه السلام، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطاناً كسلطانه، وملكاً كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله، بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله، فيقول في محراب ملكها، الذي يسبح فيه بحمد الله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
لقد أراد الله سبحانه وتعالى، أن يصغر في عيني سليمان هذا الملك العريض، الذي بين يديه، وأن يكسر من حدة هذا السلطان المندفع، كالشهاب الذي لا يمسكه شيء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كي لا يدخل على نفسه شيء، من العجب والزهو، فتقف له النملة، هذا الموقف، الذي يرى منه عجباً، فيرى سليمان عليه السلام من النملة، ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمع أحد غير النمل، الذي يعيش معها: ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].
(1/249)
والدرس الذي نود أن نأخذه من موقف سليمان عليه السلام مع النملة، هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها. إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان، فلتأخذ جماعة النمل حذرها، ولتدخل مساكنها، ولتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق، ومن أين هذا الهلاك؟
من جماعة غالباً، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطن أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة، فهل يشعر من يسكن البيوت الفارهة، بما يعاني عباد الله من ساكني العشش والخيام، وكم في دنيا الناس، من المستضعفين ممن تطؤهم أقدام الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم.
وكم من مجتمعات بشرية، جرفها تيار عاتٍ من تيارات الظلم والاستبداد، وكم من مدن عامرة دمرتها رحى الحروب، التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود، وكم وكم، إنها والله لحكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه النملة، حيوان ضئيل من مخلوقات الله، وأقلها شأناً تلقيه على الإنسانية كلها، في أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها.
ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟ ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة، فحاد بركبه عن وادي النمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل الله ونعمته، فيقول: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
(1/250)
إن للنملة سلطاناً كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجنداً كجنده، ثم إنها تقوم على هذه الدولة، وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائماً على مواقع الخير، ترتاده لرعايتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل السلطان الحكيم، وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو، الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ نعم كان النبي سليمان عليه السلام كذلك.
وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها، وهو الهدهد. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:20 - 27].
حشد سليمان عليه السلام جموعه ورعيته، فنظر فلم ير الهدهد قد حضر هذا الحفل، فتوعده سليمان عليه السلام بأشد العذاب والنقمة، {لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل:21].
(1/251)
أما كان للهدهد عذر يمكن أن يقدمه لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب، ألا يجوز أن يكون مريضاً، ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ وماذا يغني الهدهد في هذا الجمع العظيم، وماذا يجدي أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، لكنه الانضباط التام، والملاحظة العجيبة عند سليمان الملك، وكيف أنه يتفقد رعيته كاملاً، ويهمه حضورهم ووجودهم حتى لو كان مخلوقاً ضعيفاً كالهدهد.
وفي قول سليمان عليه السلام: {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} درس عظيم، لابد من الوقوف عنده، فسليمان عليه السلام حين نظر ولم ير الهدهد، اتهم نفسه أولاً، فقال: مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ، ولم يقل أين الهدهد، ولم يقل: إن الهدهد غائب. لأنه يحتمل أن يكون موجوداً، لكنه هو عليه السلام ما رآه، وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا هم التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها في أيديهم، تشككوا واتهموا أولاً أسلوب تفكيرهم، الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر مرةً بعد مرة، حتى يجدوا ما يطلبون، أما إذا التمس المرء الحقيقة، ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم. فلينتبه لهذه القضية.
درس آخر، يعلمنا هذا الهدهد، وهو أنه في تأخره الحضور، مع سليمان، بماذا كان منشغلاً، وما الذي أخره عن الحضور، لقد كان منشغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل، والإنكار على المشركين شركهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل:24].
(1/252)
لقد فاق هذا الهدهد، كثيراً من الدعاة إلى الله في هذا الزمان، حيث إنهم محسوبين على الدعوة، يشاهدون المنكرات في مجتمعهم، ويشاهدون المخالفات الشرعية الواضحة، ومع هذا لا ينكرون على أقوامهم ذلك، ولا يمنعهم ذلك أن يؤاكلوهم، أو يجالسوهم، أو يشاربوهم، فهل لنا في هذا الهدهد أسوة حسنة، حيث إنه أنكر على ملكة دولة في زمانها وهي ملكة سبأ.
وأما عن القصة الثالثة، لنبي الله سليمان عليه السلام، فكانت مع ملكة سبأ، وتسمى بلقيس، وأرض سبأ باليمن، وسميت كذلك نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحان، وسمي هو سبأ، لأنه أول من سبي السبي من ملوك العرب، وأدخل السبايا إلى اليمن.
فبعد ما رجع الهدهد، وأخبر سليمان عليه السلام بما رآه وشاهده في أرض اليمن، من وجود امرأة تحكمهم، وأن لها دولة، أرسل سليمان عليه السلام الهدهد، إلى أرض سبأ وأعطاه رسالة إلى ملكة سبأ، طار الهدهد برسالة سليمان إلى بلقيس، وألقاها بين يديها، تناولت بلقيس الرسالة، وقرأت ما فيها، ثم جمعت أشراف قومها، وقواد مملكتها، وأخبرتهم بالرسالة، وقرأت نصها عليهم، ثم طلبت المشورة، فأجابها الحاضرون بأنهم على استعداد للقتال، مع جند سليمان, وأنهم أصحاب قوة، لكنهم أرجعوا الأمر لها، وإلى هذا تشير الآيات القرآنية: {اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:28 - 33].
(1/253)
ولنا وقفة مع قول بلقيس، في قول الله عز وجل: {قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32]، إن هذه المرأة تكلمت بصراحة، وإنها الفطرة، ومتى كانت النساء يفتون في الأمور ويقطعونها خصوصاً ما يتعلق بأمور الدولة، فهذه المرأة مع أنها كانت ملكة سبأ، لكن عند حدوث بعض المواقف، يتبين ضعف المرأة، وأنها لا تستطيع أن تسوس الأمور، فاستشارت الملأ، ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32]
عند ذلك عزمت بلقيس على إرسال هدية عظيمة لسليمان عليه السلام، فإن من عادة الملوك أن الهدايا تقع في نفوسهم موقعاً حسناً، فقالت إن قبلها سليمان عرفت أنه ملك يرضيه ما يرضي الملوك، وإن كان نبياً أبى إلا أن نتبع دينه.
ذهب وفد بلقيس إلى فلسطين، يحملون الهدايا لسليمان عليه السلام، فلما رأى ذلك عليه السلام، أنكر عليهم، ورفض الهدية، وقال: إن بقوا على كفرهم، فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها، ولنخرجنهم من مدينة سبأ أسرى أذلاء مستعبدين، قال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:34 - 37]}.
رجع الوفد أدراجه، وأخبر ملكته بما رأى من قوة سليمان، أدركت بلقيس أن سليمان نبي مرسل، وأنها لا طاقة لها بمخالفة أمره، فتجهزت للسير إليه مع أشراف قومها.
(1/254)
عرف سليمان بمسيرة بلقيس إليه، فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من معجزات، ليكون دليلاً على نبوته، فقال لمن حوله من الجن، أيكم يأتيني بعرش بلقيس، قبل أن تصل إليّ مع قومها، ليروا قدرة الله عز وجل، فقال أحد العفاريت من الجن، أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك الذي تقضي وتحكم فيه، وكان سليمان يجلس من الصباح إلى الظهر في كل يوم للحكم بين الناس، وما هي إلا لحظات إلا وعرش بلقيس مستقراً في مجلسه، قال تعالى:{ قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:38-40]}.
فأمَرَ سُلَيمانُ بأَنْ يُجْرُوا بَعْضَ التَّغْيِيرِ في هَيئَةِ عَرْشِ بلْقِيسَ ليخْتَبِرَ مَعْرَفَتَهَا ، وَثَبَاتَها ، عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، وَهَلْ تَستطيعُ أنْ تعرِفَ عَرْشَهَا إذا بُدِّلَ فِيهِ وَنُكِّرَ ، أمْ لا تَسْتَطيعُ ذَلِكَ .
فَلَما وصلتْ بِلقيسُ إِلى سُلَيمانَ ، عَرَضَ عليهَا عَرْشَهَا وَقَد غُيِّرَ فيهِ ، ونُكِّرَ ، وزِيْدَ فيهِ ، فَسَأَلها أهَكَذا عرشُكِ؟ ولكِنَّها اسْتَبْعَدَتْ أن يُحْمَلَ عرشُهَا مِنْ تلكَ المَسافاتِ البَعيدةِ ، فقالتْ كأَنَّهُ هُوَ ، فهُوَ يُشْبِهُهُ ويُقَارِبُه وقيل إِنَّ جَوَابَها هَذا دَليلٌ على رَجَاحَةِ عَقْلِهَا ، وفِطْنَتِها وَدَهَائِها ، وثباتِ قَلْبَهَا .
(1/255)
وَقَالَ سليمانُ إِنَّهُ أُوتِيَ العِلمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِلْقِيسُ، وإِنَّهُ كَانَ مِنَ المسلِمينَ أَيضاً.
أمَّا هيَ فَقَدْ صَدَّها عنِ الإِيمانِ باللهِ، وعَنِ الإِسْلامِ إليهِ، ما كَانَتْ هِيَ وقَومُها يَعْبُدونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَكَانوا كَافرين قال سبحانه: {قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:41 - 43]}.
كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً (صَرْحاً) عَظيماً من زُجَاجٍ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي. ثمَّ قالَ لها سليمانُ: ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ، وليسَ ماء، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ، وَقَالَتْ: رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ، وخالقِ كلِّ شيءٍ.
{
(1/256)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} سورة النمل (1)
وقد أراد سليمان -عليه السلام- أن يبني بيتًا كبيرًا يُعْبد الله فيه، فكلف الجن بعمل هذا البيت، فاستجابوا له، لأنهم مسخرون له بأمر الله، فكانوا لا يعصون له أمرًا، وكان من عادة سليمان أن يقف أمام الجن وهم يعملون، حتى لا يتكاسلوا.
وَلَمّا قَضَى اللهُ تَعَالى عَليهِ المَوتَ، اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ، وَلَبِثَ فَتْرَةً وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، وَالجِنُّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يَدِيهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ يَنْظُرُ إِليهِمْ فَلا يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ إِليهِمُ فَلاَ يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. ثُمَّ سَخَّرَ اللهُ حَشَرَةً صَغِيرةً أَخَذَتْ تَنْخُرُ عَصَاهُ حَتَّى ضَعُفَتْ فانْكَسَرَتْ وَسَقَطَ سُلَيْمَانُ عَلَى الأَرضِ، فَعَلِمَتِ الجِنُّ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَتَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَلِلْجِنِّ أَنَّ الجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ سَاعَةَ حُدُوثِهِ، وَلَم يَنْتَظِرُوا حَتَّى تَأْكُلَ دَابَّةٌ الأَرْضِ 'َصَاهُ التِي كَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَيها فَيَسْقُطَ عَلى الأَرضِ، وَلَمْ يَسْتَمرُّوا فِي الأَعمَالِ الشَّاقَةِ التِي كَلَّفَهُم بِهِا سُلَيْمَانُ (العَذَابِ المُهِينِ).
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3056) سليمان عليه السلام
(1/257)
قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]}.
وادعى بعض اليهود أن سليمان كان ساحرًا، ويسخر كل الكائنات بسحره، فنفي الله عنه ذلك في قوله تعالى: قال تعالى :{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}سورة البقرة
(1/258)
وَلَقَدْ صَدَّقُوا مَا تَتَقَوَّلُه الشَّيَاطِينُ وَالفَجَرَةُ مِنُهُمْ عَلَى مَلْكِ سُلَيْمَانَ ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّاً وَلاَ رَسُولاً يَنْزِلُ عَلَيهِ الوَحْيُ مِنَ اللهِ ، بَلْ كَانَ سَاحِراً يَسْتَمِدُّ العَوْنَ مِن سِحْرِهِ ، وَأنَّ سِحْرَهُ هَذا هُوَ الذِي وَطَّدَ لَهُ المُلْكَ ، وَجَعَلَهُ يُسَيْطِرُ عَلَى الجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالرِّيَاحِ ، فَنَسَبُوا بِذَلِكَ الكُفْرَ لِسُلَيْمَانَ ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ الفَجَرَةَ هُمُ الذِينَ كَفَرُوا ، إِذْ تَقَوَّلُوا عَلَيْهِ الأَقَاوِيلَ ، وَأَخَذُوا يُعَلِمُونَ النَّاسَ السِحْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ ، وَمِنْ آثَارِ مَا أُنْزِلَ بِبَابِلَ عَلَى المَلَكِين هَارُوتَ وَمَارُوتَ . مَعَ أنَّ هذينِ المَلَكِينِ مَا كَانَا يُعَلِّمَانِ أَحَداً حَتَّى يَقُولا لَهُ : إِنَّمَا نُعَلِّمُكَ مَا يُؤَدِّي إلَى الفِتْنَةِ وَالكُفْرِ فَاعْرِفْهُ وَاحْذَرْهُ ، وَتَوَقَّ العَمَلَ بِهِ . وَلَكِنَّ النَّّاسَ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذِهِ النَّصِيِحَةِ ، فَاسْتَخْدَمُوا ، مِمَّا تَعَلَّمُوهُ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المْرِءِ وَزَوْجِهِ .
(1/259)
لَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاءِ الشَّياطِينُ الفَجَرَةُ إِذْ تَقَوَّلُوا هَذِهِ الأقَاوِيلَ ، وَاتَّخَذُوا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَسَاطِيرِهِمْ ذَرِيعَةً لِتَعْلِيمِ اليَهُودِ السِّحْرَ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِسِحْرِهِمْ هذا أحَداً ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي يَأْذَنُ بِالضَّرَرِ إنْ شَاءَ ، وَأنَّ مَا يُؤَخَذُ عَنْهُمْ مِنْ سِحْرٍ لَيَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ في دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَلاَ يُفِيدُهُ شَيْئاً ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَّ العِلْمِ أَنَّ مَنِ اتَّجَهَ هذا الاتِّجَاهَ لَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ أوْ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ ، وَلَبِئْسَ مَا اخْتَارَهُ هُؤُلاءِ لأنْفُسِهِمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .
وَأَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ بِأَنْ وَهَبَهُ وَلَدَهُ سُلَيْمَانَ ، وَكَانَ عَبداً مُحْسِناً مُطِيعاً للهِ ، حَسَنَ الاعْتِقَادِ والإِيْمَانِ ، كَثِيرَ الإِنَابَةِ والرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (30) سورة ص.
--------------
الدروس والعبر
بين داود وسليمان عليهما السلام
أولاً: قال تعالى:{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء/78-81].
(1/260)
ومعنى الآيات الكريمة: اذكر- يا رسولنا - لقومك خاصة وللناس كافة قصة داود وسليمان عليهما السلام: إذ يحكمان في الحرث- أي حال كونها يحكمان في الزرع، قيل إنه كان عناقيد تدلت، إذ نفشت فيه غنم القوم أي انتشرت وتفرقت فيه ليلاً بلا راعٍ فرعته وأفسدته.
قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآيات نقلاً عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، قال كرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم (العنب) فيصيب منها حتى إذا كان الكرْم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها فذلك قوله: ففهمناها سليمان. اهـ.
وحتى لا يفهم القارئ من العبارة السابقة تقليلاً من شأن داود عليه السلام عقب ربنا سبحانه وتعالى بعدها مباشرة بقوله: {وكلا آتينا حكما وعلما}، فداود عليه السلام حكم بالعدل وسليمان عليه السلام حكم بالفضل، وقد أثنى الله على حكمه الذي وفقه إليه لأنه يحب الرفق في الأمر كله كما جاء عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ». قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ «قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ» (1).
__________
(1) - صحيح البخاري (6927)
(1/261)
ثم استمرت الآيات الكريمة في بيان ما مَنَّ الله سبحانه به على كل من داود وسليمان فقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82).
وقد تناولنا ذلك فيما سبق بما يغني عن إعادته، وخلاصة القول: أن الله سبحانه قد خصَّ كلا من النبيين بما يناسبه من فضل ومنِّة، وإن تميز أحدهما بشيء عن الآخر فليس في ذلك انتقاص من فضل الآخر، وهذا أمر مقرر في الشريعة ولولا خشية الإطالة لأوردنا أدلة كثيرة على ذلك.
يجب ألا ننسى أن سليمان قد ورث داود وهو ابنه وكلما نُسب فضلٌ إلى سليمان عليه السلام فهو فضل لداود عليه السلام.
(1/262)
ثانيًا: القصة الثانية كما جاء في صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ.» (1).
__________
(1) - صحيح البخارى (6769)
(1/263)
قَالَ الْعُلَمَاء : يَحْتَمِل أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهَا ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَته التَّرْجِيح بِالْكَبِيرِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعه . وَأَمَّا سُلَيْمَان فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنْ الْحِيلَة وَالْمُلَاطَفَة إِلَى مَعْرِفَة بَاطِن الْقَضِيَّة ، فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيد قَطْعه لِيَعْرِف مَنْ يَشُقّ عَلَيْهَا قَطْعه فَتَكُون هِيَ أُمّه ، فَلَمَّا أَرَادَتْ الْكُبْرَى قَطْعه ، عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمّه ، فَلَمَّا قَالَتْ الصُّغْرَى مَا قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمّه ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَاده أَنَّهُ يَقْطَعهُ حَقِيقَة ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اِخْتِبَار شَفَقَتهمَا ؛ لِتَتَمَيَّز لَهُ الْأُمّ ، فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْت عَرَفَهَا ، وَلَعَلَّهُ اِسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْد ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى ، فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَة الْمَذْكُورَة ، قَالَ الْعُلَمَاء : وَمِثْل هَذَا يَفْعَلهُ الْحُكَّام لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَة الصَّوَاب ، بِحَيْثُ إِذَا اِنْفَرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْف حَكَمَ سُلَيْمَان بَعْد حُكْم دَاوُدَ فِي الْقِصَّة الْوَاحِدَة وَنَقَضَ حُكْمه ، وَالْمُجْتَهِد لَا يَنْقُض حُكْم الْمُجْتَهِد ؟ فَالْجَوَاب مِنْ أَوْجُه مَذْكُورَة : أَحَدهَا : أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُون ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا . وَالثَّالِث : لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعهمْ فَسْخ الْحُكْم إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْم إِلَى حَاكِم آخَر يَرَى خِلَافه .
(1/264)
وَالرَّابِع: أَنَّ سُلَيْمَان فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَة إِلَى إِظْهَار الْحَقّ وَظُهُور الصِّدْق، فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الْكُبْرَى عَمِلَ بِإِقْرَارِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْد الْحُكْم كَمَا إِذَا اِعْتَرَفَ الْمَحْكُوم لَهُ بَعْد الْحُكْم أَنَّ الْحَقّ هُنَا لِخَصْمِهِ. (1)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 152)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 224)
قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْفُتْيَا مِنْهُمَا لَا الْحُكْم، وَلِذَلِكَ سَاغَ لِسُلَيْمَان أَنْ يَنْقُضهُ. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّ فِي لَفْظ الْحَدِيث أَنَّهُ قَضَى بِأَنَّهُمَا تَحَاكَمَا، وَبِأَنَّ فُتْيَا النَّبِيّ وَحُكْمه سَوَاء فِي وُجُوب تَنْفِيذ ذَلِكَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيل الْمُشَاوَرَة فَوَضَح لِدَاوُدَ صِحَّة رَأْي سُلَيْمَان فَأَمْضَاهُ. وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: اِسْتَوَيَا عِنْد دَاوُدَ فِي الْيَد، فَقَدَّمَ الْكُبْرَى لِلسِّنِّ. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ وَحَكَى أَنَّهُ قِيلَ: كَانَ مِنْ شَرْع دَاوُدَ أَنْ يَحْكُم لِلْكُبْرَى قَالَ: وَهُوَ فَاسِد لِأَنَّ الْكِبَر وَالصِّغَر وَصْف طَرْدِيّ كَالطُّولِ وَالْقِصَر وَالسَّوَاد وَالْبَيَاض، وَلَا أَثَر لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّرْجِيح، قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يَكَاد يَقْطَع بِفَسَادِهِ. قَالَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَال إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِسَبَب اِقْتَضَى بِهِ عِنْده تَرْجِيح قَوْلهَا، إِذْ لَا بَيِّنَة لِوَاحِدَة مِنْهُمَا، وَكَوْنه لَمْ يُعَيِّن فِي الْحَدِيث اِخْتِصَارًا لَا يَلْزَم مِنْهُ عَدَم وُقُوعه، فَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال: إِنَّ الْوَلَد الْبَاقِي كَانَ فِي يَد الْكُبْرَى وَعَجَزَتْ الْأُخْرَى عَنْ إِقَامَة الْبَيِّنَة قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيل حَسَن جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة وَلَيْسَ فِي السِّيَاق مَا يَأْبَاهُ وَلَا يَمْنَعهُ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْف سَاغَ لِسُلَيْمَان نَقْض حُكْمه؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَعْمَد إِلَى نَقْضِ الْحُكْم، وَإِنَّمَا اِحْتَالَ بِحِيلَة لَطِيفَة أَظْهَرَتْ مَا فِي نَفْس الْأَمْر، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا لَمَّا أَخْبَرَتَا سُلَيْمَان بِالْقِصَّةِ فَدَعَا بِالسِّكِّينِ لِيَشُقّهُ بَيْنهمَا، وَلَمْ يَعْزِم عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَاطِن، وَإِنَّمَا أَرَادَ اِسْتِكْشَاف الْأَمْر، فَحَصَلَ مَقْصُوده لِذَلِكَ لِجَزَعِ الصُّغْرَى الدَّالّ عَلَى عَظِيم الشَّفَقَة، وَلَمْ يَلْتَفِت إِلَى إِقْرَارهَا بِقَوْلِهَا هُوَ اِبْن الْكُبْرَى لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا آثَرَتْ حَيَاته، فَظَهَرَ لَهُ مِنْ قَرِينَة شَفَقَة الصُّغْرَى وَعَدَمهَا فِي الْكُبْرَى - مَعَ مَا اِنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ الْقَرِينَة الدَّالَّة عَلَى صِدْقهَا - مَا هَجَمَ بِهِ عَلَى الْحُكْم لِلصُّغْرَى. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّنْ يَسُوغ لَهُ أَنْ يَحْكُم بِعِلْمِهِ، أَوْ تَكُون الْكُبْرَى فِي تِلْكَ الْحَالَة اِعْتَرَفَتْ بِالْحَقِّ لَمَّا رَأَتْ مِنْ سُلَيْمَان الْجِدّ وَالْعَزْم فِي ذَلِكَ. وَنَظِير هَذِهِ الْقِصَّة مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِم عَلَى مُدَّعٍ مُنْكِر بِيَمِين، فَلَمَّا مَضَى لِيُحَلِّفهُ حَضَرَ مَنْ اِسْتَخْرَجَ مِنْ الْمُنْكِر مَا اِقْتَضَى إِقْرَاره بِمَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِف عَلَى جَحْده، فَإِنَّهُ وَالْحَالَة هَذِهِ يَحْكُم عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ سَوَاء كَانَ ذَلِكَ قَبْل الْيَمِين أَوْ بَعْدهَا، وَلَا يَكُون ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْحُكْم الْأَوَّل، وَلَكِنْ مِنْ بَاب تَبَدُّل الْأَحْكَام بِتَبَدُّلِ الْأَسْبَاب. وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: اِسْتَنْبَطَ سُلَيْمَان لَمَّا رَأَى الْأَمْر مُحْتَمَلًا فَأَجَادَ، وَكِلَاهُمَا حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَاوُدُ حَكَمَ بِالنَّصِّ لَمَا سَاغَ لِسُلَيْمَان أَنْ يَحْكُم بِخِلَافِهِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّة عَلَى أَنَّ الْفِطْنَة وَالْفَهْم مَوْهِبَة مِنْ اللَّه لَا تَتَعَلَّق بِكِبَرِ سِنّ وَلَا صِغَره. وَفِيهِ أَنَّ الْحَقّ فِي جِهَة وَاحِدَة، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاء يَسُوغ لَهُمْ الْحُكْم بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَ وُجُود النَّصّ مُمْكِنًا لَدَيْهِمْ بِالْوَحْيِ، لَكِنّ فِي ذَلِكَ زِيَادَة فِي أُجُورهمْ، وَلِعِصْمَتِهِمْ مِنْ الْخَطَأ فِي ذَلِكَ إِذْ لَا يُقِرُّونَ لِعِصْمَتِهِمْ عَلَى الْبَاطِل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّ سُلَيْمَان فَعَلَ ذَلِكَ تَحَيُّلًا عَلَى إِظْهَار الْحَقّ، فَكَانَ كَمَا لَوْ اِعْتَرَفَ الْمَحْكُوم لَهُ بَعْد الْحُكْم أَنَّ الْحَقّ لِخَصْمِهِ. وَفِيهِ اِسْتِعْمَال الْحِيَل فِي الْأَحْكَام لِاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوق، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِمَزِيدِ الْفِطْنَة وَمُمَارَسَة الْأَحْوَال.
(1/265)
ثالثًا: من المقرر في الشريعة أن القاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر وإن اجتهد وأصاب فله أجران كما صحَّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» .. [رواه البخاري] (1)
الأنبياء في النهاية بشر كانوا يحكمون فيما يعرض عليهم من قضايا باجتهادهم الخاص وليس بوحي، ومن هنا جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» (2).
فالحاكم مثاب أصاب أو أخطأ، وعلى القاضي أن يجتهد ما استطاع، والفضل أولاً وآخرًا لله يؤتيه من يشاء.
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
زكريا (عليه السلام)
__________
(1) - صحيح البخاري (7352) 133/ 9
(2) - صحيح البخاري (6967) - الألحن: الأعرف والأقدر على بيان مقصوده
(1/266)
قال تعالى : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)[آل عمران/35-41]
قِيلَ إنَّ امْرَأَةَ عِمرَانَ كَانَتْ عَاقِراً ، فَرَأتْ طَائِراً يَزُقُّ فَرْخَهُ فَتَمَنَّتْ أنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ ، فَدَعَتِ اللهَ أنْ يَرْزُقَها وَلَداً فَحَمَلَتْ .
(1/267)
وَلَمَّا شَعَرَتْ بِالحَمْلِ نَذَرَتْ أنْ يَكُونَ حَمْلُها خَالِصاً مُتَفرِّغاً لِعِبَادَةِ اللهِ ، وَخِدْمَةِ المَعْبَدِ . وَدَعَتِ اللهَ أنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهَا نَذْرَها ، فَإنَّهُ تَعَالَى هُوَ السَّميعُ لِدُعَائِها ، العَلِيمُ بِنِيَّتِها .
فَلَمَّا وَضَعَتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ حَمْلَها ، وَرَأتْ أنَّهُ أُنثَى ، تَحَسَّرَتْ عَلَى مَا رَأنْ مِنْ خَيْبَةِ رَجَائِها ، فَإنَّهَا نَذَرَتْ أنْ تُحَرِّرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِخِدْمَةِ المَعْبَدِ ، وَالانْقِطَاعِ لِلعِبادَةِ ، وَالأنْثَى لاَ تُصْلُحُ لِذَلِكَ .
وَقَالَتْ رَبِّ إنّي وَضَعْتُها أنْثَى ، وَاللهُ أعْلَمُ بِمَكَانَةِ الأنثَى التِي وَضَعتَها ، وَأنَّها خَيْبرٌ مِنَ الذُّكُورِ . وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى فِي القُوَّةِ وَالجَلدِ فِي العِبَادَةِ ، وَفِي احْتِمَالِ خِدْمَةِ المَعْبَدِ ، وَقَالَتْ إني سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ، وَإني عَوَّذْتُها بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا نَذِيرَةً مُحَرَّرَةً لِلْعِبَادَةِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ ، وَأحَسَنَ نَشْأَتَهَا وَنَباتَها ، وَقَرَنَها بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ ، تَتَعَلَّمُ مِنْهُمُ العِلْمَ وَالخَيْرَ وَالدِّينَ .
وَجَعَلَ زَكَريَا كَافِلاً لَهَا ، إتْمَاماً لِسَعَادَتِهَا ، لِتَقْتَبِسَ مِنْهُ العِلْمَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ . وَكُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا مَكَانَ مُصلاَّهَا ( المِحْرَابَ ) وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً ، فَكَانَ زَكَرِيّا يَسْأَلُهَا مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ يَا مَرْيَمُ؟ فَتَرُدُّ عَلَيهِ قََائِلَةً إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الذِي يَرْزُقُ النَّاسَ جَمِيعاً بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَهُوَ تَعَالَى يََرْزُقَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ رِزْقاً كَثِيراً بِلاَ حُدُودٍ؟
(1/268)
فَلَمَّا رَأى زَكَرِيَّا مِنْ كَرَامَاتِ مَرْيَمَ ، وَكَانَ قَدِ اشْتَعَلَ رَأسُهُ شَيْباً ، وَأصْبَحَ شَيْخاً طَاعِناً فِي السِّنِّ ، طَمِعَ فِِي أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ مِثْلُهَا هِبَةً وَفَضْلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَاقِراً ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَنَادَاهُ نِداءً خَفِيّاً ، وَقَالَ : يَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ، إنَّكَ تَسْمَعُ دُعَاءَ الصَّالِحينَ ، وَأنْتَ القَدِيرُ عَلَى الإِجَابَةِ .
فَخَاطَبَتْهُ المَلاَئِكَةُ خِطَاباً سَمِعَهُ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِحْرَابِهِ ، وَمَحلِّ خَلْوَتِهِ وَعِبَادَتِهِ ، وَقَالَتْ لَهُ إن اللهَ يُبَشِّرُكَ بِوَلدٍ يُولَدُ لَكَ اسْمُهُ يَحْيَى ، يَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُصَدِّقُ بِعِيسَى الذِي خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ، إِذْ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ ، وَيَكُونُ حَلِيماً وَسَيِّداً يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الشَّرَفِ وَالعِبَادَةِ وَالعِلْمِ ، وَيَكُونُ حَصُوراً يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنِ اتِّبَاعِ شَهَواتِها ، وَيَكُونُ مَعْصُوماً عَنِ الفَوَاحِشِ ، وَسَيَكُونُ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ حِينَمَا يَبْلُغُ سِنَّ النُّبُوَّةِ .
فَلَمَّا تَحَقَّقَ زَكَرِيَا مِنَ البِشَارَةِ ، أخَذَ يَتَعَجَّبُ مِنْ وِلاَدَةِ وَلَدٍ لَهُ بَعْدَ الكِبَرِ ، فَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ، وَقَدْ كَبِرْتُ وامْرأتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ ، فَرَدَّ عَلَيهِ المَلَكُ قَائِلاً : إنَّ اللهَ يَفْعَل مَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ ، لاَ يُعْجِزُه شَيْءٌ ، وَلا يَتَعَاظَمُهُ أَمْرٌ ، وَلاَ يَحُولُ دُونَ نَفَاذِ مَشِيئَتِهِ حَائِلٌ .
(1/269)
قَالَ زَكَرِيَّا : رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلامَةً ( آيةً ) أَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الوَلَدِ مِنَّي . قَالَ : العَلاَمَةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ أَنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ النُّطْقَ مَعَ اسْتِواءِ صِحَّتِكَ مُدَّةَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ كَامِلَةٍ . ثُمّ أَمَرَهُ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَسْبِيحِهِ في الصَّباحِ وَالمَسَاءِ حِينَمَا تَعْرِضُ لَهُ هذِهِ الحَالَةُ .
وقال تعالى : {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) } [مريم/2-11]
هذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ اللهِ لِعَبْدِهِ زَكَرِيَّا نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . ( وَزَكَرِيَّا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) .
(1/270)
حِينَ دَعَا رَبَّهُ خفْيَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ ( لأَنَّ الدُّعَاءَ الخَفِيَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى الإِخْلاَصِ ، وَالْبُعْد عَنِ الرِّياءِ ) .
فَقَالَ : يَا رَبِّ إِنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ ، وَخَارَتْ قُوَايَ ( وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي ) ، وَشَابَ رَأْسِي وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلاَّ الإِجَابَةَ لِدُعَائِي ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ خَائِباً فِيمَا سَأَلْتُكَ .
وَإِنِّي خِفْتُ إِذَا مِتُّ بِلا خَلَفٍ وَلاَ وَلَدٍ أَنْ تَتَصَرَّفَ عُصْبَتِي بِالنَّاسِ تَصَرُّفاً سَيِّئاً ، وَأَنْ تَخْرُجَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ وَالْهُدَى ، وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ ، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلَداً ( وَلِيّاً ) ، يَكُونُ نَبِيّاً فَيَخْلُفُنِي فِي قَوْمِي ، وَيَسُوسُهُمْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ .
فَيَرِثُ هَذا الوَلَدُ مِنِّي الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَالحِكْمَةَ ، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ المُلْكَ ، وَاجْعَلْهُ يَا رَبِّ مَرْضِيّاً عِنْدَكَ ، وَعِنْدَ خَلْقِكَ ، تُحِبُّهُ أَنْتَ ، وَتُحَبِّبُهُ إِلَى الخَلْقِ فِي دِينِهِ وَخُلُقِهِ .
فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَاءِ زَكَرِيّا ، وَقَالَ لَهُ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ : إِنَّنَا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ يُولَدُ لَكَ ، وَيَكُونُ اسْمُهُ يَحْيَى ، يَكُونُ نَبِيّاً وَصَالِحَاً وَمُصَدِّقاً بِالمَسِيحِ ( كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى ) ، وَلَمْ نَجْعَلْ لاسْمِهِ مُمَاثِلاً مِنْ قَبْلُ .
فَتَعَجَّبَ زَكَرِيَّا حِينَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ كَيْفَ يُوْلَدُ لِي وَلَدٌ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ، وَأَنَا قَدْ تَقَدَّمَتْ بِيَ السِّنُّ كَثِيراً وَكَبِرْتُ ، وَقَحِلَ عَظْمِي ، وَلَمْ تَبْقَ فِيَّ قُوَّةٌ؟
(1/271)
فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ قَائِلاً (أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ المَلَكُ الَّذِي أَبْلَغَهُ البُشْرَى بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى) إِنَّ جَعْلَكَ وَزَوْجَكَ تُنْجِبَانِ وَلَداً وَأَنْتَ هَرِمٌ، وَامْرَأَتُكَ عَاقِرٌ هُوَ أَمْرٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ عَلَيَّ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ أَنْتَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً، وَالْخَلْقُ أَصْعَبُ مِنْ تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ، كَجَعْلِ العَاقِرِ وَلُوداً.
قَالَ زَكَرِيَّا: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلاَمَةً وَدَلاَلَةً (آيَةً) عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي بِهِ مِنْ حَمْلِ زَوْجَتِي، لِتَسْتَقَرَّ نَفْسِي، وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي؟
قَالَ الرَبُّ: العَلاَمَةُ هِيَ أَنْ يَنْحَبِسَ لِسَانُكَ ثَلاَثَ لَيَالٍ وَأَنْتَ صَحِيحٌ مُعَافَى (سَوِيّاً)، وَلَيْسَ بِكَ عِلَّةٌ، وَلاَ أَنْتَ تَشْكُو مَرَضاً، فَلاَ تَسْتَطِيعَ تَكْلِيمَ النَّاسِ وَمُحَاوَرَتَهُمْ. وَخِلاَلَ هَذِهِ اللَّيَالِي تَسْتَطِيعُ القِيَامَ بِعِبَادَاتِكَ، وَتَسْبِيحَ رَبِّكَ.
وَبَعْدَ أَنْ أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ العَلاَمَةِ، خَرَجَ زَكَرِيَّا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مُصَلاَّهُ، أَوْ مَحَلِّ عِبَادَتِهِ (المِحْرَابِ)، وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ الكَلاَمَ، وَقَدِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بِتَسْبِيحِ اللهِ، فَسَأَلُوهُ عَمَّا بِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ لِيُسَبِّحُوا رَبَّهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، وَلِيُشَارِكُوهُ الشُّكْرَ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، إِذْ جَعَلَ فِيهِمْ نَبِيّاً يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
يحيى (عليه السلام)
(1/272)
يحيى -عليه السلام- نبي من أنبياء بني إسرائيل، ظهرت آية الله وقدرته فيه حين خلقه، حيث كان أبوه نبي الله زكريا -عليه السلام- شيخًا كبيرًا، وكانت أمه عاقرًا لا تلد، وكان يحيى -عليه السلام- محبًّا للعلم والمعرفة منذ صغره، وقد أمره الله تعالى بأن يأخذ التوراة بجد واجتهاد، فاستوعبها وحفظها وعمل بما فيها، والتزم بأوامر الله سبحانه وابتعد عن نواهيه، قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (12) سورة مريم.
وقد ابتعد يحيى عن لهو الأطفال، فيحكى أنه كان يسير وهو صغير إذ أقبل على بعض الأطفال وهم يلعبون فقالوا له: يا يحيى تعال معنا نلعب؛ فرد عليهم يحيى -عليه السلام- ردًّا بليغًا فقال: ما للعب خلقنا، وإنما خلقنا لعبادة الله، وكان يحيى متواضعًا شديد الحنان والشفقة والرحمة وخاصة تجاه والديه، فقد كان مثالاً للبر والرحمة والعطف بهما، قال تعالى عن يحيى: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:13 - 14].
وحمل يحيى لواء الدعوة مع أبيه، وكان مباركًا يدعو الناس إلى نور التوحيد ليخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإسلام، وكان شديد الحر على أن ينصح قومه ويعظهم بالبعد عن الانحرافات التي كانت سائدة حين ذاك.
(1/273)
عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ أَنَّ أَبَا سَلاَّمٍ حَدَّثَهُ أَنَّ الْحَارِثَ الأَشْعَرِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا فَقَالَ عِيسَى إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنَا آمُرُهُمْ.
(1/274)
فَقَالَ يَحْيَى أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِى بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِى أَوْ أُعَذَّبَ فَجَمَعَ النَّاسَ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلأَ الْمَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقَالَ هَذِهِ دَارِى وَهَذَا عَمَلِى فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَىَّ فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّى إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِى صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِى عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِى أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ ».
(1/275)
قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِى بِهِنَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ ». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ قَالَ « وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِى سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ » [الترمذي](1).
__________
(1) - أخرجه الترمذى (3102 ) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وهو كما قال
الجثا : جمع جثوة وهو الشىء المجموع - الشرف : المرتفع من الأرض -الورق : الفضة
(1/276)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ:" كُنَّا فِي حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ نَتَذَاكَرُ فَضَائِلَ الأَنْبِيَاءِ , أَيُّهُمْ أَفْضَلُ؟ فَذَكَرْنَا نُوحًا وَطُولَ عِبَادَتِهِ رَبَّهُ , وَذَكَرْنَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ , وَذَكَرْنَا مُوسَى كَلِيمَ اللَّهِ , وَذَكَرْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , وَذَكَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ:مَا تَذاكُرُونَ بَيْنَكُمْ؟قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهُ , تَذَاكَرْنَا فَضَائِلَ الأَنْبِيَاءِ , أَيُّهُمْ أَفْضَلُ؟ ذَكَرْنَا نُوحًا وَطُولَ عِبَادَتِهِ , وَذَكَرْنَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ , وَذَكَرْنَا مُوسَى كَلِيمَ اللَّهِ , وَذَكَرْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , وَذَكَرْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ:فَمَنْ فَضَّلْتُمْ؟قُلْنَا: فَضَلَّنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , بَعَثَكَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً , وَغَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ , وَأَنْتَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَمَا إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بن زَكَرِيَّا, قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ:أَمَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ كَيْفَ وَصَفَهُ فِي الْقُرْآنِ , فَقَالَ: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا"[مريم آية 12] , فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: "سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ"[آل عمران آية 39] لَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً قَطُّ , وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا."(1)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 359)(12764 )حسن
(1/277)
و عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا مَا هُمَّ بِخَطِيئَةٍ أَحْسِبُهُ قَالَ وَلاَ عَمِلَهُمَا." (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِىَ: «ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ. قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا. فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ». [البخاري] (2)
وروي أنه مات قتيلاً على يد بني إسرائيل.
- - - - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
عيسى (عليه السلام)
ذهبت امرأة عمران بمريم إلى المسجد الأقصى وفاءً بنذرها، لتنشأ فيه نشأة طيبة وتتعلم أصول دينها، وتتربى على مكارم الأخلاق، وتكفَّل زكريا برعاية مريم وكان زكريا زوجًا لخالتها، فقام بتربيتها وكفالتها ورعايتها حتى كبرت على الأخلاق الحميدة.
__________
(1) - مسند البزار (2351) صحيح
(2) - صحيح البخاري (3430)
(1/278)
عاشت مريم في محرابها تعبد الله وتسبحه وتقدِّسه، وذات يوم دخل عليها مجموعة من الملائكة على هيئة البشر، وأبلغوها ثناء الله -عز وجل- عليها، وحثوها على مزيد من الطاعة والعبادة والصلاة، فقالوا لها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران/42 - 44]}،ثم بشَّروها بولد منها سيكون نبيًّا كريمًا مؤيدًا بالمعجزات، فقالوا: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)} [آل عمران:45 - 46] فتعجبت مريم، إذ كيف يكون لها ولد وليست متزوجة، ولم يمسسها أي رجل!! فأخبرتها ملائكة الله أن هذه هي إرادة الله سبحانه القادر على كل شيء، ولم تملك مريم -عليها السلام- في هذا الأمر إلا أن تستسلم لله عز وجل، وتتحصن به في هذا المقام، لعل الله سبحانه أن يجعل لها مخرجًا.
ذات يوم وبينما هي وحدها، أرسل الله إليها الروح الأمين جبريل -عليه السلام- على هيئة بشرية وفي صورة حسنة، فلما رأته خافت وفزعت منه، فلم يكن يدخل عليها المحراب أحد غير زكريا، فتعوذت بالله من هذا الشخص الذي دخل عليها.
فطمئنها جبريل أنه رسول الله إليها، ليهب لها غلامًا طيبًا مباركًا، ونفخ فيها نفخة، فحملت على الفور، ثم اختفى جبريل -عليه السلام-.
(1/279)
ومرت الأيام، وأحست مريم بآلام الحمل، فذهبت إلى مكان بعيد خوفًا من كلام الناس في حقها، وجلست تحت ظل نخلة تفكر في أمرها وما سيكون عليه حالها بعد ولادتها، واقتربت ساعة الولادة، فتمنت أن لو كانت قد ماتت قبل أن يحدث لها ما حدث، ووضعت مريم عيسى -عليه السلام- واحتاجت إلى طعام وشراب حتى تستعيد قوتها ونشاطها، فقد أصابها الضعف بعد الولادة، وفجأة .. سمعت صوتًا يناديها ويأمرها أن تهز جذع النخلة التى تجلس تحتها، وسوف يتساقط عليها الرطب، فتأكل منها حتى تشبع. {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم/22 - 25]
وظل هذا الصوت يتكلم، وكأنه يعلم ما يدور في صدر مريم من مخاوف حينما تدخل على أهلها وعلى الناس، وهي تحمل بين ذراعيها طفلاً رضيعًا هي أمه، مع أنها لم تتزوج ولم تعاشر الرجال، فقال لها ذلك الصوت: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) [مريم/26]}، وأخذت تتلفت يمينًا ويسارًا لتتعرف على مصدر الصوت الذي يناديها، لكنها لم تجد أحدًا سوى ابنها الذي ولدته منذ لحظات، فتعجبت من ذلك تعجبًا شديدًا، وأدركت على الفور أنها أمام معجزة من معجزات الله العظيمة، ففرحت بابنها فرحًا كبيرًا، وعلمت أن الله سوف يجعل لها بعد هذا الضيق فرجا و مخرجا.
(1/280)
وتوكلت مريم على ربها، وحملت ابنها الصغير عيسى -عليه السلام- عائدة إلى قومها، وبينما هي تسير، رآها قومها من اليهود فتعجبوا من ذلك وأقبلوا عليها لائمين ومعنفين، وقالوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} سورة مريم.
قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} [سورة مريم]
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا 29 َالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31 وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [سورة مريم، الآية:29 - 33]
ولم تسلم مريم من إشاعات اليهود واتهاماتهم، ولما خافت على نفسها وولدها من غدر اليهود أخذت ابنها، وسارت به إلى مكان بعيد عن قومها، حتى لا يؤذوه ولما كبرت عادت به مرة أخرى إلى بيت لحم في فلسطين موطن ولادة عيسى، ولما عاد عيسى -عليه السلام- إلى قومه رأى أنهم قد انحرفوا عن المنهج الذي جاء به موسى من قبل، ومن انحرافهم أنهم كانوا يتحرجون من عمل الخير يوم السبت باعتباره يوم عطلة لا يجوز العمل فيه، فيمر عليهم اليوم دون أن يقدموا عملاً صالحًا يتقربون به إلى الله.
(1/281)
وأقبلوا على حب المال، فسيطر على نفوسهم وتفكيرهم، وأجبر الكهنةُ الفقراء على النذر للمعبد، ليأخذوه لهم مع علمهم أن الفقراء والمحتاجين في أشد الحاجة إليه، وكان بعضهم ينكر يوم القيامة، ويقولون: لا حساب ولا عقاب في الآخرة، وفئة أخرى طغت عليها الحياة وحب الدنيا، فأخذوا في ابتزاز أموال الناس بأي شكل وبأية حال، فكانت حاجة المجتمع إلى الإصلاح والهداية شديدة، فأرسل الله إليهم المسيح عيسى -عليه السلام- لهدايتهم إلى المنهج الصحيح، فذهب إليهم يدعوهم إلى عبادة الله، وترك ما هم فيه من جهل وضلال.
وأيد الله تعالى عيسى بالمعجزات العظيمة التي تتناسب مع أهل زمانه، لتكون دليلاً على أنه رسول من ربه، فأعطاه الله القدرة على إحياء الموتى، وشفاء المرضى الذين عجز الأطباء والحكماء عن شفائهم، وأعلمه الله بعض الغيب، فكان يعرف ما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم، فأخذ عيسى -عليه السلام- يدعو قومه إلى الطريق المستقيم، ويبين لهم المعجزات التي أيده الله بها، فقال: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) [آل عمران/49 - 51]}.
(1/282)
ومع هذه العجائب والمعجزات الخارقة التى جاء بها عيسى إلى بني إسرائيل لم يؤمن به إلا القليل، واستمر أكثرهم على كفرهم وعنادهم بالإضافة إلى أنهم رموه بالسحر، ولم ييأس عيسى -عليه السلام- بل استمر يدعوهم إلى عبادة الله عسى أن يؤمنوا بالله وحده، وطلب عيسى -عليه السلام- من قومه النصرة لدين الله فهدى الله مجموعة من الفقراء والمساكين إلى الإيمان، فكان هؤلاء هم الحواريون الذين اصطفاهم الله؛ ليحملوا دعوة الحق، ويناصروا عيسى، وكان عددهم لا يزيد عن اثني عشر رجلاً.
وذات يوم أمر عيسى -عليه السلام- جميع من معه بصيام ثلاثين يومًا فصاموا، ولما أتموها طلبوا منه أن يدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فنصحهم عيسى أن يتقوا الله في هذا الأمر، فردَّ الحواريون: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (113) سورة المائدة، ولما رأى عيسى إصرار الحواريين ومن معهم من بني إسرائيل على طلب مائدة من الرحمن، قام إلى مصلاه، يدعو الله قائلاً: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [سورة المائدة]
(1/283)
وبعد لحظات، أنزل الله المائدة من السماء، والناس ينظرون إليها وهي تقترب شيئًا فشيئًا، وكلما دنت كان عيسى يسأل ربه عز وجل أن يجعلها بركة وسلامًا لا نقمة وعذابًا، ولم تزل تقترب حتى استقرت أمام عيسى، فسجد عيسى ومن معه لله شاكرين على استجابة طلبهم، ثم كشف عيسى الغطاء عن تلك المائدة، فإذا عليها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؛ وأكل الحواريون من هذه المائدة، وأكل معهم آلاف الناس الذين جاءوا لعيسى من أجل أن يشفيهم بإذن الله من أمراضهم، وصار يوم نزول هذه المائدة عيدًا للحواريين وأتباع عيسى لفترة طويلة.
وانتشر خبر عيسى في البلاد، وآمن به كثير من الفقراء والمساكين، فحقد عليه الكهنة والأغنياء من اليهود وكرهوه، وأرادوا التخلص منه، فدبروا له حيلة ماكرة، حيث ذهبوا إلى الحاكم الرومانى وأخبروه بأن عيسى رجل ثائر يحرض الناس عليهم، ويدبر مؤامرة ضد الدولة الرومانية، وظلوا يحرضون الحاكم على عيسى حتى أصدر حكمًا بإعدامه وصلبه، وبحثوا عن عيسى طويلاً فلم يجدوه، حيث أوحى الله إليه بما دبره اليهود والكفرة، فاختبأ عيسى والحواريون في الجبال يعبدون الله بعيدًا عنهم.
وفي خلال تلك الأحداث قال الله لعيسى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (55) سورة آل عمران، واجتمع الحاكم بكبار رجال الدولة يرافقهم الكفرة من اليهود ليتشاورا في أمر عيسى وأين ذهب وما الذي يجب صنعه تجاهه؟ وظلوا يبحثون عن نبي الله عيسى في كل مكان ليقتلوه، لكن الله سبحانه حفظه ورعاه ورفعه إلى السماء، وألقى شبهه على رجل منهم، فأخذوه ظنًّا منهم أنه عيسى فصلبوه وقتلوه.
(1/284)
وودَّع عيسى الحواريين، وبشرهم برسول يأتي من بعده يُكْمِلُ ما بدأه، وبه تتم نعمة الله على الخلائق فقال لهم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) [الصف/6]}
وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِليْهِمْ، وَإِنَّهُ مُصَدِّقٌ بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُتُبِ اللهِ وَأَنْبِيَائِهِ جَمِيعاً، وَإِنَّهُ جَاءَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي بَعْدهُ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَدَاعِياً إِلَى التَّصْدِيقِ بِهَذَا الرَّسُولِ. فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَحْمَدُ المُبَشَّرُ بِهِ بِالأَدْلةِ الوَاضِحَةِ، وَالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَةِ كَذَّبُوهُ، وَقَالُوا عَمَّا جَاءَهُمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ.
(وَقَدْ جَاءَ فِي الفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ السَّفْرِ الخَامِسِ مِنَ التَّورَاةِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي: (يَا مُوسَى إِنِّي سَأُقِيمُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيّاًَ مِنَ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ أَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَا آمُرُهُ بِهِ، وَالذِي لاَ يَقْبَلُ ذَلِكَ النَّبِيَّ الذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِي، أَنَا أَنْتَقِمُ مِنْهُ وَمِنْ سِبْطِهِ).
وَجَاءَ فِي الإِصْحَاحِ 21 مِنْ سِفَرِ أَشْعِيا بِشَارَةٌ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي:
(1/285)
" وَحْيٌ مِنْ جِهَةَ بِلاَدِ العَرَبِ: فِي الوَعْرِ مِنْ بِلاَدِ العَرَبِ تَبَيتينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ العَطْشَانِ يَا سَكَّانَ أَرْضِ تِيمَاءَ وَافُوا الهَارِبَ بِخُبْزِهِ. فإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا، مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ المَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ القَوْسِ المَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الحَرْبِ. فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارٍ وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارٍ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ ".
" وَهَذِهِ النُّبُوءَةُ إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى هِجْرَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى يَثْرِبَ، بَعْدَ أَنْ تَزَايَدَ إِيذَاءُ قُرَيشٍ لَهُ وَلِلمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى نَصْرِ رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ عَلَى قُرَيشٍ أَحْفَادِ عَدْنَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ (وَعَدْنَانُ هُوَ قِيدَارُ) وَتَحْطِيمِ جَبُرُوتِ قُرَيشٍ وَسُلْطَانِهَا بِقْتَلِ كُبَرَائِهَا، وَأَسْرِ أَعْدَادٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ جَرَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ بَعْدَ عَامٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ إِلَى يَثْرِبَ ".
وَجَاءَتِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ فِي الإِنْجِيلِ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي:
(قَالَ يَسُوعُ: إِنَّ الفَارْقَليط رُوحَ الحَقِّ الذِي يُرْسِلُهُ أَبِي يَعْلِّمُكُمْ كُلَّ شَيءٍ) (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا - الفَصْلُ 15 - وَالفَارْقَلِيط لَفْظٌ يَعْنِي الحَمْدَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالحَامِدِ وَالحَمَّادِ).
(1/286)
وظن اليهود أن عيسى هو الذي قتل، ففرحوا بذلك، لكن القرآن الكريم يؤكد لنا أنه لم يقتل، وأنه نجا من أيديهم، حيث إن الله -سبحانه- رفعه إليه، قال تعالى:
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) [النساء/157 - 159]}
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ لأَنَّهُمْ قَالُوا سَاخِرِينَ مُسْتَهْزِئِينَ: إِنَّهُمْ قَتَلُوا المَسِيحَ عَلَيهِ السَّلاَمُ، وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ، وَلَمْ يَصْلُبُوهُ، وَإِنَّمَا صَلَبُوا شَخْصاً آخَرَ غَيْرَهُ فَاشْتَبَهَ الأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَالْتَبَسَ، وَلَمْ يَتَيَّقَنُوا مِنْ أَنَّهُ هُوَ المَسِيحُ بِعَيْنِهِ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ. وَالأَنَاجِيلُ تَقُولُ إنَّ الذِي أَسْلَمَهُ إلى الجُنْدِ هُوَ يَهُوذا الأَسْخَرْيوطِيُّ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ عَلاَمَةً هِيَ أنَّ مَنْ قَبَّلَهُ يَكُونُ هُوَ المَسِيحَ، فَلَمَّا قَبَّلَهُ قَبَضُوا عَلَيْهِ.
وَانْجِيلُ بِرْنَابَا يَقُولُ إنَّ الجُنُوَد أَخَذُوا يَهُوذَا الأسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ ظَنّاً مِنْهُمْ أنَّهُ المَسِيحُ، لأنَّ اللهَ أَلْقَى عَلَيهِ شَبَهَهُ. وَالذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَفِي شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، إذْ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ، وَإِنَّمَا هُمْ يَتْبَعُونَ الظَّنَّ وَالقَرَائِنَ التِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الآرَاءِ عَلَى بَعْضٍ.
(1/287)
وَالذِي تَمَّ فِعْلاً هُوَ أنَّ اللهَ أَنْجَاهُ مِنْ كَيْدِ اليَهُودِ، وَرَفَعَهُ إلَيْهِ (وهوَ أنَّ اللهَ تَعَالَى رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إلى السَّمَاءِ)، وَاللهُ سَبْحَانَهُ عَزِيزُ الجَانِبِ، لاَ يُرَامُ جنابُهُ، وَلا يُضَامُ مَنْ لاَذَ بِبَابِهِ الكَرِيمِ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنَ الأُمُورِ.
وقد أنزل الله -عز وجل- الإنجيل على عيسى، وأمرنا بالإيمان به، قال تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) [البقرة/136، 137]} وَقُولُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ لِهؤُلاءِ وَهؤُلاءِ: إِنّنا نُؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى جَميعِ الأَنبياءِ وَالمُرْسَلِينَ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ لِرَبِّنا. (كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ يَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَها لِلمُسْلِمينَ بِالعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: " لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ".
(1/288)
فَإِن آمَنَ الكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ، أي بِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ، وَبِجَمِيعِ رُسُلِهِ، وَلَم يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَقَدِ اهْتَدَوْا لِلْحَقِّ، وَإِنْ تَوَلّوْا عَنِ الحَقِّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيهِمْ، وَاتَّبَعُوا البَاطِلَ، فَإِنَّهُمْ مُشَاقُّونَ مُخَالِفُونَ، وَسَيَنْصُرُكَ اللهُ عَلَيهِمْ يَا مُحَمَّدٌ، وَيُظْفِرُكَ بِهِمْ، وَهُوَ الذِي يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَيَعْلَمُ مَا يُدَبِّرُونَ.
ولكن أهل الكتاب حرفوا الإنجيل وبدلوا كثيرًا في آياته وأحكامه، وكان عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، ولم يأت من بعده سوى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأخبرنا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أن عيسى -عليه السلام- سوف ينزل إلى الأرض مرة أخرى في نهاية الزمان، ويدعو الناس إلى شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويكسر الصليب الذي اتخذه النصارى شعارًا لهم.
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) [النساء/159، 160]}
لاَ يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ إلى الأَرْضِ، بَعْدَ أنْ رَفَعَهُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ، إلاَّ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَقْضِيَ اللهُ عَلَيهِ بِالمَوْتِ، وَيَكُونُ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ شَاهِداً عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَأَقَرَّ بِعُبُودِيَّتِهِ للهِ.
بل وروى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَإِنَّهُ لَعلمُ لِلسَاعَةِ أى خروج عيسى عليه السلام، فإن نزل فهذه علامة كبرى تدل على قرب قيام الساعة.
(1/289)
وقد بينت السنة الصحيحة المتواترة نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض من السماء.
ففى الصحيحين عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» (1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ - يَعْنِى عِيسَى - وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ وَيُهْلِكُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» (2) ..
__________
(1) - صحيح البخارى (2222) ومسلم (406) - المقسط: العادل
(2) - سنن أبى داود (4326) صحيح
(1/290)
و عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ «مَا شَأْنُكُمْ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ. فَقَالَ «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِى عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّى أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالاً يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ «أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ قَالَ «لاَ اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ».
(1/291)
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِى عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ثُمَّ يَأْتِى الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِى كُنُوزَكِ. فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِىَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِى حَيْثُ يَنْتَهِى طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَأْتِى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِى الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّى قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِى لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِى إِلَى الطُّورِ.
(1/292)
وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ. وَيُحْصَرُ نَبِىُّ اللَّهُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهُمُ النَّغَفَ فِى رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ فَلاَ يَجِدُونَ فِى الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاَّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ أَنْبِتِى ثَمَرَتَكِ وَرُدِّى بَرَكَتَكِ.
(1/293)
فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ». (1).
__________
(1) - صحيح مسلم (7560)
البخت: واحدتها البختية وهى الناقة طويلة العنق ذات السنامين - الحدب: الغليظ من الأرض فى ارتفاع - حرز: ضم - خلة: طريق - الذرى: جمع الذروة وهى أعلى الشئ والمراد السنام
الرسل: اللبن - يرغب: يدعو -الزلفة: المكان يحفر ليحبس فيه ماء السماء وقيل المرآة - الزهم: الريح المنتنة - الزهمة: الريح المنتنة - السارحة: الماشية - اليعاسيب: جمع يعسوب وهو ذكر النحل - عاث: أفسد - الفئام: الجماعة الكثيرة -الفخذ: حى الرجل إذا كان من أقرب عشيرته - الفرسى: جمع الفريس وهم القتلى - القحف: القشر - القطط: شديد جعودة شعر الرأس - يكن: يستر - اللقحة: الناقة ذات اللبن قريبة العهد بالولادة - الممحل: المجدب المقحط - الْمدر: القرى والأمصار واحدتها مدرة - ينسلون: يخرجون مسرعين - النغف: جمع النغفة وهو دود يوجد فى أنوف الإبل والغنم فتموت به فى أقرب وقت - يتهارجون: يجامعون النساء بحضرة الناس - المهرودة: الحلة أو الشقة وقيل الثوب المهرود الذى يصبغ بالورس والزعفران
الوبَر: البيت المتخذ من صوف الإبل والمراد أهل البادية
(1/294)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلاً مَرْبُوعاً إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطِرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ فَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَتَقَعُ الأَمَنَةُ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَعَ الإِبِلِ وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لاَ تَضُرُّهُمْ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» (1).
__________
(1) - مسند أحمد (9508) صحيح
المربوع: بين الطويل والقصير - العلات: أولاد العلات الإخوة لأب من أمهات شتى -الممصر: الذى فيه صفرة خفيفة
(1/295)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (159) سورة النساء (1).
وقد ضلَّ النصارى من بعد عيسى حيث اعتقدوا أن عيسى هو ابن الله، كما اعتقد اليهود أن عزيرًا ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، ولقد نفى الله ما قاله هؤلاء الكفرة، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (59) سورة آل عمران.
إنَّ خَلْقَ الله لعيسى من غير أب مثَلُه كمثل خلق الله لآدم من غير أب ولا أم، إذ خلقه من تراب الأرض، ثم قال له: "كن بشرًا" فكان. فدعوى إلهية عيسى لكونه خلق من غير أب دعوى باطلة; فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، واتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله.
__________
(1) - صحيح البخارى (3448)
(1/296)
وسوف يحاسبهم الله -عز وجل- على قولهم ذلك، ويعاقبهم عليه عقابًا شديدًا، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [التوبة/30، 31]}.
لقد أشرك اليهود بالله عندما زعموا أن عزيرًا ابن الله. وأشرك النصارى بالله عندما ادَّعوا أن المسيح ابن الله. وهذا القول اختلقوه من عند أنفسهم، وهم بذلك لا يشابهون قول المشركين من قبلهم. قَاتَلَ الله المشركين جميعًا كيف يعدلون عن الحق إلى الباطل؟
اتخذ اليهودُ والنصارى العلماءَ والعُبَّادَ أربابًا يُشَرِّعون لهم الأحكام، فيلتزمون بها ويتركون شرائع الله، واتخذوا المسيح عيسى ابن مريم إلهًا فعبدوه، وقد أمرهم الله بعبادته وحده دون غيره، فهو الإله الحق لا إله إلا هو. تنزَّه وتقدَّس عما يفتريه أهل الشرك والضلال.
(1/297)
ويوم القيامة سوف يسأل الله -عز وجل- نبيه عيسى عن ضلال قومه وما فعلوه بعده من تأليههم له وقولهم إنه ابن الله، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) [المائدة/116 - 120]}.
(1/298)
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ مَا يَقُولُهُ رَبُّكَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ، فَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، ثُمَّ يُذكِّر عِيسَى بِأَفْضَالِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ بِحُضُورِ مَنِ اتَّخَذُوهُ وَأُمَّهُ إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ: هَلْ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ - أَيْ مُتَجَاوِزَيْنِ بِذَلِكَ تَوْحِيدِ اللهِ وَإِفْرَادِهِ بِالعُبُودِيَّةِ؟ فَيُنْكِرُ عِيسَى أنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ للهِ تَعَالَى: سُبْحَانَكَ! وَتَنَزَّهَ اسْمُكَ، لَيْسَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي حَقٌّ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أَنْتَ، لأَنَّكَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، وَتَعْلَمُ مَا تُخْفِي العِبَادُ وَمَا تُعْلِنُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، لأنَّكَ رَبِّي وَخَالِقِي، وَأَنَا عَبْدُكَ لاَ أَعْرِفُ مَا فِي نَفْسِكَ.
إِنَّنِي لَمْ أَقُلْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الإِيْمَانِ، وَأَسَاسِ الدِّينِ إلاَّ الذِي أَرْسَلْتَنِي بِهِ، وَأَمَرْتَنِي بِإِبْلاَغِهِ، وَهُوَ أنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ شَهِيداً عَلَى أَعْمَالِهِمْ حِينَ كُنْتُ حَيّاً بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الشَّاهِدَ الرقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ.
(1/299)
يَرُدُّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الأمْرَ وَالمَشِيئَةَ إلَى اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ، لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَيَقُولُ: إنَّ أَمْرَ العِبَادِ مَوْكُولٌ إلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ عَذَّبَهُمْ فَبِذُنُوبِهِمْ، فَهُوَ رَبُّهُمْ وَهُمْ عِبَادُهُ، وَإِنْ يَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّهُ تَعَالَى الغَفَّارُ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَحُكْمِهِ.
وَحِينَ تَبَرَّأَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، مِنْ عِباَدَةِ مَنْ عَبَدُوهُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِدْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا هُوَ اليَوْمُ الذِي يَنْفَعُ فِيهِ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، وَالمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ، وَسَتَكُونُ للصَّادِقِينَ جَنَّاتٌ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، جَزَاءً وَفَاقاً لَهُمْ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، وَلَقَدْ فَازُوا بِرِضَا رَبِّهِمْ وَرِضَوَانِهِ، وَرَضُوا عَمَّا أَكْرَمَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ الذِي لاَ أَعْظَمَ مِنْهُ.
اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَهُوَ المَالِكُ المُتَصَرِّفُ بِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَالقَادِرُ عَلَيْهِ، وَالجَمِيعُ مُلْكُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ، وَالمَسِيحُ وَأمُّهُ اللَّذَانِ عَبَدَهُمَا الكَافِرُونَ، مِنْ دُونِ اللهِ، دَاخِلاَنِ تَحْتَ قَبْضَتِهِ، فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَتَّكِلَ عَلَى شَفَاعَتِهَا فِيهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
--------------
الدروس والعبر
1 - كم حملت أم عيسى عليه السلام؟
(1/300)
لم يرد نص قطعي من كتاب ولا من سنة في تحديد فترة حمل مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وما ورد في ذلك إنما هو مجرد حكايات لا تستند إلى دليل صالح للاحتجاج، مثل ما قيل عن عكرمة من أنها حملت به ثمانية أشهر، وما قيل من أن مدة حملها ستة أشهر أو تسعة، كل هذا لا دليل عليه، ولعل أقرب الأقوال هو قول ابن عباس رضي الله عنهما: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال، فهذا هو الظاهر لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل، انظر القرطبي عند كلامه على قصة مريم في سورة مريم. والله أعلم. (1)
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
محمد صلى الله عليه وسلم
في جو مشحون بزيف الباطل، وركام الجاهلية، يسوس الناس جهلهم، ويحكمهم عرفهم وعاداتهم، قتل وزنا، عهر وخنا، وأد للبنات، تفاخر بالأحساب والأنساب، ساد في البقاع قانون الغاب، فالبقاء للقوي، والتمكين للعزيز، تُغير القبيلة على الأخرى لأتفه الأسباب، تقوم الحروب الطاحنة، تزهق فيها الأرواح، وتهلك الأموال، وتسبى النساء والذراري، وتدوم السنون، وتتعاقب الأعوام، والحرب يرثها جيل بعد جيل، وأصلها بعيرٌ عُقر، وفرسٌ سبقت أخرى، أو قطيع أغنام سيق وسرق.
ساد في ذلكم المجتمع عادات غريبة عجيبة، فعند الأشراف منهم كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، بينما كان الحال في الأوساط الأخرى أنواع من الاختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة.
كانت الخمر ممتدح الشعراء، ومفخرة الناس، فهي عندهم سبيل من سبل الكرم، ناهيك عن صور الشرك وعبادة الأوثان، التي تصور كيف كان أولئك يعيشون بعقول لا يفكرون بها، وبأعين لا يبصرون بها، وأذان لا يسمعون بها إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44].
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4197) رقم الفتوى 17354 مدة حمل مريم بعيسى عليهما السلام
(1/301)
في هذه الأثناء حدث حادث عجيب لمكة وحرمها، رأى أبرهة الصباح نائب النجاشي على اليمن أن العرب يحجون الكعبة، فبنى كيسة كبيرة بصنعاء ليصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلاً ولطخ قبلتها بالعذرة، ولما علم أبرهة بذلك ثار غضبه وسار بجيش عرمرم عدده ستون ألف جندي إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلاً من أكبر الفيلة، وكان في الجيش قرابة ثلاثة عشر فيلاً، وتهيأ لدخول مكة فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل ولم يقم، وكلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق قام يهرول، وإذا وجهوه قبل الكعبة برك فلم يتحرك، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار مثل الحمص، لا تصيب أحدًا منهم إلا تقطعت أعضاؤه وهلك، وهرب من لم يصبه منها شيء يموج بعضهم في بعض، فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل مهلك، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
(1/302)
وكانت هذه الوقعة قبل مولد النبي بخمسين يومًا أو تزيد، فأضحت كالتقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وبعد أيام من هلاك ذلكم الجيش أشرقت الدنيا وتنادت ربوع الكون تزف البشرى ولد سيد المرسلين، وإمام المتقين، والرحمة للعالمين في شعب بني هاشم بمكة صبيحة يوم الإثنين التاسع من ربيع الأول لعام الفيل، ولد خير البشر، وسيد ولد آدم، ولد الرحيم الرفيق بأمته أطل على هذه الحياة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، فعَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِى طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ دَعْوَةِ أَبِى إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ وَرُؤْيَا أُمِّى الَّتِى رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ ... »(1).
__________
(1) - مسند أحمد (17627)صحيح -المنجدل : الساقط على الأرض،
(1/303)
وأرسلت على جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد، وهو اسم لم يكن معروفًا في العرب، وختنه يوم سابعه كما كانت العرب تفعل، وقد ولد يتيمًا حيث توفي والده قبل ولادته وقيل بعدها بشهرين، وأول من أرضعته بعد أمه آمنة ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، وكانت العادة عند حاضرة العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادًا على أمراض الحواضر ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، ولنترك الحديث لمرضعته حليمة السعدية تحدثنا عن قصة رضاعها إياه، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . أَوْ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السّعْدِيّةُ أُمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدّثُ أَنّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا ، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، تَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ قَالَتْ وَذَلِك فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا . قَالَتْ فَخَرَجَتْ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا ، وَاَللّهِ مَا تَبِضّ بِقَطْرَةٍ وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيّنَا الّذِي مَعَنَا ، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجَوْعِ .
(1/304)
مَا فِي ثَدْيَيّ مَا يُغْنِيهِ وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَدّيهِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ يُغَذّيهِ - وَلَكِنّا كُنّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْت عَلَى أَتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أَدَمْتُ بِالرّكْبِ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا ، حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ نَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ فَمَا مِنّا امْرَأَةٌ إلّا وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قِيلَ لَهَا إنّهُ يَتِيمٌ وَذَلِك أَنّا إنّمَا كُنّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصّبِيّ فَكُنّا نَقُولُ يَتِيمٌ وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمّهُ وَجَدّهُ فَكُنّا نَكْرَهُهُ لِذَلِك ، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي ، فَلَمّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْت لِصَاحِبِي : وَاَللّهِ إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا ، وَاَللّهِ لَأَذْهَبَن إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنّهُ قَالَ لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي ، عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً . قَالَتْ فَذَهَبْتُ إلَيْهِ فَأَخَذْته ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلّا أَنّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ . قَالَتْ فَلَمّا أَخَذْتُهُ رَجَعْت بِهِ إلَى رَحْلِي ، فَلَمّا وَضَعْته فِي حِجْرِي أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ حَتّى رَوِيَ وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى رَوِيَ ثُمّ نَامَا " وَمَا كُنّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ . فَإِذَا إنّهَا لَحَافِلٌ فَحَلَبَ مِنْهَا مَا شَرِبَ وَشَرِبْتُ مَعَهُ حَتّى انْتَهَيْنَا رِيّا وَشِبَعًا ، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ .
(1/305)
قَالَتْ يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا : تَعَلّمِي وَاَللّهِ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ أَخَذْت نَسَمَةً مُبَارَكَةً قَالَتْ فَقُلْت : وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو ذَلِكَ . قَالَتْ ثُمّ خَرَجْنَا وَرَكِبْت ( أَنَا ) أَتَانِي ، وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي ، فَوَاَللّهِ لَقَطَعَتْ بِالرّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَبِي ذُؤَيْبٍ ، وَيْحَك ارْبَعِي عَلَيْنَا ، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَك الّتِي كُنْت خَرَجْت عَلَيْهَا ؟ فَأَقُولُ لَهُنّ بَلَى وَاَللّهِ إنّهَا لَهِيَ هِيَ فَيَقُلْنَ وَاَللّهِ إنّ لَهَا لَشَأْنًا . قَالَتْ ثُمّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا ، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا ، فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ حَتّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ ، فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبّنًا . فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرّفُ مِنْ اللّهِ الزّيَادَةَ وَالْخَيْرَ حَتّى مَضَتْ سَنَتَاهُ وَفَصَلْتُهُ وَكَانَ يَشِبّ شَبَابًا لَا يَشِبّهُ الْغِلْمَانُ فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا . قَالَتْ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا ، لِمَا كُنّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ . فَكَلّمْنَا أُمّهُ وَقُلْت لَهَا : لَوْ تَرَكْت بُنَيّ عِنْدِي حَتّى يَغْلُظَ فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَ مَكّةَ ، قَالَتْ فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتّى رَدّتْهُ مَعَنَا .
(1/306)
قَالَتْ فَرَجَعْنَا بِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ بَعْدَ مَقْدِمِنَا ( بِهِ ) بِأَشْهُرِ مَعَ أَخِيهِ لَفِي بَهْمٍ لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا ، إذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدّ ، فَقَالَ لِي وَلِأَبِيهِ ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَاهُ فَشَقّا بَطْنَهُ فَهُمَا يَسُوطَانِهِ . قَالَتْ فَخَرَجْت أَنَا وَأَبُوهُ نَحْوَهُ فَوَجَدْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَقَعَا وَجْهُهُ . قَالَتْ فَالْتَزَمْته وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ فَقُلْنَا لَهُ مَا لَك يَا بُنَيّ قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَانِي وَشَقّا بَطْنِي ، فَالْتَمِسَا ( فِيهِ ) شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ . قَالَتْ فَرَجَعْنَا ( بِهِ ) إلَى خِبَائِنَا .قَالَتْ وَقَالَ لِي أَبُوهُ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ بِهِ قَالَتْ فَاحْتَمَلْنَاهُ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ فَفَالَتْ مَا أَقْدَمَك بِهِ يَا ظِئْرُ وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَك ؟ قَالَتْ فَقُلْت : قَدْ بَلَغَ اللّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الّذِي عَلَيّ وَتَخَوّفْت الْأَحْدَاثَ عَلَيْهِ فَأَدّيْته إلَيْك كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ مَا هَذَا شَأْنُك ، فَاصْدُقِينِي خَبَرَك . قَالَتْ فَلَمْ تَدَعْنِي حَتّى أَخْبَرْتُهَا .
(1/307)
قَالَتْ أَفَتَخَوّفَتْ عَلَيْهِ الشّيْطَانَ ؟ قَالَتْ قُلْت نَعَمْ قَالَتْ كَلّا ، وَاَللّهِ مَا لِلشّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ وَإِنّ لِبُنَيّ لَشَأْنًا ، أَفَلَا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ قَالَتْ ( قُلْت ) بَلَى ، قَالَتْ رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنّهُ خَرَجَ مِنّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، ثُمّ حَمَلْتُ بِهِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِنْ حَمْلٍ قَطّ كَانَ أَخَفّ ( عَلَيّ ) وَلَا أَيْسَرَ مِنْهُ وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْته وَإِنّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ رَافِعٌ رَأَسَهُ إلَى السّمَاءِ دَعِيهِ عَنْك وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً .(1)
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 162) و دلائل النبوة للبيهقي (45)وهو حديث حسن
= سنة شهباء : ذات قحط وجدب ، والشهباء الأرض البيضاء التي لا خضرة فيها لقلة المطر من الشهبة ، وهي البياض فسُمِّيت سنة الجدب بها = الأتان : الحمار يقع على الذكر والأنثى ، والأتَانُ الحمارَةُ الأنثى خاصَّةً = الشارف : الناقة المسنة التي ارتفع لبنها = بض : قطر وسال ورشح = الرواح : العودة والرجوع = الجفر : الصبي يقرب البلوغ = الظئر : المرضعة لغير ولدها ، ويطلق على زوجها أيضا = انتقع لونه : تغير من خوف أو ألم = أضجعه : أماله على جانبه = الخشية : الخوف
(1/308)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَاهُ جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. ثُمَّ غَسَلَهُ فِى طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِى مَكَانِهِ وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِى ظِئْرَهُ - فَقَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِى صَدْرِهِ.(1)
وبعد هذه الحادثة خشيت عليه حليمة فردته إلى أمه ولما بلغ سنته السادسة توفيت أمه فكان عند جده عبد المطلب، فحنَّ عليه كأشد ما يكون الحنو، بل آثره على أولاده، فكان رسول الله يأتي وهو غلام فيجلس على فراش جده في ظل الكعبة وأعمامه حول الفراش فيقول جده: دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنًا، ولما تخطى سنته الثامنة توفي جده الذي عهد بكفالته إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه، فكان يوليه من العناية ما لا يجعله لأبنائه، ويخصه بفضل احترام وتقدير ومكانة.
ولما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام حتى وصل إلى بصرى، وكان فيها راهب يقال له بحيرًا، فلما نزل الركب، خرج وأكرمهم وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك،
__________
(1) - صحيح مسلم (431 )
المخيط : الإبرة - الظئر : المرضعة غير ولدها ويقع على الرجل والمرأة - العلقة : الدم الغليظ المنعقد -لأمه : ضم بعضه إلى بعض - المنتقع : المتغير اللون.
(1/309)
عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلاَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَلْتَفِتُ. قَالَ فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَا عِلْمُكَ فَقَالَ إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلاَ حَجَرٌ إِلاَّ خَرَّ سَاجِدًا وَلاَ يَسْجُدَانِ إِلاَّ لِنَبِىٍّ وَإِنِّى أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ. ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ فِى رِعْيَةِ الإِبِلِ قَالَ أَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَىْءِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَىْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ انْظُرُوا إِلَى فَىْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ.
(1/310)
قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لاَ يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَقَالَ مَا جَاءَ بِكُمْ قَالُوا جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِىَّ خَارِجٌ فِى هَذَا الشَّهْرِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلاَّ بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا فَقَالَ هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ قَالُوا إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا. قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ قَالُوا لاَ. قَالَ فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ قَالَ أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ قَالُوا أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ ... وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ. (1)
وكان عليه السلام في بداية حياته قد رعى الغنم ثم لما بلغ خمسًا وعشرين سنة خرج تاجرًا إلى الشام في مال لخديجة مع غلامها ميسرة فحدثها عن خلاله العذبة، وشمائله الكريمة، وما أوتي من فكر راجح ومنطق صادق، ونهج أمين، ففاتحت خديجة صديقتها نفيسة بنت منبه برغبتها الزواج من محمد فعرضت نفيسة على رسول الله الأمر، فرضي ثم كلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وأصدقها عشرين بكرة وكانت أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلاً، وهي أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت. فرضي الله عنها وأرضاها.
__________
(1) - سنن الترمذى (3980) حسن -وفيه زيادة حذفتها لعدم صحتها
(1/311)
ثم جاء عمه أبو طالب وعمه حمزة وخطباها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخديجة، وكانت نعم الزوجة الصالحة، فقد ناصرته في حياتها، وبذلت كل ما تملك في سبيل إعلاء كلمة الله، لقد تزوج في شبابه وقبل مبعثه بأكرم النساء وأحصنهم وأعفهم وأرجحهم عقلاً أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فأنجب منها جل أبنائه وبناته.
وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن تدبيره وحكمته ورجاحة عقله في حل المشكلات،ولخمس وثلاثين سنة من مولده عليه الصلاة والسلام جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فعزمت قريش على بناءها وألا يدخلوا في مالها إلا طيبًا فهدموها حتى بلغوا قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها، فلما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمسًا، وكاد أن يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا أول داخل من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون أول داخل هو رسول الله فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فأمر برداء ووضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل رفع الرداء إلى موضع الحجر الأسود فوضعه بيده الشريفة.
هذا هو النبي وهذه هي حياته قبل مبعثه، جمع خير ما في طبقات الناس من ميزات، كان طرازًا رفيعًا، وواحدًا فريدًا، ذا نظرة سديدة وفكر صائب، وفطنة وحسن خلق، نفر مما كان عليه قومه من خرافات وعبادات، ما وجده حسنًا شارك فيه، وما كان قبيحًا مشينًا عافه ونفر منه، وعاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً. ولا شك أن الله جل وعلا قد أحاطه بعنايته فحال بينه وبين أمور الجاهلية.
(1/312)
عن ْجَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ : لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ . فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ « أَرِنِى إِزَارِى » . فَشَدَّهُ عَلَيْهِ .(1).
كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عريكة، وأعفهم نفسًا، وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملاً وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه الأمين.
حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه بعدما كره بفطرته السليمة ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، فكان يصعد إلى غار حراء، فيمكث به الليالي ذوات العدد ناظرًا للكعبة الشريفة والسماء.
__________
(1) - صحيح البخارى (1582 )-طمحت : ارتفعت
(1/313)
بشر بقدومه الأنبياء من قبله، وهتفت الجن ببعثته، وامتلأت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا. بعثه الله للناس على رأس أربعين سنة، فلما اقتربت طلوع شمسه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سمع من يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت فلا يرى إلا الحجر والشجر (1)،فلما كان ذات ليلة على عادته في الغار وإذا بجبريل عليه السلام يأتيه رسول مرسل من ربه، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ. قَالَ «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ «فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ. قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ)».
__________
(1) - سنن الترمذى (3986) وفيه ضعف
(1/314)
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى » . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » . قَالَ نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (3 )
المؤزر : القوى - جذعا : شابا فتيا - يتحنث : يتعبد - الروع : الفزع - زمل : لف وغطى
زمل : لف وغطى - المعدوم : الشىء المعدوم الذى لا يجدونه أو الفقير الذى صار كالمعدوم - فتر : انقطع - تقرى : تكرم الضيف وتقوم بحق ضيافته - تكسب : تعطى المال للفقير - الكل : أصله الثقل ويدخل فى حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال - الناموس : الوحى
(1/315)
فكان هذا الحادث هو بداية الوحي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف مما حدث له، فذهب إلى خديجة وطلب منها أن تغطيه، ثم حكى لها ما حدث، فطمأنته، وأخبرته أن الله لن يضيعه أبدًا، ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وحكى له ما رأى، فبشره ورقة بأنه نبي هذه الأمة، وتمنى أن لو يعيش حتى ينصره، لكن ورقة مات قبل الرسالة، وانقطع الوحى مدة، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزل الوحى مرة ثانية، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « ثُمَّ فَتَرَ عَنِّى الْوَحْىُ فَتْرَةً ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ ، فَجِئْتُ أَهْلِى فَقُلْتُ زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إِلَى ( فَاهْجُرْ ) » . قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَالرِّجْزُ الأَوْثَانُ . [البخارى](1).
__________
(1) - صحيح البخارى (3238 )-جئثت : فزعت - الفترة : الانقطاع
(1/316)
وبعد هذه الآيات التى نزلت كانت بداية الرسالة، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الأقربين إلى الإسلام، فكان أول من آمن خديجة زوجته، وأبو بكر صديقه، وعلي بن أبى طالب ابن عمه، وزيد بن حارثه مولاه، ثم تتابع الناس بعد ذلك في دخول الإسلام، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ ، يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا نَعَمْ ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ )(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (4770 ) -تب : خسر
(1/317)
ولما نزل قول الله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنكر عبادة الأصنام، وما عليه الناس من الضلالة، وسمعت قريش بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذتهم الحمية لأصنامهم التى لا تضر ولا تنفع، وحاولوا أن يقفوا ضد هذه الدعوة الجديدة بكل وسيلة، فذهبوا إلى أبى طالب، وطلبوا منه أن يسلم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فرفض، وكانوا يشوهون صورته للحجاج مخافة أن يدعوهم، وكانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن، ويتهمونه بالجنون والكذب، لكن باءت محاولاتهم بالفشل، فحاول بعضهم تأليف شيء كالقرآن فلم يستطيعوا، وكانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الإيذاء كي يردوهم عن الإسلام، فكانت النتيجة أن تمسك المسلمون بدينهم أكثر.
(1/318)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بالمسلمين سرًّا في دار الأرقم بن أبى الأرقم يعلمهم أمور الدين، ثم أمرهم بعد فترة أن يهاجروا إلى الحبشة، فهاجر عدد من المسلمين إلى الحبشة، فأرسلت قريش إلى النجاشى يردهم، لكن الله نصر المسلمين على الكفار؛ فرفض النجاشى أن يسلم المسلمين وظلوا عنده في أمان يعبدون الله عز وجل، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِىَّ أَمَّنَا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لاَ نُؤْذَى وَلاَ نَسْمَعُ شَيْئاً نَكْرَهُهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِىِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلِدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الأَدَمُ فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيراً وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقاً إِلاَّ أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِىِّ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِىِّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا لَهُمَا ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِىَّ فِيهِمْ ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَاهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ.
(1/319)
قَالَتْ فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِىِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلاَّ دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِىَّ ثُمَّ قَالاَ لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَم يَدْخُلُوا فِى دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتُمْ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْنَا وَلاَ يُكَلِّمَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ.
(1/320)
فَقَالُوا لَهُمَا نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِىِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالاَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِى دِينِكَ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِىُّ كَلاَمَهُمْ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلاَدِهِمْ وَقَوْمِهِمْ.
(1/321)
قَالَ فَغَضِبَ النَّجَاشِىُّ ثُمَّ قَالَ لاَهَا اللَّهِ ايْمُ اللَّهِ إِذاً لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا وَلاَ أَكَادُ قَوْماً جَاوَرُونِى وَنَزَلُوا بِلاَدِى وَاخْتَارُونِى عَلَى مَنْ سِوَاىَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِى أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولاَنِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِى قَالَتْ ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلَّمَنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- كَائِنٌ فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِىُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِى فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِى دِينِى وَلاَ فِى دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ قَالَتْ فَكَانَ الَّذِى كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِىءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ
(1/322)
الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ - قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلاَمِ - فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً وَحَرَّمْنَا مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أُحِلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِى جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ قَالَتْ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ فَاقْرَأْهُ عَلَىَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْراً مِنْ (كهيعص) قَالَتْ فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِىُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلاَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِىُّ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَداً وَلاَ أَكَادُ.
(1/323)
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَاللَّهِ لأُنَبِّئَنَّهُ غَداً عَيْبَهُمْ عِنْدَهُ ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ - وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا - لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَاماً وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا . قَالَ وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً. فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ قَالَتْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ - قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ - فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِناً فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ نَقُولُ فِيهِ الَّذِى جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ . قَالَتْ فَضَرَبَ النَّجَاشِىُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُوداً ثُمَّ قَالَ مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ.
(1/324)
فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِى - وَالسُّيُومُ الآمِنُونَ - مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى دَبْراً ذَهَباَ وَأَنِّى آذَيْتُ رَجُلاً مِنْكُمْ - وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ - رَدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلاَ حَاجَةَ لَنَا بِهَا فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّى الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَىَّ مُلْكِى فُآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِىَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ. قَالَتْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُوداً عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ - يَعْنِى - مَنْ يُنَازِعُهُ فِى مُلْكِهِ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْناً قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزِنٍ حَزَنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَخَوُّفاً أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِىِّ فَيَأْتِى رَجُلٌ لاَ يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِىُّ يَعْرِفُ مِنْهُ - قَالَتْ - وَسَارَ النَّجَاشِىُّ وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ قَالَتْ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ قَالَتْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَنَا.
(1/325)
قَالَتْ وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا - قَالَتْ - فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِى صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِى بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ - قَالَتْ - وَدَعَوْنَا اللَّهَ لِلنَّجَاشِىِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِى بِلاَدِهِ وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ فَكُنَّا عِنْدَهُ فِى خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِمَكَّةَ(1).
وحاول المشركون مساومة أبى طالب مرة بعد مرة بأن يسلم لهم محمدًا إلا أنه أبى إلا أن يقف معه، فحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله منعه وحفظه.
وفي هذه الأوقات العصيبة أسلم حمزة وعمر بن الخطاب، فكانا منعة وحصنًا للإسلام، ولكن المشركين لم يكفوا عن التفكير في القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم أبو طالب بذلك جمع بني هاشم وبني عبد المطلب واتفقوا على أن يمنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يصيبه أذى، فوافق بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمهم وكافرهم إلا أبا لهب، فإنه كان مع قريش، فاتفقت قريش على مقاطعة المسلمين ومعهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، فكان الحصار في شعب أبى طالب ثلاث سنوات، لا يتاجرون معهم، ولا يتزوجون منهم، ولا يجالسونهم ولا يكلمونهم، حتى قام بعض العقلاء، ونادوا في قريش أن ينقضوا الصحيفة التى كتبوها، وأن يعيدوا العلاقة مع بني هاشم وبني عبد المطلب، فوجدوا الأرضة أكلتها إلا ما فيها من اسم الله.
__________
(1) - مسند أحمد (1766){1/203} حسن
الأدم : جمع أديم وهو الجلد المدبوغ - الدبْر : الجبل - سيوم : الآمنون كلمة حبشية - تناخرت : تكلمت كلام مع غضب ونفور
(1/326)
وتراكمت الأحزان فيما بعد لوفاة أبى طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة بنت خويلد، فقد ازداد اضطهاد وتعذيب المشركين، وفكَّر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من مكة إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام، إلا أنهم كانوا أشرارًا، فأهانوا النبي صلى الله عليه وسلم وزيد ابن حارثة الذي كان معه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي ؟ أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ، أُعُوذُ بِوَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ بِي سَخَطُكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ(1)
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 420) والروض الأنف - (ج 2 / ص 231)ومجمع الزوائد ( 9851)حديث حسن
(1/327)
وأثناء عودته بعث الله -عز وجل- إليه نفرًا من الجن استمعوا إلى القرآن الكريم، فآمنوا. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَلَمَّا سَمِعُوهُ ، قَالُوا : أَنْصِتُوا ، قَالُوا : صَهٍ ، وَكَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) [الأحقاف/29-32](1)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (3701) وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا
(1/328)
وأراد الله -سبحانه- أن يخفف عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت رحلة الإسراء والمعراج، والتى فرضت فيها الصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة واطمأنت نفس النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرحلة، ليبدأ من جديد الدعوة إلى الله، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِى وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِى ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِى صَدْرِى ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى فَعَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ . قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ . قَالَ هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ نَعَمْ مَعِى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى ، فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا آدَمُ . وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِى عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، حَتَّى عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا افْتَحْ . فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ » .
(1/329)
قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِى السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ . قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدْرِيسَ قَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ . ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا مُوسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا عِيسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - » . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِىَّ كَانَا يَقُولاَنِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « ثُمَّ عُرِجَ بِى حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ » . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِى خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً . قَالَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ . فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا .
(1/330)
فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعْتُهُ . فَقَالَ هِىَ خَمْسٌ وَهْىَ خَمْسُونَ ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ . فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى . ثُمَّ انْطَلَقَ بِى حَتَّى انْتَهَى بِى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِى مَا هِىَ ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ » .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(349 ) 98/1
الأسودة : جمع سواد وهو الشخص - الصريف : صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله تعالى ووحيه -ظهرت : علوت
(1/331)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ - وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ - قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ - قَالَ - فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِى يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ - قَالَ - ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِى وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِابْنَىِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ.
(1/332)
قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِىَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ.
قَالَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ.
قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ -صلى الله عليه وسلم- فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
(1/333)
قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ -صلى الله عليه وسلم- مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِى إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ - قَالَ - فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِىَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَىَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَىَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّى قَدْ بَلَوْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّى فَقُلْتُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِى. فَحَطَّ عَنِّى خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ حَطَّ عَنِّى خَمْسًا. قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.
(1/334)
- قَالَ - فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّى تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً. وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً - قَالَ - فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّى حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ».(1)
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله معه لن يتركه ولا ينساه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في موسم الحج يدعو الناس إلى الإيمان بالله وأنه رسول الله، فآمن له في السنة العاشرة من النبوة عدد قليل، وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، قَالَ كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى ، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ . فَإِنْ وَفّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ . وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ .(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (429 )
(2) - الروض الأنف - (ج 2 / ص 250)صحيح
(1/335)
فرجعوا وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير ليعلمهم أمور دينهم، وقد نجح مصعب بن عمير نجاحًا باهرًا، فقد استطاع أن يدعوا كبار المدينة من الأوس والخزرج، حتى آمن عدد كبير منهم، وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة، جاء بضع وسبعون نفسًا من أهل يثرب في موسم الحج، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الثانية، وتم الاتفاق على نصرة الإسلام والهجرة إلى المدينة.
(1/336)
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ ، أَن ّالنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوْسِمِ وَمَجَنَّةِ وَعُكَاظٍ وَمَنَازِلِهِمْ مِنْ مِنَةٍ ، مَنْ يُؤْوِينِي ، مَنْ يَنْصُرُنِي ، حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي فَلَهُ الْجَنَّةُ ؟ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلا يُؤْوِيَهُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مِصْرَ ، أَوْ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ ، فَيَقُولُونَ لَهُ : احْذَرْ غُلامَ قُرَيْشٍ لاَ يَفْتِنَّنَكَ وَيَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ مِنْ يَثْرِبَ ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلامِهِ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلاَّ وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الإِسْلامَ ، وَبَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا ، وَقُلْنَا : حَتَّى مَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ ، فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ ، فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ : يَا ابْنَ أَخِي ، لاَ أَدْرِي مَا هَؤُلاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ جَاءُوكَ إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ ، فَلَمَّا نَظَرَ الْعَبَّاسُ فِي وُجُوهِنَا ، قَالَ : هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَ نَعْرِفُهُمْ ، هَؤُلاءِ أَحْدَاثٌ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلَى مَا نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ : تُبَايعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ ،
(1/337)
وَالْكَسَلِ ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ ، وَالْيُسْرِ وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لاَ تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لائِمٍ ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِيَ إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ عَنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ ، فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ : رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلاَّ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنَّ يَعَضَّكُمُ السَّيْفُ فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَيْهَا إِذَا مَسَّتْكُمْ وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ وَمُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً ، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ عُذْرٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالُوا : يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ فَوَاللَّهِ لاَ نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلا نَسْتَقِيلُهَا ، قَالَ : فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلا رَجُلا فَأَخَذَ عَلَيْنَا لِيُعْطِيَنَا بِذَلِكَ الْجَنَّةَ ،(1)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (4251)صحيح
(1/338)
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها الصحابة أن يهاجروا إلى يثرب، فهاجر من قدر من المسلمين إلى المدينة، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى وبعض الضعفاء ممن لا يستطيعون الهجرة، وسمعت قريش بهجرة المسلمين إلى يثرب ، وبعد أن منيت قريش بالفشل في منع الصحابة -رضي الله عنهم- من الهجرة إلى المدينة، على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ"[الأنفال آية 30] قَالَ:تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَثْبِتُوهُ بِالْوَثَائِقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: لا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ نسيجُ الْعَنْكَبُوتِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلاثًا.
(1/339)
(1)
وهاجر هو وأبو بكر بعد أن جعل عليًّا مكانه ليرد الأمانات إلى أهلها.
وقالَ أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - إِلَى أَبِى فِى مَنْزِلِهِ ، فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلاً فَقَالَ لِعَازِبٍ ابْعَثِ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِى . قَالَ فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ ، وَخَرَجَ أَبِى يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ ، فَقَالَ لَهُ أَبِى يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِى كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ نَعَمْ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا ، وَمِنَ الْغَدِ حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ ، وَخَلاَ الطَّرِيقُ لاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ ، لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ ، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَانًا بِيَدِى يَنَامُ عَلَيْهِ ، وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً ، وَقُلْتُ نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ . فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِى أَرَدْنَا فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ . قُلْتُ أَفِى غَنَمِكَ لَبَنٌ قَالَ نَعَمُ . قُلْتُ أَفَتَحْلُبُ قَالَ نَعَمْ . فَأَخَذَ شَاةً . فَقُلْتُ انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 99)(11987)حسن
(1/340)
قَالَ فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى يَنْفُضُ ، فَحَلَبَ فِى قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ ، وَمَعِى إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْتَوِى مِنْهَا ، يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ ، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ ، فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ ، فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ ، فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - قَالَ - فَشَرِبَ ، حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قَالَ « أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ » . قُلْتُ بَلَى - قَالَ - فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مَالَتِ الشَّمْشُ ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ ، فَقُلْتُ أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ « لاَ تَحْزَنْ ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا » . فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا - أُرَى فِى جَلَدٍ مِنَ الأَرْضِ ، شَكَّ زُهَيْرٌ - فَقَالَ إِنِّى أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَىَّ فَادْعُوَا لِى ، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ . فَدَعَا لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَجَا فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا . فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ . قَالَ وَوَفَى لَنَا .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (3615 ) 246/4
الإداوة : إناء صغير من جلد - الجلد : الأرض الصلبة - ارتطمت : وقعت وارتبكت -الكثبة : القليل من اللبن وغيره
(1/341)
واستقبلهما أهل المدينة بالترحاب والإنشاد، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، وهي المرحلة المدنية، بعد أن انتهت المرحلة المكية، وقد وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعة (12 ربيع الأول سنة 1هـ/ الموافق 27 سبتمبر سنة 622م) ونزل في بني النجار، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأسيس دولة الإسلام في المدينة، فكان أول ما صنعه أن بنى المسجد النبوي، ليكون دار العبادة للمسلمين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، كما كتب الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتني ببناء المجتمع داخليًّا، كي يكون صفًّا واحدًا يدافع عن الدولة الناشئة، ولكن المشركين بمكة لم تهدأ ثورتهم، فقد أرسلوا إلى المهاجرين أنهم سيأتونهم كي يقتلوهم، فكان لابد من الدفاع، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا من السرايا، كان الغرض منها التعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة، وعقد المعاهدات مع القبائل المجاورة وإشعار كل من مشركي يثرب واليهود وعرب البادية والقرشيين أن الإسلام قد أصبح قويًّا.
(1/342)
وكانت من أهم السرايا التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر سرية سيف البحر، وسرية رابغ، وسرية الخرار، وسرية الأبواء، وسرية نخلة، وفي شهر شعبان من السنة الثانية الهجرية فرض الله القتال على المسلمين، فنزلت آيات توضح لهم أهمية الجهاد ضد أعداء الإسلام،{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج/39-42] }.
وفي هذه الأيام أمر الله -سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وكان هذا إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في حياة المسلمين خاصة، والبشرية عامة. فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِى فِى الْبَقَرَةِ (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فَنَزَلَتْ بَعْدَ مَا صَلَّى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَمَرَّ بِنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَحَدَّثَهُمْ فَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (1204)
(1/343)
بعد فرض الجهاد على المسلمين، وتحرش المشركين بهم، كان لابد من القتال فكانت عدة لقاءات عسكرية بين المسلمين والمشركين، أهمها: غزوة بدر الكبرى في العام الثاني الهجري، وكانت قريش قد خرجت بقافلة تجارية كبيرة على رأسها أبو سفيان بن حرب، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً لقصد هذه القافلة، لكن أبا سفيان كان يتحسس الخبر فأرسل رجلا إلى قريش يعلمهم بما حدث، ثم نجح هو بعد ذلك في الإفلات بالعير والتجارة، واستعدت قريش للخروج، فخرج ألف وثلاثمائة رجل، وأرسل أبو سفيان إلى قريش أنه قد أفلت بالعير، إلا أن أبا جهل أصر على القتال، فرجع بنو زهرة وكانوا ثلاثمائة رجل، واتجه المشركون ناحية بدر، وكان المسلمون قد سبقوهم إليها بعد استطلاعات واستكشافات.
وبدأت الحرب بالمبارزة بين رجال من المشركين ورجال من المهاجرين، قُتِل فيها المشركون، وبدأت المعركة، وكتب الله -عز وجل- للمسلمين فيها النصر وللكفار الهزيمة، وقد قتل المسلمون فيها عددًا كبيرًا، كما أسروا آخرين، وبعد غزوة بدر علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن بني سليم من قبائل غطفان تحشد قواتها لغزو المدينة، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل وهاجمهم في عقر دارهم، ففروا بعد أن تركوا خمسمائة بعير استولى عليها المسلمون، وكانت هذه الغزوة في شوال (2هـ) بعد بدر بسبعة أيام، وعرفت بغزوة بني سليم.
(1/344)
ورأت اليهود في المدينة نصر الرسول صلى الله عليه وسلم فاغتاظوا لذلك، فكانوا يثيرون القلاقل، وكان أشدهم عداوة بنو قينقاع، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود بالمدينة ونصحهم وعرض عليهم الإسلام، إلا أنهم أبدوا استعدادهم لقتال المسلمين، فكظم الرسول صلى الله عليه وسلم غيظه، حتى تسبب رجل من بني قينقاع في كشف عورة امرأة مسلمة، فقتله أحد المسلمين، فقتل اليهود المسلم فحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع، ثم أجلاهم عن المدينة بسبب إلحاح عبدالله بن أبى بن سلول.
وفي ذي الحجة سنة (2هـ) خرج أبو سفيان في نفر إلى المدينة، فأحرق بعض أسوار من النخيل، وقتلوا رجلين، وفروا هاربين، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في أثرهم، إلا أنهم ألقوا ما معهم من متاع حتى استطاعوا الإسراع بالفرار وعرفت هذه الغزوة بغزوة السويق، كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن نفرًا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة على المدينة، فخرج لهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى المكان الذي تجمعوا فيه، وكان يسمَّى بـ(ذي أمر) ففروا هاربين إلى رءوس الجبال، وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم شهرًا ليرهب الأعراب بقوة المسلمين، وكانت هذه الغزوة في أوائل صفر سنة (3هـ).
(1/345)
وفي جمادى الآخرة سنة (3هـ) خرجت قافلة لقريش بقيادة صفوان بن أمية ومع أن القافلة اتخذت طريقًا صعبًا لا يعرف، إلا أن النبأ قد وصل إلى المدينة وخرجت سرية بقيادة زيد بن حارثة، استولت على القافلة وما فيها من متاع، وفر صفوان بن أمية ومن معه، اغتاظ كفار مكة مما حدث لهم في غزوة بدر، فاجتمعوا على الاستعداد لقتال المسلمين، وقد جعلوا القافلة التي نجا بها أبوسفيان لتمويل الجيش واستعدت النساء المشركات للخروج مع الجيش لتحميس الرجال، وقد طارت الأخبار إلى المدينة باستعداد المشركين للقتال، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة، وأشار عليهم -بدءًا- أن يبقوا في المدينة، فإن عسكر المشركون خارجها، فإنهم لن ينالوا منهم شيئًا، وإن غزوا المدينة، قاتلوهم قتالاً شديدًا.
إلا أن بعض الصحابة ممن لم يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال في بدر، أشاروا على الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج من المدينة، وكان على رأس المتحمسين للخروج حمزة بن عبد المطلب، ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الحرب، وخرج الجيش وفيه ألف مقاتل، واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا قريبًا من العدو عند جبل أحد، وما كاد وقت المعركة أن يبدأ حتى تراجع عبد الله بن أبى سلول بثلث الجيش، بزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أكره على الخروج، وما أراد بفعلته إلا بث الزعزعة في صفوف المسلمين، وبقي من الجيش سبعمائة مقاتل، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف مقاتل.
(1/346)
واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم مكانًا متميزًا في المعركة، وجعل بعض المقاتلين في الجبل، وهو ما عرف فيما بعد بجبل الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وأمرهم أن يحموا ظهور المسلمين، وألا ينزلوا مهما كان الأمر، سواء انتصر المسلمون أم انهزموا، إلا إذا بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بدأت المبارزة بين الفريقين، وقتل فيها المسلمون عددًا من المشركين، وكان معظمهم ممن كانوا يحملون لواء المشركين، حتى ألقى اللواء على الأرض، واستبسل المسلمون وقاتلوا قتالا شديدًا، واستبسل من كانوا على الجبل.
إلا أنهم لما رأوا المسلمين يجمعون الغنائم نزلوا، فذكرهم قائدهم عبد الله بن جبير إلا أنهم لم يسمعوا له، ولاحظ خالد بن الوليد، فرجع بمن كان معه، وطوق جيش المسلمين، واضطربت الصفوف، وقتل المشركون من المسلمين سبعين رجلاً واقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصيب ببعض الإصابات، والذي حاول المشركون قتله لولا بسالة بعض الصحابة ممن دافع عنه، وقد أشيع قتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم انتشر بين المسلمين كذب الخبر، فتجمعوا حوله صلى الله عليه وسلم، واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخترق طريقًا وينجو بمن معه، وصعدوا الجبل، وحاول المشركون قتالهم، إلا أنهم لم يستطيعوا، فرجعوا وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع المشركون، فخرج بمن كان معه في غزوة أحد فحسب، ولم يقبل غيرهم إلا عبد الله بن جابر فقد قبل عذره.
(1/347)
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى وصلوا إلى حمراء الأسد، وقد أقبل معبد بن أبى معبد الخزاعي وأسلم، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بمخادعة أبي سفيان إن كان قد أراد الرجوع لحرب المسلمين، وفي طريق العودة اتفق المشركون على الرجوع، فقابلهم معبد بن أبى معبد الخزاعي، ولم يكن أبو سفيان قد علم بإسلامه، فقال له: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد جمع جيشًا كبيرًا لقتالكم، كي يستأصلكم، فارجعوا، وأحدثت هذه الكلمات زعزعة في صفوف المشركين.
وبعد غزوة أحد، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا لتأديب من يريد أن يعتدي على المسلمين، كسرية أبى سلمة في هلال شهر المحرم سنة (4هـ) إلى بني أسد بن خزيمة، وبعث عبد الله بن أنيس لخالد بن سفيان الذي أراد حرب المسلمين، فأتى عبد الله بن أنيس برأسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعث الرجيع قتل بعض الصحابة، وفي السنة نفسها، بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة لأهل نجد، ليدعوهم إلى الإسلام، وفي الطريق عند بئر معونة أحاط كثير من المشركين بالمسلمين، وقتلوا سبعين من الصحابة، ولما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الخبر، حزن حزنًا شديدًا، ودعا على المشركين.
(1/348)
وكانت يهود بني النضير يراقبون الموقف، ويستغلون أي فرصة لإشعال الفتنة وكان بعض الصحابة قد قتلوا اثنين خطأ معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من بنود الميثاق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، أن يساعد كل من الطرفين الآخر في دفع الدية، فلما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم حاولوا قتله، إلا أن الله سبحانه حفظه وأرسل إليه جبريل، يخبره بما يريدون، فبعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا، ولكن عبد الله بن أبى – راس المنافقين - وعدهم بالمساعدة، فرفضوا الخروج، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة أيام، وبعدها قرروا الخروج على أن يأخذوا متاعهم، واستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحهم، فأخذه، وأخذ أرضهم وديارهم، فتفرق يهود بني النضير في الجزيرة.
وفي شعبان من العام الرابع الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ألف وخمسمائة من أصحابه، لملاقاة أبى سفيان والمشركين، كما اتفقوا في غزوة أحد إلا أن أبا سفيان خاف، فتراجع هو وجيشه خوفًا من المسلمين، ويسمَّى هذا الحادث بغزوة بدر الصغرى أو بدر الآخرة، وطارت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن القبائل حول دومة الجندل تحشد جيشًا لقتال المسلمين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش من أصحابه، وفاجأهم، ففروا هاربين وكان ذلك في أواخر ربيع الأول سنة (5هـ) وبذا فقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصد كل عدوان، حتى يتسنى له الأمر لتبليغ دعوة الله.
(1/349)
ولم تنس اليهود تلك الهزائم التي لحقت بها، لكنها لا تستطيع مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذت يهود بني النضير يألبون المشركين في مكة وغيرها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى اجتمع عشرة آلاف مقاتل، وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فاستشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق، فحفر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الخندق شمال المدينة، لأنه الجهة الوحيدة التي يمكن أن يأتي الأعداء منها.
وذهب زعيم بني النضير حيى بن أخطب إلى زعيم بني قينقاع المتحالفة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله ينقض العهد، إلا أن الله حمى المسلمين وحفظهم فقد أسلم نعيم بن مسعود الذي أوقع الدسيسة بين اليهود وقريش، وجعل كلا منهم يتشكك في الآخر، وأرسل الله عليهم ريحًا شديدة دمرت خيامهم، وأطفأت نيرانهم؛ فاضطروا إلى الرحيل والفرار، قالَ إِسْرَائِيلُ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ حِينَ أَجْلَى الأَحْزَابُ عَنْهُ « الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَنَا ، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ »(1). وسميت هذه الغزوة بغزوة الخندق أو الأحزاب، وكانت في العام الخامس الهجري.
وقبل أن يخلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ملابس الحرب، جاءه جبريل، وأمره بأن يذهب لغزو بني قريظة هو وأصحابه، فتحرك الجيش الإسلامي وكان عدده ثلاثة آلاف مقاتل وحاصر الرسول صلى الله عليه وسلم بني قريظة فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث اقتراحات؛ إما أن يسلموا فيأمنوا على أنفسهم، وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم، ثم يخرجوا لقتال المسلمين، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم السبت؛ لكنهم لم يجيبوه إلى شيء من ذلك.
__________
(1) - صحيح البخارى(4110 )
(1/350)
ولم يبق لهم بعد الرفض إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا إلى أبى لبابة بن المنذر-وكان من حلفائهم قبل إسلامه- ليخبرهم عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أبو لبابة بني قريظة رقَّ قلبه إليهم، وأشار إليهم بيده إلى حلقه كناية عن القتل، وعلم أبو لبابة أنه خان الله ورسوله، فذهب إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وربط نفسه، وأقسم ألا يفكه أحد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونزلت اليهود على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ - هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ - بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ » . فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ » . قَالَ فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ . قَالَ « لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ »(1).
وكانت الغزوة في ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وبعد غزوة بني قريظة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الأنصار قتلوا سلام بن أبى الحقيق، وذلك أنه كان من اليهود الذين أثاروا الأحزاب ضد المسلمين.
__________
(1) - صحيح البخارى (3043) 82/4
(1/351)
وفي شعبان من العام السادس الهجري علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زعيم بني المصطلق جمع قومه ومن قدر عليه من العرب لقتال المسلمين، فتأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر، وخرج في عدد من الصحابة، حتى وصل ماء المريسيع، ففر المشركون، واستولى المسلمون على أموالهم وذراريهم، وفي هذه الغزوة كانت حادثة الإفك التي افتُري فيها على السيدة عائشة، واتهمت بالخيانة، فأنزل الله -سبحانه- براءتها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
(1/352)
قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) [النور/11] } إِنًَّ الذينَ جَاؤوا بِحَديثِ الإِفْكِ ، وَهُوَ الكَذِبُ والبُهْتَانُ وَالافْتِرَاءُ ، هُمْ جَمَاعَةٌ مِنْكُم ( عُصْبَةٌ ) فَلا تَحْسَبوا أَنَّ فِي ذَلِكَ شَرّاً لَكُمْ وَفِتْنَةُ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ ، فَهُوَ لِسَانُ صِدْقٍ فِي
(1/353)
الدُّنْيَا ، وَرَفْعَةُ مَنَازِلَ فِي الآخِرَةِ ، وَإِظْهَارُ شَرَفٍ لَكُمْ بِاعْتِنَاءِ اللهِ تَعَالَى بِعَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنينَ ، إِذْ أَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا فِي القُرْآنِِ . وَلِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ وَخَاضَ فِيهِ ، وَرَمَى أَمَّ المُؤْمِنِينَ بَشَيءٍ مِنَ الفاحِشَةِ ، جَزَاءُ مَا اجْتَرَحَ مِنَ الإِثْمِ ، بِقَدَرِ مَا خَاضَ فِيهِ . فَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمِعَ وَضِحِكَ سُرُوراً بِمَا سَمِعَ ، وَمِنْهُم مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ أَقَلَّ ، وَبَعْضُهم مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ أَكْبَرَ . والذِي تَوَلَّى مُعْظَمَ الإِثْمِ مِنْهُمْ ( كِبْرَهُ ) - وَهُوَ عَذَابٌ عَظِيمٌ عَلَى ذَلِكَ الإِفْكُ - أَقْبَحُ الكَذِبِ وأَفْحَشُهُ .
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ المُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ عَائشَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا ، حَينَ أَفاضَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ الإِفِكِ ، فَقَالَ تَعَالَى : هَلاَّ إِذْ سَمِعْتُمْ هَذَا القَوْلَ الذي رُمِيَتْ بِهِ أمُّ المُؤْمِنِينَ ، فَقِسْتُمْ ذَلِكَ الكَلاَمَ عَلَى أَنْفُسكُم ، فَإِذَا كَانَ لاَ يَلِيقُ بِكُمْ ، فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَوْلَى بالبَرَاءَةِ مِنْهُ ، بِالأَحْرَى وَالأَوْلَى .
(1/354)
وَقَالَ تَعَالَى : هَلاَّ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ الخَيْرَ ، فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ ، وَهَلاَّ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ هَذَا كَذِبٌ ظًاهِرٌ عَلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّ الذي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُريبُ ، وَذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ جَاءَتْ رَاكِبَةً جَهْرَةً عَلَى رَاحِلَةِ صِفْوَانِ بنِ المُعَِّطلِ السلمِي ، فِي وَقْتِ الظَهِيرَةِ ، والجَيْشُ بِكَامِلِهِ يُشَاهِدُ ذَلِكَ ، وَرَسُولُ اللهِ مَعَهُمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفِي كُلَّ شُبْهَةٍ وَشَكٍّ ، وَلَوْ كَانَ فِي الأَمْرٍ مَا يُرْتَابُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا جَهْرَةً
( وَرَوْيَ أَنَّ أَبَا أَيُّوب الأَنْصَارِيَّ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبٍ : يَا أَبَا أَيُّوبٍ أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قال : نَعَمْ وَذَلِكَ الكَذِبُ . أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أَُمَّ أَيُّوبٍ؟ قَالَتْ : لاَ واللهِ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَهُ ، فَقَالَ : فَعَائِشَةُ واللهِ خَيْرٌ مِنْكِ ) .
( وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أبي أَيُّوبٍ حَينَ قَالَ مَا قَالَ لَزَوْجَتِهِ أُمِّ أَيُّوبٍ ) .
هَلاَّ جَاءَ الخَائِضُونَ فِي الإِفْكِ بِأَرْبَعَةَ شُهُودٍ عَلَى ثُبُوتِ مَا قَالُوا ، وَمَا رَمَوْها بِهِ ، فَإِذا لَمْ يَأْتِ هَؤُلاءِ المُفْسِدُونَ بالشُّهَدَاءِ لإِثَْبَاتِ مَا قَالُوا فَهُمْ كَاذِبُونَ فِي حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ .
وَلَوْلاَ تَفَضُّلُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُم بِبَيَانِ الأَحْكَامِ ، وَلَوْلاَ رَحْمَتُهُ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَدَمِ التَّعْجِيلِ بِالعُقُوَبَةِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِالمَغْفِرَةِ ، لَنَزَلَ بِكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ بِسَبَبَ الخَوْضِ فِي هَذِهِ التُّهْمَةِ أَفَضْتُمِ فِيهِ - خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ .
(1/355)
فَقَدْ تَنَاقَلْتُمْ الخَبَرَ بِأَلْسِنَتِكُمْ ، وَأَشَعْتُمُوه بَيْنَكُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ بِصِحَّتِهِ ، وَتَظُنَّونَ أَنَّ هَذَا العَمَلَ هَيِّنٌ ، لاَ يُعَاقِبُ اللهُ عَلَيْهِ ، أَوْ أَنَّ عِقَابَه يَسِيرٌ ، مَعَ أَنَّه خَطِيرٌ يُعاقِبُ اللهُ عَلَيْهِ عِقَاباً شَدِيداً .
( وَفِي الحَدِيثِ : " إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يَدْرِي مَا تَبْلُغُ يَهْوِي بِهََا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بِيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ " ) ، ( رواهُ مسلمٌ والبخاري ) .
وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَيْكُمْ عِنْدَ سَمَاعِ مَا أَشَاعَهُ المُنَافِقُونَ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ والكَذِب والافْتِرَاءِ عَلَى أَمِّ المُؤْمِنِينَ الطَاهِرَةِ ، أَنْ تَنْصحُوا بِعَدَمِ الخَوْضِ فِيهِ لأَنَّهُ غَيْرُ لاَئِق بِكُمْ ، وأَنْ تَتَعَجَّبُوا مِنْ اخْتِرَاعِ هَذَا النَّوْعِ ، مِنْ الكَذِبِ والبُهْتَانِ ، وأَنْ تَقُولُوا : لاَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذًَا الكَلاَمِ ، وَلاَ أَنْ نَذْكُرَهُ لأَحَدٍِ تَنَزَّهَ اللهُ رَبُّنَا أَنْ يَقَالَ هَذَا الكَلامَُ ، عَلَى ابنةِ الصِّدِّيقِ زَوْجَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا هُوَ إِلاَّ كَذِبٌ وَبُهَتَانٌ ، وَإِنَّنا لَنَبْرَأُ إِلَى اللهِ رَبِّنَا مِنْهُ ، وَمِنْ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُه أَنْ يَكُونَ الوَسِيلةَ فِي انْتِشَارِ هَذَا القَوْلِ الكَاذِبِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ .
(1/356)
وَيَنْهَاكُمُ اللهُ تَعَالَى ، وَيَعْظُمُ بِهَذِهِ المَوَاعِظِ التي تَغْرِفُونَ بِهَا عظَمَ الذَّنِبِ ، كَيْلاَ يَقَعَ مِثْلُ هَذَا مِنْكُمْ فِيمَا يَسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللهِ وشَرْعِهِ ، وَمِمَّنْ يُعَظِّمُونَ رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ صِفَةَ الإِيْمَانِ تَتَنَافَى مَعَ مِثلِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ .
وَيُنَزِّلُ اللهُ تَعَالَى لَكُمُ الآيَاتِ الدَّالَةَ عَلَى الأَحْكَامِ وَاضِحَةً جَلِيَّةَ ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَه ، حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ .
إِنَّ الذين يَرْمُونَ المُحْصنَاتِ ، وَبِخَاصَّةِ أُوْلَئِكَ الذين يَتَجِرَّؤوُنَ عَلَى رَمِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ ، إِنَّمَا يَعْمَلُونَ عَلَى زَعْزَعَةِ ثِقَةِ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ بالخَيْرِ والعِفَّةِ ، وَعَلَى إِزَالَةِ التَّحَرُّجِ مِنْ ارْتِكَابِ الفَاحِشَةِ ، وَذَلِكَ ، عَنْ طَرِيقِ الإِيْحَاءِ بأَنَّ الفَاحِشَةَ شَائِعَةٌ فِيهَا ، وَبِذَلِكَ تَشِيعٌ الفَاحِشَةُ فِي النُّفُوسِ ، ثُمَّ تَشِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الوَاقِعِ ، فَهَؤُلاءِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عَنْدَ اللهِ : فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم ، واللَّعْنِ والذَّمِّ مِنَ النَّاسِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ . وَمَنْ ذا الذي يَرَى الظَّاهِرَ والبَاطِنَ ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْه شَيءٌ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى العَلِيمِ الخَبِيرِ؟ فَرُدُّوا الأُمُورَ إِلَى الله تَرْشُدُوا ، وَلا َ تَْروُوا مَا لاَ علْمَ لَكُمْ بِهِ .
(1/357)
وقد أراد المنافقون أن يدسوا الفتنة بين المسلمين بعد الانتهاء من الحرب، فعن جَابِرَ - رضى الله عنه -قالَ : غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِىُّ غَضَبًا شَدِيدًا ، حَتَّى تَدَاعَوْا ، وَقَالَ الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ . وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ . فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ » . ثُمَّ قَالَ « مَا شَأْنُهُمْ » . فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِىِّ الأَنْصَارِىَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ » . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا ، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ . فَقَالَ عُمَرُ أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ »(1)..
__________
(1) - صحيح البخارى (3518 )
(1/358)
وفي هذا العام السادس من الهجرة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا فكانت بشرى من الله، بفتح مكة فيما بعد، واستعد الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة وخرج معه عدد كبير من المسلمين، ولما سمعت بذلك قريش، استعدت للحرب ، فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ » . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَسَارَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ . فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ . فَأَلَحَّتْ ، فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » .
(1/359)
ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ ، قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا ، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ ، فَقَالَ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً ، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى ، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ » . فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ .
(1/360)
قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا ، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَىْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ . قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى . قَالُوا لاَ . قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى قَالُوا بَلَى . قَالَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِهِ . قَالُوا ائْتِهِ . فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ مُحَمَّدُ ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى ، فَإِنِّى وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا ، وَإِنِّى لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ .
(1/361)
قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ ، وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ . فَقَالَ أَىْ غُدَرُ ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَتَلَهُمْ ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَىْءٍ » . ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنَيْهِ .
(1/362)
قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، فَاقْبَلُوهَا . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى كِنَانَةَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا فُلاَنٌ ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ » .
(1/363)
فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ . فَقَالَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ » . فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو . قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ » . قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ ، اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا ، فَدَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » . قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ . كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ » . ثُمَّ قَالَ « هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ » .
(1/364)
فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى . اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . قَالَ الزُّهْرِىُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ « لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ، فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ .
(1/365)
قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » .
(1/366)
قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ . فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ .
(1/367)
فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ، قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ .
(1/368)
قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ، فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .(1)
ومع أن الظاهر في بعض بنود هذه المعاهدة الظلم، إلا أنها أتاحت الفرصة لانتشار الإسلام، واعتراف قريش بالمسلمين كقوة، فدخل عدد كبير في الإسلام..
بعد هذه الهدنة، أسلم بعض أبطال قريش؛ كعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة،
__________
(1) - صحيح البخارى(2731 و2732 )
(1/369)
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِى أَوْسٍ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ فِيهِ قَالَ لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ الأَحْزَابِ عَنِ الْخَنْدَقِ جَمَعْتُ رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ مَكَانِى وَيَسْمَعُونَ مِنِّى فَقُلْتُ لَهُمْ تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الأُمُورَ عُلُوًّا مُنْكَراً وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ رَأْياً فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ قَالُوا وَمَا رَأَيْتَ قَالَ رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِىِّ فَنَكُونُ عِنْدَهُ فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِىِّ فَإِنَّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَىْ مُحَمَّدٍ وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا فَلَنْ يَأْتِينَا مِنْهُمْ إِلاَّ خَيْرٌ. فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الرَّأْىُ. قَالَ فَقُلْتُ لَهُمْ فَاجْمَعُوا لَهُ مَا نُهْدِى لَهُ وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأَدَمُ فَجَمَعْنَا لَهُ أُدْماً كَثِيراً ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَعِنْدَهُ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىُّ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ فِى شَأْنِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ - قَالَ - فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ فَقُلْتُ لأَصْحَابِى هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ لَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِىِّ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّى قَدْ أَجْزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ - قَالَ - فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ فَقَالَ مَرْحَباً بِصَدِيقِى أَهْدَيْتَ لِى مِنْ بِلاَدِكَ شَيْئاً.
(1/370)
قَالَ قُلْتُ نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدْماً كَثِيراً - قَالَ - ثُمَّ قَدَّمْتُهُ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّى قَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا فَأَعْطِنِيهِ لأَقْتُلَهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا - قَالَ - فَغَضِبَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ كَسَرَهُ فَلَوِ انْشَقَّتْ لِىَ الأَرْضُ لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَقاً مِنْهُ ثُمَّ قُلْتُ أَيُّهَا الْمَلِكُ وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ. فَقَالَ لَهُ أَتَسْأَلُنِى أَنْ أُعْطِيكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِى كَانَ يَأْتِى مُوسَى لِتَقْتُلَهُ. قَالَ قُلْتُ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَكَذَاكَ هُوَ فَقَالَ وَيْحَكَ يَا عَمْرُو أَطِعْنِى وَاتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَعَلَى الْحَقِّ وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قَالَ فَقُلْتُ فَتُبَايِعُنِى لَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ. قَالَ نَعَمْ فَبَسَطَ يَدَهُ وَبَايَعْتُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِى وَقَدْ حَالَ رَأْيِى عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَكَتَمْتُ أَصْحَابِى إِسْلاَمِى ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِداً لَرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأُسْلِمَ فَلَقِيتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ - وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ فَقُلْتُ أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقَامَ الْمَنْسِمُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِىٌّ أَذْهَبُ وَاللَّهِ أُسْلِمُ فَحَتَّى مَتَى قَالَ قُلْتُ وَاللَّهِ مَا جِئْتُ إِلاَّ لأُسْلِمَ.
(1/371)
قَالَ فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ ثُمَّ دَنَوْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِى وَلاَ أَذْكُرُ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « يَا عَمْرُو بَايِعْ فَإِنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ». قَالَ فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ حَدَّثَنِى مَنْ لاَ أَتَّهِمُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ كَانَ مَعَهُمَا أَسْلَمَ حِينَ أَسْلَمَا .(1)
وعَنْ قَيْسِ بْنِ سُمَىٍّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ». قَالَ عَمْرٌو فَوَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا مَلأْتُ عَيْنِى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ رَاجَعْتُهُ بِمَا أُرِيدُ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيَاءً مِنْهُ.(2)
__________
(1) - مسند أحمد (18251) {4/199} حسن
الأدم : جمع أديم وهو الجلد المدبوغ - الفَرق : الخوف والفزع -المنسم : الأثر والعلامة معناه تبين الطريق
(2) - مسند أحمد (18288) حسن
(1/372)
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمراء والملوك يدعوهم إلى الإسلام، ليعلن أن الإسلام جاء للناس جميعًا، وليس مقصورًا على شبة الجزيرة العربية. عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ - فِى الْمُدَّةِ الَّتِى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِى مَجْلِسِهِ ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا . فَقَالَ أَدْنُوهُ مِنِّى ، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ . ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّى سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ ، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ . فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَنْ قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ . قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ . قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ .
(1/373)
قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لاَ نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا . قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّى كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ . قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ .
(1/374)
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ .
(1/375)
فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّى أَعْلَمُ أَنِّى أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ . ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِى بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ . سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأَصْفَرِ . فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلاَمَ .
(1/376)
وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ . قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ . فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِىَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ . فَنَظَرُوا إِلَيْهِ ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ . فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ .
(1/377)
ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ نَبِىٌّ ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَىَّ .
وَقَالَ إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ ، فَقَدْ رَأَيْتُ . فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (7 ) 8/1
يأثر : ينقل - الأريسيون : الفلاحون - البشاشة : مخالطة الإيمان انشراح الصدور -تجشم : تكلف -الحزاء : الكاهن -حاص : جال جولة يطلب الفرار -الدسكرة : قصر حوله بيوت السجال : مرة لنا ومرة علينا -السقف : الأسقف رئيس من رؤساء النصارى ماد : اتفق معهم على مدة
(1/378)
وبعد صلح الحديبية قامت بعض الغزوات؛ كغزوة ذي قرد، وكانت ردًّا على بعض بني فزارة الذين أرادوا القيام بعمل القرصنة ضد المسلمين، وقد أبلى فيها سلمة بن الأكوع بلاءً حسنًا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ يَقُولُ خَرَجْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ بِالأُولَى وَكَانَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَرْعَى بِذِى قَرَدٍ - قَالَ - فَلَقِيَنِى غُلاَمٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ أُخِذَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ مَنْ أَخَذَهَا قَالَ غَطَفَانُ قَالَ فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ يَا صَبَاحَاهْ. قَالَ فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَىِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى وَجْهِى حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ بِذِى قَرَدٍ وَقَدْ أَخَذُوا يَسْقُونَ مِنَ الْمَاءِ فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنَبْلِى وَكُنْتُ رَامِيًا وَأَقُولُ أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ فَأَرْتَجِزُ حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ اللِّقَاحَ مِنْهُمْ وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ بُرْدَةً - قَالَ - وَجَاءَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنِّى قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ الْمَاءَ وَهُمْ عِطَاشٌ فَابْعَثْ إِلَيْهِمُ السَّاعَةَ فَقَالَ « يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ ». - قَالَ - ثُمَّ رَجَعْنَا وَيُرْدِفُنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَاقَتِهِ حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (4778 )
أسجح : أحسن وارفق - اللقاح : جمع لقحة وهى الناقة ذات اللبن قريبة العهد بالولادة
(1/379)
وبعد تلك الانتصارات التي قام بها المسلمون كان لابد من تأديب من كان السبب في كثير من الحروب، وهم يهود خيبر، أولئك الذين جمعوا الأحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بايع معه تحت الشجرة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، حتى وصلوا قرب خيبر، وقد كانت كلها حصونًا، ففيها ثمانية حصون كبيرة منيعة واستبسل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى منَّ الله عليهم بفتح هذه الحصون، وأصبح اليهود صاغرين، وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبقى لهم الأرض ليزرعوها على أن يكون لهم نصف الثمار، وللمسلمين نصفها، وكانت غزوة خيبر في العام السابع الهجري.
وبعد هذه الغزوة جاء جعفر بن أبى طالب ومن معه من الحبشة إلى المدينة، وفرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعودتهم، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أَفْرَحُ بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ "(1)
كما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيى بن أخطب بعد أن أسلمت، وقد كانت من السبى، وبعد خيبر صالح يهود فدك الرسول صلى الله عليه وسلم كما صالحه أهل خيبر، كما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض اليهود ومن انضم إليهم من العرب عند وادي القرى، وفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم الغنائم على أصحابه، أما النخل والأرض فقد عاملهم كما عامل أهل خيبر، ولما علم يهود تيماء بذلك بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب لهم كتابًا، يدفعون بمقتضاه الجزية للمسلمين وبعد هذه الحروب والانتصارات رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
__________
(1) - المستدرك للحاكم (4249)صحيح
(1/380)
وبعد أن أدَّبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين واليهود، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع حتى استطاع تأديب الأعراب، وكان لهذه الغزوة أثرها في قذف الرعب في قلوب الأعراب، وبذا استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضي على الأحزاب، ليتفرغ لنشر الدعوة الإسلامية، وكانت هذه الغزوة في العام السابع الهجري..
وفي ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى مكة لأداء عمرة القضاء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى عامل البلقاء من أرض الشام، من قبل قيصر، فأمسك الحارث، وأوثقه ثم قتله، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بالخروج لتأديب هؤلاء، فخرج ثلاثة آلاف مقاتل، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الراية لزيد ثم لجعفر إن قتل، ثم لعبد الله بن رواحة، واتجه الجيش ناحية العدو حتى وصل إلى مكان يقال له (مؤتة) وفوجئ الجيش بأن جيش العدو عدده مائتا ألف مقاتل مقابل ثلاثة آلاف واستقر الأمر على الجهاد.
وقاتل المسلمون واستبسلوا، فقتل القائد زيد بن حارثة، ثم قتل جعفر ثم قتل ابن رواحة بعد قتال عنيف، ثم اتفق المسلمون على أن تكون الراية لخالد بن الوليد الذي استطاع إنقاذ الجيش، وإرهاب الأعداء مع كثرة عددهم، ففي اليوم الثاني للقتال غير تنظيم الجيش، حتى ظن الروم أن المسلمين جاءهم مدد، فلم يلاحقوهم، بينما انسحب خالد بالجيش بمهارة كبيرة، ولم يقتل في هذه الغزوة إلا اثنا عشر رجلاً من المسلمين، وكانت في العام الثامن الهجري.
(1/381)
عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ « أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ - وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ - حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ » .(1)
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض القبائل العربية قد انضمت إلى الرومان، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جيش لتأديبهم، فلما ذهب عمرو ورأى كثرة عدد المشركين أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب مددًا، فبعث إليه بأبي عبيدة في مائتي رجل، واستطاع المسلمون هزيمة تلك القبائل، وعرفت هذه الحرب بسريَّة ذات السلاسل، وكانت بعد غزوة مؤتة في جمادى الآخرة في العام الثامن الهجري.
وحدث أن اعتدت بنو بكر -وكانت قد دخلت في حلف قريش حسب اتفاق الحديبية- على خزاعة التي دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)(2)وعلمت قريش أنها نقضت العهد، فذهب أبو سفيان إلى المدينة ليسترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه رجع دون فائدة، وتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف مقاتل من الصحابة لغزو مكة دون أن تعلم قريش بذلك، وفي هذه الأثناء أسلم أبو سفيان، ولما قرب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة كان أبو سفيان قد رجع ليخبر القوم.
__________
(1) - صحيح البخارى (4262 )
(2) - انظر التفاصيل في السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 9 / ص 233)(19331) صحيح
(1/382)
ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة منتصرين فاتحين، واتجه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة خلفه ناحية المسجد الحرام، فاستلم الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود وطاف بالبيت، وهدم الأصنام التي كانت حول الكعبة، ثم نادى عثمان بن طلحة وأخذ منه مفتاح الكعبة فدخلها فوجد فيها صورًا فمحاها، وخطب الرسول صلى الله عليه وسلم في قريش، ثم قال لهم: ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.. فقال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (92) سورة يوسف اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ثم رد المفتاح إلى عثمان بن طلحة، وكان قد حان وقت الصلاة، فأمر بلال أن يصعد الكعبة، فصعدها وأذن، وأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دم بعض من أكابر المجرمين الذين عذبوا المسلمين وآذوهم، فقتل بعضهم وأسلم بعضهم، ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم البيعة ممن أسلم من الرجال، ثم أخذ البيعة من النساء، وأقام الرسول تسعة عشر يومًا في مكة يجدد معالم الإسلام فيها، وبعث نفرًا من أصحابه لهدم الأصنام التي كان منتشرة في مكة، وقد كان فتح مكة في العام الثامن من الهجرة.
(1/383)
وقد كان فتح مكة مرحلة فاصلة في تاريخ الإسلام، فقد كان لقريش مكانة عظيمة بين القبائل العربية، فلما رأت القبائل قريشا دخلت الإسلام، أسرعت القبائل تدخل في دين الله أفواجًا، ولكن مسيرة الجهاد لم تقف، فلقد أبت بعض القبائل العربية أن تدخل الدين الجديد، وألا تستسلم كما استسلمت القبائل الأخرى، وكان من بين هذه القبائل هوازن وثقيف، وانضمت بعض القبائل الأخرى تحت قيادة مالك بن عوف، وخرج الجيش الإسلامي ناحية (حنين) وكان مالك بن عوف قد سبقهم إليها، ووزَّع الجيش في الوادي، ولما نزل المسلمون الوادي رشقهم العدو بالنبال، حتى تقهقرت كتائب المسلمين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع شمل المسلمين الفارين وأعاد للجيش انتظامه، وحاربوا العدو، ونصرهم الله عليهم وغنموا غنائم كثيرة، وتفرق العدو إلى الطائف ونخلة وأوطاس.. وغير ذلك من الأماكن، وقد كانت هذه الغزوة في شوال من العام الثامن الهجري.
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن معظم جيش هوازن وثقيف دخلوا الطائف، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شوال وحاصرهم حصارًا شديدًا عدة أيام، وبعدها رفع الرسول صلى الله عليه وسلم الحصار عنهم فقال له بعض الصحابة: يا رسول الله، ادع على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم، وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم، وبعد تقسيم الغنائم جاء وفد هوازن مسلمين، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم غنائمهم، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة رد الغنائم لوفد هوازن، فاستجابوا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بعدها اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى المدينة.
(1/384)
وفي العام التاسع من الهجرة، سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرومان تستعد للقاء المسلمين، وقد تجمع معها بعض القبائل العربية من النصارى، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خارج لقتال الروم، ودعا إلى الجهاد والإنفاق في سبيل الله ، وأنفق الصحابة من أموالهم الكثير، ولم يتخلف عن هذه الغزوة إلا المنافقون وثلاثة من المؤمنين، وقد كان هذا الوقت شديد الحر، إلا أن المسلمين جاهدوا أنفسهم في الخروج للجهاد، ولم يكف الزاد، وسمي هذا الجيش بجيش العسرة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في رجب من العام التاسع الهجري تجاه تبوك، حتى وصل إليها وعسكر فيها خمسين يومًا.
(1/385)
ولما سمع الروم به خافوا، فلم يخرجوا لقتال المسلمين، وجاء إليه بعض الرومان واصطلحوا معه على دفع الجزية، وانتشر الخبر في الجزيرة العربية، فازداد الإسلام قوة إلى قوته، ورجعت إليه القبائل التي كانت تنوي الاحتماء بالرومان، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان من هذه السنة مظفرًا منتصرًا، وفي هذه السنة توفي النجاشي ملك الحبشة، وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، كما توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومات رأس المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول. عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ لَمَّا تُوُفِّىَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِى قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ ، فَأَعْطَاهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَمِيصَهُ فَقَالَ « آذِنِّى أُصَلِّى عَلَيْهِ » . فَآذَنَهُ ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ - رضى الله عنه - فَقَالَ أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ « أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ قَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (80) سورة التوبة» . فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } (84) سورة التوبة .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (1269 ) 97/2
(1/386)
وفي ذي الحجة من العام التاسع الهجري بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الحج، فحج بالمسلمين، ودخل الناس في الإسلام أفواجًا، فأتت القبائل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متتالية متتابعة معلنة إسلامها لله، وفي ذي الحجة من العام العاشر الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة وحج بالناس حجة الوداع، بعد أن أعلمهم أمور الدين، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَىَّ فَقُلْتُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ. فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِى فَنَزَعَ زِرِّى الأَعْلَى ثُمَّ نَزَعَ زِرِّى الأَسْفَلَ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَىَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ شَابٌّ فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِى سَلْ عَمَّا شِئْتَ.
(1/387)
فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَقَامَ فِى نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا فَقُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِى النَّاسِ فِى الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَاجٌّ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِى بَكْرٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ « اغْتَسِلِى وَاسْتَثْفِرِى بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِى ». فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِى بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَىْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ « لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ ».
(1/388)
وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِى يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَلْبِيَتَهُ قَالَ جَابِرٌ - رضى الله عنه - لَسْنَا نَنْوِى إِلاَّ الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَرَأَ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِى يَقُولُ وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) « أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ». فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِىَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ».
(1/389)
ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِى بَطْنِ الْوَادِى سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَ « لَوْ أَنِّى اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْىَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ». فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَبَدٍ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِى الأُخْرَى وَقَالَ « دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِى الْحَجِّ - مَرَّتَيْنِ - لاَ بَلْ لأَبَدٍ أَبَدٍ ». وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ فَاطِمَةَ - رضى الله عنها - مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِى أَمَرَنِى بِهَذَا. قَالَ فَكَانَ عَلِىٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِى صَنَعَتْ مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّى أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ « صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّى أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَالَ « فَإِنَّ مَعِىَ الْهَدْىَ فَلاَ تَحِلُّ ».
(1/390)
قَالَ فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْىِ الَّذِى قَدِمَ بِهِ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِى أَتَى بِهِ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- مِائَةً - قَالَ - فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِى فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ « إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِى بَنِى سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِى النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ
(1/391)
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ». قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ « اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى « أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ ».
(1/392)
كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ - حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ - بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِى تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِى عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِى ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِى هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِى قِدْرٍ
(1/393)
فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَأَتَى بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ « انْزِعُوا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ ». فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (3009 )
استثفرى : شدى فرجك بخرقة بعد أن تحتشى قطنا- يسبح : يصلى صلاة تطوع -أَسفر : أضاء
الساجة : نوع من الأكسية الخضراء أو السوداء -المشجب : ما تعلق عليه الثياب -الظعن : جمع الظعينة وهى المرأة -غبر : بقى -انزع : استقوا -النساجة : نوع من الملاحف المنسوجة
(1/394)
وفي أوائل صفر من العام الحادي عشر الهجري خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، وصلى على الشهداء كأنه يودعهم، وفي ليلة من الليالي خرج إلى البقيع فاستغفر للموتى، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما اشتد عليه المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ الأَسْوَدُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَذَكَرْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا ، قَالَتْ لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَضَهُ الَّذِى مَاتَ فِيهِ ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَأُذِّنَ ، فَقَالَ « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ » . فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ ، إِذَا قَامَ فِى مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّىَ بِالنَّاسِ ، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ « إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ » . فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى ، فَوَجَدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً ، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّى أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَعِ ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَكَانَكَ ، ثُمَّ أُتِىَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ . قِيلَ لِلأَعْمَشِ وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّى بِصَلاَتِهِ ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأْسِهِ نَعَمْ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(664 )-الأسيف : رقيق القلب -يهادى : يمشى معتمدا عليهما
(1/395)
وفي هذه الأيام كان الرسول يخرج للناس إذا وجد خفة في نفسه، فخرج إليهم ذات مرة، فوعظهم وذكرهم، وألمح بأن أجله قد اقترب، ولم يفهم ذلك من الصحابة إلا أبو بكر، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ « إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ » . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا . فَعَجِبْنَا لَهُ ، وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهْوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْمُخَيَّرَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ ، إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِى بَكْرٍ » .(1)
وقبل أن يتوفَّى النبي صلى الله عليه وسلم بيوم أعتق غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده.
__________
(1) - صحيح البخارى(3904 ) -الخوخة : الباب الصغير
(1/396)
وفي اليوم الأخير من مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فجر يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة، فرفع الستار ورأى المسلمين يصلون الفجر، فتبسم وفي وقت الضحى صعدت الروح الطاهرة الزكية إلى ربها بعدما أدت ما عليها فحزن الصحابة -رضوان الله عليهم- حزنًا شديدًا لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ ، حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَتَيَمَّمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِى أَنْتَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رضى الله عنه - خَرَجَ وَعُمَرُ - رضى الله عنه - يُكَلِّمُ النَّاسَ . فَقَالَ اجْلِسْ . فَأَبَى . فَقَالَ اجْلِسْ .
(1/397)
فَأَبَى ، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ ، وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لاَ يَمُوتُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا ..(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (1241) 91/2 -تيمم : قصد - المسجى : المغطى
(1/398)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَقَالَ فِى كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ فِى ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ . وَقَالَ لَهَا فِى أَىِّ يَوْمٍ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ . قَالَ فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَتْ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ . قَالَ أَرْجُو فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَ اللَّيْلِ . فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِى هَذَا ، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِى فِيهَا . قُلْتُ إِنَّ هَذَا خَلَقٌ . قَالَ إِنَّ الْحَىَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ . فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاَثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ .(1)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثُوا إِلَى أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَكَانَ يَضْرَحُ كَضَرِيحِ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَعَثُوا إِلَى أَبِى طَلْحَةَ وَكَانَ هُوَ الَّذِى يَحْفِرُ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ يَلْحَدُ فَبَعَثُوا إِلَيْهِمَا رَسُولَيْنِ وَقَالُوا اللَّهُمَّ خِرْ لِرَسُولِكَ. فَوَجَدُوا أَبَا طَلْحَةَ فَجِىءَ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ أَبُو عُبَيْدَةَ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جِهَازِهِ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِى بَيْتِهِ. ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرْسَالاً.
__________
(1) - صحيح البخارى (1387 )- الخلق : البالى
(1/399)
يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا الصِّبْيَانَ وَلَمْ يَؤُمَّ النَّاسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحَدٌ. لَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِى الْمَكَانِ الَّذِى يُحْفَرُ لَهُ فَقَالَ قَائِلُونَ يُدْفَنُ فِى مَسْجِدِهِ. وَقَالَ قَائِلُونَ يُدْفَنُ مَعَ أَصْحَابِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا قُبِضَ نَبِىٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ ». قَالَ فَرَفَعُوا فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِى تُوُفِّىَ عَلَيْهِ فَحَفَرُوا لَهُ ثُمَّ دُفِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسْطَ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ الأَرْبِعَاءِ. وَنَزَلَ فِى حُفْرَتِهِ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ ابْنَا الْعَبَّاسِ وَشُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِىٍّ وَهُوَ أَبُو لَيْلَى لِعَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَحَظَّنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ لَهُ عَلِىٌّ انْزِلْ. وَكَانَ شُقْرَانُ مَوْلاَهُ أَخَذَ قَطِيفَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَلْبَسُهَا فَدَفَنَهَا فِى الْقَبْرِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ يَلْبَسُهَا أَحَدٌ بَعْدَكَ أَبَدًا. فَدُفِنَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.(1)
__________
(1) - سنن ابن ماجه (1696 )حسن لغيره
الأرسال : الأفواج يتبع بعضها بعضا - يضرح : يحفر الشق
(1/400)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : نُعِيَ إِلَيْنَا حَبِيبُنَا وَنَبِيُّنَا بِأَبِي هُوَ وَنَفْسِي لَهُ الْفِدَاءُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسِتٍّ ، فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقَ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ أُمِّنَا عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْنَا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِكُمْ وَحَيَّاكُمُ اللَّهُ ، حَفِظَكُمُ اللَّهُ ، آوَاكُمُ اللَّهُ ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ ، رَفْعَكُمُ اللَّهُ ، هَدَاكُمُ اللَّهُ ، رِزْقَكُمُ اللَّهُ ، وَفَّقَكُمُ اللَّهُ ، سَلَّمَكُمُ اللَّهُ ، قَبِلَكُمُ اللَّهُ ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ ، وَأُوصِي اللَّهَ بِكُمْ وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، أَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلادِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي وَلَكُمْ : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ دَنَا الأَجَلُ وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللهِ ، وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَإِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى ، وَالْكَأْسِ الأَوْفَى وَالرَّفِيقِ الأَعْلَى ، أَحْسَبُهُ فَقُلْنَا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، فَمَنْ يُغَسِّلُكَ إِذَنْ ؟ قَالَ : رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي الأَدْنَى فَالأَدْنَى ، قُلْنَا : فَفِيمَا نُكَفِّنُكَ ؟ قَالَ : فِي ثِيَابِي هَذِهِ إِنْ شِئْتُمْ ، أَوْ فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ ، أَوْ فِي بَيَاضِ مِصْرَ قَالَ : قُلْنَا : فَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ مِنَّا ؟ فَبَكَيْنَا وَبَكَى ، وَقَالَ :مَهْلا غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرًا ، إِذَا غَسَّلْتُمُونِي ثُمَّ وَضَعْتُمُونِي عَلَى سَرِيرِي فِي بَيْتِي هَذَا عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي فَاخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً ،
(1/401)
فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ خَلِيلِي وَجَلِيسِي جِبْرِيلُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ مِيكَائِيلُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جُنُودِهِ ، ثُمَّ الْمَلائِكَةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهَا ، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وَلاَ تُؤْذُونِي بِبَاكِيَةٍ أَحْسَبُهُ قَالَ : وَلاَ صَارِخَةٍ وَلاَ رَانَّةٍ ، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ ، وَاقْرَءُوا أَنْفُسَكُمْ مِنِّي السَّلامَ ، وَمَنْ غَابَ مِنْ إِخْوَانِي فَأَبْلِغُوهُ مِنِّي السَّلامَ ، وَمَنْ دَخَلَ مَعَكُمْ فِي دِينِكُمْ بَعْدِي فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَقْرَأُ السَّلامَ أَحْسَبُهُ ، قَالَ : عَلَيَّ وَعَلَى كُلِّ مَنْ تَابَعَنِي عَلَى دِينِي مِنْ يَوْمِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قُلْنَا : يَا رَسُولِ اللهِ ، صلى الله عليه وسلم ، فَمَنْ يُدْخِلُكَ قَبْرَكَ مِنَّا ؟ قَالَ : رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي مَعَ مَلائِكَةٍ كَثِيرَةٍ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : غَسَّلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، وَكَانَ طَيِّبًا حَيًّا وَمَيِّتًا صلى الله عليه وسلم(1)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (4397)صحيح
(1/402)
و عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : أَرَدْنَا غُسْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَاخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا ، أَوْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ ، فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهُمُ السُّنَّةَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ نَائِمٌ ذَقْنُهُ عَلَى صَدْرِهِ ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ : أَمَا تَدْرُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ ؟ فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ ، يَصُبُّونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَيُدَلِّكُونَهُ مِنْ فَوْقِهِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَايْمُ اللَّهِ ، لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ نِسَاؤُهُ "(1)
__________
(1) - المستدرك(4398) حسن
(1/403)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا : مَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَبَكَى وَبَكَيْنَا ، وَقَالَ : مَهْلا ، غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرًا ، إِذَا غَسَّلْتُمُونِي وَحَنَّطْتُمُونِي وَكَفَّنْتُمُونِي فَضَعُونِي عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي ، ثُمَّ اخْرِجُوا عَنِّي سَاعَةً ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ خَلِيلِي وَجَلِيسِي جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ مَعَ جُنُودٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ، ثُمَّ لِيَبْدَأْ بِالصَّلاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي ، ثُمَّ نِسَاؤُهُمْ ، ثُمَّ ادْخُلُوا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا وَفُرَادَى وَلا تُؤْذُونِي بِبَاكِيةٍ ، وَلا بِرَنَّةٍ ، وَلا بِصَيْحَةٍ ، وَمَنْ كَانَ غَائِبًا مِنْ أَصْحَابِي فَأَبْلِغُوهُ مِنِّي السَّلامَ ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ عَلَى أَنِّي قَدْ سَلَّمْتُ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ ، وَمَنْ تَابَعَنِي عَلَى دِينِي هَذَا مُنْذُ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(1)
=================
الشمائلُ العامَّةُ
ليس هناك أحدٌ من البشر نال من الحب والتقدير ما ناله المصطفى ، فباسمه تلهج ملايين الألسنة، ولذكره تهتزّ قلوب الملايين، ولكن العبرة أن يتحول هذا الحب إلى محض اتباع دقيق لكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، كما قال الحق تبارك وتعالى مبيناً معيار المحبة الصادقة:{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
__________
(1) - مسند البزار (2028) والمستدرك برقم (4399)حسن لغيره
(1/404)
بل سيرته هي المنظومة المتألفة والكوكبة المتلألئة والشمس الساطعة والسنا المشرق والمشعل الوضاء الذي يبدّد ركام الظُّلْم والظُّلَم، ولئن فات كثيرين رؤيتُه بأبصارهم، فإن في تأمُّلِ شمائله لعزاءً وسلوانا، فالمطبقون لشمائله إن لم يصحَبوا نفسَه أنفاسَه صحِبوا.
إن فاتكم أن تروه بالعيون فما ... ... يفوتكم وصفُه هاذي شمائله
مكمَّل الذات في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ... ... وفي صفاتٍ فلا تحصى فضائله
يخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى وسيرته كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة، محدودة بعلمٍ أو عبقرية أو حِنكة. فرسولنا قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها في ذاته وشمائله وجميع أحواله، لكنه مع ذلك ليس رباً فيقصَد، ولا إلهًا فيُعبَد، وإنما هو نبي يُطاع ورسول يُتَّبع، خرَّج البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ - رضى الله عنه - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لاَ تُطْرُونِى كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ »(1). .
إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل الإسلام لم يقدروا رسولهم حقَّ قدره حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم، ذلك أنه حبٌّ سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك والامتثال.
تأملوا هديه وشمائله في جوانب الدين والدنيا بأسرها.
__________
(1) - صحيح البخاري (3445 )- تطرونى : تمدحونى
(1/405)
ففي مجال توحيده لربه صدَع بالتوحيد ودعا إليه ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة، كيف لا وهو المنزَّل عليه قوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. وإن أول واجب على محبيه أن يُعنَوا بأمر الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرة كل ما يخدش صحيح المعتقد وصفو المتابعة .
وفي مجال عبوديته لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، عَنْ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ : إِنْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ « أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا »(1)..
__________
(1) - صحيح البخاري (1130)
(1/406)
وفي مجال الأخلاق تجده مثال الكمال في رقة القلب، وسماحة اليد، وكفِّ الأذى، وبذل الندى، وعفة النفس، واستقامة السيرة. فعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى فَقُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ :(يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وَحِرْزاً لِلأُمِّيِّينَ وَأَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَسْتَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ - قَالَ يُونُسُ وَلاَ صَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ - وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُناً عُمْياً وَآذَاناً صُمًّا وَقُلُوباً غُلْفاً.(1).
زانتْه في الخلق العظيم شمائلٌ ... ... يُغرى بهن ويولَع الكرماء
__________
(1) - مسند أحمد(6781) صحيح
الحرز : الحصن - سخاب : صيَّاح - الغلف : جمع الأغلف وهى القلوب المغشاة المغطاة
(1/407)
وأعظم من ذلك وأبلغ ثناءُ ربه عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم }[القلم:4]، وقال تعالى :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ،وعن أَنَسٍ قالَ : مَا شَمِمْتُ شَيْئاً عَنْبَراً قَطُّ وَلاَ مِسْكاً قَطُّ وَلاَ شَيْئاً قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ مَسِسْتُ شَيْئاً قَطُّ دِيبَاجاً وَلاَ حَرِيراً أَلْيَنَ مَسًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- . قَالَ ثَابِتٌ فَقُلْتُ يَا أَبَا حَمْزَةَ أَلَسْتَ كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَأَنَّكَ تَسْمَعُ إِلَى نَغَمَتِهِ فَقَالَ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَقُولَ يَا رَسُولَ اللَّهِ خُوَيْدِمُكَ. قَالَ خَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَا غُلاَمٌ لَيْسَ كُلُّ أَمْرِى كَمَا يَشْتَهِى صَاحِبِى أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ لِى فِيهَا أُفٍّ وَلاَ قَالَ لِى لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَأَلاَ فَعَلْتَ هَذَا..(1)
تلك لعمرو الحق عراقةُ الخلال وسمو الخصال، وكريم الشمائل وعظيم الفضائل، فسبحان من رفع قدره، وشرح صدره، وأعلى في العالمين ذكره. وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه :(2)
أغَرُّ، عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّة ِ خَاتَمٌ مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ ويُشْهَدُ
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ، إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ
وشقّ لهُ منِ اسمهِ ليجلهُ، فذو العرشِ محمودٌ، وهذا محمدُ
__________
(1) - مسند أحمد(13663) صحيح
(2) - تراجم شعراء موقع أدب - (ج 7 / ص 467)رقم القصيدة : 12836
(1/408)
نَبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأسٍ وَفَتْرَة ٍ منَ الرسلِ، والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ
فَأمْسَى سِرَاجاً مُسْتَنيراً وَهَادِياً، يَلُوحُ كما لاحَ الصّقِيلُ المُهَنَّدُ
وأنذرنا ناراً، وبشرَ جنة ً، وعلمنا الإسلامَ، فاللهَ نحمدُ
وأنتَ إلهَ الخلقِ ربي وخالقي، بذلكَ ما عمرتُ فيا لناسِ أشهدُ
تَعَالَيْتَ رَبَّ الناسِ عن قَوْل مَن دَعا سِوَاكَ إلهاً، أنْتَ أعْلَى وَأمْجَدُ
لكَ الخلقُ والنعماءُ، والأمرُ كلهُ، فإيّاكَ نَسْتَهْدي، وإيّاكَ نَعْبُدُ
فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره في هديه وشمائله؟!
وهناك صفحة أخرى يا رعاكم الله، في معاملاته لأصحابه وأهل بيته وزوجاته، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا ».(1).
وهكذا في سياسة الدولة الإسلامية وفي عبادته لربه، وفي نفقته وبذله، وفي قوته وجهاده، وحرصه على أداء رسالة الله وتبليغ دعوة ربه تبارك وتعالى.
وهذا أنموذج على حكمته في الدعوة، ورفقه بالمدعوين ورحمته بالناس، مسلمين وغير مسلمين،قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء:107]، ومراعاته لحقوق الإنسان، بل ورفقه حتى بالحيوان، في وقت تتغنى فيه حضارة اليوم بدوس كرامة الإنسان ورعاية أحطِّ حيوان، فالله المستعان.
__________
(1) - سنن الترمذى( 1195 ) صحيح
(1/409)
ويتجلى هذا الأنموذج الرائع في قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، حين نهره الصحابة رضي الله عنهم، فقال : ((دعوه، لا تزرموه))، أي: لا تنهروه، فقال لهم : ((إنما بُعثتم مبشرين، ولم تبعثوا معسرين)) وأرشده برفق وحكمه، وكانت النتيجة أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. متفق عليه(1).
__________
(1) - أخرجه البخاري في الوضوء (220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مختصرا، ومسلم في الطهارة (285) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس في الحديثين 215/5قول الأعرابي، وإنما أخرجه البخاري في الأدب (6010) عن أبي هريرة مفردا من غير ذكر القصة.
(1/410)
وفي قصة ثمامة بن أثال حينما أُسر ورُبط بسارية المسجد وهو مشرك وسيد قومه عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِى خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ ، إِنْ تَقْتُلْنِى تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ . حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ . فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ ، فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِى مَا قُلْتُ لَكَ .
(1/411)
فَقَالَ « أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ » ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ وَجْهِكَ ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ دِينِكَ ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَىَّ مِنْ بَلَدِكَ ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَىَّ ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِى وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ ، فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ . قَالَ لاَ ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - .(1).
تلك آثار الدعوة بالرفق والرحمة والحسنى، والبعد عن مسالك العنف والغلظة والفظاظة، وهو درس بليغ للدعاة إلى الله إلى قيام الساعة.
بنيتَ لهم من الأخلاق ركناً ... ... فخانوا الركن فانهدم اضطرابا
وكان جَنابهم فيها مُهابا ... ........ ... ولَلأخلاق أجدرُ أن تهابا
__________
(1) - صحيح البخارى (4372 )5/215
(1/412)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ :« إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ».(1)، و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ سَرَّحَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْخَيْلِ وَقَالَ :« يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ بِالأَنْصَارِ ». قَالَ :« اسْلُكُوا هَذَا الطَّرِيقَ فَلاَ يُشْرِفَنَّ لَكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَنَمْتُمُوهُ ». فَنَادَى مُنَادِى : لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ دَخَلَ دَارًا فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ ». وَعَمَدَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ فَدَخَلُوا الْكَعْبَةَ فَغَصَّ بِهِمْ وَطَافَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ ثُمَّ أَخَذَ بِجَنَبَتَىِ الْبَابِ فَخَرَجُوا فَبَايَعُوا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الإِسْلاَمِ.
- زَادَ فِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمِ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ : ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَىِ الْبَابِ فَقَالَ :« مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ ». قَالُوا : نَقُولُ ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٍ رَحِيمٍ قَالَ وَقَالُوا ذَلِكَ ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ». قَالَ فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ فَدَخَلُوا فِى الإِسْلاَمِ"(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (6778 )
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 9 / ص 118)(18738) وفيه إعضال
(1/413)
ألا فلتعلم الإنسانية قاطبة والبشرية جمعاء هذه الصفحات الناصعة من رحمة الإسلام ورسول الإسلام والسلام عليه الصلاة والسلام، الذي يجدون ذكر شمائله في توراة موسى وفي بشارة عيسى، وليعلم من يقفُ وراء الحملات المغرضة ضد الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام ما يتمتع به الإسلام من مكارم وفضائل، ومحاسن وشمائل، ومدى البون الشاسع بين عالميته السامية وعولمتهم المأفونة في إهدارٍ للقيم الإنسانية وإزراءٍ بالمثل الأخلاقية.
وهل تدرك الأمة الإسلامية اليوم الطريقةَ المثلى للدعوة إلى دينها وإحياء سنة رسولها إحياءً عملياً حقيقياً، لا صوريا وشكلياً؟!
===========
الشمائل المحمدية(1)
إن محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام لم يكن ميلاده من الأهمية كمثل ميلاد أيّ رجل من الناس، فقد كانت الأرض على موعد بعد أربعين عامًا من مولده مع بعثةٍ هي آخر رسالات الله إلى أهل الأرض، وكان الزمن على موعد مع كلمةِ الله الخاتمة إلى الثقلين الجن والإنس.
بعث الله نبيه محمدًا على فترة من الرسل، ففتح الله بدعوته القلوب، وأنارت رسالته الصدور، وكان للناس كالنهار يأتي بعد الليل، وكالنور يسطع من بعد الظلام.
لقد انطلق نور الدعوة من جوار الكعبة بيت الله الحرام، ليضيء المشارق والمغارب، ولتتحقق دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليهما الصلاة والسلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]،
وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْراءيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف:6].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4272) الشمائل المحمدية
(1/414)
كان محمد صلى الله عليه وسلم هو الإجابة لدعوة إبراهيم، وكان هو التصديق لبشارة عيسى. أيّ نبيٍ كان؟! وأيّ رسول ؟!
إن العبارة لتنحني أمام شمائل هذا النبي وخصاله، وأي عبارة تصلح لترجمة ما كان عليه هذا النبي الكريم؟! وإنه لشرف كبير أن يكون المرء من أتباعه والمقتدين به، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4].
لقد تشرف برؤيته وصحبته والإيمان به ونصرته جيلُ الصحابة الكرام، فكانوا شهادة أخرى لنبوته في إيمانهم وإسلامهم وجهادهم، ولكن هذه الصحبة ليست خاصة بهم، فكل مسلم يمكن أن يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها.
إن الصحبة بهذا المعنى مفتوحة لكل الأجيال، فمن فاته أن يراه في الدنيا ويصحبه فيها فإنه يستطيع أن يدرك صحبته وجواره ورؤيته في الجنة.
هذا ميراثه بين الناس: ((كتاب الله وسنتي))، من أخذ بهما أدرك الصحبتين، لا أعني الصحبة الخاصة، فهذه فضيلة لأصحابه الأولين، لا يشاركهم فيها غيرهم، ولكن أقصد الصحبة العامة في الدنيا، والجوار الدائم في الآخرة.
إن رسول الله وإن كان غائبًا بشخصه عنا ـ لأنه مثل غيره من الأنبياء وافاه أجله ـ إلا أنه لم يغب أبدًا بأقواله وأعماله، فهو بيننا في كل وقت، ونحتاج يقظة وانتباهًا لنرى هديه أمامنا وسيرته حولنا وأخلاقه وفضائله عن يميننا وشمالنا.{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
أجل كانت سيرته ملهمة وموجّهة، فيها الشاهد لكل موقف من مواقف الحياة، لا يحتاج المسلمون سوى إلى البحث عنه.
كان خُلُقه القرآن، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه،
وهذه لقطات من هذا الخلق القرآني:
(1/415)
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا(1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا »(2)..
وعَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّىْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلاَنٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ « مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا » رواه أبو داود(3).
و عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ .. رواه البخاري(4).
__________
(1) - صحيح البخارى (3560 )
(2) - صحيح البخارى (3559 )
(3) - سنن أبى داود (4790 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى (1902 )
(1/416)
و عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ ، قَالَ وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا ، قَالَ فَتَلَقَّاهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَرَسٍ لأَبِى طَلْحَةَ عُرْىٍ ، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ فَقَالَ « لَمْ تُرَاعُوا ، لَمْ تُرَاعُوا » . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَجَدْتُهُ بَحْرًا » . يَعْنِى الْفَرَسَ . رواه البخاري(1).
و عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِىِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِى أُفًّا. قَطُّ وَلاَ قَالَ لِى لِشَىْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا رواه مسلم(2).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ .. رواه البخاري(3).
و عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لاَ. رواه مسلم(4).
__________
(1) - صحيح البخارى(3040 )- العرى : لا سرج عليه
(2) - صحيح مسلم (6151 )
(3) - صحيح البخارى 32/8 (6102 )
(4) - صحيح مسلم -(6158 )
(1/417)
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ التَّمِيمِيَّ - وَكَانَ وَصَّافًا - عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخْمًا مُفَخَّمًا ، يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَأَطْوَلَ مِنَ الْمَرْبُوعِ ، وَأَقْصَرَ مِنَ الْمُشَذَّبِ عَظِيمَ الْهَامَةِ ، رَجِلَ الشَّعْرِ ، إِذَا تَفَرَّقَتْ عَقِيصَتُهُ فَرَقَ فَلَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ ، إِذَا هُوَ وَفْرُهُ ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ ، وَاسِعَ الْجَبِينِ ، أَزَجَّ الْحَوَاجِبِ ، سَوَابِغَ مِنْ غَيْرِ قَرْنٍ بَيْنَهُمَا عِرْقٌ يُدِرُّهُ الْغَضَبُ ، أَقْنَى الْعِرْنِينِ ، لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ ، يَحْسَبُهُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ أَشَمَّ ، كَثَّ اللِّحْيَةِ ، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ ، ضَلِيعَ الْفَمِ ، أَشْنَبَ ، مُفَلَّجَ الْأَسْنَانَ ، دَقِيقَ الْمَسْرَبَةِ ، كَأَنَّ عُنُقَهُ جِيدَ دِمْنَةٍ فِي صَفَاءِ الْفِضَّةِ ، مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ بَادِنَ مُتَمَاسِكَ ، سَوَاءٌ الْبَطْنُ وَالصَّدْرُ ، عَرِيضَ الصَّدْرِ ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ ، أَنْوَرَ الْمُتَجَرَّدَ ، مَوْصُولَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالسُّرَّةِ بِشَعْرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ ، عَارِيَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ ، أَشَعَرَ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَأَعَالِيَ الصَّدْرِ طَوِيلَ الزَّنْدَيْنِ ، رَحْبَ الرَّاحَةِ ، سَبْطَ الْقَصَبِ ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ ، سَائِرَ الْأَطْرَافِ ، خُمْصَانَ الْأَخْمَصَيْنِ ، مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ ،إِذَا
(1/418)
زَالَ زَالَ قُلَعًا ، وَتَخَطَّى تَكَفِيًّا ، وَيَمْشِي هَوْنًا ، ذَرِيعَ الْمِشْيَةِ إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا ، خَافِضَ الطَّرْفِ ، نَظَرُهُ إِلَى الْأَرْضِ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلَاحَظَةُ ، يَسُوقُ أَصْحَابَهُ ، يَبْدُرُ مَنْ لَقِيَ بِالسَّلَامِ . قُلْتُ : صِفْ لِي مَنْطِقَهُ . قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ ، دَائِمَ الْفِكْرَةِ ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ ، لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ ، طَوِيلَ الصَّمْتِ يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ، فَصْلٌ لَا فُصُولٌ وَلَا تَقْصِيرٌ ، دَمِثٌ لَيْسَ بِالْجَافِي وَلَا الْمُهِينِ ، يُعَظِّمُ النِّعْمَةَ وَإِنْ دَقَّتْ لَا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْءٌ، لَا يَذُمُّ ذَوَاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ ، وَلَا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا وَلَا مَا كَانَ لَهَا ، فَإِذَا نُوزِعَ الْحَقَّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ ، لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا ، إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا ، وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا ، وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا فَيَضْرِبُ بِبَاطِنِ رَاحَةِ الْيُمْنَى بَاطِنَ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى ، وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ، وَإِذَا ضَحِكَ غَضَّ طَرْفَهُ ، جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ ، وَيَفْتُرُ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ .
(1/419)
فَكَتَمَهَا الْحُسَيْنُ زَمَانًا ، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا سَأَلْتُهُ وَوَجَدْتُهُ قَدْ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مُدْخَلِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمُخْرَجِهِ وَشَكْلِهِ ، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا . قَالَ الْحُسَيْنُ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ نَفْسَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ : جُزْءٌ لِلَّهِ وَجُزْءٌ لِأَهْلِهِ وَجُزْءٌ لِنَفْسِهِ . ثُمَّ جَزَّأَ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ ، فَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا ، فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ ، وَقَسْمُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ ، فَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيُلَائِمُهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ ، وَيَقُولُ : " لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، وَأَبْلِغُوا فِي حَاجَةٍ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا وَأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغِي حَاجَتَهُ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا إِيَّاهُ يُثَبِّتُ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . لَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا ذَاكَ ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ ، يَدْخُلُونَ رُوَّادًا وَلَا يَتَفَرَّقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ وَيَخْرُجُونَ أَذِلَّةً .
(1/420)
قَالَ : فَسَأَلْتُهُ عَنْ مُخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَزِّنُ لِسَانَهُ إِلَّا مِمَّا يَنْفَعُهُمْ وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يُفَرِّقُهُمْ أَوْ قَالَ : وَلَا يُنَفِّرُهُمْ ، فَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ وَيُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ ،وَيَحْذَرُ النَّاسَ وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ سِرَّهُ وَلَا خُلُقَهُ ، يَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ ، وَيَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي النَّاسِ ، وَيُحَسِّنُ الْحَسَنَ وَيُقَوِّيهِ ، وَيُقَبِّحُ الْقُبْحَ وَيُوهِنُهُ ، مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ، لَا يَغْفُلُ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَمِيلُوا ، لِكُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ عَتَادٌ ، لَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ وَلَا يَجُوزُهُ ، الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ ، أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ نَصِيحَةً ، وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً وَمُؤَازَرَةً .
(1/421)
فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجْلِسُ وَلَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ ، وَلَا يُوَطِّنُ الْأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ ، لَا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ ، مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَصَرِّفَ ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ ، قَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهُ بَسْطَةٌ وَخِلْقَةٌ ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً ، مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ ، لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ ، وَلَا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ وَلَا تُنْثَى فَلَتَاتُهُ ، مُتَعَادِلِينَ مُتَوَاصِينَ فِيهِ بِالتَّقْوَى مُتَوَاضِعِينَ ، يُوَقِّرُونَ الْكَبِيرَ وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ وَيُؤْثِرُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ .
(1/422)
قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي جُلَسَائِهِ ؟ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمَ الْبِشْرِ ، سَهْلَ الْخُلُقِ ، لَيِّنَ الْجَانِبِ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا فَاحِشٍ وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مَزَّاحٍ ، يَتَغَافَلُ عَمًّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يُؤْنَسُ مِنْهُ وَلَا يُخَيِّبُ فِيهِ ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : الْمِرَاءُ وَالْإِكْبَارُ وَمِمَّا لَا يَعْنِيهِ ، وَتَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا وَلَا يُعَيِّرُهُ وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا ، وَلَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ ، مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيَّتِهِمْ ، يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْهَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُوهُمْ وَيَقُولُ : " إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ فَأَرْشِدُوهُ " . وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُوزَهُ فَيَقْطَعَهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ .
(1/423)
قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ كَانَ سُكُوتُهُ ؟ قَالَ : كَانَ سُكُوتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَرْبَعٍ : عَلَى الْحِلْمِ وَالْحَذَرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّفَكُّرِ ، فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ فَفِي تَسْوِيَتِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِمَاعَ بَيْنَ النَّاسِ ، وَأَمَّا تَذَكُّرُهُ - أَوْ قَالَ : تَفَكُّرُهُ - فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى ، وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ فِي الصَّبْرِ فَكَانِ لَا يُوصِبُهُ وَلَا يَسْتَفِزُّهُ ، وَجُمِعَ لَهُ الْحَذَرُ فِي أَرْبَعٍ : أَخْذُهُ بِالْحُسْنَى لِيَقْتَدُوا بِهِ ، وَتَرْكُهُ الْقَبِيحَ لِيَنْتَهُوا عَنْهُ ، وَإِجْهَادُهُ الرَّأْيَ فِيمَا يُصْلِحُ أُمَّتَهُ ، وَالْقِيَامُ فِيمَا يَجْمَعُ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .(1).
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 26)(17868 )وفيه جهالة
قَالَ عَلِيُّ بن عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ، يَقُولُ: قَوْلُهُ: فَخْمًا مُفَخَّمَا الْفَخَامَةِ فِي الْوَجْهِ نُبْلُهُ وَامْتِلاؤُهُ مَعَ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ. وَالْمَرْبُوعُ الَّذِي بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَالْمَشْذُوبُ الْمُفْرَطُ فِي الطُّولِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي كُلِّ شَئٍ، قَالَ جَرِيرُ: أَلْوِي بِهَا شَذَبَ الْعُرُوقِ مُشَذَّبُ فَكَأَنَّمَا وَكُنْتُ عَلَى طِرْبَالِ وَقَوْلُهُ: رَجُلُ الشَّعْرِ الرَّجُلُ الَّذِي لَيْسَ بِالسِّبْطِ الَّذِي لا تُكْسَرُ فِيهِ وَالْقَطِطِ الشَّدِيدِ الْجَعْوَدَةِ، يَقُولُ فَهُوَ جَعْدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ. وَالْعُقَيْصَةُ الشَّعْرُ الْمُعْقُوصُ وَهُوَ نَحْوٌ مِنَ الْمَضْفُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ: مَنْ لَبَّدَ أَوْ عَقَّصَ أَوْ ضَفَّرَ فَعَلَيْهِ الْحَلْقُ. وَقَوْلُهُ أَزِجُ الْحَاجِبَيْنِ سَوَابِغٌ، الزَّجَجُ فِي الْحَوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَقَوُّسٌ مَعَ طَولٍ فِي أَطْرَافِهَا وَهُوَ السُّبُوغُ فِيهَا، قَالَ: جَمِيلُ بن مُعَمَّرٍ: إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ قَرْنٍ فَالْقَرْنُ الْتِقَاءُ الْحَاجِبَيْنِ حَتَّى يَتَّصِلا، يَقُولُ فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَبْلَجُ، وَذَكَرَ الأَصْمَعِيُّ، أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَحْسِنُ هَذَا. وَقَوْلُهُ بَيْنَهُمَا عَرَقٌ يَدُّرُهُ الْغَضَبُ، يَقُولُ: إِذَا غَضِبَ دَرَّ الْعَرَقُ الَّذِي بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ دُرُورُهُ غِلْظُهُ وَنَتْوَءَهُ وَامْتِلاءُهُ. وَقَوْلُهُ أَقْنَى الْعَرْنَيْنِ يَعْنِي الأَنْفَ وَالْقَنَا أَنْ يَكُونُ فِيهِ دِقَّةٌ مَعَ ارْتِفَاعٍ فِي قَصَبَتِهِ، يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أَقْنَى وَامْرَأَةٌ قَنْوَاءُ الأَشَمُّ أَنْ يَكُونَ الأَنْفُ دَقِيقًا لا قَنَا فِيهِ. وَقَوْلُهُ كَثُّ اللِّحْيَةِ الْكُثُوثَةُ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ غَيْرَ دَقِيقَةٍ وَلا طَوِيلَةٍ وَلَكِنْ فِيهَا كَثَاثَةٌ مِنْ غَيْرِ عَظْمٍ وَلا طُولٍ. وَقَوْلُهُ ضَلِيعُ الْفَمِّ أَحْسَبُهُ يَعْنِي حِلَةً فِي الشَّفَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ أَشْنَبُ الأَشْنَبُ هُوَ الَّذِي فِي أَسْنَانِهِ رِقَّةٌ وَتَحَدُّدٌ، يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أَشْنَبٌ وَامْرَأَةٌ شَنْبَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةُ لَعْسِ وَفِي اللِّثَاثِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ وَالْمُفَلَّجُ هُوَ الَّذِي فِي أَسْنَانُهُ تَفَرُّقٌ. وَالْمُسَرَّبَةُ الشَّعْرِ الَّتِي بَيْنَ الطَّلَبَةِ إِلَى السُّرَّةِ. شَعْرٌ يَجْرِي كَالْخَطِّ، قَالَ الأَعْشَى:
الأَنَ لَمَّا ابْيَضَتْ مَسْرَبَتِي وَعَضَضْتُ مِنْ نَابِي عَلَى خَاتَمِ
وَقَوْلُهُ جِيدُ دُمْيَةٍ، الْجِيدُ الْعُنُقُ، وَالدُّمْيَةُ الصُّورَةُ. وَقَوْلُهُ ضَخْمُ الْكَرَدِيسِ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَرَادِيسِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ الْعِظَامُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عَظِيمُ الأَلْوَاحِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْكَرَادِيسَ رُؤُوسَ الْعِظَامِ. وَالْكَرَادِيسُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَالزِّنْدَانِ الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ فِي السَّاعِدَيْنِ الْمُتَّصِلانِ بِالْكَفَّيْنِ، وَصَفَهُ بِطُولِ الذِّرَاعِ. سَبْطُ الْقَصَبِ، الْقَصَبُ كُلُّ عَظْمٍ ذِي مُخٍّ مِثْلَ السَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَسُبُوطِهِمَا امْتِدَادِهِمَا، يَصِفُهُ بِطُولِ الْعِظَامِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: جُو عَلَيَّ فِي الْبَرَى قَصَبًا خِدَالا أَرَادَ بِالْبَرَى الأُسْوِرَةَ وَالْخِلاخِلَ وَقَوْلُهُ شَئِنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، يُرِيدُ أَنَّ فَيهِمَا بَعْضُ الْغِلْظِ الأَخْمُصُ مِنَ الْقَدَمِ فِي بَاطِنِهَا مَا بَيْنَ صَدْرِهَا وَعَقِبِهَا وَهُوَ الَّذِي لا يَلْصِقُ بِالأَرْضِ مِنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوَسَطِ، قَالَ الأَعْشَى يَصِفُ امْرَأَةً بِإِبْطَائِهَا فِي الْمَشِيِّ: كَأَنَ أَخْمُصُهَا بِالشَّوْكِ مُنْتَعِلٌ وَقَوْلُهُ خُمْصَانُ، يَعْنِي أَنَّ ذَاكَ الْمَوْضِعَ مِنْ قَدَمَيْهِ فِيهِ تَجَافِ عَنِ الأَرْضِ وَارْتِفَاعٌ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ خُمُوصَةِ الْبَطْنِ وَهِيَ ضُمْرَةٌ، يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ خُمْصَانٌ وَامْرَأَةٌ خُمْصَانَةٌ. وَقَوْلُهُ مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ، يَعْنِي أَنَّهُمَا مَلْسَوَانِ لَيْسَ فِي ظُهُورِهِمَا تَكَسُّرٌ وَلِهَذَا قَالَ: يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءَ، يَعْنِي أَنَّهُ لا ثِيَابَ لِلْمَاءِ عَلَيْهِمَا. قَوْلُهُ إِذَا خَطَا تَكَفَّيَا يَعْنِي التَّمَايُلَ أَخَذَهُ مِنْ تَكَفَّيَا السُّفُنُ وَقَوْلُهُ ذُرَيْعُ الْمِشْيَةِ، يَعْنِي وَاسِعَ الْخُطَا. كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ فِي صَبَبٍ، أَرَاهُ يُرِيدُ أَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ غَاضٌ بَصَرَهُ لا يَرْفَعُهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمُنْحَطُّ، ثُمَّ فَسَّرَهُ، فَقَالَ: خَافِضُ الطَّرْفِ نَظَرُهُ إِلَى الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ نَظَرِهِ السَّمَاءَ. وَقَوْلُهُ إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، يُرِيَدُ أَنَّهُ لا يَلْوِي عُنُقَهُ دُونَ جَسَدِهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا بَعْضُ الْخِفَّةِ وَالطَّيْشِ. وَقَوْلُهُ دَمِثٌ، هُوَ اللَّيْنُ السَّهْلُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْرَجُلِ دَمِثٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَنْ يَبُولُ فَمَالَ إِلَى دَمِثٍ وَقَوْلُهُ إِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ: الإِشَاحَةُ الْحَدُّ وَقَدْ يَكُونُ الْحَذَّرُ وَقَوْلُهُ: وَيَفْتُرُ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ، وَالافْتِرَارِ أَنْ تُكَشِّرَ الأَسْنَانَ ضَاحِكًا مِنْ غَيْرِ قَهْقَهَةً، وَحَبُّ الْغَمَامِ الْبَرَدُ شَبَّهَ بِهِ بَيَاضَ أَسْنَانِهِ، قَالَ جَرِيرٌ: يَجْرِي السُّوَاكُ عَلَى أَغَرٍّ كَأَنَّهُ بَرَدٌ تَحَدَّرَ مِنْ مُتُوَنِ غَمَامِ وَقَوْلُهُ يَدْخُلُونَ رُوَادًا، الرُّوَادُ الطَّالِبُونَ وَأَحَدُهُمْ رَائِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْالرَّائِدُ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُوَقَوْلُهُ لِكُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ عَتَادٌ، يَعْنِي عِدَّةً وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ. لا يُوطِنُ الأَمَاكِنَ، أَي لا يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ مَوْضِعًا يُعْرَفُ إِنَّمَا يَجْلِسُ حَيْثُ يُمْكِنْهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ حَاجَتُهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ فَسَّرَهُ، فَقَالَ: يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتِهِي بِهِ الْمَجْلِسُ، وَمِنْهُ حَدِيثُهُ عَلَيْهِ السَّلامِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُوطِنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوطِنُ الْبَعِيرُ. وَقَوْلُهُ فِي مَجْلِسِهِ لا تُؤَبِّنُ فِيهِ الْحَرِمُ، يَقُولُ لا يُوصَفُ فِيهِ النِّسَاءُ وَمِنْهُ حَدِيثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشِّعْرِ إِذَا أُبْنَتْ فِيهِ النِّسَاءُ.
(1/424)
كان على هذه الأخلاق كلها، وعلى ما هو أعظم منها.
ولقد شهد له ربه بهذه الخصال في كتبه العزيز:{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]،
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران .
هذا هو المبعوث في العرب، أهل العصبية والقبلية والجفاء والخشونة والغلظة؟! عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً - ثُمَّ قَالَ - ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ - ثُمَّ قَالَ - أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِى فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِى . فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ . فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ » رواه البخاري(1).
__________
(1) - صحيح البخارى6/70( 4625 )
(1/425)
انظر ما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فالزمه فإنه طريق النجاة ، فعن خَالِدَ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِىُّ وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ. فَقَالَ الْعِرْبَاضُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». رواه أبو داود(1).
__________
(1) - سنن أبى داود (4609 )صحيح
النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
(1/426)
ولا يخفى على مسلم أن الله سبحانه وتعالى أمر بتعظيم نبيه فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }[الفتح:8، 9]، وتعزيره نصره وتأييده ومنع كل ما يؤذيه، وتوقيره إجلاله وإكرامه وتشريفه، وقد أعطى المولى سبحانه لهذا النبي الكريم من الصفات العالية والأخلاق العظيمة ما يدعو كل مسلم أن يحبه ويعظمه، فهو محمد أي: المحمود عند الله وعند ملائكته، عند أهل أرضه وسمائه، محمود الخصال والصفات.
من نظر في أخلاقه علم أنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل البشر، كان أصدق الناس حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأجودهم كفًا، وأعظمهم عفوًا، وأوفاهم ذمة، وأشدهم تواضعًا. عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما - قُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى التَّوْرَاةِ . قَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا ، وَآذَانًا صُمًّا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا .أخرجه البخاري .(1)
===============
بعضُ شمائله ووصاياه(2)
__________
(1) - صحيح البخارى(2125 ) الحرز : الحصن - سخاب : صيَّاح
(2) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4934)
(1/427)
الأمرُ بالتيسير والرفق
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا »(1).
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.(2)
وعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ ».(3)
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ »(4).
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ».(5).
ومن ذلك الحذر من الغضب
__________
(1) - صحيح البخارى (69 )
(2) - صحيح مسلم (687 )- شن : صبه صبا متقطعا
(3) - صحيح مسلم (6763)
(4) - صحيح مسلم (6766 )
(5) - صحيح مسلم (6767 )
(1/428)
قال جل وعلا في بيان بعض أوصاف المؤمنين: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (37) سورة الشورى .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ »(1). .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْصِنِى . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » . فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ « لاَ تَغْضَبْ »(2)..
ومنه الحلم والأناة
فعَنْ زَارِعٍ وَكَانَ فِى وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَرِجْلَهُ - قَالَ - وَانْتَظَرَ الْمُنْذِرُ الأَشَجُّ حَتَّى أَتَى عَيْبَتَهُ فَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ « إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِى عَلَيْهِمَا قَالَ « بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا ». قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَبَلَنِى عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.(3)
ومن ذلك الوصية بالجار
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ »(4).
__________
(1) - صحيح البخارى (6114 )
(2) - صحيح البخارى (6116 )
(3) - سنن أبى داود (5227 ) صحيح -العيبة : مستودع الثياب
(4) - صحيح البخارى (6015 )
(1/429)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ »(1).
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ إِنَّ خَلِيلِى -صلى الله عليه وسلم- أَوْصَانِى « إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ ».(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »(3).
الرحمة بالأطفال
__________
(1) - صحيح مسلم (6855)
(2) - صحيح مسلم (6856 )
(3) - صحيح البخارى (6018 )
(1/430)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ - وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رضى الله عنه - وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ » . ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ » .(1).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ »(2).
__________
(1) - صحيح البخارى (1303)- ظئر : زوج المرضعة غير ولدها- القين : الحداد والصائغ
(2) - صحيح البخارى (1381 )
(1/431)
وعَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ فَائْتِنَا . فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ « إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ » . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ - قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ - كَأَنَّهَا شَنٌّ . فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ . فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ »(1).
وعَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِى الْعَاصِ وَهْىَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عَاتِقِهِ فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا..(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (1284 )- تقعقع : تضطرب وتتحرك
(2) - صحيح مسلم (1241)
(1/432)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا . فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ »(1)..
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ »(2).
حنانه وشفقته بالمريض
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنهم - فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِى غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ « قَدْ قَضَى » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَبَكَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا فَقَالَ « أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ » .(3)
__________
(1) - صحيح البخارى (5997 )
(2) - صحيح البخارى(5998 )
(3) - صحيح البخارى(1304 ) 2/106
الغاشية : جماعة من أهله يغشونه للخدمة وغيرها -قضى : مات
(1/433)
ومن ذلك رحمته بالنساء والبنات
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ ، وَكَانَ مَعَهُ غُلاَمٌ لَهُ أَسْوَدُ ، يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ ، يَحْدُو ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ بِالْقَوَارِيرِ »(1). ؛ إشارة إلى ما فيهن من الصفاء والنعومة والرقة, وإشارة إلى ضعفهن وقلة تحملهن، ولذا فإنهن يحتجن إلى الرفق والصبر, عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ « مَنِ ابْتُلِىَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ »(2).
وكان يحب فاطمة رضي الله عنها حبًا جمًا, عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى ، كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْىُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَرْحَبًا بِابْنَتِى » . ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا ، فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ ،(3)..
__________
(1) - صحيح البخارى (6161 )
(2) - صحيح البخارى(1418 )
(3) - صحيح البخارى (3623 )248/4
(1/434)
قال الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
خلقه في الوفاء :
مما تحلى به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، من الأخلاق الفاضلة ، والشمائل الطيبة، الوفاء بالعهد ، وأداء الحقوق لأصحابها ، وعدم الغدر ، امتثالاً لأمر الله في كتابه العزيز حيث قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (152) سورة الأنعام. وتخلق الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم ظاهر بيّن ، سواء في تعامله مع ربه جل وعلا ، أو في تعامله مع أزواجه ، أو أصحابه ، أو حتى مع أعدائه.
ففي تعامله مع ربه كان صلى الله عليه وسلم وفياً أميناً ، فقام بالطاعة والعبادة خير قيام ، وقام بتبليغ رسالة ربه بكل أمانة ووفاء ، فبيّن للناس دين الله القويم ، وهداهم إلى صراطه المستقيم ، وفق ما جاءه من الله ، وأمره به ، قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) سورة النحل.
(1/435)
وكان وفياً مع زوجاته ، فحفظ لخديجة رضي الله عنها مواقفها العظيمة ، وبذلها السخي ، وعقلها الراجح، وتضحياتها المتعددة ، حتى إنه لم يتزوج عليها في حياتها ، وكان يذكرها بالخير بعد وفاتها ، ويصل أقرباءها، ويحسن إلى صديقاتها، وهذا كله وفاءاً لها رضي الله عنها، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ - قَالَتْ - فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا. قَالَ « مَا أَبْدَلَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِى إِذْ كَفَرَ بِى النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِى إِذْ كَذَّبَنِى النَّاسُ وَوَاسَتْنِى بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِى النَّاسُ وَرَزَقَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِى أَوْلاَدَ النِّسَاءِ »(1).
__________
(1) - مسند أحمد(25606){6/118} حسن
(1/436)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا تَغْمُرْ يَدَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ، أَوْ حَفِظَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيمَانِ، وَلَمَّا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِكَبِيرَةِ السِّنِّ حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ:مَا ذَنْبِي أَنْ رَزَقَهَا اللَّهُ مِنِّي الْوَلَدَ، وَلَمْ يَرْزُقْكِ؟ قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا إِلا بِخَيْرٍ.(1)
وكان وفياً لأقاربه
فلم ينس مواقف عمه أبي طالب من تربيته وهو في الثامنة من عمره ، ورعايته له ، فكان حريصاً على هدايته قبل موته ، ويستغفر له بعد موته حتى نهي عن ذلك، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِى طَالِبٍ « يَا عَمِّ ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ » .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 320)(18557 ) حسن
(1/437)
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ » . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ :{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113) سورة التوبة.(1)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ « لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِى ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ ، يَغْلِى مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ »(2).
وفيًّا مع أصحابه
__________
(1) - صحيح البخارى(1360 )
(2) - صحيح البخارى (6564 )
الضحضاح : ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار
(1/438)
وكان من وفائه لأصحابه موقفه مع حاطب بن أبي بلتعة مع ما بدر منه حين أفشى سر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في أشد المواقف خطورة ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - يَقُولُ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ « انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ ، فَخُذُوهُ مِنْهَا » . فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ . فَقَالَتْ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ . فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى ، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ صَدَقَكُمْ » .
(1/439)
قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ « إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ
»(1).
وفيًّا مع أعدائه
أما وفاؤه لأعدائه فظاهر كما في صلح الحديبة ، حيث كان ملتزماً بالشروط وفياً مع قريش ، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- لِعَلِىٍّ « اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ». قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا بِاسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِى مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَقَالَ « اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ». قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لاَتَّبَعْنَاكَ وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ». فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا قَالَ « نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ». رواه مسلم(2).
__________
(1) - صحيح البخارى(3007 ) - العقاص : جمع عقيصة أو عقصة وهى الضفائر
(2) - صحيح مسلم (4732 )
(1/440)
وتم إرجاع أبي بصير مع مجيئه مسلماً وفاءاً بالعهد. عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ - وفيه - فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ، فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ . قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » .
(1/441)
قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ .
(1/442)
فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ . فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » .
(1/443)
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ، قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ . قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ، فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (2731 و2732 )
(1/444)
وعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِى أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى - حُسَيْلٌ - قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ « انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ». رواه مسلم.(1)
وعدّ صلى الله عليه وسلم نقض العهد، وإخلاف الوعد من علامات المنافقين، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » . رواه البخاري(2).
حياؤه صلى الله عليه وسلم :
الحياء خلق إسلامي رفيع يبعث على تجنب القبائح ، ويرغب الإنسان في فعل الحسن، ويمنع من التقصير في حق أصحاب الحقوق. ويكفي لبيان منزلة هذا الخلق في الإسلام ما روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ ». رواه ابن ماجه(3).
والحياء من شعب الإيمان فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ » البخاري .(4)
__________
(1) - صحيح مسلم(4740 )
(2) - صحيح البخارى (33 )
(3) - سنن ابن ماجه(4321 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى (9 )
(1/445)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حياءً وأعظمهم اتصافاً بهذا الخلق الرفيع، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ . أخرجه البخاري.(1)
وكان صلى الله عليه وسلم يستحي من الخالق سبحانه وتعالى ومن الخلق.
__________
(1) - صحيح البخارى (6102 )
(1/446)
أما حياؤه من الخالق جلّ وعلا فهو أكمل الحياء، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِى وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِى ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِى صَدْرِى ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى فَعَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ . قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ . قَالَ هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ نَعَمْ مَعِى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى ، فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا آدَمُ . وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِى عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، حَتَّى عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا افْتَحْ . فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ » .
(1/447)
قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِى السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ . قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدْرِيسَ قَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ . ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا مُوسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا عِيسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - » . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِىَّ كَانَا يَقُولاَنِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « ثُمَّ عُرِجَ بِى حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ » . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِى خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً . قَالَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ . فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا .
(1/448)
فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعْتُهُ . فَقَالَ هِىَ خَمْسٌ وَهْىَ خَمْسُونَ ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ . فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى . ثُمَّ انْطَلَقَ بِى حَتَّى انْتَهَى بِى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِى مَا هِىَ ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ » رواه البخاري(1).
وأما حياؤه من الناس فأدلته كثيرة منها ما روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ « خُذِى فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِى بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ قَالَ « تَطَهَّرِى بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ قَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِى » . فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَىَّ فَقُلْتُ تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ . متفق عليه.(2)
فانظر كيف حمله الحياء على الإعراض عن التفصيل في هذا الأمر، حتى تولته أم المؤمنين، لتعلقه بأمور النساء الخاصة.
__________
(1) - صحيح البخارى (349 )
الأسودة : جمع سواد وهو الشخص - الصريف : صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله تعالى ووحيه -ظهرت : علوت
(2) - صحيح البخارى (314 ) ومسلم (774 )-الفرصة : قطعة من قطن أو صوف
(1/449)
ومن الأدلة على حيائه كذلك ما روي عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ بُنِىَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا فَيَجِىءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ قَالَ ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ ، وَبَقِىَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِى الْبَيْتِ ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ » . فَقَالَتْ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ ، يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ ، وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا ثَلاَثَةُ رَهْطٍ فِى الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ ، وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - شَدِيدَ الْحَيَاءِ ، فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَمَا أَدْرِى آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا ، فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ ، وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (4793 )- الأسكفة : عتبة الباب
(1/450)
وهذا الحديث من أعظم الأدلة على شدة حيائه صلى الله عليه وسلم. فقد حمله الحياء على عدم مواجهة أصحابه بشأن خروجهم، حتى تولى الله تعالى بيان ذلك، إعظاماً لحق نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
حسن خلقه وعشرته :
حسن الخلق،ولين الجانب،وطيب العشرة، صفات أجمع العقلاء على حسنها ، وفضل التخلق بها. وقد توافرت الأدلة الشرعية على مدح الأخلاق الحسنة، والحض عليها ، من ذلك ما روي عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَقَالَ « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا » . رواه البخاري.(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (3759 )
(1/451)
وقد كان رسول الله صلى عليه وسلم أحسن الناس سمتاً، وأكملهم خُلُقاً، وأطيبهم عشرة، وقد وصفه سبحانه بذلك فقال :{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) ، فما من خصلة من خصال الخير إلا ولرسول صلى الله عليه وسلم أوفر الحظ والنصيب من التخلق بها ، وقد وصف الصحابة حسن خلقه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة فعن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ كَانَ عَلِىٌّ رضى الله عنه إِذَا وَصَفَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْمُمَغَّطِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلاَ بِالسَّبِطِ كَانَ جَعْدًا رَجِلاً وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلاَ بِالْمُكَلْثَمِ وَكَانَ فِى الْوَجْهِ تَدْوِيرٌ أَبْيَضُ مُشْرَبٌ أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ أَهْدَبُ الأَشْفَارِ جَلِيلُ الْمُشَاشِ وَالْكَتِدِ أَجْرَدُ ذُو مَسْرُبَةٍ شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ كَأَنَّمَا يَمْشِى فِى صَبَبٍ وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَجْوَدُ النَّاسِ كَفًّا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ يَقُولُ نَاعِتُهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. رواه الترمذي(1).
__________
(1) - سنن الترمذى (3999 ) وهو حسن لغيره
جعد : منقبض الشعر غير منبسطه = الحجونة : الاعوجاج =الحدور : الإسراع من علو إلى سفل =الأدعج : شديد سواد العينين =الأدعج : شديد سواد العينين =الربعة : الرجل بين الطويل والقصير =الرجل : شعره لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما = المتردد : المجتمع القصير=المتردد : المجتمع القصير =السبط : مسترسل الشعر =المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن =المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن =الشثن : الضخم =الشثن : الضخم =المشرب : الذى فى بياضه حمرة =الأشفار : أطراف الأجفان التى ينبت عليها الشعر واحدها شفر =الأشفار : أطراف الأجفان التى ينبت عليها الشعر واحدها شفر
الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن =الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن =المطهم : السمين الفاحش والمدور الوجه = المطهم : السمين الفاحش والمدور الوجه =العريكة : الطبيعة والنفس والمراد حسن الخلق = القطط : شديد جعودة شعر الرأس =القطط : شديد جعودة شعر الرأس =تقلع : مشى كأنه ينحدر والمراد قوة مشيه وأنه يرفع رجليه ولا يمشى اختيالا =الكتد : مجتمع الكتفين من الإنسان =الكتد : مجتمع الكتفين من الإنسان =المكلثم : كثير لحم الخدين والوجه =المكلثم : كثير لحم الخدين والوجه =المشاش : رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين = المشاش : رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين =الممغط : الطويل المتناهى الطول =الممغط : الطويل المتناهى الطول = تمغط : مد الشىء يستطيله = الأهدب : طويل أو كثير الهدب وهو شعر أشفار العينين =الأهدب : طويل أو كثير الهدب وهو شعر أشفار العينين
(1/452)
ووصفه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران.
ففي معاشرته لأصحابه من حسن الخلق ما لا يخفي، فقد كان يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويقبل الهدية ممن جادت بها نفسه و يكافئ عليها. وكان عليه الصلاة والسلام يؤلفهم ولا ينفرهم، ويتفقدهم ويعودهم، ويعطي كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية و الاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان ولا يواجه أحداً منهم بما يكره. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِى أُفًّا. قَطُّ وَلاَ قَالَ لِى لِشَىْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا(1).
وذكر عبد الله بن جرير البجلي رضي الله عنه معاملة النبي صلى الله عليه وسلم له فعَنْ جَرِيرٍ قَالَ مَا حَجَبَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِى إِلاَّ تَبَسَّمَ فِى وَجْهِى. وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّى لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِى صَدْرِى وَقَالَ « اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ».(2)، ومعنى قوله ما حجبني: أي ما منعني الدخول عليه متى ما أردت ذلك. وهذا الذي ذكرناه من حسن خلقه وعشرته قليل من كثير وغيض من فيض
هديهُ صلى الله عليه وسلم في جلوسه واتكائه :
__________
(1) - صحيح مسلم (6151 )
(2) - صحيح مسلم (6519 )
(1/453)
كان صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ، وعلى الحصير والبساط و عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَّانَ الْعَنْبَرِىِّ قَالَ حَدَّثَتْنِى جَدَّتَاىَ صَفِيَّةُ وَدُحَيْبَةُ ابْنَتَا عُلَيْبَةَ - قَالَ مُوسَى بِنْتُ حَرْمَلَةَ - وَكَانَتَا رَبِيبَتَىْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ وَكَانَتْ جَدَّةَ أَبِيهِمَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُمَا أَنَّهَا رَأَتِ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمُخْتَشِعَ - وَقَالَ مُوسَى الْمُتَخَشِّعَ فِى الْجِلْسَةِ - أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ.(1)
و عََنْ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ، قالَ : لَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ كَانَ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : إِنَّى لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ يَدَهُ فِي يَدِي قَالَ : فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ وَأَلْقَتْ لَنَا الْجَارِيَةُ وِسَادَةً ، أَوْ قَالَ : بِسَاطًا فَجَلَسْنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَتُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُ اللهِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لاَ قَالَ : فَتُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لاَ قَالَ : فَإِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ قَالَ : قُلْتُ : فَإِنِّي مُسْلِمٌ قَالَ : فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَبْشَرَ لِذَلِكَ أَوِ اسْتَنَارَ لِذَلِكَ.(2)
__________
(1) - سنن أبى داود (4849 )حسن - الفَرق : الخوف والفزع
(2) - مسند الطيالسي (1135) وفيه جهالة
(1/454)
وعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيًا فِى الْمَسْجِدِ ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى .(1)
هدية صلى الله عليه وسلم في مشيه
عَنْ عَلِىٍّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ ضَخْمَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ مُشْرَبٌ وَجْهُهُ حُمْرَةً طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤاً كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ -صلى الله عليه وسلم-.(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِى فِى وَجْهِهِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَسْرَعَ فِى مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنَّمَا الأَرْضُ تُطْوَى لَهُ إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ.(3)
ضحك النبي صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) - صحيح البخارى (475 )
(2) - مسند أحمد(757) حسن لغيره
المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن = الشثن : الضخم = الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن =الكراديس : جمع الكردوس وهو كل عظم تام ضخم والكراديس رءوس العظام
(3) - مسند أحمد (9178) صحيح = المكترث : المبالي المهتم
(1/455)
محمد عليه الصلاة والسلام يضحك، نعيش معه ضاحكاً، كما عشنا معه وهو باكٍ متأثر خاشع لله - عز وجل-. من الذي أضحكه ؟ إنه الله الواحد الأحد، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43) سورة النجم.وماله لا يضحك عليه الصلاة والسلام ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح؟. لقد عشنا معه عليه الصلاة والسلام في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه وينجرح فؤاده، ونعيش معه وهو يهشّ للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مجريات أمورهم وأحاديثهم.
(1/456)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ - وَهُوَ الَّذِى بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ يُفَقِّهُ النَّاسَ - أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ رَكِبَ يَوْماً عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ يَعْفُورٌ رَسَنُهُ مِنْ لِيفٍ ثُمَّ قَالَ « ارْكَبْ يَا مُعَاذُ ». فَقُلْتُ سِرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « ارْكَبْ ». فَرَدَفْتُهُ فَصُرِعَ الْحِمَارُ بِنَا فَقَامَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَضْحَكُ وَقُمْتُ أَذْكُرُ مِنْ نَفْسِى أَسَفاً ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَرَكِبَ وَسَارَ بِنَا الْحِمَارُ فَأَخْلَفَ يَدَهُ فَضَرَبَ ظَهْرِى بِسَوْطٍ مَعَهُ - أَوْ عَصاً - ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ». فَقُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ». قَالَ ثُم سَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَخْلَفَ يَدَهُ فَضَرَبَ ظَهْرِى فَقَالَ « يَا مُعَاذُ يَا ابْنَ أُمِّ مُعَاذٍ هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ » ..(1)
__________
(1) - مسند أحمد (22724) حسن - الرسن : الحبل الذي تقاد به الدابة
(1/457)
وعَنْ عَلِىِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - وَأُتِىَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِى الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ (سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَكَ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ. ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ « إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِى ».(1)
__________
(1) - سنن أبى داود(2604 ) صحيح
(1/458)
عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِىُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ « هَلْ تُمَارُونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « فَهَلْ تُمَارُونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ . قَالَ « فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ . فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا . فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ . وَفِى جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ » . قَالُوا نَعَمْ .
(1/459)
قَالَ « فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَهْوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ ، قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا ، وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا . فَيَقُولُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ . فَيُعْطِى اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ قَدِّمْنِى عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ . فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنْتَ سَأَلْتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ .
(1/460)
فَيَقُولُ فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ . فَيُعْطِى رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا ، فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ . فَيَقُولُ اللَّهُ وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِى أَشْقَى خَلْقِكَ . فَيَضْحَكُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُ ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِى دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ تَمَنَّ . فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَمَنَّ كَذَا وَكَذَا . أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِىُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ لأَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنهما - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ قَوْلَهُ « لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ « ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ » .(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (806 )الذكاء : لهب النار واشتعالها = قشبني : سمني وأهلكني = امتحشوا : احترقت جلودهم حتى ظهرت العظام
(1/461)
وعن مُجَاهِدَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى وَعَرَفَ ، مَا فِى نَفْسِى وَمَا فِى وَجْهِى ثُمَّ قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ » . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ ، فَأَذِنَ لِى ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ » . قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ . قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى » .
(1/462)
قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا ، فَسَاءَنِى ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا ، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ « يَا أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
(1/463)
قَالَ « خُذْ فَأَعْطِهِمْ » . قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ » . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « اقْعُدْ فَاشْرَبْ » . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ . فَقَالَ « اشْرَبْ » . فَشَرِبْتُ ، فَمَا زَالَ يَقُولُ « اشْرَبْ » . حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ « فَأَرِنِى » . فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى ، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ ..(1)
مزاحه ومداعبته صلى الله عليه وسلم :
المزاح والمداعبة شيء محبب إلى النفوس ، فهو يبعث على النشاط والإقبال على الأعمال بجد وطاقة ، ولا حرج فيه ما دام منضبطا بضوابط الشرع ، ولا يترتب عليه ضرر ، بل هو مطلوب ومرغوب ، وذلك لأن النفس يعتريها السآمة والملل ، فلا بد من فترات راحة ، وليس أدل على أهمية المزاح والحاجة إليه ، مما كان عليه سيد الخلق وخاتم الرسل ، فقد كان صلى الله عليه وسلم ، يمازح أصحابه ، ويداعب أهله ، وكان يعتني بصغار السن ويجعل لهم جزءاً من وقته ، ويعاملهم بما يطيقون ويفهمون. فعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا ذَا الأُذُنَيْنِ ». رواه أبو داود(2).
__________
(1) - صحيح البخارى8/121 (6452 )
(2) - سنن أبى داود (5004 ) صحيح
(1/464)
و عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِى. قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ ». قَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ »..(1)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ » . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا " رواه البخاري .(2)
وعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ - قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ فَقَالَ أَصْبِرْنِى. فَقَالَ « اصْطَبِرْ ». قَالَ إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَىَّ قَمِيصٌ.فَرَفَعَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ قَمِيصِهِ فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ قَالَ إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.(3)
__________
(1) - سنن أبى داود (5000 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى (6203 )- النغير : تصغير نغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار
(3) - سنن أبى داود (5226 ) صحيح
(1/465)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِى الْبَيْتِ فَقَالَ « أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ ».فَقَالَتْ كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ شَىْءٌ فَغَاضَبَنِى فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لإِنْسَانٍ « انْظُرْ أَيْنَ هُوَ ». فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِى الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ « قُمْ أَبَا التُّرَابِ قُمْ أَبَا التُّرَابِ ».(1)
أما مزاحه مع أهله ، ومداعبته لزوجاته ، وبناته ، فكان لهم نصيب وافر من خلقه العظيم في هذا الجانب المهم ، فكان يسابق عائشة رضي الله عنها ، ويقر لعبها مع صواحبها فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لِى صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِى ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِى .. رواه البخاري .(2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَفَرٍ قَالَتْ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَىَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِى فَقَالَ « هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ ».(3)
__________
(1) - صحيح مسلم (6382 ) = يقيل : ينام وقت القيلولة
(2) - صحيح البخارى (6130 )
(3) - سنن أبى داود(2580 ) صحيح
(1/466)
أما بالنسبة للصغار ، واعتنائه صلى الله عليه وسلم بهم، ومداعبته لهم ، فيظهر واضحاً جلياً فيما ورد مع الحسن و الحسين رضي الله عنهما ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ صَلاَتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا. قَالَ أَبِى فَرَفَعْتُ رَأْسِى وَإِذَا الصَّبِىُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِى فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ صَلاَتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ. قَالَ « كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِى ارْتَحَلَنِى فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَاجَتَهُ ». رواه النسائي(1)
زهده صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) - سنن النسائى (1149 ) صحيح
(1/467)
الزهد في حقيقته هو الإعراض عن الشيء ، ولا يطلق هذا الوصف إلا على من تيسر له أمر من الأمور فأعرض عنه وتركه زهدا فيه , وأما من لم يتيسر له ذلك فلا يقال إنه زهد فيه ، ولذلك قال كثير من السلف : إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس رحمة على الله الجميع ، وقال مالك بن دينار عن نفسه : الناس يقولون مالك زاهد ، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز ، أي إنه هو الزاهد حقيقة فإن الدنيا كانت بين يديه فلم يلتفت إليها. وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا , وأقلهم رغبة فيها ، مكتفياً منها بالبلاغ ، راضياً فيها بحياة الشظف ، ممتثلاً قول ربه عز وجل : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طه ، مع أن الدنيا كانت بين يديه ، ومع أنه أكرم الخلق على الله ، ولو شاء لأجرى الله له الجبال ذهباً وفضة .
وعن خَيْثَمَة؛ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يُعطى أحد من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله؟ فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله عز وجل في ذلك: { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } (الفرقان 10)(1)،
__________
(1) - رواه الطبري في تفسيره (18/140) وتفسير ابن أبي حاتم (13951) وهو صحيح مرسل
(1/468)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَى نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَلَكًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مَعَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ الْمَلَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا فَالْتَفَتَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَوَاضَعْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا ». قَالَ فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا حَتَّى لَقِىَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.(1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ » .
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 49)(13708)حسن
(1/469)
قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « مَا يَسُرُّنِى أَنَّ عِنْدِى مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا ، تَمْضِى عَلَىَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ ، إِلاَّ شَيْئًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا » . عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ . ثُمَّ مَشَى فَقَالَ « إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ » . ثُمَّ قَالَ لِى « مَكَانَكَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ » . ثُمَّ انْطَلَقَ فِى سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدِ ارْتَفَعَ ، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِى « لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ » فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِى ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ ، فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ « وَهَلْ سَمِعْتَهُ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِى فَقَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ « وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » رواه البخاري(1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا».(2)
__________
(1) - صحيح البخارى 8/118 (6444 )
(2) - صحيح مسلم (2474 )
(1/470)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ ، وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ ، فَتَبَرَّزَ ، ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) قَالَ وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ . ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِى مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَهُمْ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا ، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ ، فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِى فَرَاجَعَتْنِى فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى قَالَتْ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُرَاجِعْنَهُ ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ .
(1/471)
فَأَفْزَعَنِى ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ . ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا أَىْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ قَالَتْ نَعَمْ . فَقُلْتُ قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَهْلِكِى لاَ تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ عُمَرُ وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا ، فَنَزَلَ صَاحِبِى الأَنْصَارِىُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِى ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ . قُلْتُ مَا هُوَ ، أَجَاءَ غَسَّانُ قَالَ لاَ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ ، طَلَّقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ . فَقُلْتُ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ ، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ ، فَجَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَشْرُبَةً لَهُ ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا ، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِىَ تَبْكِى فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لاَ أَدْرِى هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِى الْمَشْرُبَةِ .
(1/472)
فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِى بَعْضُهُمْ ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِى فِيهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ الْغُلاَمُ فَكَلَّمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ كَلَّمْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرْتُكَ لَهُ ، فَصَمَتَ . فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ لِلْغُلاَمِ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ . فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَىَّ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ . فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا - قَالَ - إِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِى فَقَالَ قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ . فَرَفَعَ إِلَىَّ بَصَرَهُ فَقَالَ « لاَ » . فَقُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ .
(1/473)
ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِى ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِى وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عَائِشَةَ فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - تَبَسُّمَةً أُخْرَى ، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى فِى بَيْتِهِ ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِى بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ ، فَإِنَّ فَارِسًا وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ . فَجَلَسَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ مُتَّكِئًا . فَقَالَ « أَوَفِى هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِى . فَاعْتَزَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ قَالَ « مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا » .
(1/474)
مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ ، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا ، وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا . فَقَالَ « الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ » . فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ فَبَدَأَ بِى أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَاخْتَرْتُهُ ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ .(1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشاً أَوْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ « مَا لِى وَلِلدُّنْيَا مَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ».(2)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَدَمٍ ، وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ .(3)
__________
(1) - صحيح البخارى 7/38 (5191 )
الأهبة : جمع إهاب وهو الجلد قبل الدباغ =المشربة : الغرفة العالية
(2) - مسند أحمد (2796)صحيح
(3) - صحيح البخارى (6456)
(1/475)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِى ، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِى شَهْرَيْنِ ، وَمَا أُوقِدَتْ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ . فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتِ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَلْبَانِهِمْ ، فَيَسْقِينَا .(1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا أَشْبَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَهْلَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.(2)
و عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ ، وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ ، وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ . قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ .(3)
و عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخِى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا ، إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً .(4)
__________
(1) - صحيح البخارى (2567 )
المنائح : جمع منيحة وهى الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها
(2) - صحيح مسلم (7648 )
(3) - صحيح البخارى (5386 ) =السكرجة : إناء صغير يؤكل فيه القليل من الطعام
(4) - صحيح البخارى 4/3(2739 )
(1/476)
و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا فِى بَيْتِى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ ، إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى ، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ ، فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ .(1)
عدل النبي صلى الله عليه وسلم :
العدل خلق كريم وصفة عظيمة جليلة ، محببة إلى النفوس ، تبعث الأمل لدى المظلومين ، ويحسب لها الظالمون ألف حساب ، فالعدل يعيد الأمور إلى نصابها ، وبه تؤدَّى الحقوق لأصحابها ، به يسعد الناس ، وتستقيم الحياة ، ما وجد العدل في قوم إلا سعدوا ، وما فقد عند آخرين إلا شقوا .
والعدل خلق العظماء ، وصفة الأتقياء ، ودأب الصالحين ، وطريق الفلاح للمؤمنين في الدنيا ويوم الدين .
تحلى به الأنبياء والصالحون والقادة والمربون ، وكان أعظمهم في ذلك ،وأكثرهم قدراً ونصيباً سيد العالمين ، وخاتم الرسل أجمعين ، محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم. فالعدل خلق من أخلاقه ، ضمن شمائله العظيمة ، وصفاته الجليلة ، عدل في تعامله مع ربه جل وعلا ، وعدل في تعامله مع نفسه ، وعدل في تعامله مع الآخرين ، من قريب أو بعيد ، ومن صاحب أو صديق ، ومن موافق أو مخالف ، حتى العدو المكابر، له نصيب من عدله صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا يعدل من خوطب بقول واضح مبين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة ، فكان يمتثل أمر الله عز وجل في كل شأن من شؤونه ، مع أصحابه وأعدائه ، آخذاً بالعدل مع الجميع. يعترض عليه القوم ويخطئ في حقه أناس ، فلا يتخلى عن العدل ، بل يعفو ويصفح ،
__________
(1) - صحيح البخارى (3097 )
(1/477)
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَعَثَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِى تُرْبَتِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِىُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِىُّ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ الْعَامِرِىُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِى كِلاَبٍ وَزَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِىُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِى نَبْهَانَ - قَالَ - فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ فَقَالُوا أَتُعْطِى صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَتَدَعُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لأَتَأَلَّفَهُمْ » فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ. - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِى » قَالَ ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِى قَتْلِهِ - يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ ».(1)
__________
(1) - صحيح مسلم -(2499 )
الصناديد : جمع صنديد وهو كل عظيم شريف رئيس متغلب = الضئضئ : النسل =الكث : الكثيف =الناتئ : المرتفع
(1/478)
ويظهر هذا الخلق العظيم منه صلى الله عليه وسلم في أبهى صورة ، عندما يطلب ممن ظن أنه أخطأ في حقه ، أن يستوفي حقه ، بالقود منه ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ شَيْئاً أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ فَجُرِحَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَعَالَ فَاسْتَقِدْ ». قَالَ قَدْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.(1)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنِى سَوَادُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ بِخَلُوقٍ فَلَمَّا رَآنِى قَالَ لِى :« يَا سَوَادُ بْنَ عَمْرٍو خَلُوقُ وَرْسٍ أَوَلَمْ أَنْهَ عَنِ الْخَلُوقِ؟ ». وَنَخَسَنِى بِقَضِيبٍ فِى يَدِهِ فِى بَطْنِى فَأَوْجَعَنِى فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقِصَاصَ قَالَ الْقِصَاصَ فَكَشَفَ لِى عَنْ بَطْنِهِ فَجَعَلْتُ أُقَبِّلُهُ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدَعُهُ شَفَاعَةً لِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(2)
__________
(1) - مسند أحمد(11531)حسن لغيره
العرجون : العود الأصفر الذى فيه الشماريخ إذا يبس واعوج =استقد : اقتص =أكب : التزم
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 48)(16442)حسن
(1/479)
والعدل ملازم للرسول صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله ، فهو يكره التميز على أصحابه ، بل يحب العدل والمساواة ، وتحمل المشاق والمتاعب مثلهم ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلاَثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ زَمِيلَىْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَقَالاَ نَحْنُ نَمْشِى عَنْكَ. فَقَالَ « مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّى وَلاَ أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا ».(1)
ولم ينشغل صلى الله عليه وسلم بالدولة وقيادتها ، والغزوات وكثرتها ، عن ممارسة العدل في نطاق الأسرة الكريمة ، وبين زوجاته أمهات المؤمنين ، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِى فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ».(2)و عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري(3).
__________
(1) - مسند أحمد (3978) صحيح
(2) - سنن الترمذى (1170 ) صحيح لغيره
وَمَعْنَى قَوْلِهِ « لاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ». إِنَّمَا يَعْنِى بِهِ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ كَذَا فَسَّرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
(3) - صحيح البخارى (2593 )
(1/480)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فِى قَصْعَةٍ فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « طَعَامٌ بِطَعَامٍ وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ ».(1)
وفي قضائه بين المتخاصمين كان عادلاً صلى الله عليه وسلم ، بعيداً عن الحيف والظلم ، فعَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ عَلَيْهِمْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِى حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ. رواه أبو داود(2).
وكان صلى الله عليه وسلم لا يرضى تعطيل حدود الله ، التي شرعها سبحانه لإقامة العدل بين الناس ، ولو كان الجاني من أقربائه وأحبابه ، ففي حادثة المرأة المخزومية التي سرقت لم يقبل شفاعة أسامة ،
__________
(1) - سنن الترمذى (1410 )و قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وهو كما قال .
(2) - سنن أبى داود (3571 )صحيح
(1/481)
فعَنَ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِى سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ». ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ».(1)
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالعدل في الأمور ، وعدم تغليب جانب على حساب آخر ، وإنما الموازنة وإعطاء كل ذي حق حقه ، فعن سَعِيدَ بْنِ مِينَاءَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بَلَغَنِى أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَلاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَظًّا صُمْ وَأَفْطِرْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بِى قُوَّةً. قَالَ « فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا ». فَكَانَ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى أَخَذْتُ بِالرُّخْصَةِ. رواه مسلم.(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (4505 )
(2) - صحيح مسلم (2800 )
(1/482)
وبهذا الخلق العظيم ، والأدب الرفيع ، استطاع صلى الله عليه وسلم ، أن يلفت الأنظار نحوه ، ويحرك المشاعر والأحاسيس إلى مبادئه العظيمة ، ويرسم منهاجاً فريداً لخير أمة أخرجت للناس ، تحمل العدل إلى الناس أجمعين ، وتبدد به ظلمات القهر والظلم . ...
- - - - - - - - - - - - - - -
الدروس والعبر
1- إن الأمانة والصدق أهم مواصفات التاجر الناجح، وصفة الأمانة والصدق في التجارة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، هي التي رغبت السيدة خديجة في أن تعطيه مالها ليتاجر به ويسافر به إلى الشام، فبارك الله لها في تجارتها، وفتح الله لها من أبواب الخير ما يليق بكرم الكريم.
2- إن التجارة مورد من موارد الرزق التي سخرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وقد تدرب النبي صلى الله عليه وسلم على فنونها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن التاجر الصدوق الأمين في هذا الدين يُحشر مع الصديقين والشهداء والنبيين، وهذه المهنة مهمة للمسلمين ولا يقع صاحبها تحت إرادة الآخرين واستعبادهم وقهرهم وإذلالهم، فهو ليس في حاجة إليهم، بل هم في حاجة إليه وبحاجة إلى خبرته وأمانته وعفته.
3- كان زواج الحبيب المصطفى من السيدة خديجة بتقدير الله تعالى، ولقد اختار الله سبحانه وتعالى لنبيه زوجة تناسبه وتؤازره، وتخفف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرسالة وتعيش همومه(1).
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/122، 123). (2) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص75.
(1/483)
قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: وخديجة مثلٌ طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبًا شديدة الحساسية، ويلقون غَبنا بالغًا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادًا كبيرًا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد صلى الله عليه وسلم أثر كريم(1).
4- نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذاق مرارة فقْد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين، وقد شاء الله -وله الحكمة البالغة- ألا يعيش له صلى الله عليه وسلم أحد من الذكور حتى لا يكون مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور تكميلا لفطرته البشرية، وقضاء لحاجات النفس الإنسانية، ولئلا ينتقص النبي في كمال رجولته شانئ، أو يتقول عليه متقول، ثم أخذهم في الصغر، وأيضا ليكون ذلك عزاء وسلوى للذين لا يرزقون البنين، أو يرزقون ثم يموتون، كما أنه لون من ألوان الابتلاء، وأشد الناس بلاء الأنبياء(2)، وكأن الله أراد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الرقة الحزينة جزءًًا من كيانه؛ فإن الرجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت، إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة، وعاشت في أفراح لا يخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الآلام فهو أسرع الناس إلى مواساة المحزونين ومداواة المجروحين(3).
__________
(1) - انظر: فقه السيرة للغزالي، ص75.و السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 84)
(2) - انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/223، 224).
(3) - انظر: فقه السيرة، للغزالي ص78.
(1/484)
5- يتضح للمسلم من خلال قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة، عدم اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتما بذلك كبقية الشباب لطمع بمن هي أقل منه سنًا، أو بمن لا تفوقه في العمر، وإنما رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم لشرفها ومكانتها في قومها، فقد كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة.
6- وفي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة ما يلجم ألسنة وأقلام الحاقدين على الإسلام وقوة سلطانه، من المستشرقين وعبيدهم العلمانيين، الذين ظنوا أنهم وجدوا في موضوع زواج النبي صلى الله عليه وسلم مقتلا يصاب منه الإسلام، وصوروا النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل الشهواني الغارق في لذاته وشهواته، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئة جاهلية، عفيف النفس، دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج حوله، كما أنه تزوج من امرأة لها ما يقارب ضعف عمره، وعاش معها دون أن تمتد عينه إلى شيء مما حوله، وإن من حوله الكثير وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشباب، ثم الكهولة، ويدخل في سن الشيوخ، وقد ظل هذا الزواج قائما حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاما، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر في هذه الفترة بأن يضم إلى خديجة مثلها من النساء: زوجة أو أمة، ولو أراد لكان الكثير من النساء والإماء طوع بنانه.
(1/485)
أما زواجه بعد ذلك من السيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين فإن لكل منهن قصة، ولكل زواج حكمة وسبب، يزيدان في إيمان المسلم بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورفعة شأنه وكمال أخلاقه(1).
7- إنَّ طريقة فض التنازع كانت موفقة وعادلة، ورضي بها الجميع وحقنت دماء كثيرة، وأوقفت حروبًا طاحنة، وكان من عدل حكمه أن رضيت به جميع القبائل، ولم تنفرد بشرف وضع الحجر قبيلة دون الأخرى، وهذا من توفيق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وتسديده قبل البعثة، إن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الصفا كان قدرًا من الله، لحل هذه الأزمة المستعصية، التي حُلت نفسيًّا قبل أن تحل على الواقع، فقد أذعن الجميع لما يرتضيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو الأمين الذي لا يظلم وهو الأمين الذي لا يحابي ولا يفسد، وهو الأمين على البيت والأرواح والدماء.(2)
8- إن حادثة تجديد بناء الكعبة قد كشفت عن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الأدبية في الوسط القرشي(3)، وحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة شرفان، شرف فصل الخصومة ووقف القتال المتوقع بين قبائل قريش، وشرف تنافس عليه القوم وادخره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ألا وهو وضع الحجر الأسود بيديه الشريفتين، وأخذه من البساط بعد رفعه ووضعه في مكانه من البيت(4).
__________
(1) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص53، 54.
(2) - انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص125.
(3) - انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/116).
(4) - انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص125، 126.
(1/486)
9- إن المسلم يجد في حادثة تجديد بناء الكعبة كمال الحفظ الإلهي، وكمال التوفيق الرباني في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يلاحظ كيف أن الله أكرم رسوله بهذه القدرة الهائلة على حل المشكلات بأقرب طريق وأسهله، وذلك ما تراه في حياته كلها صلى الله عليه وسلم وذلك معلم من معالم رسالته، فرسالته إيصال للحقائق بأقرب طريق، وحل للمشكلات بأسهل أسلوب وأكمله(1).
10- تهيئة الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
شاءت حكمة الله تعالى أن يعد الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأمور منها:
* بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم:
دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يبعث في العرب رسولاً منهم، فأرسل محمدًا إجابة لدعوته، قال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ } [البقرة: 129] وذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أنزل البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء السابقين فقال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } [الأعراف: 157].
وبشر به عيسى عليه السلام، قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6].
__________
(1) - انظر: الأساس في السنة وفقهها- السيرة النبوية (1/175).
(1/487)
وأعلم الله تعالى جميع الأنبياء ببعثته، وأمرهم بتبليغ أتباعهم بوجوب الإيمان به، واتباعه إن هم أدركوه(1)كما قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81].
* بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته:
__________
(1) - انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص101، 102.
(1/488)
عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ ، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَا صَدِيقَيْنِ لِزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَتَيَاهُ لِيُكَلِّمَ لَهُمَا سَلْمَانَ أَنْ يُحَدِّثَهُمَا حَدِيثَهُ كَيْفَ كَانَ إِسْلامُهُ ، فَأَقْبَلا مَعَهُ حَتَّى لَقُوا سَلْمَانَ ، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ أَمِيرًا عَلَيْهَا ، وَإِذَا هُوَ عَلَى كُرْسِيٍّ قَاعِدٍ ، وَإِذَا خُوصٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُسَفِّهُ ، قَالاَ : فَسَلَّمْنَا وَقَعَدْنَا ، فقال له زيد يا أبا عبد الله ، إن هذين لِي صَدِيقَانِ وَلَهُمَا أَخٌ ، وَقَدْ أَحَبَّا أَنْ يَسْمَعَا حَدِيثَكَ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ إِسْلامِكَ ؟ قَالَ : فَقَالَ سَلْمَانُ : كُنْتُ يَتِيمًا مِنْ رَامَ هُرْمُزَ ، وَكَانَ ابْنُ دِهْقَانَ رَامَ هُرْمُزَ يَخْتَلِفُ إِلَى مُعَلَّمٍ يُعَلِّمُهُ ، فَلَزِمْتُهُ لأَكُونَ فِي كَنَفِهِ ، وَكَانَ لِي أَخٌ أَكْبَرَ مِنِّي وَكَانَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ ، وَكُنْتُ غُلامًا قَصِيرًا ، وَكَانَ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ تَفَرَّقَ مَنْ يُحَفِّظُهُمْ ، فَإِذَا تَفَرَّقُوا خَرَجَ فَيَضَعُ بِثَوْبِهِ ، ثُمَّ صَعِدَ الْجَبَلَ ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ مُتَنَكِّرًا ، قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ، فَلِمَ لاَ تَذْهَبُ بِي مَعَكَ ؟ قَالَ : أَنْتَ غُلامٌ ، وَأَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ مِنْكَ شَيْءٌ ، قَالَ : قُلْتُ : لاَ تَخَفْ ، قَالَ : فَإِنَّ فِي هَذَا الْجَبَلِ قَوْمًا فِي بِرْطِيلِهِمْ لَهُمْ عِبَادَةٌ ، وَلَهُمْ صَلاحٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَيَذْكُرُونَ الآخِرَةَ ، وَيَزْعُمُونَنَا عَبَدَةَ النِّيرَانِ ، وَعَبَدَةَ الأَوْثَانِ ، وَأَنَا عَلَى دِينِهِمْ ، قَالَ : قُلْتُ : فَاذْهَبْ بِي مَعَكَ إِلَيْهِمْ ، قَالَ : لاَ أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَسْتَأْمِرُهُمْ ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ
(1/489)
يَظْهَرَ مِنْكَ شَيْءٌ ، فَيَعْلَمُ أَبِي فَيُقْتَلُ الْقَوْمَ فَيَكُونُ هَلاكُهُمْ عَلَى يَدِي ، قَالَ : قُلْتُ : لَنْ يَظْهَرَ مِنِّي ذَلِكَ ، فَاسْتَأْمِرْهُمْ ، فَأَتَاهُمْ ، فَقَالَ : غُلامٌ عِنْدِي يَتِيمٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَأْتِيَكُمْ وَيَسْمَعَ كَلامَكُمْ ، قَالُوا : إِنْ كُنْتَ تَثِقُ بِهِ ، قَالَ : أَرْجُو أَنْ لاَ يَجِيءَ مِنْهُ إِلاَّ مَا أُحِبُّ ، قَالُوا : فَجِيءَ بِهِ ، فَقَالَ لِي : لَقَدِ اسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ تَجِيءَ مَعِي ، فَإِذَا كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي رَأَيْتُنِي أَخْرَجُ فِيهَا فَأْتِنِي ، وَلا يَعْلَمُ بِكَ أَحَدٌ ، فَإِنَّ أَبِي إِنْ عَلِمَ بِهِمْ قَتَلَهُمْ ، قَالَ : فَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي يَخْرُجُ تَبِعْتُهُ فَصَعِدْنَا الْجَبَلَ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ ، فَإِذَا هُمْ فِي بِرْطِيلِهِمْ ، قَالَ عَلِيٌّ : وَأُرَاهُ ، قَالَ : وَهُمْ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ، قَالَ : ، وَكَأَنَّ الرُّوحَ قَدْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ يَصُومُونَ النَّهَارَ ، وَيَقُومُونَ اللَّيْلَ ، وَيَأْكُلُونَ عِنْدَ السَّحَرِ ، مَا وَجَدُوا ، فَقَعَدْنَا إِلَيْهِمْ ، فَأَثْنَى الدِّهْقَانُ عَلَى حَبْرٍ ، فَتَكَلَّمُوا ، فَحَمِدُوا اللَّهَ ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ ، وَذَكَرُوا مَنْ مَضَى مِنَ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ حَتَّى خَلَصُوا إِلَى ذِكْرِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ ، فَقَالُوا : بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ رَسُولا وَسَخَّرَ لَهُ مَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَخَلْقِ الطَّيْرِ ، وَإِبْرَاءِ الأَكْمَهِ ، وَالأَبْرَصِ ، وَالأَعْمَى ، فَكَفَرَ بِهِ قَوْمٌ وَتَبِعَهُ قَوْمٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ ابْتَلَى بِهِ خَلْقَهُ ، قَالَ : وَقَالُوا قَبْلَ ذَلِكَ : يَا غُلامُ ، إِنَّ
(1/490)
لَكَ لَرَبًّا ، وَإِنَّ لَكَ مَعَادًا ، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا ، إِلَيْهِمَا تَصِيرُونَ ، وَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النِّيرَانَ أَهْلُ كُفْرٍ وَضَلالَةٍ لاَ يَرْضَى اللَّهُ مَا يَصْنَعُونَ وَلَيْسُوا عَلَى دِينٍ ، فَلَمَّا حَضَرَتِ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْصَرِفُ فِيهَا الْغُلامُ انْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ مَعَهُ ، ثُمَّ غَدَوْنَا إِلَيْهِمْ ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَأَحْسَنَ ، وَلَزِمْتُهُمْ ، فَقَالُوا لِي : يَا سَلْمَانُ ، إِنَّكَ غُلامٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْنَعَ كَمَا نَصْنَعُ فَصَلِّ وَنَمْ وَكُلْ وَاشْرَبْ ، قَالَ : فَاطَّلَعَ الْمَلِكُ عَلَى صَنِيعِ ابْنِهِ فَرَكِبَ فِي الْخَيْلِ حَتَّى أَتَاهُمْ فِي بِرْطِيلِهِمْ ، فَقَالَ : يَا هَؤُلاءِ ، قَدْ جَاوَرْتُمُونِي فَأَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ ، وَلَمْ تَرَوْا مِنِّي سُوءًا فَعَمَدْتُمْ إِلَى ابْنِي ، فَأَفْسَدْتُمُوهُ عَلَيَّ قَدْ أَجَّلْتُكُمْ ثَلاثًا ، فَإِنْ قَدَرْتُ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلاثٍ أَحْرَقْتُ عَلَيْكُمْ بِرْطِيلَكُمْ هَذَا ، فَالْحَقُوا بِبِلادِكُمْ ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مِنِّي إِلَيْكُمْ سُوءٌ ، قَالُوا : نَعَمْ ، مَا تَعَمَّدْنَا مُسَاءَتَكَ ، وَلا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ ، فَكَفَّ ابْنُهُ عَنْ إِتْيَانِهِمْ ، فَقُلْتُ لَهُ : اتَّقِ اللَّهِ ، فَإِنَّكَ تَعْرِفُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ اللَّهِ ، وَأَنَّ أَبَاكَ وَنَحْنُ عَلَى غَيْرِ دَيْنٍ إِنَّمَا هُمْ عَبْدَةُ النَّارِ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ ، فَلا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدَيْنِ غَيْرِكَ ، قَالَ : يَا سَلْمَانُ ، هُوَ كَمَا تَقُولُ : وَإِنَّمَا أَتَخَلَّفُ عَنِ الْقَوْمِ بَغْيًا عَلَيْهِمْ إِنْ تَبِعْتُ الْقَوْمَ طَلَبَنِي أَبِي فِي الْجَبَلِ وَقَدْ خَرَجَ فِي إِتْيَانِي إِيَّاهُمْ حَتَّى طَرَدَهُمْ ،
(1/491)
وَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَأَتَيْتُهُمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا فِيهِ ، فَقَالُوا : يَا سَلْمَانُ : قَدْ كُنَّا نَحْذَرُ مَكَانَ مَا رَأَيْتَ فَاتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّينَ مَا أَوْصَيْنَاكَ بِهِ ، وَأَنَّ هَؤُلاءِ عَبْدَةُ النِّيرَانِ لاَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَلا يَذْكُرُونَهُ ، فَلا يَخْدَعَنَّكَ أَحَدٌ عَنْ دِينِكَ قُلْتُ : مَا أَنَا بِمُفَارِقُكُمْ ، قَالُوا : أَنْتَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ مَعَنَا نَحْنُ نَصُومُ النَّهَارَ ، وَنَقُومُ اللَّيْلَ وَنَأْكُلُ عِنْدَ السَّحَرِ مَا أَصَبْنَا وَأَنْتَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ذَلِكَ ، قَالَ : فَقُلْتُ : لاَ أُفَارِقَكُمْ ، قَالُوا : أَنْتَ أعْلَمُ وَقَدْ أَعْلَمْنَاكَ حَالَنَا ، فَإِذَا أَتَيْتَ خُذْ مِقْدَارَ حِمْلٍ يَكُونُ مَعَكَ شَيْءٌ تَأْكُلُهُ ، فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ مَا نَسْتَطِيعُ بِحَقٍّ ، قَالَ : فَفَعَلْتُ وَلَقِيَنَا أَخِي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ يَمْشُونَ وَأَمْشِي مَعَهُمْ فَرَزَقَ اللَّهُ السَّلامَةَ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَوْصِلَ فَأَتَيْنَا بِيَعَةً بِالْمَوْصِلِ ، فَلَمَّا دَخَلُوا احْتَفُّوا بِهِمْ ، وَقَالُوا : أَيْنَ كُنْتُمْ ؟ قَالُوا : كُنَّا فِي بِلادٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا عَبَدَةُ النِّيرَانِ ، وَكُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ فَطَرَدُونَا ، فَقَالُوا : مَا هَذَا الْغُلامُ ؟ فَطَفِقُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ ، وَقَالُوا : صَحِبَنَا مِنْ تِلْكَ الْبِلادِ فَلَمْ نَرَ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرًا ، قَالَ سَلْمَانُ فَوَاللَّهِ : إِنَّهُمْ لَكَذَلِكَ إِذَا طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ كَهْفِ جَبَلٍ ، قَالَ : فَجَاءَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ فَحَفُّوا بِهِ وَعَظَّمُوهُ أَصْحَابِي الَّذِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ
(1/492)
وَأَحْدَقُوا بِهِ ، فَقَالَ : أَيْنَ كُنْتُمْ ؟ فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ : مَا هَذَا الْغُلامُ مَعَكُمْ ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيَّ خَيْرًا وَأَخْبَرُوهُ بِإِتِّبَاعِي إِيَّاهُمْ ، وَلَمْ أَرَ مِثْلَ إِعْظَامِهِمْ إِيَّاهُ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ أَرْسَلَ مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَمَا لَقُوا ، وَمَا صَنَعَ بِهِ وَذَكَرَ مَوْلِدَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، وَأَنَّهُ وُلِدَ بِغَيْرِ ذَكَرٍ فَبَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولا ، وَأَحْيَا عَلَى يَدَيْهِ الْمَوْتَى ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الإِنْجِيلَ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ ، وَبَعْثَهُ رَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَفَرَ بِهِ قَوْمٌ وَآمَنَ بِهِ قَوْمٌ ، وَذَكَرَ بَعْضَ مَا لَقِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَأَنَّهُ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يَعِظُهُمْ ، وَيَقُولُ : اتَّقُوا اللَّهَ وَالْزَمُوا مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ، وَلا تُخَالِفُوا فَيُخَالِفُ بِكُمْ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا شَيْئًا ، فَلْيَأْخُذْ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُومُ فَيَأْخُذُ الْجَرَّةَ مِنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ فَقَامَ أَصْحَابِي الَّذِينَ جِئْتُ مَعَهُمْ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ ، وَقَالَ لَهُمُ : الْزَمُوا هَذَا الدِّينَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَفَرَّقُوا وَاسْتَوْصُوا بِهَذَا الْغُلامِ خَيْرًا ، وَقَالَ لِي : يَا غُلامُ هَذَا دَيْنُ اللَّهِ الَّذِي تَسْمَعُنِي أَقُولُهُ وَمَا سِوَاهُ الْكُفْرُ ، قَالَ : قُلْتُ : مَا أَنَا
(1/493)
بِمُفَارِقُكَ ، قَالَ : إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكُونَ مَعِي إِنِّي لاَ أَخْرَجُ مِنْ كَهْفِي هَذَا إِلاَّ كُلَّ يَوْمِ أَحَدٍ ، وَلا تَقْدِرُ عَلَى الْكَيْنُونَةِ مَعِي ، قَالَ : وَأَقْبَلَ عَلى أَصْحَابِهِ ، فَقَالُوا : يَا غُلامُ ، إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ ، قُلْتُ : مَا أَنَا بِمُفَارِقُكَ ، قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ : يَا فُلانُ ، إِنَّ هَذَا غُلامٌ وَيُخَافُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِي : أَنْتَ أَعْلَمُ ، قُلْتُ : فَإِنِّي لاَ أُفَارِقُكَ ، فَبَكَى أَصْحَابِي الأَوَّلُونَ الَّذِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ عِنْدَ فُرَاقِهِمْ إِيَّايَ ، فَقَالَ : يَا غُلامُ ، خُذْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ مَا تَرَى أَنَّهُ يَكْفِيكَ إِلَى الأَحَدِ الآخَرِ ، وَخُذْ مِنَ الْمَاءِ مَا تَكْتَفِي بِهِ ، فَفَعَلْتُ فَمَا رَأَيْتُهُ نَائِمًا وَلا طَاعِمًا إِلاَّ رَاكِعًا وَسَاجِدًا إِلَى الأَحَدِ الآخَرِ ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ، قَالَ لِي : خُذْ جَرَّتَكَ هَذِهِ وَانْطَلِقْ ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ أَتْبَعُهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ ، وَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ تِلْكَ الْجِبَالِ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ ، فَقَعَدُوا وَعَادَ فِي حَدِيثِهِ نَحْوَ الْمَرَّةِ الأُولَى ، فَقَالَ : الْزَمُوا هَذَا الدِّينَ وَلا تَفَرَّقُوا ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ ذَكَرَنِي ، فَقَالُوا لَهُ : يَا فُلانُ كَيْفَ وَجَدْتَ هَذَا الْغُلامَ ؟ فَأَثْنَى عَلَيَّ ، وَقَالَ خَيْرًا : فَحَمِدُوا اللَّهَ تَعَالَى ، وَإِذَا خُبْزٌ كَثِيرٌ ، وَمَاءٌ كَثِيرٌ فَأَخَذُوا وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ مَا يَكْتَفِي بِهِ ، وَفَعَلْتُ ، فَتَفَرَّقُوا فِي تِلْكَ الْجِبَالِ وَرَجَعَ
(1/494)
إِلَى كَهْفِهِ وَرَجَعْتُ مَعَهُ ، فَلَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَحَدٍ ، وَيَخْرُجُونَ مَعَهُ وَيَحُفُّونَ بِهِ وَيُوصِيهِمْ بِمَا كَانَ يُوصِيهِمْ بِهِ فَخَرَجَ فِي أَحَدٍ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَعِظَهُمْ ، وَقَالَ : مِثْلَ مَا كَانَ يَقُولُ لَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ آخِرَ ذَلِكَ : يَا هَؤُلاءِ إِنَّهُ قَدْ كَبِرَ سِنِّي ، وَرَقَّ عَظْمِي ، وَقَرُبَ أَجَلِي ، وَأَنَّهُ لاَ عَهْدَ لِي بِهَذَا الْبَيْتِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا ، وَلا بُدَّ مِنْ إِتْيَانِهِ فَاسْتَوْصُوا بِهَذَا الْغُلامِ خَيْرًا ، فَإِنِّي رَأَيْتُهُ لاَ بَأْسَ بِهِ ، قَالَ : فَجَزِعَ الْقَوْمُ فَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ جَزَعِهِمْ ، وَقَالُوا : يَا فُلانُ ، أَنْتَ كَبِيرٌ فَأَنْتَ وَحْدَكَ ، وَلا نَأْمَنُ مِنْ أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ يُسَاعِدُكَ أَحْوَجُ مَا كُنَّا إِلَيْكَ ، قَالَ : لاَ تُرَاجِعُونِي ، لاَ بُدَّ مِنَ اتِّبَاعِهِ ، وَلَكِنِ اسْتَوْصُوا بِهَذَا الْغُلامِ خَيْرًا ، وَافْعَلُوا وَافْعَلُوا ، قَالَ : فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِمُفَارِقُكَ ، قَالَ : يَا سَلْمَانُ قَدْ رَأَيْتَ حَالِي وَمَا كُنْتُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ أَنَا أَمْشِي أَصُومُ النَّهَارَ وَأَقُومُ اللَّيْلَ ، وَلا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْمِلَ مَعِي زَادًا وَلا غَيْرَهُ وَأَنْتَ لاَ تَقْدِرُ عَلَى هَذَا ، قُلْتُ مَا أَنَا بِمُفَارِقُكَ ، قَالَ : أَنْتَ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَقَالُوا : يَا فُلانُ ، فَإِنَّا نَخَافُ عَلَى هَذَا الْغُلامِ ، قَالَ : فَهُوَ أَعْلَمُ قَدْ أَعْلَمْتَهُ الْحَالَ وَقَدْ رَأَى مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا ، قُلْتُ : لاَ أُفَارِقُكَ ، قَالَ : فَبَكَوْا وَوَدَّعُوهُ ، وَقَالَ لَهُمُ : اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا عَلَى مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ فَإِنْ أَعِشْ فَعَلَيَّ
(1/495)
أَرْجِعُ إِلَيْكُمْ ، وَإِنْ مِتُّ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ ، وَقَالَ لِي : أَحْمِلُ مَعَكَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ شَيْئًا تَأْكُلُهُ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَلا يَلْتَفِتُ وَلا يَقِفُ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى إِذَا أَمْسَيْنَا ، قَالَ : يَا سَلْمَانُ ، صَلِّ أَنْتَ وَنَمْ وَكُلْ وَاشْرَبْ ثُمَّ قَامَ وَهُوَ يُصَلِّي حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَكَانَ لاَ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى أَتَيْنَا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، وَإِذَا عَلَى الْبَابِ مُقْعَدٌ ، فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، قَدْ تَرَى حَالِي فَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِشَيْءٍ ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ فَجَعَلَ يَتْبَعُ أَمْكَنَةً مِنَ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهَا ، فَقَالَ : يَا سَلْمَانُ إِنِّي لَمْ أَنَمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ أَجِدْ طَعْمَ النَّوْمِ ، فَإِنْ فَعَلْتَ أَنْ تُوقِظَنِي إِذَا بَلَغَ الظِّلُّ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا نِمْتُ ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَنَامَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَإِلا لَمْ أَنَمْ ، قَالَ : قُلْتُ فَإِنِّي أَفْعَلُ ، قَالَ : فَإِذَا بَلَغَ الظِّلُّ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَأَيْقِظْنِي ، إِذَا غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنَامَ ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : هَذَا لَمْ يَنَمْ مُذْ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ ذَلِكَ لأَدَعَنَّهُ يَنَامُ حَتَّى يَشْتَفِيَ مِنَ النَّوْمِ ، قَالَ : وَكَانَ فِيمَا يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ يُقْبِلُ عَلَيَّ فَيَعِظُنِي وَيُخْبِرُنِي أَنَّ لِي رَبًّا وَأَنَّ بَيْنَ يَدَيْ جَنَّةً وَنَارًا وَحِسَابًا وَيُعَلِّمُنِي وَيُذَكِّرُنِي نَحْوَ مَا يَذْكُرُ الْقَوْمُ يَوْمَ الأَحَدِ ، حَتَّى قَالَ ،
(1/496)
فِيمَا يَقُولُ : يَا سَلْمَانُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَوْفَ يَبْعَثُ رَسُولا اسْمُهُ أَحْمَدُ يَخْرُجُ بِتُهْمَةَ وَكَانَ رَجُلا أَعْجَمٍيًّا لاَ يُحْسِنُ الْقَوْلَ ، عَلامَتُهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمٌ وَهَذَا زَمَانُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ قَدْ تَقَارَبَ فَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَلا أَحْسَبَنِي أُدْرِكُهُ فَإِنْ أَدْرَكْتُهُ أَنْتَ فَصَدِّقْهُ وَاتَّبِعْهُ ، قَالَ : قُلْتُ وَإِنْ أَمَرَنِي بِتَرْكِ دِينِكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ ، قَالَ : اتْرُكْهُ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَرَضِيَ الرَّحْمَنُ ، فِيمَا قَالَ : فَلَمْ يَمْضِ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى اسْتَيْقَظَ فَزِعًا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى ، فَقَالَ لِي : يَا سَلْمَانُ ، مَضَى الْفَيْءُ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ وَلَمْ أَذْكُرْ أَيْنَ مَا كُنْتَ جَعَلْتَ عَلَى نَفْسِكَ ، قَالَ : أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ لَمْ تَنَمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ ذَلِكَ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْتَفِيَ مِنَ النَّوْمِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَقَامَ فَخَرَجَ وَتَبِعْتُهُ فَمَرَّ بِالْمُقْعَدِ ، فَقَالَ الْمُقْعَدُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ دَخَلْتَ فَسَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي وَخَرَجْتَ فَسَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي ، فَقَامَ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى أَحَدًا فَلَمْ يَرَهُ فَدَنَا مِنْهُ ، فَقَالَ لَهُ : نَاوِلْنِي يَدَكَ فَنَاوَلَهُ ، فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَقَامَ كَأَنَّهُ أَنْشَطَ مِنْ عِقَالٍ صَحِيحًا لاَ عَيْبَ بِهِ فَخَلا عَنْ بُعْدِهِ ، فَانْطَلَقَ ذَاهِبًا فَكَانَ لاَ يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ وَلا يَقُومُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِي الْمُقْعَدُ : يَا غُلامُ احْمِلْ عَلَيَّ ثِيَابِي حَتَّى أنْطَلِقَ فَأَسِيرَ إِلَى أَهْلِي ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ
(1/497)
ثِيَابَهُ وَانْطَلَقَ لاَ يَلْوِي عَلَيَّ ، فَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ أَطْلُبُهُ ، فَكُلَّمَا سَأَلْتُ عَنْهُ ، قَالُوا : أَمَامَكَ حَتَّى لَقِيَنِي رَكْبٌ مِنْ كَلْبٍ ، فَسَأَلْتُهُمْ : فَلَمَّا سَمِعُوا الْفَتَى أَنَاخَ رَجُلٌ مِنْهُمْ لِي بَعِيرَهُ ، فَحَمَلَنِي خَلْفَهُ حَتَّى أَتَوْا بِلادَهُمْ فَبَاعُونِي ، فَاشْتَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَجَعَلَتْنِي فِي حَائِطٍ بِهَا وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَخْبَرْتُ بِهِ ، فَأَخَذْتُ شَيْئًا مِنْ تَمْرِ حَائِطِي فَجَعَلْتُهُ عَلَى شَيْءٍ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ نَاسًا ، وَإِذَا أَبُو بَكْرٍ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ مَا هَذَا ؟ قُلْتُ : صَدَقَةٌ ، قَالَ لِلْقَوْمِ : كُلُوا ، وَلَمْ يَأْكُلْ ، ثُمَّ لَبِثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَخَذْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَجَعَلْتُ عَلَى شَيْءٍ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ نَاسًا ، وَإِذَا أَبُو بَكْرٍ أَقْرَبُ الْقَوْمِ مِنْهُ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ لِي : مَا هَذَا ؟ قُلْتُ : هَدِيَّةٌ ، قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَأَكَلَ وَأَكَلَ الْقَوْمُ ، قُلْتُ : فِي نَفْسِي هَذِهِ مِنْ آيَاتِهِ كَانَ صَاحِبِي رَجُلا أَعْجَمِيٌّ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَقُولَ : تِهَامَةً ، فَقَالَ : تُهْمَةٌ ، وَقَالَ : اسْمُهُ أَحْمَدُ فَدُرْتُ خَلْفَهُ فَفَطِنَ بِي ، فَأَرْخَى ثَوْبًا فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي نَاحِيَةِ كَتِفِهِ الأَيْسَرِ فَتَبَيَّنْتُهُ ، ثُمَّ دُرْتُ حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ : مَنْ أَنْتَ قُلْتُ مَمْلُوكٌ ، قَالَ : فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثِي وَحَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي كُنْتُ مَعَهُ وَمَا أَمَرَنِي بِهِ ،
(1/498)
قَالَ : لِمَنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : لامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ جَعَلْتَنِي فِي حَائِطٍ لَهَا ، قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، قَالَ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : اشْتَرِهِ فَاشْتَرَانِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْتَقَنِي ، فَلَبِثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَلْبَثَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا تَقُولُ فِي دِينِ النَّصَارَى ، قَالَ : لاَ خَيْرَ فِيهِمْ وَلا فِي دِينِهِمْ ، فَدَخَلَنِي أَمَرٌ عَظِيمٌ ، فَقُلْتُ : فِي نَفْسِي هَذَا الَّذِي كُنْتُ مَعَهُ وَرَأَيْتُ مَا رَأَيْتُهُ ثُمَّ رَأَيْتُهُ أَخَذَ بِيَدِ الْمُقْعَدِ ، فَأَقَامَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ، وَقَالَ : لاَ خَيْرَ فِي هَؤُلاءِ ، وَلا فِي دِينِهِمْ ، فَانْصَرَفْتُ وَفِي نَفْسِي مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : عَلَيَّ بِسَلْمَانَ ، فَأَتَى الرَّسُولُ وَأَنَا خَائِفٌ ، فَجِئْتُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ، وَرُهْبَانًا ، وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، يَا سَلْمَانُ ، إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ كُنْتَ مَعَهُمْ وَصَاحِبُكَ لَمْ يَكُونُوا نَصَارَى ، إِنَّمَا كَانُوا مُسْلِمَيْنِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَهُوَ الَّذِي أَمَرَنِي بِاتِّبَاعِكَ ، فَقُلْتُ لَهُ : وَإِنْ أَمَرَنِي بِتَرْكِ دِينِكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ ، قَالَ : فَاتْرُكْهُ ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَمَا يَجِبُ فِيمَا يَأْمُرُكَ بِهِ "(1)
__________
(1) -المستدرك للحاكم(6543)حسن
(1/499)
11- وفي هذا الحادث العظيم ( أعني بدأ الوحي ) تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلى رسول الله هي الأمر بالقراءة ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [العلق: 1].
وما زال الإسلام يحث على العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ويميزهم على غيرهم
قال تعالى: ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [المجادلة: 11] وقال سبحانه ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) [الزمر: 9].
إن مصدر العلم النافع من الله عز وجل، فهو الذي علم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم، ومتى حادت البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله تعالى رجع علمها وبالاً عليها وسببًا في إبادتها(1).
12- إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية، حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله (القرآن) بواسطة الملك جبريل (عليه السلام)؛ وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني، أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى وتبليغه، وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم(2).
__________
(1) - انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى ص34.
(2) - انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/129).
(1/500)
إن حقيقة الوحي، هي الأساس الذي تترتب عليه جميع حقائق الدين، بعقائده وتشريعاته وأخلاقه، ولذلك اهتم المستشرقون والملاحدة من قبلهم، بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي، وحاولوا أن يأولوا ظاهرة الوحي ويحرفوها عن حقيقتها عما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات، فقائل يقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، وبعضهم قال بأن محمدًا كان رجلاً عصبيًا أو مصابًا بداء الصرع(1).
والحقيقة تقول: إن محمدًا عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيًا داخليًا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات، وضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليًا فقط.
ولقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب والخوف مما سمع ورأى، وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوقا للرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس،(2)
وقد قال تعالى تأكيدا لهذا المعنى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) [الشورى: 52-53].
__________
(1) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص64.
(2) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص64.
(2/1)
وقال تعالى : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) [يونس: 15، 16].
13- الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه:
إن العلم والفقه الصحيح الكامل في العقائد والشرائع، والآداب وغيرها لا يكون
إلا عن طريق الوحي المنزل، قرآنًا وسنة؛ والتزام الدليل الشرعي هو منهج
الذين أنعم الله عليهم بالإيمان الصحيح(1)قال تعالى: ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) [الأعراف: 181].
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم من غيرهم انتفاعا بالدليل والوحي، وتسليمًا له، لأسباب عديدة، منها:
أ- نزاهة قلوبهم، وخلوها من كل ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص، واستعدادها التام لقبول ما جاء عن الله ورسوله والإذعان والانقياد له انقيادا مطلقا، دون حرج ولا تردد، ولا إحجام.
ب- معاصرتهم لوقت التشريع ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانوا أعلم الناس بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والعلم بملابسات الواقعة أو النص من أعظم أسباب فقهه وفهمه وإدراك مغزاه.
ج- وكانت النصوص -قرآنًا وسنة- تأتي في كثير من الأحيان لأسباب تتعلق بهم -بصورة فردية، أو جماعية- فتخاطبهم خطابًا مباشرًا، وتؤثر فيهم أعظم التأثير؛ لأنها تعالج أحداثًا واقعية، وتعقب في حينها، حيث تكون النفوس مشحونة بأسباب التأثر متهيئة لتلقي الأمر والاستجابة له.
__________
(1) - انظر صفة الغرباء، سلمان العودة ص83.
(2/2)
فكانوا إذا سمعوا أحدا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارهم، كما يقول ابن عباس - رضي الله عنه -(1).
14- التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان:
لقد كان الصحابة يتعاملون مع العلم الصحيح ليس كحقائق علمية مجردة يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها علاقة بالقلب والجوارح، فقد أورثهم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله: محبته والتأله إليه، والشوق إلى لقائه، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن، وأورثهم تعظيمه، والخوف منه، والحذر من بأسه وعقابه، وبطشه ونقمته وأورثهم رجاء ما عنده، والطمع في جنته ورضوانه، وحسن الظن به، فاكتملت لديهم بذلك آثار العلم بالله والإيمان به، وهذه المعاني الوجدانية هي المقصود الأعظم في تحصيل العلم، وإذا فقدت، فلا ينفع مع فقدها علم، بل هو ضرر في العاجل والآجل(2).
وكان الصحابة فرسانًا بالنهار، ورهبانا بالليل، لا يمنعهم علمهم وإيمانهم وخشوعهم لله من القيام بشؤونهم الدنيوية، من بيع، وشراء، وحرث، ونكاح، وقيام على الأهل والأولاد وغيرهم فيما يحتاجون.
15- شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة:
كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم مدرسة للتربية والتعليم عرفتها البشرية، كيف لا، وأستاذها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أستاذ البشرية كلها، وتلاميذها هم الدعاة والهداة، والقادة الربانيون، الذين حرروا البشرية من رق العبودية وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، بعد أن رباهم الله تعالى على عينه تربية غير مسبوقة ولا ملحوقة(3).
في دار الأرقم وفق الله تعالى رسوله إلى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة، حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشرية.
__________
(1) - نفس المصدر ص94.
(2) - انظر: صفة الغرباء ص97.
(3) - انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص219.
(2/3)
لقد استطاع الرسول المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يربي في تلك المرحلة السرية، وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد، والجهاد والدعوة فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر الأولى للدعوة في خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الدعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعدادا خاصا ليؤهلهم لاستلام القيادة، وحمل الرسالة، فالرسالات الكبرى والأهداف الإنسانية العظمى لا يحملها إلا أفذاذ الرجال، وكبار القادة، وعمالقة الدعاة.
كانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا وجامعات العالم، التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من الرعيل الأول (السابقين الأولين) فكان ذلك اللقاء الدائم تدريبًا عمليًا لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة والقيادة وآدابها وأصولها، ويشحذ فيه القائد الأعلى جنده وأتباعه بالثقة بالله والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب، والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع إلى البذل والتضحية والإيثار(1).
16- فقه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع السنن
إن بناء الدول وتربية الأمم، والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن ونواميس تتحكم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول، وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نراه قد تعامل مع السنن والقوانين بحكمة وقدرة فائقة.
إن السنن الربانية هي أحكام الله تعالى الثابتة في الكون، وعلى الإنسان في كل زمان ومكان، وهي كثيرة جدًا، والذي يهمنا منها في هذا الكتاب ما يتعلق بحركة النهوض تعلقًا وثيقًا.
__________
(1) - المصدر السابق ص220.
(2/4)
إن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن الله تعالى، التي لا تتبدل ولا تتغير، ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن وتوجيه النظر إليها واستخراج العبرة منها، والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله، والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن الله تعالى في الأرض، فهو بذلك يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعًا في الحياة، فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والأفراد جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافًا، والحياة لا تجري في الأرض عبثًا، وإنما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السنن، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدية إليه(1)
17- البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي
أولاً: تزكية أرواح الرعيل الأول بأنواع العبادات
رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم وأرشدهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم ومن أهمها:
1- التدبر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى.
2- التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في الكون، بل ما في عالم الغيب والشهادة.
3- عبادة الله عز وجل، من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا، إذ العبادة غاية التذلل لله سبحانه ولا يستحقها إلا الله وحده.
والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان:
أ- النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغيرها.
__________
(1) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 145)
(2/5)
ب- النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، ويشمل كل شيء يُنْتَوى به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهو عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة(1).
إن تزكية الروح بالصلاة وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، والتسبيح له سبحانه أمر مهم في الإسلام، فإن النفس البشرية إذا لم تتطهر من أدرانها وتتصل بخالقها لا تقوم بالتكاليف الشرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها تعطي الروح وقودًا وزادًا ودفعًا قويًّا إلى القيام بما تؤمر به.
18- حكمة الابتلاء وفوائده:
للابتلاء حكم كثيرة من أهمها:
*- تصفية الصفوف:
جعل الله الابتلاء وسيلة لتصفية نفوس الناس، ومعرفة المحق منهم والمبطل؛ وذلك لأن المرء قد لا يُكشف في الرخاء، لكنه تكشفه الشدة، قال تعالى: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) [العنكبوت: 2].
*- تربية الجماعة المسلمة:
إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة، التي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف، والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها، إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون»(2).
*- الكشف عن خبايا النفوس:
إنَّ الله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر، فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدًا إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه(3).
__________
(1) - فقه الدعوة، عبد الحليم محمود (1/471، 472).
(2) - في ظلال القرآن (2/180).
(3) - نفس المصدر (6/387).
(2/6)
*- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة:
«وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد، فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدًا إلا أصلبها عودًا وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار»(1).
*- معرفة حقيقة النفس:
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، حقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم مع الشهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق ومسارب الضلال(2).
*- معرفة قدر الدعوة:
«وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من غث وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغالٍ، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال»(3).
*- الدعاية لها:
__________
(1) - نفس المصدر (6/389).
(2) - نفس المصدر (2/181).
(3) - في ظلال القرآن(2/180).
(2/7)
فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين الله، ولو وهنوا أو استكانوا لما استجاب لهم أحد، لقد كان الفرد الواحد يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى قومه يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتى يعود بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
*- جذب بعض العناصر القوية إليها:
وأمام صمود المسلمين وتضحياتهم، تتوق النفوس القوية إلى هذه العقيدة، ومن خلال الصلابة الإيمانية تكبر عند هذه الشخصيات الدعوة وحاملوها، فيسارعون إلى الإسلام دون تردد، وأعظم الشخصيات التي يعتز بها الإسلام دخلت إلى هذا الدين من خلال هذا الطريق(2).
*- رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً »(3).
فقد يكون للعبد درجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمله فيبتليه الله تعالى حتى يرفعه إليها، كما أن الابتلاء طريق لتكفير سيئات المسلم(4).
__________
(1) - انظر: فقه السيرة النبوية ، ص193، 194.
(2) - انظر: فقه السيرة النبوية ، ص193، 194.
(3) - صحيح مسلم (6727 )
(4) - انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص244، وانظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك ص8: 11.
(2/8)
كما أن للابتلاء فوائد عظيمة منها: معرفة عز الربوبية وقهرها، معرفة ذل العبودية وكسرها، الإخلاص، الإنابة إلى الله والإقبال عليه، التضرع والدعاء، الحلم عمن صدرت عنه المصيبة، العفو عن صاحبها، الصبر عليها، الفرح بها لأجل فوائدها، الشكر عليها، رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها، ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها، وغير ذلك من الفوائد. ومن أراد التوسع فليراجع كتاب فقه الابتلاء(1).
19- الحكمة من الهجرة إلى الحبشة:
لقد اشتد البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الكفار يحبسونهم ويعذبونهم، بالضرب والجوع والعطش، ورمضاء مكة والنار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من تصلب في دينه وعصمه الله منهم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجا مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.(2)
20- وفي الرحلة للطائف حكم عديدة :
__________
(1) - انظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك، ص15: 28.
(2) - الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290.
(2/9)
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي بالأنبياء والمرسلين الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، فهذا نوح لبث في قومه داعيًا: ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا ) [العنكبوت: 14] فكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائبًا، وتنويعًا متكررًا ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا - فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا - وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا - ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا - ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) [نوح: 1-9]
ومع امتداد الزمن الطويل، ما توقف عن الدعوة، ولا ضعُفت همته في تبليغها، ولا ضعُفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها،فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينوع ويبتكر في أساليب الدعوة، ودعا سرًا وجهرًا، وسلمًا وحربًا، وجمعًا، وفردًا، وسفرًا وحضرًا، كما أنه عليه الصلاة والسلام قص القصص، وضرب الأمثال، واستخدم وسائل الإيضاح بالخط على الأرض وغيره، كما رغب وبشر، ورهب وأنذر، ودعا في كل آنٍ، وعلى كل حال وبكل أسلوب مؤثر فعَّال(1)فها هو عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى الطائف، ثم يتردد على القبائل، ثم يهاجر ويستمر في دعوة الخلق إلى الله تعالى
__________
(1) - انظر: مقومات الدعوة والداعية، بادحدح، ص123.
(2/10)
* إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعال في مجال الحماية للإنسان، وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء، فهو عرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، ليجد فرجا ومخرجًا، فعندما لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء وأصبح هائما على وجهه، لجأ إلى الله بالدعاء فما أن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين مع جبريل وملك الجبال(1).
* كان مقترح ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، وهو يدخل تحت أسلوب الاستئصال، وقد نفذ في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط قال تعالى: ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [العنكبوت: 40].
إن النبي صلى الله عليه وسلم رفض منهج الاستئصال ، لأن الله تعالى يقول عنه :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء .
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر، ص112، 113.
(2/11)
فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا »(1).
21- وفي حادثة الإسراء والمعراج عبر منها :
__________
(1) - صحيح البخارى (3231 )4/140
(2/12)
*- بعد كل محنة منحة، وقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحن عظيمة، فهذه قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وفي ثقيف وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالاتها من كل جانب، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في خطر بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حُماته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في طريقه، صابر لأمر ربه، لا تأخذه في الله لومة لائم ولا حرب محارب، ولا كيد مستهزئ فقد آن الأوان للمنحة العظيمة، فجاءت حادثة الإسراء والمعراج على قدر من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعًا، ويكرمه على صبره وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسول ولا حجاب، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيدٍ واحد، فيكون الإمام والقدوة لهم وهو خاتمهم وآخرهم(1).
*- إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مُقدمًا على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة، يريد الله تعالى لِلَّبِنَات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء الخلص الذين لمسوا عيانا صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقًا، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم وأي سعد يغمرهم وهم حول هذا النبي المصطفى وقد آمنوا به، وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم، كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوارٍ وبعد أذى الصبيان والسفهاء(2).
__________
(1) - انظر: التربية القيادية، (1/447).
(2) - انظر: التربية القيادية، (1/451).
(2/13)
*- إن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم العالية تتجسد في مواجهته للمشركين بأمر تنكره عقولهم ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم، ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم، وتلقي نكيرهم واستهزائهم فضرب بذلك صلى الله عليه وسلم لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق أمام أهل الباطل، وإن تحزبوا ضد الحق وجندوا لحربه كل ما في وسعهم، وكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على المشركين بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر الله له علامات تلزم الكفار بالتصديق .
*- يظهر إيمان الصديق رضي الله عنه القوي في هذا الحدث الجلل، فعندما أخبره الكفار قال بلسان الواثق، لئن كان قال ذلك لقد صدق، ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، وبهذا استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر ونزول الوحي من السماء، فبين لهم أنه إذا كان غريبا على الإنسان العادي فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم(1).
*- إن شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن حين خير بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل عليه الصلاة والسلام: هديت للفطرة، تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين الذي يلبي نوازعها واحتياجاتها، ويحقق طموحاتها ويكبح جماحها ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [الروم: 30].
__________
(1) - انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/43).
(2/14)
*- إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء دليل على أنهم سلموا له بالقيادة والريادة، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وسع أتباع هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءَهم أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ولرسالته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
إن على الذين يعقدون مؤتمرات التقارب بين الأديان أن يدركوا هذه الحقيقة، ويدعوا إليها، وهي ضرورة الانخلاع عن الديانات المنحرفة، والإيمان بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، وعليهم أن يدركوا حقيقة هذه الدعوات المشبوهة، التي تخدم وضعًا من الأوضاع أو نظامًا من الأنظمة الجاهلية.
22- وفي الهجرة للمدينة المنورة دروس كثيرة منها :
*- الصراع بين الحق والباطل
صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40].
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [المجادلة: 21].
*- مكر خصوم الدعوة بالداعية:
أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله،(1)كما قال عز وجل: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال: 30].
__________
(1) - انظر الهجرة النبوية المباركة، ص200.
(2/15)
ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) [الأنفال: 36].
*- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين .(1)
* الأخذ بالأسباب أمر ضروري:
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياًّ وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح(2).
*- الإيمان بالمعجزات الحسية:
__________
(1) - انظر: الأساس في السنة،(1/357).
(2) - انظر: من معين السيرة، ص148
(2/16)
وفي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك -على ما روي- نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة ألا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام(1).
*- جواز الاستعانة بالكافر المأمون:
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم، ما داموا يثقون بهم ويأتمنونهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة أو الجوار، أو عمل معروف، كان قد قدمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية، مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص .
*- دور المرأة في الهجرة:
__________
(1) - انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/108).
(2/17)
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين(1)التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...»(2).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم! وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: «والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: «فوضع يده عليه»، فقال: «لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم»، «قالت:ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك»(3).
__________
(1) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص206.
(2) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص126.
(3) - انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح.
(2/18)
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان(1).
*- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح:
__________
(1) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص128.
(2/19)
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأبو بكر - رضي الله عنه - عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة «فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك، وفي رواية البخاري، «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر»، لقد كان يدرك بثاقب بصره - رضي الله عنه -، وهو الذي تربى ليكون قائدا، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة؛ ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدة الفرح، وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ»، إنها قمة الفرح البشري أن يتحول الفرح إلى بكاء.
(2/20)
فالصديق - رضي الله عنه - يعلم أن معنى هذه الصحبة، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض، ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة(1)وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق، مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين(2)، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض، فرارا من الحرج أو الكذب(3)؛ لأن الهجرة كانت سراًّ وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك(4).
__________
(1) - انظر: التربية القيادية (2/191، 192).
(2) - السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي، ص71.
(3) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص204.
(4) - انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص254.
(2/21)
وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي - رضي الله عنه - ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي - رضي الله عنه -، ولكن علياًّ - رضي الله عنه - لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة(1).
*- فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس:
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه شيء من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام(2).
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون والمفتونون ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة(3).
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص68.
(2) - انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص54.
(3) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص205.
(2/22)
23- وفي المدينة المنورة دروس كثيرة منها :
*- المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع:
إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك، بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه(1).
قال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ - رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ - لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [النور: 36-38].
*- التربية بالقدوة العملية:
من الحقائق الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس، أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير، فالكل سواسية أمام الله، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله.
*- آصرة العقيدة هي أساس الارتباط:
إن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقديُّا يرتبط بالإسلام ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه، إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح(2).
__________
(1) - محمد رسول الله، محمد عرجون (3/33).
(2) - انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/252)
(2/23)
إن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين من أهم الآثار والنتائج المترتبة على الهجرة، وكان القرآن الكريم يربي المسلمين على هذه المعاني الرفيعة، فقد بين الحق سبحانه وتعالى أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نبي الله. قال تعالى:( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ - قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [هود: 45،46].
وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) [الحجرات: 10].
وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى، حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم، ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم، مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين، من أعظم الذنوب قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [التوبة: 23].
فإذا كان الله سبحانه يحذر المؤمنين في الآيات السابقة من موالاة الكفار عامة، فهناك آيات كثيرة وردت في تحذير المؤمنين ونهيهم عن طاعة أهل الكتاب خاصة، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم(1).
__________
(1) - انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي جزولي، ص417.
(2/24)
قال تعالى: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) [البقرة: 120].
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) [آل عمران: 100].
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [المائدة: 51].
وحدد المولى عز وجل للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان وبين لهم من يتولون قال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) [المائدة: 55-56].
فقد فهم الصحابة أن ولاءهم لا يكون إلا لقيادتهم، وإخلاصهم لا يكون إلا لعقيدتهم، وجهادهم لا يكون إلا لإعلاء كلمة الله، فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه على حياتهم فمحضوا ولاءهم وجعلوه لله ورسوله والمؤمنين، وأصبح تاريخهم حافلاً بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم العميق لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وعقيدتهم وإخوانهم.
(2/25)
إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بعقيدة تم اللقاء عليها، والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء، والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكا لأنانيته وأثرته وأهوائه(1).
*- الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني:
إن المؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة المسلمة، فإذا وهت يتآكل كل بنيانها(2)ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق معاني الحب في الله في المجتمع المسلم الجديد فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِى الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِى ظِلِّى يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّى ».(3).
24- وفي غزوة بدر دروس شتى منها :
*- حقيقة النصر من الله تعالى:
__________
(1) - انظر: فقه السيرة للبوطي، ص156و انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/129).
(2) - انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/254)
(3) - صحيح مسلم (6713)
(2/26)
إن حقيقة النصر في بدر كانت من الله تعالى قال سبحانه فقد بين سبحانه وتعالى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) [آل عمران: 126]، وقوله تعالى: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال: 10].
في هاتين الآيتين تأكيد على أن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل، والمعنى: ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أى: ذو العزة التي لا ترام(1)، و(الحكيم) أى: الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى(2).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1/411).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (2/302) نقلاً عن حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم (1/97- 105).
(2/27)
ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه مع التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده، وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون، لكن يجب أن لا يغتروا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين، وأن النصر الذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته. وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه، قال تعالى: ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأنفال: 17].
ولما بيَّن سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده، وضح بعض الحكم من ذلك النصر، قال تعالى: ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ - لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) [آل عمران: 127، 128].
وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتذكروا دائما تلك النعمة العظيمة؛ نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر، قال تعالى: ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [الأنفال: 26].
(2/28)
يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إِلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّعَمِ الوَفِيرَةِ ، فَقَدْ كَانُوا قَلِيلِي العَدَدِ ، مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ ، يَعْتَدِي عَلَيْهِمُ النَّاسُ ، خَائِفِينَ مِنْ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ ، فَقَوَّاهُمْ وَآوَاهُمْ ، وَنَصَرَهُمْ وَرَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ، وَكُلُّ هَذِهِ النَّعَمِ التِي أَنْعَمَ بِهَا اللهُ عَلَيْهِمْ تَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا ، فَاللهُ تَعَالَى مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُكْرَ مِنْ عِبَادِهِ .
*-الولاء والبراء من فقه الإيمان:
رسمت غزوة بدر لأجيال الأمة صورًا مشرقة في الولاء والبراء، وجعلت خطًا فاصلاً بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني، فعاشها الصحابة واقعًا ماديًّا وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت القيم الجاهلية، فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه:
1- كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة في صف المسلمين، وكان أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمه شيبة في صف المشركين، وقد قتلوا جميعًا في المبارزة الأولى.
2- كان أبو بكر الصديق في صف المسلمين.. وكان ابنه عبد الرحمن في صف المشركين.
وأما الآخرون فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صف المشركين وقد أصيبوا جميعًا(1)فقتلوا تحت راية الكفر، فنزل في حقهم قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [النساء: 97].
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/253).
(2/29)
قال ابن عباس: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا على الخروج، فنزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ) إنهم لم يعذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صف المؤمنين متوافرة، ولم يكن الفاصل كبيرًا بين الصفين، ولن يعدموا لو أرادوا الفرصة في الانتقال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عبد الله بن سهيل(1).
إن للإيمان مستلزمات تعبر عن صدقه وقوته، ومن مستلزماته استعلاؤه على كل القيم مما سواه، فإذا كان كذلك كان لأصحابه الأثر الفعال، والقوة الفاعلة في بناء الحق والخير الذي أراده الله، إن الإيمان يصبغ السلوك، فإذا به يشع من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة والابتسامة، ومن خلال السمت والانفعال؛ ولذا لم يعذر الذين كانوا في صف المشركين؛ لأن الإيمان الذي ادعوه لم توجد له مستلزمات فلم يؤت ثماره(2).
__________
(1) - انظر: معين السيرة، ص217.
(2) - انظر: معين السيرة، ص218.
(2/30)
ولهذا الفهم العميق لفقه الإيمان ضرب الصحابة الكرام في بدر مُثلاً عليا لصدق الإيمان، التي تدل على أنهم آثروا رضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على حب الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا يعجب المسلم من ثناء الله تعالى على هذه المواقف الصادقة في قوله تعالى: ( لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [المجادلة: 22].
(2/31)
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ، وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ ، لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ ، وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ ، وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ ، هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ، وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ . وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ ، وَجُنْدُهُ ، وَحِزْبُهُ ، وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
25- وفي غزوة أحد دروس وعبر كثيرة منها :
*- تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني:
(2/32)
قال تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ - وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 137-139].
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة بدر، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم(1).
قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين(2).
ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته، وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره. وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم(3).
وفي قوله تعالى: ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن؛ لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم.
*- تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد:
__________
(1) - انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/190).
(2) - انظر: تفسير القرطبي (4/216).
(3) - انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/191).
(2/33)
قال تعالى: ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ - وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) [آل عمران: 140-143].
إنْ كُنْتُمْ قَدْ أَصَابَتْكُمْ جِرَاحٌ ، وَقُتِلَ مِنْكُمْ رِجَالٌ يَوْمَ أحُدٍ ، فَقَدْ أَصَابَ أَعْدَاءَكُمْ قَرِيبٌ مِمَّا أَصَابَكُمْ ، فَلاَ يَنْبَغِي لَكُمْ أنْ تَقْعُدُوا وَتَتَقَاعَسُوا عَنِ الجِهَادِ بِسَبَبِ مَا أَصَابَكُمْ ، فَالمُشْرِكُونَ قَدْ سَبَقَ أنْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ أَنْتُمْ فِي أحُدٍ ، فَلَمْ يَتَقَاعَسُوا ، وَلَمْ يَقْعُدُوا عَنِ الإِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَمُبَاشَرَتِهَا ، وَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ ، فَكَيْفَ تَتَرَدَّدُونَ وَأَنْتُمْ عَلَى حَقٍّ ، وَاللهُ وَعَدَكُمْ نَصْرَهُ ، وَجَعَلَ العَاقِبَةَ لَكُمْ؟ وَمِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى مُدَاوَلَةُ الأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ ، فَمَرَّةً تَكُونُ الغَلبَةُ لِلْبَاطِلِ عَلَى الحَقِّ ، إذَا أَعَدَّ لَهُ أَهْلُهُ وَاحْتَاطُوا ، وَتَرَاخَى أَهْلُ الحَقِّ ، وَمَرَّةً تَكُونُ الغَلَبَةُ لِلْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ . وَلَكِنَّ العَاقِبَةَ تَكُونُ دَائِماً لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ . وَاللهُ تَعَالَى يَبْتَلِي المُؤْمِنينَ لِيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ ، وَلِيَتّخِذَ مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالاً يُكْرِمُهُمْ بِالشَّهَادَةِ .
(2/34)
يُدَاوِلُ اللهُ الأيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ لِيَمِيزَ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، مِنَ المُنَافِقِينَ ، وَلِتَطْهُرَ نُفُوسُ بَعْضِ ضُعَفَاءِ المُؤْمِنِينَ مِن كُدُورَتِهَا ، فَتَصْفُوَ مِمَّا شَابَهَا وَخَالَطَهَا ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إلا بِالتَّجَارِبِ الكَثِيرَةِ ، وَالامْتِحَانِ بِالشَّدَائِدِ ، وَلِيَكُونَ الجِهَادُ وَالحَرْبُ فِي سَبيلِ اللهِ وَسِيلةً لِتَدْمِيرِ الكَافِرِينَ الذِينَ إذا ظَفِرُوا بَغَوا وَبَطِرُوا .
وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ .
يُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى مَنْ شَهِدَ وَقْعَةِ أحُدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْراً ، وَكَانُوا يَتَحَرَّقُونَ شَوْقاً لِلْقِتَالِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ لَهُمْ يَومٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ ، وَقَدْ أَلَحُّوا عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي الخُرُوجِ إلَى أحُدٍ لِيُقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ . وَيَقُولُ تَعَالَى لِهَؤُلاءِ : لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ المَوْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ قَبْلَ أنْ تُلاَقُوا القَوْمَ فِي مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ ، فَهَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ فَمَا بَالُكُمْ دَهِشْتُمْ عِنْدَمَا وَقَعَ المَوْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا بَالُكُمْ تَحْزَنُونَ وَتَضْعُفُونَ عَنْ لِقَاءِ مَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ؟(1)
*-ضرب المثل بالمجاهدين السابقين:
__________
(1) - انظر: تفسير الرازي (9/14). (4) انظر: تفسير الكشاف (1/465) وأيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 434-436)
(2/35)
قال تعالى: ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [آل عمران: 146-148].
فِي هَذِهِ الآيَةِ يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَمَّا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ يَوْمَ أحُدٍ ، فَقَالَ لَهُمْ : كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ وَهُوَ يُقَاتِلُ ، وَكَانَ مَعَه جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٌ ( رِبِّيُّونَ ) مِمَّنْ آمَنُوا بِهِ ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ، فَمَا وَهِنُوا ، وَمَا ضَعُفُوا بَعْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ ، وَمَا اسْتَكَانُوا ، وَمَا اسَتَذَلُّوا لِمَا أصَابَهُمْ فِي الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَفِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ دِينِهِ ، وَإِنَّمَا صَبَرُوا عَلَى قِتَالِ الأَعْدَاءِ ، وَلَمْ يَهْرُبُوا مُوَلِّينَ الأَدْبَارَ ، لأنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ فِي سَبِيلِ نَبِيِّهِمْ ، فَعَلَيْكُمْ أيُّهَا المُسْلِمُونَ أنْ تَعْتَبِرُوا بِأولَئِكَ الرِّبِّيِّينَ ، وَتَصْبِرُوا كَمَا صَبَرُوا فَإنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ ، وَسُنَّتَهُ فِي خَلْقِهِ وَاحِدَةٌ .
(2/36)
فَاحْتَسَبَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ ( الرِّبِّيُّونَ ) اللهَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الخَطْبِ ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ عِنْدَ نُزُولِ الكَوَارِث إلاَ الدُّعَاءُ إلَى اللهِ أنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بِجِهَادِهِمْ مَا كَانُوا ألمُّوا بِهِ مِنْ ذنُوبٍ ، وَتَجَاوُزَوا فِيهِ حُدُودَ الشَّرائعِ ، وَأن يُثَبِّتَ أقْدَامَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ القَوِيمِ ، حَتَّى لا تُزَحْزِحَهُم الفِتَنُ ، وَلاَ يَعْرُوهُمُ الفَشَلُ حِينَ مُقَابَلَةِ الأعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ .
فَآتَاهُمُ اللهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَى الأَعْدَاءِ ، وَهُمَا ثَوَابُ الدُّنْيا ، وَجَمَعَ لَهُمْ ، إلَى ذَلِكَ الظَّفَرِ ، حُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ ، وَهُوَ الفَوْزُ بِرُضْوَانِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يُحْسِنُونَ العَمَلَ ، لأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ سُنَّتَهُ فِي أَرْضِهِ ، وَيُظْهِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِخِلاَفَةِ اللهِ فِيهَا .
*- خطورة إيثار الدنيا على الآخرة:
وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها، قال تعالى: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) [آل عمران: 14].
(2/37)
وقال تعالى في شأن هزيمة أحد : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (152) سورة آل عمران
(2/38)
لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمُونَ إلَى المَدِينَةِ بَعْدَ مَعْرَكَةِ أحُدٍ قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ : مِنْ أَيْنََ أَصَابَنَا هَذا وَقَدْ وَعَدَنَا اللهُ تَعَالَى النَّصْرَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَفِيها يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ : إِنَّهُ صَدَقَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ بِهِ مِنْ نَصْر ، فَكُنْتُمْ تَقْتُلُونَهُمْ قَتْلاً ذَرِيعاً بِإذْنِ اللهِ ، وَسَلَّطَكُمْ عَلَيهِمْ ، حَتَّى إذَا أَصَابَكُمُ الضَّعْفُ وَالفَشَلُ ، وَعَصَيْتُمْ أمْرَ الرَّسُولِ ، وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ، ( وَهُوَ مَا وَقَع لِلرُّمَاةِ الذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أنْ يَلْزَمُوا مَوَاقِعَهُمْ فَتَخَلَّوا عَنْهَا ) ، وَكَانَ اللهُ قَدْ أَرَاكُمُ الظَّفَرَ ، وَهُوَ مَا تُحِبُّونَهُ ، فَكَانَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنيا ، وَيَطْمَعُ فِي المَغْنَمِ ، حِينَ رَأَوْا هَزِيمَةَ المُشْرِكِينَ ، فَتَرَكُوا مَوَاقِعَهُمْ عَلَى الجَبَلِ ، وَمِنْكُمْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الآخِرَةَ فِي قِتَالِهِ المُشْرِكِينَ لاَ يَلْتَفِتُ إلَى المَغْنَمِ ، فَثَبَتَ مَكَانَهُ وَقَاتَلَ ، ثُمَّ أدَالَ اللهُ المُشْرِكِينَ عَلَيكُمْ ، وَجَعَلَ لَهُمُ الغَلَبَةَ عَلَيْكُمْ لِيَخْتَبِرَكُمْ ، وَيَمْتَحِنَ ثَبَاتَكُمْ عَلَى الإِيمَانِ ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ ذَلِكَ الفِعْلَ ، وَهُوَ عِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ ، وَالهَرَبُ مِنَ المَعْرَكَةِ ، وَمَحَا أَثَرَهُ مِنْ نُفُوسِكُمْ ، حِينَمَا أَظْهَرْتُمُ النَّدَمَ ، وَرَجَعْتُمْ إلَى اللهِ ، حَتَّى صِرْتُمْ وَكَأَنَّكُمْ لَمْ تَفُشَلُوا . وَلَمْ يَسْمَحِ اللهُ باسْتِئْصَالِكُمْ لأَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ .
*- التعلق والارتباط بالدين وليس بالأشخاص
(2/39)
قال تعالى :{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران
لَمَّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أحُدٍ ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، أُشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ ، فَحَصَلَ ضَعْفٌ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ ، وَتَأَخُّرٌ عَنِ القِتَالِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيةَ ، وَفِيهَا يُذَكِّرُ المُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ قَدْ سَبَقَتُهُ رُسُلٌ ، مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ ، حِينَ سَمَاعِ إِشَاعَةِ قَتْلِ الرَّسُولِ ، ضَعْفَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَفَإِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ ، أوْ قُتِلَ ، تَرَاجَعْتُمْ وَنَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ وَمَنْ يَتَرَاجَعُ وَيَنْكُصْ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً ، لأنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العَالَمِينَ ، أمّا الذِينَ امْتَثَلُوا لأمْرِ اللهِ ، وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الشَّاكِرُونَ ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
(2/40)
لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله ربًا معبودًا وحده وبين بقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصحابة -رضي الله عنهم- من الفوضى والدهشة والاستغراب، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغرّ من جوانب منهج رسالة الإسلام؛ لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا .(1)
26- وفي غزوة الخندق دروس كثيرة منها :
*- شتان بين التصور والواقع
__________
(1) - انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/616).
(2/41)
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِىِّ قَالَ قَالَ فَتًى مِنَّا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَحِبْتُمُوهُ قَالَ نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِى . قَالَ فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ. قَالَ وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَا مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ وَلَجَعَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا. قَالَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ يَا ابْنَ أَخِى وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْخَنْدَقِ وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ اللَّيْلِ هَوِيًّا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ « مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ». يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ يَرْجِعُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَمَا قَامَ رَجُلٌ ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ « مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ ». يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّجْعَةَ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِى فِى الْجَنَّةِ فَما قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعَ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَكُنْ لِى بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِى فَقَالَ « يَا حُذَيْفَةُ فَاذْهَبْ فَادْخُلْ فِى الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنَا ».
(2/42)
قَالَ فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِى الْقَوْمِ وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ لاَ تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلاَ نَارٌ وَلاَ بِنَاءٌ فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرِ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ.
فَقَالَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِى إِلَى جَنْبِى فَقُلْتُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ وَبَلَغَنَا مِنْهُمُ الَّذِى نَكْرَهُ وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ وَلاَ تَقُومُ لَنَا نَارٌ وَلاَ يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ فَارْتَحِلُوا فَإِنِّى مُرْتَحِلٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلاَثٍ فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلاَّ وَهُوَ قَائِمٌ وَلَوْلاَ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ تُحْدِثْ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنِى ثُمَّ شِئْتُ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ قَالَ حُذَيْفَةُ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ فَلَمَّا رَآنِى أَدْخَلَنِى إِلَى رَحْلِهِ وَطَرَحَ عَلَىَّ طَرَفَ الْمِرْطِ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنِّى لَفِيهِ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ وَانْشَمَرُوا إِلَى بِلاَدِهِمْ.أخرجه أحمد(1)
__________
(1) - مسند أحمد(24038)5/393 صحيح لغيره
(2/43)
هذا تابعي يلتقي بالصحابي حذيفة ويتخيل أنه لو وجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستطاع أن يفعل ما لم يفعله الصحابة الكرام، والخيال شيء والواقع شيء آخر، والصحابة رضي الله عنهم بشر، لهم طاقات البشر، وقدراتهم، وقد قدموا كل من يستطيعون، فلم يبخلوا بالأنفس فضلا عن المال والجهد، وقد وضع صلى الله عليه وسلم الأمور في نصابها بقوله: «خير القرون قرني» فبين أن عملهم لا يعدله عمل.
إن الذين جاءوا من بعد، فوجدوا سلطان الإسلام ممتدًا، وعاشوا في ظل الأمن والرخاء والعدل، بعيدين عن الفتنة والابتلاء، هم بحاجة إلى نقلة بعيدة يستشعرون من خلالها أجواء الماضي بكل ما فيه من جهالات وضلالات وكفر، وبعد ذلك يمكنهم تقدير الجهد المبذول من الصحابة حتى قام الإسلام في الأرض(1).
*-من أدب الخلاف:
في اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ :« لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ .(2)
ففي ذلك دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورًا ومثابًا، كما أن فيه تقريرًا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم(3).
__________
(1) - انظر: من معين السيرة للشامي، ص291.
(2) - صحيح البخارى (946 )
(3) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226.
(2/44)
إن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل، إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما دام دليلها ظنيًّا محتملاً؟...
ولو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بألا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت؟(1)
وفي الحديث السابق من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصه، وفيه أيضا أن المختلفين في الفروع من المجتهدين لا إثم على المخطئ،فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ.وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(2).
27- وفي صلح الحديبية دروس كثيرة وعبر منها :
*- حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس:
__________
(1) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226.
(2) - صحيح مسلم(4584 )
(2/45)
في قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، ولم يكن من عادته أن يقام على رأسه وهو قاعد، وهذه سنة يقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر والتعظيم للإمام وطاعته ووقايته بالنفوس، وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين، وليس هذا من النوع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ أَبِى مِجْلَزٍ قَالَ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لاِبْنِ عَامِرٍ اجْلِسْ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(1).
*- هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم ؟
__________
(1) - سنن أبي داود(5231 )صحيح
(2/46)
ففي حديث عروة بن مسعود وهو يصف أصحاب رسول الله حوله قال: وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ،(1).
وعن أبي جُحَيْفَةَ قالَ :خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْهَاجِرَةِ ، فَأُتِىَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ ، فَصَلَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ .(2)
__________
(1) - البخاري مع الفتح، كتاب الشروط رقم 2731، 2732.
(2) - صحيح البخاري (187 ) 1/59 - العنزة : عصا أسفلها حديدة
(2/47)
و عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ - رضى الله عنها - قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ فَقَالَ « اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مَنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِى » . فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ « أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ » . تَعْنِى إِزَارَهُ .(1)
لقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِآثَارِهِ ، وَأَوْرَدَ عُلَمَاءُ السِّيرَةِ وَالشَّمَائِل وَالْحَدِيثِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً تُمَثِّل تَبَرُّكَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِصُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِهِ .
قَال ابْنُ رَجَبٍ : وَالتَّبَرُّكُ بِالآْثَارِ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلاَ يَفْعَلُهُ التَّابِعُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ مَعَ عُلُوِّ قَدْرِهِمْ فَدَل عَلَى أَنَّ هَذَا لاَ يُفْعَل إِلاَّ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل التَّبَرُّكِ بِالْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ وَالنَّوَوِيُّ : يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ(2).
__________
(1) - صحيح البخارى(1253 )= الحقو : الإزار =السدر : شجر النبق واحدته سدرة
(2) - الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم : بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، لابن رجب الحنبلي ص 46 ، وفتح الباري 3 / 130 - 131 - 144 ، وشرح صحيح مسلم للنووي ( 5 / 161 ، 7 / 143 / 44 ) .
(2/48)
وورد جواز الترك بآثار الصالحين عن عدة من السلف والخلف(1)
28- وفي فتح مكة وغزوة حنين حكم كثيرة منها:
*- كان لهذا الفتح آثار عظيمة دينية وسياسية واجتماعية
__________
(1) - انظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 3 / ص 486)و (ج 4 / ص 674)و(ج 8 / ص 545)و(ج 9 / ص 111)و(ج 9 / ص 160)و (ج 15 / ص 223)و شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 110)
شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 255)و (ج 3 / ص 353)وج 5 / ص 474)و (ج 5 / ص 499)و (ج 7 / ص 145)و(ج 7 / ص 181)و(ج 7 / ص 269)و (ج 8 / ص 34)و عون المعبود - (ج 1 / ص 65)(48 )و (ج 9 / ص 77)و شرح سنن النسائي - (ج 1 / ص 491)ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 13 / ص 128)وشرح الزرقاني على موطأ مالك - (ج 3 / ص 241)و دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (ج 4 / ص 477)و شرح سنن ابن ماجه - (ج 1 / ص 55)و(ج 1 / ص 105)و (ج 1 / ص 254)وشرح سنن النسائي - (ج 1 / ص 491)وفتح الباري لابن حجر - (ج 2 / ص 235)(461 )و(ج 4 / ص 280)و (ج 4 / ص 306)و (ج 4 / ص 318)(1198)و الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 10 / ص 70) ونيل الأوطار - (ج 6 / ص 135)
وفي فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 344)التبرك بآثار الصالحين
وذكر أدلة كثيرة وفي نهايتها قال :
إن التبرك بآثار الصالحين دليل على الحب ، ولا مانع منه ما دام فى الحد المعقول ، ولا ننسى فى هذا المقام قول المجنون :
أمر على الديار ديار ليلى * أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبى * ولكن حب من سكن الديارا
(2/49)
وقد بدأت هذه الآثار بصورة يلمسها كل من يمعن النظر في هذا الفتح المبارك، فأما الآثار الاجتماعية فتمثلت في رفقه صلى الله عليه وسلم بالناس وحرصه على الأخذ بأيديهم ليعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم، وبالوضع الجديد الذي سيطر على بلدهم، وتعيين من يعلمهم، ويفقههم في دينهم، فقد أبقى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في مكة بعد انصرافه عنها ليصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، وأما الآثار السياسية فقد عين عتاب بن أسيد أميرًا على مكة، يحكم في الناس بكتاب الله، فيأخذ لضعيفهم، وينتصر للمظلوم من الظالم(1)، وأما الآثار الدينية فإن فتح مكة وخضوعها لسلطان الإسلام، قد أقنع العرب جميعًا بأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده فدخلوا فيه أفواجا(2).
*- تحقق وعد الله بالتمكين للمؤمنين الصادقين
بعد ما ضحوا بالغالي والنفيس، وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسبابه، وقطعوا مراحله وتعاملوا مع سننه كسنة الابتلاء، والتدافع، والتدرج، وتغير النفوس، والأخذ بالأسباب، ولا ننسى تلك الصورة الرائعة وهي وقوف بلال فوق الكعبة مؤذنًا للصلاة بعد أن عذب في بطحاء مكة وهو يردد: «أحد أحد» في أغلاله وحديده، ها هو اليوم قد صعد فوق الكعبة، ويرفع صوته الجميل بالأذان وهو في نشوة الإيمان.(3)
__________
(1) - انظر: تأملات في سيرة الرسول، ص266.
(2) - المصدر نفسه، ص267.
(3) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 4 / ص 108)
(2/50)
*- وفي غزوة حنين قال تعالى: ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ - ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 25-27].
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِفَضْلِهِ عَلَيهِمْ ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ ، فِي نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاقِعَ كَثِيرَةٍ ( مَوَاطِنَ ) مِنْ غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ، وَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَبَتَأيِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ ، لاَ بِعَدَدِ المُسْلِمِينَ ، وَلاَ بِعُدَدِهِمْ ، وَلاَ بِعَصَبِيَّتِهِمْ ، وَلا بِقُوَّتِهِمْ ، وَلاَ بِكَثْرَةِ أمْوَالِهِمْ ، وَنَبَّهَهُمْ تَعَالَى إلى النَّصْرَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، قَلَّ الجَمْعُ أوْ كَثُرَ .
وَفِي يَوْمِ حُنَينٍ أعْجَبَتِ المُسْلِمِينِ كَثْرَتُهُمْ فَلَمْ تُفِدْهُمْ شَيْئاً ، فَوَلَّوا مُدْبِرِينَ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْضَ عَلَى سَعَتِها مِنْ شِدَّةِ فَزَعِهِمْ ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى النَّجَاةِ سَبِيلاً ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمْ إلاَّ عَدَدٌ قَلِيلٌ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ ذَلِكَ ابْتِلاءً مِنَ اللهِ لَهُمْ عَلَى عُجْبِهِم بِكَثْرَتِهِمْ . ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ نَصْرَهُ وَتَأيِيدَهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَعَلَى المُؤْمِنِينَ ، لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ قَلَّ الجَمْعُ ) .
(2/51)
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الطُمَأنِينَةَ عَلَى رَسُولِهِ ، وَعَلَىالمُؤْمِنِينَ الذِينَ ثَبَتوا مَعَهُ ، فَأذْهَبَ رَوْعَهُمْ ، وَأزَالَ حَيْرَتَهُمْ ، وَأَعَادَ إِلَيْهِمْ شَجَاعَتَهُمْ ، وَلَزِمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَكَانَهُ ، وَمَعَهُ القِلَّةُ التِي ثَبَتَتْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، وَاسْتَنْصَرَ الرَّسُولُ رَبَّهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ جُنُوداً مِنَ المَلائِكَةِ لَمْ يَرَها المُسْلِمُونَ بِأَبْصَارِهِمْ ، بَلْ وَجَدُوا أَثَرَها فِي قُلُوبِهِمْ ، بِمَا عَادَ إِلَيْهَا مِنْ رَبَاطَةَ جَأْشٍ ، وَشِدَّةِ بَأْسٍ . وَأَخَذَ الرَّسُلُ صلى الله عليه وسلم حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ قَذَفَهَا فِي وَجْهِ القَوْمِ ، فَلَمْ يَبْقَ مُقَاتِلٌ مِنْ هَوَازِنْ إلاَّ وَدَخَلَتْ فِي عَيْنِهِ أَوْ فَمِهِ حَبَّةٌ مِنْ تُرَابٍ أشْغَلَتْهُ عَنِ القِتَالِ ، وَتَرَاجَعَ الذِينَ هَرَبُوا مِنَ المُسْلِمِينَ ، إِلَى حَيْثُ كَانَ يَقِفُ رَسُولَ اللهِ وَصَحْبُهُ الثَّابِتُونَ ، وَحَمَلُوا عَلَى هَوَازِنَ فَنَصَرَهُمُ اللهُ ، وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا ، وَقَاتَلُوا رَسُولَ اللهِ ، فَأَخْزَاهُمُ اللهُ وَأَذَلَّهُمْ بِالقَتْلِ وَالسَّبْيِ ، وَهَذَا هُوَ مَصِيرُ القَوْمِ الكَافِرِينَ ، وَجَزاؤُهُمْ .
(2/52)
ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ ، مِنْ بَعْدِ القَتْلِ وَالخِزْيِ وَالتَعْذِيبِ ، عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ هَوَازِنَ فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الإِسْلاَمِ ، وَقَدْ قَدِمُوا عَلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمِينَ ، وَلَحِقُوا بِهِ فِي مَكَّةَ فِي مَكَانٍ يُعْرَفُ بِالجعْرانَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ المَوْقِعَةِ بِعِشْرِينَ يَوْماً ، وَحِينَئِذٍ خَيَّرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَبْيِهِمْ ، وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ ، فَاخْتَارُوا سَبْيَهُمْ ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلافِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ فَرَدَّهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَقَسَّمَ الأَمْوَالَ بَيْنَ المُقَاتِلِينَ .
29- وفي غزوة تبوك عظات وعبر جمة منها :
*معالم من المنهج القرآني في الحديث عن غزوة تبوك:
يقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) }[التوبة/38-40]
(2/53)
يُعَاتِبُ اللهُ تَعَالَى مَنْ تَخَلَّفَ ، مِنَ المُؤْمِنِينَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ ، وَكَانَ الْوَقْتُ حَارّاً قَائِظاً ، فَيَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ : مَا لَكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا دُعِيْتُمْ إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَكَاسَلْتُمْ وَتَبَاطَأْتُمْ ، وَمِلْتُمْ إِلَى الدَّعَةِ وَالإِقَامَةِ فِي الظِّلِ وَطِيبِ الثِّمَارِ؟ أَفَعَلْتُمْ ذَلِكَ رِضاً مِنْكُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلاً مِنَ الآخِرَةِ؟ وَمَا قِيمَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا مَتَاعُهَا إِلاَّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآخِرَةِ ، إِذْ يَنْتَظِرُونَ المُؤْمِنِينَ رِضْوانٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، وَجَنَّاتٌ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
وَإِذَا لَمْ تَنْفِرُوا مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَلَمْ تَخْرُجُوا مَعَهُ إِلَى الجِهَادِ فَإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُكُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا ، بِزَوَالِ النِّعْمَةِ وَغَيْرِهَا عَنْكُمْ ، وَفِي الآخِرَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَلاَ يَصْعُبُ عَلَى اللهِ أَنٍ يَسْتَبْدِلَ قَوْماً غَيْرَكُمْ بِكُمْ ، يَخِفُّونَ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ ، وَيُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَضُرُّ اللهَ ، لأَنَّهُ الغَنِيُّ عَنِ العِبَادِ ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ .
(2/54)
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا لَمْ تَنْصُرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَكَافِيهِ ، كَمَا تَوَلَّى نَصْرَهُ حِينَ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَكَّةَ حِينَ هَاجِرَ ، فَخَرَجَ مِنْهَا هَارِباً بِصُحْبَةِ صَدِيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَجَأَ إلَى غَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثَارِهِمَا حَتَّى وَقَفُوا بِبَابِ الغَارِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكرٍ جَزِعاً : لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ لَرَآنَا . فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ طُمَأْنِينَتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَأَيَّدَهُ بِالمَلاَئِكَةِ تَحْفَظَهُ وَتَحْمِيهِ ( بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ وَأَهْلَهُ السُّفْلَى ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الإِيمَانِ ( لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) هِيَ الْعُلْيَا ، وَاللهُ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ ، وَهُوَ مَنِيعُ الْجَانِبِ لاَ يُضَامُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ .
(2/55)
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ ، وَالْخُرُوجِ جَمِيعاً مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَعَاهُمْ إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأَلْزَمَهُمْ بِالخُرُوجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ، فَقَالَ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ، وَأَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ ، وَرُكْبَاناً وَمُشَاةً وَأَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ ، لأَنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرُ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا ، لأَنَّهُ لاَ عِزَّ لِلأُمَمِ ، وَلاَ سِيَادَةَ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ الحَرْبِيَّةِ ، وَفِيهِ أَيْضاً خَيْرُهُمْ فِي الدِّينِ لأَنَّهُ لاَ سَعَادَةَ لِمَنْ لَمْ يَنْصُرِ الحَقَّ ، وَيُقِمِ العَدْلَ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى وَالعَمَلِ بِشَرْعِ اللهِ .
وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ . }*- إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا -مسلمهم وكافرهم على السواء-
لأن قوة الروم كانت في حس العرب لا تقاوم، ولا تغلب، ومن ثم فقد فزعوا من ذكر الروم وغزوهم، ولعل الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في غزوة (مؤتة) كانت مؤكدة على ما ترسخ في ذهن العربي في جاهليته من أن الروم قوة لا تقهر، فكان لا بد من هذا النفير العام لإزاحة هذه الهزيمة النفسية من نفوس العرب.
*- إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة
(2/56)
قادرة على تحدي القوى العظمى عالميا -حينذاك- ليس بدافع عصبي أو عرقي، أو تحقيق أطماع زعامات معاصرة، وإنما بدافع تحريري؛ حيث تدعو الإنسانية إلى تحرير نفسها من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ولقد حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالا فحققوا انتصارا للمسلمين دون قتال، حيث أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية .
30- وفي حجة الوداع حكم عظيمة منها :
* تربية المجتمع على مبادئ أساسية:
أ- الأخوة في الله هي العروة الوثقى التي تربط بين جميع المسلمين ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [الحجرات: 10] فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ . أَىُّ يَوْمٍ هَذَا » . قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا » . قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا » . قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا » . فَأَعَادَهَا مِرَارًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ « اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ » . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ - « فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ».(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(1739 )
(2/57)
ب- الوقوف بجانب الضعيف حتى لا يكون هذا الضعف ثغرة في البناء الاجتماعي، فأوصى صلى الله عليه وسلم في خطبته بالمرأة والرقيق على أنهما نموذجان عن الضعفاء(1)، فقد شدد صلى الله عليه وسلم في وصيته على الإحسان إلى الضعفاء(2)وأوصى خيرا بالنساء، وأكد في كلمة مختصرة جامعة القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية(3).
ج- التعاون مع الدولة الإسلامية على تطبيق أحكام الإسلام، والالتزام بشرع الله، ولو كان الحاكم عبدًا حبشيًّا، فإن في ذلك الصلاح والفلاح، والنجاة في الدنيا والآخرة(4)فقد بين صلى الله عليه وسلم العلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنها تعتمد على السمع والطاعة ما دام الرئيس يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا مال عنهما فلا سمع ولا طاعة، فالحاكم أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى(5).
د- المساواة بين البشر: فقد قال صلى الله عليه وسلم: « " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ فَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ ، وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ فَضْلٌ ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ فَضْلٌ ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ فَضْلٌ ، إِلَّا بِالتَّقْوَى " »(6)
__________
(1) - انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص304.
(2) - انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص575.
(3) - انظر: فقه السيرة للبوطي، ص332.
(4) - انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص576.
(5) - انظر: فقه السيرة للبوطي، ص333.
(6) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 12 / ص 360)(14444)وأحمد3/411 وهو صحيح لغيره
(2/58)
حيث حدد أن أساس التفاضل لا عبرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، وإنما أساس التفاضل قيمة خلقية راقية ترفع مكانة الإنسان إلى مقامات رفيعة جدا(1).
هـ- تحديد مصدر التلقي: وقد حدد صلى الله عليه وسلم مصدر التلقي والطريقة المثلى لحل مشاكل المسلمين التي قد تعترض طريقهم في الرجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعد الاعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال، وهما: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبين للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليست وقفًا على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأي تطور حضاري أو عرف زمني أي سلطان أو تغلب عليهما(2)
__________
(1) - انظر: الموسوعة في سماحة الإسلام، عرجون (2/876).
(2) - انظر: فقه السيرة للبوطي، ص333.
(2/59)
لقد وصف صلى الله عليه وسلم الداء والدواء، ووضع العلاج لكل المشكلات بالالتزام التام بما جاء من أحكام من في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: « تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ »(1)هذا هو العلاج الدائم، وقد كرر صلى الله عليه وسلم نداءه للبشرية عامة، عبر الأزمنة والأمكنة، بوجوب الاهتداء بالكتاب والسنة في حل جميع المشكلات التي تواجه البشرية، فإن الاعتصام بهما يجنب الناس الضلال ويهديهم إلى التي هي أقوم في الحاضر والمستقبل، لقد اجتازت تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه حدود الجزيرة، واخترقت حواجز الزمن، وأسوار القرون، وظل يتردد صداها حتى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلم يكن يخاطب سامعيه فيقول لهم: أيها المؤمنون، أو أيها المسلمون، أو أيها الحجاج.. بل كان يقول لهم: يا أيها الناس، وقد كرر نداءه إلى الناس كافة مرات متعددة دون أن يخصصه بجنس أو بزمان أو مكان أو لون، فقد بعثه الله للناس كافة وأرسله رحمة للعالمين(2).
31- حقوقه صلّى الله عليه وسلّم على أمته
__________
(1) - موطأ مالك (1628) 900/2 صحيح لغيره
(2) - انظر: الجانب السياسي في حياة الرسول، ص131، أحمد محمد باشميل.
(2/60)
للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم حقوق على أمته وهي كثيرة, منها: الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم قولاً وفعلاً وتصديقه في كل ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم, وجوب طاعته والحذر من معصيته صلّى الله عليه وسلّم، ووجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه, وإنزاله منزلته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير, واتباعه واتخاذه قدوة وأسوة في جميع الأمور, ومحبته أكثر من النفس, الأهل والمال والولد والناس جميعاً, واحترامه وتوقيره ونصر دينه والذب عن سنته صلّى الله عليه وسلّم, والصلاة عليه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ ». (1).
وإليك هذه الحقوق بالتفصيل والإيجاز كالتالي:
__________
(1) سنن أبى داود (1049 ) صحيح =أَرَمَ : بلى = أرمت : بليت
(2/61)
* ـ الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه فيما أتى به قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} سورة التغابن, الآية: 8. , {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة الأعراف, الآية: 158., {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة الحديد, الآية: 28. , {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} سورة الفتح, الآية: 13،وقال صلّى الله عليه وسلّم: « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِى وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ». (1).
والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم هو تصديق نبوته, وأن الله أرسله للجن والإنس, وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله, ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان, بأنه رسول الله, فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك العمل بما جاء به تمَّ الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم(2).
__________
(1) صحيح مسلم (135 )
(2) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للقاضي عياض 2/539.
(2/62)
* ـ وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم والحذر من معصيته, فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} سورة الأنفال, الآية: 20., وقال تعالى :{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} سورة الحشر, الآية: 7. وقال تعالى :{ {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} سورة النور, الآية: 54., وقال تعالى :{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النور, الآية: 63, وقال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب, الآية: 71 , وقال تعالى : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} سورة الأحزاب, الآية: 36 , وقال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} سورة النساء, الآيتان: 13, 14..
(2/63)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم « مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ..» (1), وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى » . (2).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ». (3).
__________
(1) البخاري ( 7137)
(2) البخاري ( 7280)
(3) مسند أحمد (5233)صحيح لغيره
(2/64)
* ـ اتباعه صلّى الله عليه وسلّم واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه, قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران, وقال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب, وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة الأعراف, الآية: 158، فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته, فعن حُمَيْدَ بْنُ أَبِى حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى » . (1).
__________
(1) البخاري (5063)
(2/65)
* ـ محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين, قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ »(1) . وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَعْدَدْتَ لَهَا » فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ وَلاَ صَدَقَةٍ ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . قَالَ « أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » . (2)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ « وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ». قَالَ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ».
__________
(1) صحيح البخارى (15 )
(2) صحيح البخارى 9/81(7153 ). السدة : الظلال المسقفة عند باب المسجد وحوله وأصله الباب والظلة تجعل فوقه
(2/66)
قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ. (1).
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِى . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ » . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: « الآنَ يَا عُمَرُ » (2),وعَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِى رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ » . (3).
وعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ». (4).
__________
(1) صحيح مسلم (6881 )
(2) صحيح البخارى (6632 )
(3) صحيح البخارى 8/49(6169 ).
(4) صحيح مسلم (160)
(2/67)
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ »(1).
ولاشك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته, فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاقة في رضى الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم, ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه رضي به رسولاً, وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا قال القائل:
تعصي الإله وأنت تُظْهر حُبَّهُ ... هذا لعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته ... إن المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ(2)
وعلامات محبته صلّى الله عليه وسلّم تظهر في الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم, واتباع سنته, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, والتأدب بآدابه, في الشدة والرخاء, وفي العسر واليسر, ولا شك أن من أحب شيئاً آثره, وآثر موافقته, وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً(3).
__________
(1) صحيح البخارى (16 )1/11
(2) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/549 و2/563.
(3) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/571 –582.
(2/68)
ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ »(1). أَمَّا النَّصِيحَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصْدِيقه عَلَى الرِّسَالَة ، وَالْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ ، وَطَاعَته فِي أَمْرِهِ وَنَهْيه ، وَنُصْرَتِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ ، وَمُوَالَاة مَنْ وَالَاهُ ، وَإِعْظَام حَقّه ، وَتَوْقِيره ، وَإِحْيَاء طَرِيقَته وَسُنَّته ، وَبَثّ دَعَوْته ، وَنَشْرِ شَرِيعَته ، وَنَفْي التُّهْمَة عَنْهَا ، وَاسْتِثَارَة عُلُومهَا ، وَالتَّفَقُّه فِي مَعَانِيهَا ، وَالدُّعَاء إِلَيْهَا ، وَالتَّلَطُّف فِي تَعَلُّمهَا وَتَعْلِيمهَا ، وَإِعْظَامهَا ، وَإِجْلَالهَا ، وَالتَّأَدُّب عِنْد قِرَاءَتهَا ، وَالْإِمْسَاك عَنْ الْكَلَام فِيهَا بِغَيْرِ عِلْم ، وَإِجْلَال أَهْلهَا لِانْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا ، وَالتَّخَلُّق بِأَخْلَاقِهِ ، وَالتَّأَدُّب بِآدَابِهِ ، وَمَحَبَّة أَهْل بَيْته وَأَصْحَابه ، وَمُجَانَبَة مَنْ اِبْتَدَعَ فِي سُنَّته ، أَوْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابه ، وَنَحْو ذَلِكَ (2).
__________
(1) صحيح مسلم(205 )
(2) شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 144) و الشفاء بتعريف حقوق المصطفي صلّى الله عليه وسلّم للقاضي حياض 2/582 -584.
(2/69)
* ـ احترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (9) سورة الفتح, وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) سورة الحجرات, وقال تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور.
وحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته, وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه, وسنته, وسماع اسمه وسيرته, وتعلم سنته, والدعوة إليها, ونصرتها(1).
__________
(1) الشفاء 2/595 و612.
(2/70)
* ـ الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب, ,وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِىَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِى الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِى إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِىَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ »(1). (,وعَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمْ يُصِلِّ عَلَىَّ ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ « فَلَمْ يُصَلِّ عَلَىَّ » صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيراً.(2) , عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ ». (3), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام“(4),وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ارْتَقَى الْمِنْبَرَ فَقَالَ :« آمِينَ آمِينَ آمِينَ ».
__________
(1) صحيح مسلم (875 )
(2) مسند أحمد (1762)صحيح
(3) سنن الترمذى (3708 ) صحيح = الترة : الحسرة والندامة
(4) النسائي 3/43, وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/274.
(2/71)
فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا؟ فَقَالَ :« قَالَ لِى جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَقُلْتُ آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَقُلْتُ آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَقُلْتُ آمِينَ ». (1),وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلاَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ». (2).
* وللصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى واحداً وأربعين موطناً منها على سبيل المثال: الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد, وعند الخروج منه, وبعد إجابة المؤذن, وعند الإقامة, وعند الدعاء, وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة, وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم, وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة, وعند كتابة اسمه, وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات, وآخر دعاء القنوت, وعلى الصفا والمروة, وعند الوقوف على قبره, وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة, وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه, وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه(3).
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 304)(8767)صحيح
(2) سنن أبى داود (2043 )صحيح
(3) راجع كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام صلّى الله عليه وسلّم للإمام ابن القيم رحمه لله تعالى.
(2/72)
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا حديث أنس رضي الله عنه لكفى عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِى مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ » (1).
* ـ وجوب التحاكم إليه والرضي بحكمه صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء, وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء ،ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) سنن النسائى (1305)صحيح
(2/73)
* ـ إنزاله مكانته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير فهو عبد لله ورسوله, وهو أفضل الأنبياء والمرسلين, وهو سيد الأولين والآخرين, وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود, ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}(1), وقال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (50) سورة الأنعام, وقال تعالى : {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) }سورة الجن, وقد مات صلّى الله عليه وسلّم كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } (30) سورة الزمر, وقال تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (34) سورة الأنبياء, وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} سورة الأنعام, الآيتان: 162, 163..
__________
(1) سورة الأنعام, الآية: 50.
(2/74)
و عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، قَالَ : أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ذَاتَ يَوْمٍ فَصَلَّى الْغَدَاةَ ، ثُمَّ جَلَسَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الضُّحَى ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ جَلَسَ مَكَانَهُ حَتَّى صَلَّى الأُولَى ، وَالْعَصْرَ ، وَالْمَغْرِبَ ، كُلُّ ذَلِكَ لا يَتَكَلَّمُ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى أَهْلِهِ ، فَقَالَ النَّاسُ لأَبِي بَكْرٍ : سَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُهُ ؟ صَنَعَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ قَطُّ ، فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَأَمْرِ الآخِرَةِ ، فَجُمِعَ الأَوَّلُونَ وَالآخَرُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَفَظِعَ النَّاسُ لِذَلِكَ حَتَّى انْطَلِقُوا إِلَى آدَمَ وَالْعَرَقُ كَادَ يُلْجِمُهُمْ ، فَقَالُوا : يَا آدَمُ ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، قَالَ : قَدْ لَقِيتُ مِثْلَ الَّذِي لَقِيتُمْ ، انْطَلِقُوا إِلَى أَبِيكُمْ بَعْدَ أَبِيكُمْ إِلَى نُوحٍ : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }[سورة آل آية 33 ] ، قَالَ : فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى نُوحٍ ، فَيَقُولُونَ : اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ وَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ ، وَاسْتَجَابَ لَكَ فِي دُعَائِكَ ، وَلَمْ يَدَعْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، فَيَقُولُ : لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي ، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلا ، قَالَ : فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ، فَيَقُولُ : لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي ، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى مُوسَى ، فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا ، فَيَقُولُ مُوسَى :
(2/75)
لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي ، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى عِيسَى ، فَإِنَّهُ يُبْرِيءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى ، فَيَقُولُ عِيسَى : لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي ، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، انْطَلِقُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَلْيَشْفَعْ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ، قَالَ : فَيَنْطَلِقُ ، فَآتِي جِبْرِيلَ ، فَيَأْتِي جِبْرِيلُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ، قَالَ : فَيَنْطَلِقُ بِهِ جِبْرِيلُ ، فَيَخِرُّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ : يَا مُحَمَّدُ ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، قَالَ : فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى رَبِّهِ خَرَّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ أُخْرَى ، فَيَقُولُ اللَّهُ : يَا مُحَمَّدُ ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، قَالَ : فَيَذْهَبُ لَيَقَعُ سَاجِدًا ، قَالَ : فَيَأْخُذُ جِبْرِيلُ بِضَبْعَيْهِ ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الدُّعَاءِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى بِشْرٍ قَطُّ ، قَالَ : فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، جَعَلْتَنِي سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ ، وَأَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرَ ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ لأَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ صَنْعَاءَ ، وَأَيْلَةَ ، ثُمَّ يُقَالُ : ادْعُوا الصِّدِّيقِينَ فَيَشْفَعُونَ ، ثُمَّ يُقَالُ : ادْعُوا الأَنْبِيَاءَ ، قَالَ : فَيَجِيءُ النَّبِيُّ مَعَهُ الْعِصَابَةُ ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، ثُمَّ يُقَالُ : ادْعُوا الشُّهَدَاءَ ، قَالَ : فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ
(2/76)
أَرَادُوا ، فَإِذَا فَعَلَتِ الشُّهَدَاءُ ذَلِكَ ، قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ : أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، ادْخُلُوا جَنَّتِي مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ، قَالَ : فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، قَالَ : ثُمَّ يَقُولُ : انْظُرُوا فِي النَّارِ هَلْ مِنْ أَحَدٍ عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ ، قَالَ : فَيَجِدُونَ فِي النَّارِ رَجُلا ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُسَامِحُ النَّاسَ فِي الْبَيْعِ ، فَيَقُولُ : أَسْمِحُوا لِعَبْدِي كَإِسْمَاحِهِ إِلَى عَبِيدِي ، ثُمَّ يُخْرِجُونَ مِنَ النَّارِ رَجُلا آخَرَ ، فَيَقُولُ : هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ ، فَيَقُولُ : لا ، غَيْرَ أَنِّي أَمَرْتُ وَلَدِي إِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي بِالنَّارِ ، ثُمَّ اطْحَنُونِي حَتَّى إِذَا كُنْتُ مِثْلَ الْكُحْلِ ، فَاذْهَبُوا إِلَى الْبَحْرِ فَذَرُّونِي فِي الرِّيحِ ، قَالَ : فَقَالَ اللَّهُ : لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : مِنْ مَخَافَتِكَ ، قَالَ : فَيَقُولُ : انْظُرْ إِلَى مُلْكِ أَعْظَمِ مَلِكٍ ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهُ وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ ، قَالَ : فَيَقُولُ : لِمَ تَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ ؟ فَذَلِكَ الَّذِي ضَحِكْتُ مِنْهُ مِنَ الضُّحَى .(1)
- - - - - - - - - - - - - - - -
المصادر والمراجع الهامة
1. تفسير الطبري
2. تفسير ابن كثير
3. تفسير ابن أبي حاتم
4. تفسير الرازي
5. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
6. في ظلال القرآن
7. الوسيط لسيد طنطاوي
8. أيسر التفاسير للجزائري
9. التفسير الميسر
10. تفسير الكشاف
11. أيسر التفاسير لأسعد حومد
12. تفسير السعدي
13. أضواء البيان
14. التحرير والتنوير
15. المنتخب من تفسير القرآن
16. موطأ مالك
17. صحيح البخارى
18. صحيح مسلم
19. سنن أبى داود
20. سنن الترمذى
__________
(1) - مسند أبي عوانة(332 )صحيح
(2/77)
21. سنن النسائى
22. سنن ابن ماجه
23. مصنف عبد الرزاق مشكل
24. مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل
25. مسند أحمد
26. أخبار مكة للأزرقي
27. أخبار مكة للفاكهي
28. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
29. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
30. المستدرك على الصحيحين للحاكم
31. المعجم الكبير للطبراني
32. المعجم الأوسط للطبراني
33. المعجم الصغير للطبراني
34. دلائل النبوة للبيهقي
35. السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
36. شعب الإيمان للبيهقي
37. سنن الدارمى
38. مسند البزار 1-14
39. مسند أبي يعلى الموصلي
40. مسند الحميدى
41. صحيح ابن حبان
42. صحيح ابن خزيمة
43. مسند الشاميين للطبراني
44. مجمع الزوائد
45. شرح معاني الآثار
46. مشكل الآثار للطحاوي
47. السلسلة الصحيحة - مختصرة
48. صحيح أبي داود
49. صحيح ابن ماجة
50. صحيح الترغيب والترهيب
51. صحيح الترمذي
52. صحيح السيرة النبوية
53. صحيح وضعيف الجامع الصغير
54. المنتقى - شرح الموطأ
55. فتح الباري لابن حجر
56. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
57. شرح ابن بطال
58. شرح النووي على مسلم
59. عون المعبود
60. فيض القدير
61. فتاوى الأزهر
62. فتاوى السبكي
63. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
64. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
65. مجموع فتاوى ابن تيمية
66. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
67. فتاوى يسألونك
68. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
69. الفقه الإسلامي وأدلته
70. الموسوعة الفقهية الكويتية
71. طرح التثريب
72. نيل الأوطار
73. الفقه على المذاهب الأربعة
74. موسوعة خطب المنبر
75. الوابل الصيِّب لابن القيم
76. الفوائد لابن القيم
77. بدائع الفوائد
78. رياض الصالحين للنووي
79. عيون الأثر
80. قصص الأنبياء
81. الشفا
82. السيرة النبوية لأبي شهبة
83. فقه السيرة للغزالي
84. فقه السيرة النبوية للبوطي
85. السيرة النبوية لأبي فارس
(2/78)
86. السيرة النبوية الصحيحة للعمري
87. الأساس في السنة وفقهها- السيرة النبوية
88. دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
89. السيرة النبوية لابن كثير
90. قراءة سياسية للسيرة النبوية
91. دولة الرسول من التكوين إلى التمكين
92. الموسوعة في سماحة الإسلام، عرجون
93. الجانب السياسي في حياة الرسول
94. صفة الغرباء، سلمان العودة
95. دولة الرسول من التكوين إلى التمكين
96. فقه الدعوة، عبد الحليم محمود
97. التمكين للأمة الإسلامية
98. فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك
99. جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام للإمام ابن القيم
100. الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون
101. مقومات الدعوة والداعية، بادحدح
102. التربية القيادية
103. التاريخ الإسلامي للحميدي
104. الهجرة النبوية المباركة
105. المستفاد من قصص القرآن
106. الهجرة النبوية المباركة
107. محمد رسول الله، محمد عرجون
108. السيرة النبوية الصحيحة
109. حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول
110. السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر
111. الروض الأنف
112. زاد المعاد
113. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد
114. سيرة ابن هشام
115. السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
116. السيرة النبوية السباعي
117. حياة الصحابة للكاندهلوى
118. موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
119. حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
120. الطبقات الكبرى لابن سعد
121. سير أعلام النبلاء [ مشكول + موافق للمطبوع ]
122. السيرة النبوية لابن إسحاق
123. تاريخ الرسل والملوك
124. البداية والنهاية لابن كثير مدقق
125. تاريخ الإسلام للذهبي
126. النهاية في غريب الأثر
127. تاج العروس
128. لسان العرب
129. مختار الصحاح
130. برنامج قالون
131. المكتبة الشاملة 2
132. كثير من مواقع النت
الفهرس العام
آدم (عليه السلام) ... 4
العبرة من قصة آدم عليه السلام ... 15
قصة ابني آدم ... 19
(2/79)
بعض الدروس والعبر ... 21
إدريس (عليه السلام) ... 23
الدروس والعبر ... 23
*- هل إدريس أول الرسل ؟ ... 23
نوحُ (عليه السلام) ... 25
بعض الدروس والعبر من قصة نوح عليه السلام ... 27
وقفات مع قصة نوح عليه السلام ... 30
هودُ (عليه السلام) ... 32
وقفات مع قصة هود عليه السلام ... 33
صالح عليه السلام ... 39
إبراهيم (عليه السلام) ... 43
لوطٌ عليه السلام ... 53
إسماعيلُ عليه السلام ... 57
إسحاقُ عليه السلام ... 62
يعقوبُ عليه السلام ... 64
يوسفُ عليه السلام ... 65
الدروس والعبر في قصة يوسف عليه السلام ... 75
أيوبُ عليه السلام ... 82
الدروس والعبر ... 84
ذو الكفل عليه السلام ... 87
يونسُ عليه السلام ... 88
الدروس والعبر ... 90
(1) الثمار العقدية للاستغفار ... 90
2- الاستغفار توحيد وتمجيد: ... 92
3-من آثارِ الاستِغفارِ النجاةُ من الفِتَن والمكدِّرات: ... 93
4- الاستغفار استقرار نفسي: ... 93
5-الاستغفار سعادة ورضوان: ... 93
6-الآثار الاجتماعية للاستغفار: ... 94
شعيبُ عليه السلام ... 96
الدروس والعبر ... 101
موسى وهارون عليهما السلام ... 104
موسى والخضر ... 114
قصة بقرة بني إسرائيل ... 116
قصة قارون مع موسى ... 119
بعض الدروس المستفادة من القصة: ... 123
إلياس (عليه السلام) ... 126
اليسع (عليه السلام) ... 127
داود(عليه السلام) ... 129
الدروس والعبر ... 137
1- تجليات فضل اللَّه على عباده. ... 137
2- الشكر قيد النعمة: ... 137
3- بنو إسرائيل لم يشكروا نعمة اللَّه عليهم: ... 137
4- أفضل ما أكل الإنسان من عمل يده: ... 139
سليمانُ(عليه السلام) ... 143
الدروس والعبر ... 150
بين داود وسليمان عليهما السلام ... 150
زكريا (عليه السلام) ... 153
يحيى(عليه السلام) ... 156
عيسى(عليه السلام) ... 158
الدروس والعبر ... 167
1-كم حملت أم عيسى عليه السلام؟ ... 167
محمد صلى الله عليه وسلم ... 169
الشمائلُ العامَّةُ ... 209
الشمائل المحمدية ... 214
كان خُلُقه القرآن، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، ... 215
بعضُ شمائله ووصاياه ... 220
الأمرُ بالتيسير والرفق ... 220
ومن ذلك الحذر من الغضب ... 221
ومنه الحلم والأناة ... 221
ومن ذلك الوصية بالجار ... 221
(2/80)
الرحمة بالأطفال ... 222
حنانه وشفقته بالمريض ... 223
ومن ذلك رحمته بالنساء والبنات ... 223
خلقه في الوفاء : ... 224
وكان وفياً لأقاربه ... 225
وفيًّا مع أصحابه ... 226
وفيًّا مع أعدائه ... 226
حياؤه صلى الله عليه وسلم : ... 228
حسن خلقه وعشرته : ... 231
هديهُ صلى الله عليه وسلم في جلوسه واتكائه : ... 232
هدية صلى الله عليه وسلم في مشيه ... 233
ضحك النبي صلى الله عليه وسلم : ... 233
مزاحه ومداعبته صلى الله عليه وسلم : ... 236
زهده صلى الله عليه وسلم : ... 238
عدل النبي صلى الله عليه وسلم : ... 242
الدروس والعبر ... 245
10- تهيئة الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: ... 247
* بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم: ... 247
* بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته: ... 248
13- الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه: ... 253
14- التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان: ... 254
15- شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة: ... 255
16- فقه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع السنن ... 255
17- البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي ... 256
18- حكمة الابتلاء وفوائده: ... 257
*- تصفية الصفوف: ... 257
*- تربية الجماعة المسلمة: ... 257
*- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة: ... 257
*- معرفة حقيقة النفس: ... 258
*- معرفة قدر الدعوة: ... 258
*- الدعاية لها: ... 258
*- جذب بعض العناصر القوية إليها: ... 258
*- رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات: ... 258
19- الحكمة من الهجرة إلى الحبشة: ... 259
20- وفي الرحلة للطائف حكم عديدة : ... 259
21- وفي حادثة الإسراء والمعراج عبر منها : ... 261
22- وفي الهجرة للمدينة المنورة دروس كثيرة منها : ... 262
*- الصراع بين الحق والباطل ... 262
*- مكر خصوم الدعوة بالداعية: ... 262
* الأخذ بالأسباب أمر ضروري: ... 263
*- الإيمان بالمعجزات الحسية: ... 263
*- جواز الاستعانة بالكافر المأمون: ... 263
*- دور المرأة في الهجرة: ... 264
*- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح: ... 265
(2/81)
*- فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس: ... 266
23 - وفي المدينة المنورة دروس كثيرة منها: ... 267
*- المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع: ... 267
*- التربية بالقدوة العملية: ... 267
*- آصرة العقيدة هي أساس الارتباط: ... 267
*- الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني: ... 269
24 - وفي غزوة بدر دروس شتى منها: ... 269
*- حقيقة النصر من الله تعالى: ... 269
*-الولاء والبراء من فقه الإيمان: ... 270
25 - وفي غزوة أحد دروس وعبر كثيرة منها: ... 271
*- تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني: ... 271
*- تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد: ... 272
*-ضرب المثل بالمجاهدين السابقين: ... 273
*- خطورة إيثار الدنيا على الآخرة: ... 274
*- التعلق والارتباط بالدين وليس بالأشخاص ... 274
26 - وفي غزوة الخندق دروس كثيرة منها: ... 275
*- شتان بين التصور والواقع ... 275
*-من أدب الخلاف: ... 276
27 - وفي صلح الحديبية دروس كثيرة وعبر منها: ... 277
*- حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس: ... 277
*- هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم؟ ... 278
28 - وفي فتح مكة وغزوة حنين حكم كثيرة منها: ... 279
*- كان لهذا الفتح آثار عظيمة دينية وسياسية واجتماعية ... 279
*- تحقق وعد الله بالتمكين للمؤمنين الصادقين ... 279
وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ.} *- إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا -مسلمهم وكافرهم على السواء- ... 282
*- إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة ... 282
30 - وفي حجة الوداع حكم عظيمة منها: ... 282
* تربية المجتمع على مبادئ أساسية: ... 282
31 - حقوقه صلّى الله عليه وسلّم على أمته ... 284
(2/82)
القصص القرآني ياسر برهامي
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود
من أعجب القصص قصة أصحاب الأخدود، وفيها بيان فضل العلم وأهمية الصبر عليه، وفضل ثبات المؤمن على الحق، وعدم قبوله للتنازلات التي تفسد دعوته ودينه، وفيها إشارة إلى نصر الله تعالى لأوليائه الصالحين على عدوهم حسياً ومعنوياً، بل سماه فوزاً كبيراً.
(1/1)
الهدف من الخلق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فإنه كلما ازدادت المحن على أمة الإسلام، وازداد ظلم أعدائها من الكفرة والمنافقين، احتاج الإنسان أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليراجع الأهداف والنتائج التي ينبغي أن تكون منه على بال، وأن يعلم الهدف الذي يسعى إليه أهل الإيمان، والذي من أجله يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، إن وضوح الهدف بإذن الله تبارك وتعالى إذا كان فعلاً مستقى من الكتاب والسنة يبعد عن الإنسان شبح اليأس، ويمنعه من القنوط أو من الشعور بالفشل في تحقيق الأهداف، فكثير من الناس إذا لم ير بعض الأهداف تتحقق أمامه يغفل عن الهدف الأعلى والأسمى الذي يريده كل مؤمن، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى، وأن يوفق في ذلك، فلابد أن يكون هذا الهدف واضحاً أمامنا، أما تحقيق نصر في موضع معين، أو زمن معين فهذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.
وهو سبحانه وتعالى لا يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة مستمرة، فقد يتأخر النصر، وقد تحصل هزيمة، وقد يقع للمسلمين قتل وأسر وجراح وآلام كثيرة، ولكنهم إذا فهموا قضيتهم وعلموا هدفهم الحقيقي، وأن النتائج التي تتحقق على أرض الواقع ليس مقياسها حصول التمكين من عدمه، بل حقيقة الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن الحكمة من وجود البشر بل وجود الإنس والجن فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إذاً لابد أن يكون هدفنا هو تحقيق العبودية لله عز وجل، وأنت أيها المؤمن لا يمنعك من ذلك مانع مهما كان الأمر، وسواء كنت ممكناً على رءوس الناس أو كنت مستضعفاً في غياهب السجون، فأنت لا يمنعك مانع من عبودية الله عز وجل، في فقرك أو غناك، في صحتك أو سقمك، في شبابك أو هرمك، أنت تعبد الله سبحانه وتعالى على أي حال؛ لأنك علمت الهدف من وجودك، وكذلك أنت تسعى إلى أن يؤمن الناس حتى ولو قتل جميع أهل الإيمان، ونحن أيضاً نسعى إلى أن يؤمن الناس وأن يعبدوا ربهم سبحانه وتعالى، فهذه غايتنا التي نسعى إليها؛ لأن هذا أمر يحبه الله وشرع من أجله الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيله، وأما أن تكون نهاية المطاف في حقنا أو في حق الطائفة التي نحيا وسطها أن يمكن لهذه الطائفة فهذا خطأ.
(1/2)
أسباب عدم تمكين أهل الحق
اعلم أن طائفة الحق قد لا تمكن لأمور: إما لأن الله سبحانه وتعالى ادخر لهم من الفضل والإنعام ما لا يخطر ببالهم، ويرشدنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (ما من سرية تسلم وتغنم إلا قد تعجلوا ثلثي أجرهم، وما من سرية تخفق وتصاب إلا كان لهم أجرهم كاملاً)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وإما أن يكون ذلك لقصور وجد في السائرين إلى الله سبحانه وتعالى ويحتاج منهم إلى تعديل، وغالباً لا يكون النظر في التعديل إلا عند أوقات الشدائد والمحن، فيفكر الإنسان من أين أصابنا ما أصابنا؟ كما قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
فهكذا يبين لنا كتاب ربنا سبحانه وتعالى الحكم من وراء تقدير المحن، فيكون في ضمنها منح وفضائل على أهل الإسلام؛ ليراجعوا قلوبهم وأعمالهم ودعوتهم، ويتأملوا فيما يجري حولهم من تغير موازين القوى حتى تكون النهاية بفضل الله سبحانه وتعالى حتماً وقطعاً لصالح أهل الإسلام، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك لجيل أو طائفة، ولذلك نقول: عندما يشتد الأمر على المسلمين يحتاجون إلى الرجوع إلى كتاب الله والسنة؛ ليجدوا في الكتاب والسنة قصص الدعاة إلى الله عز وجل، وقصص أنبياء الله سبحانه وتعالى.
ومن لم تثمر دعوته النتائج المرجوة التي قد يرجوها الإنسان، فلا يظن أن النتيجة هي أن يحصل التمكين وأن يظهر الدين ويعلو، فهذا {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، وقد قص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه أنه عرضت عليه الأمم صلى الله عليه وسلم فرأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد.
وبعض الدعاة إلى الله عز وجل كانت نتيجة دعوتهم في الدنيا موت جميع المؤمنين بل قتلهم، وكان في ذلك الانتصار، وكان في ذلك الفوز العظيم، فقصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله عز وجل في كتابه ترشدنا إلى هذه النقطة العظيمة الأهمية، فنحن نريد أن يؤمن الناس مهما حصل بعد ذلك، وإذا حققنا معاني العبودية لله سبحانه وتعالى فلا يضرنا ما جرى بعد ذلك، فإن الخطر الأعظم في فترات المحن أن يقع التنازل عن مفهوم من مفاهيم العبودية، أو أصل من أصول الإيمان، أو أن يحرف الدين ويبدل، أو أن يعتقد الناس خلاف الحق تحت ضغط الباطل، فنحن نعلم يقيناً أن الموازين بيد الله سبحانه وتعالى، وأن القوى ليست بأيدي البشر، بل الله هو الذي يهبهم الملك إذا أراد وينزعه منهم إذا شاء كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
فإذا أيقنا بذلك، فإن القضية التي ابتلينا بها اليوم هي أن جعل الله عز وجل القوة بأيدي أعدائنا؛ لينظر كيف نثبت على الإيمان، وكيف نزداد لله إيماناً وتسليماً في فترات المحن والشدائد، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويقلب قلوب العباد بما أراد، ونحن نرى في واقع الحال من ينهار إيمانه، ويزول التزامه عندما يقف في محنة، وعندما يرى أمته مستضعفة ولا يدري ما المخرج لها مما يصيبها من أعدائها، فيختار لها طريق الذل والهوان، وهو طريق التبعية والخنوع لعدوها، وأن تقبل بما يصلها من ذلك العدو الذي كان بالأمس يترك الناس أن يقولوا ما يريدون، أما اليوم فهو يقول لهم: لا تتكلموا إلا بما أريد أنا، فلا تتكلموا بما يعاديني ويعارضني، قولوا كذا ولا تقولوا كذا، علموا أولادكم كذا ولا تعلموهم كذا، وهذا موطن الخطر العظيم.
لذلك نقول: يجب ثبات المؤمنين والدعاة إلى الله عز وجل على دينهم كاملاً غير منقوص لا يترك منه أي جزء، ولا يقال: إن الدين واسع، ويمكننا أن نتكلم في الدين بأشياء كثيرة بغير ما يغضب عدونا، وبغير ما يغضب من يخالفنا في ديننا كطريقة من يريد جعل إبليس والعياذ بالله من المؤمنين؛ لأنه يقر بالربوبية ويقول: ربي الله، ويدعو الله وحده حين يدعو، فلم يتوسل إليه بأموات ولا بملائكة وإنما كما قال الله عنه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، وهو يقر بأن الله الخالق، ويقر بأن هناك يوم بعث فيجعله مؤمناً بالله واليوم الآخر، ولا تتعجب، فإن من الزنادقة والمنافقين والكفرة الملحدين من يجعل أكفر الكفرة أعداء الله ورسله من أكمل الناس إيماناً وتقوى، وأنهم ينبغي أن يقبل منهم كلما يقولون وما يعلنون، لذلك نحتاج إلى أن نتذاكر دائماً، ونكرر ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تلك القصص الذي تعطينا معنى الثبات، وتوضح لنا عدم قبول الاحتواء الذي يريده العدو والذي يريده من حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وسعى في الأرض فساداً، نريد أن نتذكر حتى لا نضيع في وسط هذا الخضم الهائل من الفتن المتلاطمة، والتي نعلم ونوقن أن المقصود الذي يقصده الأعداء هو أن يهدموا هذه الصورة الحقيقية لدين الله، فهم يجزمون أن القوة المادية التي بأيديهم لا يمكن أن تقف في وجه طائفة قليلة ضعيفة من أهل الحق، وأن النمو الأكيد والحقيقي والطبيعي الذي فطر الله العباد عليه هو أن الحق ينمو في قلوب الناس إذا وجد، ولا يقف الباطل أمامه، بل ينهار بكل قوته المادية إذا ثبت الحق، فالحق صخرة صلبة لا يمكن أن يقف في وجهها تلك الهشاشات الباطلة، لكن بشرط أن يكون ثابتاً في القلوب، نقياً صافياً، لا يقبل الاحتواء، ولا يقبل التوجيه المنكر الباطل، ونحن نعلم أن أهل الباطل لهم وسائلهم المتعددة لكي يفرضوا باطلهم.
وفي قصة أصحاب الأخدود ما نحتاج إلى تذكره دائماً، نذكر به أنفسنا، ويذكر به بعضنا بعضاً، والقصة من قصص الكتاب ومن قصص السنة كذلك، وقد ذكرت نهايتها في القرآن العظيم، وذكر تفصيلها وبدايتها ونهايتها في سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
فالله عز وجل إنما ذكر النهاية لكي تتضح لنا قضية الأهداف كما ذكرنا، ولكي نعلم أن تحقيق الإيمان هو الفوز وإن قتل من قتل من المسلمين، بل حتى لو قتلوا عن آخرهم.
(1/3)
تعريف أصحاب الأخدود الذين لعنهم الله في القرآن
قال عز وجل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:1 - 4].
أصحاب الأخدود هم الكفرة الذين حفروا الأخاديد؛ لكي تضرم فيها النيران؛ فيحرق بها المؤمنون، فالله عز وجل ذكر أن الذي قتل -أي: لعن- والذي خاب وخسر هم هؤلاء الكفرة، رغم أن النهاية التي وجدت فيما يبدو للناس انتهاء أهل الإيمان عن آخرهم، وقتلهم بذراريهم في ذلك الأخدود، قال بعض السلف: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] بالفعل، وهو أن النار التي أحرقوا بها المؤمنين التفت عليهم حتى أحرقتهم وأهلكتهم بفضل الله سبحانه وتعالى.
فهم أحرقوا المؤمنين بالنار وما وجد المؤمنون من ذلك إلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كمس القرصة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فما وجد المؤمنون ألم الحرق الهائل الذي تصوره هؤلاء الكفرة، وإنما قتلوا هم بها، ومنهم من فسر قتل بلعن أي: طردوا من رحمة الله.
فالنهاية الأكيدة: أنه قد زال ملكهم ولو بعد حين، أو مباشرة بعد تلك الوقعة.
قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]، فهم مستحضرون جيداً بما يفعلونه، فلا يصح أن يقال: حدثت في غفلة أو حدثت في خطأ منا، ولم نكن ندري أن هذا سيصيبهم، إنما أصبناهم بطريق الخطأ مثلاً، لا، بل هم شهود على ما يفعلون، يعلمون جيداً ما يفعلون بالمؤمنين.
قال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:7 - 8] أي: ما كان ذنب المؤمنين إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد، فالمسألة واضحة ولم يكن هناك أدنى تهمة، فالمؤمنون لم يقتلوا أحداً ولم يسفكوا دم أحد، ولم يجرحوا إنساناً من هؤلاء الكفرة، وإنما كان ذنبهم عند الكفرة أنهم آمنوا بالله!
(1/4)
الله العزيز الحميد
قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] تأمل هذه الصفات المذكورة في هذه الآيات القرآنية، فالله العزيز الذي قهر عباده، هو غالب على أمره، وهو عز وجل لا يمانع ولا مرام لجنابه، ولا ينال جنابه وعظمته، بل لا يقدر الخلق أن يتطلعوا إلى أن يكون لهم الملك والعز والسلطان في هذا الكون، فأقصى شيء أن يحاول الإنسان أن يثبت ملكه على قطعة من الأرض، وربما يتسع طمعه فتتسع تلك الرقعة معه، ولكنه يبهت دائماً إذا قيل له: أتملك الشمس؟! أتملك القمر؟! أتملك أن تغير سير هذه الأرض؟! كما قال إبراهيم عليه السلام للنمرود: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
فالله العزيز في انتقامه من أعدائه، وهو سبحانه الحميد الذي يستحق الحمد، فله الحمد على ما قدر، وله الحمد على ما شرع سبحانه وتعالى، له الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، قدر سبحانه وتعالى آلاماً ومحناً، ولكنه جعل فيها من الحكم والمصالح والمنح والفضائل ما لا يحيط به عقل إنسان، ولذلك يحمد على المكروه كما يحمد على المحبوب.
وفي هذه القصة من أنواع الحمد والثناء على الله عز وجل ما لا تحيط به علوم العباد، وهو العزيز سبحانه وتعالى الحميد الذي لا يجعل تسلط الكفرة على المؤمنين عزاً لهم أو ذلاً لعباده المؤمنين، بل إنما يجعل العزة لمن أطاعه، وهو يحمد على ما قدر من تسليط الكفرة على المؤمنين من غير أن يتمكنوا من إذلالهم، فإن الذل الحقيقي هو حين يغير الإنسان عقيدته وقوله وفعله على حسب ما يريد من غلبه، هذا هو الذي قد ذل بالفعل، هذا الذي لم يعز حين يخضع لعدوه ويقول له: افعل كذا فيفعل، قل كذا فيقول، اترك كذا فيترك، احلق لحيتك فيحلقها، اترك الصلاة فيتركها، وإذا أذن له بالصلاة صلى، وإذا أذن له في الإيمان آمن، هذا هو الذل الحقيقي، وفرعون إنما أغضبه أن يؤمن السحرة قبل أن يأذن لهم، فالناس إذا وصلوا إلى هذا الحال وصلوا إلى الذل، وأهل الإيمان أبوا أن يذلوا، وظلوا على عزتهم معتصمين بالله عز وجل إلى أن ماتوا، فكانوا أعزة بالفعل؛ ولذلك الله العزيز يظهر في هذه القصة من عزته سبحانه وتعالى ما لا يدركه الناس وما لا يعلمونه، وما لو تأمل العبد بعضه لعلم أن الله سبحانه وتعالى لا ممانع له، فأمره نافذ، وهو غالب على أمره سبحانه وتعالى، وله الحمد عز وجل، وكما قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
(1/5)
سعة ملك الله وعظمته
قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البروج:9].
لا تظنوا -عباد الله- أنما جرى للمؤمنين في هذه القصة وفي غيرها أن ملك الله قد نقص، أو أن ملكه كان في السماوات دون الأرض، أو أن الكفرة أخذوا شيئاً من ملكه، فالملك لله عز وجل كما قال جل وعلا في علاه: ((لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، فالملك هو الذي أراد أن يجتبي بعض عباده ويختبرهم وينظر كيف يضحون في سبيله.
ووالله إن هذا الأمر لظاهر جلي لمن تأمل هذا الكون، أبعد أن ملك الكفرة ما ملكوا من أنواع القوة أهم يملكون شيئاً في السماوات؟! أيملكون أن يمنعوا سقوط مطر أو حصباء عليهم من السماء؟! أهم يملكون شيئاً في هذه الأرض التي تحت أرجلهم؟ لو أنها اقتربت من الشمس قليلاً أهم يستطيعون إبعادها؟! لو اقتربت من الشهب والنيازك المدمرة أهم يستطيعون منعها؟! وهذه الأرض التي نسير عليها أيملك أحد أن يوقفها عن الاهتزاز والاضطراب إذا أمرها الله بالزلزلة، وأوحى لها بأن تتزلزل وأن تخرج ما فيها؟ لا والله لا يملك أحد ذلك، وأنى للعباد أن يملكوا؟ فحقيقة أكيدة أن الله له ملك السماوات والأرض، ولكنه عز وجل إذا أراد أن يجتبي طائفة من عباده ألقاهم وسط عدوهم وجنده محيط بالعدو من كل جانب، وأعداد جنده لا يحيط علماً بها سواه، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].
ففي السماء ما من موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد، ويدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
وقال جل في علاه: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24]، فهم الأقلون عدداً وجند الله أكثر، ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يختبر عباده المؤمنين لينظر ماذا يفعلون؟ أيظلون على إيمانهم وإسلامهم وطاعتهم له وسط هذه الظروف أم يتخلون عن ذلك؟ والله يحب أن يعبد سبحانه وتعالى في الشدة كما يعبد في الرخاء، ويحب أن يعبد في السراء والضراء، ويحب أن يرى من عباده المؤمنين الصبر والثبات رغم شدة المنازعة والمدافعة، ولذلك ألقى بعباده المؤمنين -الذين هم عنده في الآخرة أفضل من ملائكته، بل يجعل الملائكة تسلم عليهم وتدخل عليهم من كل باب- ألقاهم وسط هذا الجو المليء بالفتنة والمحنة، ولذلك لا تظن أبداً أن ملك الله قد نقص أو قد زال عن بقعة من الأرض، بل هو ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).
ولا تظنن أيضاً أن هذا الأمر قد وقع في غياب من الله عز وجل فلا يظن ذلك إلا كافر، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، ويقول تعالى: {اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، ويقول تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] فهو يشهد ما يقع وما يجري من قتل المسلمين، ومن أذيتهم، ومن إحراقهم هم وصبيانهم بالنار رجالاً ونساء وأطفالاً يحرقون بالنار؛ لأنهم قالوا: آمنا بالله رب الغلام، وإنما ترك هذا الأمر وفي قدرته وعزته وحمده وملكه أن يغير هذا الأمر؛ لأنه يريد أن يتخذ شهداء، ويريد أن يمحص عباده المؤمنين، فهو يحب أن يعبد بأنواع من العبادات لا تقع إلا في مثل هذه الأحوال، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9].
(1/6)
الوعيد الشديد لمن آذى المؤمنين
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
انظر إلى حقيقة الأمر، فإن الكفرة أرادوا إحراق المؤمنين، فجعل الله عز وجل لهم عذاب الحريق، وأرادوا أن يدخلوا المؤمنين النار فأدخلهم الله عز وجل نار جهنم، ولكنه استثنى سبحانه وتعالى فقال: ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا))، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم قتلوا أولياءه، ثم هو يدعوهم إلى التوبة! فلا تنزلن الناس شيئاً من جنة أو نار، فأنت عبد تعبد الله في الشدة والرخاء، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، وتعبد الله على أي حال، فلا تقل: عدوي لابد أن ينتقم الله منه، ومن آذاني فلابد أن يصيبه الله بأنواع الأذى، بل الأمر كما قال الله تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، إذا أراد أن يهدي عبداً هداه، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم شج في وجهه وكسرت رباعيته: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم)؛ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128])، وتاب الله عز وجل على بعض من لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يلعنهم في الصلاة ويقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة وغير واحد، وكانوا ممن تاب الله عز وجل عليهم، فالأمر لله سبحانه وتعالى.
والذي يعذب المؤمنين والمؤمنات بأي درجة من درجات الفتنة؛ ليمنعه من طاعة وعبودية الله عز وجل، ولم يتب إلى الله عز وجل قبل موته، فإنه متوعد بعذاب جهنم وعذاب الحريق؛ لينال أشد أنواع العذاب، وأما المؤمنون فكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11].
إذاً: النجاح قد تحقق للطائفة المؤمنة مع أنها قتلت وأبيدت، ومع ذلك فقد فازت الفوز العظيم، الفوز الكبير، النجاح الأكبر الأتم، وهذا هو الهدف عباد الله! لذلك نقول: لنراجع أهدافنا، وماذا نريد؟ فنحن نريد الجنة ونريد مرضاة الله من خلال تحقيق العبودية له، بل حقيقة الأمر أن تحقيق العبودية مقصود لذاته، بمعنى: أن فيها الراحة والنعيم في هذه الأرض قبل أن يصل الإنسان إلى الجنة، وفي الجنة إنما يتنعم بقربه من إلهه ومولاه، فضلاً عن أنواع النعيم الحسي الذي في الجنة، فأعظم نعيم لأهل الجنة هو أنهم مقربون إلى الله عز وجل، وأنهم يسلم عليهم ربهم ويكلمهم وينظر إليهم وينظرون إليه، لذلك نقول: هذا هو الهدف، فنحن نريد أن يرضى عنا ربنا سبحانه وتعالى أياً ما كانت النتائج، وأياً ما تحقق منها، وأياً ما لم يتحقق، وبأي طريقة مضت حياتنا، فالمهم أن نرضي الله سبحانه وتعالى، وأن نعبد الله عز وجل، ولذلك سوف نسير على هذا الطريق مهما رأينا من عقبات وعثرات ومعوقات، ومهما رأينا من أعداء تتكالب، بشرط أن نثبت ولا نقبل التنازل، ولا نقبل أن نجعل القرآن عضين نقبل بعضه ونترك بعضه، فهناك أشياء لا مانع من قبولها وأشياء لا تقبل، وديننا نأخذه كله، وكتابنا نؤمن به كله، وأما أعداء الله كاليهود الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض فليس لنا فيهم الأسوة، وإنما أسوتنا فيمن آمن بالكتاب كله، وهؤلاء لا يريدون أن يؤمنوا بالله سبحانه وتعالى ولا بما أنزل، فنحن لا يمكن أن نكون متابعين لهم.
(1/7)
أثر اسمي الغفور والودود في حياة الناس
قال عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14].
ليس البدء والإعادة من صنع الناس، وإنما البدء والإعادة من فعله عز وجل، وهو {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، لا يكرهه أحد على شيء، ولا يمنعه أحد من شيء.
أعظم ما يتنعم به أهل الإيمان معرفتهم بأسماء الله وصفاته، وشعورهم بالحب والاختصاص بالمغفرة، فالله اختصهم بمغفرته، فهو الغفور لهم سبحانه وتعالى، الودود الذي يحبهم ويحبونه، ويستشعرون هذا المعنى أضعافاً مضاعفة حين يبذلون أنفسهم في سبيل الله عز وجل، ولا تظنوا أن من لم يجد طعاماً فجاع، أو من لم يجد شراباً نقياً فعطش، أو من لم يجد فراشاً هنيئاً فنام عليه أنه معذب، لا إنما المعذب من لم يعرف ربه عز وجل وإن نام على أوفر الفراش، وإن وجد ألذ طعام، وإن شرب أحلى شراب، لكنه غائب القلب عن الله سبحانه وتعالى، لم يعرف صفاته، ولم يحب ربه عز وجل، فهذا لا ينفعه ما تنعم به، فالله تعالى يقول: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، والمؤمنون يشعرون بهذا الود بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى، وأكثر ما يكون عندما يضحون في سبيله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
فهم يجدون الحب والود من الغفور الودود عندما يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وعندما يجاهدون في سبيل الله، وعندما لا يخافون في الله لومة لائم، وبهذا يصلون إلى حب الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، وعرشه من علامات ملكه سبحانه وتعالى، وهو أعظم المخلوقات، ومن دلائل ملكه وعظمته، وهو المجيد عز وجل.
قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، فلا اعتراض لنا على فعله، بل يفعل ما يشاء، وله الحمد سبحانه وتعالى، ولا نعترض على الله، بل لا بد من حمده على ذلك، ورضانا عنه عز وجل رباً إلهاً لا خالق لنا سواه ولا مدبر لأمرنا غيره، ولا نتوكل على غيره ولا نخضع لغيره.
(1/8)
عاقبة الكافرين
قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:17 - 20].
الجنود السابقون من جنود فرعون وثمود كيف كان مآلهم؟ وكيف كانت نهايتهم؟ كذلك تكون نهاية من خالفك يا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا نهاية من خالف ما جئت به من الحق، فقول الله تعالى: (هل أتاك) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تذكرة وربط بين الماضي والحاضر، فقصة أصحاب الأخدود فيها من العضات والعبر ما فيها، ولها فائدة في الواقع؛ لذا كان الخطاب المباشر، والتذكرة بفرعون وثمود مثلما جرى للذين قتلوا من الكفرة من أصحاب الأخدود ولعنوا وطردوا، وكان كيدهم في تضليل، والله سبحانه وتعالى يجعل كيد الكافرين كلهم في ضلال، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25].
قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19 - 20]، وكما ذكرنا هو عز وجل محيط بالكفرة، فلا يظن أنهم لما أحاطوا بالمؤمنين وأوشكوا أن يأخذوهم أوشكوا أن يوقفوا دعوة الحق، لا والله! بل كما قال تعالى: {واللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20].
(1/9)
عظمة القرآن
قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] صفة المجد هي من صفة الرب سبحانه وتعالى، فالقرآن مجيد عظيم عزيز كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ترك التمسك بشيء منه فهو الذي يهلك نفسه، وسيوجد الله عز وجل من يتمسك به.
قال تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] أي: لا يمكن أن يمحى هذا الكتاب ولا أن يغير ولا أن يبدل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى تقوم الساعة).
(1/10)
قصة الغلام مع الراهب والساحر
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه)، ونرى هنا نوعين من الطواغيت ينتشرون في كل زمان ومكان، هذا الملك الذي يدعي الربوبية ويقول للناس: لا رب لكم غيري، ولا إله لكم غيري، ومن الملوك من يقولها بلسان المقال ويصرح بها، كما قالها فرعون، وكما قالها هذا الملك كما سيأتي في القصة، ومنهم من يقولها بلسان الحال حين يأمر الناس بطاعته في معصية الله وفي الكفر بالله، ويجعل الإيمان حسب الإذن كما ذكرنا عن فرعون، ففرعون له طريق ومنهج، ولذلك فهو إمام يدعو إلى النار، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وقد يقال: كيف يدعون إلى النار وقد ماتوا؟ فنقول: لأنهم أسسوا طريقاً ومنهجاً وأسلوباً للحياة يعيش به هؤلاء الذين يقولون للناس: لا تؤمنوا إلا إذا أذنا لكم.
وإبليس قد يدعي الإلوهية عند سخفاء العقول، ولكنه ارتضى من معظم البشر بأن يعبدوه وهم يلعنونه، فأكثر البشر يعبدون إبليس كما قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:60 - 62] أي: خلقاً كثيراً {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62].
وأكثر الخلق يلعنونه وهم يعبدونه، وقد رضي إبليس بذلك، فهو لا يسمى إلهاً، ولكن في نفس الوقت يعامل معاملة الإله، وكم من الطواغيت يطلبون ذلك، يريدون أن يعاملوا معاملة الإله وإن لم يسموا أنفسهم آلهة، وأن يطاعوا ولا يرد كلامهم، ولو في الكفر، ولو في الشرك، ولو في معصية الله.
وهذا نوع من الطاغوت، وهذا تجبر وتكبر، وهو مفسد في الأرض وإن زعم الإصلاح، وهذا من أعظم أنواع الفساد في الأرض، أن يدعو إلى عبادة غير الله، والملك هنا يستعين بساحر يقلب له الأمور، فالساحر يسحر أعين الناس حتى يريهم الأشياء على غير ما هي عليه، وحتى يقول الناس: هذه العصا حية، وهذا الحبل ثعبان، ولكل زمان سحرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن من البيان لسحراً)، فالذي يجعل الباطل في أعين الناس حقاً يموتون من أجله، والذي يجعل الحق في أعين الناس وقلوبهم باطلاً يريدون أن يدوسوه بالأقدام، هو والله من السحرة، وهو الذي يعضد ملك هؤلاء الطواغيت، فالناس اليوم عندهم أن العفة والطهارة تخلف، وأن الفجور والفحش تقدم، ألا ترونهم في بلاد من بلاد المسلمين كان الستر والحجاب والعفة لما كان أهل الإسلام يحكمونها، فلما دخل الكفرة إلى تلك البلاد خلعت النساء الحجاب وذهبن إلى الكوافير، وتفرج الناس على الأفلام وهم يموتون جوعاً، عجباً والله! ويفتخر أعداؤهم بأنهم قد تقدموا، وقد صاروا في حرية! وليست إلا حرية الفرج والبطن فقط نعوذ بالله، لكن هذا عند الناس هو التقدم، وهو الحرية التي يريدها الكفرة، وتملأ الدنيا صياحاً، فيقال: كفانا هذا الخطاب الذي يملأ حياتنا ضيقاً ونكداً، ويعنون الخطاب الديني، فهذا يكتب في الجرائد والمجلات نسأل الله العافية، وهذا يعلم الناس الباطل على أنه حق، ويعلمهم الحق على أنه باطل حتى يكرهونه أشد من كل الجرائم، ولربما صار بعض الناس إذا يرى ابنه مثلاً يشرب المخدرات والخمر أهون عليه من أن يراه ذاهباً إلى المسجد مع المتطرفين والإرهابيين كما يسمونهم؛ لأن الأمور قد انقلبت، والسحرة قد قاموا بعملهم، فسحروا قلوب الناس قبل أعينهم حتى صار الناس يفعلون الباطل على أنه الحق، ويتركون الحق على أنه من أعظم المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في انقلاب القلوب: (حتى تصير القلوب على قلبين، أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وأسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).
وكما قال عز وجل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67].
لذلك نقول: فعلاً لكل زمان هذه النوعية من الطاغوتين المتعاونين، والساحر طاغوت كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حده وحكمه، وقال غير واحد من الصحابة: حد الساحر ضربة بالسيف، وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
فالسحرة والكهنة من الطواغيت ومع الذين يحكمون بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء دائماً يتعاضدون ويتعاونون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر)، وعجيب شأن هذا الساحر! لماذا يحرص على استمرار الشر من بعده؟ أيريد ثواباً من تعليم هذا الغلام السحر؟ لا يريد ذلك قطعاً، لكنه يعمل لحساب إبليس، فما المبرر أن يسعى في إيجاد جيل من السحرة من بعده ويستمر السحر من بعده؟
الجواب
يحرص على ذلك لأنه تأتيه أوامر أخرى من إبليس اللعين أن يسعى في استمرار الشر والفساد، ونتعجب ممن لا يؤمن بالآخرة أصلاً ولا يوقن بها كعباد البقر مثلاً، لماذا يقاتلون من أجل عبادة البقر وعبادة الأصنام؟ لماذا يضحون بحياتهم؟ فالواحد منهم لا يؤمن بآخرة ولا يؤمن ببعث ونشور، ومع ذلك مستعد لأن يضحي بحياته وأن يموت من أجل أن تظل هذه العقيدة موجودة؛ لأنه كما ذكرنا يعمل لحساب الطاغوت الأكبر إبليس والعياذ بالله من ذلك.
(1/11)
أهمية غرس العقيدة في نفوس الصغار
قال: فابعث إلي غلاماً، لماذا لم يقل: رجلاً؟ لأن الغلام أسرع في التعليم، فإذا غرست فيه المبادئ فإنه سوف يكون حاذقاً فيها، وسوف يعد أجيالاً بعد ذلك من ذلك السحر الباطل والعياذ بالله.
وهذا ينبئنا بمدى خطورة تربية الأولاد، وماذا يريد الأعداء، فالأعداء من السحرة الذين يقلبون الحق باطلاً والباطل حقاً يركزون جداً على تعليم الأولاد، وينشرون في صحفهم الأجنبية أن المسلمين يقولون للأولاد: إن المؤمنين أمة واحدة، وإنهم يد على من سواهم، وإن بعضهم أولياء بعض، وهذا هو مربط الخطر، وهذه هي الخشية الإسلامية كما يقولها الكاتب الذي كتب ذلك، ويقولون ويهددون: إنكم تدرسون أولادكم أن المسلمين أفضل من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ولابد لكم أن تتركوا هذا الخطاب، ولابد أن تقولوا لهم بعدم التعصب لدينهم، أما هم فيعلمون أولادهم كل مبادئ العصبية والجاهلية، ويستمرون على هذا الكفر والضلال، ولكن المسلمين حرام عليهم أن يقولوا: إن الإسلام هو الحق دون ما سواه، فانظر إلى ما يركزون عليه وما ينبغي نحن إذاً أن نهتم به، إنهم أولادنا، وسواء كانوا أولاداً لنا من صلبنا، أو أولاد المسلمين عموماً فكلهم أولادنا، ولابد أن نسعى إلى توجيههم وتربيتهم وتعليمهم العقيدة الصحيحة، وأن يعلموا أن الإسلام هو الحق لا حق سواه، وأنه لا يعبد بحق إلا الله، وكل عبودية لغيره فهي باطلة، ونريد أن يتربى أبناؤنا على العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم أبناؤنا الحلال والحرام، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحسن أو الحسين يلتقط شيئاً من تمر الصدقة فيقول له: كخ كخ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟!)، فيعلمه أن هناك حلال وحرام، وأفضل من أن نقول له: عيب نقول له -إن كان الشيء حراماً-: هذا لا يجوز، والله نهى عن ذلك، أما هم يفعلون أشياء أخرى ويريدون أن يكونوا أمة الأخلاق، فأدخلوا مادة اسمها الأخلاق، ثم هذه الأخلاق لا تتدخل في دين وليس لها علاقة بدين، وإدخال هذه المادة أمر جيد، لكن لابد أن تكون من خلال قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من خلال أن هذا عيب وهذا ليس عيباً ونحو ذلك؛ لأن العيب هذا يمكن أن يتغير، فقد كان في القديم عيب أن تمشي المرأة عريانة، لكن الآن ليس عيباً، وكان عيب أن تظهر المرأة شعرها، أما الآن فليس بعيب، فالعيب سهل جداً أن يتغير، لكن الحرام لا يتغير أبداً، فالحلال والحرام قضية لابد أن يتربى الأبناء عليها.
ولابد أن نربيهم على الآداب الإسلامية ونقول لهم: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال ذلك قال للغلام الذي تطيش يده في الصحفة: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، فهذه قضايا كلية لابد أن تغرس في القلوب.
ويربون على الدعوة إلى الله كما حكى الله عن لقمان أنه قال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
ويربون على التواضع كما قال لقمان: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، وقبل كل شيء يعلم {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وانظروا كم رجل عنده ابن في سن التمييز وقال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فسيدنا لقمان كان ابنه موحد ونشأ في دين التوحيد، لكن يقول له: ((لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ)).
فينبغي عليك أن تقول لابنك: {لا تُشْرِكْ بِاللَّه ِ) [لقمان:13]، وبالتأكيد سيقول لك: وما هو الشرك يا أبي؟ لأنه لا يعرف معنى الشرك بالله، وأكثر أولاد المسلمين الصغار والكبار أيضاً لا يعرفون من صور الشرك إلا عبادة الأصنام فقط، فعليك أن تبين له صور الشرك الموجودة والواقعية التي لابد أن يحذرها.
(1/12)
دافع الفطرة في النفوس
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبعث إليه غلاماً يعلمه، وانتقى غلاماً حاذقاً وأرسله ليعلمه، فكان في طريقه راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر ضربه)، قدر الله لهذا الغلام شيئاً عجيباً، وهو أن يتلقى تعليماً مزدوجاً، تعليماً من الراهب الذي أعجبه كلامه، وتعليماً من الساحر الذي يعلمه الأذى والزور والباطل، ويعلمه السحر وأن الملك هو الرب، والراهب يعلمه أن الله سبحانه وتعالى لا إله غيره ولا رب سواه، وهناك رصيد كبير للساحر فيما يبدو؛ لأنه بتوجيه الملك، وهناك إعداد لأن يكون هذا ساحر الملك الذي يحتاج إليه الملك، يعني: وظيفة كبرى مهيأة لمستقبل هذا الغلام، فالملك في حاجة إلى هذا الساحر، وسبحان الله! كان الرصيد الأعظم في حق الراهب صاحب الصوت المنفرد الضعيف المختبئ في دير أو في كهف أو في طريق غير مشهور ولا معلوم لم يعد يسمعه الملك ولا جنود الملك، وكان صوته ضعيفاً لكنه يركز على الفطرة، ويصل إلى الفطرة الإنسانية المستقر فيها توحيد الله عز وجل، لذا أعجبه ذلك، ولذلك نقول لمن يقولون: ما تبنونه أنتم في سنة سوف يهدمه الباطل في شهر أو في ساعة؛ لأن الباطل بوقه عال، نقول: نعم، عنده أصوات عالية، لكن الحق له رصيد عظيم في النفوس، هو رصيد الفطرة الإنسانية السوية، فكل إنسان يميل إلى الحق؛ ولذلك نجد أنه كلما ازداد الباطل طغياناً وظلماً انصرفت قلوب العباد إلى الطاعة، وإلى الهدى، وإلى دين الله سبحانه وتعالى، وهذا معلوم عبر تاريخ الأمة، فكل المحن يعقبها فترات التزام، ويعقبها فترات إقبال على طاعة الله عز وجل حتى تتغير الموازين بإذن الله تبارك وتعالى.
(1/13)
فضل العلم والصبر عليه
كان الغلام إذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فهذا صبي صغير يضرب من أجل أن يطلب العلم وهو يريد أن يطلب العلم ومع ذلك يضرب ويعاقب، والضرب عند الصبي أشد شيء بلا شك، وهذا كفيل بمنعه، ولكنه يبحث عن الوسيلة التي يستمر بها في طلب العلم، وفي نفس الوقت يتخلص من أذى ذلك الساحر بالضرب، وليكن ذلك منا على بال، فهذا حرص على طلب العلم، ونحن لا يضربنا أحد لكي نترك طلب العلم ولكن الهمة الضعيفة هي السبب، فعندما يتخاذل كثير من طلاب العلم عن طلب العلم، مع أن أحداً لا يعاقبهم على طلبه، وربما مدحوا على الطلب، ونالوا من أنواع المدح ما يسعى إليه كثير من الناس، ومع ذلك الهمم ضعيفة، فلتكن همتنا جزءاً من همة ذلك الغلام الذي يحرص على طلب العلم ويبحث عن الوسيلة التي تمكنه منه ولو ضرب.
قال: (فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي)، وهذا يؤكد لنا أنه كان يضرب أيضاً من أهله، فصار على الغلام ضغط مزدوج، وصار يضغط عليه أهله حتى يمنعوه من الذهاب إلى مكان آخر؛ ولذلك أرشده إلى التخلص بهذه الحيلة، وهو أن يكذب عليهم مضطراً معذوراً، والكذب في الأصل محرم، لكن إذا اضطر إليه الإنسان جاز له أن يستعمله على قدر الضرورة، وعلمه ذلك الراهب فقال: إذا خشيت أهلك -ولم يقل له: استعمل الكذب على الدوام، وإنما إذا خشيت العقوبة- إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي.
وهو نوع تعريض في الحقيقة، وإن كان يجوز الكذب للتخلص من الظلم، والكذب يباح في هذه الحالة، فلو منعه والداه وأهله من طلب العلم لم يجز له أن يمتنع، ووجب عليه أن يطلب العلم الذي هو فرض عين عليه حتى ولو منعوه؛ لأن العلم لا يتم العمل إلا به، وفرض الكفاية إذا تعين بأن لم يوجد في الأمة من يقوم به فكذلك لا يطاع الوالدان ولا غيرهما في تركه، بل يطلب العلم ولو تعرض لغضبهم أو أذاهم، ويحاول أن يعرض لهم، فإن جلس مدة في أماكن أخرى فليقل: كنت في المكان الفلاني، وهو صادق فإنه قد كان في المكان الفلاني مدة من الزمن لكن ليس كل الزمن.
(1/14)
كرامة للغلام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم، الراهب أفضل أم الساحر أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس)، رأى حيواناً عظيماً قد سد الطريق على الناس، فوجد في نفسه فرصة، إذاً: كان التعليم المزدوج ما زال له تأثير، فالساحر يعلمه الباطل والكفر والضلال، وتعليم الراهب هو تعليم الحق، ولكن مع التعليم المزدوج يعطينا هذا الأمل الكبير أنه سوف يثمر التعليم الحق، وأن أثره إيجابي بإذن الله، مع وجود التعليم الآخر المفسد للقلوب؛ لأن هذا الغلام كان أميل إلى أمر الراهب بلا شك، ونلاحظ هذا من عدة أجزاء في قولته قال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم، فأول شيء أنه توجه إلى الله عز وجل ولم يقل: سوف أستدعي جنود الملك مثلاً، فلجأ إلى الله وقال: اللهم! ولا شك أن الدعاء تعلمه من الراهب، وهذه فطرة في الإنسان أن يتوجه عند الشدائد إلى الله، وقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك، فهو يبحث عما هو أحب إلى الله عز وجل فقد غرس في قلبه حب الله سبحانه، وهذا الذي ينبغي أن يربى عليه كل إنسان وهو حب الله، والبحث عن حب الله عز وجل، وما هو أحب إلى الله، الله يحب كذا ولا يحب كذا، وقضية الحب هذه هي التي تغير من كائن الإنسان، بخلاف الأوامر المجردة، فليست أوامراً عسكرية أنت تفرضها على أولادك أو على تلامذتك، بل أنت ترغبهم في دين الله عز وجل، ولذلك سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه لم يلزمه على الذبح، وإنما {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102].
فيدعوه إلى أن يفعل هذا الأمر اختياراً، ولم يقل له: ماذا أفعل؟ فإنه سوف يفعل بلا شك، ولكنه يريد أن يفعل الأمر اختياراً لا إكراهاً فلا يثاب على ذلك، فهذا أمر لابد أن نبحث عنه، وهو أن نحب الله عز وجل، ونغرس حب الله عز وجل في قلوب أبنائنا ومن نعلمهم.
الأمر الثالث أنه قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك، فقدم أمر الراهب على أنه أحب في صيغة السؤال، ثم قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير للناس ويحب الخير للناس، فالساحر يعلمه كيف يؤذي الناس، وكيف يزرع بينهم الأحقاد، وكيف يفرق بين المرء وزوجه، وكيف يرغب فلان إلى فلان، ويلقي البغضاء بين فلان وفلان وهكذا، أما هذا فيريد أن ينجو الناس من هذا الحيوان المفترس السبع أو غيره، وهو أيضاً يرجو، والرجاء عبادة من العبادات تعلمها من الراهب بلا شك، أيرجو نتيجة بغير أسباب ومقدمات؟ الكل يستطيع أن يرمي حجراً، لكن أن يقتل الدابة وهو موقن بأن رميته لن تقتلها ولكن الذي سوف يقتلها هو الله عز وجل فهذا لا يوجد إلا في الغلام.
ولذلك قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير لهم، ويعلم أن ذلك بقوة الله وقدرته عز وجل لا برميته.
قوله: (فرماها فقتلها ومضى الناس) هذا فيه إثبات كرامات الأولياء، فهذا الغلام الذي لم يصل بعد إلى سن الكهولة، بل حتى إلى سن الرجولة فلم يزل يقال عنه: غلام، قد صار من أولياء الله عز وجل، الذين يستجيب الله دعاءهم ويخرق العادة من أجلهم.
فرميت حجر من صبي لا تقتل سبعاً بل ولا حتى قطة ولا كلباً، فكيف تقتل الدابة العظيمة؟ هذه قدرة الله عز وجل، فهو أخذ بالأسباب ولجأ إلى الله عز وجل ودعا فاستجاب الله عز وجل دعاءه، وما يكرم الله به أولياءه من أنواع القدرة والتأثيرات كهذه الواقعة، وما يكرمهم به من أنواع العلوم والمكاشفات هي من الأمور الثابتة في الكتاب والسنة، ومما يوقن به أهل السنة والجماعة، ويعتبرونه من عقيدتهم التي لا يجوز مخالفتها، لما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليس معنى كرامات الأولياء أن نطلب منهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وما لا يقدر عليه إلا الله بل نسأل الله عز وجل ذلك، وإنما نتعبد لله بحبهم ومتابعتهم على طريقهم، ونجد في هذا أن السبق إلى الله عز وجل ليس بطول المدة، بل ربما يسبق المتأخر المتقدم.
قال: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي)، وهذا الراهب الأستاذ الذي علم هذا التلميذ، مع ذلك رأى من علامات كرامته ومحبته لله عز وجل وبحثه عن حب الله واستجابة الله لدعائه ما دله على فضله وكرامته، فلذلك اعترف له بالفضل مع أنه تلميذه، ومع أن الراهب أسبق التزاماً من الغلام، ومع أنه هو الذي علمه الدين أصلاً، ومع ذلك قد يسبق المتأخر، فالفضل لله عز وجل يؤتيه من يشاء، والعباد يتفاضلون ليس بكثرة العبادة الظاهرة بل يتفاضلون بما في قلوبهم من الحب والخير والإيمان بالله عز وجل والرغبة فيما عنده، ومن أعظم ما يسبق به إلى الله حبه سبحانه وتعالى والبحث عن محبته ومرضاته.
(1/15)
من فوائد قصة الغلام مع الراهب والساحر
الغلام ذهب ليبشر الراهب، ففيه استحباب بشارة المسلم بما يسره، ويكون أولى الناس بذلك شيوخه الذين علموه، فيعرف لهم الفضل، ويقر لهم بتلك المنزلة، وهذا الراهب كان رجلاً عالماً فعلاً، ولم يكن مجرد راهب متعبد دون علم، بل كان على علم بطريق الحق وسنن الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (راهب) يدل على أنه كان بعد زمن المسيح صلى الله عليه وسلم، فإن الرهبانية إنما وجدت في أتباع المسيح، فقد كان راهباً موحداً على دين المسيح صلى الله عليه وسلم، وليس على دين التثليث وعبادة المسيح الذي هو الشرك بالله سبحانه وتعالى، فإن من قال: إن الله ثالث ثلاثة، أو قال: إن الله هو المسيح ابن مريم، لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون ولياً.
وقول الراهب: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني)، هذا من التواضع، ومن الإقرار بالحق، وعدم الحسد والحقد؛ لأنه لم يقل: لماذا يكون الذي علمته أفضل مني؟ أو لماذا اختاره الله علي؟ فليس المؤمن الذي يأكل قلبه الحسد، وليس المؤمن الذي يكون في قلبه الضغائن والأحقاد، وإنما هو مخلص لله عز وجل، قال: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى)، وعلم الراهب ذلك من سنة الله سبحانه وتعالى في الأولين والسابقين، فإن المرء لا يمكن حتى يبتلى، ولابد أن يبتلى كل من أعلن الإيمان كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
لذلك نقول: من يظن أن طريق الالتزام مفروش بالورود فإنه لا يعرف سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه، فلا بد أن يعلم كل من يسير على طريق الحق أنه لابد من الابتلاء.
يقول الراهب: (فإن ابتليت فلا تدل علي) أي: إن ابتليت وقيل: من علمك هذا؟ فلا تخبرهم عني، يريد الرجل بذلك العافية؛ لأنه وإن كان كما سيأتي صبر الصبر العظيم ونشر بمنشار حديد حتى قتل رضي الله تعالى عنه إلا أنه كان يطلب العافية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية).
فالذي يعرض نفسه للبلاء ويقول: أنا لا يهمني البلاء، على خطر الغرور والإعجاب بالنفس وتزكيتها، وعلى خطر أن يوكل إلى نفسه؛ لأنه معجب بها، وأما الذي يفوض أمره إلى الله، ويسأل الله العافية، ويظهر عجزه وضعفه، فإنه أولى بأن يثبت بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (إن ابتليت فلا تدل علي) من الكتمان المشروع، وهو ألا يدل على من علمه الحق لأعدائه فينتقمون منه ويصيبونه بأنواع الأذى، وقد تحمل الغلام في سبيل هذه الوصية ما تحمل إلى أن شاء الله عز وجل عجزه عن تحملها.
قال صلى الله عليه وسلم: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء)، فسائر الأمراض يداويهم بالدعاء، وكان له تجربة عارف، وأقصر طريق للخير أن يلجأ إلى الله عز وجل، فكان يداويهم ويعالجهم بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل.
(1/16)
الزهد في الدنيا
(فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، وهذا يدل على مدى انتشار الدعوة، فقد بدأت تدخل في نطاق جلساء الملك، وبدأت تدخل في الطبقة المترفة التي لها شأنها ووزنها، سمع جليس للملك كان قد أصابه العمى، ككل البشر معرضون في فقرهم وغناهم لأنواع البلايا والمحن والأمراض وغيرها، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الأمور كلها عندهم كما هي عند الملك بالمال، فالهدايا هي الغاية المقصودة، والجوائز والأموال هي كل غرض الإنسان، فظن أن هذا الغلام كذلك، وهو يسمع إشاعات فقط، فهو يظن أن الغلام يشفي فيقول له: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وهذا الرجل مريض بأمراض عدة أخطرها مرض القنوط، وأنه يظن أن الشفاء من غير الله، وهذا شرك بالله عز وجل، ومريض بمرض الإعجاب بالمال واستعظامه، فقال: ما ههنا لك أجمع، فهو يعده شيئاً كبيراً، وهو تافه جداً عند المؤمنين.
وقوله: (كله) إشعار بأنه فعلاً معجب بالمال جداً، وأن المال هو كل شيء في حياته، فلم يلتفت الغلام إلى ذلك المال، ولم يقل له: كيف تعرض علي مالاً؟ ولا فكر حتى في أن ينقل كلامه، وإنما قال معالجاً المرض الأشد الأخطر مرض الشرك بالله (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن شئت آمنت بالله ودعوت الله لك فشفاك)، وهذا كلام عظيم، يدل على احتقار الدنيا حيث لم يذمها، قال بعض أهل الكلام في تهذيب النفوس: إن الزهد في الدنيا، نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أو تركاً.
ومعنى نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أي: بخلاً، وقولهم: طلباً أي: حرصاً وطلباً لها.
وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً؛ لأن أمرها حقير جداً، فلا تستحق الذم فضلاً عن المدح، فكونه يذمها فيه دليل على أنها لا زالت عظيمة عنده، ويريد أن يعوض نفسه بمذمتها، فلما تأتي لرجل وتواسيه على أمر ذهب عنه من حطام الدنيا، يدل على أن أمرها عظيم في قلبك وقلبه، أما لو كانت صغيرة جداً فلم تنشغل بها؟ فلا يوجد أحد يواسي رجلاً من أجل دجاجة ماتت عليه؛ وذلك لأن أمرها هين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، ولكن هي في القلوب، ولذلك فنحن دوماً نذمها؛ لأنها كبيرة في قلوبنا، ولو أنها صغرت في أنفسنا ما انشغلنا بذمها.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك -أي: صغير الأذنين- ميت فقال: (من يود أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت؟! ما نود أنه لنا بشيء، فقال: إن الدنيا أهون على الله من هذا عليكم).
وإنما ينشغل الإنسان بمذمة الدنيا إذا كانت كبيرة في قلبه، وبمدحها إذا كانت أكبر وأشد والعياذ بالله، فالرجل يرى أن الهدايا كثيرة جداً، والغلام لم يلتفت لها أصلاً لا بالذم ولا بالمدح، ولم يتكلم بكلمة عنها، وأهملها إلى نهاية القصة، ولم يذكرها لا بخير ولا بشر.
(1/17)
استجابة الله لدعاء الغلام بشفاء المرضى
قوله: إني لا أشفي أحداً؛ لأن الغلو في أهل الصلاح والتقوى مرض أكيد وخطير يؤدي إلى الشرك بالله، وهو واقع في هذا الرجل الذي يظن أن الغلام يشفي، فلابد من معالجة الموقف أولاً فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، وشارطه فقال: إن شئت آمنت بالله فدعوت الله لك فشفاك.
وهو يعرف أنه ليس هو الذي يشفي، وإنما هو يدعو الله ربه فيشفيه الله سبحانه وتعالى.
قال: فآمن بالله فشفاه الله تعالى، وهنا نوعان من الكرامة: استجابة الدعاء، وهو من أنواع القدرة والتأثيرات، والنوع الثاني وهو من أنواع العلوم والمكاشفات، وهو أنه قال: إن شئت آمنت فدعوت الله لك فشفاك، فهو يخبره أنه سوف يشفى، وهذا من أنواع العلوم والمكاشفات، فلا يعلم الغلام الغيب، ولكن رجا فضل الله سبحانه وتعالى، فحقق الله له رجاءه في دعائه.
(1/18)
أثر الإيمان في تغيير القلوب
أتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، وهذا دليل على أنه إذا أسلم المرء وآمن ولم يكن في عمله لدى بعض الظلمة أو الطغاة محرم، ولم يكن إعانة على الظلم جاز له أن يستمر فيه، وأما المجالسة إذا كانت لغرض الدعوة إلى الله، وبيان الحق الذي جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلا مانع أن يكون الإنسان في وظيفته ويستغلها في الدعوة إلى الله، كما استغل هذا الغلام حاجة الناس إليه لكي يدعوهم إلى الله عز وجل.
فهذا الجليس جلس عند الملك فرآه مبصراً، فقال الملك: من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فجليس الملك تغير تغيراً عظيماً جداً، وبالتأكيد هو يعلم عقيدة الملك، ويعلم ما يقوله الملك للناس وخصوصاً جلسائه من أنه ربهم ولا رب لهم غيره، ومع ذلك يواجهه بهذه المواجهة، فالإيمان يغير تغييراً عظيماً في النفوس.
فهذا الجليس كان قبل ذلك يقول: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وكل هدفه أن يشفى من عمى البصر، وهو أعمى القلب، ولا يشعر بأن عمى القلب أغلظ وأخطر، وبعد ذلك تغير حتى صار يجابه الملك بهذه الشجاعة وهذه القوة ويقول: ربي وربك الله، فكأنه استغل الفرصة لكي يجهر بالدعوة في مثل هذا المجلس، ولكي يقول كلمة الحق في مثل هذا المجلس، ولم يعد يهتم بالقوة والمادة والمال، وإنما صار اهتمامه أن يبلغ دعوة الحق، وأن يقول للملك: ربي وربك الله، والملك معروف بالبطش والتنكيل والتعذيب وأنواع العقوبات المختلفة، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وكان لا يعذبه بنفسه وإنما بزبانيته وأعوانه الظلمة أمثاله.
(1/19)
الحذر من احتواء الظلمة للدعوة بالترغيب
وصلت المعلومات كاملة إلى الملك، ووصل التقرير تاماً من أن الغلام هو الذي يقول للناس: ربي وربك الله، وإني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فمصدر الدعوة العلنية في الناس عرف فأحضر، فبدأ الملك بوسيلة الترغيب والاحتواء، قبل وسيلة الترهيب والتعذيب والفتنة؛ لأن وسيلة الترغيب والاحتواء أنفع في إبطال الحق، وأجدر في إزهاقه، وأيسر في ألا يكون هناك بعد ذلك مقاومة أو قبول للغلام لو قبل هذا الترغيب وهذا الاحتواء، فأتي بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، الأكمه هو الذي ولد أعمى، والبرص مرض جلدي معروف لا علاج له إلى وقتنا هذا، فبدأ أولاً يقول له: يا بني! أنت أبني، وأنت حبيبي، وأنت تبعي أنا، وهو يعرف ما يقوله للناس، لكنه ينظر أيقبل هذا الغلام مثل هذا الأمر؟ ولا مانع لديه أن يقال: هذا ساحر الملك، وأن يفعل الغلام بعد هذا ما يفعل، وليدع إلى ما يدعو إليه، طالما كان تحت غطاء الملك وإذنه، وباسم سحر الملك، فإنه يقبل بذلك، فلم يكن الملك غبياً، ولم يكن جاهلاً، أو كان يظن أن الغلام كان يقول: هذا من سحر الساحر؟ لا، بل كان يجزم بأن هذا الغلام يقول: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، ولكن كان يريد أن يحتويه.
ولذلك نقول: هذا الأمر لابد أن ينتبه له الدعاة إلى الله، وألا يقبلوا ذلك الاحتواء، ولا هذا الثوب الذي يكون مأذوناً لهم في لبسه، ويسمح لهم بالدعوة إليه من خلاله، طالما كانوا تحت توقيعات وتوجيهات الملك، وبإذن الملك ومن سحر الملك، ولو أن الغلام سمى ما يفعله سحر الملك لتركه ذلك الملك يفعل ما يشاء، ويكون عوناً له ومرغباً في اتباعه، ولكن سوف تفقد دعوته حقيقتها، وسوف تفقد تميزها، وسوف تفقد براءتها من الباطل، ويكون هذا الستار في الحقيقة قاضياً على الدعوة ومفسداً لها من أصلها.
ولذلك تنبه الغلام وقال للملك قولته التي يكررها: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فقد كان واضحاً لا يقبل مداراة ولا موالاة لذلك الملك، ولا يقبل التبعية لذلك الملك، ولذلك لا يقبل أن يقول: أنا من جنود الملك حتى لو تركه يقول ما يقول، وكم من الناس يسمح لهم بأن يقولوا أشياء كثيرة من الحق لكن بشرط أن يكون ذلك تحت توجيهات الملك، وبشرط أن يكون ذلك بإذن الملك وأمر الملك، فلابد أن تعلم أن دعوة الحق هي بإذن الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستأذن الكفرة في أن يدعو إلى الله عز وجل.
(1/20)
الصبر في الدعوة على ظلم الطغاة
قال الغلام: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه إلى أن عجز الغلام عن كتمان اسم الراهب، وقد صبر الغلام على القتل، وصبر جليس الملك على القتل، ولم يصبرا على الدلالة على بعضهم، ولا شك أنه تحمل كثيراً قبل أن ينطق، ولكن قد يصل الأمر إلى العجز فنسأل الله العافية، وإذا وصل الحال إلى ذلك كان الأمر بلا إثم إن شاء الله تبارك وتعالى.
قال: فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، وعرف مصدر الدعوة الذي كان صاحب الدعوة السرية، وهذا الذي لم يعلن نفسه للناس خطره ليس كبيراً على المجتمع، ولذلك مباشرة كان التوجيه إليه أن قيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فأتي بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه.
وانظر إلى صبر هذا الراهب، لم يرجع عن دينه أبداً، وهو الذي كان يقول: إذا ابتليت فلا تدل علي، ولعل من سمع هذه المقولة ظن أنه رجل ضعيف، وإذا به من أقوى الأقوياء، وشهد شهادة الحق في هذا الموطن، وأبى أن يرجع عن دينه، وتحمل في سبيل الله عز وجل حتى قتل شهيداً، فصار حياً عند الله عز وجل مع الشهداء.
ثم أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأتي، فؤتي بالمنشار، وهذه قتلة شديدة جداً، فالضرب بالسيف أهون، والقتل بالرصاص أهون.
وانظر إلى جليس الملك ذلك الذي يتحمل مثل هذا الألم العظيم، فالإسلام والإيمان يغير الإنسان أعظم تغيير، أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، هؤلاء الذين كانوا من قبل رفقة في سبيل المحافظة على هذا الملك الزائل، فمستعد أن يقتل، وأن يعذب، وأن ينتهك حرمات أصفى الأصفياء، فهذه نوعية من البشر لا تعرف إلاً ولا ذمة، ولا تعرف حرمة ولا أثراً لعلاقة إنسانية، فجليس الملك من أقرب المقربين إليه ومن خاصته وأصفيائه ومع هذا يفعل به ذلك، أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار فأمر به فشق حتى وقع شقاه.
(1/21)
رعاية الله لأوليائه
أتي بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى الغلام، وموقفه يختلف عن جليس الملك وعن الراهب؛ لأنه هو الذي دعا الناس، وله منزلة في قلوبهم، وصاحب الدعوة التي سمعها الناس أمره أخطر بكثير، فلا يريد الملك أن يكون هذا الغلام بطلاً في أعين الناس، بل يحاول الاحتواء أولاً كما ذكرنا، فيبدأ بالترهيب البطيء المدى لعله أن يرجع، ويحاول بكل طريقة أن يرجع الغلام ولكن بلا فائدة، فالذي أظهر كلمة الحق عليه مسئولية ضخمة أضخم بكثير ممن يعبد الله عز وجل سراً.
والناس موقفهم سوف يتحدد بناء على موقف الغلام، هل يقبلون الحق أم يرفضونه؟ فله منزلة في قلوب الناس، ولذا حاول الملك أن يستوعبه وأن يجعله يرجع بنفسه، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال: اذهبوا به فاصعدوا به إلى جبل كذا وكذا، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ لأنه كلما صعد ورأى المسافة ازداد خوفه، ففي هذا ترهيب طويل المدى لكي يوقع الخوف في قلبه، فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، وفي هذا تفويض الأمر إلى الله، والأدب مع الله عز وجل حيث لم يقل: يا رب! أنزل عليهم صاعقة، أو يا رب! ألق بهم، بل قال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فهذا توكل على الله عز وجل، وثقة في الله عز وجل، فرجف بهم الجبل فسقطوا ورجع يمشي إلى الملك، والجزاء من جنس العمل، فإنهم أرادوا أن يسقطوا الغلام من ذروة الجبل فسقطوا هم، ونجا الغلام بفضل الله عز وجل.
والغلام صاحب قضية وصاحب دعوة، ما وجدها فرصة حتى يهرب، بل رجع يمشي إلى الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ -وكان الذين معه أشداء وأقوياء جداً- قال: كفانيهم الله تعالى، وفي هذا إغاضة عظيمة للملك، فدفعه إلى نفر من أصحابه عناداً منه وغباء وجهلاً، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور أي: سفينة، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، وهذا غباء وجهل عظيم، فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فانكفأت السفينة فغرقوا ورجع يمشي إلى الملك.
فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ فالملك الآن أصبح لا يريد إلا أن يقتل الغلام غيظاً وكمداً، حتى أنه لم يفكر في عواقب الأمر، فصار يتقبل الأوامر من الغلام، وفي هذا إذلال للملك وإهانه له، فهو بقوته وبمكره لم يستطع أن يقتل الغلام.
(1/22)
حرص الغلام على انتشار الدعوة
قال: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، وضع السهم في كبد القوس، ثم قل باسم الله رب الغلام وارم، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، فالغلام يدله على قتل نفسه؛ لكي يؤمن الناس، فهو يضحي بنفسه في سبيل الله عز وجل؛ لكي يؤمن الناس، مع أن قتل النفس محرم، لكن دل على قتل نفسه لأجل المصلحة العظيمة في إيمان الخلق وإيمان أهل البلد جميعاً، فهو رجا أن يؤمنوا إذا رأوا هذه الآية، ولذلك طلب منه تجميع الناس في صعيد واحد، وليست هذه رغبة للشهرة، ولكن رغبة في وصول الحق إلى الجميع.
وأمر الملك بصلبه على جذع؛ لكي يجلب عطف الناس عليه في ذلك؛ لأنه مظلوم، فهذا الغلام الذي يبرئ الأكمه والأبرص، وهذا الغلام الذي قتل الدابة، وهذا الغلام الذي يحب لنا الخير، وهذا الذي يدعو الله لنا، لماذا هو مصلوب على جذع؟ ليس له تهمة إلا أن يؤمن بالله العزيز الحميد، فسوف يتناقل الناس ذلك، فإذا لم يكن للمسلم والداعي إلى الله، والعبد الصالح من تهمة إلا أنه قال كلمة الحق، وكان يحب الخير للناس، كان ذلك من أعظم أسباب قبول الخير، وكان ذلك من أعظم أسباب الإيمان، وليحرص المسلم على ألا تكون له تهمة غير أنه يؤمن بالله ويدعو إلى الله عز وجل.
قال: ثم تصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي أمام الناس جميعاً، لا يأخذ سهماً من عنده، بل يأخذ سهماً من جعبة سهام الغلام، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، وذلك من أجل الذي لم ينظر الملك وهو يأخذ من جعبة السهام يسمعه وهو يقول ذلك.
قال: فجمع الناس في صعيد واحد، ثم صلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، وهذا غباء منقطع النظير، لكن العناد والحقد والحسد أدى به إلى ذلك، فهو يقتله بأي طريقة، قال: ثم رماه فوقع السهم في صدغه، وصدغه أي: جانب رأسه، ووضع يده على صدغه فمات، فقال: الناس آمنا بالله رب الغلام، وآمن الناس لما رأوا هذه الآيات العظيمة، وعجز الملك الذي يقول: لا رب لكم غيري عن قتل هذا الغلام الضعيف الصغير بكل جنوده وأتباعه، وكل مكره وكيده، فآمن الناس بالله عز وجل، وقولهم: رب الغلام، تشريف للغلام، كما قال سحرة فرعون: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:122]، فتشريف الغلام أضيف إليه اسم ربه سبحانه وتعالى.
(1/23)
اضطهاد الطغاة للمسلمين
قال الناس: آمنا بالله رب الغلام، فؤتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك، وانظر إلى العجب فبعد أن يرى الناس هذه الآية، لا يزال هناك من ينصح الملك هذه النصيحة المجرمة الفاسدة، وما زال هناك من لا يريد أن يؤمن ويهتدي، بل يريد أن يمنع الحق أن يصل إلى قلوب الخلق والعياذ بالله من هذه النوعية من البشر، لو رأت الآيات تلو الآيات ما استجابت، ومثلهم الذين استجابوا لفرعون في تقتيل السحرة، فقد رأوا الآيات بأعينهم ثم وجد فرعون من يقتل السحرة آخر النهار، ووجد من يقول له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف:127]، فهذه نوعية مهما رأت من آية، ومهما أتت من حجة لا يمكن أن تقبل، ولا يمكن إلا أن تظل في عبودية هؤلاء الطواغيت، والعداوة الأكيدة لدين الله عز وجل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأمر بالأخدود فخدت) أي: فأمر بالحفر فحفرت في أفواه السكك، ثم أضرم فيها النيران، وقيل: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعل الناس وماتوا جميعاً، وفي بعض الأحاديث أنهم قبل أن تصل أجسامهم إلى النار قبضت أرواحهم، فألقيت أجساداً لا أرواح فيها، وهذا يشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجد الشهيد من ألم الموت إلا كمس القرصة)، فهم أرادوا أن يعذبوا المؤمنين، وما وجد المؤمنون عذاباً، ففعل الناس فوقعوا فيها، حتى أتت امرأة معها صبي لها، وهذا يبين أنه كان يقتل الرجال والأطفال والنساء والعياذ بالله، فهو ظلم بين، ولكن قدر الله عز وجل هذه النهاية لهذه الطائفة أن تؤمن وتنجو عند الله، وإن لم تمكن، وكان في قدرة الله أن يمكن لها، ولكن قدر الله عز وجل أن يموت الداعي وأن يموت المدعو، وأن يقتل الجميع، وأن يمكن الكفرة من ذلك إلى أن يأتي ما أراد عز وجل من قتل أصحاب الأخدود، ومن تدميرهم وإحراقهم.
فليست العبرة بالنتيجة في هذه الأرض، وإنما العبرة بالنهاية عند الله سبحانه وتعالى.
قال: حتى أتت امرأة معها صبي لها، فتقاعست -أي: ترددت- أن تقع فيها، وقالت: أستجيب لدعوة الباطل وأترك الدين، ولا أقع فيها، فقال لها الصبي: يا أمه! اصبري فإنك على الحق.
وهذا هو الغرض الأعظم المقصود في فترات المحن، فالواجب الأكيد أن يصبر الإنسان، وأن يثبت إلى أن يفعل الله ما يشاء، وإلى أن يموت والله عز وجل راض عنه ولا يعبأ بعد ذلك بالنتائج، فالنتائج قطعاً لصالح دين الإسلام، ولن يضر الكفرة دين الله عز وجل شيئاً، بل لن يضروا الله شيئاً، وسوف ينتصر الإسلام حتماً وقطعاً ويقيناً.
فيجب أن نظل على هذا الحق الذي علمناه كاملاً بغير تجزئة ولا تبعيض، بغير أن نقبل ما يريدون، ونترك ما لا يريدون، بل نصبر على الحق، ونصبر على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الأمر كذلك كان الفوز الكبير بإذن الله تبارك وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/24)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة قوم لوط
أودع الله في كتابه العزيز كنوزاً وأسراراً لا تنقضي ولا تنتهي، ويظهر منها كل وقت وحين جديد ومفيد، ومنها: القصص المذكورة فيه وما فيها من العبر والعظات، كقصة لوط عليه السلام مع قومه، وما تضمنته من فوائد وعبر وحكم، والتي منها: أن قوة العذاب وشدته راجعة إلى عظم المعصية وشناعتها وقبحها.
ومنها: أن قوم لوط لما اقترفوا فاحشة قبيحة شنيعة عوقبوا بعذاب غير مألوف.
ومنها: أن النصر والتمكين لا يأتي إلا بعد استنفاذ كل الجهود والوسائل البشرية، وبذل كل الأسباب المتاحة.
(2/1)
فوائد القصص القرآنية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: لقد جعل الله عز وجل في قصص أنبياءه ورسله عبرة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111].
وجعل الله عز وجل في قصص أنبيائه ورسله ما يثبت به أفئدة المؤمنين، {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
(2/2)
قصة قوم لوط
ونتذاكر معاً قصة من قصص أنبياء الله سبحانه وتعالى، وما فيها من العبر والعظات، التي يحتاج إليها كل مؤمن ومؤمنة في طريق سيره إلى الله سبحانه وتعالى، وهي قصة فيها أمور متعددة ربما لم تذكر في قصة أخرى من قصص أنبياء الله، وهي قصة نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
(2/3)
سبب كفر قوم لوط وبيان أنهم أول من أتى بفاحشة اللواط
فمما ذكر في هذه القصة ولم يذكر في غيرها: أن هؤلاء القوم -والعياذ بالله- كانوا أول من أتى الذكران من العالمين، وأول من أتى هذه الفاحشة الفظيعة، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، فلم يذكر الله سبحانه وتعالى عنهم عبادة الأوثان، وإن كان يمكن أن تكون عبادة الأوثان موجودة فيهم، ولكنه سبحانه وتعالى إنما ذكر عنهم فعل هذه الفاحشة، ولا شك أن هذا أمر يلفت انتباهنا، فإن فعل الفواحش المبنية على الاستجابة للشهوات غالباً ما تكون في حيز المعاصي، والمعاصي صغائر وكبائر، وهذه الفاحشة بلا شك أنها من الكبائر.
لكن الذي ذكره الله عز وجل هو كفرهم وعقابهم على الكفر، وعذابهم المؤبد في النار والعياذ بالله، وهذا يدفعنا إلى أن نفكر في السبب الذي كفروا به، مع أنه لم يذكر عنهم عبادة الأوثان، أو عبادة الملائكة أو الصالحين كما هو في كثير من الأمم، فإن أول شرك وقع على ظهر الأرض كان بسبب الغلو في الصالحين وعبادتهم بعد موتهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] قال: هؤلاء أناس صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم أن اعمدوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها فانصبوا فيها تماثيل وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت.
أما هؤلاء القوم فشركهم من نوع آخر والعياذ بالله فهو من جنس شرك إبليس، وهو رد شرع الله سبحانه وتعالى، والاستهزاء بمن يأمرهم ويدعوهم إلى الالتزام بشرع الله، ولم يكن شركهم وكفرهم إلا استجابة لداعي الشهوات.
ويحتمل أن يكون معه أنواع أخرى من الشرك، لكن الذي ذكر عنهم: أنهم كانوا يردون شرع الله عز وجل، وإبليس كان كفره كذلك، فلم يكن كفر إبليس بأن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أو أنه سمى الأوثان آلهة وعبدها، -وإن كان يدعو إلى ذلك- بل كان أول كفره والعياذ بالله رد أمر الله وشرعه سبحانه وتعالى، والإباء والرفض لأوامر الله، كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فكفرهم كان بالإباء، والاستكبار عن شرع الله عز وجل.
وهذا الشرك من أعظم أنواع الشرك وقوعاً، وخصوصاً في آخر الزمان، ففي واقع حياة الناس اليوم يرد كثير منهم شرع الله عز وجل، ويأبون الانقياد له.
وزوال الانقياد من القلب -وإن كان استجابة للشهوات في أول الأمر- يختلف اختلافاً كبيراً عن الاستجابة للشهوة دون زوال الانقياد، فالذي يعمل المعصية وهو يعلم أنها معصية يختلف عن الذي يرد شرع الله، ويأبى ويستكبر ويستهزئ بدين الله سبحانه وتعالى.
وأكثر منبع للفتن في آخر الزمان الشهوات، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويسمي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، والعياذ بالله، فيتبين لنا من حديث النبي عليه الصلاة والسلام أن الكفر قد يكون ببيع الدين؛ لأجل عرض الدنيا؛ ولأجل الشهوات.
وهذا عند التأمل نجده منتشراً في أجزاء العالم كله، فنجد عبادة الشهوات وعبادة المال، وعبادة الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة والملك والرياسة والصور، وذلك الصوت الذي يقود به إبليس قطعاناً وجماعات هائلة تعد بالملايين من البشر إلى الكفر والعياذ بالله، فيستهزئون بدين الله سبحانه، ويأبون الانقياد، ويرون أنفسهم أحراراً فيما يفعلون، ويرون الحرية التي ينادون بها تشمل فعل كل ما يشتهون دون التزام بشيء من شرع الله سبحانه وتعالى، أو التزام بأوامر رسله عليهم الصلاة والسلام، فشرك الإباء والاستكبار والرد لدين الله والعياذ بالله من أخطر أنواع الشرك والكفر.
(2/4)
سبب إهلاك نساء قوم لوط
وهناك نوع ثانٍ نلحظه في قصة قوم لوط، وهو أن الله أهلك الرجال والنساء معاً وكان من ضمنهم عجوز في الغابرين، وهي امرأة لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد ذكر الله عز وجل أنهم يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من أزواجهم، كما قال عز وجل على لسان لوط: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:165 - 166]، فلم تكن هذه المرأة ولا غيرها من نساء قوم لوط يفعلن الفاحشة؛ لأن الرجال تركوا الشابات، فكيف بالعجائز؟ فلا شك أن ذلك أولى بالترك، ولكن لماذا عذبت النساء؟ ولماذا أهلكت امرأة لوط؟ إن سبب هلاكهن هو إتيانهن بنوع آخر من الشرك، وهو شرك الرضا والمحبة والموالاة على الكفر والباطل، وعلى تكذيب الرسول وعلى معاداة الحق، وهذا النوع من أخطر أنواع الشرك والكفر الذي يقع في الأمم، ذلك أن كثيراً من الناس لا يباشرون الباطل بأنفسهم، ولكنهم يرضون بفعله، ويقرون ويصححون فعله، ويرون أن الباطل من كفر وشرك أو نفاق أو معاصٍ وذنوب حق لصاحبه، ويرضون بالمنكر فيصيرون كمن ارتكبوه.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى لذلك أمثلة كثيرة، فقوم ثمود نسب الله عز وجل إليهم قتل الناقة جمعياً، فقال: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14]، وإنما الذي تولى العقر واحد، وهو أشقاها، كما قال تعالى: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:12 - 14]، فنسب العقر إليهم جميعاً؛ لأنهم كانوا مقرين ومساعدين ومعاونين ومؤيدين للذي عقر، كما قال عز وجل: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:29 - 31]، فعذب الجميع لأنهم رضوا، كما أن امرأة لوط كانت ردءاً لقومها، ومعاونة لهم على منكرهم، وهي التي أخبرت قومها بأضياف زوجها.
ولوط عليه السلام لم يكن من هؤلاء القوم، وإنما هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهو الذي آمن من قوم إبراهيم، كما قال عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وهاجر لوط مع إبراهيم وأرسله الله إلى قرى سدوم، وهي قرى في فلسطين قرب البحر الميت، وتزوج هذه المرأة من أهلها، وأرسله الله إليهم لينهاهم عن تلك الفاحشة الفظيعة، ولكنها ظلت موالية لقومها محبة لهم على كفرهم وشركهم، راضية بفعلهم، معاونة لهم على الإثم والعدوان، والكفر والطغيان، فصارت مثلهم في المصير والجزاء؛ لأن كل من رضي بالباطل فهو شريك فيه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من شهد المعصية فكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن فعلها.
فعدل من الله عز وجل أن يكون حب الكافرين على كفرهم، والرضا به سبباً في الضلال والكفر والعياذ بالله.
وكثير من الناس يرى في نفسه الحق وفي نفس الوقت يصحح مذهب أهل الباطل والشرك والكفر والضلال والنفاق، فيصير منهم، ولو لم يشرك مثل شركهم، أو يفعل مثل فعلهم.
ومعنى هذا: أن امرأة لوط كانت ردءاً لقومها، فقطاع الطريق البعض منهم يباشر قطع الطريق، والبعض يحرس، وينظر لهم من يأتي، وفي الحقيقة لن يتم عمل الذي يباشر أخذ المال أو القتل إلا بمعاونة الردء، فهذه المرأة كانت معاونة لقومها، فخرجت إليهم، وأشارت: أن احضروا سريعاً فعند لوط رجال لم يُر مثلهم في الجمال.
فهذا هو سبب هلاك النساء اللاتي رضين بالفاحشة، ورضين بالمنكر والكفر، وكن ضمن المستهزئين بالشرع، وكن مستهزئات بلوط عليه السلام، فكانت خائنة كما وصفها الله بقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]، وكانت خيانتها خيانة عقيدة ولم تكن خيانة فراش؛ لأنها لم تكن تفعل الفاحشة، ولم يفعل قوم لوط الفاحشة مع عجوز، أو امرأة، فقد كانوا لا يأتون النساء وإنما كانوا يأتون الذكران والعياذ بالله.
(2/5)
الواجب على أتباع الأنبياء
وفي هذه القصة معنى آخر، وهو: أن لوطاً عليه السلام لم يؤمن به من قومه رجل واحد، كما دلت عليه الآيات، كقوله تعالى حاكياً عنه: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، وهذا المعنى يجب أن يضعه الدعاة إلى الله والمؤمنون في كل وقت في الحسبان، فعلينا أن نعمل بما أمر الله، ونلتزم بشرعه، ولو لم يستجب لنا أحد، كما قال عز وجل عن لوط في خطابه لقومه: ((أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ))، فلم يؤمن به رجل واحد، وليس منهم رجل رشيد، وهذا يدلنا على قلة من استجاب للأنبياء، وثمرة هذا العلم ألا نحزن للقلة، وألا نغتر بالكثرة، بل نعمل بما أمرنا به، ولو لم يؤمن أحد، فلم يؤمن بلوط إلا بناته، ولم يؤمن به بيت واحد في القرية كلها، وكانوا فيما ذكر أهل السير نحو أربعة آلاف ألف، أي: أربعة ملايين، وآثارهم الباقية تدل على أنهم كانوا ذوي حضارة، وبعض الناس يقول: وكأن انفجاراً نووياً قد حدث، وشيئاً هائلاً قد دمر هذه القرى، وقرى سدوم بقرب البحر الميت، وهذا يدلنا على شدة عنادهم، وأنه لم يستجب منهم أحد، ولم يؤمن بلوط إلا بناته، فسبحان الله! فلابد أن يعد الداعي إلى الله عز وجل عدته لذلك، وأن يعمل لله سبحانه وتعالى، ولو لم يستجب له أحد، ولو لم يقبل دعوته أحد، فإن الله يغير وجه العالم بالقلة لا بالكثرة، والله يمكن للحق الذي تكون عليه الطائفة المؤمنة لا بكثرة عددها، ولا قوة عتادها، ولكن بقوة إيمانها واستقرار الإيمان وثباته في القلب، وبذلك لا بد من العمل دون النظر إلى النتائج، فهي بإذن الله، وليس علينا أن نحدد النتائج، ولنا أسوة في أنبياء الله الذين لم يستجب لهم أحد، فلنعمل ولنترك النتائج إلى الله سبحانه وتعالى.
(2/6)
حصول النصر بعد البلاء، وجزاء من قطع الطريق لأجل الفاحشة
وحين نتأمل في هذه القصة نجد أن البلاء يشتد ليحصل الانفراج من حيث لا ندري ولا نشعر، فالله سبحانه وتعالى أرسل الملائكة نصرة للوط، وإهلاكاً لقومه، وتدميراً لهم، فأرسلهم في صور بشر، وفي هذا امتحان شديد للوط عليه السلام؛ فإنهم جاءوه في صورة رجال شبان من أحسن الناس وجوهاً، يطلبون ضيافته، ولم يخبروه بحقيقة أمرهم، وكان اليوم العصيب أشد الأيام، وهو اليوم الذي سبق الفرج والنصر، وسبق إهلاك الظالمين المجرمين.
فالله سبحانه وتعالى أرسل الفرج في صورة امتحان كما ذكر سبحانه وتعالى بأن الملائكة لم يقدموا عليه في صورة ملائكة يطمئنونه، بل جاءوه يطلبون ضيافته، وهو يعلم عجزه عن حمايتهم وعجزه عن دفع قومه عنهم، وقد نهوه عن العالمين، ومنعوه أن يضيف أحداً؛ لأنهم كانوا يقطعون السبيل لنيل الفاحشة، ويأتون في ناديهم المنكر والعياذ بالله! وهذا أظهر ما قيل في تفسير قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29].
ويمكن أن يكون قطعهم السبيل لأجل أخذ الأموال فهو قطع سبيل، ولكن نيل الفاحشة أشد منه، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم: في أن من شهر السلاح ليعتدي على أعراض الناس فليس زانياً فقط، بل هذا يتحتم قتله ولا يطبق عليه حد الزنا فقط، بل يجب قتله؛ لأنه قاطع طريق؛ ولأن الاعتداء على الأعراض أشد على الصالحين من الاعتداء على النفس والمال، وقد قال سبحانه وتعالى في اللذين كانوا يروعون المؤمنات في المدينة: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61]، ولذا ذكر السدي في هذه الآية: أن من شهر السلاح للاعتداء على الفروج لم يكن له جزاء إلا القتل، وهذا هو الصحيح، وقد ذكر علماء المالكية مثل ذلك فيمن اعتدى على الفروج وقطع الطريق لذلك.
وفي السيرة أن الزبير رضي الله عنه كان في طريق مع جارية له في سفر أو نحوه فمر به لصان فسألاه المال، وكان الزبير رضي الله عنه من أشجع الفرسان، فهو حواري النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب منفرداً إلى بني قريظة وقت خيانتهم، وخرق جيش الروم في اليرموك مرتين ذهاباً وإياباً، فهذان اللصان سألاه المال، فأعطاهما المال، ثم قالا له: خلَّ عن الجارية، فرفع السيف وضربهما ضربة واحدة، فقتلهما، فإنهما لما سألاه أن يترك جاريته لينالا الفاحشة منها قتلهما، والدفع عن العرض واجب باتفاق أهل العلم بقدر الإمكان.
والمقصود: أن قوم لوط نهوه أن يضيف أحداً؛ ليتمكنوا من نيل الفواحش من المارين بهم، وكانوا يفعلون الفواحش علناً والعياذ بالله! وكانوا يأتون في ناديهم المنكر، ويكشفون عوراتهم علناً، كهذه النوعية التي ترى في زماننا من عبيد الشهوات في المجتمعات المنحطة التي يكثر فيها هذا الفساد، فإنهم يفعلون هذه الفواحش أمام الناس والعياذ بالله! بل صار حالهم أسوأ من قوم لوط لما اخترعوا آلات التصوير الحديثة، فصاروا ربما يفعلون هذه الفواحش أمام الكاميرات؛ لتنقل على العالم في المشارق والمغارب، فنعوذ بالله من ذلك! وذلك من أفظع ما يضر بالفطرة ويضادها، فإن الله فطر الإنسان أن يستتر عند فعل هذه الشهوة، بل فطره على أنه يريد أن يستتر تلقائياً ويستر عورته، كما قال الله عز وجل عن آدم وحواء: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]، فبحثا عن الستر تلقائياً مع أنه موجود هو وزوجته فقط، ولكن لما انكشفت العورة سرعان ما بادرا إلى سترها، وذلك هو الذي فطر الله العباد عليه، وقد أنزل الله علينا لباساً يواري سوءاتنا، فالتعري أمام الناس فتنة عظيمة شيطانية كما أخبر الله عز وجل، عن ذلك فقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27]، فإبليس هو الذي يريد ذلك التبرج والعري والفساد علناً، وقد فعلت الفواحش أمام الناس، وأمام الملايين في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالمقصود: أنهم كانوا يأتون كل ذلك فأتى الفرج في صورة امتحان وبلاء؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، فجاءت الرسل لوطاً في صورة رجال، وقد بين الله عز وجل شدة حال لوط في ثلاثة هموم: فقد ساءه وجودهم، وساءه أن يأتيه ضيوف مع كرمه وإحسانه؛ لعجزه عن الدفاع عنهم، كما قال تعالى: ((سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا))، فضاق صدره ولم يحتمل: ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)).
فانظر إلى الشدة التي كان فيها في هذا اليوم الذي كان سابقاً بيوم واحد على يوم النصر والتمكين وهلاك الظالمين، فإن أشد ما تكون الأمور ضيقاً قبيل انفراجها، كما أن من يريد أن يرمي سهماً إلى أعلى يشد الوتر إلى أسفل جداً ثم يتركه فينطلق ليرتفع أعلى ما يمكن، ولو شده شداً ضعيفاً لارتفع ارتفاعاً ضعيفاً، وسنة الله عز وجل أن أشد الناس بلاءاً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وكلما كان في الرجل ثباتاً في الدين زيد في بلائه، والله سبحانه وتعالى عليم حكيم.
(2/7)
سلب الفاحشة لإرادة الإنسان وخطرها
قال تعالى: ((وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ))، أي: شديد؛ لأنه كان يتوقع أن يأتي قومه إليه، ولذلك فهو يريد أن يخبئ أمرهم؛ ولأنه لا يعلم قوماً أخبث من قومه، فرد على الأضياف معرضاً، والأضياف يصرون على أن يكونوا ضيوفاً، وعلى أن يدخلوا إلى بيته، قال تعالى: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ))، فمن الذي جاء بهم، وقد دخلوا إلى بيت لوط وهو يحاول أن يجعله سراً؟! إنها تلك العجوز الخائنة، فإنها خرجت فأشارت إلى قومها أن احضروا سريعاً، قال تعالى: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ))، ويهرعون معناه: يسرعون، إلا أنه مبني للمجهول، وكأن هناك من يدفعهم لذلك، وبالفعل فالشيطان يدفعهم إلى مصيرهم، وهو الهلاك الحتمي؛ لينالوا مزيداً من العقاب، والعياذ بالله! وانظر إلى الشهوة التي تعمي الإنسان، فهلاكهم في الغد سيكون أعظم هلاك وهم يبحثون عن الشهوة بسرعة، ولا يفكرون إلا في نيلها، وانظر إلى امرأة العزيز كيف كانت تجذب يوسف حتى مزقت قميصه لتنال الشهوة المحرمة، ولم تشعر بخطوات سيدها الذي وصل إلى الباب! لأن الشهوة تعمي فعلاً، فتجعل الإنسان مسلوب الإرادة، مع أنه محاسب أشد الحساب على تلك الشهوة، قال سبحانه: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78]، والسيئات هنا فسرتها الآية الأخرى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81]، وقال غير واحد: اكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.
(2/8)
حد اللواط
وفاحشة اللواط -والعياذ بالله- من أفظع الفواحش، وهي أشد من الزنا، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، أي: إذا كان المفعول به بالغاً مختاراً، وإلا فإذا كان طفلاً أو كان غير مكلف لم يقم عليه الحد، وحد الشذوذ -وهو: إتيان الرجال- هو القتل، وبعض أهل العلم يرى بأن يكون قتله رجماً حتماً، وبعضهم يرى قتله حرقاً، وهذا غير صحيح، وقد روي عن الصحابة الذين لم يبلغهم النهي عن التحريق بالنار فيما يظهر، وروي عن بعض الصحابة أنه يلقى من شاهق، ويتبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط.
والذي عليه الشافعي رحمه الله وغيره: أنه يجب قتل اللوطي، وأنه يقتل بالسيف، وهو قول الإمام أحمد رحمه الله، وهناك وجه آخر عند الشافعي وهو: أن يقام عليه حد الزنا، والصحيح: وجوب قتله، وقد ذكرنا السيئات التي كانوا يعملونها وهي: أنهم كانوا يقطعون الطريق، وحينئذ ينتهكون الفرج المحرم، وقد ذكرنا لزوم العقاب على من فعل ذلك، فقد كانوا يأتون في ناديهم المنكر، وهو: كشف العورات وفعل الفواحش علانية في مجتمعهم ونواديهم التي كانوا يجتمعون فيها.
(2/9)
إعراض قوم لوط عن النساء
قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، فحاول أن ينصحهم: ((قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي))، يدعوهم إلى بناته بأن يزوجهن لهم، وهذا أصح الأقوال في هذه الآية، وهو أنه: يدعوهم إلى أن يتوبوا إلى الله ويتزوجوا بناته، وقال بعض أهل العلم: المقصود بالبنات: نساؤهم؛ فإن النبي أب لقومه، وهذا غير ظاهر من الآية، بل الذي يظهر أنه عرض بناته، ولكن لا لنيل الفاحشة كما قد يتبادر، فإن الزنا ليس بطهر، ولا يجوز أن يقدم عرضه ليدفع عن أضيافه، فهذا مستحيل، والنبي لا يقبل الدياثة أبداً، والديوث هو: من يقر الفحش في أهله، وهذا لا يدخل الجنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يظهر أنه عرض بناته للتزويج، وذلك أنهم إذا تابوا إلى الله زوجهم بناته.
وأما القول بأن النبي أب لقومه فهو أب للمؤمنين والمؤمنات، وذلك أن هذه الأبوة معنوية للقلوب؛ لأنه ببعثته ودعوته ولدت قلوبهم من ظلمات الجهل والكفر والظلم وخرجت إلى نور الإيمان والعلم والعدل، فولادة القلوب حق، وبها يكون النبي أباً للمؤمنين، كما قال الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وفي مصحف أبي: (وهو أب لهم).
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد)؛ لأن به تفتحت قلوبهم وعقولهم على نور الحق والإيمان، وكانت قبل ذلك في الظلمات، والقلب يولد، كما ورد عن المسيح أنه قال لأتباعه: إنكم لن تجدوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين.
وكثير من الناس لا يدري شيئاً عن هذه الولادة، ويظن أن الولادة فقط ولادة الأمهات، ونحن نقول: إن هذا لمن آمن، أما الذي لم يولد قلبه فالنبي ليس أباً له، وقوله تعالى: ((وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) إنما هي فرع، فأمهات المؤمنين فرع عن أبوة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وليست لكل الأمة، هذا هو الصحيح؛ ولذا نقول: إن قوله تعالى عن لوط: ((قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ))، معناه، أنه كان يدعوهم إلى التزوج من بناته، وأطهر هنا ليست على بابها في أفعل التفضيل، فكثيراً ما تستعمل صيغة (أفعل) وليس بين المفضل والمفضل عليه اشتراك، وذلك كثير في القرآن، كقوله تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، والدنيا لا بقاء لها، ولا خير فيمن طلبها دون الآخرة، وذكر أهل اللغة أمثلة على ذلك من اللغة، مثل قولهم: الثلج أبرد من النار، والنار ليس فيها برد، ولكنهم يقصدون: أن الثلج هو البارد والنار ليس فيها برودة، ونحو ذلك.
وقوله: ((هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)) أي: مما تريدون، والطهر هنا: طهر بفعل ما شرع الله عز وجل، وترك الفواحش التي هي نجس، وإرادة نيل الفاحشة تدل على نجاسة القلب والعياذ بالله.
قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، أي: أنه خاف أن يخزوه في ضيفه بفعل الفاحشة فيهم، وقوله تعالى: ((أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)) استفهام غرضه الإنكار، أي: ليس منهم رجل واحد رشيد يقبل الرشد ويرضى به، فليس عندهم إلا السفه، والعياذ بالله.
قال تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود:79] أي: من رغبة، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]، أي: ما نريد إلا الرجال.
(2/10)
أهمية التوكل على الله والالتجاء إليه
ولوط عليه السلام كان يدافعهم على الباب، وهم يريدون الاقتحام والرسل بالداخل، وهو إلى تلك اللحظة لا يعلم أنهم ملائكة الله، قال سبحانه وتعالى عنه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، فهو حال شديد كان يعانيه لوط عليه السلام، فهو يقول: ((لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً)) أي: لفعلت بكم وفعلت، ولدفعتكم أشد الدفع، ((أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)) أي: إلى قرابة يحمونني، فليس له منهم قرابة كما ذكرنا؛ لأنه كان من قوم إبراهيم، فهو ابن أخي إبراهيم وغريب عليهم، أما امرأته التي تزوجها منهم فقد كانت عدوة له، وموالية لقومها ضده، فلم يكن يأوي إلى قرابة، ولم يستحضر لوط عليه السلام في تلك اللحظة أنه كان يأوي إلى الله عز وجل، ولقد كان ذلك في قلبه، لكنه عنى القرابة، وذهب ذهنه إليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد).
فهو فعلاً كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عتب عليه في هذه الكلمة، وهو لم يترك التوكل، ولم يكن نسي أنه يأوي إلى الله عز وجل ويعتمد بقلبه عليه، ولكنها لحظة تذكر فيها الأسباب، ويذكر انعدامها عنده، فعتب عليه فيها، وذلك في حق الأنبياء درجة من درجات النقص عن الكمال، فيعاتبون عليه؛ لعلو مرتبتهم ومنزلتهم العظيمة، وهذا من جنس حسنات الأبرار وسيئات المقربين، فالواحد منا لو طرأ على قلبه مثل ذلك ما لامه أحد، ولكن العتب على الأنبياء لأجل ارتفاع منزلتهم العظيمة، وهي ليست ذنوباً في حق عموم الناس، ولكنها في حق الأنبياء نقصان عن الكمال، فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بالرحمة فقال: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، وهو الله عز وجل، فكان الأفضل أن يستحضر في مثل هذه اللحظات توكله الكامل على الله عز وجل، كمن هو أعلى منه قدراً من أنبياء الله، كموسى صلى الله عليه وسلم الذي قال له أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، ففي لحظات الشدة الشديدة جداً يجب أن يقع في القلب أول وهلة ما يدل على عظيم التوكل أو أنه أقل درجة من ذلك، فموسى عليه السلام عندما تراءى الجمعان، ووصل إليهم جنود فرعون عند شروق الشمس، وتأكد أصحابه أنهم قد أدركوا، وأقسموا على ذلك، وقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، وأكدوا بإن وبالقسم، قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فاستحضر معية الله عز وجل، وهكذا فعل من هو أعلى منه قدراً، وهو إبراهيم عليه السلام، فإنه لما ألقي في النار جعل يقول: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، قالها إبراهيم حين ألقي في النار.
فهو ألقي في النار ولم يلتفت إلى الأسباب، بأن تأتي ريح مثلاً أو يأتي مطر فيطفئها، وإنما قال: حسبنا الله -أي: كافينا الله- ونعم الوكيل.
قال ابن عباس: وقالها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وأعلى منهم قدراً النبي عليه الصلاة والسلام حين وصل الكفار إلى فم الغار، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقد كان خائفاً جداً على النبي عليه الصلاة والسلام، والأسباب ظاهرة جداً في هذا، وكان أبو بكر أحسن حالاً من أصحاب موسى، إذ أكدوا أنهم مدركون، ولكن أبا بكر رضي الله عنه قال: لو نظر أحدهم، فعلق ذلك بقوله: (لو) فإنه يحتمل ألا ينظر أحدهم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان في شأن آخر، فقال لصاحبه كما قال الله عز وجل حاكياً عنه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فلم يستحضر ضعفه أو عجزه بالنسبة إلى قوتهم، وقلته بالنسبة إلى كثرتهم، بل استحضر معية الله عز وجل فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فكانت العاقبة: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40].
وذكر غير واحد من السلف: أن الملائكة عتبوا على لوط قوله: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وعند ذلك بينوا حقيقة أمرهم: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]، وكل هذا لأنهم أرادوا لوطاً عليه السلام نفسه بالأذى، وأرادوا أن يصلوا إليه هو، وليس فقط إلى الأضياف، وقد ذكر غير واحد من السلف من المفسرين: أن جبريل عليه السلام خرج إليهم وهم وقوف بالباب، ولوط يدافعهم، وقد عجز أن يدفعهم، وكاد الباب أن يدفعهم، وكادوا أن يدخلوا، فخرج عليهم جبريل فضربهم بطرف جناحه، وجبريل عليه السلام له ستمائة جناح، وكل جناح منها قد سد الأفق فهو ذو خلق عظيم، فضرب وجوههم بجناحه، فطمس أعينهم، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:37]، فكان هؤلاء الذين أرادوا مباشرة الفاحشة أشد عقاباً، وقد عوقبوا بعقوبتين: طمست أعينهم، ويقال: إنها ذهبت بالكلية ويقال: ذهب ضوءها، وعوقبوا في الصباح بعقوبة قومهم، وهي ما ذكر الله سبحانه وتعالى من أنه جعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
(2/11)
هلاك العصاة الكافرين ونجاة المؤمنين
فهؤلاء الذين أرادوا أن يصلوا إلى لوط لأذيته بشرته الملائكة بأنهم لن يصلوا إليه: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود:81]، أي: بجزء من الليل، وفسر في الآية الأخرى بأنه السحر، قال عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:33 - 34] أي: آخر الليل: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:35]، فكل شاكر نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام ينجيه الله سبحانه وتعالى بفضله عز وجل.
(2/12)
ذكر الخلاف في استثناء امرأة لوط من أهله
قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81]، فقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء، هل هو راجع إلى الالتفات وأن المعنى: أن امرأتك ستلتفت حين تسمع عذاب قومها أو لا؟ فقال بعضهم: إنها خرجت، ولكن عندما سمعت الوجبة وصوت العذاب الذي نزل بقومها التفتت وقالت: واقوماه! فهي ما زالت محبة لقومها إلى آخر لحظة، فأصابها حجر فقتلها، هذا قول.
والقول الآخر -وهو الصحيح الذي يدل عليه القرآن-: أنها لم تخرج أصلاً، وأن الاستثناء في قوله: ((إِلَّا امْرَأَتَكَ))، معناه: لا تسر بها، فأسر بأهلك واخرج بهم ليلاً إلا امرأتك لا تخرج معك، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، فلم يخرج منها إلا المؤمنون، وهي لم تكن مؤمنة، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36]، فكان البيت مسلماً لكنها كانت خائنة، فكانت تظهر شيئاً للوط وهي على دين قومها، فلم تخرج؛ لأن الله قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، ويدل عليه قوله عز وجل: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171]، أي: أنها بقيت ولم تخرج، وكذا قوله في هذه الآية: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81]، وهذا يستلزم أن يكون مما أصابها أنها رفعت، ثم أهوي بها إلى الأرض، قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] فالله عز وجل جعل من عذابهم أنهم يهوون من السماء الدنيا إلى الأرض، وهذا أشد في الرعب والهلاك من حجارة تصيبهم فقط، وذكر الله عدة عقوبات، هي: طمس الأعين لمن باشروا محاولة الاقتحام لبيت لوط، وذكر القلب فقال: ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا))، وذكر الحاصب فقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82].
فقوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81]، يلزم منه أن يصيبها على الأقل ما يصيب عامة قومها، وهو: الرفع إلى السماء ثم الهوي إلى الأرض، وأن تصيبها كذلك الحجارة.
ومن قال: إنها خرجت، فقد قال: إنه أصابها الحجارة فقط، والصحيح الأول، وهو أنها لم تخرج؛ لأنها ليست مؤمنة والعياذ بالله! وذلك يدل على أن القرابة لا تنفع إذا لم يكن هناك إيمان، ولابد من المفارقة والعداوة للكفرة والبراء منهم ولو كانوا من أقرب المقربين.
قال سبحانه: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81]، وكأن لوطاً استعجل أكثر من ذلك، فقالوا له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
قال تعالى: ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا))، أي: عند شروق الشمس بعد رحيل لوط عليه السلام وبناته، ويقال: بنتيه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82]، فاقتلع جبريل عليه السلام -فيما يذكرون- هذه القرى بسكانها ومن فيها وبيوتها، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، وصياح ديوكهم، ثم أهوى بها إلى الأرض مقلوبة منكوسة، كما قال تعالى: ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) وقال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]؛ لأنهم -والعياذ بالله- اختلقوا هذا الذنب، ولم يسبقهم إليه أحد من العالمين.
قال سبحانه: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] أي: من طين قد تصلب وصار شديد التصلب، منضوداً معداً لذلك، أو متتابعاً كثيراً، والتتابع أظهر، والله أعلم.
قال تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [هود:83] أي: معلمة عند الله عز وجل، فكل حجر لشخص معين، يقال: إن كل حجر كان عليه اسم الذي يصيبه.
قال عز وجل: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، فليست هذه العقوبة خاصة بقوم لوط، بل يمكن أن تصيب غيرهم، كما جاء أنه يكون في آخر هذه الأمة قذف ومسخ وخسف بمن يفعلون الفواحش، فيقذفون بالحجارة، ويمسخون قردة وخنازير، وغير ذلك من الصفات القبيحة، وأشدها مسخ القلوب، وخسف بالزلازل التي تدفنهم في الأرض والعياذ بالله.
(2/13)
الفوائد المستفادة من قصة لوط عليه السلام
وهذه القصة تدلنا: على مدى الخطر الذي يتهدد الذين يأبون الانقياد لشرع الله، والذين يعبدون الشهوات، والذين يستهزئون بأنبياء الله وأوليائه الذين يدعونهم إلى الله عز وجل.
ونعلم منها: أن العاقبة للمتقين وإن كانوا قلة، ونعلم هوان الكفرة على الله ولو كانوا أكثر الناس، فقد كان قوم لوط أربعة آلاف ألف فيما يذكرون، أو أقل أو أكثر، وقراهم كانت عامرة، وكان يمر عليها العرب، قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40].
فالله سبحانه وتعالى جعل عاقبة المجرمين وخيمة لنراها دائماً، وهي ليست مبنية على القلة والكثرة، بل على الأعمال والصفات والأخلاق.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
(2/14)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة موسى مع فرعون
إن المؤمن يعتقد جازماً أن كل زخارف الدنيا فانية، وأن ملوكها زائلون، وليعلم المؤمن أن الله ناصره ومؤيده، فلا يدفع الباطل برجاء أهله، بل يدفع الباطل وكيده بالتوكل على الله عز وجل.
وخير دليل على ذلك: قصة موسى وقومه، فالمؤمنون هم أشد البشر بلاءً بعد الأنبياء، ونصر الله لهم منوط بقوة إيمانهم وصبرهم على البلايا والمحن، وفي قصة موسى مع فرعون خير دليل وعبرة لمن اعتبر.
(3/1)
القرآن حياة للقلوب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد جعل الله سبحانه وتعالى النور والهدى في كتابه المبين، وجعله حياة للقلوب، وروحاً تحيا به كما وصفه الله فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
وليس هناك مجلس نجتمع فيه أحسن من مجلس نتلو فيه آياتٍ من كتاب الله، ونتدارس ما فيها من النور والهدى والبيان، خصوصاً عندما تظلم الدنيا من حولنا، فنتلو آيات الله سبحانه وتعالى؛ لنتبعها، ولنؤمن بها، ونعمل بما فيها، ونتدارس معاً ما يغشانا الله سبحانه وتعالى لأجله برحمته، وينزل علينا ملائكته، ويذكرنا سبحانه وتعالى فيمن عنده.
(3/2)
معجزات موسى وتكبر فرعون وملئه عن قبولها
إن أكثر القصص تكراراً في القرآن العظيم قصة موسى صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت في مواضع متعددة من كتاب الله؛ لما فيها من العبر والفوائد التي تجعل المتأمل والمتدبر فيها يعلم عظمة القرآن، وبلاغة الإعجاز فيه؛ بالإضافة إلى ما فيه من بيان الحق، وإزهاق الباطل، وسنة الله سبحانه وتعالى الماضية في الصراع الذي يجري بين الحق والباطل دائماً، وسوف نتلوها من سورة يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم نذكر ما فيها من الفوائد والعظات والله المستعان.
قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:75 - 92].
نعوذ بالله من الغفلة عن آياته البينات المحكمات الواضحات المنيرات.
لقد أخبر الله عز وجل أنه بعد إهلاك الأمم والقرون المكذبة للرسل أرسل وبعث موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام إلى فرعون وملئه -والملأ هم: السادة والكبراء- بآياته، فما كان من فرعون وملئه في مقابلة الآيات العقلية والحجج السمعية والحسية والآيات المعجزات إلا أن قابلوا ذلك بالكبر، ولقد كانت الآيات في بداية الأمر هي آيات دلائل القدرة والتوحيد الذي تقر به فطر الناس جميعاً، قال تعالى: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، وقال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، وقال: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28].
ثم جاء بعد ذلك دور الآيات والمعجزات الحسية، وهي: العصا، واليد، والجدب والقحط والسنين، ونقص الثمرات، والجراد، والقمل، والضفادع، والطوفان، والدم آيات مفصلات، وكل ذلك قوبل بالكبر والعياذ بالله! ذلك المرض العضال الذي إذا وجد في مخلوق كان سبباً لارتكاسه وانتكاسه أعظم انتكاسة، بل مقدار ذرة منه -والعياذ بالله- تؤدي بالعبد إلى الحرمان من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فالكبر هو مرض إبليس والمتكبرين على أمر الله، وسبب كفر الكافرين في الأغلب كما قال عز وجل عن إبليس: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فبالكبر والإباء يرد الإنسان الحق، وينظر إلى نفسه نظرة الكمال وإلى غيره نظرة الاحتقار، وربما ازداد غروره حتى ينظر إلى شرع الله عز وجل -الذي لا يرضى أن يخضع له- نظرة الاستكبار، ويتكبر على شرع الله، ويرد أمره؛ فيكون إبليسيَّ الطريقة هالكاً مع الهالكين، فقد كان فرعون وهامان وجنودهما متكبرين هذا الكبر، وكانوا قوماً مجرمين، كما قال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس:76].
(3/3)
خطر السحر والسحرة
ومع أن السحر كان عند فرعون وملئه إلا أنه اتهم به موسى كما قيل: (رمتني بدائها وانسلت) ففرعون هو الذي يكره الناس على السحر؛ فقد فضحه السحرة كما حكى الله عنهم حيث يقولون: {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، فهو الذي كان يعلم الصغار على يد الكبار، ويلزمهم ويكرههم على تعلم السحر ومع ذلك يتهم موسى عليه السلام بأنه أتى بالسحر، ويزعم أن ذلك بَيِّن جداً، وأنه سحرٌ مبينٌ، فأي كذبٍ أفضح من هذا؟! فهو يرى الحق أمامه بيناً جلياً ويوقن به في نفسه، ومع ذلك يتهم أهله بأنهم هم السحرة مع أنه هو الساحر، ويتهم أهله بالكذب مع أنه هو الكاذب، ويتهم أهله بأنهم يريدون الكبرياء مع أنه هو المتكبر، فسبحان الله! أي تناقض هذا؟! يتهم أهل الحق بأنهم يريدون الفساد مع أنه من أعظم المفسدين، كما قال الله تعالى حاكياً عنه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، ففرعون يتهم موسى وهارون عليهما السلام بكل أمراضه الخبيثة؛ ويظن أن كل الناس كذلك، ففي نظره أنه إذا كان هو يعمل من أجل الكبرياء، فلا بد أن موسى يريد الكبرياء، وإذا كان هو يعمل بالسحر فلا بد أن موسى أيضاً يعمل بالسحر مع أنه يوقن بالفرق، وقد علم ذلك، كما وصفهم الله بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].
وكذا قال عز وجل عن موسى في خطابه لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102].
وهذه النوعية من البشر نوعية فظيعة مجادلة بالباطل من أجل جحد الحق، رغم وضوحه وجلائه، قال عز وجل: {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} [يونس:76 - 77]، وهذا استفهام للنفي وللإنكار عليهم، فهذا لا يمكن أن يكون سحراً؛ لأن السحرة أنفسهم قد أقروا بأنه ليس بسحر، ويستحيل أن يكون سحراً.
هذا الذي يفعله فرعون في هذه القصة هو أسوة سيئة لكل من سار على طريقه ونهجه.
(3/4)
حكم السحر والسحرة
قال تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، أتى الله بهذه القاعدة الكلية؛ ليبين أن كل ساحر لا يفلح بأنواع السحر المختلفة، والسحر -والعياذ بالله- من الكبائر، وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات ومقارناً للشرك فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر)، فجعله بعده مباشرة وأكثر أنواع السحر من الكفر؛ إذ كل سحر متعلم من الشياطين فهو كفر، كما قال عز وجل: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102].
إذاً: السحر الذي يتعلم من الشياطين هو من الكفر، وأكثر أهل العلم يرون إطلاق القول بكفر الساحر، وكثير منهم فصل فيه، وهو الصحيح، فيقال للساحر: صف لنا سحرك، فإن وصف كفراً، كمن يسجد للأصنام، أو يعبد الشياطين، أو يتقرب للكواكب، ويذبح لها، أو يكتب القرآن بالنجاسات، أو نحو ذلك كفر.
وإن كان بأدوية، وتدخين وخداع البصر ونحو ذلك فإن استحله كفر، وإلَّا فهو كبيرة من الكبائر والعياذ بالله من ذلك!
(3/5)
سحر البيان وخطره
وكثير من الناس يَغْفُلُ عن نوع خطير من أنواع السحر مع أنه داخل في قوله عز وجل: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، وهو سحر البيان الذي يجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً، والسحر أصلاً: يقال للشيء الخفي الذي يدخل بلطف من غير شعور، وبطريقة غير ظاهرة في التأثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وهذا ذم لهذا النوع من البيان الذي يقلب الحقائق، وهذا السحر منتشر في أرجاء الأرض مشارقها ومغاربها، حتى إنه يجعل المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والمجرم بريئاً، والبريء مجرماً، ألم تسمعوا أن هيئة كبرى في إحدى الدول الأجنبية طالبت رئيسها بمعاقبة الفلسطينيين؛ لتسببهم في سفك الدماء وإحداث العنف، وأنهم لا بد أن يعاقبوا أشد العقاب؛ لكي يمتنعوا عن ذلك؟! وحدث بالإعلام المخرَّبِ للعقول الذي يجعل هذا المظلوم المذبوح هو الذابح! والناس هؤلاء يتصورون أنَّ عند هؤلاء المذبوحين قسوة فظيعة في التعامل، وهذا من انقلاب الأمور، كما يرى كثير من الناس التزام الحق والسنة واتباع الكتاب نوعاً من الغلو والتطرف والبعد عن الوسطية المطلوبة، ونحو هذا مما يقوله كثير من الناس، وكل هذا بسبب هذا النوع الخطير من السحر، ولكن كما قال الله: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)).
(3/6)
كيفية مواجهة السحر
وعلى الإنسان أن يواجه هذا السحر بآيات الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا السحر يضمحل كما اضمحل سحر السحرة أمام عصا موسى، فعصا موسى آية من آيات الله، وعندنا آيات من كتاب الله أعظم من كل ما سبقها من الآيات، ولذلك فلا بد أن يكون كتاب الله في صدورنا، وقلوبنا، وعلى ألسنتنا، نواجه به هذا السحر فإنه سوف يتلاشى، وسينقلب السحرة أنفسهم -بإذن الله- إلى أعوان للإسلام، وإلى مصدقين به وإذا ظللنا ندور بعيداً عن كتاب الله، ونكرر كلامهم بطريقتهم، كأن نتكلم كثيراً على طريقة المفكرين والساسة وغيرهم من غير بينة من كتاب الله فسوف ندور في دائرة مفرغة، ولن نفلح في إبطال سحرهم إلَّا بآيات الله، كما قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون: {بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35].
فكل من كانت معه آيات الله فسوف يغِلبُ، ومن كان فقيراً من آيات الله وليس عنده بينات القرآن فسوف يعجز عن مواجهة السحر، وسوف يُتَّهم بالباطل، وسيظل الأمر كما هو؛ ولهذا جاءت الوصية الأكيدة بالقرآن العظيم، وبحفظه، وبتدبره وبتلاوته، وبالدعوة به إلى الله عز وجل فكلما أكثرتَ من قال الله تلاشت أمامك ظلمات الباطل، وانفتحت لك القلوب؛ لأنه كلام الله الذي تكلم الله عز وجل به، وهو نور وهدى لمن شاء الله عز وجل من عباده، وهذا بالتأكيد سوف يفتح آفاقاً للخير أضعافاً مضاعفة عما إذا تكلمنا بغيره.
(3/7)
أسباب الإعراض عن الحق
قال الله عز وجل: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78].
فهم يعرضون عن الحق بسبب أمور، منها: مخالفة هذا الأمر بالعادات والتقاليد كما قال الله: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا))، فهذه تهمة فظيعة عند القوم: فقد خالف المعتاد والمجتمع الذي نشأنا فيه، وخالف الطريقة المثلى -مع أنهم والله يعيشون عيشة نكد وشقاء- وانظر كيف سخرت الآلاف من البشر من أجل بناء أهرامات هائلة.
هذا كله لتكون قبراً لملك من الملوك مع أن الناس يعدون ذلك من مظاهر المدنية.
والحضارة! أما الذين بنوه فماذا كسبوا من وراء ذلك؟ فكانوا يرون أن طريقتهم المثلى والعيش الذي هم فيه لا يقبل التغيير ولا التبديل ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا))، والتقليد هو من جعل ملايين الناس هكذا، وهو ليس حجة بل هو شبهة، ومع ذلك لا يقبل الناس التنازل عنه، بل إن أكثرهم يكفرون بسبب التقليد.
قال تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} [هود:109]، مودة بينهم في الحياة الدنيا كما قال الله على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25]، فبعض الناس من أجل أن يرضي أباه أو أمه أو أقاربه يكفر بالله ويعبد صنماً وثناً من غير الله سبحانه وتعالى بأنواع العبادات، مع أن العقائد باطلة قطعاً لا يقبلها عقل.
وأنا أتعجب من وجود أناس في زماننا هذا ما زالوا يعبدون البقر! والفئران! والحجارة! لماذا؟! كل ذلك من أجل التقليد والعياذ بالله، وتعظيم الآباء والأسلاف؛ فحجة أبي جهل على أبي طالب لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، ويقول كلمة لا إله إلا الله؛ ليحاج له بها عند الله، فيقول له أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: أنا على ملة عبد المطلب، فلم يتنازل عن دين الآباء.
فمن الخطر الكبير أن نكون مقلدين، أو لا نغير ما نشأنا عليه، بل لا بد أن تعرض الأمر الذي نشأت عليه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان حقاً قبلته، وإلا فلا بد أن ترفضه وتغيره إلى الحق؛ فدعوات الأنبياء ما قامت إلا على مخالفة ما كان عليه آباء المشركين وأجدادهم، وهذه التهمة هي التي واجهوا بها موسى، وموسى لم ننفيها، ولا ينبغي لنا أن ننفها، ولا أن نقول: نحن لن نغير الواقع والمجتمع، ولكننا سوف ندخل عليه بعض التغييرات لنصبغه بصبغة إسلامية، لا.
بل سوف نغيره بالتأكيد من جذوره حتى يكون إسلامياً محضاً من أساسه إلى ارتفاعه، فلا نقبل الموروث أياً كان، بل نقبل ما وافق الحق، ونرفض ما خالف الحق، والحق هو قال الله، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الصحابة رضي الله عنهم، فهذا هو الحق الذي به نزن الأمور.
فموسى أتى ليلفتهم وليبعدهم عما وجدوا عليه آباءهم من عبادة الأوثان وعبادة فرعون وطاعته بالكفر والعياذ بالله.
وقوله: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) هذه تهمة أخرى باطلة، وهي: أن فرعون قد اتهم موسى بأنه يريد الكبرياء والحقيقة أن فرعون وملأه هم المستكبرون، وهم الذين يعملون للدنيا، ويتكبرون في الأرض بغير الحق، ولكنهم يظنون أن كل الناس كذلك كما أن جامع المال يظن أن كل الناس تحب المال كحبه، وصاحب الملك والرئاسة يظن أن كل الناس تريدها، وأن غرض الناس كلهم كغرضه؛ فمن أجل ذلك يتمسك بها بشدة، وهذا باطل فليس أهل الإيمان ممن يريدون الرئاسة، أو الكبرياء في الأرض، ولكن أهل الإيمان يعملون لله عز وجل ولا يريدون أن يكونوا مشهورين على رءوس الناس، ولا أن يكون الناس تحت أوامرهم، وإنما يريدون أن يعبد الله عز وجل في الأرض، وهم أخفياء أتقياء، إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى، وحاجة أحدهم في صدره لا يريد لها تنفيذاً، ويصبر وهي في نفسه، وربما مات قبل أن تقضى؛ ففقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة؛ من أجل أن الدنيا لم تفتح لهم، ولم يقدموا في المجالس، ولو أقسم أحدهم على الله عز وجل لأبره.
فهذه التهمة الباطلة قديماً وحديثاً يُتَّهم بها الدعاة إلى الله، وأنهم يريدون الكبرياء والرئاسة والشهرة، وهذه التهمة لا تؤثر شيئاً في حقيقة الدعوة طالما كان الإخلاص والصدق مع الله عز وجل رائدها، وهو حقيقة أهل الإيمان بشرط أن يكونوا بالفعل متبعين للرسل، صادقين مع الله سبحانه وتعالى فإذا أخلصوا لله نصرهم ودفع عنهم هذا الاتهام الباطل.
(3/8)
مواجهة موسى مع سحرة فرعون
قال عز وجل عن قوم فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79].
فأراد فرعون جمع السحرة فأتوا له بكل ساحر من الدرجة الأولى والدرجة الثانية، فجمعوا له كل السُّحار المتقنين -وقد جاء لقط السحار صيغة مبالغة- كما في قوله سبحانه: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:37]، وقال: ((ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ))، فجمع كمية هائلة من ذوي الخبرة لمواجهة رجلين من كل أقطار مصر وكانوا كما طلب {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79].
(3/9)
إذلال الله لعزة السحرة
ثم قال الله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80]، وهذا الأمر بالإلقاء ما هو إلا استهانة بالباطل: ألق ما أنت ملقٍ فأنا عندي الحق الذي سوف يظهر بإذن الله تبارك وتعالى؛ وذلك ليقينه بضعف ما سيلقونه مع أنه واحد وهم مئات أو آلاف.
((قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ))، فألقى السحرة ما عندهم من حبال وعصي ولم ينسوا أن ينسبوا الفضل لفرعون، فألقوا بحبالهم وعصيهم وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، فكان لا بد من وضع البصمة الفرعونية على ما أتوا به، وأن ذلك من فضل فرعون، وأن عزة فرعون هي الغالبة.
وكما وصف الله فلقد أتوا بسحر عظيم: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فامتلأ الوادي بالحيات والثعابين حتى أوجس في نفسه خيفة موسى على الناس من أن يفتنوا، وقد أوشك الناس أن يوقنوا بأن السحرة سوف يغلبون، كما خاف موسى على إيمان بعض أتباعه.
(3/10)
إزهاق الله للباطل
قال الله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:68 - 69]؛ فلما ألقى الله إليه ذلك تقوى موسى عليه السلام، وواجه هذا الباطل مع أنه فرد واحد، وفي يده عصاً واحدة، فقد أوحى إليه سبحانه وتعالى ما ثبته به، وأوحى الله إليه أنه هو الأعلى والظاهر، وأنه بمجرد إلقائه للعصا فسوف يضمحل هذا السحر، وموسى موقن بكلام الله؛ فلذا قال قبل أن يلقي: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [يونس:81]، وذلك من أجل أن يلقي الرعب في قلوب الكفرة الظلمة، فهو متأكد أن الله سيبطل كل سحر، وكل ما يزيف الحق، ويجعل الباطل حقاً، والحق باطلاً، ويصور للناس الأمور على غير ما هي عليه فإن الله سيبطله {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].
وهذه قضية كلية ليست خاصة بزمن موسى عليه السلام، فكل مفسد في الأرض لا يصلح الله عمله ولا بد أن يضمحل الفساد بإذن الله تبارك وتعالى فإن الفساد ينتشر وينتفش، ولكن سرعان ما يزول، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فطبيعة الباطل التي خلقها الله عليه أنه زهوق يضحمل سريعاً.
((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ))، وإذا ما قرأ المؤمن هذه الآية استراح، ففي كل موضع يواجه فيه الفساد ويطمئن؛ ويواجه أنواعاً من الضلال والمنكر سواء في مواجهة الكفرة، أو الظلمة، أو المبتدعين، أو العاصين، أو المفسدين في الأرض لمجرد الشهوات فتأكد أن عملهم سوف يحبط؛ لأن الله قال: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)).
وقال الله: ((وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ))، وكيف يحق الله الحق بكلماته؟ يحقه بكلماته الكونية: كن فيكون، وكلماته الشرعية: بالوحي المنزل على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا المعنى من أعظم الأمور أهمية، وكيف أن هذا الأمر سيحصل به إبطال السحر وإبطال عمل المفسدين؛ ولهذا نؤكد أهمية الاحتجاج بكلمات الله سبحانه وتعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:82].
فالمجرمون يكرهون ظهور كلمات الله، ويكرهون ظهور الحق، ومع ذلك وعد الله سبحانه وتعالى بظهور الحق نافذاً، وهو سبحانه وتعالى صادق الوعد، ولا يخلف الميعاد، وقد وعد بظهور الإسلام ولو كرة المشركون والمجرمون {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
فإذا كنت تحمل كلمات الله فستنتصر، وسيزهق الباطل ولو كره المجرمون، فمهما كان من أمر فنتيجة الصراع حتمية معلومة، فالله يظهر الحق ويبطل الباطل، وحدث ذلك بالفعل حين ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119]، فكل ثعابين السحرة، وكل العصي والحبال التي توهمها الناس ثعابين أكلتها عصا موسى التي صارت ثعباناً مبيناً، وأرعب فرعون، فمن شدة الرعب بال على نفسه كما ذكر ذلك مجاهد رحمه الله.
ووقف الناس مشدوهين وظهرت الحجة البينة على الملأ الذين حشروا ضحى، بل عظم الأمر أكثر، فقد ألقى الله في قلوب السحرة الإيمان في تلك اللحظة الحاسمة زيادة في الحجة، فلو اكتفى بالأمر لكان في ذلك حجة كافية، فقد أكلت عصا موسى كل الثعابين والحيات، وكل العصي والحبال، قال تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119]، أذلاء ألقى الله في قلوب السحرة الإيمان.
وقال: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120].
(3/11)
سجود سحرة فرعون لله رب العالمين
فحين سجد واحد منهم سجد الجميع و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، فالناس واقفون في هذا الموقف العظيم ويرون الجنود الذين جمعهم فرعون من كل أرجاء المملكة يؤمنون بموسى، ويصرحون تصريحاً لا يحتمل الخفاء: ليس رب العالمين فرعون بل رب العالمين هو رب موسى وهارون، وشرف عظيم لموسى وهارون أن يذكر اسم الرب مضافاً إلى أسمائهما، ولم يستطع فرعون حينها أن يكذب ويقول: آمنوا بي، فأنا ربكم الأعلى.
فذهل فرعون، وإذا به يلقي بالأئمة على السحرة ويتهمهم بالمؤامرة عليه، وأن موسى زعيمهم، قال الله حكاية عنه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]، فهو يعلم يقيناً كذب دعواه، واشتراط الإذن في الإيمان طريقة فرعونية قديمة فلا بد أن يأذن لهم لكي يؤمنوا ويعملوا الصالحات، ويدعوا إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا كان إيمانهم بغير إذن فالمصيبة عظيمة.
((قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ))، قوله: (آمنتم به) متضمنة معنى التصديق، أي: صدقتم به، وقال في آية أخرى: (آمنتم له) وهي تتضمن معنى الانقياد والخضوع فهذا يفيد معنى ذاك؛ لأن الإيمان تصديق وانقياد، وليس فقط تصديقاً مجرداً.
قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ))، قال هذا مع أنه هو الذي جمعهم من كل أرجاء المملكة، فأين اجتمع بهم موسى حتى يمكر هو وهم؟ وقوله: (لتخرجوا منها أهلها) ما أرادوا إخراج أهل مصر، وإنما أرادوا منهم أن يؤمنوا، وأن يخرج بنو إسرائيل، فمن أين هذه التهم الباطلة؟ لكن من العجيب في شأن فرعون أنه يتهم تهماً وهو يعلم بأنها باطلة وهو وليها، يقول: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، أين علمهم السحر؟ فهو منذ عشر سنين لم يدخل مصر وقد كان له قبل ذلك شيعة لا يعلمهم شيئاً من السحر، ولا يعرف طريق السحر، وفرعون هو الذي يكرههم إكراهاً على السحر، وقد وجد أعواناً ينفذون له حكمه الجائر على قتل السحرة.
(3/12)
ابتلاء أهل الإيمان
قال الله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:124].
لقد فعل بهم ذلك، وهو قد رأى الآيات بعينه فالعجب منه، ولكن أعجب منه جنوده الذين يطبقون أوامره فهم عبيد لفرعون ينفذون الباطل مهما كان، وهم الذين رأوا البحر ينفلق أمامهم، ودخلوا وراءه ويقول لهم: إن البحر انفلق من أجلي! طاعة عجيبة مطلقة في تنفيذ الأوامر، ولو كان بدخول البحر الذي انفلق أمام أعينكم بضربة من عصا موسى، سبحانك ربي سبحانك! فقد طمس فرعون على القلوب والأبصار والعقول بهذه الطريقة، فهذا عدل من الله عز وجل؛ لأنهم اختاروا ذلك فاستخف قومه فأطاعوه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل:12]، فالفسق يؤدي إلى أن يطيع الإنسان بهذه الطريقة العمياء، وكان السحرة في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء بررة، فلما سجدوا رأوا منازلهم في الجنة كما ذكر بعض السلف.
{قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، لن يضيرنا أن تقطع الأيدي والأرجل، فانظر إلى موقفهم، فمنذ لحظات كان هدفهم المال {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف:113]، يريدون مالاً ومناصباً {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114].
ليس مالاً فقط بل وتصيرون أيضاً من ذوي القربى، ومعلوم أن المقرب إلى السلطان يأخذ مالاً وزيادة، فهم في أول النهار كان همهم المال والمناصب والقرب من فرعون، وآخر النهار يقولون: اقطع وافعل ما تريد، نعوذ بالله من الطمس على القلوب ففرعون لا يتعظ أبداً.
قال سبحانه وتعالى: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125 - 126].
(3/13)
معنى قوله تعالى (إلا ذرية من قومه)
قال سبحانه وتعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، وعلى الرغم من هذه الآيات العظيمة، من إبطال سحر السحرة وكيد فرعون، لم يؤمن من أهل مصر في ذلك الوقت إلا قلة من الشباب.
والذرية هنا فيها أقوال: القول الأول: ظاهر الآية يدل على أن المؤمنين كانوا من قوم موسى من أهل مصر؛ لأن بني إسرائيل كانوا جميعاً شباباً وشيوخاً مؤمنين بموسى.
القول الثاني: أنها تعود على فرعون، {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83] أي: من قوم فرعون كمؤمن آل فرعون، وقليل من الشباب.
وهذا يدلنا على أهمية مرحلة الشباب، كما يدل على القلة، وكان هؤلاء من الشباب الصغار حديثي السن، وكانوا خائفين ومع ذلك آمنوا.
وهذا الخوف لا يدفع بموافقة الباطل، وإنما يدفع بالتوكل على الله عز وجل.
((عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ))، وهذا دليل على أنهم من أهل مصر؛ لأنه قال: (وملئهم) أي: سادتهم وكبراء قومهم، وإلا فملأ بني إسرائيل كانوا مع موسى صلى الله عليه وسلم، وملأ الفراعنة كانوا مع فرعون فالذي يظهر أن هؤلاء من شباب مصر في ذلك الوقت، وكانوا قلة ممن استجاب، وأكثر الجنود كانوا متابعين لفرعون على الرغم من الآيات التي رأوها.
((عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ))، والفتنة في الدين: هي الصد عن سبيل الله، كأن يؤذوا بأنواع الأذى؛ ليصرفوا عن الالتزام بهذا الدين الحق، وهذا الخوف من الفتنة واقع، وذلك لوجود الأذى، وهذا امتحان من الله سبحانه وتعالى لعباد الله المؤمنين، والخوف كما ذكرنا لا يدفع بموافقة أهل الباطل في باطلهم، ولا بترك طريق الحق، ولا بالمداهنة في الدين، ولا بأن نقول مثلما يقولون، ولكن يدفع بما أمر الله به موسى صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، ثم قال تعالى: ((وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ))، أي: متكبر ((وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)).
(3/14)
أهمية التوكل على الله عند الشدائد
قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، إذاً: يدفع خطر الفتنة بالتوكل على الله، ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا))، عليه وحده بدليل أنه قدم الجار والمجرور (عليه توكلوا) وهذا يفيد الاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده.
((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ))، إذاً: فالتوكل من شروط الإيمان والإسلام، وفي هذه الآية اجتماع الإيمان والإسلام، وأن معناهما واحد، وهو من المواضع القلية الوقوع، وإن كان الأغلب أنهما إذا اجتمعا افترقا فالإيمان يكون مختصاً بأعمال الباطن والإسلام بأعمال الظاهر، لكن هنا كان الإيمان والإسلام متلازمان في المعنى فالإسلام يعني الظاهر والباطن والإيمان كذلك ((فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا))، امتثلوا الأمر وبه دفع الله عنهم الأذى، كما قال مؤمن من آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45]، فموسى هو أول من توكل؛ لأن فرعون قال {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:26 - 27]، ((إِنِّي عُذْتُ))، أي: التجأت إلى الله، فكان موسى أول المتوكلين؛ وإذا بفرعون دائماً يبتعد عن موسى، وينسحب عنه؛ لأنه عاذ بالله، فكيف يستطيع الوصول إليه؟ مع أن العادة تقضي بأن يبدأ بكبير القوم.
ثم قال الله على لسان الملأ: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، عجيب أمرك! فلماذا لا تبدأ بموسى؟ إذ كان من المفروض أن تبدأ به فلماذا تهرب منه؟ فقد كان فرعون يهرب منه ويبتعد عن سيدنا موسى فقد صرفه الله؛ لأن ناصيته بيد الله، فالله عز وجل جعله ينصرف عن موسى صلى الله عليه وسلم، بل كما ذكرنا أنه كان إذا رأى موسى يرعب، ويخاف مع أنه يهدده بالبطش الشديد.
وموسى ساكن مطمئن، وتأمل هذه السكينة والطمأنينة ساعة ترائي الجمعان {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، سكينة عجيبة، فهذه الدنيا كلها جنود من كل أرجاء مصر، وسيدنا موسى بالنسبة لهم هو ومن معه مجموعة قليلة بالمقاييس الدنيوية، كما قال الله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55 - 56]، وكانت القضية غير ذلك، فسيدنا موسى في طمأنينة تامة وسكينة كاملة {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس:85]، وهذا دعاء عظيم جداً ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، والفتنة: لها تفسيران كلاهما حق، وهما متلازمان، الأول: ربنا لا تجعلهم يفتنونا عن ديننا، الثاني: لا تجعلنا فتنة لهم، بمعنى: أنهم لو هزمونا وغلبونا لظنوا أنفسهم على الحق، فكان ذلك فتنة لهم ينصرفون بها، ويقولون: لو كانوا على الحق لما فعلنا بهم ما فعلنا، وكثير من الناس يزنون الحق والباطل بميزان النصر والهزيمة، فالمنتصر هو المحق، والمغلوب هو المبطل، مهما كان معه من بينات وحجج، فالضعيف المغلوب لا بد أن يكون على الباطل، والقوي المنتصر لا بد أن يكون محقاً، وهذا أمر عجيب الشأن عند أكثر الناس وبهذا يفتنون حين ينهزم أهل الإسلام.
(3/15)
أهمية الترابط والتناصر بين أفراد الدعوة
قال الله: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:86]، نجاة ليست بالأسباب، ولا بالتدبير، ولا بحسن الاختيار لكن برحمة الله، وبفضله سبحانه وتعالى، وبالتوكل على الله عز وجل خصوصاً مع انعدام الأسباب {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:86].
ولقد كان هناك واجبات لهذه المرحلة: مرحلة الفترة ما بين الخروج، وما بين تسلط فرعون الفظيع والفتنة التي يقول فيها: ((وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ))، وهي المذكورة في قوله تعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا))، أي: اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً؛ ليكون هناك رابطة قوية بين كل فرد من الأفراد، وبين القيادة للطائفة المؤمنة حتى يكون هناك التزام وتحرك في الوقت المطلوب، فلا بد من وجود هذه القيادة التي يحصل بها هذا ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) أي: يقابل بعضها بعضاً كما هو أحد القولين في تفسير هذه الآية، أو ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) والقول الثاني: صلوا في بيوتكم فهم سوف يمنعونكم من الصلاة في معابدكم أو في أبياعكم، ولكن صلوا في البيوت ولا تتركوا الصلاة ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، فلا بد من الالتزام بعبادة الله سبحانه وتعالى على أي الأحوال، فكلا التفسيرين معناه حسن وجميل، وكلها من واجبات هذه المرحلة الضرورية فالترابط يثبت الله به الأقدام، والناس إذا تفككوا سهلت هزيمتهم وأما إذا تماسكوا وتكاتفوا، وكان بعضهم لبعض كالبنيان يشد بعضه بعضاً فإن الباطل لن يستطيع هدمهم، ولذلك نقول: إن من أعظم الواجبات ألفة القلوب واجتماعها، والتعاون على طاعة الله، والتباعد عن أسباب الخلاف، كما قال الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، فلا بد أن نصلي كثيراً لله عز وجل ولا بد أن نكثر من ذكره، وعبادته فنعمل الصالحات، ونذكر الله كثيراً، ونرجوا الله واليوم الآخر، وسوف يأتي الفرج، فالصلاة طمأنينة وبها تستفتح المغاليق، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل عن زكريا: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]؟ ألم تسمع أن الملائكة لما أرادت إبلاغ أمر الله لمريم، وتهيئتها للأمر العظيم الذي سوف تحمله، قالت لها: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]؟ ألم تسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بدر كان طوال الليل تحت الشجرة قائماً يصلي، ويدعو الله عز وجل؟ ألم نعلم أنه كان في ليلة الأحزاب طوال الليل يصلي لله عز وجل؟ حتى كلف أصحابه بتكليفات، وهو يصلي صلى الله عليه وسلم على الدوام، ولقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فافزعوا إلى الصلاة عباد الله فإن ذلك من أعظم ما يفتح الله به الأمور المغلقة.
((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وهذه مهمة من أعظم مهمات المرحلة، فلا بد من التبشير حتى لا تيئس النفوس ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) بماذا؟ بوعد الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
فالله سبحانه وتعالى، وعد ووعده حق لا يخلف؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، هكذا يبشر المؤمنين {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107].
وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21]، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار؛ حتى لا يبقى بيت مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، وكلها واجبات لا بد أن نتناولها فيما بيننا فنبشر أهل الإيمان بقرب الفرج؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً.
(3/16)
دعوة موسى على فرعون وملئه
وكان هنا لك واجب آخر، وهو الدعاء، فالدعاء سلاح عظيم قال الله: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)).
وتأمل هذه الأدعية العظيمة ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ))، لم يقل: يا رب! فرعون عنده، وعنده، ولكن قال: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ))، وهذه روح إيمانية عالية جداً؛ لأن الإيمان يعلو بالإنسان فيرى أن ذلك عطاء من الله نازل من عنده وليس من جهد فرعون، فهذه الأرض كلها صغيرة جداً وهي ذرة في هذا الوجود، ولم يحصل فرعون هذا بنفسه بل الذي آتاه ذلك هو الله ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ))، فموسى يستحضر القدر، ويستحضر أن الله مالك الملك كما قالوا له عندما قال {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:127 - 128]، استعينوا؛ لأن الله هو المالك؛ فالضر والنفع بيده سبحانه وتعالى، وكل الأمور من عنده لا من عند فرعون، فلا قهر لفرعون بل الله هو القاهر فوق عباده سبحانه وتعالى.
ولذلك قال سبحانه وتعالى عن موسى: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، فاستحضر موسى صغر هذه الحياة الدنيا وسماها دنيا وزينة وأموالاً، وذكرها بالصيغة المنكرة؛ لأن فيها تقليلاً واستحقاراً لهذا الذي أعطي فرعون؛ ولأن الله هو الذي أعطاه وليس هو الذي جمع، ولم يكن له الأمر في الجنود وإنما هذا بأمر الله، ثم استحضر أمراً آخر ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وهذا الإضلال وقع بقدر الله وإرادته، واللام للتعليل ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وليس تعليلاً شرعياً؛ فإن الله لم يأذن شرعاً أن يضل عن سبيله، ولكن قدر ذلك سبحانه وتعالى، فموسى يستحضر أن ذلك من الله عز وجل خلقاً وإيجاباً، فالله خالق أفعال العباد، وقد أعطاهم الله ليضلوا عن سبيله، ولكي تجتمع عليهم قلوب المفسدين، كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]، فربنا هو الذي جعلهم يمكرون وهو يعلم أنهم يمكرون، وفي هذا فائدة لنا نحن؛ لأن الله يحب أن تظهر منا عبادات أخرى؛ كالصبر واليقين بوعده، والتوكل؛ ولأجل ذلك سخر وأوجد من يمكر {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام:112 - 113]، لتصغى إلى الباطل بمعنى: لتميل إلى الباطل قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، فالله هو الذي قدر ذلك، وجعلهم يفعلونه.
قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، لماذا قدر الله ذلك؟
الجواب
{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، وجعلهم مغناطيس من أجل أن يأتي الباطل على بعضه، ولكي تصغى إليه القلوب الفاسدة، ثم تلقى بعد ذلك في النار {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179].
وحين تقرأ قول الله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ))، فإنك لا تستحضر قوة فرعون، ولا تستحضر كثرة ما معه، بل استحضر أن ناصيته بيد الله، وأن الله أعطاه ليبتليك أنت {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، الله الذي جعل ذلك {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، فهم الذين يضلون وكفى بالله هادياً، وهم الذين يحاربون الإسلام ليهزم وكفى به عز وجل نصيراً، وسوف يظهر أن الهداية لله عز وجل، وأنه يهدي رغم كيد المضلين، وسيظهر رغم حرب المحاربين أن الله هو النصير، وأنه سينصر الإسلام ويظهر الحق بفضله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ))، وتلك الدعوات شديدة جداً من أجل أن يظل فرعون مربوطاً على قلبه لا يقبل الحق هو وقومه حتى يروا العذاب الأليم، فسيدنا موسى دعا عليهم دعوة عظيمة من أجل أنهم لم يؤمنوا، فأراد أن ينزل بهم عقاب الله من كثرة ما رأى من إعراضهم وكبرهم، فدعا عليهم أن يظلوا على الكفر إلى الموت، فطمس الله على أموالهم وتحولت إلى حجارة كما قال غير واحد من أهل العلم، أو طمس عليها فلم يعد لها فائدة.
قال عز وجل: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا))، وقد كان سيدنا هارون يؤمن فسميت دعاءً أيضاً ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا))، ومعناها سوف تجاب، وسوف يؤمن فرعون حين يرى العذاب، ومع ذلك قال: (قد أجيبت).
وكان بين الدعوة هذه وإجابتها التي أخبر الله بتحققها سنين، ففي بعض الأقوال: أربعون سنة، وما نظنها وصلت إلى ذلك فالله أعلم، لكن كان بينهما مدة، ولذلك فلا تستعجل فقد أجيبت الدعوة بالفعل، فالله يجيب الدعوة في السماء قبل أن يرى الناس وقوعها على الأرض.
ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويقول الله: (وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)، والحين عند الناس طويل، وأما عند الله عز وجل فهو قصير، وقد أمرنا ربنا ألا نستعجل بل قال لنبيه: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فلا تقل يا رب أنزل عليهم العذاب الآن، بل اتركهم لله عز وجل فله الحكمة والعلم يفعل ما يشاء، ولعلك في فترة الشدة والإحراق أفضل منك في فترة الرخاء والإشراق.
فعندما تطلع الشمس سوف يكون الناس كلهم سائرين إلى أعمالهم، وسوف يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأما أنت فينبغي لك في فترات الإحراق والشدة وحدك أن تعبد الله ولعل هذا خير لك، فأكثر الناس لا يصبرون عن فتنة السراء، ففتنة الدنيا تأخذ الناس بعيداً عن الإسلام، فالصحابة أنفسهم يخشى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا، فلا تستعجل فإن لك أجلاً مقدراً ولعل ما أنت فيه من الشدة والضيق خير لك من السعادة التي تطلبها، فالله هو الأعلم ففوض الأمر إليه.
(3/17)
أهمية الاستقامة على أمر الله
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
فالواجب عليك أن تستقيم الاستقامة المطلوبة (وقل آمنت بالله ثم استقم)، وهي الاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، ولا ترغ روغان الثعلب بل اثبت على الحق ولا تبتعد عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تمل ولا تداهن، بل استقم على العلم والعمل والثبات والصبر والدعوة إلى الله عز وجل، فلا بد أن تكون هناك استقامة وهي التي أمر الله بها عند الشدائد فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112]، وهذا الأمر هو الذي شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (شيبتني هود وأخواتها)، ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)).
إذاً: تدور مع الأوامر وتلتزمها، فنحن إنما أتينا من ترك الأوامر ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ))، نؤتى حين نتبع سبيل الذين لا يعلمون، فإن كان فينا من لا يعلم فلا بد من العلم ولا بد من ترك متابعة الذين لا يعلمون، ولا بد أن نتبع أهل العلم والتقوى والصلاح والاستقامة من أجل أن ننفي عن أنفسنا الجهل بتعلم العلم الواجب علينا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)).
تأمل فضل الله سبحانه وتعالى، فقد جاء الأمر من الله بأن ينطلق بنو إسرائيل مع موسى ليلاً وهم متبعون {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، إذا: فقد علم موسى بوجود المطاردة، فأنت حين تخرج وتعلم أن في طريقك من سيطاردك فاعلم أنها طريق غير آمنة ((إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ))، وسبحان الله! فقد كان في قدر الله أن فرعون سيتبعهم، ولم يخرج من أول مرة بل أخره الله فأخرج جنوده فقال الله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:53 - 56].
قال عز وجل: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ))، أليس هم الذين خرجوا بإرادتهم؟ ولكن الله يذكر فعله فيهم لنستحضر أن الأوامر من فوق، وأن الأمر من عنده، وقد كانوا جالسين على أسرتهم في الجنات والعيون فأخرجهم الله، قال عز وجل: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:57 - 63] أي: أن كل ناحية منه كالجبل العظيم على عدد أسباط بني إسرائيل؛ فانفلق البحر بضربة واحدة إلى اثنتي عشر طريقاً، وجاءت الريح فيبست الطريق {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:77].
قال الله عز وجل: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، ولا شك أن بني إسرائيل كانوا يجرون جرياً لكي ينجوا، ولكن الله ذكر ذلك على سبيل فعله هو عز وجل فقال: ((وَجَاوَزْنَا))، منة منه وفضلاً سبحانه وتعالى على بني إسرائيل وهم ما جاوزوه بأنفسهم، ولكن الله هو الذي جاوز بهم ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا))، هنا نسب الفعل إلى فرعون، فقد أتبعهم فرعون ليبين فعله الذي يستحق عليه الهلاك، وذكر صفة هذا الفعل بما فيه من بغي وعدوان: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) وقال في الآية الأخرى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه:78]، (بجنوده) تدل على تبعية الجنود له مثل قطيع الغنم، فهو يمشي بهم وهم يتحركون وراءه بلا عقل ومع ذلك هم مسئولون؛ لأن لهم عقولاً، فهم الذين عطلوها، ولذا قال هنا: ((وَجُنُودُهُ))؛ لأن المشاركة تقتضي الجريمة؛ ولأنهم أيضاً بغاة ومعتدون (بغياً وعدواً) إذاً: كل جندي مطيع في الباطل فهو باغٍ ومعتد ومستحق العقاب، ولذلك دائماً يذكر فرعون وهامان وجنودهما وأنهم كانوا {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6].
إذاً: لا طاعة في معصية الله، والطاعة في الكفر كفر والعياذ بالله وقال: ((بِجُنُودِهِ))؛ ليبين التبعية المذمومة، وقال في الآية الأخرى: ((وَجُنُودُهُ))؛ ليبن مسئوليتهم، وقال: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ))؛ ليبين الفعل منهم، فقد اكتسبوا الأفعال، وفي سورة الشعراء قال: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64]، فهو هنا يبين القضاء والقدر أي: أن ربنا يقربهم وهو الذي يدفع فرعون دفعاً، وإن كان يمشي بإرادته.
فالعبد يفعل وعليه المسئولية؛ لأن ربنا أعطاه قدرة وإرادة وعقلاً يفكر به، وبلغه الشرع وبناءً على ذلك هو يحاسب، والله هو الذي جعله يفعل، فلا يقول هذا قدر الله علينا، فأنت الذي اتبعته، وأنت الذي كنت باغياً معتدياً.
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64] أي: قربنا، وفعل ربنا ذلك من أجل أن نستحضر أن الأمور بيده، مثل قوله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً))، وقوله: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وقوله: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا))؛ لتستحضر أن الأمور من عنده، وأن شيئاً لا يخرج عن قضائه وقدره بالعدل لا بالظلم، فالله لا يظلم الناس شيئاً.
قال تعالى: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا))، ولما ذكر البغي والعدوان ناسب أن يكون الفعل منسوباً إليهم، قال: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ))، فسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه خرجوا من الناحية الأخرى ودخل فرعون بجنوده حتى توسط بهم البحر جميعاً وهو يريد أن يدرك موسى وقومه؛ فجاءت آية جديدة من آيات الله، فالله هو الذي فلق البحر له، ولكنه طمس على قلبه وبصيرته والعياذ بالله، وفرس فرعون يتحرك أيضاً، ولما توسط البحر انغلق البحر عليهم في سكون وبساطة شديدة، وفي لحظات انتهى كل شيء، وبدأ فرعون يشرب من الماء ليغرق ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)).
وانظر إلى الذل والهوان فلم يقل: لا إله إلا الله: بل هو تابع لبني إسرائيل باقٍ معهم، فقال: إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل: سأظل أمشي وراءهم، ما قال إلا الله مع أن الصواب هو: لا إله إلا الله، ولكن هذا من أجل أن يبين لنا مدى التبعية.
((وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ))؛ لأن سيدنا موسى كان يدعو لدين الإسلام ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ))، فهو لا يدعو إلى اليهودية أو النصرانية المحرفة، بل الله سبحانه وتعالى جعلهم يدعون إلى الإسلام؛ لأن الدين عند الله الإسلام كما قال الحواريون لما أرادوا أن يخبروا عيسى أنهم على دينه {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]، أما نحن فإننا أتباع موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فليس هناك أتباع نبي من الأنبياء حقاً إلا في أهل الإسلام بحمد الله تبارك وتعالى.
قال سيدنا جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أدس من وحل البحر -أي: من طين البحر- في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة)، فالنفصل لا إله إلا الله خاف سيدنا جبريل من أن يرحم الله فرعون وقت قبض روحه وينجيه؛ لأنه سيدنا جبريل يكره من يكرهه الله، فهو يريد أن يهلك؛ ليكون آية، فهو يدس الطين في فِيه من أجل ألا يتكلم مرة ثانية وألا يقول لا إله إلا الله، بل من أجل أن يسكت؛ فمن توفيق الله للعبد أن يقول: لا إله إلا الله منة من الله عليه، فهي أعظم كلمة في الوجود، (فأفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ففرعون رأى آيات كثيرة جداً من أجل أن يقولها فقط مرة واحدة ولكنه ما قالها، فربنا لم يمنَّ عليه بها، وقد منَّ الله عليك بأن تقولها ربما دبر الصلاة عشر مرات، وأن تقولها وأنت جالس على أريكتك، وتقول يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وانظروا إلى ابن جدعان فقد كان يطعم ويطعم ويفعل فتسأل عائشة مشفقة عليه؛ لأنه كان يصل الرحم ويقري الضيف، ويفك الأسير، هل نفعه ذلك؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا.
إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).
فنعمة من الله أن تقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وأن تكون مؤمناً بالله واليوم الآخر، فهذا سيدنا جبريل لا يريد أن يتكلم فرعون بهذه الكلمة، لكن ذل فرعون فظيع، فربنا عز وجل لا يقبل مثل هذا الإيمان.
قال عز وجل: ((آلآنَ)) [يونس:91]، أي: الآن تؤمن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، وسنة الله اقتضت ألا يقبل الإيمان ممن نزل به العذاب وحضره الموت وحصلت الغرغرة، ولكن يمكن أن يقبل منه قبل ذلك بلحظات، أما إذا غرغر الإنسان أو نزل العذاب فلن تقبل توبته.
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ
(3/18)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
رحلتنا إلى الأرض
إن الله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فكان هذا كله تكريماً وتشريفاً له عليه السلام، وفي المقابل طرد إبليس، وأحل عليه اللعنة، حين أبى السجود لآدم، فحلت البغضاء في نفسه، وانتفش من قلبه الحسد لآدم فأقسم ليغوين ذريته أجمعين إلا عباد الله المخلصين؛ فكانت الكارثة والمصيبة العظمى أن أغوى آدم وحواء؛ فأهبطا من الجنة إلى الأرض بسبب إغرائه اللعين، ووسوسته المقيتة.
(4/1)
الفوائد المستفادة من قصة آدم في سورة الأعراف
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقصص القرآن معين لا ينضب، وغذاء للقلب والروح، ونور على طريق الهدى والإيمان، يلتزم الإنسان من خلاله بما بين الله عز وجل لنا من صفات الأنبياء والمرسلين، ويحذر على نفسه من صفات من خالف طريقهم المستقيم، وجعل الله سبحانه وتعالى هذا القصص أحسن القصص بما أوحى الله إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن العظيم، ومن القصص التي ذكرها الله عز وجل مرات في كتابه العزيز قصة وجود الإنسان على ظهر هذه الأرض، وكيف بدأت قصة نبي الله آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف وقع الصراع مع إبليس؟ وما هي مغبة طاعته وقبول نصيحته الكاذبة الخادعة؟ وما هي وسائله التي يصل بها إلى إغواء الناس؟ وإنا لنرى في واقعنا وحياتنا من انتشار وسائل الشيطان بل ومن وجود صفاته القبيحة المنكرة ما يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحذر على نفسه من ذلك، نتلو آيات الله سبحانه وتعالى من سورة الأعراف التي ذكر الله عز وجل فيها هذه القصة ثم نذكر بعض فوائدها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:11 - 27].
(4/2)
تكريم الله لآدم في خلقه له بيده
فأخبر الله عز وجل أنه خلق آدم عليه السلام، وصوره عز وجل بيده، وجعل هذه الصورة صورة مكرمة، ذلك أن من سواه الله عز وجل بيده الكريمة ليس كمن قال له: كن فكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) فالله سبحانه وتعالى كرم هذه الصورة وسواها بيده عز وجل، وذلك أن بني آدم كلهم كانوا في صلب أبيهم، وجعلهم على صورة أبيهم، فخلق آدم ثم خلق ذريته على تصويره، وكذلك خلق عز وجل أرواحهم قبل خلق أجسادهم، كما قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
(4/3)
جواز السجود للبشر في الأمم السابقة لإرادة التكريم
وكان هذا بعد خلق آدم عليه السلام، فدل ذلك على أن الأرواح التي أخذها الله من ظهر آدم ونثرها بين يديه قبلاً وكلمهم {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] كان ذلك خطاباً للأرواح قبل خلق الأجساد، قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]، وهذا تكريم لآدم عليه السلام، فقد أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، فكان عبادة لله وتكريماً لآدم، طاعة لله عز وجل في ما أمر به وليس عبادة لآدم، وإنما أمروا بالسجود تكريماً له، وقد جعل الله عز وجل سجود التكريم جائزاً في الأمم السابقة كما سجد إخوة يوسف وأبواه له، قال عز وجل: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100].
والمؤمن يفعل ما أمره الله عز وجل به أياً ما كان، وهو عز وجل يكرم من شاء بما شاء، وعلى المؤمن أن يطيع، ولقد أمرنا الله عز وجل أن نطوف بالبيت، وأن نقبل الحجر الأسود، وذلك عبودية لله سبحانه مع اعتقادنا أنه لا يضر ولا ينفع، كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
(4/4)
الحكمة من خلق آدم وذريته
فكان سجود الملائكة لآدم أمراً من الله عز وجل مكرماً به لآدم الذي علمه أسماء كل شيء، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكان هذا كله من أسباب تكريمه ومنزلته العالية عند الله سبحانه وتعالى.
وجعل سبحانه وتعالى المؤمنين من ذرية آدم أكمل الخلق، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] وذلك أنهم يعملون بطاعته سبحانه وتعالى رغم وجود إرادة الشر والسوء والشهوات في نفوسهم، فهم يقاومونها، والله عز وجل حين قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، تعجبت الملائكة من وجود خلق جديد مع أن الملائكة تعبد الله سبحانه وتعالى، وتفعل بما تؤمر، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون؟! ولذلك سألوا عن حكمة وجود خلق جديد مع ما أعلمهم الله من أنه سوف يوجد في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فلعلمهم أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته تعجبوا من وجود هذا النوع الذي يوجد فيه الخير والشر، ويوجد فيه الطيب والخبيث! فسألوا الله عز وجل عن حكمة إيجاد نوع يوجد فيه من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، مع قدرته عز وجل على خلق من يعبده ولا يعصيه قط؟ فقال عز وجل: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ذلك أنه عز وجل يعلم وجود الأنبياء والمرسلين والصالحين والشهداء من بني آدم، يعبدونه عبودية هي أكمل أنواع العبودية مع أن إرادتهم فيها المنازعة، ففيها إرادة الخير وإرادة الشر، وهم يعبدون الله في ظروف وأحوال تختلف عن ظروف وأحوال عبادة الملائكة، فالملائكة ليس فيهم من يعصي الله، وليس فيهم من يأمر بالمنكر، وليس فيهم من ينهى عن المعروف، وليس فيهم من يكفر بالله، وليس فيهم من يصد عن سبيل الله، فإذا وجدت عبودية لله سبحانه وتعالى في مثل هذه الأحوال في ظروف المصادة والمشاقة والبعد عن دين الله وشرعه كان ذلك أحب إلى الله عز وجل.
فمن أجل وجود هذه العبودية قدر سبحانه وتعالى وجود من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، حتى يوجد من ينهاه ومن يجاهده، ومن يحبس نفسه على طاعة الله ويصبر على ما يلقاه في سبيل الله، وحتى يعبد الله سبحانه وتعالى، بعكس ما يفعله أكثر الناس، فهذه عبودية أحب إلى الله عز وجل، بل من أجلها أوجد العصاة والمجرمين؛ لكي يتعبد المؤمنون له بالصبر والاحتساب والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليتخذ الله عز وجل منهم شهداء يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله سبحانه وتعالى، فله الحكمة البالغة، فهو عز وجل كرم آدم عليه السلام وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وهذه الروح ليست جزءاً من الله -تعالى الله عن ذلك- ولكنها روح أضيفت إلى الله تشريفاً وتكريماً، فهي مثل: ناقة الله، وبيت الله، ففيها إضافة تشريف، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]، فروح آدم وبنيه أضيفت إلى الله إضافة ملكية للتشريف، فهي مملوكة مخلوقة لله سبحانه وتعالى.
(4/5)
سجود الملائكة لآدم تكريماً له
قال عز وجل: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11]، وإبليس أصله: من الإبلاس: وهو اليأس، كما سمي إبليساً؛ ليأسه من رحمة الله بعد إبائه وكفره وتكبره والعياذ بالله! وإبليس لم يكن أصلاً من الملائكة وإنما خلق من النار كما وصف الله عز وجل حيث قال: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] فدل ذلك على أن أصله من الجن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من الطين، فإبليس مخلوق من النار، والملائكة مخلوقة من النور، فلماذا كان الأمر للملائكة أمراً لإبليس؟ لأن إبليس كان يعبد الله عز وجل حتى صار كواحد منهم، وارتفع في المنازل العالية، وهذا يدلنا على أن العبرة بالأعمال وليس بأصل الخلقة؛ فلذلك الملائكة خلقت من النور ومع ذلك فالذي خلق من الطين فآمن وعمل صالحاً يصل إلى المراتب العالية أعلى ممن خلق من النور، فهذا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يصعد في المعراج إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ويرتفع إلى مراتب أعلى من جبريل عليه السلام، وهو خير الخليقة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم خليل الرحمن خير البرية بعده عليهما الصلاة والسلام، فإبليس عندما عبد الله عز وجل وكان مطيعاً لله سبحانه وتعالى صار كواحد من الملائكة.
فلما قيل للملائكة: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) كان الأمر لإبليس أيضاً كواحد منهم رغم أن صفته تختلف عن صفتهم، والدليل على ذلك: أن ما وقع في نفسه مما لا يقع في أنفس الملائكة، فإن الملائكة لا يقع في أنفسها مخالفة أمر الله، لكنه مكلف، وكان في نفسه من إرادة الشر والسوء ما لا يمكن أن يقع من الملائكة الذين عصمهم الله عز وجل عن إرادة ما يخالف أمره سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ))، فامتنع من السجود -والعياذ بالله- وتحولت حاله، فبعد أن كان في المنازل العالية -لنتعظ من قصة إبليس كيف أن المعصية تهوي بالإنسان وتخرجه بعد أن كان في القرب والدنو وفي السموات العلا- أصبح ذلك في الحضيض الأسفل، فمنزلة المخلوق تكون على حسب عبادته، إبليس كان في الملأ الأعلى ثم بعد ذلك لما عصى وتكبر وكفر والعياذ بالله صار إلى أسفل سافلين؛ ولذلك فالعبرة بالخواتيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها).
فلا تغتر، وكن على حذر، ولا تأمن مكر الله ولو كانت إحدى قدميك في الجنة، فخير الناس بعد الأنبياء يقولون ذلك، بل الأنبياء أنفسهم يعلمون ما كتب الله عز وجل لهم من الفوز والسعادة ولكنهم مشفقون على الدوام، ويعبدون الله إلى آخر لحظات عمرهم كما أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:11 - 12] أي: ما الذي دفعك إلى عدم السجود حين أمرتك؟ وهذا مما يحتج به أهل العلم على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله عز وجل بأمر فهو للوجوب، وكذلك أمر رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل نفسه وإنما يأمر بوحي الله، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] لذا قال العلماء: إن الآمر هو الله عز وجل أصلاً، وهو الذي له الحكم أصلاً، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مبلغ عن الله، فإذا وجدت أن الله أمر فهذا واجب يلام من تركه ويعاقب، وذلك أن الأمر كان: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) فهو أمر مجرد، والأمر المجرد يقتضي الوجوب عند عامة أهل العلم، واحتجوا بظواهر الأدلة من الكتاب والسنة في مواضع كثيرة على أن الأمر للوجوب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، فدل ذلك على أنه لو أمر لوجب، ولكنه لا يريد أن يشق عليهم.
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ سراقة أو غيره لما سأله في الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم! لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فذروني ما تركتكم) وإذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام بشيء ابتدرنا أمره، فهذا هو الواجب، ولم يجز لنا أن نقول: هذا الأمر لماذا؟ وكيف؟ وما العلة فيه؟ وما الحكمة منه؟! فهذا ليس بأسلوب المؤمنين، فالمؤمنون يخضعون لأمر الله عز وجل، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
(4/6)
الصفة المشتركة بين إبليس وكثير من بني آدم
قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وهنا ظهرت عدة أمراض من إبليس اللعين والعياذ بالله، وما أكثر انتشارها في بني البشر من حيث لا يشعرون! أولاً: رد أمر الله سبحانه وتعالى، فهو لم يكن ناسياً، ولا متكاسلاً، ولم يذكر شيئاً من ذلك، فلم يقل: يا رب! أنا أخطأت، ولم يقل: يا رب! أنا نسيت، ولم يقل: يا رب! أنا لست من الملائكة مثلاً، أو: أنا خلقتي غير خلقتهم والأمر لم يشملني، فإبليس يعلم تماماً أنه مأمور ضمن الأمر للملائكة، لكنه رد الأمر على الله عز وجل، والرد من أخطر أنواع الكفر، فهو كفر الإباء والاستكبار، ولم يقل: هذا الأمر ليس من أمرك يا رب! وكثير من الناس يظن أن استحلال المعصية معناه فقط: أن يقول: إن الله لم يحرم هذا الأمر، كمن يقول مثلاً في الزنا: الزنا معصية من المعاصي وفعل الزنا ليس مخرجاً من الملة، ولكن استحلال الزنا مخرج من الملة، لكن هناك أمراً أخطر وأكثر وقوعاً وهو: أنه يعلم أن الزنا حرام لكنه يقول: لا يلزمنا هذا الأمر، فيرد الأمر على الله عز وجل، فهذا كفر الإباء ومنبعه من الكبر، كما قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فهذا كفر مثل كفر الاستحلال أو هو في الحقيقة يمكن أن يعد نوعاً من الاستحلال، بأن يرد أمر الله كمن يقول: الزنا حرية شخصية مثلاً، فهذا إباء ورد لشرع الله لا يستطيع أن يجزم ولا أن يدعي أن الله لم يحرم الزنا، ولكنه يقول: ماذا في الزنا إذا كان برضا الطرفين؟! كقصة قرأتها اليوم في الجرائد: أن فتاة بلغ أبوها الشرطة أنها اغتصبت، فاتهم طالباً -زميلاً لها وجاراً لها- بذلك؛ فقبض عليه فجيء بالفتاة فقالت: لا، أنا ذهبت بإرادتي إلى شقته وبت معه، فأطلق صراح الطالب مباشرة، فهذا أمر عجيب! فالأمر عند القوم مبني على الإكراه، أما إذا كان بالتراضي بينهما فلا بأس ولا حرج، ولا شك أن الذي وضع هذا الأمر وشرعه أصلاً يرد شرع الله عز وحل، فيمكن أن تثبت واقعة الزنا، ولكن إذا ثبت أن هذا الأمر وقع بالتراضي والاختيار فلا يكون هناك ثم جريمة والعياذ بالله! فالإباء موجود بكثرة، فعندما تدعو أحداً إلى أن يصلي يقول لك: أنا حر! أصلي إن شئت ولا أصلي إن لم أشأ والعياذ بالله! فهل هذا أمر مني أنا عندما أقول لك: صل، أقم الصلاة؟ إنه أمر الله عز وجل، فالذي يرى نفسه حراً مع أمر الله كافر وخارج عن ملة الإسلام! والذي يرى نفسه حراً مع أمر الله يفعله إن شاء ويتركه إن شاء ولا يرى لزوم الأمر عليه إبليسي المذهب، وإبليسي الطريقة! والذي يقول: أنا حر، أنا لا أسجد والعياذ بالله، فهو كمن قال الله عنه: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33] فرد الأمر على الله من أعظم أنواع الكفر، فكفر إبليس لم يكن عن طريق اتخاذ وسطاء يدعوهم مثلاً من دون الله كشرك المشركين الذين عبدوا الأوثان وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وكمن يعبد الملائكة مثلاً أو يعبد المسيح أو يعبد الأولياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، فيدعوهم، ويتوكل عليهم، ويذبح وينذر لهم، وهذا نوع من الشرك، فكفر إبليس لم يكن بذلك ولم يقل: هناك وسائط بيني وبين الله أدعوهم وأعبدهم، وإنما كان كفره كفر رد وإباء.
وهذا كفر يجهله كثير من الناس، ولا يعرف خطره، ونراه كثيراً واقعاً في مئات وآلاف وملايين من الناس وهم لا يعرفون أنه كفر والعياذ بالله!
(4/7)
الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس
وكفر الرد والإباء يؤدي إلى زوال أصل الانقياد من القلب، وأصل العبودية خضوع وانقياد مع حب، فإذا زال من القلب أصل الخضوع كفر المخلوق والعياذ بالله، فهذا إبليس كفر مع إقراره بوجود الله، ومع إقراره أن الله خلقه، ومع إقراره بيوم البعث، ومع إقراره أن الله هو الذي يمد في العمر ومع كل ذلك كفر إبليس؛ لأنه انتفى من قلبه أصل الانقياد، وانتفى من قلبه الخضوع لله عز وجل، فآدم عليه السلام عصى، وإبليس عصى، وآدم لم يكفر عليه السلام، وإبليس كفر؛ لأن آدم لما عوتب قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23].
وشتان بين من قال: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33]، وبين من قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23]! وهذا فرق كبير جداً بين إنسان تأمره بطاعة الله فيقول: أنا مخطئ، أنا مقصر، وبين آخر يقول: دعنا من الشرع! لا ألتزم ولا أطيع! فهذا هو الذي يرد شرع الله عز وجل.
والمؤمن لا بد أن يكون في قلبه أصل الحب والانقياد، وأصل الخضوع لله عز وجل، ولذا يقال: طريق معبد أي: مذلل، فالعبودية أصلها من الذل والخضوع، ولذلك إذا زال من القلب أصل الخضوع -بمعنى: أنه لا يرى لله عليه أمراً يطاع- زال من قلبه الإيمان ولو أطاع في أوامر أخرى، ولو كان يعبد الله قبل ذلك بسنين فإنه لا يكون مؤمناً، ثم كانت الصفة الثانية التي دلت عليها الآية الكريمة: أنه يزكي نفسه، قال الله عنه: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)) فتزكية النفس والإعجاب بها ورؤيتها كبيرة مرض؛ لذا كان مرض الكبر والعياذ بالله مرضاً منتشراً أيضاً في بني آدم، والذرة منه تمنع دخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وإبليس رأى نفسه في المحل الأعلى فزكى نفسه، قال عز وجل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وكم تجد من الناس من يقول: أنا خير من فلان، وأنا أحسن من فلان، وأنا أعلى قدراً من فلان، وأنا أغنى من فلان، وأنا أكثر مالاً من فلان، أنا أكثر منك مالاً وولداً! كم من الرجال والنساء! المرأة تقول: أنا أجمل من فلانة، وأنا أحسن من فلانة، حتى إن أهل الدين قد يدخل فيهم هذا الداء، حتى إنه يوجد من يعبد الله عز وجل ليقال: فلان أعبد من فلان! وفلان أزهد من فلان! وهو في نفسه يقول: أنا أعلم من فلان، وأنا أكثر طاعة من فلان، نسأل الله العافية! فهذا بلاء شديد وخطير، وقد يبتلى به أهل الدنيا وأهل الدين على حد سواء؛ لذلك لا بد أن تكون حذراً من ذلك في نفسك، فاحذر أن تزكي نفسك، فمن كان على طريقة إبليس فإنه يزكي نفسه، فليست كلمة (أنا) حرام فقط، فبعض الناس يقول لك: أنا اسمي فلان! وأعوذ بالله من كلمة أنا! لا، ليست (أنا) حراماً، وإنما (أنا) هذه تصبح كلمة منكرة أي: التي فيها تزكية للنفس والشعور بالكمال، وتنقيص الآخرين وازدرائهم، فهذه هي التي فيها الذم والعيب، وليس كل (أنا) تكون محرمة يستعاذ منها، وإلا فقد ثبت في الكتاب والسنة أن يقول الإنسان: أنا.
قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ))، فإبليس جاهل جهلاً عظيماً لأمور: أولاً: أن في هذا رد لشرع الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: فيه اعتقاد عدم حكمة الله سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: الأمر الذي أمرت به غير مناسب فكيف تأمرني بالسجود له؟! إذاً: ففيه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في حكمته وكأنه يقول: إن الأمر غير صحيح، إبليس لا يؤمن بصفة العلم والحكمة وأن الله عز وجل حكيم يضع الأشياء في مواضعها، ويشرع الشرائع للمصالح والحكم، فهذا داء خطير موجود في كثير من الناس، فتراه يعترض على شرع الله عز وجل بعقله، ويقول: لماذا أمر الله بالشيء الفلاني؟ كان ينبغي كذا فيقترح على شرع ربنا سبحانه، ولماذا ربنا حرم الشيء الفلاني؟! ولماذا ربنا أوجب الشيء الفلاني؟! وإبليس سن سنناً لكثير جداً من الناس ليسيروا عليها، ومنها: الإعجاب بالنفس، واعتقاد عدم الحكمة في شرع الله سبحانه وتعالى، والكبر الذي يدفع الإنسان إلى عدم الالتزام بدين الله وشرعه سبحانه وتعالى.
(4/8)
غرور إبليس وجهله بمنزلة آدم
فلو تأمل إبليس لعلم أن آدم خير منه، فآدم خلقه الله بيده، وعلمه أسماء كل شيء، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33].
فإبليس كان يكتم في نفسه أنه يرى نفسه أفضل من آدم، ويكتم في نفسه الكبر والعجب والعياذ بالله! فكان عند إبليس القياس الفاسد فرد شرع الله بأن أصل خلقته من النار، وأصل خلقة آدم من الطين، والنار أفضل من الطين، فهذا القياس فاسد الاعتبار لا يجوز أن يعتمد عليه لأنه في مقابلة نص واضح، والشرع أتى بالقياس الصحيح ولم يأت بالقياس الفاسد، وأكثر انحراف الناس عن الشرع هو بسبب القياس الفاسد، فيعمل الإنسان عقله مع وجود النص، فيقول لك: لم أقتنع بهذا الأمر! فهذا أمر خطير، لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة أن يقول لأمر من أوامر الله: أنا غير مقتنع به، لماذا غير مقتنع به؟! أمر الله عز وجل العليم الحكيم هل يعرض على العقول؟! فإبليس هو الذي فعل ذلك، وهو أمر خطير جداً نسمعه فمثلاً: ترى فتاة متبرجة يقول أبوها: إني أتركها حتى تقتنع، فتقول لك: أنا لست مقتنعة بالحجاب! وهذا أمر ربنا عز وجل في القرآن حيث يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] فالذي لا يقتنع بشرع الله وأمره مع علمه بأن هذا أمر الله فهو إبليسي المذهب يسير على طريقة إبليس، فلا بد أن تلتزم بشرع الله، ولو نظر إبليس في الحقيقة لعلم أن الله نفخ في آدم من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، والعلم يقتضي التكريم، بخلاف النظر إلى أصل الخلقة، فمن الذي قال: إن الطين أقل من النار أو النار أفضل من الطين؟! لا يوجد دليل على ذلك، لكن عندما يتأمل الإنسان كل الشبهات الباطلة يجدها في النهاية لا أصل لها ولا دليل عليها، فإبليس بنى على أن النار أفضل من الطين، وبالتالي فالذي خلق من النار لا بد أن يكون أفضل من الذي خلق من الطين؛ وكذا فإن الأمر بالسجود للذي خلق من الطين أمر غير صحيح فكان رد فعله أن امتنع من السجود.
فهذه المقدمات مبناها أصلاً على قاعدة باطلة، فلا يوجد دليل على أن النار أفضل من الطين، لا دليل على ذلك، بل إن النار من صفاتها الطيش والخفة، والطين من صفاته الهدوء والسكينة والرزانة؛ ولذلك يقولون: خان إبليس أصله، فسبب طيش إبليس خلقته، وهذا الكلام قاله بعض السلف لكن ليس فيه دليل؛ لأن إبليس لما كان مطيعاً كان مرتفع المنزلة، وبعض الذين يخلقون من الطين ليس فيهم رزانة ولا هدوء ولا سكينة بل يكونون في أسفل سافلين، والعبرة بالأعمال ليس بأصل الخلقة؛ وبالتالي نقول: لو أن إنساناً نسبه شريف لكن أعماله قبيحة، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) إن أصل خلقتك أصل شريف، ولكنك لو كنت من نسل الأنبياء لخالفت سبيلهم فلست منهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن آل فلان ليسوا بأوليائي - بعض أقاربه الذين لم يؤمنوا- ألا إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
والمقصود: أن المقدمات الفاسدة والقياس الفاسد هما اللذان يؤديان إلى تحريف وتبديل وتضييع الشرع، ثم إلى الكفر في النهاية والعياذ بالله، فالحذر الحذر من استعمال الرأي في مقابلة النص، كما قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، ولقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته) وانظر إلى سهل بن حنيف عندما كان في صلح الحديبية والرسول صلى الله عليه وسلم يمضي الصلح على الشروط التي اشترطها الكفار -وهي شروط ظالمة، فقبلها النبي عليه الصلاة والسلام للمصلحة- فكان بعض الصحابة يتمنون أن يردوا ذلك خصوصاً أمر أبي جندل أحد المستضعفين من المسلمين وهو ابن سهيل بن عمرو، فرده إلى أبيه يفتنه عن دينه، فما استوعب أكثر الصحابة ذلك، ولكن انظر إلى الفتح الذي حصل بالصلح، لقد كان فتحاً عظيماً مبيناً كما وصفه الله عز وجل حيث قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] فالمؤمن لا بد أن يمتثل لشرع الله ولا يعترض برأيه ولا بعقله على أوامر الله سبحانه وتعالى، حتى لا يكون مثل إبليس الذي قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)) والعياذ بالله!
(4/9)
أول معصية عصي الله بها
ومن صفات إبليس: الحسد، وهي أول معصية عصي الله عز وجل بها، فإبليس حسد آدم على ما فضله الله عز وجل عليه؛ ولذلك أبى السجود، وهذا الحسد منبعه من الكبر والإعجاب بالنفس، لكنه ينبت الحسد الذي يؤدي إلى بغض المحسود، والسعي في الإفساد عليه، والسعي في أذيته، وهذا إبليس أبغض آدم عليه السلام على ما فضله الله عليه، والحسد هذا في حقيقته هو اعتراض على قضاء الله، وعلى ما قسم الله، فالله هو الذي أعطى، وهو الذي وهب، وهو الذي فضل، فإبليس هو أول من حسد، بل إن أول جريمة قتل ارتكبت على وجه الأرض كانت بسبب الحسد، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
فالحسد هذا يكاد يقتل الناس، يقعد الإنسان يقارن بينه وبين غيره فيقول: لماذا أعطي فلان ولم أعط أنا؟! ثم تترتب على ذلك البغضاء والكراهية، ويضيق الإنسان الحاسد، وأول المعذبين بالحسد هو الحاسد؛ لذلك قالوا: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله يعني: الذي يتعذب أولاً هو الحاسد؛ لأنه يشقى بذلك الحسد، وهذا داء إبليسي والعياذ بالله! والكبر والعجب والحسد كلها أمراض إبليسية ليست من أصل صفة الإنسان، لكن أكثر الناس يخدعهم الشيطان ويجعلهم يقعون فيها، فاستعمال القياس الفاسد فيه رد لشرع الله سبحانه وتعالى، فهذه أمراض -كما ذكرنا- والعياذ بالله أدت إلى هذه الجريمة.
(4/10)
حكم ترك الصلاة
وإبليس لم يترك فقط السجود، وإنما أبى السجود، ولذلك بعض العلماء يحتج ويقول: إن من ترك الصلاة كفر كفراً ينقل عن الملة، وقد يحتجون بأن إبليس ترك السجود فكفر، ويحتجون بحديث رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن ابن آدم إذا قرأ السجدة فسجد تولى عنه الشيطان يبكي فيقول: يا ويله -يا ويل نفسه- يا ولي! أمر آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النا)، وهذا يدلنا على خطر ترك السجود لله عز وجل، وكما ذكرنا فقد كان سجود الملائكة لآدم طاعة وعبودية لله عز وجل وليس عبادة لآدم، ولكن كما ذكرنا، فالذي يأبى الصلاة هو الذي يكون مثل إبليس كافراً والعياذ بالله، أما تركها تكاسلاً فلا شك أنه كفر أيضاً، ولكن النزاع بين العلماء في كونه كفراً ناقلاً عن الملة أو كفراً لا ينقل عن الملة، وهذا القول الأخير هو قول الجمهور وهو الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهنا ذكر الترك، وكما ذكرنا فإنه لا يلزم منه الإباء، ولم يذكر ربنا عز وجل في أي موضع من القرآن أن إبليس ترك فقط، وإنما قال: ((أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) والعياذ بالله!
(4/11)
معصية إبليس أهبطته من الجنة
قال سبحانه وتعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13].
تعالى إبليس على أمر الله فأهبطه الله، وتكبر فصغره الله، فالعاصي يعاقب بنقيض قصده، والله عز وجل يعاقب من خالف أمره بعكس ما يريد مما أراد من المعصية والمخالفة، فإبليس لما أبى ظن أن ذلك عزة له فصار ذلك سبباً لذله، وظن أن ذلك يحقق ذاتيته ويقول: أنا أعلى وأفضل، فجعله الله عز وجل حقيراً مذموماً مذءوماً، مدح نفسه فذمه الله لما قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ))، وقال: ((اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا)) يعني: مذموماً، فعاقبه الله عز وجل بعكس ما قصد، فكل من تعزز بمعصية الله أذله الله، وكل من تكبر على طاعة الله صغره الله عز وجل، وكل من تعالى على أمر الله أهبطه الله سبحانه وتعالى.
((قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا)) أي: من المنزلة التي كنت فيها، من السموات العلى، لأنها لا تتناسب مع هذا الكبر، قال: ((فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا)).
وعندها خرج مرض إبليس الدفين بهذا الابتلاء، حيث ابتلي إبليس فما نجح في الامتحان، إذاً: فليست العبرة بطول العبادة بقدر ما يكون الثبات في مواطن الابتلاء، قال تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13].
فإذا ذكر الله عز وجل تصاغر حتى يصير مثل الذبابة، وربما يكون المكذب الكافر من بني آدم يسمع الآيات تلو الآيات ونفسه لا تصغر، لكن إبليس يصير بقدرة الله مثل الذبابة إذا سمع ذكر الله عز وجل، هوان فظيع والعياذ بالله! ثم ينتظره الهوان الأشد يوم القيامة، فهو الآن في هوان، ويوم القيامة يكون في هوان أشد نعوذ بالله من النار!
(4/12)
معرفة إبليس لربه بعد كفره
{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] أي: أن إبليس طلب وطول العمر، طول العمر مع معصية الله عز وجل أعظم ضرراً، وطول العمر مع الكفر يزيد من الفساد، لذلك ليس طول العمر دعاء يدعى به على الدوام، إنما يكون طول العمر مع حسن العمل، {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14].
فإبليس لم يطلب من أحد، ولم يقل: سوف أبقى طول العمر أو سوف أبقى مدة الدنيا، وإنما قال: رب! فهو يعلم بعد كفره أن الله ربه، وهذا من أعظم ما يرد على المرجئة القائلين: بأن الإيمان: هو المعرفة، وأنه إذا عرف وجود الله صار مؤمناً، لا! إبليس يعرف وجود الله، ويعرف أنه ربه وخالقه بعد كفره، فإبليس كافر يعرف وجود الله، لذلك نقول: إن الإيمان ليس المعرفة فقط، فالإيمان قول وعمل كما قال أهل السنة، وأجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وعمل القلب هو أعظم وأهم الأعمال؛ لأنه ينبني عليه عمل الجوارح، فإبليس يقر أن الذي يدعى هو الله، فلم يدع الملائكة ويقول: توسطوا لي عند الله لكي يمد في عمري، بل قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14].
وإبليس مقر باليوم الآخر، ولكنه كافر به؛ لذلك قال الله عز وجل عن اليهود والنصارى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
فكثير من الناس يقول عن اليهود والنصارى: هؤلاء مؤمنون يؤمنون بالله واليوم الآخر، وربنا ذكر أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع كونهم أوتوا الكتاب؛ لأنه ليس الإقرار بوجود الله واليوم الآخر إيمان، وإلا لأصبح إبليس مؤمناً، لا، فإبليس أكفر الكفرة؛ لأن الإيمان لا بد فيه من انقياد وحب وطاعة، والإيمان باليوم الآخر لا بد فيه من استعداد له، أما الذي يؤمن بالجنة والنار ولا يبغي الجنة ولا يفر من النار فهذا لا يكون مؤمناً باليوم الآخر؛ ولذلك لو أن إنساناً أخبرته فقلت له: هذا طعام مسموم، فقال لك: أنا مصدق لكلامك وتناول ذلك الطعام، فإنه يصبح غير مؤمن بكلامك في الحقيقة؛ لأنه لا بد مع الإيمان من خضوع وانقياد وطاعة، وإبليس إلى هذه اللحظة جاهل جهلاً عظيماً بالله سبحانه وتعالى.
(4/13)
حرمة الاحتجاج بالقدر على المعاصي
قال تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] إلى أن أخذ الوعد من ربنا عز وجل حيث قال: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15]، فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
وكأنه يظن أن الله لا يعلم ما في نفسه حتى أخذ الأمر والوعد من الله، فأخبر ربه بما سوف يفعله، وهذا جهل فظيع جداً بصفة العلم، فربنا يعلم ما في نفس إبليس، وأنه يريد أن يفعل ذلك ببني آدم، لكن لهوان الدنيا على الله؛ ولهوان إبليس عليه مد في عمره، قال تعالى: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15] فسبحان الله! عمر إبليس الطويل زاده بعداً من الله عز وجل، فإبليس عائش من قبل أن يخلق سيدنا آدم، وسوف يظل إلى نهاية العالم، ولكن لما طلب من ربنا الدنيا عيشه ربنا الدنيا كلها، إذاً: فالدنيا هذه لا تساوي عند ربنا شيئاً، ولو كانت تساوي شيئاً ما كان أعطاها إبليس أعدى أعدائه، وأول من كفر به بهذه الطريقة، ورد الأمر عليه، ولكن لأن الدنيا هينة لا تساوي شيئاً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) يعني: هي أهون من جناح بعوضة، فلو كانت تساوي شيئاً عند الله لما أعطاها إبليس، فعنده عرش على ماء البحر كما ثبت في الحديث، كما قال ابن صياد للنبي عليه الصلاة والسلام لما سأل له: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال: ترى عرش إبليس على البحر) فسبحان الله! إبليس عنده عرش على البحر، ومملكة وجنود وأعوان وأتباع، وكل هذا مما أعطاه الله عز وجل لهوانه ولهوان الدنيا على الله؛ لذلك عندما تجد للكفرة والظلمة ملكاً وسلطاناً وجنوداً وأتباعاً فلا تغتر؛ لأنهم قد يكونوا أهون على الله من إبليس، فهذا إبليس الذي أعطى الله له أكثر من هؤلاء نعوذ بالله! لذلك فملك أهل الكفر والعدوان والظلم ليس دليلاً على أن الله رضي عنهم، لا، فالله عز وجل أعطى إبليس كذلك: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:15 - 16].
وأول من احتج بالقدر: هو إبليس، فبدل من أن يقول: يا رب! أنا ظلمت نفسي وأخطأت، يقول: يا رب! أنت أغويتني، وأنت الذي أضللتني! وهذا سوء أدب مع الله عز وجل، الذي لا يصلي يقول: إن الله لم يهدن، والذي يفطر في نهار رمضان يقول: ربي ما أراد هدايتي، والتي لا تتحجب تقول: إذا هداني ربي فسأتحجب، فهؤلاء هم على طريقة إبليس، فيقول بعضهم: لو كتب ربنا لنا الهداية لكنا اهتدينا، فهذا يحكم على نفسه أنه من الظالمين، وربنا عز وجل يقول: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
إذاً: فأنت على خطر عندما تقول: إن ربنا لم يهدك؛ لأنك تحكم على نفسك أنك ظالم والعياذ بالله! فالقدر يحتج به في المصائب لا المعائب، فتب من الذنب الذي عملته إلى الله، ثم بعد هذا احتج بالقدر، وقل: إن ربي قدر علي ذلك، أما وأنت ما زلت مصراً على الذنب تقول: (بما أغويتني) فهذا سوء أدب عظيم مع الله عز وجل، وانظروا إلى أدب إبراهيم عليه السلام عندما يقول: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وأدب مؤمني الجن من ذرية إبليس، لكن الإيمان هذبهم حين قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10].
فالذي أراد لهم الرشد هو ربهم، وفي الشر قالوا: (أريد) مع أنهم قصدوا الله الذي أراد بهم شراً، ولكنهم تأدبوا مع الله عز وجل.
أما إبليس فيقول: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] وربنا عز وجل كتب عليه الغواية فعلاً، ولكنه لم يظلمه سبحانه وتعالى؛ لأنه جعل له قدرة وإرادة، وبها يحصل فعله، فهو الذي اختار الشر والضلال والعياذ بالله! وإلى هذه اللحظة كان يقول: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} [الأعراف:16] يعني: ما زال مصراً على مزيد من المعاصي وعلى معاندة أمر الله عز وجل، وهو يعلم أن الله يحب من خلقه أن يطيعوه وهو يعاكس أمر الله ويعاكس محبته، ما هذا الكره الفظيع؟! فإبليس منبع الشر والسوء خلقه الله عز وجل وهو يعلم ذلك؛ لكي يجاهده المؤمنون؛ ولكي يتعبدوا الله بمقاومته ومخالفته وارتكاب نهيه وترك أمره، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268].
فأنت عندما تترك أمر إبليس يصبح طاعة لله عز وجل، فالله جعل منبع الشرور في هذا المخلوق العجيب والعياذ بالله! قال: ((فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي))، إذاً: فالاحتجاج بالقدر مع الإصرار على الذنب فعل إبليس؛ لذلك فإن الجبرية الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقدر ليسوا مؤمنين بالقدر، فقد قدر ربنا على إبليس ذلك، ولكن هذا الإيمان ليس إيماناً بالقدر، كما أن إيمان الجبرية بالقدر ليس إيماناً، فالذي يقول: ربي كتب علي كذا، فهو غير مؤمن بالكتابة هذه؛ لأن الإيمان بالكتابة لا يكون إلا مع السعي في الأخذ بالأسباب، فلو أنك تركت الأكل وقلت: ربي كتب علي أنني أجوع، فهل تصبح مؤمناً بالكتاب؟! ليس هذا هو الإيمان، فالإيمان ليس معرفةً بوجود الشيء وانتهى الأمر، وإن كان لا يوجد أحد في أمر الجوع والشرب سيعمل هذا الأمر أبداً، فكلهم سيقولون: أريد ماءً، أريد أن آكل، فتراه يأخذ بالأسباب، أما في أمر الدين تراه يقول: إلى أن يهديني ربي، ولو أن ربي كتب لي الهداية فسأهتدي، وربي لم يكتب لي الطاعة الفلانية، والعياذ بالله!
(4/14)
وسائل إبليس في إغواء بني آدم
قال تعالى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، فهو يريد أن يقعد على هذا الصراط ليصدهم ويبعدهم عن صراط الله المستقيم، فإبليس يعرف الصراط المستقيم، فالإيمان عنده أبداً لم يكن فقط إيمان معرفة، فإبليس كان يعرف كل ذلك ولا يلتزم به، والصراط المستقيم هو: الإسلام، وهو دين الحق، فهو يصدهم عنه ويقعد لهم، فإذا أراد الإسلام يقول له: أتترك دين آبائك؟! كما فعل مع أبي طالب حتى مات على الكفر بسبب الشبهة، أتترك دين آبائك؟! فهو قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فإبليس كان من وراء أبي جهل الذي قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان ما قاله: هو على ملة عبد المطلب، وأكثر الناس كفار من أجل أن آباءهم وأمهاتهم كانوا كفاراً والعياذ بالله! وربما قعد له إبليس في طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك أرض آبائك؟! فعصاه فهاجر، وربما قعد له في طريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فتنكح المرأة ويقتل الناس؟! فعصاه فجاهد.
قال تعالى مخبراً عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف:17]، يرغبهم في الدنيا ويكره إليهم الآخرة، فينسيهم أمر الآخرة ويجعلهم في غفلة عنها: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] يأتيهم من قبل الطاعات فيجعلهم يتكاسلون عنها، ومن قبل المعاصي فيرغبهم فيها ويوقعهم في الشهوات.
قال تعالى مخبراً عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وانتفاء الشكر أعظم وسيلة يصل بها إبليس إلى مراده، وظن إبليس أن أكثر الناس إذا نسوا الآخرة، وانشغلوا بالدنيا، وانهمكوا في الشهوات، وابتعدوا عن الطاعات فقد تركوا شكر الله، وإذا زال الشكر بالكلية حصل الكفر بالكلية والعياذ بالله، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20].
فإبليس ظن ذلك وقد حصل تصديق ذلك الظن حين اتبعه أكثر الناس على ذلك، فأكثر ما يغيض إبليس وأكثر ما يقطع عليه طريقه أن تشكر نعمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)، فالحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، والحمد والشكر هو أول ما أمرنا الله عز وجل به، وأول ما تكلم الله عز وجل به في كتابه، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
فقد أمرنا أن نقول الحمد سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم، وشكر نعمة الله: أن يعلم الإنسان من قلبه أن الله عز وجل هو الذي أنعم عليه بهذا؛ فيشعر بالخضوع والمنة له سبحانه وتعالى، ثم يثني على الله بلسانه، ثم يستعمل هذه النعمة في مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك يقطع ظهر إبليس ويقطع عليه طريقه، وطريق إبليس ألا تشكر نعمة الله بأن ترى نفسك صاحب الفضل في النعم، كأن تقول: {هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:50] وكما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
فالذي لا يرى نعمة الله عز وجل عليه يستجيب لدعوة إبليس، كأن يرى نعم الله على الناس فيقول: لم ينعم علي ربي كما أنعم على الناس، فقد ظلمني ولم يعطني حقي: فهذا داء الحسد كما ذكرنا ومنبعه ذلك، لكن أن ترى نعم الله عليك الكثيرة فترى نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة اليد، ونعمة الرجل، ونعمة سلامة الجسد، ولو حرمت واحدة منها تذكرت الأخريات فسوف تسعد أعظم السعادة دائماً، فإذا حرمت نعمة فقد أعطيت غيرها والخير كثير فكم تساوي يدك؟! وكم تساوي رجلك؟! كم يساوي عقلك؟! كم تساوي أذنك؟! كم يساوي قلبك الذي جعل الله عز وجل فيه الإيمان والإسلام؟! لا شك أن شكر نعمة الله سبحانه وتعالى يقطع طريق إبليس من أصله؛ ولذلك فنسيان الآخرة والانشغال بالدنيا، والإقبال على المعاصي والشهوات، وترك العبادات والطاعات كلها مرتبطة بترك الشكر؛ لذلك فإن أكثر الناس الذين لا يعرفون نعمة الله ولا يشكرونها يكونون منغمسين في هذه الأربعة كلها.
فلابد أن تقطع الطريق على إبليس فتشكر نعمة الله عز وجل، وتقبل على الطاعات والعبادات، وتبتعد عن الشهوات والمخالفات، وتقبل على ذكر الآخرة وتهتم بها، وتبتعد عن الرغبة في الدنيا وتزهد فيها، فإذا فعلت ذلك فأنت شاكر لنعم الله، قاطع على إبليس طريقه فلا يتحقق غرضه منك.
(4/15)
اعرف عدوك!
فإبليس يمكر بهذا المكر، ويعد هذه الخطة من العداوة الشديدة لبني آدم، وهو قد قال أيضاً أنه سوف يسعى في إغوائهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين، قال تعالى حاكياً عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] وفي قراءة أخرى: (المخلِصِين) فهذا يدفعنا إلى أن نسعى في الإخلاص، وأن نكون مخلصين لله (والمخلَصين): الذين أخلصهم الله لعبادته، فإذا عبدت الله كنت ناجياً عند الله، فاعرف عداوة إبليس قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فهو خطر عظيم وعدو لا ينام! قال الحسن: لو نام إبليس لاسترحنا من هذه النظرة التي أنظرها.
لأن حياته ممتدة، فلو نام إبليس لاسترحنا منه لكن عداوة شديدة لا تنقطع بينه وبين بني آدم، فهو ينشر سراياه في الأرض كلها، وأعطاه الله لكل من يولد من بني آدم يولد له من ذريته مثله ليكون قرينه والعياذ بالله، فانظر إلى كم عدد الجنود الكبيرة لإبليس وكلها لا تساوي عند الله عز وجل شيئاً! وهي في الحقيقة صغيرة تافهة حقيرة؛ لأنها في معصية الله وفي الكفر به وفي الصد عن سبيله، وإن كان أكثر الناس يستجيبون له إلا من رحم الله من عباد الله المخلصين، اللهم اجعلنا منهم.
(4/16)
تهديد الله لإبليس وأتباعه
قال عز وجل: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18].
الذأم: أشد الذم، فهو مذموم مذءوم مدحور مغلوب، إذاً: فصفة إبليس أنه مغلوب دائماً، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، لذلك يسهل عليك أن تتخلص من كيده، فالجأ إلى من ينجيك، إلى من يغيثك ويعيذك، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فإذا استعذت بالله عز وجل نجاك من هذا المدحور المغلوب، وإن كان يغلب أكثر الناس لأنهم اتخذوه ولياً وهو عدوهم؛ ولأنهم رضوا به من دون الله عز وجل ليتولى شأنهم ويوجههم، ويقبلون أوامره ويجتنبون نواهيه بدلاً من أن يمتثلوا أوامر الله ويجتنبوا نواهيه.
قال تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18] أي: من تبعك من بني آدم صار منك ولأملأن جهنم منكم، فانظر! قال أولاً: (منهم) ثم قال (منكم)؛ لأن هذا اختصاص بالمجموع، وإن كان أصل خلقتهم ليست من إبليس، لكن لما التزموا كلامه واتبعوا أمره صاروا منه، قال تعالى: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ))، فـ (منكم) يعني: منك وممن اتبعك من بني آدم.
(4/17)
تكريم الله لآدم بإدخاله الجنة
وكرم الله عز وجل آدم فأسكنه الجنة، قال: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19]، وأصح أقوال أهل العلم أن هذه الجنة هي جنة الخلد، لكن كيف وآدم قد خرج منها؟! نقول: إنما هي جنة الخلد إذا دخلوها يوم القيامة، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم دخلها في المعراج ثم نزل إلى الأرض مرة ثانية، قال صلى الله عليه وسلم: (رفعت إلى السدرة فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان) ورأى فيها نهر الكوثر، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى الجنة ودخلها عليه الصلاة والسلام، ولكن إنما تكون جنة خلد لا يخرجون منها - {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48]- إذا دخلوها يوم القيامة، أما قبل ذلك فيمكن أن يدخلها البعض ثم يخرج منها، قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} [الأعراف:19].
فالحلال كثير! {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]، شجرة واحدة هي المحرمة، وسنة ربنا عز وجل في التشريعات تقضي بأن الحلال أكثر من الحرام، ومع ذلك فأكثر الناس يرتكبون الحرام ويتركون الحلال سبحان الله! مثلاً: ربنا أمرنا بالصلاة في خمسة أوقات في اليوم والليلة مدتها ساعة من أربعة وعشرين؛ والذي يطول الصلاة جداً يأخذ ربع ساعة في الصلاة فيقولون له: أنت طولت، ومع ذلك أكثر الناس لا يلتزمون بذلك.
والمباحات كثيرة جداً، فالنباتات المحللة كثيرة، والنباتات المخدرة قليلة جداً، ولكن كم من الناس يأخذ الحرام، واتباع الشهوات سبب لذلك؛ لذلك فربنا عز وجل حرم على آدم شجرة واحدة فقال: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19] واليهود يقولون: إنها شجرة المعرفة، والحقيقة أنه ليس هناك دليل على ذلك، بل هذا كلام فاسد من أن الذي يأكل من شجرة المعرفة يصبح عارفاً بالخير والشر، وبالتالي فربنا خاف من آدم أن يأكل من شجرة المعرفة فجعل عليها سيفاً مصلتاً يدور حولها ولهيب نار حتى لا يأكل من هذه الشجرة.
وكذلك لم يخبرنا القرآن عن نوع الشجرة، والاهتمام بأشجار التين أو البر أو كذا غير صحيح، فأهل الكتاب يهتمون بهذه الشجرة، ولكن لم يخبرنا ربنا عز وجل عنها، فهي شجرة حرمها الله عز وجل على آدم لحكمته.
(4/18)
بداية وسوسة إبليس لآدم
والله خلق آدم للأرض أولاً: ابتلاءً، لكنه ينزل بدون سبب، فربنا قدر المقادير بالأسباب، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20]، فالذين قالوا: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، فهل هناك احتياج إلى ذلك؟! الله عز وجل لم يخبرنا أن إبليس دخل الجنة، فالوسوسة ربما تحصل من بعيد، والآن توجد وسائل للإفساد عن بعد، كالأقمار الصناعية، فهي تفسد في الأرض مشارقها ومغاربها من بعيد جداً نسأل الله العفو والعافية، فليس بلازم أن يكون معنى (فوسوس لهما) أنه دخل الجنة، فمن الممكن أن يوسوس لهما ويخاطبهما من بعد.
قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20]، فهو عرف أن المدخل من كشف العورات: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما) وقد كانا لا يريان عورتيهما، فهما إما في نور أو في غير ذلك والله عز وجل أعلم، إنما كانا لا يريان عورتيهما، فأراد الشيطان أن يبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، إذاً: فخطة إبليس اللعين والعياذ بالله هي كشف السوءات، فأول شيء يصل إليه في بني آدم أنه يدعوهم إلى كشف العورات؛ ولذلك فهذا التبرج مفسدة إبليسية كبرى، فالناس اليوم يكشفون عوراتهم؛ لكن ما هو الذي يجعله يكشف عورته أمام الناس؟! إبليس والعياذ بالله، وإلا فالفطرة السوية أنه يغطي عورته ويحب التغطية، ولا يحب أن تنكشف العورة فينقلب الحال إلى حال سيئة، وربما يتعود الناس أن يروا والعياذ بالله الصور العارية تماماً والأفلام الخطيرة الجنسية التي تكون أمام الملايين من البشر، لكن أهل الحياء يستحي ربما أن تبدو عورته أمام أهله أو أمام نفسه ربما، فكيف إذا كان هذا أمام الملايين من البشر نعوذ بالله؟! فهذا التبرج هو فتنة إبليس الأساسية؛ ولذلك فكل متبرجة وكل كاشف عن عورته أمام الناس هو تابع لأمر إبليس في هذا الباب.
(4/19)
نصيحة إبليس المخادعة لآدم وزوجه
قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20].
فقد سماها شجرة الخلد، فهو يسمي الأشياء بغير اسمها ليبرر النيل المحرم منها، كما يسمون الخمر اليوم: مشروبات روحية وكما يسمون الاختلاط: حرية وتقدماً، وكما يسمون الانحلال والفساد حضارة ومدنية، فتسمية الأشياء بغير اسمها حيلة إبليسية، قال تعالى: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ)).
إذاً: فالنهي موجود ومعروف، ولكن إبليس يسعى في تعليل النهي، فيقول: ربكما أمركما بكذا من أجل كذا، فإذاً هو لا يكره أن تكونا ملكين، ولا يكره أن تكونا خالدين، فهو يعلل النهي ليرتكبا المعصية، فما دامت لن تحقق هذا الشيء الذي نهاك عنه ربك من أجله فإذاً خالف النهي، فهو يقول له مثلاً: إن ربنا حرم علينا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من أجل العداوة والبغضاء، لكننا سنشرب الخمر ولن تحصل بيننا عداوة وبغضاء، وسنلعب الميسر من غير شجار، فهذا هو أسلوب إبليس والعياذ بالله! فأقسم لهما بالله إنه ناصح لهما، وأليس من يحلف لك إنه ينصح لك تصدقه؟! وبعض السلف يقول: من خدعنا بالله انخدعنا، وهذا كلام غلط، واستدلال غير صحيح، فاليمين التي لا نعرف كذبها نقبلها، لكن إذا كنا نعرف أنه كذاب لا نقبل كلامه وإن حلف، وإلا فقبول النصيحة هذه كلفت آدم وذريته معاناة كثيرة جداً، ومنها النزول إلى هذا الشقاء كما قال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، فالشقاء الذي حصل لنا هذا كان بسبب قبول النصيحة الكاذبة الخادعة التي قدر الله عز وجل ذلك لحكمه البالغة.
(وقاسمهما)، إذاً: ليس كل أحد يحلف باسم ربنا نصدقه إذا علمنا كذبه، فهو يحلف بالله إنه ناصح، قال تعالى: ((إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)).
وأما قولهم: إنه وسوس لـ حواء وهي وسوست لآدم، فالآية هذه ترد عليه، إذ قال ربنا: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20]، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، وهذا كلام اليهود في التوراة التي بين أيديهم.
(4/20)
معصية آدم وحواء وعاقبتها
قال عز وجل: ((فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ))، أي: غرهما حتى قربهما إلى الشجرة وأكلا من الشجرة، وعند ذلك انكشفت العورة، قال عز وجل: ((فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)).
وضاع ذلك النعيم، فالمعصية تهتك الستر الذي بينك وبين الله وتكشف عورتك وسوأتك، فالإنسان عنده عورات ظاهرة، وعورات باطنة، فعوراته الظاهرة: عورات الجسد، وعوراته الباطنة: الظلم والجهل، فالمعاصي تكشف العورات والعياذ بالله؛ ولذلك فإن كشف العورات الظاهرة والباطنة من إرادة إبليس كما ذكرنا، قال: ((وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا)).
أي: جعلا يخصفان عليهما كهيئة الثوب من ورق الجنة، فيلصقان الورقة بالورقة للتستر، وهذه فطرة الإنسان في التستر، وهي فطرة سوية؛ ولذلك أمرنا الله بالتستر، والله حيي ستير يحب الستر سبحانه وتعالى، فنسأل الله أن يستر عوراتنا، وأن يؤامن روعاتنا.
قال عز وجل: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] وانظر إلى البعد الذي حصل! كانا قبل ذلك قريبين، فقال: ((وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ))، لأنهما كانا قريبين من ربنا، فلما حصلت المعصية أصبحت: (تلكما) فـ (تلك) إشارة للبعيد، و (هذه) للقريب فلما عصوا ربنا بعدوا، فمن أول ما تحصل المعصية تجد أن قلبك يبتعد عن الله، نسأل الله العفو والعافية.
قال عز وجل: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23] وانظر الفرق بين الإجابة والإجابة! فإبليس {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33]، و ((قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)).
أما آدم وزوجه فقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فهذا كان بقدر، وكتبه الله عز وجل عليه قبل أن يخلقه بأربعين سنة، ومع ذلك عندما عوتب اعترف بالذنب، والاعتراف بالذنب بداية فتح باب التوبة، وفتح الخير للإنسان، وليعترف وليقل: أنا مذنب، أنا ظلمت نفسي؛ فالأبوان اعترفا بالذنب فغفر الله لهما، ومن شابه أباه فما ظلم، فإذا كنت تريد أن يغفر لك ربك، فقل: أنا مذنب! أنا مخطئ! أنا مقصر! وإذا كنت تريد أن تقول: إن ربي كتب علي أن أعمل المعاصي فأنت تبع للطريق الثانية والعياذ بالله، قال عز وجل: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24] فقوله: (اهبطوا) خطاب لآدم وحواء وإبليس، ويقال: الحية؛ على أنها هي التي أدخلت إبليس، ولا حاجة لنا إلى ذلك حيث لم يثبت في هذا حديث صحيح.
((بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) فالعداوة مشتركة، وذرية آدم بعضها يعادي بعضاً حين تبعوا إبليس وصاروا أبالسة، فصاروا أعداء لبني البشر؛ ولذلك نقول: إن الكفرة أعداء البشرية، واليهود هؤلاء أعداء البشر؛ لأنهم صاروا أبالسة وتبعاً لإبليس الذي هو عدو لنا، قال تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)).
ثم قال تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25]، فحياة الناس وموتهم في الأرض، ويخرجون منها يوم القيامة، ثم أمرنا الله عز وجل بالتستر، وامتن علينا باللباس وقال: ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا)) (ورياشاً) (وريشاً) وكله حق: وهو ما يتنعمون به ((وَلِبَاسُ التَّقْوَى))، وهذا ستار للعورة الباطنة، التقوى هذه عبارة عن علم وعدل، فالعلم ينافي الجهل، والعدل ينافي الظلم، والإنسان ظلوم جهول يولد عريان بلا علم ولا عدل، فإذا امتثل الشرع وفق للعلم والعدل فزال عنه الظلم والجهل فسترت عورته الباطنة، قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:26 - 27].
وهذه فتنة عظيمة: وهي نزع الثياب، فاللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، قال عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فالأصل أن بني آدم لا يرون الشياطين من الجن: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]، ونعوذ بالله من ولايتهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(4/21)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [1]
إن الإنسان إذا أراد العيش حُرَّاً عن كل عبودية لغير الله، مخلصاً عبادته لله، لا يخاف فيه لومة لائم، فلا بد أن يعلم أنه ملاقٍ صعاباً وابتلاءات وعوائق تعيقه عن الحق، ويجب عليه حينها أن يقارن بين صبر على عذاب مؤقت، لينال رضا الله الدائم، وراحة مؤقتة متوَّهمة في الدنيا، ثم بعدها يلقى عذاباً طويلاً، وحينها سيجد المؤمن أن الألم في الطاعة، خير من النعيم في المعصية.
(5/1)
أهمية قصة أصحاب الأخدود
فسنتكلم عن قصة من قصص القرآن العظيم، وعن قصة طائفة من المؤمنين، اشتراهم الله سبحانه وتعالى بما سلط عليهم من العدو، وكانت نهاية المطاف في هذه الدنيا فيما يبدو للناس انتصار الكفر، لكن بين القرآن حقيقة الأمر، وأن الخاسرين في الحقيقة هم الكفرة المعتدون، وأن المؤمنين قد فازوا أعظم الفوز.
فهذه القصة من القصص التي رسخت للصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم موازين الإيمان، ورسخت عندهم لزوم العمل بطاعة الله عز وجل مهما كانت النتائج ومهما كانت الابتلاءات، ورسخت عندهم أن الدعوة إلى الله عز وجل غايتها أن يؤمن الناس، وهذه هي المصلحة العظمى التي من أجلها يضحى بالروح والمال، سواء وقع التمكين أم لم يقع، وليس على الدعاة أن يمكِّن الله ي الأرض، فربما يكون قدرهم أن يظلوا في الابتلاء ما شاء الله عز وجل، أو أن تكون دعوتهم نهايتها أن يقتلوا في سبيل الله عز وجل شهداء، لكن ليس ذلك نهاية الدعوة ككل، وليس ذلك آخر المطاف في الصراع بين الحق والباطل جملة، لكن وإنما هي جولة من جولات الصراع، ويمكن أن تكون هذه نتيجتها، وبقدر الله أن بعض هؤلاء الدعاة والمؤمنين لا يرونبأعينهم ثمرة جهدهم ودعوتهم، لكن يراها من بعدهم، ويظل هؤلاء الدعاة نجوماً يقتدى بها في هذا الطريق.
هذه القصة العظيمة التي ذكرت في كتاب الله عز وجل في سورة البروج، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مفصلةً بسياق رائع بديع، فيهامن الفوائد ما لا نحصيه، وما علمنا منه هو جزء يسير مما لم نطلع عليه، ومع كثرة التأمل يزداد العبد رسوخاً في فهم هذه القصة، وما دلت عليه، وما يستفاد منها في الدعوة إلى الله عز وجل.
ولا شك أن أوقات الابتلاء، وأوقات تسلط الأعداء على المسلمين، يحتاج المؤمنون عموماً والدعاة إلى الله خصوصاً إلى التأمل فيها؛ لكي يستضيئوا بنورها في ظلمات الجهل والظلم التي تملأ العالم من حولهم؛ لكي يظلوا ثابتين على طريقهم مهما كانت المقدمات والنتائج، فليس عليهم إلا أن يؤمنوا بالله، ويسيروا في طريقهم الذي قدره الله سبحانه وتعالى لهم.
(5/2)
سياق القرآن لقصة أصحاب الأخدود
(5/3)
معنى البروج
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:1 - 22].
قال ابن كثير رحمه الله: يقسم تعالى بالسماء وبروجها، وهي النجوم العظام، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة والسدي: البروج: النجوم، وعن مجاهد أيضاً: البروج التي فيها الحرس، وقال يحيى بن رافع: البروج: قصور في السماء.
واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر.
ولا شك أن القسم الذي ابتدأت به هذه السورة إذا تأمله الإنسان شهد ملك الله عز وجل، وعلم أن السماوات والأرض، وأن الدنيا والآخرة من باب أولى ملك لله سبحانه وتعالى.
ومع ذلك قدر ما قدر من الابتلاء على أوليائه، ليس ضعفاً وليس معنى ذلك غياب الأمر عن الله، أو عدم القدرة على ما أراد، بل هو على كل شيء قدير، وهو سبحانه على كل شيء شهيد، ومع ذلك قدر ما قدر، لكي يظل شعور المؤمن بأنه في طريقه الذي يعمل فيه يزن الأمور بموازين القوة المادية الأرضية، بل يستحضر ملك الله عز وجل حين ينظر في السماء ذات البروج، ويتفكر في اليوم الموعود، كل ذلك يجعله يوقن بحقارة الدنيا وقلة قيمتها، وضعف قوة أهلها، فلا يعبأ بسلطان الكافرين والظالمين، ولا يترك دعوة الحق لأجل ما يتعرض له من أنواع الابتلاء، والله أعلى وأعلم.
(5/4)
أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: ((واليوم الموعود.
وشاهد ومشهود))
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:2 - 3]: اختلف المفسرون في ذلك.
وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يوم القيامة، ((وَشَاهِدٍ)) يوم الجمعة، وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه، ((ومشهود)) يوم عرفة)، وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة، ولكن إسناده ضعيف، وقد روي موقوفاً على أبي هريرة وهو أشبه يعني: الأظهر والله أعلم أنه موقوف.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] قال: الشاهد يوم الجمعة، ويوم مشهود يوم القيامة.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي هريرة أنه قال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة.
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليوم الموعود يوم القيامة، وإن الشاهد يوم الجمعة، وإن المشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا).
قال البغوي: والأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وهذا أحسن الأقوال والله أعلى وأعلم.
فقد أقسم الله بالأوقات الفاضلة، وجعل سبحانه وتعالى التفكر في هذه الأشياء دليلاً يقود الإنسان إلى معرفة ملك الله عز وجل، وقدرته سبحانه وتعالى.
(5/5)
قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج
قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن أصحاب الأخدود، والأخدود جمعه أخاديد وهي الحفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من هم من المؤمنين بالله عز وجل، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدوداً، وأججوا فيه ناراً، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به، فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7] أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين.
قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] أي: وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
ثم قال تعالى: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أي: لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض ولا تخفى عليه خافية.
(5/6)
سياق السنة لقصة أصحاب الأخدود
اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ وأصح ما روي فيها ما رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إليَّ غلاماً؛ لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً يعلمه، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك! فشكا ذلك إلى الراهب فقال له: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بنى! أنت أفضل منى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء، وكان للملك جليس عمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ها هنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفى الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله له فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان! من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحداً، إنما يشفى الله عز وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أو لك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضاً بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتي بالراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه -أي: اقذفوه- يتدحرج إلى أن يموت فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله عز وجل، فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه في البحر، فلججوا به البحر -أي: دخلوا به البحر- فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون فيها أي: يتسابقون في الوصول إليها -فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه، فإنك على الحق)، ورواه النسائي ورواه الترمذي في تفسير هذه السورة.
(5/7)
لعن الله لأصحاب الأخدود الذين فتنوا المؤمنين
هذه القصة العظيمة ذكر الله عز وجل فيها من الآيات ما تتضمن حكماً بالغة، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى الذين لعنوا وطردوا وأبعدوا عن الرحمة، وذكر ذلك بلفظ (قتل)، ولا شك أن ذكر الطرد واللعن بلفظ القتل الذي فعلوه بالمؤمنين أبلغ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم أرادوا قتل المؤمنين فأحيا الله عز وجل عباده المؤمنين شهداء عنده عز وجل، وقتل هؤلاء.
وقد ورد في بعض الروايات: أن النار التي أضرموها لحرق المؤمنين، بعد أن فعلوا ما فعلوا، التفت عليهم فقتلتهم، فضلاً عما أعد الله عز وجل لهم من عذاب الحريق في الآخرة، فقد كانوا يؤلمون المؤمنين بأشد ما يعرف من أنواع الألم في الدنيا، وهو ألم النار، فأُحْرِقوا بها في الدنيا وفي الآخرة، وهم يعذبون فيها فيما بين ذلك.
وإن كثيراً من الناس يظن أن الابتلاء الذي يحصل لأهل الإيمان لا يستطيع الإنسان تحمله، ولذلك يفرون من ألم الابتلاء إلى ترك الإيمان واتباع أهل الظلم والطغيان، والحقيقة أن الألم والعذاب الحقيقي في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، إنما هو لمن ترك الإيمان، وأعرض عن دين الله سبحانه وتعالى، وإن كان فيما يبدو للناس بخلاف ذلك.
بعد هذه الأقسام المتعددة، التي تدل على عظمة الله وسلطانه وملكه قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، فأخبر أن الذي قتل هم الكفرة، أصحاب الحفر التي ألقوا فيها المؤمنين.
(5/8)
معنى قوله تعالى: (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود)
قال عز وجل: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:5]، هذه الجملة بدل؛ لأن الأخدود هو الذي كان فيه النار، وهذا يدلك على أن الله عز وجل تركهم يجمعون الوقود لعباد الله المؤمنين، فهو يملي لهم سبحانه وتعالى، ولم يأخذهم من أول وهلة بل أملى لهم عز وجل، فلو رأيت ظالماً يملي الله عز وجل له، فلا تظن أن ذلك بسبب قوة الظالم، وإنما لهوانه على الله عز وجل أملى الله له، فإن نهاية الكفر والظلم محتومة قطعية لا يمكن أن تتغير؛ لأن الله أراد ذلك، قال عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
قال تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6]، وفي هذا دليل على عظم جرم من وقف أو قعد يشاهد ما يفعله أهل الظلم بأهل الإيمان، فلا يجوز للمسلم أن يقعد متفرجاً على ما يجري، فإن قدر على أن يدفع عغنهم فيجب أن يدفع، وإن لم يقدر فعليه أن ينصرف ويفر بدينه، فما بالك إذا كان ذلك بأمره وإشارته أو رضاه وموافقته؟! وهذا التسلي بمشاهدة التعذيب جريمة أخرى فوق جريمة أذية المسلمين وعذابهم ومحنتهم.
قال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] أي: كانوا مشاهدين جالسين حول النار فلا هم رحموا عباد الله، ولا آمنوا بالله عز وجل، وهذه النوعية من البشر ليست ببعيدة عنا، بل نراها اليوم في هؤلاء اليهود المجرمين المعتدين، وغيرهم من المشركين الذين ينتهكون حرمات المسلمين، فلا تجد عندهم رحمة، مع أن المسلمين لم يفعلوا بأحد من الأمم التي ينتصرون عليها شيئاً مما يفعله هؤلاء المجرمون، فلا يوجد عند المسلمين تفنن في تعذيب أعدائهم، وإيصال الآلام لهم، وإنما كما أمرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، فلا توجد عندهم هذه القسوة في تعذيب الخلق، وأذيتهم، وإنما هم يقاتلون من استحق القتال شرعاً فقتالهم كدواء وعلاج لابد منه؛ لإنقاذ البشرية من خطر الشرك والكفر والعدوان.
(5/9)
جريمة المؤمنين عند الكفرة هي: الإيمان بالله
قال عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
هذه الصفة وهي الإيمان ينبغي أن توجد عند المسلم حتى لا تكون له جريمة عند أهل الكفر إلا أنه يؤمن بالله، فإن هذا -والله- من أعظم أسباب إهلاك المجرمين الظالمين، أنهم يعتدون على أهل الإيمان لا لشيء إلا لأنهم آمنوا، ولا لشيء إلا لأنهم أناس يتطهرون.
وهناك صفة قبيحة عند الطواغيت والظلمة، وهي أنهم ليس لديهم مانع من إنزال أشد أنواع العقاب لعباد الله بغير جريمة إلا أنهم نقموا منهم إيمانهم بالله، وهل خصلة الإيمان بالله مما يعد ذنباً؟ لا، ليس ذلك مما ينقم أبداً، ولكن أصحاب الموازين المختلة، وأصحاب الشهوات والهوى، والشبهات والضلال عندهم هذه التهمة هي أفظع التهم، وهذا تجده في مساحات عريضة من الأرض، تجد أن أشد تهمة يتهم بها الإنسان هي أن يكون ملتزماً التزاماً حقيقياً بالدين، فلو أرادوا أن يتهموه بأنه زانٍ، أو شارب خمر، أو حتى قاتل، أو حتى مدمن مخدرات، لوجدوا أن تهمة الالتزام الحقيقي بالدين ربما تكون أشد عند الظلمة والطواغيت.
فلو أن إنساناً مثلاً أراد أن ينال من شخص، ويدخل عليه الأذى في بلد مثل فلسطين أو غيرها فما عليه إلا أن يخبر عنه أنه ممن يعادي أعداء الله اليهود، ويكفيه ذلك تهمة أنه متطرف أو إرهابي، وذلك كاف أن ينال أشد أنواع الأذى والعقاب، لكنها شرف في الحقيقة لأهل الإيمان، وينبغي للمؤمن أن يحافظ على هذا الشرف، فيظل المؤمن لا جريمة له إلا أن يؤمن بالله العزيز الحميد، وهذا سوف يكون من أسباب هلاك عدوه، ومن أسباب قبول دعوته عند الناس، كما في قصة الغلام، إذ تساءل الناس: لماذا يقتل هذا الغلام؟ لأنه آمن بالله فلنؤمن معه إذاً، وهذا هو مراد الداعية، أن يؤمن الناس بالله.
(5/10)
تأملات في معنى العزيز الحميد
ذكر الله عز وجل هذين الاسمين الكريمين من أسمائه الحسنى: العزيز الحميد، فالله عز وجل عزيز في انتقامه من أعدائه، وهو عزيز يعز عباده المؤمنين، وينصر عباده المستضعفين، وهو سبحانه وتعالى عزيز لا يغالب، أراد ذلك الملك أن يغالب ربه عز وجل، وأن يمنع وصول الإيمان إلى القلوب، وفعل هذه الأفاعيل لأجل ذلك، ومع ذلك وصل الإيمان إلى القلوب، واهتدى من أراد الله هدايته، وانتصر من أراد الله نصرته، ومن يغالب الله عز وجل يغلب؛ لأنه العزيز سبحانه وتعالى، فهو ينصر عباده المؤمنين بأسباب لا يقدر عليها الأعداء، وليست من صنع المؤمنين، بل هو الذي يصنعها عز وجل لعباده.
وأما اسم الحميد فهو سبحانه الذي يستحق الحمد على ما قدَّر وعلى ما شرَّع، كما سمعنا من كلام ابن كثير رحمه الله، فإنه قدر هذا الأمر المؤلم من الابتلاء الشديد، وقدر سبحانه وتعالى تسلط الكفرة مدة من الزمن على المؤمنين، وتمكنهم من تعذيب المؤمنين، ويملي لهم ذلك سبحانه وتعالى، وله الحمد على كل حال.
من تأمل هذه القصة العظيمة وما جرى فيها، لابد أن يحمد الله، وهي قصة تحيي قلوب المؤمنين، ويجدون فيها من أنواع الخير ما تنغمر فيه مفسدة ما جرى للمؤمنين، وما حدث من تسلط الكافرين مدة من الزمن، إلى جانب المصالح الهائلة التي في هذه القصة، فلو لم يكن فيها إلا إيمان المؤمنين، ثم شهادتهم في سبيل الله، ثم ما نالوا بعد ذلك من الفوز العظيم عند الله، فكم هي تلك المدة بالنسبة إلى مرور السنين الآن؟ وما هو أثر تسلط هؤلاء الظلمة تلك المدة، إذا نظرنا إليها الآن؟ لا شيء على الإطلاق، لا ذكر لهم بالخير، وإنما يذكرهم أهل الإسلام بالطرد واللعن فقط، وهم لم يؤثروا في واقع الحياة وفي الأرض التي نعيش فيها، بل انتهى أمرهم بالكلية، وبقيت حياة المؤمنين الشهداء في برزخهم، وبقي فوزهم العظيم يوم القيامة فله الحمد عز وجل.
فإياك أن تقول: لماذا يا رب يفعل هؤلاء ذلك بعبادك المؤمنين؟ إياك أن تقول ذلك معترضاً، إياك أن تقول: إلى متى يا رب سوف نظل يصيبنا ما يصيبنا؟ إياك أن تقول: إن الإنسان قد ضاق صدره، وأوشك أن يترك الطريق من أجل ما يقع من الظلم، بل احمدِ الله عز وجل على تسلط الكفرة وقتياً؛ ليزداد إيمانك أنت وإيمان من بعدك، فإذا صبرت وكنت قدوة في الحق، وكنت ثابتاً على طريق الحق، فزت في حياتك، وفي برزخك، ويوم القيامة، وينتفع من بعدك بثباتك وصبرك، فأنت إذا قرأت قصص الأنبياء والأولياء عرفت فائدة المحنة، وتعرف فضل الله عز وجل على خلقه، واستحقاقه الحمد على ما قدر، بل هذه القصص في الحقيقة من أعظم أسباب التربية الإيمانية لدى عباد الله المؤمنين، لو كانت الأمور دائماً سهلةً والنتائج دائماً مضمونةً، وكل من يسير في طريق الحق يأخذ النصر سهلاً، وكان الطريق مفروشاً بالورود؛ لما كان للإيمان ذلك الطعم الذي يجده من يصبر على طاعة الله عز وجل في أحلك الظروف، ولما كان شعور المؤمنين بعظم فضل الله عز وجل عليهم بالهداية، وعظم فضله عليهم بالجنة، فلو أن الجنة كانت رخيصة الثمن ما شعروا بفضلها، وإنما هي فعلاً غالية، ولذلك له الحمد عز وجل، فهو العزيز الحميد سبحانه وتعالى.
إياك أن تظن أن الله عاجز عن إعزاز عباده المؤمنين، كيف والعزة هي صفته؟! إياك أن تظن أن الابتلاء يقع من غير حكمة، كيف والحمد صفته سبحانه وتعالى فهو العزيز الحميد؟! وإياك أن تظن أيضاً أن ذلك كان لخروج شيء عن ملكه عز وجل، وأن ملكه محصور في السماوات فقط، وأما في الأرض فالملك للكفرة وللظلمة وللمعتدين، فالله هو الذي له ملك السماوات والأرض، فهو يملك الأمور كلها، ويملك أن يجعل أهل الإيمان ظاهرين في لحظة واحدة كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، ولكنه سبحانه وتعالى جعل الابتلاء للمؤمنين؛ ليذوقوا حلاوة الإيمان، وليذوق من بعدهم أيضاً حلاوة الإيمان بهذا الابتلاء.
(5/11)
معنى قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد)
قال تعالى: ((الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: لم يخرج عن ملكه أحد، ولا ذرة من ذرات هذا الوجود تخرج عن ملك الله، ولا يملك الكفرة شيئاً، فالكفرة والظلمة والمعتدون ليس لهم ملك ذرة في السماوات ولا في الأرض، والله جعلهم يفعلون بعض الأشياء ولو شاء لانتصر منهم، قال عز وجل: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].
وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].
إذاً: لابد من تأمل هذه المعاني التي ذكرت في هذه القصة، وتفاصيل القصة لم تذكر في القرآن، وإنما ذكرت المعاني الإيمانية التي أعظمها استحضار معاني الأسماء والصفات، واستحضار آثارها في الوجود.
قال تعالى: ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أي: لم يغب عنه عز وجل شيء، فهو يرى كل شيء {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، وكونه سبحانه ترك الظالمين يظلمون له الحكمة في ذلك وليس ذلك لنقص ملكه ولا لأنه لم يشهد، بل لما يترتب على ذلك من الحكم البديعة والفوائد العظيمة التي لا يحصيها العباد.
(5/12)
معنى قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات)
ذكر عز وجل في هذا القرآن العظيم الذي هو مليء بالأمور الإيمانية الأمر فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم، قتلوا أولياءه، ثم هو يدعوهم إلى التوبة.
مع أن الآية في الحقيقة نزلت في قوم هلكوا على الكفر، ولكن لأن الأمر دائماً مرتبطٌ بكل زمن يقع فيه ذلك، ومع أن هذا خبر، لكنه دعوة إلى التوبة، والمدعو هنا هو من يسمع هذه الآيات بعد ذلك، ممن فتنوا المؤمنين والمؤمنات وعرضوهم للفتنة، وآذوهم بسبب التزامهم بالدين وطاعتهم لله عز وجل، فهم قتلوا أولياءه، ومع ذلك فتح لهم باب التوبة! وهذا له أهمية كبرى في نفس المؤمن، بحيث إنه يعمل لله عز وجل لا لنفسه، فهو لا يريد الانتصار لنفسه، ولا يستبعد أن يتوب الله عز وجل على من آذاه، ولا يقول: لابد أن ينتقم الله من عدوي، ولابد أن يأخذه الله عز وجل بأنواع العذاب في الدنيا قبل الآخرة، فلربما فتح الله له باب التوبة، كيف لا وقد وقع ذلك لمن آذى نبيه صلى الله عليه وسلم؟! لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته أنزل الله عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128])، وتاب الله على طائفة منهم، حتى ممن كان يقود الكفرة في حربهم ضد الإسلام.
قال الله عز وجل في بيان حقيقة من فتن المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتب: ((فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ))، وتأمل لفظ (عذاب الحريق)، فالمعنى قد وضح بقوله: (فلهم عذاب جهنم) فهي عذاب النار والنار تحرق، لكن أكد هذا المعنى بقوله: (ولهم عذاب الحريق)؛ لأنهم أرادوا إحراق المؤمنين، فالألم الحقيقي لم يحصل للمؤمنين وإنما حصل للكافرين، وذلك أن الشهيد لا يجد من ألم الموت إلا كمس القرصة، وهؤلاء شهداء، بل وردت روايات كثيرة في هذه القصة منها: (أن هؤلاء المؤمنين قبضت أرواحهم قبل أن يلقوا في النار، فألقوا فيها أجساداً بلا أرواح، فلم يتألموا.
إذاً/ هذا حاجز وهمي يمنعك من الالتزام، وهو خشية المخاطر التي يتعرض لها أهل الإيمان، فالألم الأكبر هو في معصية الله تعالى، إضافة إلى ما ينتظره من العذاب في الآخرة، إذا ترك الحق، فنار الآخرة أعظم من نار الدنيا، ومن أراد أن يعرف قدر نار الآخرة، فليذهب إلى أي مستشفى ليرى قسم الحروق وآلامه، مع أنه جزء بسيط من نار الدنيا، التي هي جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة.
فالكفار عندما أرادوا قتل المؤمنين، قال الله عنهم {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، وعندما أرادوا إحراق المؤمنين، أحرقهم الله عز وجل حريقاً دائماً أبدياً.
(5/13)
عاقبة أهل الإيمان وما لهم
لقد بين الله حقيقة الفوز والخسران، والنصر والهزيمة، في هذه القصة وفي عموم الأحداث والوقائع، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11].
فهو لم يقل: إن الذين آمنوا من أصحاب الأخدود فقط، بل جعل الأمر عاماً، كما جعل أمر الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أمراً عاماً.
(5/14)
علاقة قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد) بقصة أصحاب الأخدود
ختم الله السورة بقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، وهذا تهديد ووعيد لهؤلاء الذين غفلوا عن ملك الله وسلطانه وشهادته، وعن عزته وحمده، وغفلوا أن الله له ملك السماوات والأرض، وأن بطشه عز وجل بهم شديد.
وقال عز وجل: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13] أي: الكفرة لا يبدئون أو يعيدون، بل مبادئ الأمور ونهايتها لله عز وجل، وأدنى تأمل يؤكد لك ذلك، فمن الذي بدأ حياة أي ملك أو أي ظالم من الظلمة أو أكبر رئيس من الرؤساء؟ كل هؤلاء لا يملكون شيئاً، لو ألقي في دورة المياه قبل تخلقَّه ثم ألقي عليه الماء لذهب في المجاري، ولما استطاع أن يدفع عن نفسه شيئاً، كلهم مروا بهذه المرحلة، كل ظالم منتفخ متكبر يأمر وينهى ويؤذي عباد الله عز وجل لم يكن له من بداية الأمر شيء، لا والله حتى مراحل قوته هذه بدأت من الصفر ولابد، وكان من الممكن أن يولد متخلفاً عقلياً، وكان من الممكن أن يولد مشلولاً أو أن يولد أخرساً، ما كان يملك لنفسه شيئاً، وما صنع هو أو أبوه أو أمه أو الدنيا كلها شيئاً من سمعه وبصره وهو في بطن أمه، فالله فهو الذي يبدئ، كما أن الإعادة يوم القيامة له سبحانه وتعالى، وسوف تعود هذه الأمور مرة أخرى للحساب، المؤمنون يعودون، والكفار يعودون، وكلما وقع في الدنيا سوف يسأل عنه الله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13].
(5/15)
ترغيب الله سبحانه عباده في العودة إليه
قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] أي: أن الأسماء والصفات هي أساس الإيمان، وهي أعظم أثر في حياة المؤمن في توجيهه وسلوكه، فالله هو الغفور يغفر لعباده المؤمنين، الودود يحب عباده المؤمنين ويودهم ويجعل لهم وداً، وهذا أعظم ترغيب في العودة إليه حتى وإن أذنب العبد ما أذنب، وظلم ما ظلم، فإنه إذا عاد إلى الله غفر الله له فهنا ذكر الله تعالى ترغيباً وترهيباً فقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14] يعني: أيها الظالم! أنت لن تخرج عن ملك الله، ولن تقدر على الفرار من بطش الله؛ لأن الله هو الذي يبدئ ويعيد، وإن تبت غفر الله لك؛ فهو الغفور وهو الودود الذي أحب عباده المؤمنين، وليس ذلك فحسب، بل زاد أن ذكر حبه ومودته للتائب الذي سيجد أثر هذا الحب، حتى في الكائنات التي تحيط به، فلو لم يجد ثواباً إلا أثر حب الله له لكفاه سعادةً.
قال بعض السلف: إنه ليأتي على القلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي عيش طيب.
ومن آثار حب الله للعبيد أنه يشعر بألفة مع الكون حوله؛ لأن الله جعل له وداً كما في الحديث: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).
فتحد الكائنات كلها تحبه، والعكس لمن أعرض عن ذكر الله، فهو في عذاب، تكرهه السماوات والأرض ولا تبكي عليه السماء والأرض لذنبه، قال عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] أي حياة نكدة هذه الحياة التي يعيشها الكفار؛ لأنهم فاتهم ود الله عز وجل ومحبته، نسأل الله أن يرزقنا حبه وحب من أحبه، والعمل الذي يبلغنا حبه.
(5/16)
معنى قوله تعالى: (ذو العرش المجيد فعال لما يريد)
قال عز وجل: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] وقراءة (المجيدُ) بالرفع على أنه صفة للرب، أي: الله ذو العرش وهو الذي له المجد، والقراءة الأخرى بالجر: ((ذو العرش المجيدِ)) يعني: العرش مجيد؛ لأن الرب سبحانه وتعالى مستو عليه، والاستواء على العرش علامة على كمال الملك، وهو حقيقة لائقة بجلال الله، فالله ذو العرش الذي استوى عليه استواءً يليق بجلاله، كما قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإثبات العرش وإثبات أن الله استوى عليه من أدلة علو الله على خلقه.
قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16].
هذا هو الوصف الجامع لحقيقة معاني الربوبية، فإنه الفعال لما يريد، وصيغة المبالغة في (فعال) لأنه متمكن من الفعل، وقادر عليه قدرة تامة، وهو يفعل كل ما ترى من إعزاز وإذلال، وإحياء وإماتة، وخفض ورفع، وعذاب ومغفرة، والخلق لا يملكون إلا فعل أشياء يسيرة، وفعلهم ليس كفعل الله عز وجل، بل ليس هناك وجه للمقارنة، فالله أكبر من أن تحيط قدرة العباد بمعرفة قدره.
(5/17)
قصص مشابهة لقصة أصحاب الأخدود
ذكر الله أمثلة أخرى تشابه قصة أصحاب الأخدود فقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:17] أي: لم يكن الظلمة من أصحاب الأخدود هم الذين فعلوا ذلك فقط، بل كانت هناك جنود معدة للصد عن سبيل الله، فكما كان في أصحاب الأخدود ملك ظالم، ففرعون كان ملكاً كبيراًً، وبدأ بذكره لأنه كان له جنود حاشدة {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56]، واليوم آلاف مؤلفة لا زالت تشهد جدران معابد الفراعنة التي عبدوا فيها غير الله، وأسماء جنودهم المتكاثرة سجلت على جدران هذه المعابد والمنازل، وكذلك انتصاراتهم، ولكن أين هم الآن؟ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:17 - 18]، لقد أتانا حديثهم أنه لا قيمة لهم كما قال أبو الدرداء: من يشتري مني ملك ثمود بدرهمين؟ إشارة منه إلى زوال ملكهم، ولأن آثار ثمود لا زالت موجودة، ومن يسكنها؟ ومن يريد أن ينتفع بها؟ لم ينتفع بها أحد، بل شرع الرسول للمؤمنين إذا مروا عليها أن يمروا مسرعين باكين، لكي لا يصيبهم ما أصابهم.
قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19 - 20] فهم الذين يكذبون الشرع، ومع ذلك فمحاولتهم في إحباط الشرع وهزيمة المؤمنين تبوء بالفشل؛ لأن الله من ورائهم محيط، فهم كانوا قد أحاطوا بالمؤمنين فيما يبدو، ولكن حقيقة الأمر أن الله أحاط بهم، وأنزل بهم ما شاء سبحانه وتعالى.
(5/18)
وصف الله للقرآن بالمجد وحفظه له
قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] أي: من تمسك بالقرآن فله صفة المجد، ومن عمل به فلا بد أن يجعل الله عز وجل له العزة والكرامة، وقد جعل الله هذا القرآن محفوظاً، فلا يحيط به ولا يقدر على معارضته أحد، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22].
(5/19)
ذكر الروايات المختلفة في تفسير قصة أصحاب الأخدود
ذكرت قصص أخرى في تفسير قصة أصحاب الأخدود فيها اختلاف عن حديث صهيب الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، ومن ذلك ما ذكر ابن كثير رحمه الله عن علي أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم، فأنكر عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدود، فقذف فيه من أنكر عليه منهم، فاستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.
وعنه: أنهم كانوا قوماً باليمن، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم، فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين، فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها.
وعنه: أنهم كانوا من الحبشة.
وعن ابن عباس قال: هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء، فعُرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وروى الترمذي بسند صحيح عن صهيب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر همس-والهمس: في بعض قولهم تحريك شفتيه كأنه يتكلم- فقيل له: إنك -يا رسول الله! - إذا صليت العصر همست، قال: إن نبياً من الأنبياء كان أعجب بأمته، فقال: من يقوم لهؤلاء؟ -يعني: من يقف أمامهم؟ - فأوحى الله إليه أن خيَّرهم بين أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدوهم، فاختاروا النقمة فسلط الله عليهم الموت، فمات منهم في يوم سبعون ألفاً، قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث، حدث بهذا الحديث الآخر قال: كان ملك من الملوك، وكان لذلك الملك كاهن يتكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً، أو قال: فطناً لقناً، فأعلمه علمي هذا)، فذكر القصة بتمامها وقال في آخره: يقول الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5]، حتى بلغ ((الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ))، قال: فأما الغلام فإنه دفن، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل، ثم قال الترمذي: حسن غريب.
قال وهذا السياق ليس فيه، وأن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، لكن الإمام مسلم والإمام أحمد صرحا بالرفع، وهي زيادة ثقة، وسياق القصة يختلف عن سياقات النصارى في قصصهم، والصحيح أنها مرفوعة، إلا أن رواية مسلم وأحمد ليس فيها تصريح بأن هؤلاء هم المذكورون في القرآن، حيث لم يقل: فأنزل الله أو فقال الله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، لكن رواية الترمذي فيها التصريح بأن هذه الآيات في شأن هذه القصة، والله أعلم.
يقول ابن كثير: وقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة بسياق آخر عن محمد بن كعب القرظي قال: وحدثني أيضاً بعض أهالي نجران عن أهلها: أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران -ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع تلك البلاد- ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه قالوا: نزلها رجل فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر.
فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، وهنا سمى الغلام عبد الله بن التامر، والله أعلم.
قال: فجعل يجلس إليه، ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيه، جعل يسأل عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال له: يا ابن أخي! إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه، والتامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر، كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى أقداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذفه فيه بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها ولم يضره شيء، فأخذه ثم أتى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي! قد أصبته، فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل، فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال له: يا عبد الله! أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، فيدعو الله له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، قال: لا تقدر على ذلك، قال: فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع على الأرض ما به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقي به فيها، فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني، قال: فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن التامر ثم ضربه بعصاً في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال: فسار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم، حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]، الآيات.
هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة: أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس، واسمه زرعة، ويسمى في زمان مملكته بـ يوسف وهو ابن بيان أسعد أبي كريب، وهو تبع الذي غزا المدينة، وكسا الكعبة، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما كما ذكره قال ابن إسحاق مبسوطاً، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفاً، ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له: دوس ذو ثعلبان، ذهب فارساً وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشاً من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هارباً فلجج في البحر فغرق، واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة، ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السجون فكانوا قريباً من سبعمائة، ففتح بهم اليمن، ورجع الملك إلى حمير.
وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها تفجرت دماً، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الذي كان عليه ففعلوا.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حدثني بعض أهل العلم: أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطاً من حيطان المدينة قد سقط، فبناه فسقط، ثم بناه فسقط، فقيل له: إن تحته رجلاً صالحاً فحفر الأساس فوجد فيه رجلاً قائماً معه سيف مكتوب فيه: أنا الحارث بن مضاض، نقمت على أصحاب الأخدود، فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت، قلت: هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم، وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن.
وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديماً بعد زمن إسماعيل عليه السلام بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهو أ
(5/20)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [2]
إن ورود القصص والعظات في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لمجرد التسلي وتضييع الأوقات، وإنما وردت من أجل أن نتعظ بها، ونأخذ منها الدروس والعبر، حتى نرجع إلى الطريق المستقيم، فكم من الفوائد والعظات والعبر في هذه القصص، ومنها قصة أصحاب الأخدود، فينبغي على المسلم أن يتدبر هذه القصة ليستفيد من دروسها، وتكون له هذه الدروس نبراساً في حياته.
(6/1)
دروس وعبر من قصة أصحاب الأخدود
(6/2)
التعاون بين رءوس الطواغيت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من فوائد حديث قصة أصحاب الأخدود كما وردت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر)، أننا نرى هنا التعاون بين رءوس الطواغيت، التي تعمل في النهاية لحساب الشيطان من أجل نشر الفساد في الأرض، ومن رءوس الطواغيت كذلك الملك الذي كان يدعي الربوبية صراحة، ومثله من يدعيها ضمناً، بأن يرغم الناس بما يراه هو من شرع دون رجوع لشرع الله عز وجل، فهذا نوع من رءوس الطواغيت الموجودة؛ لأنه يدعي لنفسه صفة وحقاً من حقوق الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الحكم، والله سبحانه وتعالى له حق التشريع وحده لا شريك له، قال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
فالذي يدعي أن له أن يشرع للناس ما يراه هو عدلاً من غير رجوع إلى شرع الله، فهو قد تجاوز الحد، ونسب لنفسه ما هو من صفات الرب عز وجل، وما هو من حقوقه عز وجل، فبالتالي هو من رءوس الطواغيت، وربما زاد بعضهم حتى يصل إلى ما وصل إليه الملك صاحب القصة، كما كان عليه حال فرعون حيث قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وحال النمرود الذي قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، وغيرهم، ومع ذلك فكثير من الناس يستجيب لهم، رغم وضوح بطلان هذه الدعوة الباطلة التي ادعوها لأنفسهم.
والساحر الذي يدعي ملك الضر والنفع وتقريب القلوب، ويدعي تغيير الخلق، بأنه يغير الخلق هذا إلى شيء آخر، ويجعل هذا يحب هذا، أو يبغض هذا؛ فهذا أيضاً طاغوت من الطواغيت، جاوز الحد حين نسب لنفسه صفة من صفات الرب سبحانه وتعالى، الذي يجب أن نصرف كل العبادات له عز وجل، ومن ذلك أن نلجأ إليه ونصمد إليه في جلب المنافع ودفع المضار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر).
وقد ثبت قتل الساحر عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم، واختلف العلماء في كفر الساحر، فمنهم من أطلق تكفيره، وإن كان أصحاب هؤلاء الأئمة قد ذكروا التفصيل، ومنهم من بين -كالإمام الشافعي رحمه الله- فقال: يقال للساحر: صف لنا سحرك، فإن كان يتضمن كفراً كفر، كمن يتقرب إلى الكواكب السبعة أو الشياطين، أو يتضمن كفراً بوجه من الوجوه، كمن يذبح للشياطين والأصنام، أو كمن يسجد لها، أو كمن يستهزئ بالمصحف، ونحو ذلك ممن يرتكب شركاً أكبر لتحقق له الشياطين ما يريد، فهذا النوع من السحر كفر بلا نزاع، وإذا كان سحره بغير ذلك قال الشافعي: فإن استحله كفر.
والصحيح أن السحر المتعلم من الشياطين ومن هاروت وماروت كفر؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]؛ لأنه لا يتمكن من هذا النوع من السحر المتعلم من الشياطين إلا بتقديم القربات لهم، وتركه الإيمان بالكلية، وأما السحر الذي هو بأدوية وتدخين وخداع بالبصر، فهذا الصحيح فيه أنه لا يكفر فاعله إلا أن يستحله.
(6/3)
الطواغيت يريدون الإفساد في الأرض
نجد هذا التعاون بين هذين الرأسين من رءوس الطواغيت للسعي للإفساد في الأرض، وكل ملك ساحر، وإن كان الأمر يختلف باختلاف الأزمنة في الكيفية، فالملوك الظلمة يحتاجون دائماً إلى السحرة لتوطيد ملكهم، وتقليب الأمور حتى يراها الناس على خلاف ما هي عليه، ولإيقاع الرهبة في نفوس الناس، ليجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً، قال عز وجل: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فالمطلوب عندهم أن يخوفوا الناس، وأن يروا الأمور على غير ما هي عليه.
ومن أخطر أنواع السحر وأخفاها، وأوسعها انتشاراً في زمننا الحاضر وأعظمها أثراً في توطيد ملك أدعياء الربوبية؛ هو ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً) رواه البخاري وغيره، فسحر البيان هو الذي يجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، ويجعل الإيمان كفراً والكفر إيماناً والعياذ بالله، وذلك في قلوب الخلق الذين لم يستضيئوا بنور الوحي، فوسائل البيان والإعلام التي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف هي من أشد أنواع السحر أثراً في الخلق، ونرى عجباً أن من اهتمام أدعياء الربوبية بهذا النوع من السحر الجديد القديم، أضف إلى ذلك وجاهته وحضارته المزعومة، وتقدمه وانتشاره حتى دخل كل بيت، وكل عقل وفكر، فكانت له آثار مدمرة على إدراك الأمة وتمييزها، بل على إدراك العالم كله في وقتنا الحاضر.
(6/4)
الطواغيت يريدون استمرار الشر حتى بعد موتهم
هذا التعاون هو في النهاية في حساب الشيطان، فإنه قد مات الملك ومات الساحر، ولكن بقي تعاونهما هذا -مع أنهما لا يؤمنان بالآخرة ولا يعملان من أجلها- دليلاً على حقيقة العمالة لذلك الطاغوت الأكبر -الشيطان-.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه)، هذا الجزء من القصة يدلنا فعلاً على هذه العمالة، فما شأنه بما يقع من بعده، كبر ومع ذلك يريد أن يستمر الشر من بعده، هل يؤمن هذا الساحر بالآخرة؟ لا، هو لا يؤمن بها، ومع ذلك يريد أن يستمر الشر إذا مات، ويخاف أن يزول السحر الذي عنده بعد موته فيقول: (ابعث إلي غلاماً أعلمه السحر)، فهذا يدلنا أنه عبد للشيطان، مستمع له، يسعى إلى أن تنشأ الأجيال الجديدة على نفس الباطل الذي كان عليه، وحقيقة الأمر أن اتباع الشهوات والرغبة العاجلة في التلذذ بها في الدنيا يفسر لنا ما يقومون به في حياتهم، لكن أي لذة في استمرار الشر من بعدهم إلا تلك العمالة للشيطان الذي يوحي إليهم بتلقين الضلال للأجيال القادمة، ليحصل له غرضه الخبيث الذي بينه لنا رب العالمين بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
(6/5)
الطواغيت يهتمون بالصغير حتى يغرسوا فيه مفاهيمهم
اختار الساحر الغلام، فأراد من هو في سن التنشئة وفي سن التربية، يهتم بالصغير لكي يتلقن جيداً، ولذلك فإنه لم يطلب رجلاً كبيراً، وإنما طلب من يتشرب السحر منذ نعومة أظفاره، ليكون بعد ذلك ساحراً ماهراً يحقق للملك ما يريد.
وأعداء الإسلام فعلوا مثل ذلك عندما احتلوا بلاد المسلمين، فأول ما اهتموا به هو أن يأخذوا أجيالاً من غلمان المسلمين وأبنائهم، ينشئوهم في مجتمعاتهم، وفي مدارسهم، وخصوصاً الأذكياء منهم، ويلقنونهم أنواع زخرفهم وسحرهم الذي ذكرنا أنه من أخطر أنواع السحر؛ سحر البيان، وبالفعل كان هؤلاء الذين ربوا على أيدي الأعداء هم الخنجر في قلب الأمة، فهم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا وصاروا دعاة على أبواب جهنم، كما بين النبي عليه الصلاة والسلام، وأصبحوا هم أشق وأصعب أنواع الأعداء، هؤلاء هم المنافقون الذين تربوا منذ البداية على الولاء لأعداء الدين، لذلك نقول: يجب أن نعرف حقيقة أعداء الإسلام حين يهتمون بإفساد أبناء المسلمين منذ صغرهم، وتربيتهم على معاني الولاء لغير دين الله عز وجل، ولذلك يهتمون جداً بحذف كل ما يشير إليهم من مناهج التنشئة والتربية، لكي ينشأ هؤلاء الأبناء بغير قضية يعرفونها، فأين المسلمون من تربية أبنائهم؟ الأعداء يهتمون هذا الاهتمام بتربية الأبناء على مناهج الفساد، فأين المسلمون من تنشئة أبنائهم على دين الله عز وجل؟ وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلمهم أنواع التربية كلها بعد بيان القرآن، فنحن نسمع في كتاب الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فهذه هي التربية العقائدية، وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبته الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، هذا الكلام فيه توحيد، وفيه إيمان بالقدر، وفيه إيمان بالجزاء، وفيه سائر أنواع الإيمان، فقد دل عليها هذا الحديث باللزوم.
والتربية العبادية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، وهي أيضاً تربية أخلاقية بالتفريق بينهم في المضاجع.
والتربية على الآداب السامية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك).
والتربية على الدعوة إلى الله عز وجل -التربية الدعوية- كما قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، وكل أنواع التربية -التي تنشئ الشخص المسلم المتكامل الشخصية- مبثوثة في كتاب الله، وفي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلابد لنا أن نقوم بهذا الدور المهم الذي يرتكز على قلع أشجار الباطل، وحماية أبناء المسلمين منها، وغرس أشجار الحق في قلوب طلائع أمتنا وصغارها.
(6/6)
الباطل زهوق بطبعه فلا ييئس المسلم إذا رأى كثرته
قد يقول البعض: ماذا نصنع أمام الإمكانات الهائلة للباطل، فهو يمتلك وسائل البيان والإعلام ليس على مستوى البلاد فقط بل على مستوى العالم كله، والأبناء اليوم مشدودون شداً هائلاً لوسائل الإفساد التي يجدونها مفتوحة في كل مجال، وإمكانات المسلمين ضئيلة، والملتزمون منهم إمكاناتهم أقل ضآلة؟! نقول: ليس الأمر كذلك، وقصتنا تدلنا على أهمية التربية، فإن شخصاً واحداً رباه هذا الراهب -كما يأتي بيان القصة- كان سبباً في هداية أمة، ذلك أن الحق يرسخ في القلوب، والباطل زهوق بطبعه، لأن الله خلقه كذلك، فشجرة الباطل سهلة الاجتثاث، وشجرة الحق تسقيها فطرة الإنسان، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:24 - 26].
ولذلك نقول للدعاة إلى الله، وللمربين، ولكل راغب في إعلاء هذا الدين وإعداد أهله.
هذه الخطة التي بين أيدينا تدلنا على عواقب الأمور ونهاياتها مهما كانت الظروف مهيأة ومجندة لأعداء الله سبحانه وتعالى، فهذا الغلام كانت كل الجنود مجندة لإعداده لوظيفة السحر لخدمة الملك، والأجواء مهيأة لذلك أعظم تهيئة، لكن صوت الحق الذي كان خافتاً خائفاً كان أعلى وأعمق أثراً، بل كان سبباً في نقل أمة بأكملها من الظلمات إلى النور! فيا أيها المسلمون! أنقذوا أبناءكم وغلمانكم من أيدي سحرة العصر الحديث.
(6/7)
بقايا من أهل الكتاب على الحق قبيل البعثة النبوية
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان في طريقه الذي سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه)، نفهم من هذه القصة، ومن هذا الجزء أن زمن القصة كان بعد المسيح؛ لأن الرهبانية إنما عرفت فيهم، لكن هذا الراهب كان من الموحدين، كما ظهر جلياً من القصة، فهو من أهل الإيمان والتوحيد، لا من أهل التفريط والكفران وعباد الصلبان، فهو أحد غبر أهل الكتاب الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا غبرات من أهل الكتاب، إلا بقايا من أهل الكتاب)، وكان منهم كذلك سلمان رضي الله تعالى عنه، فإنه قد تلقى دعوة التوحيد على أيدي بعض هؤلاء الرهبان، وذلك قبل أن يأتي إلى المدينة ليدرك النبي الذي قد أطل في زمنه رضي الله تعالى عنه، وهذا يدلنا على أن أتباع المسيح لم يزل فيهم موحدون مؤمنون إلى زمن البعثة النبوية، رغم انتشار الوثنية وتأليه المسيح بعد الاجتماع الذي وقع في المائة الرابعة من ميلاد المسيح، والذي عقده قسطنطين -باني القسطنطينية- لما دخل في النصرانية، وعقده لتقرير مسألة ألوهية المسيح، كما يذكر ذلك مؤرخوهم، فكان التفرق والاختلاف، ونصر -خذله الله وأخزاه- قول القلة القائلة بألوهية المسيح، ونشر هذا الكفر على أنه دين المسيح، والمسيح وسائر الرسل منه برآء، فإن المسيح لم يأت إلا بالتوحيد، كما قال تعالى حاكياً عنه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117].
ورغم انتشار مذهب التثليث والشرك بين النصارى منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، إلا أنه قد كان هناك بقايا من الموحدين في ذلك العهد، أمثال هذا الراهب في قصتنا.
(6/8)
الرصيد العظيم في الحق في فطرة الناس
قعد الغلام إلى الراهب أثناء ذهابه لتعلم السحر، فسمع كلامه فأعجبه، ونرى هنا أن الغلام قد تلقى تربية مزدوجة، وتعليماً متناقضاً، يسمع كلام الساحر ويسمع كلام الراهب، الساحر يعلمه أن الملك هو ربه، والراهب يعلمه أن الله عز وجل لا شريك له هو ربه ورب العالين، الساحر يعلمه كيف يضر الناس، وكيف يفرق بينهم، وكيف يلعب بمشاعرهم وعواطفهم ليقلب قلوبهم بزعمه، والراهب يعلمه كيف يحب الخير للناس، وكيف ينصح لهم، وكيف يتمنى هدايتهم، ومع أن الرصيد المادي للساحر أو للملك، والفرصة مهيأة للوظيفة المرموقة لذلك الغلام في شخص الساحر إلا أنه أعجبه كلام الراهب، لذلك نقول: لا تيئسوا عباد الله! هناك رصيد هائل وراء دعوة الحق، هذا الرصيد هو أن الله خلق عباده حنفاء يميلون إلى الله عز وجل، كما قال عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، فرغم كل العقبات، ورغم الترغيب والترهيب، فإن الغلام كان يرغب في وظيفة مرموقة -كما ذكرنا- ربما كانت الثانية بعد الملك مباشرة، الملك يحتاجه، ويعاقب بأنواع الضرب والتعذيب والإهانة عند الساحر إذا تأخر، ومع ذلك أعجبه كلام الراهب، أعجبه الحق فمال إليه؛ لأن (كل مولود يولد على الفطرة)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا الرصيد هو الذي يجعل قلوب الخلق تنجذب بقوة هائلة إلى الحق إذا سمعته، ولو كان من فرد واحد والباطل أمة بأسرها، كيف لا وقد أخذ الله على كل منا ميثاقاً ونحن في عالم الذر؟ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، يظهر أثر هذا الميثاق في أمر الفطرة، وفي ميل كل إنسان إلى دعوة الحق.
ولا تصح مقولة من يقول: إن ما يبنيه الدعاة في سنة، يهدمه أهل الباطل في ساعة؛ لما عندهم من وسائل هائلة، فهذا قول الميئسين، قول الذين لا يفهمون حقيقة دعوة الحق، ولا طريقة الرسل، يريدون بذلك أن ييئسوا الناس من التربية، ويقولون: لا علاج إلا المواجهة المباشرة! ونقول: إن المواجهة لابد فيها من تربية، وإن المواجهة الحقيقية هي المواجهة بين المناهج حتى يظهر الحق بإذن الله تبارك وتعالى، فيزعم هؤلاء -الذين يقولون: إن الباطل يهدم في ساعة ما يبنيه الحق في سنة- أنه لابد أن يأتي التغيير في سائر المجتمع، وليس كذلك، فإن دعوة الأنبياء جميعاً لم تغير المجتمع دفعة واحدة، إنما بدأت بدعوتهم، وغالب الأمر أنه ما يستجيب لها إلا الضعفاء، كما عرف هرقل ذلك عندما سأل أبا سفيان عن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إن الضعفاء هم أتباعه، فقال: وهم أتباع الرسل، ودائماً كان تغيير الرسل هو ببناء الإيمان في القلوب، وإيجاد الشخصية المسلمة المتكاملة، ثم وجود الطائفة المؤمنة التي ينصر الله عز وجل بها دينه بما شاء بالقرآن أو السنان، فقد نصر الله عز وجل رسلاً من رسله بالقرآن والدعوة والبيان، ونصر رسلاً من رسله بالقوة والسنان.
لذلك نقول: إن هذه المقالة: إن ما يبنيه أهل الحق في سنة، يهدمه أهل الباطل في ساعة، مقولة باطلة بلا شك؛ لأن ما يبنيه أهل الباطل في ساعات إنما هو بناء هش، لا حقيقة له، وإن الحق لا يهدم في نفوس المؤمنين الصادقين، ولو ظل أهل الباطل يسعون لهدمه مدة الدنيا بأسرها، فلرب غلام ممن يتعلم في حجور العلماء، ويجلس بين أيدي أهل العلم، وهو اليوم غلام صغير لا يدرك كثيراً من الكلام؛ يكون غداً به نجاة الأمة وإنقاذها من الهلاك، بل ذلك هو الحاصل بلا ريب إن شاء الله، فكيد الشيطان ضعيف كما قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].
(6/9)
التربية وطلب العلم لابد لهما من صبر وتحمل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فكان إذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي)، الله عز وجل قادر على أن يجعل السبل مهيأة أمام الدعاة وأمام طلاب العلم، لكنه سبحانه وتعالى قدر أن تحف الجنة بالمكاره، فهذا الغلام يضرب لأجل أنه يحضر درس العلم، وإن كانوا لا يدرون، فإنهم لو علموا بشأن الراهب لكان هناك تصرف آخر قطعاً، ولو كانت هذه البذرة يعرفون حقيقتها لربما قتل الغلام من أول أمره، ولما كان له وجود هو ولا الراهب، وإنما كان يضرب على التأخير، لماذا تأخر عن درس الفساد والعياذ بالله! ومع ذلك ظل الغلام حريصاً أتم الحرص على أن يحضر، وشكا إلى الراهب ليجد له حلاً؛ لأنه يريد أن يستمر في طلب العلم، وإخواننا الكثير منهم لا يضربهم أحد على حضور دروس العلم، ولا يؤذيهم أحد، وإنما هو مجرد وهم أحياناً، ومع ذلك فما أكثر من يتخلف، وما أقل من يواظب، وهذا الغلام لم يعلم الحق في جلسة واحدة، فإن سياق الحديث يدل على ذلك؛ لأنه كان كلما أتى الساحر ضربه، وأهله أيضاً يضربونه ذهاباً أو إياباً، فهو كان يتعلم الحق مسألة مسألة، حتى يستقر المنهج، فالدين الحق في القلب هو بذرة لابد من سقيها ورعايتها، حتى تنمو وتكبر فتصبح شجرة في القلب.
لذلك نقول: فلنتعلم من هذا الغلام الصغير، أحد أولياء الله عز وجل، الذي ضحى بنفسه مع كونه يجد الألم لكي يطلب العلم، فلماذا لا نكون صادقين في الطلب مثلما كان هذا الغلام؟ لماذا يعرض الكثير عن الدرس رغم أنه لا يضربهم أحد ولا يؤذيهم؟ وإنما هو الانشغال بالدنيا، ولنعلم أن الإعراض عن طلب العلم يؤدي إلى إعراض الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين دخلوا المسجد، فوجد أحدهم الفرجة في الحلقة فجلس فيها، ولم يجد الثاني فرجة فجلس خلفهم، وانطلق الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الأول فأوى إلى الله فآواه الله عز وجل، وأما الثاني: فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض فأعرض الله عنه)، نعوذ بالله من أن نعرض عن طاعة الله!
(6/10)
في الأمور الواجبة تقدم طاعة الله على طاعة من سواه أياً كان
كان الغلام إذا أتى أهله ضربوه، وفي هذا ما يدلنا على الجواب عن
السؤال
هل يطيع الإنسان والديه أو أهله أو من له عليه حق الطاعة في ترك دروس العلم؟ لا شك أن علم التوحيد من العلم الواجب، وكذلك ما يرتبط به عقيدة الإنسان، وكذا ما يلزمه من تصحيح العبادة والمعاملة الواجبة، وكل ما لزمه أن يتعلمه فرض عين عليه كالأخلاق الواجبة وإتيان الحلال واجتناب الحرام، فكلما لزمه عمله لزمه تعلمه، فصار فرض عين عليه، فهذا لا يجوز أن يطيع أحداً في تركه، لا والديه ولا أي إمام ولا حاكم ولا أحد، والواجب الشرعي لا يجوز أن يستأذن فيه وأن يطلب الإذن في فعله، إنما هذا مطلب فرعوني، كما قال تعالى حاكياً قول فرعون للسحرة: {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123]، فالذي يريد أن يستأذن في طاعة الله عز وجل إنما هو متشبه بفرعون، فإذا أمر الله فلا يجوز لأحد أن يعترض ولا أن يمنع.
وأما إذا كان العلم مستحباً، فهذا يستحب فيه الحضور ولا يلزم، وبالتالي يقدم طاعة الوالدين على هذا العلم المستحب.
وأما إذا كان فرض كفاية فهذا إما أن يكون قد تعين عليه وإما أن يكون مازال في دائرة الاستحباب، فإن كان قد تعين، بأن شرع في الطلب، فإن طلب العلم كالجهاد كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام النووي، فإذا كان قد شرع فيه فإنه يتعين عليه؛ وذلك لأن الأمة لن تجد علماء لها إذا كان طالب العلم يترك الطريق من منتصفه ويبدأ العلماء من جديد، فربما مات العلماء ومات علمهم قبل أن يولد من يخلفهم من طلاب العلم؛ لأن كل طالب سوف يطلب العلم مرة من الزمن ثم يترك الطلب، ويأتي بعد ذلك طالب يبدأ من البداية، فمثل هذا يترتب عليه ضياع هذا الفرض الذي هو فرض كفاية، ونعني بفرض الكفاية ما قاله ابن حزم رحمه الله: فرض على كل طائفة مجتمعة في قرية أو مدينة أو غير ذلك أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة من أولها إلى آخرها، فيتعلم القرآن كله، ويتعلم ما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام وغيرها، ويعلمهم ذلك، فإذا كان الأمر قد تعين عليه فإنه لا يجوز أن يطيع أحداً في تركه، وكذا إذا تعين عليه لكونه لا يوجد من يقدر على طلب هذا النوع من العلم غيره، وكذا التعليم بالأولى، وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله مسألة طاعة الوالدين في ترك السفر في طلب علم ليس بواجب ولا يحصل ضرر على الوالدين بالإذن في السفر، قال: فيه وجهان، والصحيح عدم السفر بغير إذنهما.
(6/11)
يجوز الكذب للتخلص من الظلم إذا لم تكن هناك وسيلة غيره
في هذا الجزء من القصة أرشد الراهب الغلام أن يكذب ليتخلص من الظلم، فهل يجوز الكذب للتخلص من الظلم إذا لم يكن هناك وسيلة غير ذلك؛ نقول: نعم، فإذا كانت هناك وسيلة كالتعريض أو غيره فعلها، كما قال إبراهيم عليه السلام عن سارة: إنها أخته، وهو يقصد أنها أخته في دين الله، فكان تعريضاً ولم يكن كذباً صريحاً، وقد يجب الكذب الصريح إذا تعين وسيلة لدفع الظلم خصوصاً عن غيره، فإذا لم يمكن دفعه عن دم امرئ مسلم بريء أو عرضه أو ماله إلا بالكذب وجب، وكذلك في ماله فإن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن الأصل هو لزوم الصدق ولا يلجأ إلى الكذب إلا عند الضرورة، وتقدر هذه الضرورة بقدرها.
(6/12)
المسلم دائماً يلتجئ إلى الله ويبحث عما يحبه الله ويحب الخير للناس
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال الغلام: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس)، لا زالت التربية المزدوجة تؤثر على الغلام، لا زال متردداً بعض التردد، لكنه يميل إلى الحق ميلاً عظيماً، نفسه تحدثه أن الحق مع الراهب، لكن عنده بعض التردد من آثار التربية المزدوجة التي ينشأ عليها كل طالب علم يعلمه أهل الحق في مجتمع مليء بالجهل والظلم والعدوان.
نقول: هذا الغلام مال إلى الراهب وإن كان ظاهر حاله أنه متردد، والدليل على ذلك: أولاً: قال: (اللهم إن كان أمر الراهب) فهو دعا الله عز وجل، فالفطرة الإنسانية مشدودة مجذوبة جذباً ضرورياً للتوجه إلى الأعلى عندما يكون في شدة أو في التباس أو في أمر لا يدري كيف يعمل فيه، فإنه يدعو إلى الله عز وجل، ويلتجأ ويصمد إليه، فهو قال: (اللهم) ولم يقل: أيها الملك؛ لأن الساحر يقول له: هو الرب، بل يقول له: لا رب لك غيره، كما قال له الملك بعد ذلك: (أو لك رب غيري؟)، فلم يقل: يا أيها الملك إن كان أمر الراهب أو الساحر أحب إليك، إنما قال: (اللهم إن كان أمر الراهب)، فهذا الدعاء قطعاً تعلمه من الراهب ووافقته الفطرة.
حدثني بعض الإخوة في زمن مضى أنه كان في بعض بلاد الكفر، وكان يخرج أحياناً مع بعض الدعاة ويدعون السكارى في آخر الليل إلى أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله ويدخلوا في الإسلام، فيلقى الرجل السكران ملقاً على الطريق، وهو في سكره الكامل، فيذكره بالموت وبالله، فيرفع السكران يديه إلى السماء ويقول: يا رب، يا رب، فسبحان الله! وهم إذا أفاقوا ربما أنكروا وجود الله بالكلية، لكن النفس الإنسانية مشدودة بقوة، ومجذوبة إلى التضرع إلى الله عز وجل.
فلجأ هذا الغلام بما تعلمه من الراهب قطعاً، فإنه لم يتعلم الدعاء من الساحر.
ثانياً: قال: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر)، فهو يبحث عما يحبه الله، وهذا الأمر بالتأكيد لم يتعلمه من الساحر؛ لأن الساحر يعلمه البغض والكراهية، وهو يريد الأمور التي يحبها الله عز وجل، وهذا المعنى يربي عليه الحكماء والعلماء والأنبياء أبناءهم، افعل ما هو أحب إلى الله، ألم تسمع قول لقمان وهو يعظ ابنه يقول: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]؟ فبماذا خوفه؟ لم يخوفه بالنار في هذا الموضع، وإن كان سيذكره في موضع آخر، لكن مبنى الأمر أن هذا الشيء لا يحبه الله، وهذا أعجب ما يطلبه الإنسان أن يفعل ما يحبه الله، وأعظم دافع للعبادة أن يذوق حلاوة حب الله عز وجل، وحلاوة ما يجد من عبادته والبحث عن مرضاته.
ثالثاً: أنه أراد قتل الدابة، وهي حيوان عظيم حبس الناس عن مصالحهم، فهو يريد أن يقتلها ليمضي الناس، وهو بلا شك غلام صغير يرمي بحجر تبلغه يده، تأمل غلاماً من غلماننا ماذا تحمل يده من حجر؟ كم يبلغ وزن هذا الحجر؟ وكم يبلغ حجمه؟ وماذا يؤثر في حيوان قد أرعب الناس كأسد مثلاً أو غير ذلك؟ وكم تبلغ ضربته إذا رماها عن بعد؟ فإنه بالتأكيد يرميها من بعد حيث يقف داعياً ثم يرمي، وهذا بلا شك يدل على أنه يرمي بضعف ولا يرمي بقوة، ولكنه يلجأ إلى الله عز وجل أن يجعل في رميته القوة ليمضي الناس، فهو يحب الخير للناس ولا يريد الشر بهم، يريد الخير لهم في دينهم ودنياهم، وهذا والله من أعظم ما يفتح القلوب، أن يعرف الناس أنك لهم ناصح، وأنك تريد بهم الخير.
ولو تأملنا في قصة مؤمن آل ياسين لأحببنا ذلك الرجل حباً لابد منه، فعلاً نجد قلوبنا تحبه؛ لأنه يحب الخير للناس حيث يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، وقد فسر السلف هذه الآية وقالوا: لا تجد المؤمن إلا ناصحاً لقومه في الدنيا والآخرة.
فالنفس مجبولة على قبول وحب من يحب الخير لها، وكان هذا مفتاح الخير، فاحرص على أن تكون صانعاً للخير محباً للخير للناس، لست تريد أن تقيم عليهم حجة ليدخلوا بها النار، ونحن نعلم أن هذا من ضمن آداب الدعوة، لكن هدفنا الأصلي هو: أن يؤمن الناس، أن يرجعوا إلى الله، وإن لم يؤمنوا فقد أعذرنا إلى الله بإقامة الحجة، لكن هناك من الناس من تكون همته أن يخرج الناس من الملة مثلاً، وأن يقيم عليهم الحجة، نيته الحكم عليهم! وهذا خلل كبير، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، فالله سبحانه وتعالى يأمر النبي عليه الصلاة والسلام ألا يفعل ذلك، مع أن الله يحب منه حبه للخير، ولكن من باب الرفق به؛ لأن مصلحة الرفق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأن يستمر بالدعوة، أعظم من مصلحة إهلاك نفسه حزناً عليهم ألا يؤمنوا، فسبحان الله! فحب الخير للناس أمر يحبه الله وإن لم يقع موقعه، كما ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام عندما جاءته البشرى قال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:74 - 76]، فهو يجادل في قوم حق عليهم الهلاك، ولن تقبل فيهم شفاعة، ومع ذلك مدحه الله عز وجل؛ لأنه بين عز وجل أن السبب الذي أداه إلى المجادلة أنه حليم أواه منيب، متضرع إلى الله، عنده حلم ورفق بالعباد، فالله يحب هذه الخصال من عباده، والله يحب من عباده الرحماء، فحب الخير للناس من أسباب فتح القلوب، ومن أسباب الاستجابة لأمر الله عز وجل.
فحب الخير للناس تعلمه الغلام من الراهب، أما الساحر فإنه يعلمه كيف يؤذي، كيف يضر، كيف يوقع بين الناس، كيف يفرق بينهم، كيف يجعلهم شيعاً متفرقين ليتمكن من السيطرة عليهم، وهذا ما يفعله كل ملوك الدنيا هم وسحرتهم وأعوانهم، همهم كيف يفرقون بين الناس، ليظل الملك والسلطان لهم، والسحرة يقومون بهذا الدور جيداً، فالأمر الذي وقع من هذا الغلام أنه أراد مصلحة الناس، ولجأ إلى الله سبحانه وتعالى في هذا المقام، فدعا الله عز وجل ورمى الدابة فقتلها.
رابعاً: أنه أيقن بقدرة الله سبحانه وتعالى حيث قال: (فاقتل الدابة) فهو رغم ضعفه وضعف رميته وصغر الحجر، أيقن بقدرة الله سبحانه وتعالى على قتل هذه الدابة العظيمة.
خامساً: أنه قدم في كلامه أمر الراهب على أمر الساحر فقال: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر)، وهذا كله يدل على ميله الفطري والطبيعي إلى اتباع أمر الراهب.
(6/13)
إثبات كرامات الأولياء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فرماها فقتلها ومضى الناس)، وهذا الأمر معدود في كرامات الأولياء، غلام صغير صار من أولياء الله الصالحين، وأظهر الله على يديه هذه الكرامة الخارقة للعادة، وذلك من أنواع القدرة والتأثيرات، ونحن نؤمن بإثبات كرامات الأولياء من أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفصيله أنواع الكرامة التي يمكن أن تقع، وخوارق العادات التي تقع لأولياء الله، وعلامتهم وصفتهم أنهم كما قال الله فيهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، ولذلك يشترط صلاح الظاهر والباطن حتى ينسب الذي جرى على يديه إلى الولاية، وإلا لو رأينا الرجل يطير في الهواء أو يسير على الماء ثم رأيناه يصادم الكتاب والسنة فلا نصدقه.
والخوارق أنواع منها: المعجزات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه، ومنها الكرامات التي تجري على أيدي أوليائه، ومنها خوارق العادات التي يقدر الله وقوعها على أيدي السحرة والكهنة إخوان الشياطين؛ ابتلاء للعباد، وإنما تعرف بحقيقة صفاتهم، كما قال عز وجل: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:221 - 224]، فنحن نعرفهم من نتائج عملهم، ومن صفاتهم، فإنه لا يجتنى العنب من شجر الشوك، فالشوك لا يجتنى منه إلا الشوك، والعنب لا يجتنى إلا من شجر العنب، كما هي حكمة نقلت عن المسيح عليه الصلاة والسلام في كيفية معرفة أدعياء النبوة الكاذبين، فآثارهم تنبؤك كيف يكون حالهم.
ولذلك نقول: التفرقة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أساسه في صفات هذا الإنسان، وهذا أظهر لدى أهل الإيمان من التفرقة بنوعية الخارق، وإن كانت نوعية الخارق تفرق، فإن سحرة فرعون مع أنهم لم يكونوا من أهل الإيمان، ولم يحسنوا أن ينظروا في صفات موسى عليه الصلاة والسلام وصفات أنفسهم، وإنما الذي ردهم إلى الإيمان نوعية الخارق حيث رأوا فعلاً أن عصا موسى قد تحولت إلى حية حقيقية، إلى ثعبان مبين حقيقي، وأيقنوا أن هذا ليس في قدرتهم، وعلموا أن موسى ليس بساحر، فآمنوا من ساعتهم، فنوعية ما يعطيه الله عز وجل من خوارق للأنبياء من المعجزات لا يمكن أن يصل إليه سحر السحرة، ولا كهانة الكهنة، خلافاً لمن يقول من المتأخرين من بعض المذاهب البدائية: إن الساحر يقدر على ما يقدر عليه الأنبياء إلا أنه لا يدعي النبوة! فهذا كذب وباطل، فإن هذا يؤدي إلى الطعن في معجزات الأنبياء، فضلاً أن الله سبحانه وتعالى ما جعل السحر أبداً يقوم مقام المعجزة، فإنما المعجزة أمر لا يقدر عليه البشر، وإنما يجريه الله على أيدي أنبيائه، ويمكن أن يجري نحواً منه على أيدي الأولياء تصديقاً للأنبياء.
وإثبات الكرامات لأولياء الله من عقيدة أهل السنة، وقد غلا بعض المنتسبين إلى بعض دعوات التوحيد حتى وصل إلى إنكار الكرامات، لينفي غلو الصوفية في الأولياء، وليس الأمر كذلك، فليس التكذيب بالحق يكون دليلاً لإبطال الغلو، بل ننهى عن الغلو، ونثبت الكرامة، كما دلت على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، منها ما ورد في قصة مريم عليها السلام أنها كانت تجد فاكهة في غير وقتها كما ورد ذلك في التفسير، وفي قصة موسى عندما أوحى الله إلى أمه بأنه سوف يحفظه ويرده إليها ويجعله من المرسلين، فهذا من أنواع الإخبار والكشوف، وهي ليست نبيه عند عامة أهل العلم.
وفي السنة من حديث عبد الله بن أبي بكر: أنهم كانوا لا يرفعون لقمة من أسفلها إلا ربت من أسفلها أكثر منها.
وفي أنواع العلوم والمكاشفات ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي فإنه عمر)، وفي البخاري أيضاً قصة خبيب بن عدي رضي الله عنه حين كان مأسوراً بمكة، ووجدته بعض بنات الحارث يوماً يأكل قطفاً من عنب بيده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمره! فالأحاديث في كرامات الأولياء متواترة، وقصة أهل الكهف من الأدلة على ذلك، وأخيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين قصصهم في ذلك كثيرة، وإن كان أعلى الكشف هو الكشف عن الحق، وأعلى أنواع التوفيق في القدرة أن يوفق الإنسان للطاعة والعبادة، وأعلى الإلهام أن يلهم الإنسان رشده.
لذلك نقول: إن كرامات الأولياء ثابتة، وهي حق، وحديثنا يدل عليها، ويمكن أن يجري شيء منها بعد الموت، وهذا ليس من فعل الولي وتدبيره وتصريفه، ولكن نعني بذلك أن الله عز وجل يحفظ بدنه مثلاً من التحلل ويحميه من أيدي الأعداء، كما في قصة عاصم رضي الله عنه حين أرسل الله الزنابير فحمت جثته، فما استطاع الأعداء أن يصلوا إليها، ثم إن السيل جاء فأخذها فلم يستطيعوا الوصول إليها، وكرامات الشهداء ببقاء أجسادهم سنين كما في قصة عبد الله بن حرام، والد جابر رضي الله تعالى عنه.
فالمقصود أن الكرامة لا تتحقق لمبتدع ضال، أو مشرك يدعو غير الله، وما يجري له من خوارق العادات كالإمساك بالثعابين، وضرب النفس بالسلاح، ودخول النار، كما هو مشهور عن أتباع الطريقة الرفاعية وغيرهم، فهو مما يفعله الشيطان بهم ليلبس أمرهم على الناس، ويكون ذريعة إلى الشرك، فمنهم من يكون تاركاً للصلاة، داعياً غير الله، صارفاً العبادات من الذبح والنذر لغير الله، وهو يزعم أن ذلك من كرامات الولي الذي يتبع طريقته، وقد اغتر بعض المعاصرين بذلك، فقال: هذه من كرامات الولي الأصلي، وهذا كلام الأستاذ سعيد حوى في (تربيتنا الروحية) فهو يقر بأن بعض هؤلاء ربما لا يصلي وفاجر في أخلاقه وسلوكه، ومع ذلك يجعلها كرامة للشيخ الرفاعي! فهذا كله من الجهل، فإن هذا لا يعتبر من أتباعه بمجرد الانتساب، فلو كان الرفاعي ولياً من أولياء الله الصالحين، فهذا المبتدع لا يكون من أتباعه؛ لأنه فاسق وفاجر وتارك للصلاة وفاعل للفواحش، فهذا كله من تلبيس الشيطان.
وليس إثبات الكرامة بعد الموت يعني أننا نطلب من الأولياء قضاء الحاجات، أو كشف الكربات، بل كما قال الله عز وجل: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة).
فالكرامة شيء يكرمهم الله به، وليس سبباً لجواز سؤالهم، وطلب قضاء الحاجات منهم بعد موتهم أو في عدم حضورهم.
ويلزم التنبيه في هذا المقام إلى أن الإلهام والكشف في حق الولي ليس بمعصوم، بل يحتمل الخطأ والصواب، فنحن نعتبر الكشف والإلهام من أنواع العلوم والمكاشفات، ولكن ليس هذا هو الكشف المعصوم، وبالتالي فهو قابل للخطأ والصواب، وكذا الإلهام، فلابد أن يعرض على الكتاب والسنة، فسيد الملهمين عمر رضي الله عنه أخطأ يوم الحديبية، وكان ما حدثته به نفسه وسوسة، وقد عمل لها أعمالاً ليكفرها، ولم يحتج عمر على أحد من الصحابة في أي مسألة بأنه محدث أو ملهم، فالإلهام والكشف والرؤى ليس حجة شرعية يصح العمل بها، لكن قد يستأنس بها، ووقوع خوارق العادات لأحد الأولياء لا يعني عصمته أو صحة كل ما يقول به، فلا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6/14)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [3]
إن من سنن الله تعالى الثابتة والمستمرة سنة الابتلاء والاختبار، حتى تتمايز الصفوف ويعرف الصادق من الكاذب، والناس يبتلون على قدر إيمانهم، فمن اشتد دينه اشتد بلاؤه، فلا يكون هذا البلاء إلا لمن علم الله منه إخلاصاً وصدقاً ومحبة، وهذا هو الذي يمكن له في الأرض ويستخلف فيها.
(7/1)
أثر أعمال القلوب في السبق إلى الله
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم في تكملة قصة الغلام مع الراهب: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي).
هذا الراهب المخلص لله عز وجل المربي الفاضل بسلوكه قبل قوله -رحمه الله تعالى وغفر له! - نرى في قصته قدوة لكل مربٍ وداعية وأستاذ.
فلقد علم هذا الراهب أن الغلام قد صار من أولياء الله الصالحين رغم أنه تعلم على يديه، وأنه أصغر منه سناً، ورغم أن الراهب أسبق منه التزاماً بالطاعة، وعمره في الطاعة أضعاف عمر الغلام، ومع ذلك أدرك أنه سبقه إلى الله عز وجل بكمال الصدق والإخلاص والمحبة لله سبحانه وتعالى، فأعمال القلوب هي التي يسير بها السابقون إلى الله عز وجل، فيسبقون غيرهم ممن تقدمهم في العمر، أو كان أكثر منهم عبادة لله، أو أكثر علماً، بل ربما يكون أحدهم أستاذاً لهؤلاء الصالحين، ومع ذلك يسبقونهم إلى الله عز وجل، لما جعله الله سبحانه وتعالى في قلوبهم من محبته، ورجائه، وتعظيمه، وتعظيم شرعه، واللجوء إليه، وغير ذلك من أنواع العبادات القلبية.
فلم يتكبر هذا الراهب ولم يحقد ولم يمن، ولم يقل: كيف يكون تلميذي أسبق مني؟ وكيف يرفع فوقي؟ وإنما قال له: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني)، فلم ينظر إلى سبقه وطول عبادته، ولا نظر إلى سنه وصغر سن الغلام، ولا إلى أنه الأستاذ والغلام التلميذ، ولا وقع في نفسه خطيئة إبليس حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12] التي هي أصل أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم أسباب الكفر والعناد، والعياذ بالله! ونرى هنا أيضاً أن السبق إلى الله تعالى لا يرتبط بالسن وطول زمن العمل أو كثرته، أو سبق الالتزام؛ بقدر ما يرتبط بحال القلب وسلامته، وما يقوم به من العبودية لله تعالى: من الحب والإخلاص والخوف والرجاء والشوق إليه، وصدق اليقين والتوكل، وغيرها من عبادات القلب.
وهذه أمة الإسلام أقصر أعماراً وأضعف أجساماً من الأمم السابقة، وهي أفضل الأمم عند الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وفي قوله: (أي بني) تلطف وتحبب إلى ذلك الغلام، وذلك مع اعترافه له بالفضل، وذلك أنه ظهر منه نفع عام للناس، ولا شك أن النفع العام مقدم على النفع الخاص.
فهو له في العبادة سنون ومع ذلك ما استطاع أن يؤثر في أحد من أهل بلده إلا هذا الغلام، وهذا الغلام نفع الناس جميعاً في موقف واحد، وهذه مقدمة في أن ينفعهم فيما هو أعظم وأهم وهو إصلاح قلوبهم، وذلك بعد أن ساهم في إصلاح دنياهم بقتل الدابة، فهو لا شك سوف يقتل الطاغوت في قلوبهم أيضاً، وسيسعى إلى أن يمضوا في طريقهم إلى الله عز وجل كما مضوا في مصالحهم الدنيوية، وذلك حال كل ناصح شفيق.
كما أن علامات الولاية ظهرت في إجابة الدعوة، وفي خرق العادة له بقتل هذه الدابة حين دعا الله عز وجل.
وفي إخبار الغلام له إشعار بمدى الفرح الذي حصل للغلام بإجابة دعوته، فذهب يبشر ذلك الراهب لأن أمره أحب إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يذهب ليخبر ذلك الساحر مثلاً ويقول له: قد ظهر كذا وكذا، وإنما ذهب ليبشر الراهب؛ فكان الجواب الطيب اللطيف: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني).
(7/2)
الأثر التربوي لنداء الصغير بلفظ (يا بني)
قوله: (أي بني) هذا اللفظ التربوي يستعمل للإشعار بالعلاقة الطيبة بين الكبير والصغير، حتى ولو لم يكن ابنه من النسب.
و (بني) تصغير (ابني)، وهو يدل على الشفقة التامة والمحبة، واستعمال هذا الأسلوب من هدي الأنبياء، قال عز وجل عن يعقوب: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5].
وقال تعالى عنه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وقال عز وجل عن إبراهيم: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102].
وقال عز وجل عن لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس: (يا بني!) فهذه الكلمة الطيبة تأخذ بقلب الشخص المربى، وتشعره بعلاقة الأبوة والحنان، وأنه ليس في ثكنة عسكرية يسمع الأوامر والنواهي والزجر الدائم المستمر دون رقة.
وهذه العلاقة العظيمة قد جعلها الله فطرة في القلوب، وأمر سبحانه وتعالى بمراعاتها شرعاً، ففي الحديث: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).
(7/3)
الابتلاء سنة ماضية لله عز وجل في عباده المؤمنين
قال: (أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى)، فقد عرف الراهب هذا الأمر؛ لأنه سنة ماضية، وليس كشفاً للغيب، فكل من سلك طريق الإيمان -وخصوصاً طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى- فلا بد أن يبتلى، قال عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).
وهذه السنة الكونية أخبر الشرع بها، والبلاء قد يكون بالشدة، وقد يكون بالرخاء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وفائدة معرفة هذه السنة الكونية هي جعل المؤمن على استعداد لمواجهة البلاء، فيوطن النفس بذلك على الصبر والرضا، ويبعدها عن اليأس عند وقوع البلاء، فالمسلم يعرف أن البلاء موجود، فإذا وقع فلا ييأس، وربما قد يطول، وقد تكون الأمور شاقة، فإذا وطنت نفسك على تحمل المشاق، وإذا وطنت نفسك عند الرخاء ألا تغرك الحياة الدنيا بزخرفها، وأن تكون على حذر من الوقوع في أمواج فتنها، فإنك تخرج من البلاء معافى.
فلابد أن تعرف النفس مقدماً أن البلاء والأذى مرحلة من المراحل التي لابد أن تمر بها الدعوة والدعاة، بل والمؤمنون بصفة عامة، سواء كانوا من الدعاة أم من غيرهم، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت:2]، حتى ولو لم يكن داعية، فلا تظن أن الدعاة فقط هم الذين يبتلون، فقد تعرض هذا الراهب للابتلاء، ولكن أسبق منه في البلاء الذي يدعو إلى الله عز وجل، وبعد هذه المرحلة يكون الفرج من عنده سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].
وفيه أنه ينبغي للمعلم أن يعلم تلامذته أن طريق الدعوة ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو طريق مفروش بالأشواك والآلام، وإن كانت لذة القرب من الله ومحبته والشوق إلى لقائه، مع ما ينزله عز وجل من صبر عند المصائب والبلايا، تجعل المؤمنين لا يشعرون بهذه الآلام والمحن، بل ربما يستعذبونها في ذات الله عز وجل، وهذا أمر لا يحصل إلا إذا وطن الإنسان نفسه عليه، ولم يتضجر عندما ينزل به بلاء، ولم يفر ولم يضق صدره به، ولم يترك الطريق إذا نزل به البلاء؛ لأنها سنة ماضية جعلها الله علامة تدل على صدق إيمانه أو كذبه، وهو يعلم بأن الله عز وجل إذا أخرجه منها صابراً سائراً على طريقه، مستمراً في لزوم الحق، فهذا يدل على منزلته العظيمة عند الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، فهذا يدلنا على منزلة هذا الأمر العظيم عند الله عز وجل.
ونجد في هذا الجزء من القصة أيضاً: أن هذا الراهب كان يعرف أنه سيقع بلاء كما ذكرنا؛ لأنه من السنن الكونية، لكن هل يطلب ذلك البلاء؟ أم يسعى الإنسان ليفر منه؟
(7/4)
النهي عن طلب البلاء والفرار منه مشروع مع الثبات في المواجهة
إن الشرع يأمرنا أن نسأل الله العافية، لذلك لا يشرع لنا طلب البلاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وسلوا الله العافية) ولذلك نقول: إن سؤال الله عز وجل العافية هو مما أمر به الشرع، ولا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للبلاء فتعريض النفس للبلاء، والمجازفة بها، وقول الإنسان: إنه لا يهمه البلاء، نوع من الغرور، والإعجاب بالنفس، والثقة الزائدة بها، وهذا أمر خطير للغاية، فهذا يدل على وجود أمراض كامنة في القلب ربما كانت سبباً لعدم التوفيق وعدم الثبات، وكانت سبباً لحصول الخذلان والعياذ بالله! فالأمر الذي أمرنا به من سؤال الله العافية هو الأمر الشرعي، ووقوع البلاء أمر قدري كوني، يجري علينا بغير طلبنا، فإذا وقع فعلى الإنسان ألّا يترك الواجب، وألّا يفعل المحرمات إلا عند الإكراه، ولا يكون كالذي قال الله عز وجل فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:140 - 11].
ولذلك نقول: إن الفرار من البلاء مشروع، فإذا وقع فعلى المرء أن يثبت، وليقدم على الجهاد الذي أمر الله به، ولذا جاء في الحديث: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)، فأنت تؤدي واجباً فلا تفر من المعركة فراراً من البلاء، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
فلذلك نقول: إن الإنسان لا يتعرض للبلاء بنفسه، بل يجب عليه أن يسير في طريق الحق ملتزماً بالواجبات، تاركاً للمحرمات، سائلاً الله العافية، فإذا وقع البلاء ثبت، ولا يقول: أنا لا يهمني شيء، وأنا لا أعبأ بهذا البلاء، فهذا كلام خطير -كما ذكرنا- يدل على أنواع من الأمراض القلبية.
(7/5)
أنواع الناس مع البلاء
والناس هنا ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، فطرف في سبيل الهروب من المحنة فإنه يوالي أهل الباطل، ويوافقهم، ويتابعهم، ويترك ما أوجب الله عليه من مفارقتهم، ومعاداتهم، والقيام بالحق في وجوهم، أو يفعل ما حرم الله عليه من المعاصي طاعة لهم.
وطرف آخر يطلب البلاء بنفسه، ويدفع إليه بعمله، ويظن أنه يربي نفسه ويؤدبها، وقد وقع وهو لا يشعر في شراك العجب والغرور، وغاب عنه أن خليل الله عليه الصلاة والسلام قال عن سارة: إنها أخته؛ لكي لا يتعرض للبلاء، وهو نوع من التعريض، وأن نبي الله موسى أخبر الله عنه فقال: {خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21].
وتحضرنا قصة ذلك الذي كان يقول في دعائه عازماً على الرضا: كيفما شئت فابتلني! فكان يظن أنه على أي حال فلن يضره، وسوف يكون راضياً على كل حال، فسأل الله أن يبتليه كما شاء، وهذا مخالف للشرع؛ فابتلي بالبواسير، فكان يمر على الصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لشيخكم الكذاب! فيطلب منهم الدعاء له بالشفاء؛ لأنه أصبح في منتهى التعب والبلاء، وعندما نزل به البلاء ما استطاع تحمله والصبر عليه، فكان يطلب منهم أن يدعوا له بالشفاء، وكان يسمي نفسه الكذاب، نسأل الله عز وجل أن يبعدنا عن العجب والغرور.
وأما الوسط فهم أهل الحق والاتباع، فعلموا بوقوع البلاء قدراً، والتزموا بعدم طلبه وتمنيه شرعاً، وصبروا أعظم الصبر عند نزوله، كما فعل هذا الراهب الصالح، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
(7/6)
استعمال السرية في الدعوة للحاجة
وفي هذا القول من الراهب استعمال للكتمان في بعض أمور الدعوة، فليس كل شيء قابل للإعلان والنشر، فقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة في السر مدة ثلاث سنين إلى أن تمكن من الجهر بها، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، ولا شك أن الأصل في الدعوة الجهر ما أمكن ذلك؛ لكن قد يطرأ من بطش الطغاة وظلمهم ما يقتضي الإسرار بها إلى حين زوال خطر استئصال الدعوة، وأيضاً يستعمل الكتمان بالدعوة بعد الجهر بها في المواطن التي يخشى معها ويحذر من إذاعتها، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا} فذمهم الله على إذاعة الأمر، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم السعدين إذا رجعا من بني قريظة بما يسر المسلمين من بقائهم على العهد أن يعلنا ذلك، وإذا رجعا عن نقضهم العهد أن يلحنا له لحناً يفهمه ولا يعلنا ذلك للناس؛ لأن كثيراً من الناس لن يتحمل قلبه ذلك البلاء، فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل الكتمان أحياناً حتى بعد التمكين والجهر بالدعوة، وهذا يكون حسب المصلحة.
فلا شك أن صفة من يذيع كل ما يسمع، أو يزعم أنه لا يصلح الكتمان نهائياً، لا شك أن هذه صفة من لم تهذبه التربية الإيمانية، فلا يدري ما يعلن وما يسر، وهذا النوع من أخطر الناس على الدعوة والدعاة، خصوصاً إذا قيل لهم عن أمر: إنه سر، فيبقى الواحد منهم قلقاً حتى يبوح به، فينتشر الخبر، بل إذا أردت أن تنشر خبراً ما فقل لواحد منهم: إن هذا سر، فسوف يظل قلقاً؛ لأنه ليس عنده التربية الإيمانية التي تجعله يكتم هذا الأمر، وهذا يقع ممن عنده ضعف التربية، وهذا لا يصلح أبداً أن تستعمل معه الكتمان أو تسر إليه بأمور، فإن ذلك يترتب عليه إعلانها بالتأكيد.
فانظر إلى نوعية ذلك الرجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ذلك الذي من شيعته، الذي استصرخ موسى واستغاث به، وهو الذي رأى أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني، وهو الذي باح بالسر، فكان هذا الإسرائيلي المشاغب الغوي المبين سبباً في إفشاء سر موسى عليه الصلاة والسلام، حين قال له: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19] فسمعها الفرعوني ولم يكن قد شهد وقعة الأمس، ولم يكن قد شهد الوقعة غير موسى والإسرائيلي، فذاع الخبر، واضطر موسى للخروج من مصر فراراً بنفسه ودينه.
فالواجب هو الرجوع إلى أهل العلم أولاً قبل نشر أو إشاعة أي أمر كما أمر الله، وإن كان الأصل أن يكون علنياً، إذ بالبيان يقوم الحق، وتظهر الحجة، ولا يلجأ إلى الكتمان إلا عند العجز أو الضرورة، أو المصلحة الراجحة.
وقوله: (وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل علي) يعني: لا تخبرهم باسمي، ولا تخبرهم أني أنا الذي علمتك ذلك؛ قال له هذا لأنه يعلم أنهم سوف يبحثون عمن علمه هذا، فلن يكون قد تعلمه من فراغ، بل لا بد أن يكون قد التزم مع صاحب، ولا بد أن يكون قد التزم مع شيخ، فأين هذا الشيخ؟ ومن أين علمت هذا الكلام؟ فسوف يظلون يبحثون حتى يصلوا إلى معرفة الحقيقة.
(7/7)
أدب التداوي
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء) الأكمه هو: من ولد أعمى، وهذا أبعد في أن يشفى، والأبرص هو من به برص، وهو: مرض جلدي معروف، ولا يوجد شفاء منه إلى الآن، فكان يداوي الناس من سائر الأدواء، وذلك بدعاء صادق إلى الله عز وجل، فيستجيب الله عز وجل دعاءه.
وهذه كرامات متعددة لهذا الغلام، وفي الحديث أدب التداوي، وهو هنا عن طريق الدعاء، وليس في هذا منافاة للتوكل، ولا للرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، وإن كان طلب الدعاء من الغير في أمر شفاء الأمراض الأولى تركه، وتركه من كمال التوكل المستحب، وأما أن يدعو بنفسه لنفسه فلا يضر، أو يدعو له غيره من غير طلب منه فلا يضر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة السوداء التي كانت تصرع: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك، فقالت: أصبر) فلما قالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، دعا لها، ولم يقل لها: اصبري ولك الجنة، وهذا دليل على أن طلب الدعاء في الأمور الدنيوية خلاف الأولى، أو حتى يكون الإنسان من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فينبغي ألا يطلب الإنسان الدعاء من غيره في الأمور الدنيوية، وأما الأمور الدينية من الطاعة والستر ونحو ذلك، فالمرأة كانت تتكشف فطلبت من الرسول أن يدعو لها، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أويس القرني: (فإن استطعتم أن يستغفر لكم فمروه فليستغفر لكم) وهذا أمر به الصحابة الذين هم أفضل من أويس، كـ عمر رضي الله عنه، وليس في هذا منافاة للتوكل المستحب؛ لأنه في أمر ديني يريد أن يتقرب به إلى الله عز وجل.
(7/8)
حكم التداوي
إن التداوي عموماً الأصل فيه الاستحباب، وقد يكون واجباً في بعض الأحيان وذلك إذا غلب على الظن الهلاك، أو فساد عضو من الأعضاء، أو العجز عن أداء الواجبات، مع غلبة الظن بالشفاء، والمرض متفاوت بلا شك، فهناك أنواع من الأمراض وأنواع من الأدوية.
فنقول: إن هناك بعض الأحوال يكون التداوي فيها واجباً؛ كمن يعلم -مثلاً- أنه إذا لم يوقف النزيف بأنواع العلاجات استمر حتى يموت، فهذا لا يجوز له ترك التداوي، فما كان فيه إنقاذ للحياة بسرعة فلا يجوز أن يترك، والأغلب في أنواع التداوي عدم وصولها إلى هذا الحد، وهو غلبة الظن بحصول الهلاك عند تركه، وغلبة الظن بحصول السلامة عند استعماله، فأغلب الأدوية إنما هي أقل من ذلك، فلذلك نقول: هي مستحبة وليست واجبة؛ لأنه ليس هناك يقين على أن بقاء الحياة يستمر بغير ذلك.
وأما التداوي بطلب الدعاء فالأولى تركه، كما تدل عليه قصة الأعمى، وقصة المرأة السوداء، وأما من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) في وصف السبعين ألفاً على استحباب ترك التداوي مطلقاً، فهو استعمل دليلاً أخص من الدعوى، فالدليل هنا خاص بالاسترقاء والكي وليس في كل أنواع التداوي، فطلب الرقية غير طلب الدعاء من الغير، وهذا خلاف الأولى كما ذكرنا في الأمور الدنيوية.
فالأرجح أن التداوي مطلقاً هو الأفضل، وكذا الكي، قال صلى الله عليه وسلم: (وما أحب أن أكتوي) وقال: (وأنهى أمتي عن الكي) أي: نهي تنزيه، واستعمله عليه الصلاة والسلام مع بعض أصحابه، وقد يكون هناك تداوٍ بمحرم، كشرب خمر أو أكل لحم خنزير أو غير ذلك، فهذا محرم بلا ريب، إلا عند الضرورة المهلكة، أي: التي يجد فيها الهلاك، كإساغة الإنسان اللقمة التي وقفت في حلقه فمنعت النفس، وليس أمامه إلا الخمر، فهذه ضرورة؛ لأن الإنسان سيموت إذا لم يتنفس، فإساغة هذه اللقمة سوف يمررها بعيداً عن مجرى النفَس، فمثل هذا الذي ضربه العلماء مثلاً لهذا الباب يجوز.
وهذا الذي فعله الناس من طلب الدعاء من الغلام يدل على أنهم كانوا أصلاً لم يحققوا كمال التوحيد، بل أكثرهم كان كافراً قبل أن يؤمن على يد هذا الغلام.
ونذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب وهو: أن طلب الدعاء من الغير مطلقاً خلاف الأولى ليس بصواب، بل لا بد من التفصيل الذي ذكرنا، فإن عكاشة بن محصن رضي الله عنه وهو واحد من السبعين ألفاً الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فقال: (ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: اللهم اجعله منهم) ولم يقل له: كيف تسأل هذا؟ إذا كنت تريد أن تكون من السبعين ألفاً فلا تسأل، فالظاهر أنه يفرق بين الأمر الديني والدنيوي، فالأمر الديني يجوز أن تسأل، بل يستحب أن تسأل، ولا يكره أن تسأل غيرك الدعاء، وأما الأمر الدنيوي كنجاح في الامتحان وكشفاء من مرض ونحو ذلك، فسل الله بنفسك، ولا تطلب من غيرك -ولو كان من الصالحين- أن يدعو لك.
(7/9)
وجوب ربط الناس عند علاجهم بالله عز وجل وعدم التعلق بالدنيا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله تعالى) يعني: أن جليساً من جلساء الملك من الطبقة المترفة سمع -بعد أن أصيب بالعمى- بغلام يداوي الناس من سائر الأدواء ويشفى، هكذا تناقل الناس: أن الغلام يشفي.
وهذا من أمراضهم القلبية التي هي أخطر من أمراضهم الجسدية، فهذا الجليس كان يفكر بطريقة مادية محضة، وهي أن الهدايا الكثيرة والمال تشتري كل شيء، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الغلام مثله مثل طبقته الذين لا يعرفون إلا لغة والسعي من أجله، نعم هو كذلك عند أكثر الناس، فأكثرهم يقولون: المال هو عصب الحياة، وليس كذلك عندنا، بل المال هذا كالنعل التي تلبسها، فيجب أن يكون كذلك.
فهذه الطبقة تظن أن كل شيء يمكن أن يحصل بالمال، فأتاه بهدايا كثيرة، وقال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) وكلمة (أجمع) تدل على أنه يراه كثيراً جداً، ويرغبه بهذه الكلمة، ولا شك أنه ينظر إليه بنظرة معظمة، فهذه الكلمة تدل على شعوره بأن هذا عظيم الشأن كبير القدر، وهذا حال أكثر الناس، فلا ميزان عندهم إلا بالمال، ولا غنى عندهم إلا به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فغنى النفس يكون بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يسد فقر الآدمي وحاجته، وأما غناه بعرض الدنيا فهو الفقر بعينه.
وهذا الغلام لم يلتفت إلى هذا الذي أتى به ذلك الجليس أدنى التفات، فلم يقل له: ما هذه الدنيا التافهة التي تريد أن تغرني وتغريني بها، أو ترغبني فيها؟ ولم يقل له: إن هذا كثير منك، وإنه لشعور طيب أن تأتيني بهذا كله، أو نحو ذلك، وإنما أعرض عن هذا بالكلية، والتفت إلى الكلمة الخطيرة المؤثرة في كلامه، حيث قال: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى) وذلك حين قال له: (إن أنت شفيتني)، فنبهه بذلك إلى الخطر الأعظم.
فموقفه من الهدايا موقف رائع وعظيم، وهو يدلنا على ما ينبغي أن تكون عليه الدنيا في قلوبنا، وهو إسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، فنسكت عنها بالكلية من القلب.
وهكذا يجب على الدعاة أن يجعلوا الدنيا لا قيمة لها في دعوتهم، ولا بد لهم من هدم الميزان الفاسد: ميزان تعظيم من ملكها واحتقار من فقدها، فالمجتمع الذي يريدون بناءه لا يُقبل فيه هذا الميزان الذي ضل بسببه أكثر الأمم قديماً وحديثاً من عهد نوح عليه السلام وإلى زماننا، حيث قال قوم نوح له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:27]، وكل الرسل كان أغلب أتباعهم من الضعفاء والفقراء، كما قال هرقل عندما سأل أبا سفيان: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الأنبياء، فأمم كثيرة ضلت بسبب تعظيم المال.
فلا بد أن تربى الطائفة المؤمنة منذ نشأتها على عدم الاهتمام بالمال، ولا يحتاج الأمر إلى ذمه لكي تتشفى النفوس من تركه؛ لأن الإنسان إذا فاته شيء يريد أن يشتفي منه، ويريد أن يصبر نفسه عنه، ويقنعها بأنها تركت شيئاً حقيراً تافهاً، فيظل يذمه؛ لكي يصغره في قلبه، وذمه هذا دليل على منزلته عنده، ولذلك ما أحسن ما قال الهروي في حقيقة فقر الزهاد قال: نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أو تركاً.
ويكون نفض اليدين من الدنيا ضبطاً -أي: بخلاً بها- عندما تكون موجودة، أو طلباً -أي: بحثاً عنها- عندما تكون مفقودة، فالبخل هو الحرص، فيحرص عندما يتطلع في الشيء الذي ليس بموجود، فيرغب في الموجود ويمسكه.
وقوله: (وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً) أي: يسكت اللسان عنها لأنها لا قيمة لها، فهل عندما يمر إنسان بدجاجة ميتة قد تعفنت يرجع إلى أهله ويقول: لقد رأيت دجاجة متعفنة وقد تركتها؛ لأنها كانت رائحتها كريهة؟! كلا، ولو ظل يتكلم بهذا فسيقولون له: لماذا تتكلم في هذا؟ ولماذا تذكر لنا هذه الأشياء التي لا تفيد شيئاً؟ لكنه لا يتكلم إلا بما له وزن عنده، ولذلك لن يذم إلا ما يريد أن يتشفى من تركه، بمعنى: أنه يريد أن يعوض نفسه؛ يقول لها: أنت أعز من ذلك، ولذلك عقب الكلام بقوله: والسلامة منها طلباً أو تركاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم (ذكر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة)، فهل إذا جلسنا في مجالسنا نقول: إن جناح البعوضة شيء يسير ونحو ذلك؟ كلا.
فلنعلم فعلاً أن ذم الدنيا إنما نستعمله لأنها أكبر بكثير من حقيقتها في نفوسنا، ونذمها ونقول: إنها حقيرة وتافهة ولا تساوي شيئاً؛ لأنها في نفوسنا ما زال لها قيمة، وأما جناح البعوضة فمن في مجالسنا يشغل نفسه بالبعوض نفسه فضلاً عن جناح البعوض؟ أو الجدي الأسك الميت، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه حين قال: (للدنيا أهون عند الله من هذا عليكم).
ولذلك عقب الكلام بقوله: (والسلامة منها طلباً) يعني: السلامة من طلبها، فلا يطلبها الإنسان؛ فإنه عندما يتركها يسلم منها، وهذا فعلاً علامة الغنى بالله، والاستغناء عن الدنيا؛ لأن بعض الناس قد يتركها ولكنه لا يسلم منها، بمعنى: أنه يتشرف بتركه، ويتشرف بزهده، ويرى أنه ترك شيئاً كبيراً لله عز وجل، فهو لم يخلص في زهده.
وكما ذكرنا في المثل الذي نحن بصدده: لا يرجع أحد إلى أهل بيته ويقول: قد كانت أمامي بعوضة فتركتها، أو قد كان أمامي دجاجة ميتة فتركتها، ومثل هذا تماماً من يقول: كان أمامي المال الحرام مفتوحاً علي فما رضيت أن آخذه، فإن هذا دليل على أنه ما زال يعظم الأمر هذا؛ لأنه لو كان فعلاً لا يساوي عنده جناح بعوضة لما قال: كان أمامي.
ومثل هذا من يقول: أمامي عمل كثير، وممكن أن آتي بفلوس من أي مكان، لكني تركت ذلك من أجل طلب العلم، أو من أجل الدعوة، أو من أجل الجهاد! فمثل هذا لا زال يعظم الدنيا في قلبه.
والكلام هذا كله جاء بسبب ذكر هذا الغلام الذي لم يأت بسيرة الهدايا، بل أعرض عنها ولم يلتفت إليها؛ فإن جليس الملك قال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) فلم يقل له: أنا لا أريد الهدايا هذه، بل أهملها بالكلية، وقال: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفى الله تعالى).
(7/10)
أهمية التحذير من الغلو في الصالحين
أيضاً نلحظ في هذا الجزء من القصة أن الناس من عادتهم الغلو في الصالحين، فإن هؤلاء كانوا يقولون: الغلام يشفي، فلا بد أن ينتبه الداعية إلى الله إلى تحرير الناس من هذا الغلو فيه وفي غيره؛ فإن سبب البلاء الذي دخل على كثير من الأمم هو الغلو في الصالحين، وقد يكونون صالحين بالفعل؛ ولكن بسبب الغلو وعدم التحذير منه من الصالحين أنفسهم يحصل ذلك الفساد.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو فيه، فيقول: (إياكم والغلو!) ويقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
وأهل العلم حذروا من تقليدهم، ومن الغلو فيهم، فلا بد أن يعالج الداعي إلى الله عز وجل هذا المرض قبل أن يصل بعض الناس إلى حد تأليه الصالحين وعبادتهم من دون الله، فهذا الغلام قبل أن يقول أي كلمة قال: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى)، فبدأ بتقرير التوحيد ومحاربة الغلو، وبيان حقيقة عبوديته لله سبحانه وتعالى، ولذا قال: (فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك)، أي: أنا أطلب من الله، فأنا عبد سائل ولست أنا الذي أفعل.
ولا يروج على الداعية أن يظن أنه يمكنه أن يستغل غلو الناس فيه في دعوتهم إلى الالتزام بالحق الذي يقوله لهم؛ لأنهم إن قبلوا الحق لأجله هو لا لأنه الحق لم ينفعهم ذلك، ويوشك أن يتحولوا عنه إلى الباطل بمجرد غيابه هو عنهم، فالحقيقة أنهم عبدوه هو ولم يعبدوا الله، والواجب أن يعبدهم لله وحده.
وتأمل عظم موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين مات النبي صلى الله عليه وسلم فقام في الناس فقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، وبهذا حفظ الله الإسلام واستمرت دعوة التوحيد.
فـ أبو بكر رضي الله عنه لما قال: (من كان يعبد محمداً) لم يوجد أحد يقول: نحن نعبد محمداً، ولكن لأجل أن الناس تصوروا أنه يمكن أن تذل أو تضمحل دعوة الحق بغير الرسول صلى الله عليه وسلم، فسمى أبو بكر من يظن ذلك عابداً للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات)، يعني: لا يعلق أحد التزامه بالدين على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، بل لا بد أن تلتزموا في حياته وبعد وفاته بهذا الدين الذي جاء به؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع أنه لا يوجد من يحب النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لكنه كان يؤمن بدعوة التوحيد، ويعبد الله وحده لا شريك له.
(7/11)
أهمية استغلال الداعية حاجة الناس الدنيوية لإيصال الحق إليهم
نلحظ أيضاً الفقه العظيم في هذا الغلام في استغلال فرصة احتياج الناس إليه في أمور دنياهم، ليوصل إليهم دعوة الحق، ويسد احتياجهم الأشد إلى أمور دينهم وأخراهم، ويجعل علاج أمراضهم الظاهرة -وهي التي يسعون لعلاجها والتخلص من ضررها- وسيلة لعلاج أمراضهم الباطنة، وهي أمراض القلوب، وأعظمها خطراً الكفر والنفاق، وهي التي لا يسعون إلى علاجها، ولا يشعرون بوجودها وضررها، مع أنها أضر عليهم.
فعمى القلب أخطر من عمى البصر، ومع ذلك فالناس إنما يبحثون عن علاج عمى الأبصار، ولا يبحثون عن علاج عمى القلوب، بل ربما ماتت القلوب ولم يبحث أصحابها عن طبيب في حياتهم، وهل هناك وجه للمقارنة بين ضرر المرض الظاهر -وهو إن استمر وأزمن أضر بالإنسان في لحظات وساعات أو قل في سنوات- وبين ضرر المرض الباطن الذي إن لقي العبد ربه به أضر به في النار أبد الآبدين؟! ومع ذلك أكثر الناس لا يبحثون عن دواء لأمراض قلوبهم، وبسبب مرض بسيط يذهب الواحد منهم إلى الطبيب خصوصاً في زماننا الذي كثر فيه الذهاب إلى الطبيب لأدنى سبب، أما أن يبحث الإنسان عن أمراض قلبه ويبحث لها عن طبيب، فإنها تكاد تقتل؛ بل قد قتلت، فإنك لا تجد من يداوي قلبه إلا من رحم الله.
فالداعية الشفيق يجعل حاجة الناس في دنياهم سلماً للوصول إلى غايته في إصلاح أخراهم، ويمكنه أن يشترط عليهم ألا يقضي حاجتهم التي يقضيها الله عز وجل عن طريقه إلا بأن يلتزموا بالإيمان والطاعة، ويكون مثل هذا الغلام الذي قال: (فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك)، يشارطه: إن تؤمن أدع لك، وإن تؤمن أقض لك الحاجة.
وأم سليم حين خطبها أبو طلحة وهو كافر جعلت مهرها إسلامه، فأسلم صدقاً، فتزوجته، واعجب بهذا الموقف الرائع! إنها امرأة عظيمة الحب لدينها، فقد جعلته يغير موازينه بالفعل، ولم يسلم من أجلها، ولم يسم -مثلاً- مسلم أم سليم كما كان مهاجر أم قيس، لم يسم كذلك، بل كان من أصدق الأنصار إيماناً والتزاماً وإخلاصاً؛ ولكن موقفها غير موازينه، فإنه كان يعرض مهراً وهو رضي الله عنه من الأغنياء، لكن موقف أم سليم أنها ما تريد إلا إسلامه، وأنه لا يرد لولا كفره، جعله يسلم من أجل ذلك صدقاً، وتزوجها وتزوجته فكان إسلامه مهرها، ونعم المهر كان! ولا يضر الناس ولا الداعي أن الناس إنما يستجيبون للحق أولاً لمصلحتهم الدنيوية؛ فإنهم لن يمسوا إلا والحق أحب إليهم من الدنيا وما فيها، فإن أكثر الناس يعادون الحق لأنهم يجهلونه، فإذا علموه زالت العداوة، كما في هذه القصة العظيمة.
ويمكن أن يقضي الحاجة قبلها، كما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام، فإنه في أحوال مختلفة استعمل هذا الأمر بدرجات مختلفة، فمع صاحبيه في السجن عندما سألاه تأويل الرؤيا التي أقلقتهم، وكل منهما كان يريد أن يعرف مصيره في الخروج من السجن، وهذه حاجة دنيوية، فإن يوسف أخر الإجابة إلى أن عرض عليهم دعوة الحق، فعرفهم دعوة التوحيد أولاً، ثم بين لهم تأويل الرؤيا.
وعندما طلب منه تأويل رؤيا الملك كان يمكن أن يشارط، ولو شارط لأجيبت شروطه، لكنه أجاب بدون شروط؛ ليبين لهم حقارة أمر الدنيا بأسرها بما فيها أمر السجن، وأن السجن وعدمه بالنسبة له سواء، فسواء عنده الخروج أو الدخول، فلم يشارط ولم يقل: أولاً أخرجوني من السجن، بل ترك ذلك؛ لعظيم صبره وزهده في الدنيا، واستهانته بزخرفها، وهذا عند المترفين من الناس من أكثر ما يؤثر في نفوسهم، ويجعلهم يعيدون النظر في موازينهم، فالملك استغرب جداً من أنه عبر هذا التعبير الرائع، وفي نفس الوقت هو في السجن، وهذا فقال: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] أي: أخرجوه من السجن، من دون أن يقول لهم: أخرجوني، لكن سيدنا يوسف عليه السلام قال للرسول: لا، ارجع إلى ربك، أي: أنه لن يخرج حتى تثبت برآته، فبحث الملك حتى يعرف برآته، ثم قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54] أي: أحتاج إلى استخلاصه لنفسي فقط، يريد أن يكون له هو، ولا شك أن هذا يستعمله الداعية مع نوعية معينة من الناس؛ لأن الداعية إلى الله يستعمل الأمور حسب المصلحة، وحسب شدة الحاجة، وحسب نوعية الناس، فيمكن أن يؤخر قضاء الحاجة الدنيوية إلى أن يتم عرض الدعوة، ويمكن أن يقضي الحاجة الدنيوية أولاً دون مشارطة، ثم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، خصوصاً عند المترفين وعند أهل الدنيا، فإن ذلك يؤثر فيهم تأثيراً أقوى، والله أعلى وأعلم.
(7/12)
عاقبة الإيمان
وجليس الملك الذي أسلم ليشفى من العمى صار شخصاً آخر بعد حين، فقد صار قدوة للعالم في الصبر والثبات، والجهر بالحق والدعوة، وتحمل أعظم الألم في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فآمن بالله؛ فشفاه الله) وفي هذا بيان عاقبة الإيمان في الدنيا قبل الآخرة، وأنها خير عاقبة، وأن الله لا يريد بعبده المؤمن إلا خيراً، فهذا من عاجل بشرى المؤمن مع ما ينتظره عند الله عز وجل في الآخرة.
(7/13)
بيان أن الشفاء من الله تعالى وحده
وفي قوله: (فشفاه الله) بيان أن الشفاء من أفعال الله تعالى التي لا بد أن يوحد بها، فلا الطبيب ولا الدواء ولا الغذاء هو الذي يشفي، بل الله وحده هو الشافي، قال الله عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً).
وإن مما يقع الناس فيه عن اعتقاد أو غير اعتقاد أن يقول أحدهم: شفاني الطبيب الفلاني، أو الدواء الفلاني، وهذا شرك، فإن كان يعتقد أنه شفاه من دون الله أو مع الله، فهذا شرك أكبر في الربوبية، وإن كان من غير اعتقاد مع معرفة أن الله هو الشافي فهذا شرك لفظي، وهو شرك أصغر محرم له حكم الكبائر.
واعلم أن من أسماء الله الحسنى الشافي، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اشف أنت الشافي)، وورد في الحديث الصحيح: (إن الله هو الطبيب)، وقال أبو بكر رضي الله عنه: (الطبيب رآني فقال: إني فعال لما أريد).
والمقصود: أن الله وحده هو الذي بيده أمر الشفاء سبحانه وتعالى.
(7/14)
حكم مجالسة الظالمين والكافرين
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجلس للملك كما كان يجلس، فقال: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي! قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله)، وجليس الملك كان يعلم أن الملك يدعي الربوبية، فجلس إليه وجهر بدعوة الحق في هذا المجال، وهو يعلم أن الملك سوف يكون له موقف، والدعوة في هذه المرحلة دخلت إلى طور جديد، ووصلت إلى مستوىً رفيع، وتغلغلت في المجتمع، حتى وصلت إلى الملك نفسه، وأصبح جليس الملك لساناً في الطبقة الحاكمة، قادراً على الجهر بها، وبيانها عن عقيدة وإيمان، رغم ما يعلمه حتماً من مخالفته للدين الرسمي للدولة وهو: أن الملك هو الرب، ويعلم ما سوف يجره ذلك من تبعات.
وفي هذا من الفوائد: أن مجالسة الظالمين والكافرين إن كانت بغرض دعوتهم إلى الله، ولا يكون ثمنها سكوتاً عن الحق، أو معاونة للظلم والطغيان فلا بأس بها، ولا حرمة فيها، فلا يلزم كل من التزم بدعوة الحق أن يترك منصبه الذي تبوأه في جاهليته ما دام التزم بالشرط الذي ذكرنا، وهو ألا يكون أداة للظلم، وسلاحاً للكفر والنفاق.
وأما إذا كان لا يمكنه البقاء إلا بالثمن الباهظ، وهو الإعانة على الظلم، فعند ذلك نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، ويقربون شرار الناس، فمن أدرك ذلك فلا يكون لهم عريفاً ولا شرطياً ولا خازناً، ولا جابياً).
وهناك بعض الجهلة الذين لا يفرقون بين الموالاة المحرمة ومجرد المجالسة التي تفتح المجال لإبلاغ الحق، أو الوظائف التي لا تعين على الظلم، وإنما هي إجارة مباحة، فضلاً عما قد يكون فيها من قضاء حاجة الناس، مما يحببهم في الدعوة، فيأمرون كل من التزم بترك وظيفته وهيئته، وإلا لم يكن مؤمناً، وهذا بلا شك مخالف لأدلة الشرع.
(7/15)
تغيير الإيمان لمن يعتنقه
ونرى هنا أيضاً كيف حول الإيمان هذا الجليس من رجل لا يعرف إلا الدنيا والمال والهدايا، فإنه هو الذي قال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، ونرى كيف كان متعلقاً بالخلق ورجائهم، ثم تحول إلى هذه الشخصية الجديدة التي تبدو فيها الطمأنينة والرسوخ والجرأة في الحق، حتى يقول للملك في وجهه بكل ثبات: (ربي وربك الله، قال: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي!)، إنها جرأة عظيمة، وثبات عظيم، فلم يقل: الغلام، ولم يقل: شفاني بعض الناس، ولم يستعمل التورية ولا التعريض، ولم يقل: بركة جلوسك على العرش أيها الملك! أو من مجالستي إياك رد بصري، كما قد يفعل أهل النفاق الذين كل شيء عندهم من توجيهات الملك، وبركة أعماله العظيمة التي لا نظير لها في الوجود! نسأل الله العافية.
فهو كان على يقين أن الملك الجبار يدعي الربوبية صراحة لا تلميحاً، وهو بالتأكيد يعلم كم بطش الملك من مظلومين، وكم قتل وسفك من الدماء وعذب الأبرياء! حتى استقر له الملك الجائر، وحتى لم يجد طيلة المدة التي قضاها يدعي الربوبية من يقول له: لست لنا برب، بل لعل جليس الملك هذا كان ممن يروج لمقولته الفاجرة، وادعائه الكاذب للربوبية؛ بل بالإنفراد بها، فهو لم يكن يقول: أنا ربكم فقط، بل قال: (أولك رب غيري؟) نعوذ بالله! فهكذا يهاجر الإيمان بالمؤمن من العبودية لغير الله إلى العبودية لله وحده، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير فضل الله إلى رجاء فضل الله وحده، ومن ظلمة الجهل وموت الكفر وقسوة الشك إلى نور العلم وحياة الإيمان وراحة اليقين.
(7/16)
تنويع أهل الظلم والطغيان الأساليب في التعذيب ومواجهة الحق
وفي تعذيب الملك له نرى الأسلوب القديم الجديد! إنه قديم قدم وجود الظلم والعدوان على وجه الأرض، فهو منذ قتل ابن آدم أخاه، إن هذا الأسلوب في مواجهة الحق أسلوب قديم جديد من أهل الباطل والكفر في مواجهة الحق، فلا نقاش عندهم ولا دليل ولا حوار، إنما هو البطش والتنكيل، فهل ترون يا عباد الله! ما هو الذي بقي من ملك ذلك الملك وبطشه؟ وهل ترون ما هو الذي بقي من ملك فرعون وبطشه؟ بقيت سيرتهم التي يلعنون عليها، ولماذا نذهب بعيداً، فما هو الذي بقي من ملك من تسمى بملك الملوك (شاهن شاه) في زماننا؟ فقد كان شاه إيران السابق يسمي نفسه (شاهن شاه) أي: ملك الملوك، واحتفل بالإمبراطورية الفارسية التي كانت قبل الإسلام، وادعى أنه وارث هذه المملكة، وكأنه تخطى أمر الإسلام، وبعد سنوات زال ملكه، حتى إنه لم يجد أرضاً يدفن فيها!! فما هو الذي بقي من ملك كل طاغية جبار أيضاً؟ الإجابة واحدة: لم يبق من ذلك كله إلا الأحاديث، قال الله عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19]، وسوف يصبح كل الطغاة كذلك، وكل المتجبرين ومدعي الربوبية تلميحاً أو تصريحاً سوف يكونون بعد مدة أحاديث.
فعن قريب سيزول ملك طغاتكم أيها المعذبون! وترحلون أنتم وهم إلى دار لا ظلم فيها ولا بخس، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
(7/17)
من أخبر عن غيره من الصالحين تحت شدة التعذيب
فهذا الملك أخذ جليسه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وفي هذا دليل على سقوط الإثم على المعذب والمكره إذا دل على غيره من الدعاة أو الملتزمين الصادقين، وإن كان ذلك سبباً لتعرضهم لما يتعرض له، لكن التعذيب ربما كان أشد من القتل، فسنرى كيف صبر هذا الرجل على القتل نشراً بالمناشير، ولم يصبر عن الاعتراف عن الغلام الذي علمه هذا الدين؛ بسبب العذاب.
كما أن هذا الغلام أيضاً -وهو من أولياء الله الصالحين- لم يصبر على العذاب، وصبر على القتل، فإنه تحمل في سبيل دعوته أعظم التحمل، ولم يصبر على التعذيب، فلا يجوز أن يلام إنسان ناله من هذا العذاب شيء على ما قاله ولا ما أخبر به، ولا يعد ذلك نقصاً في الإيمان، ولا خللاً في التربية، كما وقع في هذه القصة، ولكن لا بد أن يصيبه ذلك، ولا شك أنه لم يدل عليه من أول مرة، بل قال: (أخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب)، إذاً: فهذا يدل على أنه بقي مدة طويلة في هذا التعذيب.
فدل هذا الغلام على الراهب وأخبر عنه، فلا عتاب في ذلك، ومن صبر فله الأجر العظيم، ونسأل الله العافية!
(7/18)
ابتلاء الله عز وجل لأوليائه
وفي تسليط الله للملك الظالم الكافر مدعي الربوبية على المؤمنين وتعذيبهم وتمكينه من ذلك دليل على أن حكمة الله سبحانه تتضمن مثل ذلك الابتلاء، ولا يكون في هذا دليل على سخط الله على أوليائه، أو تركه نصرتهم، أو أنهم على باطل؛ ولذا لم يحفظوا، وليس الأمر كما يقول بعض الناس: طالما أنه وقع عليكم هذا البلاء إذاً أنتم على باطل، ولو كنتم على حق لما جرى لكم الذي جرى، فليس الأمر كذلك، فقد قدر الله على أنبيائه ورسله نحو ذلك من القتل والجراح، كما قال تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183]، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وكسرت رباعيته في غزوة أحد، وأنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فالحق يعرف بالأدلة لا بأن أهله معذبون مستضعفون، والباطل يعرف بمخالفته للحق لا بأن أهله هم الغالبون، فعن قريب يمكَّن المستضعف، ويأمن الخائف، ويجعلهم الله أئمة ويجعلهم الوارثين، وعن قريب تذل أعناق الجبابرة، ويزول ملك الطغاة، ويزهق الله باطلهم، ويجعلهم من الأسفلين.
فهذا الابتلاء فيه تمحيص للقلوب، وكفارة للذنوب، وتخليص للصف المؤمن من الكاذبين والمنافقين.
(7/19)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [4]
إن قوى الشرك تأبى إلا أن تخرج قوى التوحيد عن صفاء عقيدتها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فقد سخر الله لهذا الدين رجالاً يحملون أعباء هذه الدعوة، فيحفظون الله في سرهم وعلانيتهم، ثابتين على مبدأ الحق رغم كل صنوف التعذيب والاضطهاد الذي يلاقونه من قوى الكفر والطغيان، فيؤيدهم الله بكرامات وآيات بينات واضحات، ويعمى عنها من أعمى الله بصيرته ممن استخدم قوته وجبروته وطغيانه في محاربة أهل التوحيد.
(8/1)
صور ونماذج من أساليب الطغاة في استمالة الدعاة إلى الله إليهم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الأخدود قال: (فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل! فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب).
يعني: لما عذب الملك جليسه حتى دل على الغلام، وتيقن الملك أن الغلام من وراء هذه الدعوة الجديدة على مملكته، وهو أن الغلام يدعو إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وإلى إنكار ربوبية الملك، وعلم جيداً أن الغلام لا يقول للناس: إني أفعل ذلك بالسحر الذي أرسله الملك لكي يتعلمه من الساحر، فبدأ الملك بمحاولة خبيثة في احتواء هذه الدعوة، فليس عنده مانع أن يدعو الغلام إلى ما يدعو إليه، لكن لا بد أن يكون ذلك تحت عباءة الملك، ويكون ذلك بذكر سحر الملك وتوجيهاته، أي: لا بأس أن يفعل ما يريد بشرط أن يلبس ثوب الملك، فلم يبدأ الملك بالبطش، مع أن أسلوبه كان واضحاً جداً مع جليس الملك، وأسلوبه أيضاً كان واضحاً جداً مع الراهب ومع الغلام نفسه في مرحلة لاحقة، لكن هذه محاولة خطيرة يبدؤها الطغاة دائماً، فلا بد أن ينتبه لها كل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.
إن بطشه بالغلام الذي أحبه الناس وعرفوا إحسانه إليهم، فهو الذي قتل الدابة، وهو الذي كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فلو أنه بطش به من أول الأمر لازدادت محبته في القلوب، ولجعله بطلاً أو شهيداً، ويصبح موته وقوداً دافعاً لاستمرار دعوته، فلا بد من محاولة الاستمالة أولاً فقال: (أي بني!) يعني: يا ابني الصغير! وهذه اللغة ليست لغته التي يستعملها مع الناس، ولكنها محاولة الاستمالة ومحاولة الترغيب، فأنت ابني الصغير الذي أحبه جداً، والذي أشفق عليه جداً، والذي أعده للمنازل العالية، فالنداء بالبنوة أول محاولات الاستمالة والتلطف، فهو يقول له: أنت ابني وأنا الذي توليت تربيتك.
ثم يقول: (قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل) يريد أن يقول له: لا مانع عندي من استمرارك فيما تفعل بشرط أن تقول للناس: إن هذا سحر تعلمته في مدرسة الملك، وتحت إشرافه، وبرعايته وبتوجيهاته، والملك يقول له ذلك وهو على يقين من أن الغلام هو الذي قال لجليس الملك: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فربي وربك الله.
فهذه المحاولة الخبيثة من الملك إنما هي لطمس ضوء الدعوة ونورها إذا قبل أصحابها أن يلبسوا ثوب الباطل، ويعملوا تحت رايته، ويصبغوا دعوتهم بصبغة الملك وحاشيته، تلك الصبغة التي يسميها الملك وحاشيته الصبغة الشرعية.
(8/2)
واجب العلماء والدعاة في حفظ الدعوة من مخططات الطغاة
إن الدعوة إلى الله لا بد أن تتميز في سرها وعلانيتها، وفي جندها وقيادتها، وفي مبادئها وغاياتها، وفي وسائلها ومنهجها عن كل أحزاب الباطل، وهي لا بد أن ترفض هذا الطعم الخبيث، والشرف المخادع الذي يضعه لها أعداؤها حين يقولون للدعاة: إن أردتم أن تعملوا فلا مانع ما دام عملكم تحت توجيهات الملك وبأمره، وأن تضعوا شعاراته، وتدخلوا في أحزابه، وإن كنا نعلم أن دعوتكم مخالفة لهذا، وأنكم تدعون إلى الله لا إلى سحر الملك، ولكن هذا هو الثمن لاستمرار دعوتكم.
فما أخطر هذا المنهج الذي يمارسه المنافقون والكافرون في كل زمان لاحتواء الدعوة تحت سلطانهم، فهم لا يقبلون الوجود لهذه الدعوة إلا تحت راياتهم وتجمعاتهم، ومن خلال أحزابهم، وهم يعلمون جيداً أن هؤلاء الدعاة هم الدعاة، وأنهم لن يغيروا حقيقتهم، ولكنهم قبلوهم ضمن أحزاب الملك، وفي ثيابه، وتحت شعاراته؛ وذلك لعلمهم أن هذا في الحقيقة يدعم شرعية وجود الملك، ويجعل منكرهم هو المعروف الذي يتحاكم إليه، ويجعل قيادتهم الباطلة للمجتمع أمراًَ شرعياً عند أتباع الدعوة وليس فقط أمراً واقعاً يسعى الناس إلى تغييره، ويجعل شعاراتهم المفروضة في شرع الله حقاً، والباطل هو ما يخالفه والعياذ بالله، ويجعل هذه الشعارات الباطلة مرادفة لشعارات الإيمان والتوحيد، وأن الدين هو حياة الناس كلها لا يفصل عنها ولا عن جزء من أجزائها، كما أنه هو في آخرتهم عند الله هو الأصل في كل شيء.
وكذلك أن الولاء لله والحب فيه ولأجله، وأن الرابطة الدينية الإسلامية هي رابطة المجتمع لا مجرد وحدة الوطن أو القوم أو القبيلة، وأن الإسلام وحده هو الحق، وأن ما سواه من الملل باطل وكفر وعذاب في الدنيا والآخرة.
فهذه الشعارات إذا وضعت بجوار شعارات الباطل بدلاً من رايات الحق فلن تكون هناك دعوة إلى الله عز وجل، وهذه المعاني التي ذكرنا من معاني الإيمان والتوحيد لا تقوم الدعوة بدونها، ولا تكون أبداً دعوة ربانية إذا فقدتها، وسوف تضمحل تماماً عند قبول هذا الاحتواء، وعند رضا أصحاب الدعوة بإعلان الشعارات الملكية السحرية، وأن يقبل الغلام أنه يعمل بسحر الملك، فإذا رضي ذلك ثمناً لسلامة الدعاة واستمرار عملهم فإن ذلك يؤدي إلى اضمحلال الدعوة بلا شك.
وما أخطر أن يكون الدعاة إلى الله هم الذين يقولون للناس: اختاروا قيادة هذا الملك وكونوا تحت طاعته حتى ولو قالوا لهم بعد ذلك أي شيء، فحين يعلمون أن دعوتهم تحولت إلى توطيد سلطان الملك بطريقة أو بأخرى، وحين يعملون لذلك تكون دعوتهم قد فقدت ربانيتها، وإن ظنوا أنهم يحققون لها السلامة والاستمرار، فلا بد للدعاة أن يعلموا أن استمرار دعوتهم بالله لا بالناس، وأن الله عز وجل خير حافظاً وهو أرحم الرحمين، وأن علينا أن نقولها واضحة كما قالها الغلام للملك رافضاً محاولة الاحتواء الخبيث: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى.
ولا بد أن نقول للباطل: لا نعمل تحت رايتك، ولا نرضى بثيابك، ولا نقبل قيادتك، ولا نعترف برياستك، وإن كان واقع الابتلاء يفرضها علينا فهو أمر كوني لا شرعي، والواجب علينا أن نلتزم بالشرع، ونفوض أمر الكون لله يفعل فيه ما يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وليعلم الدعاة أن دعوتهم تستمد شرعيتها ووجودها من إذن الله تعالى وأمره بالدعوة، لا من إذن الناس، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]، والدعاة والعلماء هم ورثة الأنبياء بما عندهم من العلم والعمل، ودعوتهم لا تحتاج إلى إذن من الطواغيت ولا إلى شرعيتهم المزعومة، فإنها شرعية الظلم والكفر والعدوان، وشرعة الغاب التي ابتدعوها، ثم هم لا يحترمونها ولا يرعونها حق رعايتها.
إن الولاء لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين والانتماء لدين الله دونما سواه أمر أساسي في الدعوة إلى الله، والبراءة من الشرك والمشركين من أوجب الواجبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1])) [الممتحنة:1].
وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فهذه المعاني كلها تفقد وتضيع أو تبهت وتضمحل في نفوس الأتباع إذا قبل أصحاب الدعوة القيادة الملكية، والسحر الملكي الذي يريد الملك أن يجعله شعاراً يعمل الغلام تحته، فإذا لم يكتفوا بالشرعية الإلهية والقيادة النبوية فإنها تضمحل معاني الولاء والبراء، ومن ثم تتحول الدعوة بعد جيل أو أجيال إلى صورة من صور الباطل، لكن أصحابها يحملون اسم الدين، ويتصورن أنفسهم دعاة الحق وحماة الإسلام، فليحذر دعاة الإسلام من شرك النفاق وهيئاته وأحزابه، ولنحافظ على صبغة دعوتنا الربانية: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138].
لقد رفض الغلام أن يسمى ما يفعله سحراً، وأبى إلا أن يجابه الملك؛ لأن دعوته هي دعوة التوحيد الخالص، فبمقولته العظيمة: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى) فشلت محاولة الاحتواء وإلباس الحق ملابس الجاهلية، فانكشف الملك على حقيقته، ولجأ إلى الأسلوب المعتاد من البطش والتنكيل، فمنذ لحظة كان الغلام ابنه الذي يتلطف معه، فإذا هو الآن يقع تحت أنواع التعذيب؛ ليعترف بإخوانه في هذا التنظيم السري الذي يجابه مملكة الملك، وليعترف بالذي أراد أن يقلب نظام الربوبية في هذا المجتمع، فالملك ليس رباً وإنما الله عز وجل هو الرب، ولنعلم أن الباطل لا يستحيي من تناقضه، فهذا الذي تراه في نعومة حديثه وإظهار مودته ومحبته للدعوة ومباركته لها سوف ينقض عليها هو شخصياً بأنواع التنكيل إذا ووجه بالمفارقة والمفاصلة.
وهذا الموقف لا يحتمل غير الوضوح والبيان، فعن الدعاة تؤخذ الحقيقة، ومن أفواههم وكلماتهم يعرف الناس الدين، فليحذر كل داع إلى الله أن يكذب على الله، وأن يدخل في دينه -وهو المتحدث باسمه- وفي دعوته ما ليس منه، بل هو من دين الشيطان وملة أتباعه.
(8/3)
عدم فقدان ولاية الله للدعاة بتسليط العدو عليهم، وحكم اعترافهم بإخوانهم عند الإكراه
لا يظنن أحد أن تسليط العدو على الدعاة بأنواع الأذى هو من فقدان ولاية الله، أو علامة سخطه، بل هذا الغلام ولي من أولياء الله تعالى بنص السنة، ومع ذلك سلط الله عليه عدوه حتى وصل التعذيب به إلى درجة أن اعترف بأستاذه ومعلمه الذي قال له يوماً: (فإن ابتليت فلا تدل عليّ)، لكن عجز الغلام وأكره على أن يخبر بمعلمه، وهو في ذلك معذور لا إثم عليه، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، وليس الاعتراف بإخوانه في الدين عند تعرضه لمثل هذا النوع من العذاب -وإن كان يعلم أنه يصيبهم الأذى- بداخل فيما لا يجوز عند الإكراه من أذية مسلم أو معصوم؛ فإن ما أجمع عليه العلماء من أن الإكراه لا يبيح قتل مسلم أو معصوم أو انتهاك حرمته كما نقله القرطبي وغيره إنما هو في مباشرة ذلك، لا في مجرد الإخبار عن حقيقة معتقد أخيه ودينه وعمله الذي قد يكون سبباً لقتله عند الكفار الظالمين.
ولنتأمل في حكمة الله عز وجل الذي استجاب دعوة الغلام في كل ما سبق، فقد كان الغلام مستجاب الدعوة في قتل الدابة، وفي شفاء الأمراض، ومع ذلك قدر الله عليه هذا البلاء دون أن يصرفه عنه، فإما أنه صرفه عن الدعاء أصلاً برفع هذا العذاب، فلم يجعل الغلام يدعو؛ ليتم الابتلاء، وترفع الدرجات، وتكفر السيئات، ويكمل التمحيص، ويعرف الناس القدوة الصالحة في الثبات على الدين، وليس في الإخبار عن الراهب نقص في الدين؛ لأن ذلك من الرخص كما ذكرنا، وإن كان الأفضل الصبر على العزيمة، أو إن الله عز وجل لم يستجب دعوة الغلام في الوقت عندما دعاه؛ حتى نعلم أنه ليس لأحد مع الله عز وجل في الأمر شيء، كما قال أفضل الخلق وخليل الله وسيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، عندما جرح في وجهه وكسرت رباعيته يوم أحد: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته! فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]).
وكما دعا على أقوام من المشركين بأعيانهم فلم يستجب له فيهم صلى الله عليه وسلم، وجعل من أدلة التوحيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، والذي يظهر من القصة أن الغلام صرف عن الدعاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر في الحديث أن الغلام دعا ولم يستجب له، وإنما ذلك كان -والله أعلى وأعلم- صرفاً له عن أن يدعو لتفريج الكرب في هذه اللحظة؛ لكي يظهر أثر الثبات على الدين، ولكي يستفيد الدعاة إلى الله عز وجل، وأيضاً لبيان أن تسلط العدو عليهم ليس معناه فقد الولاية من الله.
(8/4)
قصة قتل الملك للراهب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه).
فقد وصل جنود الملك إلى مصدر الدعوة والرأس المدبر لها، فكان لا بد من رجوعه عن الدين الجديد حتى يرجع من اتبعه عليه، ومنهم الغلام وجليس الملك، فأمر بالرجوع بلا مواربة ودون تلطف كالذي تم مع الغلام، ولماذا لم يستعمل معه نفس الأسلوب الذي استعمله مع الغلام؟ فلم يتلطف معه بأن يقول له مثلاً: أيها الشيخ الكبير ونحو ذلك، لا، فلم يكن هناك وقت لذلك؛ لأن هذا الرجل ليس بمشهور لدى الناس، فلن يكون هناك ضرر كبير لقتله في نفوس الناس، ولن يكون هناك نفس القدر من الإنكار لدى العامة لو أنه قتل الغلام مباشرة؛ ولذا كان الغلام آخر من حاول الملك قتله؛ لأنه يعلم أن قتله سوف يرد المجتمع إلى الدين الحق، وفي قتله خطر كبير؛ لأنه صار رمزاً للدعوة، فلو أنه قتله لارتج العامة مع حبهم له، لذلك كان الأسلوب المتدرج مع الغلام، بخلاف الراهب فكان دون مواربة؛ لأن مسئولية من يقف أمام الناس يتكلم باسم الدين أعظم من الذي علمه الدين سراً فيما بينه وبينه.
فقد قتل الملك الكافرُ الظالمُ الأستاذَ الأولَ لدعوة التوحيد في هذا المجتمع بأشنع قتلة، ولم يتحرك لذلك الناس قيد أنملة لنشر رجل بالمنشار حتى يسقط نصفين، بل وللرجل الثاني من جلسائه كذلك؛ هذا لأن دعوته لم تكن علانية، بل كانت لفرد واحد وفي السر، وربما هناك أفراد لم يذكروا في هذه القصة والله أعلم.
وكان قتل الراهب بهذه الطريقة المقصود به إرهاب وإرعاب الغلام؛ لعل الغلام يرجع عن موقفه أمام الناس علانية كما دعاهم إلى التوحيد علانية، فهذا خطر إن داهن أحد في الحق وتكلم بالباطل، أو كتم دعوة الحق، لماذا تحمل الإمام أحمد رحمه الله ما تحمل؟ لأن الناس كلهم نظروا إلى الإمام أحمد ماذا سيقول، فلو أنه لم يثبت على الحق عندما اشتد عليه التعذيب لضل الناس، ولكن الله عز وجل جعله إماماً في الحق.
ولنتأمل أيضاً في هذا الجزء من القصة في صبر الراهب العابد على هذه القتلة الفظيعة؛ وهي النشر بالمنشار حتى ينفصل إلى قطعتين، ومصداق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قال له أصحابه: (ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، رواه البخاري.
فإذا تذكرنا أن الراهب في بداية الأمر طلب من الغلام إن ابتلي ألا يدل عليه علمنا ما يلزم أن يكون عليه حال المؤمن الصادق، فلا يسأل الله البلاء ولا يتمنى وقوعه، بل يسأل الله العافية ويأخذ بأسباب العافية، فإذا نزل البلاء كان عند ذلك رجلاً صابراً محتسباً يهون عليه عذاب الدنيا، ولا يفرط أبداً في دينه، فإن قيل: ألم يكن يسع الراهب وهو يكره على الكفر بمثل هذه القتلة الفظيعة أن يأخذ بالرخصة، ويوافق ظاهراً على الرجوع عن الدين مع طمأنينة القلب بالإيمان؟ فالجواب من أحد وجهين: الأول: أن هذا الراهب أخذ بالأفضل وهو الأخذ بالعزيمة، وهذا لا نزاع فيه بين العلماء، كحال بلال عندما أكره أن ينطق بكلمة الكفر، فكان لا يجد كلمة أغيظ للكفار من: أحد أحد، فيزيدون في تعذيبه، وهانت عليه نفسه لله، فيزداد: أحد أحد، وأما عمار فأخذ بالرخصة، وبلال أفضل في هذا الموقف بلا نزاع، فالصبر على العزيمة في هذا المقام أفضل من الأخذ بالرخصة.
الثاني: أن الإكراه كان عذراً لأمة الإسلام دون الأمم السابقة، والله أعلى وأعلم.
والأول أظهر، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، مفهوم المخالفة فيه من مفهوم اللقب، ولا يلزم أن الأمم السابقة ليست كذلك.
(8/5)
قصة قتل الملك لجليسه
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه).
سبحان الله! ما أعظم الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، فهذا جليس الملك الرجل المترف المنعم من الطبقة الحاكمة، من طبقة الحاشية المقربة، ومعلوم كيف تعيش حياة اللهو واللعب، فكيف صبر جليس الملك هذا الصبر العظيم حفاظاً على دينه؟! فقد عاش الراهب عمره كله على هذا الدين، وليس بغريب أن يضحي بحياته في سبيل الدين، لكن هذا الرجل قضى أكثر عمره في الكفر، ولم يدخل الإيمان في قلبه إلا قبل قليل، ومع ذلك فقد صبر مثل صبر الراهب، ولا عجب، وانظر إلى سحرة فرعون حتى دخل الإيمان في قلوبهم منذ لحظات فآمنوا برب هارون وموسى، وكانوا قبل لحظات غاية رغبتهم: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، وغاية ما يرغبون فيه: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، فسجدوا لله عز وجل حين رأوا الآية وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، فإذا بـ فرعون يتهدد ويتوعد بالصلب وتقطيع الأيدي والأرجل، وبالقتل أبشع أنواع القتل والتعذيب {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
فكانوا في أول النهار سحرة كما قال ابن عباس وفي آخر النهار شهداء بررة.
فهكذا ذهب الراهب وجليس الملك شهيدين في سبيل الله صبراً على التمسك بالدين، فأعطاهما الله الحياة الأبدية عنده سبحانه وتعالى، فسحرة فرعون وهذان الرجلان ضحوا بحياتهم فأعطوا حياة أكمل وأتم، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش).
(8/6)
قصة قتل الملك للغلام
(8/7)
الوسيلة الأولى: محاولة إسقاطه من ذروة الجبل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى).
لقد كان الملك حريصاً أعظم الحرص على أن يرجع هذا الغلام عن الدين، وكان ذلك أكثر من حرصه على رجوع الراهب أو جليسه؛ لأن الغلام هو الذي أظهر الدعوة، وارتباط الدعوة به عند الناس أظهر وأوضح، والناس كلها تنظر إليه ماذا يصنع، ورجوعه عن دينه رجوع لكل أتباعه ومحبيه، فلم يقتله بالطريقة التي قَتل بها صاحبيه: الراهب والجليس، وإنما اتخذ طريقة فيها تطويل لزمن الاستعداد للقتل، لعل ذلك أن يكون دافعاً له في إعادة التفكير، فطوّل عليه مدة الإرهاب والتخويف بالصعود إلى الجبل لعله يرجع عن الدين، فكونهم يصعدون به الجبل حتى يبلغ الذروة فهذا بلا شك ضغط نفسي طويل الأمد، لكن هيهات، إن النفس المطمئنة بالإيمان لا تعبأ بمثل ذلك، والقلب العامر بذكر الله لا يخاف من أحد غير الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فالغلام مع ضعف قوته، وكثرة عدد عدوه وقوتهم قد فوض أمره إلى الله، ودعا بهذا الدعاء العظيم: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فكم جرب هذا الدعاء الصالحون فكفاهم الله أمر عدوهم، وتأمل طمأنينته وسكونه وحسن توكله على الله، وتضرعه إليه، وتفكر كيف لم يشغل نفسه بكيف ومتى وبأي وسيلة يكون الإنقاذ والنجاة! ولم يقل: يا رب! أهلكهم الآن! يا رب ابتليهم بصاعقة من عندك! يا رب ابتليهم بزلزال من تحت أرجلهم! يا رب ابتليهم بكذا وكذا من الأمراض! وشل أيديهم! ودمر إرادتهم وافعل كذا وكذا، لا، بل قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فهكذا فوض أمره إلى الله، وهكذا يكون حسن الظن بالله والثقة به، فيشمل ذلك صدق التوكل عليه، واللجوء إليه، فتأتي النتائج على خير مما يرجو المرء، وفوق ما يرجوه، كفاه الله سبحانه وتعالى.
ولنتدبر كيف جعل الله هلاك أصحاب الملك من جنس عملهم الذي أرادوا بالغلام المؤمن، فأرادوا إسقاطه من الجبل فأسقطهم الله، فهلكوا حين حدث زلزال في الجبل، ولحظة الزلزلة يظهر فيها العجز البشري تماماً، ويظهر أن ملوك الأرض ورؤساءها ليسوا بملوك لها ولا برؤساء، وإنما هم عبيد ضعفاء ترتعد فرائصهم خوفاً، ويجرون هلعاً، فعندما يقع الزلزال ترى كل الناس يجرون لا يستطيعون البقاء، وليس هناك فرق في هذا بين كبير ولا صغير، ولا بين ملك ولا مملوك، فالكل لا يحتمل لحظة أن يكون الملك فيها لله ظاهراً كيوم القيامة، وإن كان الملك لله في كل لحظة، لكن أكثر الخلق في غفلة عن ذلك.
فعندما رجف الجبل قدر الله هلاك أصحاب الملك ونجاة الغلام، فهل وجد الغلام هذه الفرصة لكي يهرب ويتخلص من جبروت الملك وطغيانه وقد كفاه ما دبره له؟ ليس هذا سلوك الداعية الحريص على هداية الخلق، فكم بقي في أرجاء المملكة من لم تبلغه دعوة الحق، أو لم ير دلائل صدق أصحابها؛ فمن أجل ذلك رجع الغلام يمشي إلى الملك، ولك أن تتصور كم كانت دهشة الملك وهو يرى الغلام الصغير حياً يمشي إليه، وقد ذهب الأصحاب من الجنود الأشداء الأوفياء لملكهم، ذهبوا إلى غير رحمة، فيسأل الغلام متعجباً: (ما فعل أصحابك؟) فيقول الغلام الذي لا يعبأ كثيراً بالوسائل والكيفيات: كفانيهم الله تعالى.
فلم يقل له: إنهم أرادوا إسقاطي فسقطوا، فهذه أمور صغيرة لم يخبره بما جرى، ولم يجعل ما حدث من كرامة جديدة مادة للحديث حوله، بل جابه الملك بما يقض مضجعه ويغيظه، ألا وهو ذكر الله، فهذا الغلام الذي قال له: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى) قال له مرة ثانية: (كفانيهم الله تعالى)، فقد جاءه بما يقض مضجعه، ويزلزل ادعاءه بالربوبية، بأن الله ربه وإلهه قد كفاه إياهم؛ ليكون ذلك مزيداً من الحجة على ذلك الملك المغرور المتكبر، الذي لو عقل وفكر وتدبر ما حدث لعلم أن الغلام محفوظ منه، وأنه لا سبيل له إليه، ولعلم حقيقة عجزه، فيجعله ذلك يتوب إلى ربه، لكن القلب إذا عمي وطبع عليه فما تغني النذر: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97].
فسبحان الله! إن الملك بالفعل عاجز تماماً، فهو عاجز في العلم، وعاجز في القدرة؛ لأنه لا يدري ما فعل أصحابه، قال: ما فعل أصحابك؟ يعني: أين ذهبوا، فهو لا يدري، وهذا نفي للربوبية، ثم إنه عجز عن تنفيذ المخطط المراد من قتل الغلام بالإلقاء من فوق الجبل.
(8/8)
الوسيلة الثانية: محاولة إغراقه في البحر
فكر المغرور في حيلة أخرى، وكأنه ظن أن ملك الله رب الغلام لا يكون إلا في الأرض اليابسة، ففكر في قتله البحر، قال: (فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -سفينة- فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ورجع يمشي إلى الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى).
فبنفس الوسيلة في محاولة إرجاع الغلام عن دينه بتطويل مدة الاستعداد للقتل، فتوسطوا البحر مع استمرار التهديد بأن يقذف في وسط الأمواج التي لا يمكن لأحد أن ينجو منها في ظنهم، ونرى هنا نفس الطمأنينة والسكون والتضرع إلى الله وحده لا شريك له، وحسن الظن به، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، قال الغلام: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فتنقلب السفينة، ولحظات الغرق والضر في البحر يظهر فيها أيضاً العجز البشري كاملاً، يظهر فقر الإنسان وحاجته وضعفه، كما قال عز وجل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، فكم هو عاجز وضعيف هذا الإنسان، ففي لحظات الضر في البحر لا سلطان للبشر، ولا أوامر للملوك، ولا قوة للرؤساء، فيغرق الله عز وجل من شاء، وينجي برحمته سبحانه وتعالى من شاء، فغرقت سفينة أصحاب الملك، وغرقوا جميعاً، والجزاء من جنس العمل، فأرادوا أن يغرقوا الغلام فغرقوا، ونجى الله الغلام، والحمد لله رب العالمين.
فرجع الغلام يمشي إلى الملك استكمالاً لدعوته، فازدادت دهشة ذلك الجاهل الغبي الذي لا يبصر أوضح الحقائق، فيسأله: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى.
(8/9)
الوسيلة الثالثة: إرشاد الغلام للملك على طريقة قتله إياه
قال صلى الله عليه وسلم: (ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني).
لقد وصلت حيل ذلك الملك إلى طريق مسدود، وفشل في تحقيق أي غرضٍ من أغراضه، فلا الغلام رجع عن دينه، ولا استطاع قتله، ولا حتى تركه الغلام حراً في مملكته وهرب بنفسه ويترك الدعوة، بل عاد ليستمر فيها، فبدأت صورة الملك تهتز، وظهر بوضوح عجزه عن إيقاف السيل الجارف بدعوة الإيمان، ومع هذا فلا يزال العناد مسيطراً على فكره، فهو يريد الوصول إلى قتل الغلام بأي صورة، فيقول له الغلام: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به) وهذا الخبر من جملة كرامات الغلام، فإنه خبر عن استمرار عجز الملك في المستقبل عن قتله إلا بفعل ما يأمره به، وهذا نوع من الكشف والإلهام.
وتأمل قول الغلام للملك: (حتى تفعل ما آمرك به)، فالغلام هو الذي يأمر، والملك هو الذي يسأل عن تفاصيل الأمر ليطبقه، أي إهانة له أكثر من ذلك، وأي بطلان لدعوى الربوبية أوضح من ذلك، فهو عاجز لا يقدر، وجاهل لا يعلم، ومأمور بأمر غيره لا يستطيع أن يأمر، ولو أمر بطل أمره، ولو نفذ أمر الغلام لنفذ الأمر.
وليس الأمر للملك قطعاً، وإنما الأمر لرب الغلام، وقول الغلام للملك: (ثم تصلبني على جذع) ليظهر للجميع الظلم الواقع على الغلام بدون جريمة ارتكبها، إلا أن يقول: ربي الله، وهذا بالتأكيد من أسباب ميل الناس إليه، وتعاطفهم معه ومع دعوته، فقد فطر الله العباد على كراهية الظالم وعداوته، والميل إلى المظلوم ومناصرته، فإذا أضيف إلى ذلك أنهم يعلمون عن المظلوم حبه الخير للناس، وحرصه على الإحسان إليهم، وجربوه من قبل في قضاء حوائجهم، وكونه كان دائماً مستشعراً لمشاكلهم، في حين غابت مشاكلهم عن الملك وحاشيته، بداية من الدابة التي قتلها الغلام، وانتهاء بأمراضهم المستعصية التي كان لا يستطيع أحد مداواتها، بل ولا يلتفت الملك ولا حاشيته إلى محاولة مداواتها، فلا شك أن هذه الأمور مجتمعة تجعل هذا الجمع كله يعلم الظلم الواقع على الغلام، فعندما يتساءلون: ما جريمته؟ ولماذا صلب على الجذع؟ فسوف يقال: لا شيء إلا أنه يقول: ربي الله.
فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله حريصين على ألا يكون لهم تهمة؛ إلا أن يقولوا: ربنا الله، مع إحسانهم إلى الناس، وعليهم ألا يحزنوا من الظلم الواقع عليهم، فقد قدره الله لحكم عظيمة، منها: انتشار دينه، وقبول الناس له، كما أن الظلم سرعان ما يزول فيكون لهم الأجر الجزيل عند ربهم وإلههم.
وقول الغلام للملك: (ثم خذ سهماً من كنانتي) فيه مزيد من إظهار عجز الملك، وأنه ليس بيده الأمر، فلو أخذ الملك سهماً من كنانته لما استطاع أن يقتل الغلام حتى يأخذه من كنانة الغلام؛ ليعلم الناس أن الأمر أمر رب الغلام، وأن قتل الغلام كان بإرادة الله لا بإرادة الملك.
وفي أمره أن يقول: (باسم الله رب الغلام) إعلان بالعجز التام، والافتقار القهري الاضطراري إلى الله سبحانه، وهو افتقار لا ينفعه ولا يثاب عليه؛ لأن المطلوب شرعاً هو الافتقار والعبودية الاختيارية لا الاضطرارية، وفي نطق الملك أمام الجموع: باسم الله رب الغلام، أثر عظيم في وصول الدعوة إلى من رأى ومن لم ير، وإنما سمع، فمن رأى ازداد يقيناً بقدرة الله رب الغلام وعظمته ووحدانيته.
فإن قيل: كيف أرشد الغلام الملك إلى طريقة قتله وتركه يقتله مع قدرته على الفرار، مع أن الإرشاد إلى قتل مسلم أمر يكرهه الله ويحرمه؟
و
الجواب
أن هذا يظهر لنا قضية فقه الدعوة بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فقتل الداعي إلى الله مفسدة كبرى بلا شك، ولكن مصلحة وصول دعوة الحق إلى الناس ورؤيتهم أدلة صدقها مصلحة أرجح وأكبر من مفسدة قتل الداعي، وهذا الغلام لم يكن عليه أن يؤمن الناس، ولا بيده ولا بيد غيره دون الله القدرة على أن يؤمنوا، فإنما ذلك لله وحده، لكن الواجب أن يوصلوا دعوة الحق للناس، فمصلحة الدين مقدمة على مصلحة النفس، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، فمن أجل ذلك جاز للغلام أن يدل الملك على طريقة قتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه القصة: فيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل ظهور الدين؛ ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به من أجل مصلحة الجهاد، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره، كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك أولى.
والله أعلى وأعلم.
فإن قيل: ألم يكن الغلام يعلم أنه من المحتمل أن يقتل الملكُ الناسَ لو آمنوا، بل يغلب على ظنه ذلك، وهو يعلم عجز الناس عن الدفع عن أنفسهم، فهو بالتالي قد ألزمهم الصبر على القتل؟
و
الجواب
أن الموازنة هنا بين البقاء على الكفر مع الحياة، أو الدخول في الإسلام مع القتل، ولا شك أن الدين مقدم على النفس، فإذا علمنا أن كافراً لو أسلم قتله أهله وقومه حتماً لم يجز أن نترك دعوته إلى الإيمان؛ لئلا يقتل، بل يلزم أن ندعوه إلى الإيمان ويلزمه الدخول في الدين ولو قتل، وإن كان يمكنه أن يكتم إيمانه حفاظاً على نفسه جاز له ذلك ولم يلزم الإعلان، وأما في قصتنا هنا فالأمر يختلف، فالناس لم يؤمنوا كلهم بعد، فلو تركوا لبقوا على الكفر، ولو أسلموا غلب الظن على قتلهم، ولا توجد فرصة لتعليمهم الدين جميعاً مع أمرهم بالكتمان كما فعل الراهب، فليس هناك مخالفة لما ذكرنا، لذلك نقول: إن مصلحة الدين مقدمة في هذه الحالة، وليصبروا على ذلك.
(8/10)
نتيجة قتل الملك للغلام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا بالله برب الغلام).
في غباء منقطع النظير، وحقد أعمى وعناد على الباطل، ربما لا يشبهه إلا غباء فرعون وحقده وعناده عندما اقتحم البحر الذي انفلق لموسى صلى الله عليه وسلم أمامه، فعل الملك ما أمره به الغلام، وحدث ما أراد الغلام، ظهر الحق عالياً بقوة الحجة والبيان، وبكرامة الله لأوليائه الصالحين، ومالت القلوب إلى فطرتها الأولى لتوحيد الله والكفر بالطاغوت، فآمن الناس بالله رب الغلام.
فذهب الغلام شهيداً، وليس بأول الشهداء ولا بآخرهم، فهو حي عند الله عز وجل، وحييت دعوته دعوة الحق والإيمان في قلوب الناس، وتحول الشعب الجاهل المنقاد بالباطل الذي قبله لمدة سنين طويلة إلى الإيمان بالله وحده، وما أعظم شرف الغلام ومكانته حين يعرف الناس ربهم وإلههم به، فيقولون: آمنا بالله رب الغلام، هو رب العالمين سبحانه، وذكروا هنا: رب الغلام؛ شرفاً لهذا الغلام، وكفى به شرفاً، كما قال سبحانه وتعالى عن قول السحرة: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، تشريفاً لموسى وهارون، فشرف عظيم لهذا الغلام أن يقال: آمنا بالله رب الغلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فأمة كاملة آمنت بسبب غلام، فيا لفرحة أستاذه ومربيه ذلك الراهب العابد الموحد الذي لقي الله قبله، ولم ير في حياته على الأرض ثمرة دعوته، فقد مات الراهب قبل أن يؤمن أحد إلا الغلام وجليس الملك وآحاد، ولم تكن البذرة التي زرعها قد أثمرت بعد، ومات قبل أن يرى الثمرة، يا لفرحته عند لقاء الله، وقد كان سبباً في إيمان أمة، فلا تيئسوا أيها المربون أبناءكم في الدعوة، فقادة الدعوة في المستقبل القريب ودعاتها وعلماؤها ومجاهدوها هم الآن أطفال وغلمان بين أيديكم، فعسى الله أن يجعل الفرج على يد أحد منهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد والله آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت - حفرت -، وأضرم فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها - يعني: ترددت أن تقع في النار وهمت أن ترجع عن دينها- فقال لها الغلام - ابنها الصبي الصغير -: يا أمه! اصبري فإنك على الحق).
أي: رغم كل الآيات التي رآها الجميع لا يزال الطغيان يجد له أعواناً ينفذون له أوامره الكفرية، ولا يزال هناك من يرى الحق أوضح من شمس النهار، ثم يتجسس للملك ويخبره بأخبار الناس، وهو يعلم أنه إنما يحذر من الإيمان، وأن المشكلة من بدايتها كانت محاولة الصد عن سبيل الله: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك.
إذاً: فماذا كان يحذر منذ أن علم قصة جليس الملك؟ كان يحذر أن يؤمن الناس، وأن يعلموا ذلك، فعلموا ذلك ورأوا الآيات، لكن سبحان الله الذي طمس على القلوب إلى هذه الدرجة، ليس فقط قلب الملك، بل قلوب الحاشية والعوام الذين يرفعون التقارير إلى الملك عن انتشار الدين الحق في المملكة وفيها: لا بد من التصرف، أي: ليس إلا مزيداً من البطش والإجرام، وهو يتفنن في طرق التعذيب والقتل، وله فيه خبرة سابقة وتجربة ماضية، فيأمر بالأخاديد تحفر في أفواه الطرق، ويأمر بقتل المؤمنين لإيمانهم حرقاً بالنار طالما أبوا الردة والرجوع عن الإسلام، فوالله إن المرء ليتعجب من وجود الأعوان والجنود الذين ينفذون مثل هذه الأوامر، وهذا مثل فرعون حين وجد من يقتل له السحرة، ومن يقتحم خلفه البحر، وكما نجد في كل زمان مع ظهور الباطل وبطلانه للناس كافة، وظهور كذبه وظلمه ونفاقه وكفره، وظهور غشه للناس، وإتعابه لهم، وأنه إنما يريد الصد عن سبيل الله ويحذر من الإيمان والتوحيد أن ينتشر في الناس، ومع ذلك نجد له الجنود والأشياع؛ لنعلم أنه من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وأنه من يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون.
ولنتأمل كيف قبل الناس الوقوع في النار وصبروا هم وأطفالهم ونساؤهم؛ لأنه قد تمكن الإيمان من قلوبهم، فأصبح إلقاؤهم في النار أحب إليهم من أن يرجعوا إلى الكفر، إنها حلاوة الإيمان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث دليل على أن المسلم لو خير بين أن يقتل ويقتل صبيانه معه على التوحيد، وبين أن يؤخذوا منه فينشئوا على الكفر، لكان الخيار الذي يلزمه هو أن يقتل هو وصبيانه؛ لأن الدين مقدم على النفس كما بينا، ولا يرضى بكفر أولاده الصغار ولو كانوا دون البلوغ ودون التكليف.
وفي قول الصبي الصغير لأمه: (يا أمه! اصبري؛ فإنك على الحق) بيان الفطرة السليمة التي فطر الله العباد عليها، ومنها: الصبر على الحق إلى لقاء الله سبحانه، والله أعلم هل كان هذا الصبي في مهده؟ فهذا الذي يظهر كما في بعض الروايات: أنه كان صبياً في المهد حين تكلم، وهذا هو الصحيح الظاهر.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، وذكر سياقاً آخر مختصراً وفيه: وخد أخدوداً من نار، وقال لهم الجبار وأوقفهم عليها: اختاروا هذه أو الذي نحن فيه، فقالوا: هذه أحب إلينا، وفيهم نساء وذرية، ففزعت الذرية، فقال لهم آباؤهم: لا نار من بعد اليوم، ووقعوا فيها، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حرها، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين فأحرقهم الله بها، ففي ذلك أنزل الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4].
ويشهد لهذا المعنى ما ذكرنا من الحديث: (إنه لا يجد الشهيد من ألم الموت إلا قرصة كقرصة النملة).
نسأل الله أن يحيينا على الدين، وأن يميتنا عليه، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(8/11)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [1]
ذكر الله في القرآن الكريم أحسن القصص وأجملها، حتى تكون شمعة مضيئة يهتدي بها أصحاب الحق، ومن هذه القصص: قصة أهل الكهف، الذين رأوا قومهم في ضلال وجهالة، يعبدون الأصنام ويكفرون بالله الواحد الديان، فعلموا بأن ذلك ظاهر البطلان، فاعتزلوهم وما يعبدون من دون الله، فكانت هذه بداية طريق الهداية والإيمان، فزادهم الله هدىً وحفظهم، ورعاهم من أن يعتدي عليهم قومهم، فصاروا قدوة وأسوة للمؤمنين في كل زمان ومكان.
(9/1)
وقفات مع قصة أصحاب الكهف
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: سنتناول اليوم قصة جديدة من قصص القرآن الكريم، وهي قصة أصحاب الكهف الفتية المؤمنين الذين ثبتوا على دينهم، ونجاهم الله سبحانه وتعالى ممن أراد ظلمهم، فكانت هذه القصة فيها العبرة، والأسوة الحسنة لعباد الله المؤمنين في الصبر والثبات على الدين، وبيان العاقبة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين المتقين، وأنه سبحانه وتعالى يهلك الظالمين، وأن انتصروا في وقت من الأوقات، وأوهمتهم شياطينهم وأنفسهم بأن لهم الملك والسلطان في الأرض يفعلون فيها ما يشاءون.
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:9 - 26].
(9/2)
معنى الكهف والرقيم
قال ابن كثير رحمه الله في قول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]: هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطه بعد ذلك.
فقال: (أم حسبت) يعني: يا محمد! {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] أي: ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى -وأنه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شيء- أعجب من أخبار أصحاب الكهف، كما قال ابن جريج عن مجاهد {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك، وقال العوفي عن ابن عباس {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، ذلك أن هناك ما هو أعجب، فشأنهم عجيب ولكن هناك ما هو أعجب منه، وهو ما جعل الله عز وجل من دلائل قدرته والمعجزات التي آتاها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما علمه من العلم.
أما الكهف: فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: وادٍ قريب من أيلة، وأيلة في بيت المقدس، وكذا قال عطية العوفي وقتادة، وقال الضحاك: أما الكهف: فهو غار الوادي، والرقيم: اسم الوادي، وقال مجاهد: الرقيم: كتاب بنيانهم يعني: الكتاب الذي كتب على بنيانهم، وجعلت فيه أسماؤهم، وكتبت فيه قصتهم، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم، وقول مجاهد هذا هو أقرب إلى ظاهر اللغة؛ لأن الرقيم بمعنى المرقوم، مثل قتيل بمعنى: مقتول، فهو رقيم رقم، والرقم: هو النقش أو الكتابة، كل ذلك يسمى رقماً، فهو الكتاب الذي كتبت فيه قصة هؤلاء وأسماؤهم، وجعلوه على باب كهفهم والله أعلم.
وروى عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله (الرقيم) قال: كان يزعم كعب أنها القرية، وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم: الجبل الذي فيه الكهف، وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس.
وعن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف: بنجلوس، واسم الكهف: حيزم، والكلب: حمران.
وهذا يعطينا فكرة عما ينشغل به أهل الكتاب، وما ينقل عنهم: ما اسم الكلب؟ ما لونه؟ ما اسم الكهف؟ ما اسم الوادي؟ والقرآن كما نعلم لم يذكر لنا شيئاً من ذلك؛ لأن المقصود: هو العظة والعبرة، وهذا قد ذكرناه مرات في الفرق بين قصص القرآن، وما يذكر الله عز وجل فيه، وبين قصص أهل الكتاب من الاهتمام بالأسماء، وألوان الحيوانات، وأنواع الأشجار؛ لتثبيت القصة في أذهان الناس والاهتمام بهذه التفاصيل؛ لأن الناس الذين يسمعونها يريدون أن يتسلوا بذكر هذه التفاصيل، وأما القرآن فلن يشغلنا بذلك والله أعلى وأعلم.
ولذا قال ابن عباس: يزعم كعب، وكان يزعم كعب أنها القرية، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حناناً، والأواه، والرقيم، فوقف ابن عباس رضي الله عنه في هذه الرواية، وإسنادها صحيح.
وعن عكرمة قال: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب أم بنيان؟ وعن ابن عباس قال: الرقيم: الكتاب.
وهذه الرواية صرح فيها بما شك فيه في الروايات التي قبلها أنه كتاب أم بينان، وهذه أقرب إلى الظاهر والله أعلم، كأنه كان متوقفاً لا يعلم ثم إنه جزم بعد ذلك، ولذلك جزم مجاهد بهذا القول فهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنه قال: كتاب بنياتهم، وكأنه جمع بين ما شك فيه ابن عباس أنه كتاب أم بنيان؟ فقال: الكتاب الذي وضع على البنيان الذي بنو عليه الناس بعد معرفتهم بالقصة.
وقال سعيد بن جبير: الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرقيم: الكتاب، ثم قرأ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9].
قال ابن كثير: وهذا هو الظاهر، وهو من الآية، وهو اختيار ابن جرير قال: الرقيم: فعيل، بمعنى: مرقوم؛ كما يقال للمقتول قتيل، وللمجروح جريح، فالمعنى: مرقوم أصحاب الكهف، والمرقوم: الكتاب المرقوم، والرقيم: الكتاب المرقوم، والله أعلم.
(9/3)
حتمية الصراع بين الحق والباطل
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:9 - 10]، يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا عنه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف:10]، أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10] أي: اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً)، وفي المسند من حديث بسر بن أرطأة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) قال تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة، ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ)) أي: من رقدتهم تلك وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)) أي: المختلفين فيهم ((أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا))، قيل: عدداً، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية كقوله: سبق الجواد إذا استولى على الأمد أي: إذا استولى على الغاية، ثم إن الذين اختلفوا فيهم إنما اختلفوا في مدة لبثهم فذلك يدل على أنهم تناظروا فيهم بغير علم، وأن الأمر كان يجب تفويضه إلى الله سبحانه وتعالى حتى بين الله عز وجل كم لبثوا في كهفهم، وفي هذه الآيات من سورة الكهف أنهم لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً.
فهذه مقدمة لهذه القصة حتى نرى أن قصة أصحاب الكهف والرقيم آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي آية من آيات الله المسموعة التي تدلنا على مآل ونهاية هذا الصراع الذي يجري دائماً بين الحق والباطل على ظهر هذه الأرض، ولم يزل هذا الصراع قائماً، ولا بد أن يستوعب أهل الإيمان ذلك، فلا يظنوا أن سوف يأتي عليهم زمن يستريحون فيه من مغالبة الباطل وأهله، أو أنهم يتوقفون عن العمل على إظهار الدين والدعوة إليه، ومحاربة الشرك وأهله، وذلك أنها سنة الله سبحانه وتعالى الماضية، وأن الله خلق البشر لذلك، فخلق الجن والإنس ليوجد منهم الكفار الذين يحاربهم ويصارعهم ويقاومهم أهل الإيمان؛ لتظهر أنواع من العبودية يحبها الله سبحانه وتعالى، فهي من آيات الله سبحانه وتعالى فيها القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة لعباد الله المؤمنين في صبرهم على دينهم، والقصة من القصص التي تبين بداية التسلط دائماً من الكفرة والظلمة والمجرمين، وكأن هذا عند التأمل هو الوضع أو الحال الأصلي الذي تستمر عليه قصص القرآن، وفي هذا البشارة لعباد الله المؤمنين بما يئول إليه أمرهم، وبما يحفظهم الله سبحانه وتعالى بآياته العجيبة التي إذا تأملها المتأمل علم عظيم سلطان الله سبحانه وتعالى وقدرته.
ولو تأمل المتأمل فيما يراه كل يوم من آيات الله في السموات والأرض لأيقن بعظمة الله وملكه للملك، وأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وأنه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب، وهذا لوحده دليل على أن ما يفعله في هذا الصراع الذي يجري في كل زمان بين المؤمنين والكافرين نهايته معلومة بإذن الله تبارك وتعالى.
(9/4)
وجوب الهجرة من أرض السوء فراراً بالدين
وهو سبحانه وتعالى يحفظ عباده المؤمنين بآيات من عنده عز وجل، قال تعالى: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ))، وكونهم أووا يدل على أنهم هربوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا وطنهم لله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر أمر عظيم الأهمية في حياة المؤمن، فعليه أن يعبد الله سبحانه وتعالى في أي مكانٍ في الأرض، وهذه هي وظيفته، فإن تيسر له ذلك في وطنه الذي نشأ فيه، وهيأ الله عز وجل له من أسباب التمكين ما يعبد الله عز وجل في مكانه الذي نشأ فيه فبها ونعمت، وإلا فأرض الله واسعة، والمهم تحقيق العبودية.
فلقد ضحى هؤلاء الفتية بوطنهم وأهاليهم، وضحوا بقرابتهم وبوضعهم الاجتماعي الذي كانوا فيه، كما عرف مما ذكره المفسرون: أنهم كانوا من أبناء كبار القوم، أو كان منهم على الأقل من كان كذلك، والله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بأن يقدموا حبه، وطاعته عز وجل على كل شيء؛ كما قال عز وجل {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فقضية العبودية هي أعظم قضيه يجب أن يحافظ عليها المؤمن، وإذا عجز عن تحقيق العبودية في أرض ما، ووجد سعة في الهجرة عنها، وجب عليه أن ينتقل إلى أرض الله، والمؤمن عبد الله يعبده عز وجل في أي مكان من الأرض تيسرت فيه هذه العبادة، ولذا هاجر إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم من أحب بلاد الله إلى الله وإليه إلى المدينة المنورة، وهي التي دعا الله أن يحببها إليهم كحبهم لمكة وأشد، وذلك لإقامة الدين، وهاجر موسى صلى الله عليه وسلم فراراً بدينه إلى مدين مدة من الزمن مع أنه ولد بمصر ونشأ بها، وهاجر بعد ذلك ببني إسرائيل بأمر الله سبحانه وتعالى ليقيم الجهاد، فأبى عليه بنو إسرائيل، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم انتقلوا من أرض هجرتهم من المدينة إلى الأمصار ليجاهدوا في سبيل الله، وليبلغوا دين الله.
والمقصود: تحقيق العبودية على أي صورةٍ، وعلى جميع أنواعها، فأوى الفتية إلى الكهف لأنهم عجزوا عن إقامة الدين في أرضهم، ومن عجز عن إقامة الدين في أرض ما وجب عليه أن يهاجر، وهذا الأمر أمر ثابت في كل زمان ومكان طالما وجد بهذه الصفة، فالهجرة لا تنقطع حتى يزول الكفر من الأرض، وذلك أن من ولد في أرض يظهر فيها الكفر، والضلال والعصيان، وقدر على الانتقال منها إلى أرض الإسلام التي يظهر فيها الحق، ويعبد فيها الرب سبحانه وتعالى، ففرضاً عليه ذلك، وكونهم أووا إلى الكهف يدل على أنهم كانوا يريدون مكاناً يؤويهم في بلدهم، وذلك فيه من التعزية لعباده المؤمنين إذا شعروا بالمطاردة، وإذا شعروا لكونهم غير مرغوب فيهم، وأنهم لا يجدون مكاناً يطمئنون فيه فقد سبقهم إلى ذلك هؤلاء الفتية، وصبروا على ما أصابهم في ذلك.
ولقد منَّ الله عز وجل على عباده المؤمنين، وذكرهم بنعمه عليهم في إيوائهم فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، ولا شك أنه لا يعرف قدر نعمة الإيواء إلى مكان آمن إلا من علم خطر الخوف الذي يصيب المؤمن في أرض هو فيها مستضعف، ومع كونه أمراً مؤلماً إلا أن الله سبحانه وتعالى يجعل فيه الثواب العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، وذلك دليل على فضيلة الصبر على هذا الخوف، وعلى ذلك الإيذاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر فضائله لنعلمها، وأنه أوذي في الله عز وجل وما يؤذى أحد؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أول ما أعلم بالدين هناك آذاه المشركون قبل أن يستجاب له من الضعفاء، فآذوهم أشد الإيذاء، وكذا قال: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، وما يُخوف أحد، وذلك دليل على فضل الصبر على ذلك، وأوى: تدلنا على أنهم خافوا، ولم يجدوا من يؤويهم إلى الله سبحانه وتعالى، فآواهم الله عز وجل إلى ذلك الكهف.
(9/5)
أهمية دور الشباب في نصرة هذا الدين
وقوله سبحانه وتعالى: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، فهم فتية شبان كما سيأتي بيانهم إن شاء الله قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13]: من ههنا شرع في بسط القصة وشرحها فذكر تعالى أنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً.
قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني: الحلق، حيث كانوا صبياناً أو شباباً في أول نشأتهم، وكان من عادتهم في ذلك الزمان أن صغار السن يجعلون الحلق في آذانهم كالنساء.
فيقول: فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم، فآمنوا بربهم أي: اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)).
الغرض المقصود من هذه الكلمة: أنهم فتية شباب، وهذا يدلنا على أهمية دور الشباب، وأن الشباب هم وقود هذه الدعوة، وليسوا يحترقون ليتقدم، وإنما يستضيئون بضوئها؛ لكي تستمر وهم يسيرون بها بإذن الله تبارك وتعالى، وهم المحركون دائماً للدعوة، والجهاد والبذل، والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثرهم شباباً، ويوم بعاث كان يوماً قدمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ذلك اليوم الذي اقتتل فيه الأوس والخزرج حتى فني أكثر شيوخ القبيلتين الذين ماتوا على الشرك والله تعالى أعلى وأعلم؛ لأنهم لو بقوا لكان الموقف نفس موقف مشايخ قريش، ومثل موقف من بقي من هؤلاء المشايخ؛ كـ عبد الله بن أبي بن سلول الذي صار رأساً للنفاق حقداً وحسداً؛ لأنه كان يريد أن يتوج، فصارت الرئاسة والإمامة في الأوس والخزرج للشباب الذين سرعان ما استجابوا بفضل الله سبحانه وتعالى لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين قاموا بواجب الدعوة إلى الله، وبواجب الجهاد، وهذا أمر ملحوظ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد رغب في من نشأ في عبادة الله شاباً وقال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله)، ففترة الشباب فترة عظيمة الخطر فإما الانحراف وإما الاهتداء، وزيادة الهدى من الله سبحانه وتعالى، وقبول الدعوة فيها عظيم، كما أن الانحراف فيها كذلك خطير، فلذلك لا بد من الاهتمام بالشباب، ولا بد أن يهتم الشباب بأنفسهم، ويعلموا القدوة الحسنة من الشباب، فاليوم ينبغي أن يكون هؤلاء الفتية هم قدوتهم، ومن كانوا على الإيمان مثلهم من أصحاب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال الله عز وجل عن موسى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، فما آمن من المسلمين في زمن موسى إلا ذرية قلة من الشباب الذين آمنوا من أهل مصر، فآمنوا بموسى صلى الله عليه وسلم على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، والذي يظهر أن عامة بني إسرائيل آمنوا، لكن هل الذين آمنوا من أهل مصر كانوا من الشباب؟ ولذلك نقول: يجب أن تكون الأسوة لشبابنا دائماً هم هؤلاء المؤمنون الذين ضحوا في سبيل الله سبحانه وتعالى، أما أن يكون الأسوة للشباب هم الفسقة والفجرة، وأصحاب المناصب والأموال، وأسوأ من ذلك المغنين والممثلين ولاعبي الكرة وغير ذلك فهذا مما تربأ به نفوس من هيأهم الله سبحانه وتعالى للمنازل العالية، فيربئوا بأنفسهم أن يرعوا مع الهمل والعياذ بالله! فأقبح شيء أن يكون هم الإنسان هذا الحطام الفاني، وأن تكون قدوته في الحياة من جمع هذا الحطام الفاني.
(9/6)
التضحية من أجل دين الله
والله عز وجل إنما ذكر وصف أهل الكهف بالفتية ليكونوا أسوة حسنة للشباب على الدوام في الثبات على دين الله، والقيام بالدعوة إلى الله، وإن خالفهم من خالفهم، قال الله عز وجل: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، تركوا القصور والبيوت المهيأة وأووا إلى الكهف الذي لم يتعودوا أن يعيشوا فيه، ومع ذلك رجوا في هذا الكهف الرحمة والرشد؛ لأن العادات والمساكن المرضية، والمطعم الهنيء، والملابس النظيفة، ومكان النوم المهيأ كل ذلك لا يأسر العبد المؤمن، فتحملوا أن يكونوا في كهف، وقد كانوا في قصور وبيوت مهيأة، وكانوا في مدينة، وربما تحتاج مرة أن تعيش في بيئة غير التي نشأت فيها، وفي مسكن غير الذي تعودت عليه، وفي فراش غير الذي تنام عليه لتعلم مدى الفرق بين أن يعيش الإنسان في بيت أو قصر وبين أن يبيت في كهف، ومع ذلك لم يعبئوا بذلك، ولم يكن ذلك همهم؛ لأنهم ملتفتون إلى ما هو أعظم، ما الذي يهون على الإنسان أن ينال طعاماً دون طعام، ولباساً دون لباس؟! كما قال الإمام أحمد: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام معدودة.
والدنيا هي أيام قليلة يمكن أن يكون للإنسان فيها طعام أقل من طعام غيره، ولباس أقل من لباس غيره؛ لكنه سوف يأخذ رزقه الذي قدره الله سبحانه وتعالى له، فما الذي يجعل الإنسان يقبل ذلك ولا يلتفت إليه؟ إنه اهتمامه بما هو أعظم وأخطر وهو أن ينال الرحمة والهداية والرشد من الله سبحانه وتعالى.
وأن يسعى في مرضات الله، وعندها يهون عليه أن يفارق القصور فضلاً عن البيوت الضيقة، وفضلاً عن الحال الذي هو في الحقيقة نوع من الضيق والكرب، والله سبحانه وتعالى إنما رغب المؤمنين في طلب الآخرة لكي لا تشغلهم الدنيا، وأما اليوم فإننا نجد أكثر الناس يقتتلون على البيوت الضيقة، ويقتتلون على المعيشة الضنكة، ويتحاسدون على أدنى أنواع اللذات والعياذ بالله! ووالله إن لذاتهم لا تساوي شيئاً عند أهل الشهوات والملذات، فإذا بالناس يحسد بعضهم بعضاً، ويقتتل بعضهم مع بعض، ويكيد بعضهم لبعض على أتفه الأمور، وإن كان أهل الأموال والدنيا هم الذين ساقوا الناس إلى هذه الغايات، وألهوهم بوسائل الإفساد عن التفكير فيما هو أهم وأعظم من أمر الآخرة، فهذا الذي دفع الناس إلا أن يتوبوا، وهم حريصون على ذلك الضنك لا يستطيعون التضحية بشيء منه على الإطلاق، فقد تكون المعيشة الضنكة من أسباب تضحيته، أما أن تجد إنساناً يعيش في ضيق وغم، وكرب وفقر، ومع ذلك لا يريد التضحية بشيء فهذا أمر عجيب! يعني: أنه يريد البقاء في المسكن الضيق الذي يعيش فيه، وإن انتقل إلى غيره لم يكن فرقاً بين مسكنٍ ضيق وبين كهف في جبل، ومع ذلك فالهمم الوضيعة هي التي جعلت الإنسان لا يريد التضحية بشيء ولا حول ولا قوة إلا بالله!
(9/7)
طلب الفتية الرحمة من الله والثبات على هذا الدين
هؤلاء الفتية ضحوا بمنازلهم المرفهة، وبوضعهم الذي كانوا فيه، وكانوا من أهل غنى كما سيذكر ابن كثير رحمه الله وغيره من المفسرين، فقد كانوا أهل سعة ومع ذلك صاروا إلى كهف، فليكن ذلك أيضاً أسوة الشباب إذا ضاق بهم أمر في سبيل الله، وإذا حصل لهم ما قد يضيق به كثير من الناس فلا بد من التحمل والصبر والاحتساب، والذي يعينك على ذلك أن ترجو الرحمة والرشد، وأن تدعو الله سبحانه وتعالى ألا يجعل الدنيا أكبر الهم، ومبلغ العلم، قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، فالرحمة من الله عز وجل لتطلب: ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهذه الرحمة بأن يستر عليهم ويحفظهم، وأن ينصرهم على قومهم الذين أرادوهم بالسوء وهم أرادوا الفرار بدينهم؛ ليثبتوا على ذلك الدين الذي هو أحب إليهم من كل شيء يريدون الثبات عليه، ولن يحصلوا على ذلك إلا برحمة من الله، فالله هو خالق أفعال العباد، ومقلب قلوبهم سبحانه وتعالى.
وكيف يثبت الإنسان على دينه والناس يطاردونه ويريدونه أن يتنازل عن شيء منه أو عنه كله؟ لن يثبت إلا برحمة من الله ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً))، وكما ذكرنا أن الرحمة المطلوبة في هذا الموضع: هي ستر الله عز وجل عليهم، ونجاتهم ممن يريدهم ليفتنهم عن دينهم، وليصرفهم عن هذا الدين، فأنت إذا ثبت على الدين كنت في رحمة من الله عز وجل، وتطلب منه المزيد: بأن يؤتيك الله عز وجل مزيداً من التوفيق والثبات: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا))، وذلك أن الإنسان عنده مواطن كثيرة تعتبر فرقاناً وفيصلاً في حياته يتخذ فيها قرارات، ويسير من خلالها يميناً أو شمالاً، فإما أن يستجيب لداعي الضلال الذي يطلب منه أن يبتعد عن طريق الالتزام، وإما أن يستجيب لداعي الرشاد فيتخذ طريق الحق طريقاً وسبيلاً، فهناك لحظات في تاريخ الإنسان لابد أن يستخرج فيها قراراً حازماً، إما أن يظل سائراً في طريق الالتزام، وإما أن ينحرف عنه ويبتعد، ويترك ذلك الدين؛ لأن الناس يطاردونه ويريدونه أن يترك هذا الدين، وهكذا كان هؤلاء الفتية، وفي يوم قرروا الانصراف من بلدهم والهجرة فراراً بالدين وثباتاً عليه، وإيثاراً لأمر الله سبحانه وتعالى وهم في ذلك يريدون أن يرشدهم الله، وماذا سيصنعون بعد ذلك؟! وإلى أين سيذهبون؟ فهم لا يعلمون، بل يطلبون من الله أن يهيئ لهم من أمرهم رشداًً، فإنما يريدون الثبات على الدين، ولا يأبهون بعملهم بعد ذلك، كما خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى طريق لا يعرفها، وإلى غاية لا يعلمها، فإنما يريد الفرار بدينه من الملأ الذين ائتمروا به ليقتلوه، فدعا ربه سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين، وقد كان، وهداه الله عز وجل سواء السبيل.
كذلك كان هؤلاء الفتية، فقد ثبتهم الله، وستر عن الظالمين حقيقتهم، وحفظهم سبحانه وتعالى، وثبتهم على الدين، وأرشدهم إلى ما صاروا إليه لقرارهم في ثباتهم على دينهم، وصاروا في هذه المنزلة الرفيعة حيث ذكرهم الله عز وجل في كتابه الذي يتلى إلى يوم القيامة، وصاروا ممدوحين للمؤمنين عبر العصور، يمدحهم المؤمنون ويحبونهم رغم أنهم لا يعرفون أسماءهم، ولا بلدهم، ولا زمانهم، ولا من النبي الذي كانوا يتبعون دينه، إنما هو دين الإسلام، لكن ما هو الزمان أو المكان الذي كانوا فيه يعبدون الله سبحانه وتعالى؟ لا يعلم ذلك، فجعل لهؤلاء الفتية هذا الشرف العظيم، وهيأ لهم من أمرهم رشداً كما سألوا ربهم سبحانه وتعالى، وهذا الدعاء من أعظم وأجمع الأدعية التي ينبغي أن يدعو بها كل مكروب مطارد أو كل خائف يريد أن يأوي إلى مكان يصبر فيه، ويثبت على دين الله سبحانه وتعالى، فاللهم ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
(9/8)
نوم أهل الكهف سنوات معدودة
قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، أي: ضرب الله على آذانهم بحيث صاروا لا يسمعون، وهذا من الآيات البينات المعجزات، فإن الإنسان وهو نائم -كما أثبتت ذلك الدراسات الحديثة، وكما هو ظاهر ممن ينظر إلى النائم- حواسه كلها غير مدركة، إلا حاسة السمع فهي أعظمها إدراكاً، فلو أنك حاولت أن توقظ النائم بأنواع من الحركات، والضوء الشديد وغير ذلك ما شعر شيئاً من هذا، فبصره مغلق، وحتى لو كان نائماً فأحياناً بعض النائمين يفتحون أعينهم، لكن البصر يكون في أعمق فترات السبات والسكون، وكذا الشم والذوق، فأعظم حاسة يمكن أن تحرك الإنسان النائم هي: السمع الذي يسمع به، لذلك إذا ضرب الله على أذنه فلا يمكن له أن يستيقظ إلا أن يوقظه الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، وقد أجملها هنا ثم بينها بعد ذلك، فأخبر أنهم لبثوا ثلاثمائة وتسعاً ثم بعثهم؛ لأن الموت أخ للنوم، وهي آية من آيات الله على البعث، وهذه القصة مما ذكره الله عز وجل في أدلة الإيمان بالبعث، ذلك أنهم ناموا نوماً مثل الموت هذه المدة الطويلة، وهذا من العجب إذ كيف بقيت الأبدان محفوظة؟! وبم تغذت؟ ولكن يمكن أن يعرف ذلك في الواقع المشهود، فكم من كائنات تستكين، وتنام نوماً طويلاً، ومع ذلك تستهلك أقل جزء من الطاقة في أثناء نومها، ثم تستيقظ بعد شهور، فقدر الله لهؤلاء بقدرته العظيمة سبحانه وتعالى أن يظلوا في نومهم أحياء نائمين مدة ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً؛ ليدلنا على قدرته على البعث والنشور، وكذلك ليُعلم علماً يحاسب العباد عليه ((أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا))، ليعلموا أنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، ولذا يجب عليهم أن يردوا الأمر إلى الله، وينسبوا العلم إليه سبحانه وتعالى، ففي قراءة (ليُعلم) والله أعلم.
لكن هنا (لنعلم) على قراءتنا: أي ليرى سبحانه وتعالى علم شهادة بعد أن علم ذلك غيباً، وإنما جعله آية للعباد ليعلموا أن الله عالم الغيب والشهادة، وأن يفوضوا ما يجهلونه في أي أمر من الأمور إلى الله سبحانه وتعالى.
(9/9)
هداية الله تعالى لفتية الكهف
قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
قال ابن كثير رحمه الله: إنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، أما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً.
قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني: الحلق التي في الآذان، فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم أي: اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى))، استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة ك البخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] وقال {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى بن مريم والله أعلم.
والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم.
وعن ابن عباس: أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية والله أعلم.
(9/10)
اعتزال الفتية عبادة قومهم وإعلان التوحيد لله عز وجل
قال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد، والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: دقيانوس، وكان يأمر الناس بعبادة الأصنام والطواغيت، ويحثهم عليه، ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم -أي: يخرج إلى البراز، وهي الأرض الواسعة- فكان أول من جلس منهم وحده شخص جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس إليها عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان عز وجل، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري معلقاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقولون: الجنسية علة الضم -يعني: قولهم من جنس واحد هو الذي أوجب أن ينضم بعضهم لبعض- والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره، فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يداً واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه؛ فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم؛ فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا))، و (لن) لنفي التأبيد أي: لا يقع منا هذا أبداً؛ لأننا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم: ((لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا))، أي: باطلاً وكذباً وبهتاناً ((هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ))، أي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا))، يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: ((وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ))، أي: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضاً بأبدانكم ((فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ))، أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ((وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)) الذي أنتم فيه ((مِرفَقًا))، أي: أمراً ترتفقون به.
فعند ذلك خرجوا فراراً إلى الكهف فأووا إليه؛ ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وطلبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق حين لجأا إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا؛ فقال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
فقصة غار ثور أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه؛ فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم، فأمر الملك بردم الباب عليهم ليهلكوا مكانهم، ففعلوا ذلك، وفي هذا نظر والله أعلم، فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرةً وعشياً، كما قال تعالى {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ((ذَاتَ الْيَمِينِ))، أي: يتقلص الفيء: وهو الظل يمنة، كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ((تزاور)) أي: تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال: ((وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ))، أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب، ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً، ولو كان من جهة المغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب فتعين ما ذكرناه ولله الحمد.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تقرضهم ذات الشمال تتركهم، وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من أي الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً، فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة، وقال ابن إسحاق: وهو عند نينوي وقيل: ببلاد الروم وقيل: ببلاد البلقاء، والله أعلم بأي بلاد الله هو، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به) فأعلمنا تعالى بصفته، ولم يعلمنا بمكانه فقال: ((وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ))، قال مالك عن زيد بن أسلم: تزاور: تميل عن كهفهم ((ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)) أي: في متسع منه داخلاً بحيث لا تصيبهم إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم، قاله ابن عباس ((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ))، حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم، ولهذا قال تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ))، ثم قال: ((مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ))، أي: هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له.
(9/11)
ضرر القصص الباطلة على الناس
ونلحظ في قوله عز وجل: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ))، أن الله سبحانه وتعالى قص علينا الحق من ذلك، والحق هو ما ينتفع الناس به وما وافق الصواب والواقع، فلم يذكر الله سبحانه وتعالى كما سمعنا من الإمام ابن كثير رحمه الله كثيراً من التفاصيل التي لا تفيد العباد في شأن قلوبهم وأعمالهم وسلوكهم أو تدبرهم، وهذا كما نعلم شأن القرآن في أكثر قصصه، لا يذكر تفاصيل الأمكنة والأزمنة وأسماء الأشخاص والبلاد في معظم هذه القصص إلا ما كان له به حاجة، وهو بالحق لأنه موافق لما وقع وجرى دون زيادة ولا نقصان، والله سبحانه وتعالى جعل القصص الحق مما ينبغي أن ينشغل الناس به، وأما القصص الباطل فقد ذمه في سياق هذه الآية قال تعالى: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ))، أي: فلا تشغل نفسك بغير الحق، واهتم بهذا الحق، ففي مفهوم هذه الآية الكريمة أمر بالاهتمام بقصص الحق، ونهي عن الاشتغال بقصص الباطل، وهذا أمر عظيم الأهمية في حال قلب العبد المؤمن، فإن انشغال الإنسان بالقصص الباطل يدمر الإيمان في القلب تدميراً، ويشغله عما ينبغي أن يعده لمستقبله الحقيقي، ولذلك كان من أعظم الأمور مفسدة ما يظنه كثير من الناس صالحاً من شغل الناس بالقصص الباطلة، وتأليف هذه الأقاصيص الكاذبة، وبعضهم قد يظن أنها ربما تصبغ صبغة دينية إسلامية، وتجعل فيها بعض المفاهيم، والحق أن هذا في الجملة من أعظم ما يؤدي إلى فساد العقول والقلوب؛ لأن القلوب تتعلق بهذا الباطل فيسهل تعلقها بكل باطل بعد ذلك، وأما إذا تعلقت بالقصص الحق فهنا يحدث لها تعلق بالحق كله، وذلك لأن الباطل يجر إلى مزيد من الباطل؛ لذلك نقول: أمراض النظر والقراءة والسماع لقصص الباطل أمراض عديدة تظهر في سلوك الإنسان ومعتقداته، ويبدأ ذلك معه منذُ صغره، ويمتد معه حتى يكبر، ولذلك نجد الكثيرين يهتمون بالباطل والمظاهر أمام الناس كما قد تعودوا ونشئوا على هذا، فكل الأمر عندهم تمثيل في تمثيل، وما ينبغي أن يسمى تمثيلاً هذا الذي يفعلونه، فالتمثيل ضرب المثال، أما هذا الذي يفعلونه فهو الكذب بعينه، ولا حقيقة له ولا أصل، وهو يضر أعظم الضرر، ولذا فالنصيحة الأكيدة لشباب المسلمين ورجالهم ونسائهم أن يتجنبوا القصص الباطلة، ويكتفوا بقصص الحق قصص القرآن العظيم، فإن قصص الباطل تؤدي إلى تعلق القلب على الدوام به والعياذ بالله، فيظل دائماً على تلك الحال يعيش حياته بالباطل، وهو يستحضر ما قد رآه وسمعه، وعاش فيه قبل ذلك في صغره وكبره، فلا شك أن إغلاق هذا الباب واجب، سواء كانت قراءة كالألغاز والروايات المختلفة، أو سماعاً من وسائل المذياع والمسلسلات وغيرها، أو نظراً ورؤية كالأفلام والمسرحيات والتمثيليات، فإنها كلها تؤدي إلى أعظم الأضرار على القلب، وأما سماع القصص الحق واستحضارها في القلب وتدبرها فهو يزيد الإيمان أيما زيادة، قال تعالى: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى))، وكما سمعنا، فقد استدل العلماء بهذه الآية الكريمة على زيادة الإيمان، فالله عز وجل يتفضل أولاً على عباده لتوفيقهم للإيمان، ثم يمن عليهم ثانياً إذا آمنوا بزيادتهم هدىً وإيماناً، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق في قلوب عباده الهدى والإيمان.
وهذه الآية تدل على خلق أفعال العباد، فالله عز وجل هو الذي يخلق في قلوب من شاء الهدى، ويخلق في قلوب من شاء الضلال، وهو سبحانه يزيد إيمان من شاء بعدله ورحمته وحكمته سبحانه وتعالى، وهو عز وجل الذي ينزع الإيمان ويزيغ القلوب عدلاً منه وحكمة، كما قال عز وجل: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
(9/12)
زيادة الإيمان ونقصانه
والإيمان يزيد وينقص قولاً وعملاً عند أهل السنة والجماعة باتفاقهم على ذلك، وهذا هو الأصل الذي يرد به على الخورج والمرجئة، وفي نفس الوقت الخوارج والمعتزلة من جانب والمرجئة من جانب آخر، وذلك أن الفئتين أصل ضلالهم: إنكار زيادة الإيمان ونقصانه، فإنهم يرونه شيئاً واحداً إذا ذهب جزؤه ذهب كله، فقالت الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال من الإيمان، وإذا ذهب بعض العمل ذهب الإيمان كله، فكفر الخوارج مرتكب الكبيرة، وتارك الواجب، وقالت المعتزلة: إنه فاسق في منزلة بين المنزلتين مخلد في النار، والعياذ بالله من هذا الاعتقاد، ولما رأى المرجئة أنه لا يمكن أن يقولوا ببقاء جزء من الإيمان وزوال جزء لعدم قولهم بزيادته ونقصانه، ورأوا الأدلة على مرتكب المعاصي والكبائر لا تخرجهم من الملة قالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ ولذلك يبقى الإيمان كاملاً كإيمان جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم ولو ارتكب كل المنكرات، فأتوا بهذا الضلال المبين وكلا الطائفتين في ضلال، ولو التزموا بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من القول بزيادة الإيمان ونقصانه لما قالوا هذا الضلال ولرجعوا عنه، والله سبحانه وتعالى صرح بالزيادة، وما احتمل الزيادة فهو يحتمل النقصان، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في النقصان (وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)، فوصف النساء بنقصان الدين، والإيمان من الدين، ولذلك فالمرأة أنقص ديناً، والأعمال من الإيمان بلا شك، لكن لا يلزم من تركها أو من فعل المخالفات المنهية عنها زوال الإيمان بالكلية، بل يزول الإيمان الواجب بترك العمل الواجب أو بفعل الشيء المحرم، ولكن يبقى أصل الإيمان فإنه لا يزول إلا بالكفر والشرك والعياذ بالله، فإنه لا يجامع أصل الدين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
فاقتران الإيمان بالشرك يحبط ذلك الإيمان كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فتبين بذلك أن الإيمان إذا زال بعضه لم يلزم زواله كله، بل يزول القدر الواجب منه بترك الواجب أو فعل المحرم، ويزول المستحب منه بترك المستحب، ويمكن أن ينفى الإيمان عمن ترك الواجبات فيقال: لا يؤمن من فعل كذا، وليس المقصود: أنه يكفر ويخرج من الملة أو لا يكون معه شيء من الإيمان بالكلية، لكن معناه: لا يؤمن الإيمان الكامل الواجب، أو لا يؤمن بكل الذي أوجبه الله عز وجل عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وقال: (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وهو الذي قال: (يدخل الجنة من قال: لا إله إلا الله وإن زنى وإن سرق)، فدلنا ذلك على أن نفي الإيمان ليس نفياً لأصله عن الزاني والسارق، بل نفياً لكماله الواجب، وأن الأعمال من الإيمان، حتى أتى المرجئة بهذه الفظيعة التي قالوها بأن الأعمال ليست من الإيمان، وأن الإيمان يكون كاملاً في القلب مع وجود المنكرات والكبائر، وترك الواجبات حتى الأركان منها كالصلاة والصيام والزكاة والحج، فيرون ذلك كله لا ينقص الإيمان ذرة والعياذ بالله! وهذه ضلال مبين وتكذيب صريح لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى بين في هذه الآية الكريمة سبب زيادة الإيمان، وهو أن يقبل الإنسان على الإيمان، فإذا أقبل الإنسان وآمن زاده الله هدىً وإيماناً، فأنت كلما تقربت إلى الله تقرب الله منك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وذلك مأخوذ من أن الله ذكر فعلهم أولاً منسوباً إليهم: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا)) ثم ذكر سبحانه وتعالى الزيادة منسوبة إلى فعله عز وجل: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) ولا يظن ظان أن ذلك الإيمان أولاً كان بلا إرادة من الله أو توفيق، كلا، وإنما ذلك كان بتوفيق الله عز وجل، فالله خالق كل شيء، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] قال سبحانه وتعالى: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
فالإيمان أولاً هداية من الله، ثم هناك هداية، فالعبد بين هدايتين من الله عز وجل، ولكن كما ذكرنا أنه سبحانه يدلنا على علاقة السببية بين زيادة الإيمان وبين أصله وما عليك إلا أن تقبل على الله فيقبل الله سبحانه وتعالى عليك، ويأتيك بأنواع فضله عز وجل، فهذا هو السر حيث ذكر الإيمان أولاً منسوباً إلى فعلهم (آمنوا بربهم) والزيادة إلى فعل الرب (وزدناهم هدى)، فأفعال الله سبحانه وتعالى مترتبة على ما يفعلونه، كما أن الكفار لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، ولما ردوا الحق قلب الله أفئدتهم وأبصارهم.
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]؛ لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة فجعلهم الله لا يرونه حقاً بعد ذلك، بل قلب أفئدتهم؛ حتى لا تراه حقاً، وأغلق قلوبهم بأقفال كما قال تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
وهكذا في كل المواضع، فقد أخبر أن الطبع والغل والختم كان بسبب الأعمال، ولا مانع أن يترتب فعل الرب على فعل العبد الذي هو أثر من آثار فعل الرب سبحانه وتعالى، فاهتداء العبد أولاً هو ثمرة وأثر ونتيجة لفعل الرب عز وجل به، وهو أن الله سبحانه هداه للإيمان أولاً، والفضل له عز وجل أولاً وآخراً، قال سبحانه: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)).
فإذا أردت أن تزداد هدى فأقبل على الله فسوف يثمر الله لك في قلبك مزيداً من الخير والإيمان، قال تعالى: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ))، فالله الذي يربط على القلوب ويقويها ويثبتها ويصبرها ويشجعها حتى لا تخاف فيه لومة لائم، وحتى تقوم بدعوة الحق، فيصغر الناس في نظر صاحب هذا القلب الشجاع الذي ليس عنده من أسباب الدنيا وأسباب الحماية ما عند الناس، ولا ما يدفع به عن نفسه، ولكن يربط الله عز وجل على قلبه فيقوم لله سبحانه وتعالى بحقه فلا يعبأ بالخلق أمامه.
(وربطنا على قلوبهم) والله عز وجل هو الذي يقلب القلوب كيف يشاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب أراد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب أراد أن يزيغه أزاغه)، ولذلك فالعبد المؤمن دائماً ينظر إلى فضل الله سبحانه وتعالى، ويتضرع إليه بأن يثبت قلبه على دينه، وأن يربط على قلبه كما وصف الله عز وجل حال المؤمنين في غزوة بدر، فقال سبحانه وتعالى: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، فالله ربط على قلوب الصحابة حتى تشجعت ولم تنهار، ولم تتزلزل حين رأت الكفار، وانظر إلى الفرق بين قلوب الصحابة رضي الله عنهم وبين قلوب المنافقين في مثل هذه المعركة وغيرها من المعارك، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين في غزوة بدر: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49].
فالله سبحانه وتعالى وصف حال المنافقين بأنهم ظنوا الغرور في المؤمنين، كما ذكر عز وجل حال المنافقين في سورة الأحزاب في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، فدل ذلك على حال هؤلاء عندما يأتي الأعداء وتكون مواقف الخطر، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يربط على قلوب المؤمنين، وتتزلزل قلوب المنافقين، ولقد منّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ صبرهم وثبتهم، فاللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك.
(9/13)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [2]
في قصة أصحاب الكهف آيات وعبر ودروس للمؤمنين، لاسيما في فترة ضعف المسلمين وتسلط الكافرين، فينغبي تدبر هذه القصة والاستفادة مما فيها من الدروس العظيمة.
(10/1)
دروس وعبر من قصة أصحاب الكهف
(10/2)
الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، قومتهم هذه يظهر أنها كانت دعوة إلى الله عز وجل، وإلا لو ظلوا كاتمين ما بأنفسهم لما تعرضوا لخطر، ولما دعوا إلى أن يرجعوا عن دين لم يعلنوه؛ فقد قاموا بواجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، بل دعوا إلى الله كما سمعنا في القصة التي ذكرها ابن كثير وغيره وهي: أنهم دعوا ملكهم إلى الله عز وجل، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تحتاج إلى ثبات وصبر وتوفيق من الله عز وجل حتى يكون الحق واضحاً جلياً.
(10/3)
الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية
قال عز وجل: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف:14]، وهذا نلحظ منه الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألهية، وبالآيات الآفاقية والنفسية {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف:14]، فالله سبحانه وتعالى الذي خلقنا، وهو الذي خلق السموات والأرض، كما قال عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21]، وقال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، ثم قال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، وقال الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]، وقال عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]، ربنا خالقنا ورازقنا الذي يدبر أمرنا رب السماوات والأرض.
إذاً: توجد آيات نفسية وآفاقية ملموسة لكل متأمل في وجودنا وفي وجود هذه السموات والأرض يترتب عليها توحيد الألهية.
(10/4)
دعاء غير الله شرك
قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] دلت هذه الآية الكريمة على أن دعاء غير الله من الشرك -والعياذ بالله-، فمن دعا غير الله فقد اتخذه إلهاً من دونه عز وجل؛ ولذلك لا يطلب المؤمن جلب النفع ولا دفع الضر إلا من الله سبحانه وتعالى، والشطط هو القول البعيد جداً عن الحق والصواب، وهو الباطل والزور والكذب كما فسره ابن كثير رحمه الله، وأبعد القول عن الصواب والاعتقاد عن الصواب هو دعاء إله غير الله عز وجل.
(10/5)
الثبات على الحق ولو كان الإنسان وحده
ذكر ابن كثير رحمه الله قصة تعرف هؤلاء على بعضهم، وأن كلاً منهم كان يفر بدينه ولا يريد أن يبينه؛ لأنه لا يدري أن أحداً سيكون معه، وهذا من أعظم ما ينبغي أن ينتبه إليه كل داع إلى الله عز وجل، وكل عامل في مجال الدعوة إلى الله، وكل مجاهد في سبيل الله، بل كل مسلم في الحقيقة، كل منهم خرج وهو يظن أنه الوحيد، ولم ينتظر أن يكون معه أحد ليتبرأ ويترك دين الباطل، كلهم تركوا قومهم يعبدون الأوثان، وانصرفوا إلى الأرض الواسعة، وكل منهم يظن نفسه وحيداً.
لذلك لابد أن تكون ملتزماً بالحق ولو كنت ترى نفسك وحيداً، وهذه فائدة عظيمة، وهذه هي الغربة التي يستشعرها المؤمن حين يرى أكثر أهل الأرض يبتعدون عن دين الله سبحانه وتعالى، ولربما كان في مكان أو زمان لا يرى غيره على الحق، ولا شك أن النفوس تتأثر بمن حولها، وأكثر الناس يتبعون الغوغاء والكثرة، ويقولون: وجدنا الناس يقولون شيئاً فقلناه.
ولا حول ولا قوة إلا بالله! والناس دائماً تحتاج إلى من يحركها ويوقظها ويدفعها دفعاً إلى الخير أو الشر، إلا الأفذاذ من العالم الذين يتحملون أن يكونوا أفراداً في الحق ولو لم يجدوا على الحق معيناً، فكل منهم كان في نفسه أنه وحده وليس معه أحد، ثم جعل الله صداقتهم وأخوتهم وارتباطهم واجتماعهم على توحيده سبحانه وتعالى بعد ذلك.
إذاً: سر في الطريق وسوف تجد لك رفاقاً بإذن الله، خصوصاً في أمتنا التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام، (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وإياك أن تقول: هل أصنع ذلك وحدي؟ لو لم تجد أحداً يدعو إلى الله فكن أنت، لو لم تجد أحداً ينصر الإسلام فكن أنت، لو لم تجد أحداً يقول الحق فقل أنت، لو لم تجد من يطع الله سبحانه وتعالى فكن أنت الذي تطيع، واستحضر في ذلك من سبقك على طريق الهدى وما حولك من الكون المطيع؛ فإن من أقوى ما يعينك على الثبات على الحق: أن تستحضر أن الطريق الذي تسير عليه قد سار قبلك فيه خيرة الخلق، أنبياء الله وأولياؤه، فاستحضر على بعد الديار والأزمان مسيرهم، وأنك معهم، وإن افترقت الأبدان الآن فإن الأرواح مجتمعة، وكذلك استحضر أن الكون كله -إلا الثقلين- يعبد الله سبحانه وتعالى، وأن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات، وأن الله يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن.
فإذا استحضرت ذلك هان عليك أن تكون وحدك، وسهل عليك أن تقوم لله عز وجل بحقه، وإذا فعلت ذلك وسرت في الطريق يسر الله لك من إخوان الخير المعينين عليه من لا تعلم وجودهم الآن، ولا ترى مسيرهم معك، كيف إذا كنت ترى من يدعوك إلى الله عز وجل لتسير معه وتسمعه ليل نهار؟! لا عذر لك إذاً، ولكن هؤلاء الأفاضل الأفذاذ رضي الله تعالى عنهم من أصحاب الكهف كان كلٌ منهم يرى نفسه وحده، ومع ذلك قام وخرج وترك الباطل ولم يقلده قال عز وجل: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14].
(10/6)
فتية الكهف أمة واحدة
لما صرح بعضهم لبعض بسبب خروجه، وعرفوا أنهم فارقوا دين قومهم كراهية له؛ اجتمعوا وصاروا يداً واحدة، وطائفة واحدة، وصاروا سبعة -أو ما الله عز وجل أعلم به-، صاروا جماعة وأمة لا يذكرون بأسمائهم ولكن يذكرون كطائفة واحدة؛ لأنهم تعاونوا على ذلك، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، قال ابن كثير: صاروا يداً واحدة، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدق، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يستطيعوا عبادة الله عز وجل.
وهكذا ينبغي أيضاً أن يكون المؤمنون، فإذا علموا أن أحداً على طريقهم فلا بد أن يكونوا معاً لا يفترقون ولا يختلفون، بل أنت تفرح وسط الغربة بوجود من يكون معك على طريقك فكيف تفارقه؟ وكيف تبتعد عنه؟ إن الذين يرغبون في الاختلاف والفرقة، وأن يكون كل واحد منهم متميزاً بنفسه هم مرضى في الحقيقة، وهذا -والعياذ بالله- من أخطر الأمراض التي تلبس في زماننا ثوب الصحة والعافية.
أعني بذلك: أن كثيراً من الناس يذم كل من اجتمعوا ليقولوا كلمة الحق، وأن يقوموا لله سبحانه وتعالى دعاة إليه داعين إلى الخير، ويتهمون من يجتمع على ذلك بأنهم متعصبون متحزبون، ويرون الحزبية في الاجتماع ولو كان على الطاعة، وهذا من أعظم الجهل والله، فإن الحزبية المذمومة إنما هي أن يكون الإنسان مقلداً في الباطل، ومجرد انتمائه إلى طائفته يجعله يرى كل ما تراه دون رجوع إلى الكتاب والسنة، ودون أن يزن ما يقولونه ويفعلونه أو ما يقوله ويفعله الآخرون بميزان الشرع، وهذا باطل لا شك فيه، وهذا هو التحزب المذموم، أما أن يكون مجرد الانتماء تحزباً فهذا مما ينابذ روح الشريعة ونصوصها، بل الواجب أن تأتلف القلوب وتجتمع، وليس الاجتماع على طاعة الله سبحانه وتعالى حزبية ممقوتة، ولكنه من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به، أما الذين يلبسون رغبتهم الخبيثة في أن يكون كلاً منهم عالياً بنفسه متميزاً عن غيره ثوب الصحة والعافية في أنه لا يريد الحزبية، فيترك إقامة دين الله عز وجل، ويترك التعاون على البر والتقوى، حتى تموت الدعوة إلى الله، وتموت سائر الفروض الأخرى؛ لأن التمزق والتفرق يؤدي إلى التنازع والشحناء والبغضاء، وإلى أن تكون فروض المسلمين الكفائية غائبة وضائعة، وهذا هو الذي سبب ما يرى من غثاء السيل كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام، فآلاف الملايين من المسلمين عاجزون عن أن يصنعوا شيئاً لأعداء الله من الكفرة المجرمين من اليهود والنصارى والمنافقين.
ولا حول ولا قوة إلا بالله! مأساة عظيمة تقع وتحدث، وثمرة مريرة يتجرعها أجيال منذ عقود من الزمن، بل قل: قرون من الزمن أدت إلى هذا الذي يحدث اليوم.
إن ما يجري للمسلمين ثمرة من ثمرات بعدهم عن دينهم وتفرقهم وعدم قيامهم بالواجبات، وغفلتهم عما ذكره الله في كل قصص القرآن من أن المؤمنين طائفة وأمة دائماً، وهم مع بعضهم بعضاً يد واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)، لا حول ولا قوة إلا بالله! فاجتماعهم وقيامهم كطائفة من أعظم الفوائد التي نستفيدها من هذه القصة العظيمة، فالاجتماع على طاعة الله، والتعاون على البر والتقوى من أعظم الواجبات الشرعية التي لا بد من القيام بها حتى نتمكن من القيام بالواجبات الأخرى، والله المستعان.
(10/7)
دعوة الفتية قومهم للإيمان
قال عز وجل: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:14 - 15] أي: هلا يأتون على عبادة هذه الآلهة بدليل وحجة وبرهان واضح، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]، هذه صيغة الإنكار عليهم، (لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)، فغرضهم من الكلام: تأكيد انعدام الحجة على الشرك، وأنه أبطل الباطل، فلا دليل عقلي ولا شرعي ولا حسي ولا أي نوع من أنواع الأدلة يدل عليه، فليس إلا مجرد التقليد المحض للآباء والأجداد -والعياذ بالله-، وهو أعظم الذنب؛ لأنه افتراء على الله الكذب، ومخالف للواقع والحقيقة، مخالف لأعظم اليقينيات في هذا الوجود، وهي وحدانية الله سبحانه وتعالى رباً وإلهاً، أضف إلى ذلك نسبتهم هذا الشرك إلى الله عز وجل، وأنه يرضى به، ويسوغه للناس، فمن يقر بوجود الله يزعم أن الله عز وجل قد رضي بما هو عليه، كالمشركين الذين وجد فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يقرون بوجود الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أنهم يريدون التقرب إلى الله، وأن الله قد رضي منهم ذلك، وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، يريدون أن ينسبوا شركهم إلى الله عز وجل، وأنه يرضى به، ويقره ويصححه -والعياذ بالله من ذلك-، وكاليهود والنصارى؛ فإنهم يقرون بوجود الله، ويشركون به عز وجل في ادعاء الصاحبة والولد، ونسبة العجز والضعف والنقص إليه سبحانه وتعالى، وغير ذلك من أنواع الكفر التي هم عليها، وهم في نفس الوقت يزعمون أنهم يتقربون إلى الله بذلك، وأن الله يرضى بذلك.
فلذلك نقول: أكثر الأمم يقرون بوجود الله، وهم في نفس الوقت يشركون بالله، وهو لا يقع إلا بأن ينسبوا ذلك إلى الله، فيجمع المشرك بين كونه قد أشرك، وارتكب القول الشطط الباطل الكذب البعيد عن الحق وهو أعظم الظلم، وأضاف إلى ذلك أنه افترى على الله عز وجل الكذب، ولذلك كان قول الإنسان على الله ما لا يعلم من أعظم الذنوب، بل ذكر الإمام ابن القيم أن الله سبحانه وتعالى جعله أشد من الشرك؛ ذلك لأن الذي أشرك ضرره عليه في نفسه، أما من افترى على الله الكذب فهو داعٍ إلى استمرار الشرك؛ لأنه حين نسب ذلك إلى الله وإلى دينه، وزعم أن الله يرضى بذلك؛ فإن ضرره مستمر لمن بعده، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15].
وأسوأ من ذلك من يعلم مخالفة ما يقضي به لشرع الله، ثم يصححه ويصوبه، ويقول بسيادته وعلوه على غيره، ويلزم الناس بالعمل به.
لذلك نقول: لابد من التعرض لمثل هذا الأمر الجلل؛ إذ إن أكثر الناس في غفلة عنه، وفي هذا الزمان كثر الجهل، وقل العلم، وأصبح يستفتى في سائر الأمور من يجلسون على المقاهي، بل استفتوا أكبر الفساق، وربما رءوس الكفر من الملل الأخرى، ويقولون: ما رأيك في الشيء الفلاني؟ وما تقولون في الشيء الفلاني؟ فأصبح كل أحد يتكلم في الدين، مع أن الكلام في الدين معناه أننا ننسب ذلك لرب العالمين، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]، نسأل الله العافية.
(10/8)
عزلة أصحاب الكهف
قال الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، هذه الآية الكريمة تدل على مشروعية الاعتزال عندما يخاف الإنسان على دينه من الفتن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن).
والعزلة على مراتب: فأما اعتزال الشر نفسه فهذا فرض على كل أحد، بمعنى أن الإنسان يلزمه أن يترك الشرك والبدع والمعاصي وأن يعتزلها، فهذا فرض لا نحيد عنه، ولا يباح لإنسان مختار أن يأتي شيئاً من المعاصي أو الفسوق فضلاً عن الكفر ويخالط الناس لأنه يشق عليه أن يفارق بلده ووطنه وأهله إلا أن يكون مكرهاً: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فهذا هو فقط المعذور، وأما من وقع في الباطل شركاً كان أو فسقاً أو معصية وهو يزعم أنه مستضعف مع قدرته على الضرب في الأرض ليبحث عن أرض يعبد الله فيها، فهذا وأمثاله ممن أنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
فاعتزال الشر فرض على كل أحد، ولا عذر لأحد أن يفعل الشر بدرجات مختلفة بزعم أنه يريد أن يكون مع الناس، أو أن الناس يضغطون عليه، أو أنه يخجل منهم إلا أن يكون مكرهاً، ومن شروط الإكراه الشرعي أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وإذا استطاع أن يفر منهم لم يكن مكرهاً.
أما اعتزال أهل الشر ومفارقتهم، وأن لا يكون معهم في بلدهم فالآية تدل على ذلك {إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف:16]، فهم أولاً اعتزلوا الشرك، وتركوا عقيدة قومهم الباطلة في دعاء آلهة من دون الله لا دليل عليها، وافترائهم على الله الكذب، تركوا ذلك كله وهجروه واعتزلوه، ثم ضغط عليهم قومهم، وأرادوا فتنتهم؛ فكان اعتزالهم بأبدانهم عن قومهم ومفارقتهم ديارهم هي العزلة عن أهل الشر، وهي على أحوال أيضاً، فأما القدر الواجب منها: أنه إذا لم يكن هناك طريق للتخلص من أن يقع الإنسان في الظلم؛ فضلاً عن الشرك -والعياذ بالله- إلا بالفرار والهجرة، فهنا يكون الفرار بالدين من الفتن واجباً.
والمرء إذا لم يكن يستطيع أن يقيم دينه، وأن يعمل بطاعة الله في الأرض التي هو فيها لزمه تركها، ولذا قال أهل العلم فيمن تجب عليه الهجرة: هو من عجز عن إقامة الدين، وقدر على الهجرة؛ فيلزمه أن يهاجر ويفارق الناس ببدنه.
ومن إقامة الدين -إذا كان الإنسان قادراً على صورة من الصور-: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن ذلك من الدين، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يقيم بأرض يعلن فيها بمخالفة الشرع بدرجاته المتفاوتة، لغير غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، وهذا ما صنعه أصحاب الكهف، فلا يجوز له أن يقيم ويقول: أنا أقيم ديني، بمعنى أنه يصلي ويصوم ويتصدق ويتركونه يذهب إلى الحج والعمرة، ويأكل ويشرب ويلبس ما يريد، مع كونه يراهم على الشرك والكفر، أو على الفسوق والعصيان ليل نهار ولا يصنع شيئاً، لا يجوز الإقامة على ذلك؛ لأن هذا ليس من إقامة الدين، فإقامة الدين تشمل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طالما قدر على صورة من صور ذلك، فإذا لم يكن قادراً إلا على التغيير بالقلب مع عدم وجود مصلحة شرعية أخرى فإنه لا يجوز أن يقيم ساكتاً، وطالماً قدر على الهجرة فيجب عليه أن ينتقل إلى أرض لا يعلن فيها بهذا الفساد، وإن لم يجد ففي الشر خيار، فيختار أقل الأمور شراً وضرراً على دينه.
وأما إذا كان يقيم هناك لمصلحة شرعية، بأن كان قادراً على إقامة الدين، ومن ضمن إقامته ما ذكرنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الأنبياء جميعاً قد أقاموا مدداً في أقوامهم، وقد كان الشرك مستعلياً مستعلناً ظاهراً في الناس وهم يدعون إلى الله سبحانه وتعالى لنبذ الشرك وتركه، فكانت إقامتهم هي المصلحة الراجحة على مفسدة الإقامة وسط الكفار، وإلا لما أنقذ أحد من الشرك، ولو كان الرسل أول ما أوحي إليهم أن هذا شرك وكفر رحلوا وفارقوه لما اهتدت أقوام بعضهم، فليس كل من يعلم الحق بمجرد أن يعلمه ينصرف عن أهله، فلا بد أن يوجد من يقيم بين الناس حتى يبلغ دعوة الحق.
ولذلك نقول: إن الاعتزال في هذه الحالة مع القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو وجود مصلحة شرعية لإنقاذ مسلم هلك لا يكون مشروعاً في تلك الحالة، بل الأفضل -إن لم يكن الواجب- أن يظل الإنسان مرتبطاً بالناس يأمرهم وينهاهم، خصوصاً مع أن واجبات تعليم الناس الخير، وأمرهم ونهيهم عن المنكر من فروض الكفاية، فإذا قام بها البعض حتى وجد المعروف الواجب وزال المنكر المحرم سقط الحرج عن الباقين، وإلا أثم الجميع.
ومن هنا فإذا ترك الإنسان المكان واعتزل الناس ضاع هذا الواجب لم يجز له ذلك، وإذا كان هناك من يقوم به ويتأدى الفرض به فيمكنه أن يرحل إلى مكان أكثر طاعة لله سبحانه وتعالى.
وأما اعتزال أهل الشر بهجرانهم، بأن لا يصاحبهم في مجالسهم التي يرتكبون فيها المنكر فهو أيضاً من الواجبات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، فمن هنا كان إقامة الإنسان في مجالس المنكر محرم، ويجب عليه أن يعتزل مجالس المنكر وأماكن المنكر حتى لا يكون مثلهم في الحكم مشاركاً لهم فيما هم فيه.
(10/9)
العذر بالإكراه وضوابطه
الذي يظهر من سياق الآيات في هذه القصة: أن عزلة أهل الكهف كانت من النوع الواجب؛ لأنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، وذلك يدل على أنهم لو بقوا لأكرهوا على الكفر.
والعياذ بالله! قال طوائف من العلماء: إن الإكراه لم يكن عذراً للأمم السابقة بل كان فرضاً عليهم أن يصبروا ولو قتلوا، وأن الله وضع عن هذه الأمة فقط الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وهناك أدلة كثيرة على خلاف هذا القول، وأن الإكراه معتبر عموماً، من ذلك قوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، وعموم الآية: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وحديث: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، لا مفهوم له على الصحيح؛ لأنه في مقام الامتنان، ولا يلزم ما ذكر في مقام الامتنان أن يكون غيره بخلاف هذا الحكم، فإن موسى عليه الصلاة والسلام ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال للخضر: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73]، فقبل الخضر ذلك، وهذا بأمر الله سبحانه وتعالى، فالمؤاخذة بالنسيان الظاهر أنها ليست خاصة بالأمة، وكذا الخطأ، والله أعلى وأعلم.
فالذي يظهر أن الأدلة التي يستدل بها إنما هي في فضل من صبر على الإكراه، أو في فضل من يتحمل ذلك، أو في ذم من يستجيب لداعي الكفر عند الإكراه، ولا يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، فإن الشرط الأساسي: أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، لكن من فتن فافتتن فإنه لا يكون ممدوحاً عند الله سبحانه وتعالى، ولا معذوراً كما قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، فهو يستجيب لداعي الفتنة.
وقد ذم الله المنافقين في قوله عز وجل: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14]، وفي الأثر: دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، وذكر قصة الرجلين اللذين مرا على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد إلا قرب له شيئاً، وقالوا لأحدهما: قرب شيئاً، فقال: ما كنت لأقرب شيئاً دون الله عز وجل فقتلوه فدخل الجنة، وقالوا للآخر: قرب شيئاً، قال: لا أجد شيئاً أقربه، فقالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فدخل النار.
فهذا استجاب لهم دون أن يعرض على القتل، كما دلت عليه القصة والله أعلى وأعلم.
فهؤلاء الفتية خشوا على أنفسهم أن يستجيبوا للباطل وأن يتبعوه إذا أكرهوا عليه، فلذلك قال: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] أي: إن استجبتم لهم.
(10/10)
وجوب العزلة في حق أصحاب الكهف
الظاهر أن العزلة كانت في حق أصحاب الكهف واجبة، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، وهم قد ضحوا تضحية عظيمة حين لجئوا إلى الكهف، وآووا إليه؛ لأن معيشة أبناء الملوك والأغنياء -وقد كانوا مرفهين في مدينتهم- في كهف غير مهيأ أو معد فيه موضع منام أو مطعم أو مشرب أو غطاء أو كساء شبه مستحيلة، فسبحان الله! كيف ضحوا في سبيل الله سبحانه وتعالى ببيوتهم ووطنهم، وتحملوا مفارقة الأحباب والأهل والأصحاب لله عز وجل، ورجوا أعظم ما يرجى: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، وذلك أنهم لما تركوا لله، وعظموا رجاءهم بأن الله يعوضهم خيراً مما تركوه لأجله، أعطاهم الله خيراً منه ونشر لهم من رحمته، ووسع الله سبحانه وتعالى عليهم، وكتب لهم رحمته في الدنيا والآخرة.
{وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] أي: أمراً ترتفقون به، وشيئاً من الرفق واليسر، فالذي يترك شيئاً لله يظن الناس أنه عسر فليبشر باليسر؛ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].
{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16]، والكهف ضيق مظلم فيه شدة، ومع ذلك رجوا فيه الرحمة والرفق من الله سبحانه وتعالى.
وفي قولهم: {رَبُّكُمْ} [الكهف:16] إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين، وفي هذا دلالة على أنه يختصهم برحمته، ويحفظهم سبحانه وتعالى بحفظ ليس لغيرهم، لكمال إيمانهم بالله عز وجل حين ضحوا في سبيله سبحانه وتعالى.
(10/11)
هداية الله لهم إلى كهف له مميزات خاصة
قال الله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف:17]، من تقدير الله سبحانه وتعالى أن ألهمهم اختيار كهف يناسب ما يريد الله عز وجل أن يجري فيه من آياته في قصة هؤلاء، فجعل الشمس تدخل الكهف ولا تصيبهم بحرارتها وأشعتها المباشرة، بل تدخل الكهف لمصلحتهم، إذا أشرقت وإذا غربت فإنها (تزاور) أي: تميل عن كهفهم.
{وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ} [الكهف:17]، أي: في متسع منه بحيث لا تصيبهم؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف:17] انظر إلى الهداية لهذا الكهف من غير أن يفكروا أصلاً فيما ينبغي أن تكون عليه صفات هذا الكهف، وكيف أن الشمس تميل أو لا تميل، أو تقترب أو تبتعد، لم يفكروا في ذلك، ولكن الله عز وجل إذا العبد آمن به هداه إلى ما فيه مصالحه في الدنيا والآخرة من حيث علم ومن حيث لا يعلم، ولذلك تأكد وثق أنك إذا أقبلت على الله عز وجل تلقاك من بعيد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عن الله سبحانه وتعالى: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فالله يهديك بإيمانك إلى ما يصلح لك في الدنيا والآخرة من حيث أردت وشعرت ومن حيث لم ترد ولم تشعر، فهؤلاء الفتية لم يريدوا أن يكون الكهف بهذه الصفة، لكن قدر الله لهم ذلك هداية منه عز وجل، وآية من آياته لعباده المؤمنين؛ ليعظم توكلهم على الله سبحانه وتعالى.
(10/12)
الله هو الولي
قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]، الولي المرشد هو الله سبحانه وتعالى، الذي يتولى العبد ويتولى شأنه بالإصلاح، والذي يرشده إلى الهداية وإلى أسباب التوفيق والخير في دنياه وأخراه، فمن أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً.
كثير من الصوفية يحتجون بهذه الآية في غير موضعها، ويقولون: لابد من وجود الولي المرشد في الطريق إلى الله، وهو استدلال على عادتهم بالآيات في غير معانيها ومواضعها، فيقولون: لابد أن يكون لكل واحد ولي من أولياء الله يرشده، ومن ليس له شيخ فشيخه شيطان، ويكون ضالاً، مع أن الآية إنما هي في الله سبحانه وتعالى، {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]، فالمؤمنون الذين هداهم الله لهم ولي مرشد، من هو الولي المرشد؟ هو الله، قال سبحانه: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]، واستدلالهم بالآية في غير موضعه، وإن كان لا شك أن الإنسان يحتاج إلى معلم ومرشد، ولكن هذه الآية لا يستدل بها على ذلك؛ لأن إرشاد الرب سبحانه وتعالى وهدايته أعظم الهداية، وولايته لعبده المؤمن حفظاً وعناية ورعاية وتأييداً وتوفيقاً أعظم ولاية، ولذلك هو يتولى المؤمنين، ويتولى الصالحين، فهو ولي يتولى أمره، ومرشد يرشده، فهذا الذي يفعله الله بعباده المؤمنين لا نظير له فيما يفعله الناس.
(10/13)
كرامة أصحاب الكهف
قال سبحانه وتعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، قال ابن كثير: ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا تتأذى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، وهذا الكلام فيه نظر طبياً وواقعياً، وفهم كما قال: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، ويمكن أن يكون ذلك من باب المنظر من الخارج، فمن تقلبهم يظنهم الرائي أنهم مستيقظون، وإلا فالذي ينظر إليهم من بعد ربما لا يرى أعينهم، فمسألة أنهم لم تنطبق أعينهم فيها نظر، وإن كان فليس لأجل أن الهواء لا يفسدها، بل هذا هو من ضمن المعجزات، والطب يقول: إن العين المفتوحة تصاب أثناء النوم بالقرح، فلابد أن تغلق العين بشيء حتى لا تصاب بقرح؛ لأنه مع طول المدة من غير إغلاق نهائياً يتضرر الإنسان، والإنسان وهو مستيقظ يقفل عينه ويفتحها، فلو كانت مفتوحة أعينهم فهذا من ضمن المعجزة، وأن الله عز وجل أكرمهم ببقاء أعينهم مفتوحة من غير أن يصيبها ضرر، كما أن الله عز وجل أبقى أجسادهم من غير طعام ولا شراب {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، وهذا مما لا يقع في عادة الناس أبداً، بل لا يحتمله جسم إنسان، نعم يمكن أن ينام لمدة طويلة على أقل قدر من الطاقة التي تستهلك من جسمه كما تبيت حيوانات غير الإنسان شهوراً طويلة وتستيقظ بعد ذلك من البيات الشتوي مثلاً، وذلك لأنها تستهلك أقل قدر من الطاقة، ولكن هذه السنين الطويلة معجزة من المعجزات التي أيد الله عز وجل بها أولياءه الصالحين، أو كرامة لهم أكرمهم الله سبحانه وتعالى بها.
فالأولى في ذلك أن نقول كما قال الله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17]، وأما أن ذلك من الأمور الموافقة للعادة، وهو أن العين مفتوحة لأجل أن تكون أبقى، فهذا فيه نظر، والله أعلم.
يقول: وقد ذكر عن الذئب أنه ينام ويطبق عيناً ويفتح عيناً ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد كما قال الشاعر: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بالأخرى الرزايا فهو يقظان نائم يتقي الرزايا بالعين الأخرى، فسبحان الله! العين لو نام شخص وعينه مفتوحة لا يرى بها، وليس أنه يتقي الرزايا بها؛ لأن المراكز نائمة، ولن تستقبل الأشعة والصور.
قال تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18]، قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين، قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض، وهذا موافق للطب فعلاً.
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة الوصيد الفناء.
(10/14)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [3]
إن الله سبحانه وتعالى يحب عباده المتقين ويحفظهم ويرعاهم، وقد تجلت رعاية الله لهم في حمايته لهم من فتنة الكافرين وإضلالهم، فهم يتربصون بالأمة المؤمنة الدوائر، ويستنفذون كل الطاقة في إخراج المؤمن من دينه الحق إلى دين باطل، ولذلك أوجب الله على المستضعفين الهجرة، ولنا في أصحاب الكهف قدوة وأسوة.
(11/1)
إكرام الله لأصحاب الكهف وحفظه لهم
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فقوله سبحانه: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، يدل على لطف الله سبحانه وتعالى بهم وهم نائمون، إذْ قدر الله عز وجل أسباب حفظهم، وأسباب بُعد الطلب عنهم، وبُعد الناس عنهم، وقدر الله سبحانه وتعالى -كرامة لهم- نومهم، كما أكرمهم في استيقاظهم بتوفيقهم إلى توحيده عز وجل، وترك عبادة من دونه، وهذه القصة تدل على إثبات كرامات الأولياء بأنواع القدرة والتأثير، فإن الله سبحانه وتعالى أبقاهم هذه المدة الطويلة من غير أن تبلى أجسادهم أو تفسد، وهذا من أدلة إثبات كرامات الأولياء، والكرامة: هي ما يكرم الله به عبده المؤمن المتبع لشرعه سبحانه وتعالى من أنواع خوارق العادات أو من غيرها، ولا يلزم أن يكون إكرامه من خوارق العادات، ولكن هذا هو الاصطلاح المعروف، بل أعظم ما يكرم به العبد أن يكرم بالتوفيق إلى طاعة الله عز وجل، وأن يلهم رشده، وأن يكشف له عن سبيل الحق فيلتزمه، فهذه أعظم كرامة للعبد وإن لم يقع له من خوارق العادات، والله سبحانه وتعالى قد يجمع لعبده المؤمن بين أنواع الكرامات المختلفة من أنواع العلوم، ومن أنواع القدرة، وأعظم ذلك أن يكون موفقاً بقوة من الله سبحانه وتعالى إلى طاعته، وهو معنى الحديث: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) فالله عز وجل يعينه بقوة من عنده سبحانه وتعالى، وتكون هذه الجوارح وهذه القوة مصروفة في مرضاته سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة، بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر؛ لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم؛ لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة، والرحمة الواسعة؛ رحمة لهؤلاء الفتية المؤمنين، وإنجاء لهم من القوم الظالمين الكافرين، وحكمة بالغة تدل الناس على البعث والنشور، وإثبات قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بعد موتهم يوم القيامة، وكذلك ليثبت سبحانه وتعالى للناس وليبين لهم مآل المتقين، وحفظه سبحانه وتعالى لهم من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.
إذاً: فالله عز وجل حفظهم بإلقاء المهابة عليهم حتى لو اطلعت أيها المسلط عليهم {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، فالخطاب هنا لكل مكلف، ويمكن أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك حفظاً من الله عز وجل لهم؛ حتى لا يدخل عليهم أحد، أو يصيبهم شيء من الكائنات الأخرى بسوء؛ لأنها تنظر إلى منظر مرعب مخيف فتنصرف.
(11/2)
بعث الله تعالى لأصحاب الكهف بعد انقضاء المدة المحددة لهم
بعد انقضاء مدة بقاء أصحاب الكهف في الكهف بعثهم الله عز وجل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19].
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم: صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم: ((كَمْ لَبِثْتُمْ)) أي: كم رقدتم؟ ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))، لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ولهذا استدركوا فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)) يعني: ربما كان جزءاً من اليوم، وأقصى ما يمكن أن يكون يوماً كاملاً، فقالوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم، والله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ)) أي: فضتكم هذه، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم؛ لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها، فلهذا قالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)) أي: مدينتكم التي خرجتم منها، والألف واللام للعهد، ((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)) أي: أطيب طعاماً، كقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره، وقيل: أكثر طعاماً، ومنه زكا الزرع إذا كثر، قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال، سواء كان كثيراً أو قليلاً.
وقوله سبحانه عنهم: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] أي: في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه، يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه، {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19] أي: ولا يعلمن ((بِكُمْ أَحَدًا)).
قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] أي: إن علموا بمكانكم {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20]، يعنون: أصحاب دقيانوس، فهم يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها، أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال تعالى: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [لكهف:20].
(11/3)
إثبات البعث وقيام الساعة ببعث أهل الكهف من رقادهم
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: أطلعنا عليهم الناس، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)) قال ابن كثير رحمه الله: ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك.
وعلى هذا التفسير فالضمير في قوله: ((لِيَعْلَمُوا)) أي: ليعلم الذين عثروا عليهم أن وعد الله بالقيامة وبعث الأجساد حق، وأن الساعة ريب فيها.
ثم قال: وذكروا أنهم لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة -أي في غير جادة الطريق ووسطه- حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس أو دكسوس، وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه، ويقول: لعل بي جنوناً أو مسّاً أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة، ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً، فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة لعله وجدها من كنز؟ وممن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة، وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره، حتى أخبرهم بأمره وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف: ملك البلد وأهلها، حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، وكان مسلماً فيما قيل واسمه: يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله عز وجل.
فالله أعلم.
قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، - حبيب بن مسلمة أحد قادة المسلمين الذين كانوا يغزون الروم- فمروا بكهف في بلاد الروم، فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم قبل أكثر من ثلاثمائة سنة.
رواه ابن جرير أي: الله أعلم كم مضى عليها حتى بليت، وماذا شأنها الآن.
ثم قال ابن كثير: وقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ))، وهذا يؤكد أنهم اطلعوا عليهم جميعاً؛ لأن الله قال: ((أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)) وليس على واحد منهم فقط، فهذا رد على من يقول: إنهم لم يجدوا لهم خبراً.
يقول: أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21] أي: في أمر القيامة: فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم.
أي: حجة للمثبتين للبعث وحجة على المنكرين ممن لا يؤمن بيوم القيامة كذلك.
{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:21] قال ابن كثير رحمه الله: أي: سدوا عليهم باب كهفهم وذروهم على حالهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم.
والثاني: أنهم أهل الشرك منهم.
فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد؛ يحذر ما فعلوا).
وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، وفيها شيء من الملاحم وغيرها.
والرقعة لوح مكتوب مثل الأوراق عندنا، لكنها جلد أو نحو ذلك في ملاحم وقعت في بني إسرائيل، فأمر بثلاثة عشر قبراً -فيما ذكر- أن تحفر، وأن يدفن الجسد الذي وجدوه على حاله كيوم مات في واحد منها، وتغلق جميعاً حتى لا يدري الناس في أي المقابر دفن، ووجدوا مكتوباً عنده أنه النبي دانيال، فالله عز وجل أعلى وأعلم، فإن مثل هذا إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، ولم يرد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم ذلك النبي، وقد يكون من أنبياء الله سبحانه وتعالى، وقد يكون من أوليائه وظنه غيرهم على غير ما هو عليه، فالله عز وجل أعلى وأعلم.
إلا أنه يبدو أنه رجل صالح؛ لأنه لم يتغير بدنه، وهذا من كرامات الأولياء أيضاً، فالمقصود أنه أخفي قبره، وسيأتي لنا بحث في ذلك إن شاء الله.
(11/4)
عدم إدراك الإنسان مدة بقائه في قبره وفي غيبوبته وغير ذلك
قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19] أي: في مدة لبثهم يتساءلوا كم لبثوا؟ {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] وكأنه لما نظر إلى أشكالهم وقد كانت كما ذكر الله عز وجل مرعبة، فقد ذكروا أنهم كانوا طويلي الأشعار والأظفار، فدل ذلك على أنهم لبثوا مدة طويلة، قالوا: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، لأن الإنسان مهما طالت رقدته فإنه لا يشعر كم استغرق في نومه إلا يوماً أو بعض يوم مهما طال زمن نومه، وكذا أثناء موته، فالمرء يرى في المنام أحداثاً كأنها طويلة جداً، وكما ذكر أهل العلم والطب أنَّ وقت المنام لا يتجاوز الثواني ويكون الإنسان قد رأى قصة طويلة، ويعرف ذلك بواسطة تسجيل ذبذبات المخ أثناء النوم فسبحان الله!.
ويمكن للإنسان أن يتغير كثيراً جداً أثناء نومه، وكذلك من حصلت لهم غيبوبة فإنهم لا يدرون بعد استيقاظهم كم بقوا في هذه الغيبوبة إلا ما تعودوا عليه يوماً أو بعض يوم، بل والميت إذا استيقظ فإنه يقول ذلك أيضاً، قال عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114].
وقال سبحانه وتعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:102 - 104].
وهذا له محمل على مدة بقائهم في الدنيا، أو مدة بقائهم في القبور، وهذا أظهر في مثل هذا الموضع، والله أعلم، ويمكن أن يكون قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] مشتملاً على الاحتمالين، وفي مواضع أخرى لا يحتمل إلا مدة البقاء في القبور، كقوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56].
فهذا ظاهر جداً في أنها مدة البقاء في القبور، فالناس إذا استيقظوا في القيامة كأنهم استيقظوا من النوم، قال صلى الله عليه وسلم: (لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور).
وهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، ولذلك فالقيامة قريبة جداً، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وقال عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].
فلا تظن أن القيامة بعيدة بل هي قريبة، وما أخبر الله عز وجل به يوشك بعد رحيلك عن هذه الدنيا أن يأتيك بغتة، كما قال عز وجل: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187].
لذلك على العبد أن يتعظ ويتذكر، وأن يشعر بمرور الأيام والسنين ما زال على ظهر هذه الأرض.
ومن آيات الله سبحانه وتعالى شعور الإنسان بالزمن شعوراً لا يحصل له إلا في حدود مقدرة ولا يدرك كثيراً جداً قبل ذلك، كما أنك لا تدرك شيئاً عن وقت بقائك جنيناً في بطن أمك ولا ما جرى لك في سنواتك الأولى، ولو قيل لك: أنت ولدت منذ عشرين سنة، أو ثلاثين سنة لما استعطت أن تقول: بل كان غير ذلك، وأما كم مضى عليك قبل ذلك فالله عز وجل هو الذي يعلم، وأخبروك بذلك وأنت لا تشعر به.
إذاً: فعلى العبد أن يستعد للقاء الله سبحانه وتعالى قبل أن يأتيه الموت، وأما فترة البرزخ فهي كالطيف، أو حلم نائم، وإن كان يرى فيه نعيماً أو عذاباً وهو حق، ولكن سرعان ما يستيقظ الإنسان منه، ويبعث كأنه مات بالأمس، وهو يحسب نفسه قريب عهد بأهله.
(11/5)
تفويض أصحاب الكهف العلم إلى الله عز وجل
قال سبحانه وتعالى: ((قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ))، وهذا سلوك المؤمنين في أن يردوا علم ما لا علم لهم به إلى الله عز وجل، وهذا الواجب في كل الأمور التي لا يعلمها الإنسان، فأما ما كان من أمور دنيوية وخفي علمه عن البشر فالله عز وجل هو أعلم بها وحده لا شريك له، وأما ما كان من أمور الدين فيمكن أن يقال: الله ورسوله أعلم، أو يقال: الله أعلم على سبيل تفويض العلم إلى الله عز وجل.
وهذا يدل على استحضار أصحاب الكهف صفة العلم في قلوبهم، وصفة العلم من صفات الله سبحانه وتعالى، وحسن التفويض إليه واعترافهم بقلة علمهم وعجزهم وضعفهم، والمؤمن كذلك يرى علمه وعلم الخلائق إلى علم الله كقطرة من بحر وربما أقل.
(11/6)
تحري أصحاب الكهف في طلب الرزق الحلال الطيب
قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19] أي: أن طلب الحلال من صفات المؤمنين التي يجب أن تكون دائماً محل بحث وحرص واهتمام منهم، ولا بد أن يكون الإنسان مهتماً بإطابة مطعمه، متجنباً للحرام، يبحث عن الطعام الزكي، ويبتعد عن الطعام المحرم، وذلك في نوع الطعام، وفي طريقة كسبه، وفيمن يتعامل معهم في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من أكل الحرام: (ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!).
ولأن إطابة المطعم من أسباب إجابة الدعوة.
قال: ((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا))، فمن فسره بأكثر فليس بظاهر، بل المؤمن يكتفي بما يبلغه ويقضي حاجته، ويسد جوعته، وليس يهتم بكثرة ولا قلة من ذلك، قال تعالى: {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف:19] أي: لابد أن يعلم المؤمن أن الرزق من عند الله، فقد رزق الله أصحاب الكهف، ومنه يؤكد أن المقصود بأزكى: أطيب وليس أكثر.
وقوله: (منه) للتبعيض، والغرض المقصود أنهم يريدون شيئاً يتبلغون به إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمراً.
(11/7)
حقيقة التلطف ومعناه وضوابطه من خلال فعل أصحاب الكهف له
قوله: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] اللطف: هو التعامل بخفاء في مثل حال أصحاب الكهف، فهم لا بد أن يستعينوا على قضاء حاجتهم بالكتمان؛ حتى لا يتضح أمرهم ويردوا إلى قومهم، فالكتمان في هذا الموضع مأمور به، وهو من الحذر الواجب، ومن الأخذ بالأسباب، وليس من الشجاعة أن يعلن قلة من الضعفاء أمرهم أمام جيوش الأقوياء، وليس من الجبن أن يكون مختفياً، كما قال سبحانه وتعالى عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]، فالإنسان إذا كان في خطر فينبغي له أن يكون متلطفاً وألا يظهر نفسه حتى يصطاده أعداؤه، وفي الكتمان من المصالح ما لا يحصى كثرة إذا استعمل في موضعه.
(11/8)
ضوابط تقليد الكفار في هديهم عند الضرورة
وهذا أمر يستفيد منه كل من كان مستضعفاً مثل أصحاب أهل الكهف، فلابد أن يكون حريصاً متلطفاً وألا يظهر أمره؛ حتى لا يؤخذ بغير ذنب حقيقي وإنما يؤخذ بمجرد إيمانه وإسلامه، وليس معنى ذلك أن يرتكب الحرام، أو أن يترك الواجبات طالما كان غير مضطرٍ إلى ذلك، والضرورة نعني بها: أن يكون مكرهاً بحيث يعلم أنه إذا أظهر فعله للواجبات أو أظهر تركه للمحرمات عوقب بما يعد في الإكراه عقوبة معتبرة، فإذا أيقن بذلك وكان عاجزاً عن التخلص بالفرار، فإنه يجوز له الموافقة في ذلك، وجاء في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من كان في دار الكفر فله أن يتشبه بالهدي الظاهر للكفار.
واستدل به بعض من لا يفهم الكلام على وجهه بجواز حلق اللحية في بلاد الكفار، أو في بلاد المسلمين التي يضطهد فيها المسلمون، ويقول: إن التشبه بالهدي الظاهر مشروع، اعتماداً على هذه الفتوى، وليس كذلك، وإنما مبنى الكلام على المعرفة بحصول الضرر المعتبر، وليس لمجرد أن يخفي نفسه، وألا يظهر أمره، فلا بد أن يكون هناك إكراه معتبر، ومن شروطه: أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وكذلك إذ كانوا جوعى ولا يوجد طعام بين أيديهم إلا أن يذهبوا إلى المدينة، فلا بد من التلطف والتخفي.
وأما في بلاد الكفار اليوم في أوروبا وأمريكا وغيرها حيث يملك الإنسان حريته في أن يفعل ما يشاء ولا يؤاخذ بشيء من ذلك، فهذا أمر لا يبيح له أن يقلدهم في هديهم الظاهر، ويتشبه بهم؛ لأن ذلك بمنزلة الضرورة، ولا ضرورة هنا.
فالذي يكون في بلاد الكفر فيتشبه بهم في كل مظاهرهم ولا يتميز بالمظاهر الإسلامية كإعفاء اللحية، أو الحجاب للمرأة المسلمة أو نحو ذلك، محتجاً بمثل ذلك، فإنه ضال جاهل، وكم من أناس تركوا الواجبات بمثل هذا الفهم السيئ، وإذا كانت البلاد الكافرة فيها ظلم وعدوان، فإنه لا يقلدهم في هديهم الظاهر إلا إذا كان الضرر حقيقياً معتبراً؛ وهو فوات الحاصل في النفس أو في المال أو في الجاه.
وأما إذا كان مجرد أذى كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]، كلوم الفاسق وغيبته وعتابه، واستهزائه بمسلم فليس ذلك من الضرر الحقيقي، وليس فيه فوات حاصل، وغيبة الفاسق لا تذهب الجاه، وأمثال هؤلاء لا عبرة بهم، ولا يخلو الإنسان الذي يعيش مع هؤلاء حتى ولو لم يكن مطيعاً لله من أن يجد ما يفعل به ذلك، ولذلك لا عبرة باللوم والعتاب، ولا عبرة بالغيبة.
وكذا ما كان من فوات الحاصل اليسير جداً، كأخذ الحبة من المال، أو الضربة الخفيفة، أو يوقف ويحبس دقائق، أو أجزاء من الساعة، أو بضع ساعات، كل ذلك لا يعد ضرراً حقيقياً؛ لأنه يسير كما قال الغزالي رحمه الله: إنَّ في فوات الحاصل من النفس والمال والجاه قدراً في القلة لا بد من إهداره، وقدراً في الكثرة لا بد من اعتباره، وموضع اشتباه وسط، يتقي الإنسان ربه عز وجل ما استطاع، ويرجح جانب الدين ما استطاع، ولكن موضع الاشتباه هو التوسط في ذلك.
يعني: إذا كان الأذى شيئاً يسيراً جداً فليس بضرر، والتلطف لا يكون بفعل المنكر، ولا يكون بترك الواجب، وكثير من الناس كمن يترك صلاة الجماعة مثلاً والجمعة لأدنى توهم، أو تترك المرأة الحجاب الشرعي لأجل أن توافق النساء المتبرجات مثلاً، فليس هذا مما يجوز أبداً في تلك الأحوال، واللحية من ذلك إذا كان الأمر على ما وصفنا، إلا إذا غلب على الظن أنه مثلاً إن سار في الطريق أمسك وعذب أو ضرب أو حبس مدة طويلة معتبرة، أو أخذ ماله، وهو عاجز عن أن يذهب إلى بلد أخرى.
والإنسان لا يجوز له أن يقيم بمكان يعصي الله عز وجل فيه وهو قادر على الهجرة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
ونحن نعلم أن أصحاب الكهف هاجروا واعتزلوا قومهم، وتركوا بلدهم لله سبحانه وتعالى؛ لكي يتمكنوا من طاعة ربهم عز وجل، وإذا كان في الأمر أصل الدين فهو كذلك في فروعه، فالإنسان الذي لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه كالذي لا يستطيع أن يوحد ربه سبحانه وتعالى، فإن أرض الله واسعة، وأما إذا كان عاجزاً عن الهجرة أو ممنوعاً عنها، أو أنه لا يجد أرضاً يعبد الله فيها؛ لاستفحال الشر فهو معذور؛ لأن الله يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
وهنا يمكنه أن يتلطف وأن يتخفى بالتشبه بهم في هديهم الظاهر، والله أعلى وأعلم، ولكن الأصل أنه لا يتشبه بهم في هديهم الظاهر ولا الباطن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم).
(11/9)
لجوء أصحاب الكهف إلى التخفي خوف الفتنة
وقال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20]، والظاهر أن الرجم هنا على حقيقته من الرمي بالحجارة.
وقيل: يشتموكم، وليس بظاهر؛ لأن فرارهم لم يكن بسبب الشتم، والشتم شيء يسير.
قوله تعالى: ((أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) أي: إن لم تصبروا وتتحملوا فلقومكم إحدى غايتين: إما أن تعودوا إلى الملة الباطلة، أو يرجموكم، ثم قالوا لبعضهم: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20].
وقد يقول قائل: لماذا لا يفلحون وهم مؤمنون وقد أكرهوا بالرجم؟ فإنه لا نزاع بين أهل العلم أن من أكره بالرجم أو هدِّد به أو بدءوا برجمه جاز له أن يقول كلمة الكفر، ويكون معذوراً، والجواب على هذا: أن شرط الإكراه أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، ولربما كان المفتون لا يصبر عند الفتنة، فقد يختار الباطل إيثاراً للتخلص من شر الفتنة، كالرجل الذي دخل النار في ذبابة قربها لغير الله حين طلبوا منه ذلك، وقال: ما أجد ما أقرب، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب، لذلك فأصحاب الكهف خافوا على أنفسهم من أن يوافقوا قومهم على الكفر، نسأل الله عز وجل أن يثبتنا والمسلمين، وأن يثبت قلوبنا على دينه.
إذاً: استبان لنا وجهان: الوجه الأول: وهو قوله {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] قال ابن كثير رحمه الله: فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20].
الوجه الثاني: أن الإكراه إنما كان معتبراً في أمة الإسلام، وأن ذلك من خصائص هذه الأمة، واحتجوا بذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وليس هذا بظاهر؛ لأنَّ النسيان قد جعله الله عز وجل عذراً لمن سبق، كما قال موسى عليه الصلاة والسلام للخضر: (لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73]، فقبل عذره في هذه المرة وكان نسياناً؛ ولذلك فإن الوجه الأول هو الأظهر، فإن المؤمن لو ترك وشأنه لما اختار الباطل، ولكن لما فتن افتتن والعياذ بالله، وقاده ذلك إلى الفتنة: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14].
فذمهم الله على عدم الثبات على الدين.
والله أعلى وأعلم.
(11/10)
الأسئلة
(11/11)
الوسائل المؤدية إلى حب الله تعالى والتوكل عليه
السؤال
بعض الناس من الذين يقرءون في كتب التوحيد فيأمروننا بقضايا العبادات القلبية كالحب والتوكل وغيرها فيقول: أنا لا أستوعب منها شيئاً؛ لأني أشعر أن ما يذكر في أمثلة الحب مثلاً ليس منطبقاً علي، عندما أحاول أن أستشعر ذلك، فهل هذه العبادات تظهر عند أوقات معينة أو مواقف عارضة، أم أنه يجب على الإنسان أن يشعر بهذا الحب مع العلم بأنه على طاعة الله ويجتنب معصيته، فهل هذا كاف في الاستدلال على الحب؟
الجواب
لا، لا يكون هذا كافياً، فلابد للعبد أن يستمر على الطاعة ويخلص فيها، ويستمر على ترك المعصية ويخلص في ذلك، ويستحضر أمور الإيمان كالتصديق الجازم بأسماء الله وصفاته ووحدانيته، وشهود آثار الأسماء الحسنى والصفات العلى، والتفكر في أمر الآخرة حتى ينبت الحب في قلب العبد من مشاهدة جمال الأسماء والصفات، وآثار الكمال؛ لأن العبد جبل وفطر على حب الجمال والكمال، ولا أكمل ولا أحسن، ولا أجمل من أسماء الله وصفاته، فإن الله جميل يحب الجمال، وله الأسماء الحسنى فلا أحسن من أسمائه المتضمنة لأحسن الصفات العلى، وهذا الأمر أول ما على العبد أنه يشهده ويحلق فيه بعين القلب، فإن الله يريه هذا الجمال فيلتفت قلبه للحب.
وكذلك مشاهدة المنن والنعم، فكلما ازدادت مشاهدته للنعم نبت الحب في قلبه؛ ولذلك فإنه لابد مع الطاعة من أن يستشعر حبه على الدوام، ولكن بلا شك أن الأمر متفاوت، والذي يجعله أن ينال أعظم الحب هو تدبر القرآن؛ لأنه يرشده إلى نعم الله، ويرشده إلى كمال أسمائه وصفاته، ودائماً سور القرآن بل لا تخلو آية من ذكر أسماء الله عز وجل وصفاته، أو على الأقل من التنبيه على ذلك، أو فعل من الأفعال، وكلما شهد العقل ذلك ازداد حباً لله سبحانه وتعالى، فأنت إذا رأيت العدل والكرم والجود والرحمة وتيقنتها أحببت الله بلا شك، وكذلك الاجتهاد في الحفاظ على النوافل حتى تصل إلى درجة الحب والمحبوبين.
فاتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم يقود إلى المحبة، والمحبة تقود إلى المحبوبين، والطاعة دليل الحب، وليس ضرورياً أن تكون الطاعة موجودة مع الحب؛ لأنه لا يوجد حب من غير طاعة، ولكن قد توجد طاعة من غير حب، فالمنافقون ناقصو الإيمان، والمؤمن كامل الإيمان، فلابد أن يكون الله أحب إليه من كل شيء.
ومن الوسائل المؤدية إلى الحب: الدعاء؛ لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يوفق سبحانه وتعالى.
ولذلك شرع لنا مثلاً الإخلاص وأن نتعوذ به من الشرك والرياء والسمعة.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.
اللهم ارزقني حبك، وحب من أحبك، والعمل الذي يبلغني حبك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(11/12)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [4]
لقد حصل في هذه الأمة ما يعكر صفو التوحيد من بناء المساجد على القبور، وما ترتب على ذلك من الصلاة عندها، والطواف حولها، والذبح والنذر لها، وغير ذلك من العبادات التي لا تنبغي إلا لله سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذر أشد التحذير من ذلك، ووصف من يفعل ذلك بأنهم شرار الخلق، فحري بالمسلم أن يبتعد ويجتنب ما يخدش توحيد وإيمانه.
(12/1)
حكم بناء المساجد على القبور
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
يبين سبحانه وتعالى أنه أعثر أهل الزمان الذي أيقظ فيه أهل الكهف؛ ليعلم المختلفون في الساعة أن وعد الله حق بالبعث، وأن الساعة لا ريب فيها، ودخل كذلك في وعد الله سبحانه وتعالى حفظ عباده المؤمنين فقال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
ودخل في وعد الله عز وجل نصرة دينه وعباده الصالحين، وإهلاك الظالمين والمجرمين، فكل ذلك ضمن وعد الله سبحانه وتعالى.
(12/2)
شبهة القائلين بجواز الصلاة في المساجد التي فيها قبور والرد عليها
قال عز وجل: ((إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ)) أي: يتنازع الذين عثروا على أهل الكهف فيما يصنعون بهم، ((فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا))، وهذا من المواضع التي تحتاج إلى بيان، فهل هذا الأمر الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في سياق المدح أو الإقرار لمن قالوا: ((ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا)) ولمن قال: ((لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) أم أن هذا في الحقيقة كان ذماً؟ قد يحتج به الكثيرون من المنتسبين للعلم الذين يجوزون الصلاة في المساجد التي بها قبور، ويقولون: إن هذه القصة تدل على أن اتخاذ المساجد على القبور أمر جائز، ولو لم يكن كذلك لما ذكره الله عز وجل في القرآن، وزعموا أن ما ورد في السنة بخصوص القبور التي على المساجد فهي لليهود والنصارى فقط، وهذا من الكلام الباطل الذي يتضمن عدة أباطيل منها: أولاً: أن ذكر هذا الأمر في القرآن لا يدل على جوازه؛ لأن الله لم يذكره مادحاً لهذا الفعل ولا مثنياً عليهم به، بل ولا مقراً لهم، بل لم يذكرهم الله سبحانه وتعالى في هذا الموطن بصفة إيمان أو إسلام أو عمل صالح، وإنما ذكرهم بصفة الغلبة فقال: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ)).
ومعلوم أن من سبقنا من أهل الكتاب يكثر فيهم الجهل لدرجة أنهم كانوا يشكون في البعث، كما بين سبحانه وتعالى في أول السورة أنهم كانوا متنازعين في أمر بعث الأجساد، وأن الله سبحانه وتعالى جعل هؤلاء آية ليوقن الذين شكوا في البعث بأمر البعث، كما قال سبحانه وتعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:11 - 12] أي: الحزبين المختلفين في أمر البعث، وكذلك قال سبحانه وتعالى: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ)) أي: حين، ((يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ))، فدل ذلك على انتشار الجهل فيهم، إذ إن الشك في البعث -وهو من أعظم ما بعث به الرسل- يدل على انتشار الجهل فيهم، وإذا كان الذين غلبوا على أمرهم قد صنعوا ما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعله منهم فهو ملعون، فعلى أي الأحوال حتى لو زعم ذلك الزاعم أن هذا النهي واللعن كان لهم فهو يناقض استدلاله بالآية؛ لأنهم على الأقل قد لعنوا على ذلك، فإذا كان كذلك لم يجز أن يقال: إن الله قد ذكره في القرآن على سبيل الإقرار والمدح؛ لأن الكل متفق على أن اليهود والنصارى مذمومون على اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن في ذكر الآيات حجة، ولابد أن نفهم القرآن في ضوء السنة، ولا يجوز لنا أن نأخذ فهماً لآية من الآيات دون رجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام النهي عن اتخاذ القبور مساجد بالتواتر، فقال: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة: يحذر ما صنعوا).
وهذا واضح جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذمهم ليحذرنا.
(12/3)
وجه عدم إبراز قبر النبي وحكم شد الرحال لزيارة قبره
جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: (ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً).
يعني: لولا ذلك لأبرز قبره للناس وصار غير مختف في الحجرة، ولكن خشي الصحابة أن يأتي الناس لزيارة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيصلون بجوار القبر فيتخذ القبر مسجداً، فرأوا أن يدفنوه في حجرته ليكون القصد أصلاً إلى مسجده؛ لأن الناس يأتون بطريقة معتادة إلى المسجد ليؤدوا الصلوات فلم يتخذوا القبر مسجداً، بخلاف ما ظنه المتأخرون من أن وجود القبر الآن في مسجده هو من دلائل جواز اتخاذ القبور مساجد، بل إنما دفن صلى الله عليه وسلم في هذا المكان لكي لا يتخذ القبر مسجداً؛ وذلك لأن اتخاذ القبر مسجداً إنما يحصل بعدة أمور: أولاً: أن يبنى عليه مسجد.
ثانياً: أن يقصد بالصلاة بأن يجعل كالقبلة، أو أن يصلى بجواره.
ثالثاًً: أن يدخل إلى القبر ليصلي عنده، فكل هذا من اتخاذ القبور مساجد، والثلاثة بحمد الله ليست حاصلة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المسجد مبني قبل القبر بسنين، ولما احتاج الناس إلى التوسع ظلوا يتوسعون من جميع الجهات إلى أن وسعوا من الجانب الذي فيه القبر، فاتسع المسجد في الحقيقة من حول القبر ولم يشمل القبر، والناس لا يتمكنون بحمد الله من الدخول إلى الحجرة ليصلوا في داخلها، فهذا الذي اتخذ القبر مسجداً لم يبق له إلا النية والقصد، كمن يأتي من بلاد بعيدة ناوياً أن يصلي بجوار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يجوز السفر إلى المدينة بهذه النية، بل يجب أن تكون نيته هي زيارة مسجده وشد الرحال إلى مسجده صلى الله عليه وسلم.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سجن حتى مات بسبب أنه كان يفتي بالنهي عن شد الرحال لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام، ويقول: بل يجب أن تشد الرحال إلى زيارة المسجد ثم تأتي زيارة القبر تبعاً.
(12/4)
حكم الاحتجاج بشرع من قبلنا في البناء على القبور
قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه قبل أن يموت بخمس على المنبر: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد).
وفي رواية في السنن: (يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة بين وحذر من أخطر طوائف البدع، فقد حذر من خطر الرافضة الذين يكرهون أبا بكر ويسبونه فقال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً).
وحذر من نفاة الصفات كالجهمية، فقال: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن).
وحذر من غلاة الصوفية الذين اتخذوا القبور مساجد فقال: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
وأرسل علياً بأن لا يجد قبراً مشرفاً إلا سواه.
فالبناء على القبور منهي عنه أصلاً، وفي الحديث الصحيح أيضاً: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر ونهى أن يجصص).
فمجرد وجود البناء على القبر منهي عنه.
فقوله: ((ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا)) هذا منهي عنه في شريعتنا إن ثبت أن ذلك كان مشروعاً لهم، وليس ما قاله البعض من أن اتخاذ القبور مساجد كان جائزاً في شريعتهم، وقد ورد في شريعتنا ما يخالفه، بل لم يكن جائزاً لهم بنص الحديث وإلا فعلام الويل؟ فالويل على أنهم اتخذوا القبور مساجد، وذكرت أم حبيبة وأم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة فيها الصور، فقال: (أولئك إذا كان فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).
ولقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
فاتخاذ القبور مساجد من الغلو في الصالحين، فلا بد أن نفسر القرآن بالقرآن، قال تعالى: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) فهؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم من الضالين الذين فعلوا ما نهى الله عنه من الغلو، وما لعنهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأن الله لعنهم؛ لأنهم اتخذوا القبور مساجد، وهذا فيمن سبقنا من أهل الكتاب والآية فيهم، فلا نزاع بأن هذا النص العام دخل فيه هؤلاء بالقطع واليقين، ولذلك نقول: إن الصحيح الذي لا شك فيه أن هؤلاء مذمومون في الكتاب والسنة على فعلهم ذلك، وإن كانوا من أهل الإسلام في الجملة فلا يلزم من ذلك صحة تصرفاتهم، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل ما صنعوه مشروعاً لهم، فضلاً عن أن يكون مشروعاً لنا، وقد علمنا بلعن النبي صلى الله عليه وسلم لمن بنى المساجد على القبور أنه ليس من شريعتهم اتخاذ القبور مساجد، ونعلم يقيناً أن البناء على القبور مطلقاً منهي عنه في شريعتنا، فشرع من قبلنا يصير شرعاً لنا إذا لم يرد في شرعنا بخلافه، أما إذا ورد في شرعنا ما يخالفه فلا نزاع أنه لا يكون شرعاً لنا، وهذا مما ورد النهي عنه، وقد ورد شرعنا بخلافه، فضلاً أن اتخاذ القبور مساجد ليس من شريعتهم كما ذكرنا آنفاً، ومن أحسن المؤلفات التي جمعت الأحاديث المتواترة المستفيضة في ذلك كتاب الشيخ الألباني رحمه الله: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد.
(12/5)
حرمة الغلو في الصالحين
ومعلوم لكل ناظر فيما آل إليه أمر المساجد التي بنيت على القبور، فقد آل الأمر إلى غلو فظيع وإفراط مذموم، أدى إلى أن يطاف بهذه القبور وأن يذبح وينذر لها، وأن توضع عليها صناديق النذور، وما زالت صناديق النذور إلى يومنا هذا موجودة في أضرحة من يسميهم الناس بالأولياء، والله أعلم بأوليائه سبحانه وتعالى، إذ إن الولاية إيمان وتقوى، ومن هنا كان لا يجوز أن نجزم بولاية من لم ينص الكتاب والسنة أو أجمعت الأمة على ولايتهم، والله أعلى وأعلم.
والغلو في العبادات منهي عنه؛ لأنه يوقع في الشرك؛ ولأن الغلو فيمن كان قبلنا أدى بهم إلى أن يعبدوا الصالحين والأنبياء، كما وقع من قوم نوح في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر؛ فإنهم عبدوهم من دون الله.
قال غير واحد من السلف: عكفوا على قبورهم وصوروا تلك التماثيل، فجمعوا بين فتنة القبور وفتنة التماثيل، فوقع ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه من الشرك.
ومن هنا نعلم أن التحذير من هذا الأمر مما لا يختلف فيه؛ لأن أزمنة المتأخرين اشتدت فيها الفتن وكثر الجهل فهم أولى بالتحذير، لكن البعض يتكلم بكلام وهو لا يدري ما يقول، فيقول: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، محاولاً الجمع بين النصوص، نقول: وأي اختلاف حدث بين النصوص حتى يجمع بينها؟! فيقول: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، فلما استقر أمر التوحيد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد، واحتج بأن الصحابة جعلوا مسجده صلى الله عليه وسلم على قبره.
فنقول: إن الصحابة لم يبنوا على القبر مسجداً، بل دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته، وإنما تم توسيع المسجد من حول القبر في عهد بني أمية، عندما كان عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة، والحقيقة أن عامة العلماء -وإن وردت بعض الآثار في أن بعض التابعين أنكر التوسعة حول المسجد- يرون أن توسعة المسجد مما لا بأس به للحاجة، ويقولون: إنه طالما أن الناس لم يمكنوا من الدخول للصلاة في الحجرة، فإنه لم يتخذ القبر مسجداً.
والمسجد أصلاً لم يبن على القبر، بل بناه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبالتالي فلا حاجة إلى تغيير الواقع الحالي.
ومن العلماء من يقول: ينبغي لمن يسر الله له عمارة المسجد النبوي عمارة جديدة أن يخرج القبر من المسجد، وهذا من باب سد الذريعة، وليس معنى ذلك أن المسجد الآن مبني على قبر، أو أن القبر قد اتخذ الآن مسجداً، لا، ولا يقول بذلك عالم، بل كل العلماء متفقون على أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على حاله التي هو فيها الآن مشروعة، ولها الفضيلة المذكورة في الأحاديث، ولكن الخلاف في أيهما أولى من باب سد الذريعة.
إذاً: المسجد مبني أصلاً قبل القبر، والآن لم يتخذ القبر مسجداً؛ لأنه لا يتمكن أحد من الدخول إلى الحجرة ليصلي داخل الحجرة أمام القبر، وأما النية فلا يمكن لأحد أن يحاسب العباد على نياتهم، كما أن من عبد النبي صلى الله عليه وسلم وسأل منه قضاء الحاجات وكشف الكربات في نيته وقلبه فإنه لا يستطيع إظهار ذلك بحمد الله تبارك وتعالى، وإنما يكون في نيته وقلبه واعتقاده شرك يتعلق به ويضر نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
والوثن لا يكون وثناً إلا بإظهار العبادة حوله، وبحمد الله تبارك وتعالى لا يبدو حول القبر إلا الراكع والساجد والموحد لله سبحانه وتعالى.
فخلاصة الكلام أن اتخاذ القبور مساجد منهي عنه في شرع من قبلنا وفي شرعنا، وعليه تغليظ شديد في شرعنا، كما قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (أولئك شرار الخلق عند الله) فيدل على أن اتخاذ القبور مساجد من الكبائر.
(12/6)
الرد على شبهة صلاة عائشة في حجرتها بعد دفن النبي وصاحبيه فيها
يبقى سؤال ينبغي أن نفهم إجابته وهو: أن السيدة عائشة رضي الله عنها بقيت نحواً من أربع وأربعين سنة في حجرتها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مدفوناً فيها، فكيف كانت تصنع؟ وهل كانت تخرج كل صلاة إلى خارج الحجرة؟ قال بعض العلماء المعاصرين: إن ذلك كان يقع، وليس هناك دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر على أن عائشة كانت تخرج كل صلاة لتصلي خارج الحجرة، والذي لا نشك فيه أنها كانت تصلي في حجرتها كما كانت تفعل في حياته عليه الصلاة والسلام، وقد أضيف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قبر أبيها وقبر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن نقول: إن ذلك ليس بدليل على ما يريد هؤلاء من إثبات جواز الصلاة في المساجد التي بها القبور؛ وذلك لأن عائشة رضي الله عنها لم تقصد القبر بالصلاة، ولم تنو أنها تصلي إلى جوار القبر، وإنما هي كانت ساكنة في بيتها، ولو أن إنساناً دفن في بيته الآن -مع أن ذلك خلاف السنة- فماذا يكون حكم الصلاة في هذا المنزل؟ ليس في هذا المنزل اتخاذ للقبر مسجداً؛ لأن المنزل مبني قبل القبر وإنما دفن الرجل في منزله، فلذلك لا تكون الصلاة في هذا المنزل مكروهة ولا محرمة، بل جائزة إلا أن يستقبل القبر ويجعله في قبلته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور، وهذا الذي لا نشك فيه، فـ عائشة لم تكن تفعله، بل كانت تصلي في حجرتها إلى القبلة لا إلى القبر، ولم تكن تتحرى أن تجعل القبر في قبلتها، ولو كان بغير قصد لما جاز، كما ثبت ذلك في البخاري معلقاً مجزوماً به: أن عمر رضي الله عنه رأى أنساً يصلي إلى قبر وهو لا يدري، فقال عمر: القبر القبر، فظن أنس أنه يقول: القمر القمر، فظن أن هناك كسوفاً أو نحو ذلك، فقال له عمر: القبر القبر، فتخطى أنس رضي الله عنه حتى جعل القبر وراء ظهره).
ومن هنا نقول: إنه لا يجوز أن يستقبل القبر بالصلاة إذا كان الإنسان مدفوناً في بيته، ولا نعني بذلك أن المسجد الذي بني على القبر إذا كان القبر في غير اتجاه القبلة أن الصلاة تجوز فيه، لا؛ لأن أحد شروط اتخاذ القبر مسجداً: هو وجود بناء حول القبر، سواء كان ملصقاً به، أو كان مبنياً عليه، أو أي شيء طالما بني من أجل الصلاة عند القبر، وأغلظ من ذلك أن يكون القبر في اتجاه القبلة، وحتى لو كان في مؤخرة القبلة طالما أن المسجد بني من أجل القبر، ويقصده الناس تعظيماً لصاحب القبر، فهذا داخل في المنهي عنه والعياذ بالله.
إذاً: السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تصلي في حجرتها ولا تستقبل القبر، وهي كذلك لا تنوي بصلاتها إلى جوار القبر أن تتبرك، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين كانوا كثيراً ما يدخلون عليها للسؤال وللاستفتاء ولسماع الحديث وما كان أحد يتعمد أن يصلي بجوار القبر تبركاً به.
ومن هنا نقول: إن الذي قصد أن يدخل إلى الحجرة ليصلي بجواز القبر فهذا هو الذي اتخذ القبر مسجداً، وهو بحمد الله لا يتأتى لأحد بحال من الأحوال.
والذي دفن في منزله لا ينهى أحد عن الصلاة في هذا المنزل، ولا ينهى إلا عن أن يصلي الإنسان مستقبلاً القبر، أو أن يأتي مسافراً للصلاة في هذا المنزل معتقداً بركة الصلاة بجوار الولي، كما أن بعض الطرقيين هنا يدفنون شيخهم وسيدهم في حديقة منزله الذي كان يسكنه، وفي أيام المولد يأتون من كل أرجاء البلاد للصلاة بجوار القبر وعند القبر، مع أنه ليس هناك مسجد، بل هذا منزله وما زال يسكن فيه ورثته وأبناؤه ونحو ذلك، وهي طريقة القادرية من الصوفية، وهم لم يتخذوا مسجداً مبنياً، لكن لا شك أن سفرهم وقصدهم للصلاة داخل هذا المنزل لأجل القبر من باب اتخاذ القبر مسجداً.
وأما من كان ساكناً بالمنزل بطريقة عادية فصلى لم ينه عن ذلك، وإنما الذين يعتقدون فضيلة الصلاة في هذا المكان هم الذين اتخذوا القبر مسجداً، وإذا بنوا بناء على القبر فهذا أشد، وأغلظه ما كان القبر في اتجاه القبلة.
(12/7)
حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر
هل تبطل الصلاة في مسجد فيه قبر أم تصح مع التحريم أم تصح مع الكراهة؟
الجواب
قد أطلق كثير من العلماء المتأخرين كراهة الصلاة في المساجد التي بها قبر، وقد نقلوا عن الأئمة الكبار نحو هذا الأمر، كما قال الشافعي رحمه الله: أكره أن يتخذ المسجد على قبر أحد، أخشى عليه الفتنة وعلى من بعده.
فظن البعض أن (أكره) هنا معناها: كراهة التنزيه، وهذا لا يظن بـ الشافعي رحمه الله، وإنما هو تأدب من العلماء رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يستعملون لفظ الكراهية على بابها الشرعي، وذلك أن الله عز وجل قال عن الشرك وعقوق الوالدين وقتل النفوس والزنا وغير ذلك: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، فهم يستعملون الألفاظ الشرعية كراهة أن يستعملوا لفظ التحريم إلا فيما نص الشرع على أنه محرم، لكنهم يعنون بالكراهة كراهة التحريم، فهذه الكراهة الشرعية صريحة في أن ذلك من باب سد الذريعة؛ لخوف الفتنة، لا لاعتبار أن ذلك بما يتنجس من صديد الأموات وما يصيب الأرض من آثار أبدانهم فإن ذلك ليس بعلة، ولا لأنه قبر واحد أو اثنان أو ثلاثة كما فرق بعض المتأخرين من الحنابلة فقالوا: إنما تسمى مقبرة إذا كانت ثلاثة قبور فأكثر، أما إذا كان قبراً واحداً فلا يسمى مقبرة، فظنوا أن النهي معلق بعدد القبور، ولذلك قالوا: إن هذا التفصيل لا دليل عليه.
والصحيح الذي لا شك فيه أنه قد تسمى مقبرة وفيها قبر واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت الأرض مسجداً إلا المقبرة والحمام).
والذي لا شك فيه أن العلة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد ليست النجاسة؛ لأن النجاسة غير موجودة، فالمؤمن لا ينجس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمن طاهر حياً وميتاً على ظاهر الأدلة، هذا أولاً.
ثانياً: ليس لأجل تسميتها مقبرة بوجود ثلاثة قبور فأكثر أو أقل، وإنما ذلك كما فهمه الشافعي رحمه الله بقوله: أخشى عليه الفتنة وعلى من بعده، وذلك خشية الفتنة بالوقوع في الغلو المذموم ومجاوزة ما شرع الله عز وجل في حق الأموات من الدعاء لهم، وليس طلب الدعاء منهم فضلاً عن دعائهم هم، وكل ذلك يقع بسبب اتخاذ القبور مساجد.
إذاً: الكراهة التي نقلت عن بعض العلماء تحمل على كراهة التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليلعن من فعل مكروهاً تنزيهياً، وإنما اللعن على الكبائر، لذلك نقول: إن اتخاذ القبور مساجد على الصحيح هو من الكبائر والعياذ بالله، وكما ذكرنا من ذلك: بناء المسجد حول القبر أو عنده، وقصد الصلاة في هذا المسجد، وقصد الصلاة إلى القبر بأن يجعل القبر في قبلته، وإذا اجتمعت هذه الثلاثة الأمور فهي أغلظ أنواع المحرمات في هذا الباب.
أما عن حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر فالقول بالبطلان منقول عن الإمام أحمد وقد رجحه ابن تيمية وابن القيم وهو قول الظاهرية، وهو اختيار الأستاذ سيد سابق رحمه الله، وذلك قول متجه خصوصاً فيما إذا كان الذي يأتي إلى المسجد للصلاة يعتقد فضيلة الصلاة عند القبر، فهو يقصد عين ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يأتي متبركاً معظماً لصاحب القبر بالصلاة عنده، فالصحيح في هذا أنه يعيد الصلاة؛ وذلك لأنه فعل الشيء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، وهذا أمر يؤدي إلى بطلان صلاته.
وأما إذا كان الإنسان إنما صلى في المسجد الذي فيه قبر وهو يعلم بوجود القبر لكنه متأول ويرى أن الصلاة لا تحرم في هذه الأماكن، وهو لا ينوي التقرب إلى الله في الحقيقة بالصلاة بجوار القبر، وإنما حضرت الصلاة فدخل فصلى، أو كان يحضر مجلس علم فحضرت الصلاة فصلى، أو أنه تقابل مع إنسان هناك، أو أنه كان على طريقه ففعل ذلك، فالصحيح أنه يكره ذلك كراهة تحريمية، لكن في بطلان الصلاة نظر؛ لأن هذا النهي في هذه الحالة لم يتوجه إلى ذات المنهي عنه وإنما فعل ذلك بغير قصد والله أعلم، ومن العلماء من يبطلها مطلقاً، والأحوط أن يعيد تلك الصلاة التي صلاها في مسجد به قبر.
وأما إذا كان لا يدري بوجود القبر وإنما علم بعد الصلاة فهذا لا يعيد الصلاة؛ وذلك لأثر أنس وعمر رضي الله عنهما؛ لأن أنساً مشى في الصلاة حتى جعل القبر خلف ظهره، ولم يخرج منها ولم يبطلها، ولهذا نقول: إن الصحيح في هذه الحالة أن الصلاة صحيحة وهو معذور؛ لعدم علمه بأن في المسجد قبراً، كما يحدث من كثير من الناس، ولكن إذا علم قبل أن يصلي فليخرج من هذا المكان؛ فإن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، فإذا كان الأمر كذلك فليصل حتى ولو في الطريق ففي الأرض سعة، حتى ولو خشي أن تفوته الصلاة لم يجز أن يصلي في هذا المكان بل يصلي في الطريق طالما الأمر فيه سعة ويمكنه الصلاة في أي مكان، لكن لو أن إنساناً حبس في مثل هذا المكان لكان معذوراً كالذي يصلي خشية فوات الوقت؛ لأنه كاره بقلبه ولا يستطيع غير ذلك.
فهذه بعض أحكام مسألة اتخاذ القبور مساجد، وهي مسألة شائكة وخطيرة جداً؛ لكثرة من ابتلي من المسلمين بوجود القبور داخل المساجد، وكثير من الناس يجعل هذه المسألة مما يستهان بها، ولذلك تجد كثيراً يرون عدم الخوض في هذه المسألة؛ لأن ذلك ينفر طائفة من الصوفية، وهذا كلام منكر، بل يجب أن نبلغ الحق؛ لأن ذلك ذريعة إلى الغلو الذي هو ذريعة إلى الشرك.
أيضاً ننبه إلى أنه ليس كل من صلى في مسجد به قبر يكون مشركاً؛ لأن كثيراً من الناس يظن ذلك ويتوهم هذا وهو كلام خطير، إذ إن اتهام المسلمين بالشرك خطر كبير، فيقول بعضهم: إن فلاناً هذا يصلي في المساجد التي بها قبور فهل تصح الصلاة خلفه؟ فلمجرد أنه صلى في المساجد التي بها قبور يجعله ملحقاً بمن يعبد القبور! فهذا لا يصح؛ لأن هناك فرقاً بين اتخاذ القبور مساجد وبين عبادة القبور، فلابد أن يظهر من الشخص ما يثبت أنه من عباد القبور، ولا يجوز أن نحكم بالعموم لكل من صلى في مسجد البدوي أو أبي العباس أو غيرهما بأنه يعبد هؤلاء، حتى وإن صلى هناك وكان يتبرك بالصلاة إلى جوار القبر، وحتى لو رجحنا أن الصلاة فيه باطلة مع أن جمهور العلماء يجوزونها مع الكراهة، لكن الراجح أن هذه الكراهة كراهة للتحريم؛ لأنه لا يظن بهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يلعن على كراهة التنزيه، لكن يعتقد أنه غير مشرك في صلاته؛ لأنه ما صلى إلا لله، وما دعا غير الله، والمشرك هو الذي صرف شيئاً من العبادة لغير الله، بأن نذر أو ذبح أو سجد لصاحب القبر، أو حلف به معظماً له كتعظيم الله ونحو هذا، أو طاف بقبره ظناً منه أن ذلك أفضل من الطواف بالكعبة أو يماثله، فهذا الذي يعد شركاً، أما مجرد الصلاة والدعاء بجوار القبر فهذه بدع وضلالات لا ترتقي إلى الشرك الأكبر، لكنها ذريعة له، فيخشى على صاحبها من ارتكاب الشرك الأكبر والعياذ بالله من ذلك.
لذلك ليس كل من صلى في المساجد التي بها قبور يكون مشركاً، بل الأمر يحتاج إلى تفصيل: فينظر إلى فعل هذا الشخص: أيعبد صاحب القبر؟ أيصرف له شيئاً من العبادة، أم أنه يصلي هناك فقط؟ فإذا علمنا أنه يصرف العبادة لغير الله فلابد أن تقام عليه الحجة قبل أن تكفره بعينه، فقد يعذر بسبب الجهل في هذا المقام وكثرة التلبيس، والله تعالى أعلى وأعلم.
(12/8)
الأسئلة
(12/9)
حكم تقليد العامي في العقائد
السؤال
اختلف علماء الأصول في حكم تقليد العامي في العقائد، وكثير منهم إن لم يكن أكثرهم يقولون بالمنع، فهل يستدل لهم بهذا الحديث الذي يقول: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)؟ وما أصل هذه المسألة بالفعل؟ وهل من يقول بالمنع قد يحكم عليهم بأنهم كفار؟
الجواب
هذا قول المعتزلة الضلال الذين يقولون: إنه لابد من الأدلة على طريقتهم، ولم يزل عوام أهل الإسلام يتلقون العقائد الكبرى الأساسية التي هي أصول الإيمان جيلاً عن جيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يأخذون عن علمائهم.
وهم ينسبون ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يتلقوا إسناداً، وطالما كانت الأحاديث متواترةً ظاهرةً فلا يلزمهم معرفة الإسناد، وإن كانت المسائل التي فيها الاستدلال والاختلاف لابد أن يكون هناك دليل، لكن المسائل العظمى مثل: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر فهذه أمور لا بد أن نعرفها بدليلها، لكن الأدلة عند هؤلاء المبتدعين هي الأدلة العقلية وليس أنه يعرف الآية أو الحديث أو معناه، فإذا عرف معنى الحديث واعتقد أن هذا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق العالم فلا يعد مقلداً التقليد المذموم، والمعتزلة يكفرون من لم يعرف الله بالأدلة العقلية على طريقتهم، والعياذ بالله.
(12/10)
عذاب القبر جزء من عذاب الآخرة
السؤال
هل عذاب القبر من الحساب؟
الجواب
نعم، هو من الحساب وجزء من العذاب، فإن كان قدر على الإنسان -مثلاً- بسبب سيئاته أنه يعذب يوم القيامة ثلاثمائة سنة فقد يعذب في القبر مائة سنة ثم ينعم بعد ذلك على قدر ما عذب، وليس بهذه الطريقة طبعاً، ولكن لا شك أن القبر هو أول منازل الآخرة، فهو جزء من عذابه كما يقول ابن القيم رحمه الله وكما ذكره أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: إن الإنسان يطهر عدة تطهيرات، منها: المصائب التي تصيبه في الدنيا، ومنها: سكرات الموت، ومنها: لحظة خروج الروح، ومنها: ما يكون في القبر، فالإنسان قد يعذب في قبره بذنب أذنبه ويكون ذلك كافياً ولا يعذب عليه ثانية وربما كان أشد، فربما بقي عليه من ذلك شيء يوم القيامة، لكن هذا جزء من عذاب الآخرة، فإن بقي عليه شيء كان في أهوال القيامة، فإن بقي عليه شيء كان لابد له أن يدخل النار، فيعذب حتى يتطهر مطلقاً ثم يخرج إلى الجنة بعد بذلك؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا أصحاب النفوس الطيبة من المؤمنين.
(12/11)
وجه تعدد أعمال الملائكة وتنوعها في القبر وغيره
السؤال
هل الروايات المتعددة بكيفية السؤال والعذاب في القبر تعني أن العذاب مشترك مع كل واحد بحسب حاله أم أن كيفيات العذاب لا يعلمها إلا الله؟
الجواب
هو نوع من العذاب الذي يكون هناك، ويمكن الجمع بين الأدلة، فهو يقيض له أصم أبكم أعمى يضربه بمطرقة من حديد، وهذا لا يمنع أنه يضرب بالمطرقة أحياناً وبسوط أحياناً، وأن الدابة صماء، وهو الأصم الذي في الرواية الأخرى.
فهي أنواع متعددة في أوقات مختلفة أو في نفس الوقت والله أعلم.
(12/12)
حكم سماع أشرطة طارق السويدان
السؤال
ما حكم سماع أشرطة طارق السويدان التي تتعلق بالفتنة التي وقعت بين الصحابة؟
الجواب
فيها آراء غير سوية وعقيدة غير صحيحة، وفي أمر السيرة وقصص الأنبياء الأمر فيه احتمال؛ لأنه كسائر كتب السيرة، لكن بدون تمحيص، ففيها الصحيح والضعيف حتى في قصص الأنبياء.
(12/13)
حكم سب الدين والضابط في العذر بالغضب
السؤال
رجل والده يسب الدين في بعض الأحيان، ويكون هو السبب والعياذ بالله؛ لأنه لا ينفذ ما أمره به، فما الحكم؟
الجواب
عليه أن يتحمل، ولا يلجئ والده إلى ذلك حتى لا يكون سبباً لوقوعه في الكفر والعياذ بالله، والغضب ليس عذراً إلا إذا وصل إلى الجنون، أما غير ذلك فلا يكون عذراً، والأعذار المذكورة في الأحاديث والآيات هي ستة، منها ما في قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم والمجنون والصغير) ومنها أيضاً التأويل وعدم البلاغ.
(12/14)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [5]
لا علم للعباد إلا ما علمهم الله سبحانه، فهو العالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، يعلم ما كان وسيكون، ومن ذلك علمه بعدد أصحاب الكهف ومدة مكثهم في كهفهم، والواجب على العباد أن يردوا ما أشكل عليهم إلى عالمه، وأن لا يتكلموا إلا بعلم.
(13/1)
عدد أصحاب الكهف
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: يقول الله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا * وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:22 - 28].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم): يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضعف القولين الأولين بقوله: ((رجماً بالغيب)) أي: قولاً بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه؛ فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: (وثامنهم كلبهم) فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.
وقوله: ((قل ربي أعلم بعدتهم)) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى؛ إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا اطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا.
وقوله: ((ما يعلمهم إلا قليل)) أي من الناس.
قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله عز وجل، ويقول: عدتهم سبعة، وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} قال: أنا من القليل، كانوا سبعة.
فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.
وهو استدلال دقيق من كتاب الله عز وجل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أبطل قولين وسكت عن الثالث فأرشد إلى القول الراجح، وأرشد إلى ثمرة الخلاف، وما ينبغي في مثل هذا الموطن.
(13/2)
كيفية عرض أدلة المسائل الخلافية
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن القرآن أشار في هذه القصة وهذه الطريقة إلى ما ينبغي في مسائل الخلاف، فالذي ينبغي في مسائل الخلاف استيعاب الأقوال المذكورة، وتبيين الثابت منها، وإقرار الحق، وبيان فائدة الخلاف وثمرته إن كان له فائدة، وختم ذلك بتفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا من أعظم وأهم ما دل عليه القرآن فيما ينبغي أن يكون في مسائل الخلاف.
وكثير من الناس يهمل في مثل هذا المقام أشياء مما ذكرنا، فمنهم من لا يستوعب الأقوال المذكورة، فيكون قد قصر في إزالة الشبهة عن بعض الناس؛ لأنه يحتمل ألا يكون قد اطلع على القول الذي لم يذكره، فكيف يرجح أو يبطل قولاً هو لم يطلع عليه، فلذلك كثير من الناس إذا ذكر قولاً وفي المسألة أقوال يتضح للسامع أو القارئ أن المتكلم أو الكاتب ليس عنده من العلم ما يجعله يستوعب المسألة.
وقد يذكر كثير من الناس الأقوال دون إشارة إلى ضعيفها من صحيحها، ولا يبين من أين يؤخذ القول الصحيح، ومجرد حكاية الأقوال دون إشارة إلى الراجح والمرجوح تضييع للوقت، وإشغال للعقل من غير ما فائدة، وماذا يستفيد من حكيت له الأقوال المختلفة في مسألة واحدة، وهي متناقضة متضادة، وما رجحت له وما شفيت غليل قلبه؟! ولذلك لا يصح الاعتماد على الكتب التي تحكي الأقوال مجردة بلا دليل وبلا ترجيح.
وقد وجد في كتب الفقه من يستخدم الطريقتين، فمنهم من لا يذكر مسائل الخلاف وإنما يذكر قولاً واحداً هو مذهبه الذي يعتقده ولا يشير إلى غيره، ومن الكتب ما يجمع المذاهب المتعددة ويجعلها أمام القارئ، وكذا من يعلم طلاب العلم يذكر لهم الأقوال المتعددة، وربما بعض المفتين يفعل ذلك جرأة على الفتوى بغير حق، وذلك أنه يعرض على المستفتي فلان قال كذا وفلان قال كذا، ويتركه ينتقي بنفسه، وهذا من أعظم أسباب الانحراف، ومن تمليك العوام زمام الفتوى الذي ليس لهم منه نصيب، وليس لهم أدواته ولا العلم به، والصحيح أن سبب ذلك هو التقليد الأعمى، وجعل أقوال المشايخ والأئمة بمنزلة الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا تقصير، فلابد أن يشير إلى الراجح والمرجوح.
(13/3)
فهم إشارات القرآن والاستنباط منها
فهم ابن عباس رضي الله عنه من كتاب الله عز وجل ذلك بدقيق الفهم وعميق العلم، فعلم كيف أشار القرآن إلى تضعيف القولين، وأشار إلى تصويب وتصحيح الثالث بالسكوت عنه؛ فإن الله ما كان ليسكت على منكر ذكر في كتابه سبحانه وتعالى، وقد لا يكون النص صريحاً واضحاً يفهمه كل أحد، ولكن يشير إليه القرآن، وقد يكون الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي قد فهم إشارة القرآن فيبين ذلك بكلامه، كما ذكرنا في قوله تبارك وتعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] فكان فيها إشارة إلى أن الذين قالوا ذلك ليسوا من أهل العلم ولا الصلاح ولا الإيمان، وإنما من أهل القوة والغلبة والسلطان، ومعلوم أن المتقدمين من كان فيهم من أهل القوة والسلطان كان قليل العلم أو منعدمه، أو عنده أنواع من البدع، وبين النبي صلى الله عليه وسلم إشارة واضحة عند من تأملها بنهيه عن اتخاذ القبور مساجد، وأن اليهود والنصارى لعنوا بسبب اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
والمقصود: أن القرآن لا يسكت على الباطل الذي يحكيه بل يرده ويبطله، ولكن كم من الناس من يفهم ذلك؟ قليل، كم من الناس يستطيع الاستنباط من كتاب الله عز وجل بهذه الطريقة التي كان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون ويستنبطون بها؟ قلة نادرة، وكلما اقترب الإنسان من كتاب الله وكان ألصق بطريقة الصحابة رضي الله عنهم؛ ازداد فهماً ووضحت له الأمور، وقلما أعوزته النصوص، وقلما يضطر إلى القياس؛ لأن النصوص تكون عنده واضحة وبينة يأخذ منها الأحكام بطريقة سهلة ميسرة، ويتعجب الناس كيف وصل إلى هذا! مع أنه واضح وجلي وبين، لكنه فهم يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء، كما قال علي رضي الله عنه عندما سألوه: هل عهد إليكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، ثم أخرج كتاباً فيه قدر الديات، وأسنان الإبل، وأنواع من الجراح، وألا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، وأن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ثم قال: إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتاب الله.
وهذا من أعظم أبواب العلم أن يفقه الإنسان القرآن، فيعرف الإشارات والدلائل القرآنية التي يستدل بها، ولكن هذا قلة في الناس، ولذا قال: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) وطوبى لمن تعلم هذا من حبر هذه الأمة وعالمها عبد الله بن عباس فيكون من القليل، وإلا فكم من الناس يقرءون سورة الكهف ولا يدرون ما الراجح من هذه الأقوال، وما هو عدد أصحاب الكهف، وإذا قرأ الإنسان ذلك وفهمه وعلم كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه فهم الراجح من المرجوح في هذا.
والترجيح يكون بالدليل، ذلك أن الله هو الأعلم: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) فالدليل كان من الوحي؛ لأنه لا سبيل إلى معرفتهم بالعقل، فكيف ندرك عدد أصحاب الكهف بطريقة من طرق الحساب، أو بوسيلة من وسائل النظر والاستدلال؟ لا يمكن معرفة ذلك إلا من خلال دليل سمعي، أو دليل من الوحي ينزل على الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فكان هذا؛ لأن الله هو الأعلم ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) دليل على أن ذلك لا يتلقى إلا من جهة الوحي من عند الله الذي هو أعلم بالعدة.
كذلك ينبغي أن يقول الإنسان بعد ذكر مسائل الخلاف: الله أعلم.
(13/4)
ذم استفتاء الجهال ومماراتهم
ثمرة الخلاف في ذلك قليلة، ولذا قال: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)) لا فائدة من المناظرة في مسائل لا سبيل إلى البحث فيها إلا من خلال الوحي، ومن قبل الوحي انقطع عن الكلام، ومن أباه لا ينبغي أن يعارض، ولا ينبغي أن يضيع الوقت معه، ولا ينبغي أن يمارى أو أن يستفتى، وذلك لجهله وضلاله وانحرافه عن الحق، فكيف نستفتيه؟! ولذلك قال عز وجل: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا))، وهذا دليل على النهي عن استفتاء الجاهل، وأنه لا يجوز أن يستفتى، وهذا بإجماع أهل العلم: أنه لا يجوز لأحد من المستفتين أن يستفتي من يعلم جهله أو بدعته أو فسقه، قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، ورتب الذنوب مبتدئاً بتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، أي: أن الذنب الذي فيه اعتداء على حقوق المخلوقين أشد وأبعد عن المغفرة حتى يسامح ذلك المخلوق، ثم ذكر الشرك، ثم ذكر أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، ولذا كان هذا من أعظم الخطر، ومن يفتي في دين الله سبحانه وتعالى بما لا يعلم فإنه داخل في هذا الوعيد، وإن كان لا يلزم أن يكون مستوياً مع المشركين، لكنه قد شابههم في بعض فعلهم فاستحق جزءاً من جزائهم.
والذي يرى أن من حقه أن يشرع للناس ديناً وعبادات، أو يرى ذلك حقاً لغيره وينسبها إلى الله عز وجل، ويجعل ذلك ضمن الدين الذي شرعه الله؛ فهذا هو الشرك الأكبر الذي عليه كثير من الناس -والعياذ بالله- حيث يجعلون الدين حقاً للناس لهم أن يقولوا فيه ما يشاءون بغير دليل ولا حجة.
(13/5)
ذم التقليد بلا دليل
هذه الآية الكريمة فيها دليل على ذم التقليد، وذم القول بلا دليل، وكلاهما باطل ومنكر؛ فمن يتبع بغير حجة، ويعمل بغير حجة ولا دليل لم يأت بسلطان بين، وهذا افتراء على الله الكذب -والعياذ بالله-، وهذه الآية نزلت في المشركين لكنها ذمتهم على أوصاف معينة لا يجوز أن يوجد في المسلمين شيء منها، فالذي يتبع لمجرد أنه وجد الناس يفعلون فهذا هو المقلد الذي يقلد من ليس قوله بحجة بلا حجة، وهذا مذموم، فطالما كان قادراً على أن يعرف الحق، وإذا كان لا يعلم الحق ولا يستطيع الوصول إليه فإنه يسأل أهل الذكر، كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
والحق أن هذا بمنزلة الميتة للمضطر، وإلا فأن يكون الإنسان على بصيرة طالما أمكنه ذلك فهذا فرض عليه، وأما إذا كان عاجزاً فإنه يسوغ له ذلك للضرورة، كما يأكل المضطر الميتة، وكما يقلد الأعمى غيره في القبلة؛ فإن هذا يسأل أهل الذكر لضرورته إلى ذلك، وإذا وضح له الحق بالدليل لم يجز له أن يتركه بحال من الأحوال.
(13/6)
عظم ذنب المفتي بغير علم
لابد أن يحذر المفتي أعظم الحذر من أن يفتي بغير علم، ومن أن يقضي بلا دليل؛ فإن تحليل الأموال والفروج والأطعمة والأشربة والحقوق إذا كان بلا بينة فهو من أعظم الافتراء والعياذ بالله، فمن استحل ذلك ورأى أن له أن يشرع، وأن يحلل ويحرم؛ فهذا أظلم الظلم وأكبر الشرك، وإذا كان يفعل ذلك بتقصير في الاجتهاد مع كونه قد تعرض للإفتاء، وأن ينسب إلى دين الله عز وجل كلامه فهو ذنب عظيم، ولذا اتفق العلماء على أن من شروط المفتي: أن يكون عالماً مجتهداً، وكذا من شروط القاضي: أن يكون عالماً مجتهداً؛ لأنه ينسب كلامه ذلك للدين والشرع، ويحكم باسم الشرع، وبالتالي فإذا حكم بغير علم فقد ضل -والعياذ بالله- وافق الحق أم خالفه، كما في الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ فالذي علم الحق وقضى به فهو في الجنة، والذي علم الحق ولم يقض به فهو في النار، والذي لم يعلم الحق فهو في النار).
ولم يذكر وافق أم خالف؛ لأن قبول هذا لولاية القضاء -ومثلها ولاية الإفتاء- وهو لا يعلم يعتبر جرأة عظيمة على الله سبحانه وتعالى، وهو في النار على أي الأحوال حتى لو وافق الشرع، فما وافقه لأنه يعلمه بل وافقه لأنه وافق هواه، ولذا كان الإفتاء بالباطل والتعرض للفتوى ممن ليس من أهلها، وكذا التعرض للقضاء ممن ليس من أهله أمر عظيم، فاعله له شبه من هؤلاء الذين افتروا على الله عز وجل كذباً، فلهم نصيب من ذلك على قدر ما فعلوه من تبديل الدين وتحريفه، وهذا سبب انحراف الأمم عن دين الأنبياء، فقد وجد فيهم من ينسب إلى هذا الدين ما ليس منه، فيقول على الله ما لا يعلم، ويفتري على الله عز وجل الكذب، فلذلك كان السلف رضوان الله عليهم يخافون جداً من مرتبة ومنصب الإفتاء والقضاء ويشفقون منها، وكلهم ود لو أن أخاه كفاه مئونة المسئول فأجاب عنه بدلاً من أن يعرضه لهذا الخطر.
وكان كثير جداً من السلف يرفضون منصب القضاء مع أهليتهم لخوفهم على أنفسهم من ذلك، كما يروى أن الشافعي رحمه الله لما عرض عليه هارون الرشيد أن يتولى القضاء ببغداد قال: لو أعطيتني ما عندك من الملك وملك الدنيا على أن أغلق باب القضاء بالليل وأفتحه بالنهار لما قبلت ذلك، فانظر إلى قضاء شرعي يتولاه مثل الإمام الشافعي يعرض عنه، ولو كان له مثل ملك الدنيا حتى لا يكون مشاركاً فيما قد يكون مخالفة للشرع.
ومع أن أهل العلم كانوا بالفعل أئمة مجتهدين، فمن أمثلة من تولى القضاء: القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وإمام عالم كبير مجتهد، فإذا كان الأمر كذلك فما أعظم ذنب من يفتي الناس بغير علم، ويقضي بينهم بغير علم، وينسب ذلك إلى الحق، وأنه الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، فإن من لا يتقي الله سبحانه وتعالى في الفتوى فيفتي بلا علم، أو لا يتقي الله سبحانه وتعالى في الذنوب والمعاصي، كيف يستأمن على الفتوى؟ فلا يجوز استفتاء الجاهل، ولا يجوز استفتاء الماجن الفاسق المتخبط في المعاصي الذي ظهرت معاصيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهي أن يستفتى في أهل الكهف من أهل الكتاب أو من غيرهم أحداً لفساد ما عندهم، وكذلك لكونهم لا تقوى عندهم لله سبحانه وتعالى تحجزهم عن مواقعة الباطل والإفتاء بالباطل.
(13/7)
ثمرة الخلاف في عدد أصحاب الكهف
قال ابن كثير رحمه الله: وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق -الأوضاح هذه مثل الفضة، يعني: كانوا صغاراً في السن- قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله، وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا، وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش، هكذا وقع في هذه الرواية، ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق ومن بينه وبينه؛ لأنه لا يصح أن يكون ابن عباس يقول: هم ثمانية، فإن الصحيح عنه بالأسانيد الصحيحة أنهم كانوا سبعة كما أن القرآن لم يحك القول بأنهم ثمانية، فدل ذلك على أنه غير مذكور ولا يعتد به ابتداء.
فإن الصحيح عن ابن عباس: أنهم كانوا سبعة وهو ظاهر الآية.
وفي تسميتهم بهذه الأسماء، واسم كلبهم حمران نظر في صحته والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب، فقد قال تعالى: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)) سهلاً بيناً، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة.
ولذلك لا ينبغي أن يناقش الإنسان في مسائل إلا بعد أن يعلم ثمرة الخلاف فيها، وإذا كان على غير ذلك فلتكن المجادلة بطريقة سهلة ميسرة، ولا ينشغل بالتدقيق والتحقيق في مسائل لا تفيد.
ولو أن أهل الفقه المتأخرين التزموا هذه القواعد لما حصل ذلك التقليد الأعمى والانحراف الشديد الذي وقع في كتب الفقه المتأخرة عما كان عليه الفقه في السنين والقرون الأولى بعد أيام الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والتابعين لهم بإحسان، فلقد كان الفقه ميسراً سهلاً، وإنما جعله صعباً عويصاً هذه التفريعات الكثيرة التي كثير منها لا ثمرة لها ولا فائدة منها عملياً؛ فيترتب على ذلك تضييع الوقت والعمر، فقال عز وجل: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)) أي: سهلاً ليناً هيناً كما قال ابن كثير.
قال ابن كثير: ((وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)) أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم ((رَجْمًا بِالْغَيْبِ)) أي: من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.
إن الجدال والمراء لا ينبغي إلا أن يكون بالتي هي أحسن، فإن الله عز وجل قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] وذلك لإظهار الحق وإبطال الباطل، ودون قبول الدخول في تفاصيل لا فائدة منها ولا ثمرة من ورائها.
وأما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً) وهو حديث حسن أو صحيح، فهو لمن علم أن مراءه لا يفيد، وأن جداله وصل إلى طريق مسدود، وأن البحث عن الحق قد انتهى بسبب الخصومة، وأصبح الناس يتعصبون لأقوالهم؛ فعند ذلك لو كان محقاً يترك المراء.
وأما إذا كان الطرف الآخر والمناظر أو الباحث يبحث عن الحق وما زال يتحرى الصواب، فينبغي أن يستمر معه في المراء، وليكن بالطريقة السهلة البينة الواضحة الهينة.
(13/8)
الاستثناء في الفعل ورد علم المستقبل إلى الله
قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:23 - 24].
يقول ابن كثير رحمه الله: هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، وفي رواية: تسعين امرأة، وفي رواية: مائة امرأة) وهذا هو الأرجح، لأن مفهوم العدد إذا خالفه منطوق فيقدم المنطوق الأكثر فهو يشمل الأقل، وربما قال: سبعين ثم عزم على التسعين، ثم عزم في النهاية على مائة، قال: (وفي رواية مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل.
فقيل له، وفي وراية قال له الملك: قل: إن شاء الله.
فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان) وضعت جنيناً مشوهاً، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركاً لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين).
وهذا يدلنا على أهمية الاستثناء، وأن يقول الإنسان: إن شاء الله، سواء أقسم أو أخبر أنه سوف يفعل، وسليمان عليه السلام لم يقل فيها: إن شاء الله، إما أنه اجتهد فأخطأ أو نسي صلى الله عليه وسلم، اجتهد أن هذه نية طاعة فلا ينبغي أن تقيد بالمشيئة وليس الأمر كذلك بل ينبغي أن تقيد بالمشيئة، أو أن الملك قال له ذلك فانشغل بما كان عزم عليه من الهمة العالية ابتغاء وجود المجاهدين في سبيل الله، فنسي أن يقول: إن شاء الله، وقدر الله عز وجل عليه أن لا تلد منهن امرأة واحدة، وذلك لأنه لم يقل: إن شاء الله؛ تعليماً للأمة في زمنه وبعد زمنه فائدة رد الأمور إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث أحسن ما يفسر به قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34]، فالجسد الذي ألقي على كرسيه هو شق ذاك الغلام الذي وضعته إحدى نسائه، ولم تضع غيرها، وكان في ذلك فتنة وامتحاناً له ليعلم من أين أتي في هذا المقام؟ حيث نسي أن يقول: إن شاء الله، أو انشغل عن ذلك، ثم أناب ورجع إلى الله سبحانه وتعالى وصار بعد ذلك يستثني ولا يترك ذلك، والله أعلى وأعلم.
(13/9)
سبب نزول سورة الكهف
قال ابن كثير رحمه الله: ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال: (بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؛ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقال: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غداً عما سألتم عنه، ولم يقل: إن شاء الله، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه! حتى أحزن رسول الله تأخر الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوا عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]).
(13/10)
مسألة الاستثناء في اليمين
ذكر الله في أول مسألة من المسائل الثلاثة مثالاً للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]؛ لأنه ترك الاستثناء صلى الله عليه وسلم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يستثني.
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] قيل معناه: إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له.
يعني: إذا لم تقل: إن شاء الله نسياناً، ثم تذكرت بعد ذلك فإنه يصح أن تقوله.
قاله أبو العالية والحسن البصري، وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) إذا نسيت ذلك.
قيل للأعمش: سمعته من مجاهد فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم -وهو ضعيف- وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.
يقول: ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة، أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله وذكر ولو بعد سنة، فله أن يقول ذلك، ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى لو كان بعد الحنث قاله ابن جرير رحمه الله، ونص على ذلك لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم.
لأن قول ابن عباس رضي الله عنه: له أن يستثني ولو بعد سنة في حلفه إن كان يقصد به أنه يسقط عنه كفارة لما كان هناك أصلاً معنى للحنث في اليمين ولا الكفارة؛ فإن كل إنسان أراد أن يتخلص من إثم حنثه فيما حلف عليه أن يقول في أي وقت: إن شاء الله، ثم إن التقييد بسنة لا يقصده ابن عباس وإنما يقصد التكثير، فالذي لا شك فيه: أن ذلك غير مقصود؛ لأنه يؤدي إلى إلغاء كفارة اليمين أصلاً وإلى أن يصبح اليمين قابلاً للإلغاء؛ لأنه يستثني إذا تبين له أنه يريد أن يخالفه مع أنه يكون قد حلف يميناً ناجزة ملزمة له، لكن الذي يحمل عليه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مسألة الأدب دون مسألة الكفارة، وعند الجمهور أنه لا يأثم الإنسان أن يحلف لا يفعلن كذا، ولكن يرون أن ذلك خلاف الأدب، والله أعلى وأعلم، ويقولون: هذا النهي للتنزيه، ويقولون: إن قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف:23] للتنزيه، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم على أشياء وأقسم أصحابه رضي الله عنهم على أشياء لا يفعلونها على أن يفعلوها ولم يستثنوا فلم ينههم عن ذلك نهياً جازماً أو نهي تحريم، فتبين بذلك أن هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام فيما أقسم عليه فإنه يدل على أن هذا النهي للتنزيه والله أعلى وأعلم.
ولذلك نقول: إن كان لتحصيل الفضيلة، فيقول: إن شاء الله ولو بعد سنة، أما إذا حلف واستثنى مباشرة بعد اليمين كان الاستثناء صحيحاً، وإذا لم يستثن مباشرة بعد اليمين وفصل فاصل عرفياً لم يصح الاستثناء، وهذا الفاصل العرفي لا يدخل فيه النفس الذي انقطع، أو أراد أن يأخذ نفساً، أو أنه مثلاً عطس أو انشغل بأمر أدى إلى أن لا يستثني مباشرة، وبعض العلماء يشترط أن يكون هناك نية الاستثناء منذ أول الكلام، والذي يظهر أنه لا يلزم ذلك، بل ربما تحدث له نية الاستثناء أثناء القسم أو في آخره وطالما اتصل به أجزأ.
وأجمعوا على أنه إذا قال: إن شاء الله.
في قسمه ليس عليه حنث، وإذا خالف ما حلف عليه لم يحنث بذلك، ولم يكن عليه كفارة؛ لأنه قال: إن شاء الله، والله أعلى وأعلم.
وذهب أهل الظاهر إلى أن له أن يستثني ولو بعد سنة، ويكون ذلك بديلاً من الكفارة، وهذا القول باطل ليس بشيء ولا قيمة له، وإن كان يظن أنه قول ابن عباس وليس كذلك إن شاء الله.
وقال عكرمة: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) إذا غضبت.
وفي الحقيقة أن الغضب من أسباب النسيان.
وقال الطبراني عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24] أن تقول: إن شاء الله.
وروى الطبراني عن ابن عباس في قوله: (واذكر ربك إذا نسيت) الاستثناء فاستثن إذا ذكرت.
وقال: وهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه، ثم قال: انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين.
والذي يظهر أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف دون استثناء، وكان أخبر أنه يكفر عن يمينه إذا رأى ما هو خيراً منها، قال: (والذي نفسي بيده! لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني)، فلو كان الاستثناء يحل محل الكفارة لاستثنى صلى الله عليه وسلم بعد مدة، ولما احتاج إلى الكفارة، ولكنه لم يفعل بل عزم على أن يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وهذا هو الصحيح.
إذاً: خلاصة الاستثناء أنه توجد مسألة الإثم ومسألة الأدب وتحصيل السنة، فإحسان الأدب وتحصيل السنة بأن يقول: إن شاء الله ولو في أي وقت يتذكره، ولكن ينعقد اليمين إذا لم يستثن متصلاً بيمينه كما ذكرنا إلا الفاصل اليسير عرفاً.
قال: ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو: أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله تعالى سبب للذكر، ولهذا قال: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) يعني إذا نسيت شيئاً مهماً فاذكر الله؛ فإن ذلك يعينك على تذكره؛ لأنه يذهب عنك الشيطان، وهذا ليس بظاهر، فجمهور السلف يقولون: إذا نسيت الاستثناء ونسيت أن تقول: إن شاء الله، والله أعلى وأعلم، أما هذا فيقول: إذا كنت ناسياً لأي شيء فدعاء النسيان أن تذكر الله، كأن تقول: سبحان الله، لكن الصحيح هو الأول.
قال: ((وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)) أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، وقيل في تفسيره غير ذلك، والله أعلم.
(13/11)
مدة لبث أصحاب الكهف فيه
قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:25 - 26].
يقول: هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن التفاوت ما بين كل مائة سنة قمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا)).
وهذا من المعجزات الظاهرة للقرآن، وهذا من أدق أنواع الحسابات والمشاهدات، وهذا أمر محسوس مشهود، إذ التفاوت بين السنة الشمسية والسنة القمرية أمر مرأي، وهناك أنواع من الأزمنة منها ما هو أمر عرفي ومنها ما هو أمر حسي، فاليوم أمر حسي؛ لأنه مرتبط بالشمس شروقاً وغروباً، الشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق مرة ثانية، فاليوم والليلة مرتبطان بغروب الشمس وشروقها، وأما الساعات والثواني والدقائق فهي أمر عرفي بين الناس، أن يقسم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، لكن هل تحدث علامة مميزة لكل ساعة في الكون؟ لا، بل هذا أمر اصطلح عليه الناس، وكذلك مثلاً أمر الأسبوع أمر عرفي؛ لأنه ليس أمراً حسياً، والشهر أمر حسي؛ لأن القمر يدور دورته كل شهر، والشتاء أمر حسي لتغير الفصول؛ لأن الشتاء يجيء كل سنة مرة، وهذا أمر ملحوظ محسوس أن الشتاء يأتي والربيع والصيف والخريف.
إذاً: هناك أمران حسيان: السنة التي هي اثنا عشر شهراً، وهما اثنا عشر شهراً قمرياً، والسنة الشمسية هي الفصول الأربعة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يقول: (سبعين خريفاً)؛ لأن هذه تكون سنة شمسية؛ لأن الخريف يأتي الخريف بعده، هذه سنة شمسية، وهذا الأمر بينه تفاوت كل سنة أحد عشر يوماً وجزءاً من اليوم بين اثني عشر شهراً قمرياً وبين سنة شمسية، لذلك الشهور الشمسية تتغير مع القمرية، والحسابات الفلكية الدقيقة على أحدث الطرق العلمية أثبتت أن كل ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى هذا بهذه العبارة: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25] ولم يقل: ثلاثمائة سنين وتسع سنين كالمعتاد، لماذا قال: (وازدادوا تسعاً) هو في الحقيقة ثلاثمائة سنين، ولو حسبتوها بطريقة أخرى يزدادون تسعاً، وفيه إشارة -والله أعلم- إلى الفرق بين السنة الشمسية وبين السنة القمرية، والله أعلى وأعلم.
يقول: فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، إذاً: ثلاثمائة سنة قمرية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين شمسية، فهذا من معجزات القرآن الظاهرة، والله أعلى وأعلم.
وقوله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) أي: إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).
وكذلك إذا سئل الإنسان عن شيء علمه بالوحي وجادله غيره فيقول: أنتم أعلم بالله؟ الله أعلم سبحانه وتعالى، الله أعلم بما لبثوا، فلو جادلك أحد فيكفيك أن هذا خبر من الله عز وجل، وهو الأعلم بما لبثوا سبحانه وتعالى.
وهذه السورة متضمنة لمعجزات ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: ذلك الخبر التفصيلي البين الذي يتضمن أنواع الفوائد عن قصة أصحاب الكهف، مع أن ذلك لم يكن عند العرب منه شيء قط، وكان اليهود عندهم من ذلك ما يهتمون به من الأسماء، واسم الكلب، واسم الملك الذي كان في زمنهم، وأين كان الكهف، ولم يهتموا بالفوائد العظيمة الإيمانية والعبادية والتهذيبية وسائر أنواع الفوائد التي تضمنتها هذه القصة العظيمة، وهذا السياق العربي الواضح البين الذي لا اعوجاج فيه، وهذه القصة لو كانت مترجمة لظهرت الركاكة في الترجمة كما يظهر في أي كتاب مترجم {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * {قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2] مستقيماً {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2] فهذه آيات تلو آيات للرسول صلى الله عليه وسلم في كل زمن من الأزمنة فيها تذكير لخلق الله سبحانه وتعالى بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(13/12)
علم الله الواسع
قال: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) أي: لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كـ مجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]: هذا قول أهل الكتاب وقد رده الله تعالى بقوله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) قال: وفي قراءة عبد الله وقالوا: (ولبثوا) يعني: أنه قاله الناس، وهكذا قال قتادة ومطرف بن عبد الله، وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب: أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع، يعنون بذلك الشمسية، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا))، والظاهر من الآية أنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم.
يعني: أن قول أهل الكتاب قول باطل، والصحيح أن القرآن أثبت أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ولو كانوا قالوا ذلك لكان إثباتاً لقولنا: إن القرآن سكت عليه، وذكر هذا لأجل أن الناس سوف يجادلون في مدة بقائهم، فيقولون: إنهم بقوا ثلاثمائة سنة فقط، فقال الله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)).
فكما ذكرنا كان هذا بياناً واضحاً شافياً بما يسعد به أهل الإيمان على الدوام، فإذا ناظرك أحد وأنت عندك علم من الله فقل لهم: الله أعلم منكم، فلا تجادلوا في أمر نزل فيه وحي.
يقول: والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة، ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها، والله أعلم.
والقراءة الشاذة لا يحتج بها لا في التلاوة ولا في الحكم ولا في التفسير؛ لأنها شاذة منقطعة بلا سند صحيح، فلا فائدة منها، ولا يمكن أن يحتج بها.
قال تعالى: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) أي: إنه لبصير بهم سميع لهم، أي: ما أسمعه وما أبصره عز وجل! (أبصر به) يعني ما أبصره.
(أسمع به) يعني: ما أسمعه، فما أعظم سماع الرب سبحانه وتعالى، وما أعظم بصر الرب تعالى! قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
تقول: ما أعظم هذا، يعني: هذا شيء عظيم جداً، ويمكن أن تقول: أعظم به، مثل أنعم به وأكرم.
قال: ثم روى قتادة في قوله: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.
قال ابن زيد: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعاً بصيراً.
وقوله: ((مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير، ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس.
(13/13)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [6]
قصة أصحاب الكهف فيها جملة من الأوامر والتوجيهات الربانية التي تحيي معاني الإيمان، فمن هذه الأوامر والتوجيهات: رد العلم إلى الله، والإيمان بأنه يعلم الغيب، والنهي عن اتخاذ الولي من دونه تعالى، وإفراده سبحانه وتعالى بالحكم.
وفيها أيضاً: الأمر بتلاوة القرآن والعمل بما فيه، وأن كلماته تعالى الشرعية أو الكونية لا تتبدل ولا تتغير، وأنه ليس هنالك ملجأ من الله إلا إليه.
(14/1)
الأوامر العادلة والأخبار الصادقة في خاتمة قصة أصحاب الكهف
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:23 - 26].
إن المتأمل قصص القرآن يجد دائماً في نهايتها جملة من الأوامر والتوجيهات الربانية التي تحيي معاني الإيمان، والتي يجب على كل مؤمن أن يعتقدها.
ذكر الله سبحانه وتعالى جملة من هذه الأوامر والتوجيهات الإلهية في خاتمة قصة أصحاب الكهف، وكان مما ذكر مدة مكثهم، وهذا دليل على وجوب تفويض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، ورد العلم إليه، والإيمان بصفة العلم التي هي من صفات الرب سبحانه وتعالى، ومن أركان عقيدة المؤمن إيمانه بالأسماء والصفات، قال تعالى: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)).
وكذا الإيمان بأن الغيب الماضي والمستقبل يعلمه الله سبحانه وتعالى، فهو وحده الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب في السماوات وفي الأرض، والمؤمن يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً.
وإذا أخبر الله عز وجل بعض خلقه بشيء منها، فلا تخرج عن كونها من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وأما في العهود الماضية فقد يعلم الله سبحانه وتعالى من شاء من خلقه على تفاصيل لم تقع، وإنما يذكر من ذلك لعباده المؤمنين في كتابه الكريم ما يحتاجونه في أمر دينهم وآخرتهم، ولا يذكر التفاصيل التي لا فائدة منها، فيذكر سبحانه من أنواع الغيوب ما ينتفع به أهل الإيمان.
(14/2)
الله عالم الغيب
قال تعالى: ((لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ))، هذه الآية فيها الإيمان بصفة السمع والبصر، والمعنى: ما أبصره وما أسمعه عز وجل، فهو السميع البصير، فالله علم أقوال العباد الماضية والمستقبلة، وسمع أقوالهم ورأى أفعالهم.
وهذه الآية فيها ترغيب المؤمنين في أن الله عز وجل يهديهم، وهو يسمع كلامهم وكلام عدوهم، ويرى سلوكهم وسلوك أعدائهم، فهو سبحانه ينتقم من الظلمة والمجرمين، ويصيب عباده المؤمنين، وهذا هو الترهيب، فهذه الآية: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) كما تتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته، تتضمن الترغيب والترهيب.
(14/3)
الله هو الولي
قال تعالى: ((مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ))، هذه الآية فيها نفي الولي من دون الله عز وجل، فالله الذي يتولى أمور الخلق بالإصلاح أو بالنصر أو بالإعانة أو غير ذلك، فلا يتوكل على غير الله، ولا يصلح الأمور أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذه هي عقيدة التوحيد، أي: توحيد الإلوهية التي يجب أن يحققها كل مكلف، فالذي يتولى غير الله فيجعله ولياً له، ويتوكل عليه ويسأله قضاء الحاجات، وكشف الكربات، فهذا أشرك بالله سبحانه، كما قال عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3].
فالذي يتولى غير الله فيجعله لقضاء حاجته، فهذا يوكل إلى العجز والضياع والخسران؛ لأنه سبحانه لم يجعل أحداً من دونه يتولى أمر عباده، ويصلح شأنهم، أو ينصر من دونه أحداً، إنما وحده سبحانه وتعالى الولي الناصر، ولذلك ليس لنا من دون الله عز وجل ولي، فلا نسأل غير الله، ولا نتوكل على غير الله، ولا نلجأ في كل مصالحنا وإصلاح أمورنا إلا إلى الله سبحانه وتعالى.
والله عز وجل جعل عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وليس ذلك من دونه سبحانه وتعالى، بل هذا بأمره عز وجل، فموالاة المؤمنين بعضهم بعضاً، ليست على سبيل الربوبية لبعضهم البعض، إنما على سبيل التعاون على إقامة الدين والتناصر والتحابب في الله، وهي بأمره عز وجل وليست من دونه.
والمؤمنون عندما يتخذ بعضهم بعضاً أولياء، يعلمون أنهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً، وإنما الملك الحق لكل ذرات هذا الكون وكل ما فيه هو لله وحده لا شريك له.
(14/4)
الحكم لله وحده
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى معنى آخر من معاني التوحيد والإيمان وهو: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا))، فهنا انفراده سبحانه وتعالى بالحكم، وهذا يشمل الحكم الكوني القدري، والحكم الشرعي الديني، والحكم الجزائي يوم القيامة، فالله عز وجل لا يشرك في حكمه أحداً، فأحكامه القدرية تجري بأوامره سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو سبحانه وتعالى لم يجعل لأحد من الخلق لا لنبي ولا لملك ولا لولي من الأولياء شيئاً من تدبير الكون أو النفع أو الضر، قال عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أءله مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، فهذا يدل على أن الله لم يجعل هذا لأحد، ولذلك لا يشرك في حكمه الشرعي أحداً من الخلق، كما قال عز وجل لخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم لما قال له الكافرون: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس:15]، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس شريكاً لله في الحكم، وإنما هو من عند الله سبحانه وبوحيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا إن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه).
إذاً لم تأت هذه الأحكام التي حكم بها النبي عليه الصلاة والسلام من قبل نفسه، كما قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]، فالرسول ليس شريكاً مع الله، وحكمه ليس شركاً، ولا يستقل بتشريع، وإنما السنة كالقرآن في التشريع في معرفة حكم الله، فحكم الله بالقرآن هو حكمه بالسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يشرع للناس من قبل نفسه، إنما يشرع لهم بأمر الله.
والشرعة معناها: الطريقة المسلوكة وهذه طريقة معنوية، فشرع النبي عليه الصلاة والسلام أي سيره على طريق، وهذا الطريق هو ما أمر الله عز وجل به وشرعه.
فلا يجوز أن يعتقد لأحد أنه شريك لله سبحانه وتعالى في حكمه الشرعي، ولذلك قال علي رضي الله عنه لما قال الخوارج: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)): كلمة حق أريد بها باطل، لما أرادوا منع أن يحكم بين الناس بأحكام تصدر من قبل حكام المسلمين، فاستدلالهم بالآية جهل منهم؛ وذلك لأنه لا يشرك مع الله عز وجل في حكمه أحداً، وهذا لا يعني أن الناس لا يتحاكمون فيما بينهم، فلا يحكم بعضهم على بعض بالشرع، بل بالتزام شرع الله سبحانه وتعالى.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابي أبو العسيف: اقض بيننا بكتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأقضين بينكما بكتاب الله، الغنم والجارية رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله، كما قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48]، وبذلك لا يجوز لأحد أن ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم من قبل نفسه؛ لأن هذا من الشرك، فكيف بمن يعتقد أن الحكم أصلاً هو للسفلة والفجرة والكفرة والمنافقين الذين لا علم لهم بالدين؟! فهذا من الكفر الأكبر المستبين بلا نزاع بين أحد من علماء المسلمين، ومن الأمر الواضح البين، وكذلك من اعتقد أن للبشر أن يشرعوا ما شاءوا من أحكام دون شرع الله سبحانه وتعالى ودون امتثال أوامره عز وجل وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو في الحقيقة لا يحكم من قبل نفسه، إنما هو يبلغ عن الله: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ))، فمن اعتقد أن للناس أن يحكموا بما يرونه عدلاً من غير الله فهو كافر خارج عن ملة الإسلام، وهذا أمر ظاهر جلي لكل من تأمل، وهذا الأمر ليس ببعيد، وإنما أعني بذلك أنه وإن كان كل الناس اليوم بحمد الله تبارك وتعالى أو أكثرهم أو عامتهم إلا طائفة من الزنادقة المنافقين والعلمانيين الذين أعلنوا ومازالوا يعلنون أنهم لا دخل لهم بالدين، لكن الكثرة الغالبة من المسلمين يعتقدون لزوم الحكم بشرع الله سبحانه وتعالى، وأن الحكم لله سبحانه وتعالى.
(14/5)
القوانين المدنية في مصر وموقفها من الشريعة الإسلامية
هناك من لا يزال يحلم بعودة العقائد الفاسدة، فمنذ سنوات قليلة مضت لا تتجاوز الثلاثين أو العشرين كان الأمر يعلن بصراحة أن الشريعة لا يحكم بها إلا في المرتبة الرابعة، قبل أن يرفعوها إلى المرتبة الأعلى وهي أنها المصدر الرئيسي للتشريع، فكان القاضي لا بد أن يحكم أولاً بمقتضى الدستور أو القانون ثم بعد ذلك العرف، فإن لم يجد في ذلك فإنه يلجأ إلى الشريعة الإسلامية، وهذا كان وما زال في كتب القوانين، فأول ما أنشأت الدولة المدنية بعد الاستقلال في مصر دونت القوانين المدنية سنة 1922م، وهذا مسجل في تلك الكتب القانونية، ولما أرادوا رفع مرتبة الشريعة رفعوها بنفس المبدأ وهو أن الأمر مرده إلى الناس، وذلك لأن الأصول التي قررتها الثورة الفرنسية الخبيثة أن الحكم للشعب، فإذا أرادوا شيئاً نفذ، وإذا أبوا أزيل ورفض والعياذ بالله! فلا يكون شرعاً إلا ما رضيه الناس، ومن هنا ما زالت أحكام غير الشريعة تحكم بلاد المسلمين؛ لأن الدستور في مصر لما عدل سنة 1981م إلى أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، لم ينص على إلغاء ما سواها، وبقي ما سن قبل هذا التاريخ عند القوم صحيحاً ملزماً للناس، فلا يخالف الدستور كما يقولون، ولو كان عين مخالفة شريعة الله عز وجل، كما لو أنه خالف القرآن صراحة كالربا مثلاً.
(14/6)
حكم الرجوع إلى الدستور في الحكم
فالدستور مصدر التشريع عند القوم، وذلك أنهم يرون أن هذا الأمر يرجع للناس، لأن الدستور لا يكون دستوراً إلا بموافقة الناس عليه، وما كان سوى ذلك فلا، ولو أنه جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون ملزماً للخلق إلا بعد أن يوافق الناس عليه، وهذا والعياذ بالله من أخطر وأفضع مظاهر الشرك، ولا يجوز لمسلم أن يعتقده أبداً بحال من الأحوال، فمبادئ فصل الدين عن الحياة وليس عن الدولة فقط أحدثتها الثورة الفرنسية، ومنها أخذ العلمانيون منذ أكثر من ثلاثة قرون أو أربعة قرون، وكذلك تقديس ما يسمى بالديمقراطية، ذلك الاسم العظيم القدر الذي يتمناه الناس ويتبجحون به، مع أن تفسيرها اللغوي والحقيقي هو التفسير الواقعي، وهو: أن الحكم للناس، فالدول التي تطبق ذلك ليس عندها اعتراض على ما يقرره الناس، ولذلك تجد أن التطبيق الصحيح للديمقراطية هو أنه يمكن لمجموعة من الناس في بلد ما أن يجعلوا قانوناً ملزماً لهم، ويختارونه بدل الشريعة، فالحكم بالشريعة في أمريكا مثلاً ربما يكون أيسر من حكمها في بعض البلدان الإسلامية؛ لأنهم يطبقون ذلك لو أن الناس أرادوا، ومن حقهم في ضوابط معينة أن يختاروا قوانين معينة، وهناك حرية في ذلك.
والغرض المقصود أن قوله تبارك وتعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أن الحكم الشرعي لم يجعل للنبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس شريكاً في الحكم، وكذلك العلماء والخلفاء والأولياء فلا أحد شريك في حكم الله سبحانه وتعالى.
(14/7)
الحاكم هو الله وحده
الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله، وتجد هذا الكلام واضحاً جلياً لدى علماء الأصول من المسلمين، وهم يتكلمون عن أنواع الحكم الشرعي وهما: الحكم الوضعي والحكم التكليفي.
فيقولون: الحاكم هو الله وحده لا شريك له، والسنة مصدر من مصادر التشريع لا يمكن الاستغناء عنها، وكذا الإجماع والقياس.
ويقررون تأكيداً أن الحاكم هو الله وحده لا شريك له، وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله، وأن الإجماع ليس مشرعاً، وليس دليلاً في ذاته، بل هو كاشف عنه، يدل على وجوده، ووجود شرع من عند الله، فليس من حق الأمة أن تتجمع وتقرر تحليلاً أو تحريماً من دون حكم الله، فالعلماء لم تكن لهم سلطة في التشريع والحكم، وهذا أمر يختلف المسلمون فيه اختلافاً جذرياً عن اليهود والنصارى، الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
(14/8)
من هو صاحب التشريع عند اليهود والنصارى؟
اليهود والنصارى يعتقدون أن لأحبارهم ورهبانهم أن يسنوا تشريعات يلزمون الناس بها، وأن يحللوا ويحرموا، فلقد أحلوا لحم الخنزير مع وجود النصوص الدينية عندهم بتحريمه، فالتوراة تحرم الخنزير إلى يومنا هذا، والنصارى يعتقدون لزوم التوراة؛ لأنها العهد القديم عندهم، ومع ذلك فهم يستحلون الخنزير بقرارات مقدسة زعموها، فليست مقدسة في الحقيقة بل هي مدنسة، قد خرجت من مجامع الأحبار والرهبان فقرروا فيها تغيير الأعياد والتاريخ والعقائد والحلال والحرام؛ لأنهم يعتقدون أن علماءهم لهم سلطة في التشريع والتعديل على الكتاب المقدس والشهادة عليه بالصحة أو البطلان، ولذلك تجد عجباً في عقائدهم، فالنصارى ظلوا عشرين قرناً وهم يعتقدون أن اليهود هم الذين تسببوا في صلب المسيح، ثم بعد عشرين قرناً تتغير العقيدة بقرار من مجمع في الفاتيكان بأن اليهود أبرياء من دم المسيح! فالنصارى ظلوا هذه القرون الطويلة وهم يعتقدون أن الكتاب المقدس بشقيه: العهد القديم والعهد الحديث ليس فيه شيء من البطلان، ثم يقرر المجمع سنة 1975م بأن العهد القديم فيه شيء من الشوائب وشيء من البطلان! فهذه منزلة أحبارهم ورهبانهم، وهذا لا يمكن أن يوجد في علماء المسلمين فضلاً عمن ليسوا بعلماء.
(14/9)
مذاهب الفقهاء ليست تشريعات
علماء المسلمين ليست مذاهبهم تشريعات، والناس يختارون منها، وأن العلماء من حقهم أن يشرعوا، وأن يحللوا ويحرموا، فمن اعتقد ذلك فقد كفر، قال الله: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا))، وكذلك ليس ذلك جائز من باب أولى للجهلة.
إن أبا بكر وعمر أعلم بالرسول صلى الله عليه وسلم من ابن عباس، وعروة رضي الله عنه لما خالف ابن عباس رضي الله عنه في مسألة المتعة في الحج قال له ابن عباس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة، فقال له عروة: أبو بكر وعمر كانا ينهيان عنها، مع أن مصدر فهم عروة لذلك ليس أن أبا بكر وعمر من حقهم الاعتراض، وإنما لأنهما أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس، فقال له ابن عباس: توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! فإذا كان هذا في حق أفاضل الأمة فكيف بالجهلة والفسقة والفجرة فضلاً عن الكفرة والمنافقين والمرتدين؟! فكم من كافر والعياذ بالله يقول فيه الناس: من حقه أن يقول: نعم أو لا إن خالف الشرع، ومهما كان رأيه مصادماً للدين، وهو ليس من أهل العلم ولا حتى من أهل الفضيلة، بل هو من الفسقة والفجرة والجهال! فإذا كان الأمر كذلك فيتصور أن يكون هذا موافقاً لتوحيد الله سبحانه وتعالى، لذلك نجد أن هذه القضايا الاعتقادية في خاتمة القصة من أهم القضايا التي لا بد أن ينتبه لها المسلمون.
(14/10)
بيان التوحيد والشرك
قوله تعالى: ((ولا يشرك في حكمه أحداً)) وفي قراءة: ((ولا تشرك في حكمه أحداً))، وهذا النهي لا يتوجه إلا على المكلف، وإن كان الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى: لا تجعل مع الله شريكاً في الحكم.
عمل الإنسان قد يكون اعتقاداً، وهو التوحيد الخبري الاعتقادي، وهناك عمل الإنسان وهو التوحيد العملي الإرادي القصدي.
أما على القراءة الأولى التي نقرأ بها، وهي قوله تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) هذا الاعتقاد الجازم.
فمن اعتقد أنه يحل للناس ويجوز لهم أن يجعلوا مع الله شريكاً، فهذا شرك في التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي.
وأما على القراءة الأخرى: ((ولا تشرك في حكمه أحداً)) فهي خطاب فيما يتعلق بفعل المكلف، فالحاكمية في أفعال المكلفين يجب أن تكون إلى شرع الله سبحانه وتعالى دون أحد سواه، فلا يجعل مع الله شريكاً أو جزء يسير ولو في جانب من جوانب الحياة، ولذلك كان من الشرك الأكبر أن يجعل مع الله شريكاً في الحكم، ولو كان في حكم واحد.
فليست المسألة بالقلة والكثرة، إنما المسألة مسألة تأصيل، فكل أنواع الحكم بغير ما أنزل الله تكون شركاً، منها ما يكون كفراً ناقلاً عن الملة، ومنها ما يكون كفراً غير ناقل عن الملة، بل هو كفر دون كفر، ولكن ليس العبرة بالعدد.
وبعض الناس يقول: إن خمسة وتسعين في المائة من الشريعة موجود، وخمسة في المائة غير موجود، فهذا تهوين للشريعة، ولو أن يقول: واحد في المائة أو واحد في الألف.
ولو أن الإنسان استجاز مخالفة الشرع، وجعل مع الله عز وجل شريكاً في حكم واحد لكان مشركاً شركاً أكبر ناقلاً عن الملة، طالما أنه علم أن هذا حكم الله، وفي نفس الوقت لو أن إنساناً صرف ألف عبادة لله، ثم صرف عبادة لغيره، أو سجد لله ألف سجدة، ثم سجد للصنم، فهذا مشرك والعياذ بالله.
ولو قال: أنا أعبد الله تسعمائة وتسعة وتسعين بالألف، وواحد في الألف أعبد غير الله، فقد أشرك بالله والعياذ بالله؛ لأنه عبد غير الله.
فالذي يقول: أنه يسعنا أن نخالف شرع الله، أو أن نجعل جزئية صغيرة من حكم الله فيها لغير الله، كـ ماركس ولينين، أو القوانين الفرنسية أو الأنجلوساكسونية، أو للطائفة الفلانية أو للمجلس الفلاني أو للشخص الفلاني؛ فهو كافر كفراً أكبر.
والنهي في قوله تعالى: ((ولا تشرك)) يدل على أن القضية قضية شرك، وليست مجرد قضية معصية فقط.
وهذه الآية مكية، فالشرك الذي كان يقع من المشركين هو الشرك الأكبر، لذلك نقول: أن هذا النوع من الاعتقاد العملي، وإذا كان الإنسان يعلم أن هذا حكم الله، ويصوب في نفس الوقت التحاكم إلى غيره سبحانه وتعالى، فهو أيضاً كافر كفراً مخرج من الملة.
(14/11)
بيان الشرك دون الشرك أو الكفر دون الكفر
من كان يعتقد وجوب شرع الله سبحانه وتعالى في كل الأمور، وفي نفس الوقت هو ملتزم بشرع الله سبحانه وتعالى، ولا يبدل الشرع، ولكنه يخالفه، وهو يعلم أنه منتسب إليه كذباً، كأن يقول مثلاً: إن الشهود في هذه القضية ليسوا عدولاً، أو الشهود لم يبلغوا أربعة، وهو يعلم أنهم أربعة، لكنه يزور في الأوراق مثلاً، أو القاضي الظالم يقول: لم يشهدوا وهم قد شهدوا عنده، ولكنه في التطبيق على الواقع يخالف الحقيقة، مثل إنسان يقول: هذا الإنسان يستحق القتل، لأنه مفسد في الأرض مثلاً، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33]، ويكون هو المفسد في الأرض، فقد أفسد في العقيدة وطبق هذه الآية على غيره، كأن يقول: هذا فلان سوف نقطع يده لأنه سرق، وهو الذي سرق، أو ليس هذا الذي سرق ولكنه يقطع يده، فهذا لو حكم ألف حكم من هذا النوع لم يكن كافراً كفراً أكبر، بل كان كافراً كفراً أصغر لأنه ملتزم بالشرع، فهو لم يقل: أنا أقطع يد هذا لأني أرى ذلك، أو لأن فلاناً قد شرع ذلك، وإنما كأن يقول مثلاً: نقطع لسان هذا أو يد هذا؛ لأنه لامس أجنبية، أو لأنه امتدت يده إلى ما لا يجوز مثلاً، أو صنع أي شيء.
ومع أنه عندما يقرر أن الكلام هذا ليس منسوباً للشرع، فهو يقرر أن أحداً دون الله له حق في التشريع والتحاكم إليه والعياذ بالله، فهذا هو الشرك الأكبر.
أما أن ينسب ما يفعله إلى الشرع كذباً وزوراً، فهذا كفر أصغر، وليس هذا عبرة بالقلة أو الكثرة وعدد ما حكم به من الأحكام أو بنسبتها إلى ما يحكم به.
فمن سجد لله ألف سجدة، وسجد للصنم سجدة واحدة صار مشركاً، فكذلك من رأى أن شرع الله ملزم في ألف حكم، وغير ملزم في حكم واحد، فيسع الناس أن يخرجوا عن شرع الله الذي ألزمهم به، ويعلم أن الرسول أوجب ذلك، ولكن يتركه إعراضاً عنه وإيثاراً لحكم الجاهلية عليه، ويصوب ذلك، ويرى أن هذا الأمر هو الحق، فيلزم به جميع الخلق؛ كان ذلك أيضاً شركاً أكبر.
أما الذي يرتشي في كل القضايا، فلا يكفر، والقاتل عمداً عليه القصاص أو الدية، فمن زور صلحاً يرغم به أهل القتيل على الصلح، ويقول: تم الصلح بناءً على جلسة فلانية بين أهل القتيل والقاتل، وهذا لم يحصل لكنه هو الذي أكرههم، أو يقول: ثبت أن هذا القتل خطأ وهو يعرف أنه عمد، من أجل أن يفرض عليهم الدية ويسقط القصاص، فهذا كفره كفر أصغر.
وهذا الذي يقع من حكام المسلمين الظلمة عبر التاريخ، فـ الحجاج بن يوسف الثقفي لم يكن يحكم دون حكم الله عز وجل، لكن كان ينسب قتل الحسين بن علي -حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى الشريعة، فيحتج بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان)، فهو يزعم أن قتل الحسين موافق لكلام النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف من قال: أنا أقتله من أجل أنه خالفني، أو لأجل أن القانون يقتضي قتل هذا الإنسان مثلاً.
والذي يقول مثلاً: هذا الزاني يحبس ستة أشهر؛ لأنه زنى بامرأة فلان، أو دفعت له رشوة في هذه القضية، فيقول: هذا الرجل لم يزن؛ لأن الشهود، لم يقروا بذلك، أو ثبت أنه كان في حجرة النوم مثلاً، فهو يستحق التعزير أو الحبس ستة أشهر.
فهناك فرق بين أن يثبت أن فلاناً زنى فلا يحكم عليه بالرجم، أو الجلد الذي شرعه الله، ولكن يحكم عليه بخلاف ذلك، وبين الذي يثبت الحدود الشرعية ولكنه لا يطبقها.
فهذا الفرق غفل عنه الكثيرون جداً، وظنوا أن هذا الباب ليس من التوحيد، وأنه نوع من المعصية فقط، والآيات صريحة جداً، وكلام أهل العلم صريح جداً في ذلك، كما نقله غير واحد من العلماء، ومن أحسن ما ذكر في ذلك كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله.
والنوع الثالث من الأحكام التي ليس لله عز وجل فيها شريك، والحكم الجزائي يوم القيامة هو في الحقيقة اجتماع الحكم الشرعي مع الحكم الكوني القدري، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتبه المقدرة على رسله أن الجنة والثواب والإكرام والإعزاز للمؤمنين، وأن النار والإهانة والذلة والعذاب للكافرين، فيحاسب الله الناس يوم القيامة على ما شرعه لهم.
وبذلك كانت الشفاعة ملكاً له عز وجل، ليست الشفاعة ملكاً للرسول صلى الله عليه وسلم ولا للأنبياء ولا للملائكة، بل لا يشفعون إلا بإذن الله، ولمن ارتضى الله سبحانه وتعالى، فالحكم الجزائي له وحده، ولذلك لا يدخل أهل الجنة الجنة إلا بإذنه، قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:23]، ولا يخرج أهل النار منها إلا بإذنه سبحانه وتعالى، وذلك يظهر جداً في مقام الشفاعة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقيمه الله ويبعثه المقام المحمود؛ فيسجد تحت العرش، ويظل يثني على ربه عز وجل بأنواع الحمد والثناء والمحامد التي لم يحمده بها أحد قبله، حتى يقال له: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع)، فعند ذلك يأذن الله له بالشفاعة، ليعلم الجميع أن الشفاعة لله عز وجل، وأنه لا شفيع من دونه بل بأمره، قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51].
(14/12)
معنى قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك
قوله تعالى: ((وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز، وإبلاغه إلى الناس: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أي: لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل.
قوله تعالى: ((وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) عن مجاهد: (ملتحداً) قال: ملجأ، وعن قتادة ولياً ولا مولى.
وقال ابن جليل: يقول: إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، فإنه لا ملجأ لك من الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، وقال: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] أي: سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة، فهذه الآية تضمنت تلاوة القرآن وهي تتضمن عدة معان.
(14/13)
بيان المراد بالتلاوة
لا شك أن بداية التلاوة القراءة، والقراءة مأمور بها العبد ليتعلم، وليعلم غيره، وليتبع بعد ذلك، وقد فسر غير واحد (واتل) أي اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك.
وابن كثير فسرها بتلاوة القرآن مبلغاً ومعلماً لهم، وهذا معنىً صحيح لا شك فيه، والآية تتضمن المعاني كلها، فتتضمن معنى القراءة للفهم، وتعليم الناس والعمل به واتباعه كما أمر الله سبحانه وتعالى، قال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
فهو يَدْرسُ ويعلم غيره، وهو رباني عالم عامل، فالذي يتعلم ولا يعمل، أو يعلم ولا يعمل ولا يتبع هو ليس ربانياً، إنما الرباني الذي يلتزم ما يأمر به وما يتلوه.
واتباع الكتاب أعظم وأهم أمر يبنى من خلاله تصديق الأخبار وامتثال الأوامر والنواهي، وهو في الحقيقة مصدر حكم الله الذي لا يجوز أن يشرك العبد به أحداً، فمن أين يعلمه؟ من تلاوة ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله.
(14/14)
معنى قوله تعالى: (لا مبدل لكلمات الله)
قوله: ((لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) أي: لا مبدل لكلماته الشرعية، فإن القرآن قد حفظه الله سبحانه وتعالى، كما أنه لا يجوز للمؤمن أن يعتقد أن لأحد أن يبدل كلام الله، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الظاهر في الكلمات هنا؛ لأن الآيات إنما هي في كتاب الله المنزل.
وأيضاً لا مبدل لكلمات الله الكونية، فإن الله سبحانه إذا أمر بأمر كان، إنما هو ((إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))، ولكن السياق في الآيات الشرعية، فمعنى لا مبدل لكلماته، أي لا يوجد شرعاً من له حق التبديل في كتاب الله، ولذا كان تبديل كلمات الله الشرعية كفراً وشركاً بالله؛ لأن الله قال: ((لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) فالذي قال: يوجد مبدل لكلمات الله فقد كذب القرآن والعياذ بالله، والذي يقول: من حق الناس أن يغيروا التشريع ويغيروا كلام الله ويأتوا ببديل فقد كذب القرآن.
فمعنى ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أي: أن الناس لن يقدروا على إزالة الآيات وتغييرها بغيرها، وسيفضحون إن فعلوا ذلك، ولن ينتشر ذلك الباطل كالحق بل ينتشر على أنه باطل، وهذا -والله- أمر حاصل، فإن الله حفظ كتابه العزيز فلا تصل إليه يد، ولو حاول إنسان أن يحرف منه حرفاً سيفتضح في أرجاء الأرض مشارقها ومغاربها بحمده سبحانه وتعالى.
(14/15)
معنى قوله تعالى: (ولن تجد من دونه ملتحداً)
قوله: ((وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) وإن كان ترهيباً في صورته فهو خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام وللمكلفين، فلا تعمل للناس حساباً فتترك تلاوة ما أمرك الله عز وجل به من الكتاب، أو أن تتبعهم في التبديل؛ لأنك إن خالفت شرع الله، فلن يكونوا نصراء لك، ولن تجد ملجأ ولا نصيراً.
وإن كان الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام فالمقصود غيره بلا شك، والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع كتاب الله ويتعلمه ويعلمه الناس ولا يستبدل الحق بالباطل، ولا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا يبدل شرع الله وكلامه وآياته أبداً.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تبارك وتعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)): قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر (ولا يشرك) والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا، لا حكم لغيره البتة، فالحلال ما أحله الله تعالى والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والقضاء ما قضاه.
وقرأ ابن عامر من السبعة: (ولا تُشْركْ في حكمه أحداً) بصيغة النهي، أي: لا تشرك يا نبي الله، أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل اخلص الحكم لله وحكمه جل وعلا المذكور في قوله تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) شامل للحكم الشرعي والكوني.
أما على القراءة الثانية: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) فهذه لا تحتمل إلا الحكم الشرعي، وذلك أن العبد له تعلق بالحكم الشرعي، وإنما يتحاكم الناس في خصوماتهم إلى شرع الله أو إلى غيره، فالتحاكم إلى شرع الله توحيد، وإلى غيره شرك بنص الآية.
لذلك اتفقت كلمة العلماء سلفاً وخلفاً على أن الحاكم هو الله وحده، مصداقاً لقوله الله تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))، وللآية السابقة، ولذلك لا نجد نزاعاً بين أهل العلم في أن الحاكم هو الله عز وجل، وإذا ذكروا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم الحاكم والقاضي، فعلى سبيل التبعية، فحكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنص القرآن من عند الله عز وجل، قال تعالى: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)).
(14/16)
الحكم لله وحده
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، وقوله تعالى: (نِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67]، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، قوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]، وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]، إلى غير ذلك من الآيات.
(14/17)
أنواع الحكم
فهذه آيات كثيرة تكررت مرات عديدة في إثبات أن الحكم لله بجميع أنواعه، وهي: الحكم الشرعي، والحكم القضائي القدري، والحكم الجزائي، فإنه كله لله.
وذلك ككل مسائل الاعتقاد التي يكثر بيانها في القرآن بأوضح الأدلة وأعظم البراهين، لكي تستقر في نفوس المؤمنين، ويرد على الكافرين والمنافقين شبههم وأباطيلهم، لكثرة تأكيد المعاني الإيمانية.
قال رحمه الله: ويفهم من قوله تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله، أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان، لقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].
وكان الكفار يقولون: أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله بيده؟ فكانوا يزعمون بهذا التأويل الفاسد إباحة الميتة وتحليلها، وهم يعلمون أن الله أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم تحريمها، ولكنهم آثروا ما نشئوا عليه من إباحتها، فكانوا يجادلون بهذه المجادلات الباطلة، فأكد الله عز وجل النهي فقال: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)).
فالأوامر والنواهي هي التي يعرف منها التشريع، وليست الأقيسة الفاسدة والعقول السخيفة التي يستعملها المشركون، فسمى الله من أطاعهم في تغيير الشرع مشركين فقال: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))، وهذا هو ما أخبر الله عز وجل به عن المشركين، وما نهى عنه بني آدم من عبادة الشيطان، وذلك باتباع تشريع فيه خلاف شرع الله سبحانه وتعالى، ومن اتبع الشيطان في خلاف شرع الله سبحانه وتعالى فهو عابد له، وكل من سن تشريعاً يخالف تشريع الله فقد شطن وبعد عن الحق، فهو شيطان من شياطين الإنس أو الجن، كما بين سبحانه وتعالى أن شياطين الإنس أعداء الأنبياء كشياطين الجن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117]، أي: ما يعبدون إلا شيطاناً وذلك باتباع تشريعه؛ لذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137]، فسماهم شركاء ونسبهم إليهم؛ لأنهم اخترعوا هذه الشركة مع الله، ولا حقيقة لها في الواقع، وإنما هي في أذهانهم وعقولهم الفاسدة وعقائدهم الباطلة، وهم اعتقدوا أن هؤلاء شركاء مع الله، ولذلك بين الله عز وجل بطلان ذلك، والشركاء زينوا للمشركين وأد البنات خشية الفقر، وجعل ذلك الشرع من الشركاء؛ لأنهم هم الذين اتخذوهم.
(14/18)
معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)
بين النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، فاتبعوهم في ذلك؛ فذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً.
وهذا اتباع على تحريم الحلال وتحليل الحرام، وليس على مجرد فعل الحرام أو ترك الحلال، فهو اتباع على التبديل، بخلاف من يتبع مع اعتقاده بتحليل الحلال وتحريم الحرام، ولكنه يفعل ذلك معصية، كأن يجد فرصة للزنا فيزني، ولا يراه أنه حرية شخصية، بل يراه محرماً، بخلاف من لا يزني ولكنه يرى أن من أراد أن يزني فليزني لأنه حرية شخصية، وأن هذا الأمر مردود إلى اختيار الإنسان، وأن المشكلة تكون في الإكراه، وإذا كان الإنسان موافقاً فلا حرج؛ فمثل هذا ولو لم يزن فهو مشرك.
ومن أصلح الأدلة أن الله جل وعلا بين أنه من العجب أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله مع زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت متناقضة، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، وبهذه النصوص السماوية يظهر غاية الظهور الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، ولا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه -عن نور الوحي- مثلهم.
والعجب أن أناساً ينتسبون إلى الدين وإلى الدعوة يرون أن اتباع من يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أولئك مخالفٌ لما شرعه الله على ألسنة رسله صلوات الله وسلامهم عليهم أجمعين؛ مجرد معصية طالما لم يستحل ذلك، فإنه لا حرج عليه بل يدخل الجنة يوماً من الأيام! وهذا بلا شك وضع للأشياء في غير مواضعها، وخلط بين ما يناقض الإيمان من أصله وبين ما يناقض كماله.
وذلك أن وجود تشريع خلاف تشريع الله لهذه الآية واعتقاد أن الحكم يكون لغير الله شرك كما دلت عليه آية الكهف وآية النساء وآية سورة المائدة وآية سورة التوبة وآية سورة الشورى، فالآيات كثيرة جداً في أن الحكم صفة لله وحق له عز وجل، فمن صرفه لغيره سبحانه وتعالى فقد عبده.
(14/19)
بيان حكم الأنظمة الوضعية
(14/20)
أقسام النظام الفرعي
قال الشنقيطي: تنبيه! اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك، وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري وشرعي، أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور، وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم.
فقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ومعرفة من غاب ومن حضر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب الدواوين، ولم يكتب أسماء المقاتلين في قبائلهم، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك.
وكاشتراء عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية، فجعلها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً ولا أبو بكر، وإنما كان يحبس في تهمة في بعض دور أصحابه.
فمثل هذه الأمور الإدارية التي تفعل مما لا يخالف الشرع لا بأس بها، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبس بتهمة، فإذا ثبت الحبس كنوع من التعزير، يصح أن يجعل له سجناً لكثرة الناس، ولأن الإمام لن يجد كل مرة بعض أصحابه ليضع المحبوس ذلك الذي يحتاج إلى حبسه عنده.
يقول: هذه الأمور الإدارية كتنظيم شئون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال، لا تخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.
وأما النظام المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض، فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض.
فدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف كفر كالقوانين المطبقة في تونس، فإنها تنص على توريث الذكر مثل الأنثى، وككل ما تمليه قرارات المرأة العالمية، فإنها لا تفتأ في كل مرة من ذكر وجوب مساواة الرجل للمرأة في الميراث، ولزوم تغيير التشريعات التي فيها التفاوت بين الرجال والنساء، وكلها مقررات معلومة تتحفظ عن بعضها إجمالاً بعض الدول المسماة بالإسلامية، التي تنص قوانينها على لزوم الرجوع إلى الشريعة والعقيدة، لكن هذا المبدأ اعتقده المشرعون الغربيون، ونشروه في الناس، ولا يزالون يحاولون رد المسلمين عن هذا الأمر.
(14/21)
حكم بعض الأحكام القبلية المخالفة للشريعة
بعض الناس يظلمون النساء فلا يعطوهن شيئاً من الميراث على الإطلاق، كبعض القبائل يفعلون ذلك على سبيل القهر والغلبة، وبعضهم يفعل ذلك على سبيل التشريع.
فمثلاً في بعض القبائل العربية الغير ملتزمة بالشرع يعطون النساء ما يسمونه فتفوتة، فيعطونهن جزءاً من الميراث، والأبناء الكبار يأخذون الميراث، ويسمونه شرعة والعياذ بالله، ويعلمون مخالفتها للشرع، ولكنهم يلتزمون بهذا، فهذا من الكفر لا شك في ذلك.
ودعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف شرك، فمن سن تشريعاً عاماً في أن كل امرأة ترث مثل الرجل فهذا كفر، وتحكيمه كفر، أما إذا أكل الأخ حق أخته مثلاً أو امرأة أكلت حق إخوانها الصغار، بأن كانت كبيرة وهم صغار والأمور في يدها، فهذا ظلم ومعصية.
(14/22)
محاولة أعداء الإسلام تبديل بعض الأحكام الشرعية
دعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، ويلزم استواؤهما في الميراث، ودعوى أن تعدد الزوجات ظلم؛ وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأنه لا يجوز أن يقع من الرجل إلا إذا طلق القاضي؛ هذه كلها من محاولات أعداء الإسلام العديدة في تشريع قوانين الأحوال الشخصية في بلاد كثيرة، مثل منع الطلاق أسوة بدول أوروبا، مع أن دول أوروبا تتجه الاتجاه العكسي، وهو إباحة الطلاق، وتوسيع دائرته، وأنه لا يمكن أن يتم إلا بأمر القاضي، أما أن يطلق الزوج زوجته فتصبح طالقاً فهذا ليس بمقبول في دول أوروبا؛ لأنهم انتقلوا من تحريم الطلاق بالكلية إلى إباحته بشرط أن يطلق القاضي.
وكذلك مبدأ أن تعدد الزوجات ظلم، ولذلك فإن بعض البلدان الإسلامية تجرم الزواج بالثانية، وأعطوا حق الطلاق للمرأة إذا تزوج عليها زوجها، وإذا لم تطلب الزوجة الطلاق، فالزواج الثاني مشروع.
أما في تونس وتركيا فإنهم نجحوا في تجريم الزواج الثاني مطلقاً، فمن ثبت أنه عقد على امرأة غير زوجته الأولى فهو يستحق عقاباً شديداً، سواء طالبت المرأة الأولى أو لم تطالب؛ لأن تعدد الزوجات عندهم ظلم للمرأة، فلا يجوز ذلك.
وهنالك قصة مشهورة وقعت في تونس، وهو أن رجلاً ثبت عنه أنه تزوج الثانية، فأثبت أمام المحكمة أنها عشيقته وليست زوجته، والنظام في تونس كالقانون الفرنسي الذي أخذ منه القانون المصري أيضاً، وهو أن العشيقة إذا كانت في منزل الزوجية لا يعد ذلك جريمة، خصوصاً إذا كانت المرأة ليست متزوجة.
أما إذا كانت متزوجة فليس هذا جريمة إلا أن يسأل الزوج عنها ويرفع ذلك إلى المحكمة، فلا تسمع أي دعوى زنا إلا من خلال الزوج، فإذا كانت المرأة بالغة سن الثامنة عشرة، ووقعت في الفاحشة فلا يسمون ذلك زنا، وإنما يسمونه وقاعاً، أما الزنا عندهم فهو بين المتزوجين فقط! وهذا تحايل على الشرع.
ولذلك فإن القانون المصري ينص على أن من واقع أنثى بغير رضاها، فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة.
وإذا كانت من المحارم أو كان ممن يرعاهم أو كان ذلك مع التهديد بالسلاح أو كان ذلك بالخطف؛ فيمكن أن ترفع العقوبة إلى الإعدام.
فهذا النوع من النظام لا يشك مسلم أنه كفر.
(14/23)
حكم تحكيم النظام المخالف للشريعة الإسلامية
دعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس فيه إنصاف، وأن تعدد الزوجات والطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، فإن كل قوانين حقوق الإنسان العالمية تمنع من العقاب البدني بالكلية، وتدعو إلى إلغاء عقوبة القطع والجلد والضرب والإعدام.
وهناك دول كثيرة عملت على إلغاء هذه العقوبات التي يسمونها وحشية القرون الوسطى أو العصور الوسطى، وهذا كفر والعياذ بالله.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصارفها سبحانه وتعالى علواً كبيراً عن أن يكون معه شريك آخر، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]، وقال أيضاً: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
(14/24)
خلاصة كلام الشنقيطي رحمه الله تعالى في الحكم بغير ما أنزل الله
بعد هذا الكلام الواضح لا يمكن لأحد أن يزعم أن الشيخ الشنقيطي رحمه الله يقول: إن الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم القوانين الوضعية كفر أصغر، ومن الباطل أن يقال: إن الشيخ إنما يقصد ذلك إذا استحله.
فكلام الشيخ واضح أن تحكيم هذا النوع هو في الحقيقة أعظم من الاستحلال، فهو كفر بخالق السموات والأرض.
وذلك كما ذكرنا أن هذا التحكيم أشد من الاستحلال، فالتحكيم فيه إلزام الناس بشيء، ومنعهم من غيره، كإرغامهم بخلاف الشريعة، وتحريمهم الالتزام بها، وذلك لا يحتاج معه إلى أن يقول: وأنا أستحل ذلك.
فإذا قال: أنا أوجب على الناس وأشرع لهم وألزمهم بأن يسود فيهم القانون، سواء ما كان موافقاً للشرع أو ما كان مخالفاً، إلى أن يتم تغييره، فإن هذا الإلزام والإيجاب أعظم من الاستحلال.
ولو أن إنساناً قال: يجب مخالفة الشرع، والآخر قال: يباح أن نُحكِّم خلاف الشرع، فالعجب أن يقال: إنه لا بد أن يستحل ذلك، فإن قوله: يباح أشد من المستحل، فلا يمكن أن يقال: لا بد أن يقول: يباح ذلك أو يجب.
فهذا الأمر يتصور في الوقائع المعينة، أما في التشريع العام فلا يتصور ذلك، ولا بد أن ينسب ذلك إلى الشريعة.
فإذا أراد أن يمنع زوج أخته من أن يتزوج عليها زوجة ثانية، ويدخله السجن بتهم باطلة، فيقول -مثلاً- إنه ضربها أو آذاها وهو كذاب في الحقيقة، فهو يريد أن يعاقبه على تجرئه على هذه الفعلة مثلاً، فاستعمال سلطته كفر دون كفر.
أما من قال: إن الزواج الثاني حرام، أو هو جريمة يعاقب فاعلها، فلا فرق بينهما، ومن يحاول أن يفرق بين الكلامين فإنه إنسان ضال مغرض، فقوله: الزواج الثاني جريمة يعاقب فاعلها، مثل أن يقول: الزواج الثاني ممنوع في القانون.
أما من كان لها حاكم قريب، أو دفعت له رشوة وقالت له: زوجي يريد أن يتزوج عليًّ، فأتى بزوجها من البيت، وضربه ضرباً وأدخله السجن وظلمه هذا الظلم، فهذا حكم بغير ما أنزل الله فعلاً، وهو كفر دون كفر، ولو تكرر ذلك منه.
أما أن يسن تشريعاً عاماً للناس جميعاً، فهذا لا يمكن أن يصدر إلا ممن يعتقد أن الزواج الثاني ظلم، ولا يمكن أن يصدر إلا ممن يطعن في شرع الله سبحانه وتعالى.
فلو أن إنساناً وجد عدواً له يصلي، فانتهزها فرصة فجاء إليه وضربه وهو يصلي، لأنه لم يجد فرصة غيرها، ومنعه أن يصلي، فهذا ظلم بلا شك، لكن لو جعل ديدنه أن كل من صلى ضرب، وسن تشريعاً في ذلك، فلا يمكن أن يكون إنساناً مسلماً بدرجة من الدرجات.
وكذلك لو قال: كل من قرأ القرآن أو حفظه فإنه يسجن، أو من لبست الحجاب فإنها تطارد بأعظم أنواع المطاردة، ويسن تشريعاً أن من لبست الحجاب في المجامع العامة فإنها تعاقب، وكما تفعله بعض البلدان؛ فهذا كافر، ولا يمكن أن يكون مسلماً بحال من الأحوال وهو يكره الحجاب، إلا إذا تصور أنه ليس من الدين، أما إذا علم ذلك وتليت عليه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، فيقول بعد ذلك: الحجاب ليس من الدين، فهذا كافر بطريقة الجحود والعياذ بالله.
وفي تركيا أغلقوا مدرستين لتهاون القائمين عليهما في مسألة لبس الطالبات الحجاب.
فلو لبس الطالبات الحجاب يصبح عندهم مصيبة سوداء، ولذلك فإنهم فرضوا على كل طالبات الثانوي أن يكون زيهن المدرسي مرفوعاً إلى نصف الساقين وقد يصل إلى أن يكشف الفخذان والعياذ بالله.
فهل هناك مسلم يقول: إن المرأة تفصل ويعاقب وليها إذا لم تكشف فخذها؟ هذا لا يمكن، والذي يتنازل في هذه المسألة ويقول: إنه كفر دون كفر، فهو إنسان مغرض، والعياذ بالله.
أما إذا كان هناك هوى في النفس يدفع بعض القائمين بذلك فإن هذا كفر دون كفر، وهذا يكون في الوقائع المعينة، وفي الشخص المعين نفسه إذا كان جاهلاً.
أما إذا كان الأمر معلوماً عند المسلمين، وأدلته من الكتاب والسنة ظاهرة، ويلزم الناس في التشريع العام بخلافه، فهذا فعلاً كما ذكر أهل العلم مناف لتوحيد الله سبحانه وتعالى ولحكمه.
(14/25)
لا مبدل لكلمات الله
قال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]، فالتلاوة تشمل معنيين: القراءة، والاتباع.
وهذا مذكور في آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل، كقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] فهذه الآية تدل على قراءة القرآن، وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:106].
وقوله تعالى: ((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ))، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم.
وقوله تعالى: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته؛ لأن أخبارها صدق وأحكامها عدل، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذباً، وعدلها جوراً، وهذا الذي ذكره هنا جاء مبيناً في مواضع أخر كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، فقوله: صدقاً يعني في الإخبار، وعدلاً في الأحكام.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34].
لقد بين تعالى في مواضع أخرى أنه هو الذي يبدل ما يشاء من الآيات مكان ما شاء منها، كقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل:101]، وقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]، وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15].
وقد ذكرنا أن معنى كلمات الله في قوله تعالى: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أنها تشمل الكلمات الكونية التي خلق الله بها الخلق، فإذا قضى الله عز وجل أمراً لم يكن في إمكان أحد ولا في قدرته أن يبدل هذا الأمر، قال تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117].
وتشمل أيضاً الكلمات الشرعية فهي بمعنى لا تبدل، فما تكلم الله عز وجل به فهو كلامه أبداً، ولا يمكن أن يبطله تكذيب أحد، أو ترك أحد له، بل كلام الله هو صفته عز وجل، فلا يمكن أن يبدل الكلام الذي هو عنده.
والله عز وجل إذا بدل آية مكان آية أو نسخها فلا يعني ذلك أن الآية الأولى التي تكلم الله عز وجل بها ليست من كلامه، ولكنها كانت من كلامه لتشريع معين في وقت معين.
ومن ذلك الآيات التي يتعبد الناس بتلاوتها بعد نسخها، وحكمها قد نسخ؛ لأن هذا مما يفعله الله عز وجل.
وقوله تعالى: ((وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) فهذا القرآن لا يمكن أن يبدله الكفار، ولا يمكن أن يحرف، بل لا بد أن يظل محفوظاً، أما الكتب السماوية السابقة فقد وقع فيها التبديل والتحريف.
فالله تكلم في التوراة، وتكلم في الإنجيل سبحانه وتعالى، وكلامه لا يمكن أن يبدل، فيعلمه الناس إذا ظهر الحق، كنزول المسيح عليه الصلاة والسلام -مع أنه لا يلزم أن يعلم الناس الإنجيل- وظهور التوراة والإنجيل الحقيقين يوم القيامة، ولا يمكن أن يقع في القرآن الذي أوحاه للنبي صلى الله عليه وسلم كما وقع للكتب السماوية لأن الله يحبه.
أما الكتب السماوية الأخرى فيمكن أن ينتشر عند الناس المحرف منها، وليس ذلك بتبديل لكلمات الله، بل هي باقية عنده سبحانه وتعالى، وهي من كلامه، ولكن ابتلاهم الله بإعراضهم عن الحق، بأن جعلهم يتمسكون بالمحرف المبدل، وهم معترفون بأنه قد وقع التبديل والتحريف في كتبهم، وكل من يتأمل هذه الكتب يجزم بوقوع التبديل والتحريف فيها.
(14/26)
لا ملجأ من الله إلا إليه
قوله تعالى: ((وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا))، يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله أصل ملتحد مكان الالتحاد، ومنه اللحد في القبر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40] أي: يميلون عن الحق، وقوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180].
فمعنى اللحد والإلحاد الميل عن الحق، والملحد المائل عن دين الحق، وهنا الملتحد مكان الالتحاد، والمراد به هنا: المكان الذي يميل فيه، فلا ينجيه ذلك مما يريد الله أن يفعله به.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجد من دونه ملتحداً، أي مكاناً يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه.
وهذا المعنى جاء مبيناً في مواضع أخر، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:21 - 23]، إلا هنا استثناء منقطع، أي: لا يكون إلا بلاغاً من الله ورسالاته يجيرني من عذاب الله.
وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47].
وكونه ليس له ملتحد، أي: مكان يلجأ إليه، تكرر نظيره في القرآن بعبارات مختلفة كالمناص والمحيص والملجأ والموئل والمفر والوزر، كقوله تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3]، وكقوله: {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:121]، وكقوله: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36]، وكقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:47]، وقال تعالى: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58]، وقال: {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:10 - 11].
وكل ذلك راجع في المعنى إلى شيء واحد، وهو انتفاء مكان يلجئون إليه ويعتصمون به، وهذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان لا يجد من الله عز وجل ملجئاً إلا إليه، فَمَن دونه أولى بذلك، ولذلك لا يلتجأ إلا إلى الله، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إلى أهل البيت، ولا إلى الأولياء.
لا نلتجئ إلا إلى الله بطاعته سبحانه وتعالى، فكيف بمن يستغيث ويحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يجد من الله عز وجل ملتحداً إلا بطاعته؟ فكيف يمكن لأحد أن يستغيث بغير الله أو يلجأ لغير الله؟!
(14/27)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [7]
قص الله عز وجل على نبيه قصة أولئك الفتية الأفذاذ، الذين نبذوا ما عليه قومهم من كفر وجهل، وتوجهوا إلى خالقهم عز وجل، ودعوه وتضرعوا إليه، فأجابهم وسترهم وحفظهم جل في علاه وتقدست أسماؤه.
وإن القلب ليقف معجباً بهؤلاء الفتية كيف تركوا ملاذ الحياة وأقبلوا على الله مع كونهم في مقتبل العمر، ولقد خلد الله ذكرهم في كتابه الكريم.
(15/1)
قصة أصحاب الكهف
قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:9 - 26].
قال ابن كثير رحمه الله في قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]: هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك فقال: ((أَمْ حَسِبْتَ)) يعني: يا محمد: {أنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] أي: ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا؛ فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف، كما قال ابن جريج عن مجاهد: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك، وقال العوفي عن ابن عباس: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9].
جمهور المفسرين على أن معنى ذلك: أن شأنهم عجيب ولكن هناك ما هو أعجب، وهو ما جعله الله عز وجل من دلائل قدرته، ومن المعجزات التي آتاها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وما علمه من العلم.
(15/2)
أقوال المفسرين في اسم الكهف
يقول: أما الكهف فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: هو واد قريب من أيلة -وأيلة بيت المقدس- وكذا قال عطية العوفي وقتادة.
وقال الضحاك: أما الكهف فهو غار الوادي، والرقيم اسم الوادي.
وقال مجاهد: الرقيم كتاب بنيانهم، يعني: الكتاب الذي كتب على بنيانهم وجعلت فيه أسماؤهم وكتبت فيه قصتهم، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.
وقول مجاهد هذا أقرب إلى ظاهر اللغة؛ لأن الرقيم بمعنى المرقوم، مثل قتيل بمعنى مقتول، والرقم هو النقش أو الكتابة، كل ذلك يسمى رقماً، فهو الكتاب الذي كتبت فيه قصة هؤلاء وأسماؤهم، وجعلوه على باب كهفهم، والله أعلم.
قال: وروى عبد الرزاق عن ابن عباس في (الرقيم) قال: كان يزعم كعب أنها القرية، وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف، وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس.
وعن شعيب الجبائي: أن اسم جبل الكهف بنجلوس، واسم الكهف حيزم، والكلب حمران.
هذا يعطينا فكرة عما ينشغل به أهل الكتاب مما ينقل عنهم، ما اسم الكلب؟ ما لونه؟ ما اسم الكهف؟ ما اسم الوادي؟ والقرآن كما نعلم لم يذكر لنا شيئاً من ذلك؛ لأن المقصود العظة والعبرة، وهذا قد ذكرناه مرات في الفرق بين قصص القرآن وما يذكر الله عز وجل فيه، وبين قصص أهل الكتاب من الاهتمام بالأسماء وأسماء البلاد وألوان الحيوانات، وأنواع الأشجار لتكملة القصة في أذهان الناس؟ والاهتمام بهذه التفاصيل فقط؛ لأن الناس الذين يسمعونها يريدون أن يتسلوا بذكر هذه التفاصيل، وأما القرآن فلم يشغلنا بذلك، والله أعلى وأعلم.
ولذا قال ابن عباس: كان يزعم كعب أنها القرية.
(15/3)
فرار الفتية بدينهم إلى ربهم
قال: يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم؛ لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم، فلجئوا إلى غار في جبل؛ ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)) أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا، ((وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)) أي: قدر لنا من أمرنا هذا رشداً، أي: اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً)، وفي المسند من حديث بسر بن أرطأة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة).
وقوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] أي: ألقينا عليهم نوماً حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة، ((ثم بعثناهم)) أي: من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)) أي: المختلفين فيهم، ((أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)) قيل: عدداً، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية -وهذا أقرب- كقوله: سبق الجواد إذا استوى على الأمد.
يعني: إذا وصل إلى الغاية، وذلك أن الذين اختلفوا فيهم اختلفوا كم لبثوا، وهو يدل على أنهم تناظروا فيهم بغير علم، وأن الأمر كان يجب تفويضه إلى الله سبحانه وتعالى حتى يبين الله عز وجل كم لبثوا في كهفهم بهذه الآيات من سورة الكهف: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25].
(15/4)
الهجرة في سبيل الدين
قال تعالى: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، كونهم أووا يدل على أنهم هربوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا وطنهم لله سبحانه وتعالى، وهذا أمر عظيم الأهمية في حياة المؤمن؛ إذ إن عليه أن يعبد الله سبحانه وتعالى في أي مكان من الأرض، فهذه وظيفته، فإن تيسر ذلك في وطنه الذي نشأ فيه، وهيأ الله عز وجل له من أسباب التمكين ما يعبد الله عز وجل في مكانه الذي نشأ فيه فبها ونعمت، وإلا فأرض الله واسعة، المهم تحقيق العبودية، وقد ضحى هؤلاء الفتية بوطنهم وأهليهم، وقراباتهم، ووضعهم الاجتماعي الذي كانوا فيه -كما عرف مما ذكره المفسرون- فقد كانوا من أبناء كبار القوم، أو كان منهم على الأقل من هو كذلك، والله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بأن يقدموا حبه وطاعته عز وجل على كل شيء، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فقضية العبودية هي أعظم قضية يجب أن يحافظ عليها المؤمن، وإذا عجز عن تحقيقها في أرض ما، ووجد سعة في الهجرة عنها، وجب عليه أن ينتقل من تلك الأرض إلى أرض الله الواسعة، والمؤمن عبد الله يعبد الله عز وجل في أي مكان من الأرض تيسرت فيه هذه العبادة.
ولذا هاجر إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وهاجر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من أحب بلاد الله إلى الله وإليه عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وهي التي دعا الله أن يحببها إليهم كحب مكة أو أشد، وذلك لإقامة الدين، وهاجر موسى صلى الله عليه وسلم فراراً بدينه إلى مدين مدة من الزمن، مع أنه ولد بمصر ونشأ بها، وهاجر بعد ذلك مع بني إسرائيل بأمر الله سبحانه وتعالى ليقيم الجهاد، ولكن أبى عليه بنو إسرائيل، وهكذا الصحابة رضي الله عنهم، انتقلوا من أرض، هجرتهم من المدينة إلى مختلف الأمصار؛ ليجاهدوا في سبيل الله وليبلغوا دين الله.
فالمقصود تحقيق العبودية على أي صورة، وعلى جميع أنواعها، فإيواء الفتية إلى الكهف؛ لأنهم عجزوا عن إقامة الدين في أرضهم، ومن عجز عن إقامة الدين في أرض ما وجب عليه أن يهاجر، وهذا الأمر أمر ثابت في كل زمان ومكان، طالما وجد العجز عن إقامة الدين وأمكن الهجرة فالهجرة لا تنقطع حتى يزول الكفر من الأرض، وذلك أن من ولد في أرض يظهر فيها الكفر والضلال والعصيان وقدر على الانتقال منها إلى أرض الإسلام التي يظهر فيها الحق، ويعبد فيها الرب سبحانه وتعالى، ففرض عليه ذلك.
(15/5)
فرار الفتية بدينهم طلباً للرحمة
قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10].
فالرحمة تطلب من الله عز وجل: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)) فهذه الرحمة بأن يسترهم ويحفظهم وينصرهم على قومهم الذين أرادوهم بالسوء، وهم فروا بدينهم؛ ليثبتوا عليه، فهو أحب إليهم من كل شيء، ولن يحصلوا على ذلك إلا برحمة من الله خالق أفعال العباد، ومقلب قلوبهم سبحانه وتعالى، وكيف يثبت الإنسان على دينه والناس يطاردونه يريدونه أن يتنازل عن شيء منه أو عنه كله؟ لن يثبت إلا برحمة من الله، ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً))، والرحمة المطلوبة في هذا الموضع هي ستر الله عز وجل عليهم، لنجاتهم ممن يريد أن يفتنهم ويصرفهم منه.
فالإنسان إذا ثبت على الدين فإنما هو بسبب رحمة الله له، فعليه أن يٍسأله المزيد من التوفيق والثبات، ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا))، وذلك أن الإنسان يمر بمواطن كثيرة تعتبر فرقاناً وفيصلاً في حياته، يتخذ فيها قرارات إما أن يسير يميناً وإما أن يسير شمالاً، إما أن يستجيب لداعي الغي الذي يطلب منه أن يبتعد عن طريق الالتزام، وإما أن يستجيب لداعي الرشاد؛ ليتخذ طريق الحق طريقاً وسبيلاً لا يسلك غيره، فهناك لحظات تاريخية في حياة الإنسان يتخذ فيها قراراً حاسماً، إما أن يظل سائراً في طريق الالتزام، وإما أن ينحرف عنه ويبتعد، لأن الناس يطاردونه ويريدونه أن يترك هذا الدين.
هكذا كان هؤلاء الفتية، وفي يوم ما قرروا الانصراف من بلدهم والهجرة فراراً بدينهم ثباتاً عليه، وإيثاراً له، وإيثاراً لأمر الله سبحانه وتعالى، وهم في ذلك يريدون أن يرشدهم الله، وماذا سوف يصنعون بعد ذلك؟ وإلى أين يذهبون؟ لا يدرون، إنما يريدون الثبات على الدين؛ ولا يدرون كيف يكون عملهم بعد ذلك، كما خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى طريق لا يعرفها، وإلى غاية لا يدركها، إنما يريد الفرار بدينه من الملأ الذين ائتمروا به ليقتلوه، فدعا ربه سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين، فنجاه وهداه الله عز وجل سواء السبيل.
قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، فكان من هداية الله لهم أن ضرب الله على آذانهم بحيث إنهم صاروا لا يسمعون، وهذا من الآيات البينة المعجزة، فإن الإنسان وهو نائم- كما أثبتت الدراسات الحديثة، وكما هو ظاهر ممن ينظر إلى النائم- حواسه كلها غير مدركة، إلا حاسة السمع فهي أعظمها إدراكاً، فلو أنك حاولت أن توقظ النائم بأنواع من الحركات، كالضوء الشديد وغير ذلك ما شعر بشيء من هذا، فبصره أغلقه أو لم يغلقه -لأن بعض النائمين يفتحون أعينهم أحياناً- يكون في أعمق فترات السبات والسكون، وكذا الشم والذوق، وأكثر حاسة يمكن أن تحرك الإنسان النائم هي الأذن التي يسمع بها؛ لذلك إذا ضرب على أذنه لا يمكن أن يستيقظ إلا أن يوقظه الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، أجملها هنا ثم بينها بعد ذلك بأنهم لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين.
وقال: ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ))؛ لأن الموت أخو النوم، وهو آية من آيات الله على البعث، وهذه القصة مما ذكره الله عز وجل في أدلة الإيمان بالبعث، ذلك أنهم ناموا نوماً مثل الموت، وبقيت الأبدان محفوظة بلا غذاء، ولكن يمكن أن يعرف ذلك في الواقع المشهود، فهناك كائنات تستكين وتنام نوماً طويلاً تستهلك فيه أقل جزء من الطاقة، ثم تستيقظ بعد شهور، فقدر الله لهؤلاء بقدرته العظيمة سبحانه وتعالى أن يظلوا في نومهم أحياء نائمين، ((ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا))؛ ليدلنا على قدرته على البعث والنشور، وكذلك ليعلم العباد ((أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا))، ليعلموا أنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، ولذا وجب عليهم أن يفوضوا الأمر إلى الله، ويردوا العلم إليه سبحانه وتعالى.
(15/6)
قصة هروب الفتية من قومهم إلى الكهف
قال الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
قال ابن كثير رحمه الله: ذكر الله تعالى أنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل إلى الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، أما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.
وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً.
وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة، يعني: الحلق -القرط أو القرط هما الحلقتان اللتان في الأذنين- فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم، فآمنوا بربهم، أي: اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أن لا إله إلا هو.
((وزدناهم هدى)) استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كـ البخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى))، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
ثم قال: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف: أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: دقيانوس، وكان يأمر الناس بعبادة الأصنام والطواغيت؛ ويحثهم عليه، ويدعوهم إليه.
فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم، ويتبرز عنهم -يخرج إلى البراز وهي الأرض الواسعة ناحية- ناحية، فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس إليها، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان.
كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقولون: الجنسية علة الضم، -يعني: كونهم من جنس واحد هو الذي أوجب أن يكونوا مضمومون لبعضهم- والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم، لا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم! إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء، فليظهر كل واحد منكم بأمره، فقال آخر: أما أنا رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة فصاروا يداً واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه.
فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه، فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا))، ولن لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبداً؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم: ((لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)) أي باطلاً وكذباً وبهتاناً.
((هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)) أي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً، ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا))، يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك.
ويقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، اختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: ((وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)) أي: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضاً بأبدانكم، ((فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)) أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، ((وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)) الذي أنتم فيه: ((مِرفَقًا)) أي: أمراً ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هرباً إلى الكهف، فأووا إليه، وتطلبهم الملك، فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعمَّى الله عليه خبرهم، كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق حين لجأا إلى غار ثور وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه، مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!) وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
فقصة هذا الغار -يعني: غار ثور- أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف، وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم، ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه، فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم، فأمر الملك بردم بابه عليهم؛ ليهلكوا مكانهم، ففعلوا ذلك، وفي هذا نظر، والله أعلم، فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشياً، كما قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]، فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ذات اليمين، أي: يتقلص الفيء والظل يمنة، كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: (تزاور) أي: تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها لارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال: ((وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ)) أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله، وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب.
وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية المشرق لما دخل إليه شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة، لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب، ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً، ولو كان من جهة المغرب، لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال، ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه، ولله الحمد.
(15/7)
كرامات أصحاب الكهف
قوله سبحانه وتعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] يدل على لطف الله سبحانه وتعالى بهم وهم نائمون، حيث قدر لهم من الأسباب ما يحفظهم، ويبعد الطلب عنهم حال خروج الناس في آثارهم، وقد أكرمهم الله تعالى في نومهم كما أكرمهم في استيقاظهم بتوفيقهم إلى توحيده عز وجل، وترك عبادة من دونه.
وهذه القصة تدل على إثبات كرامات الأولياء في أنواع القدرة والتأثير، هذه المدة الطويلة، خلال هذه المدة.
ومعنى الكرامة: ما يكرم الله به عبده المؤمن المتبع لشرعه سبحانه وتعالى، من أنواع خوارق العادات أو من غيرها، ولا يلزم أن يكون الإكرام بخوارق العادة، ولكن هذا هو الاصطلاح، بل إن أعظم كرامة للعبد هي أن يوفقه الله لطاعته، وأن يلهمه رشده، وأن يكشف له عن سبيل الحق فيلتزمه، وإن لم يقع له شيء من خوارق العادات، والله سبحانه وتعالى قد يجمع لعبده المؤمن بين أنواع الكرامات المختلفة ومن أنواع العلو والقدرة، وأعظم ذلك أن تكون له قوة على طاعة الله عز وجل، وهو معنى الحديث: (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) فالله عز وجل يعطيه قوة يصرف بها جميع حوارحه في مرضاته سبحانه وتعالى.
قال ابن كثير: قال عز وجل: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة رحمة لهؤلاء الفتية المؤمنين، وإنجاء لهم من القوم الظالمين الكافرين، وحكمة بالغة ودليل للناس على البعث والنشور، وإثبات قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بعد موتهم يوم القيامة، وكذلك ليثبت للناس سبحانه وتعالى ويبين لهم مآل المتقين وحفظه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين من حيث شعروا ومن حيث لم يشعروا.
لقد حفظهم الله عز وجل بإلقاء المهابة عليهم حتى لو اطلع المطلع -والمخاطب هنا كل مكلف- لولى منهم فراراً، ولملئ منها رعباً، ويمكن أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود كل من خوطب بذلك، والله أعلى وأعلم.
وذلك حفظاً من الله عز وجل لهم حتى لا يدخل عليهم أحد، ولا يصيبهم شيء من الكائنات الأخرى بسوء؛ لأنها تنظر إلى منظر مرعب مخيف فتنصرف، وبعد انقضاء المدة بعثهم الله عز وجل.
(15/8)
بعث الله لأصحاب الكهف وأحداث ذلك
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19].
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم -وكذلك كما أرقدناهم والكاف هنا للتشبيه- لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم: ((كَمْ لَبِثْتُمْ)) أي: كم رقدتم؟ ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ولهذا استدركوا فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)) [الكهف:19] يعني: ربما كان جزء يوم، وأقصى ما يمكن أن يكون يوماً كاملاً، فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)) أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم، إذ ذاك -يعني: في هذا الوقت- وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ)) أي: فضتكم هذه، وذلك أنهم قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها، وبقي منها، فلهذا قالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)) أي: مدينتكم التي خرجتم منها، والألف واللام للعهد: ((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)) أي: أطيب طعاماً، كقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره.
وقيل أزكى: أكثر طعاماً، ومنه زكا الزرع إذا كثر، قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة والسبع أزكى من ثلاث وأطيب والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال، سواء كان كثيراً أو قليلاً.
وقوله: ((وَلْيَتَلَطَّفْ)) أي: في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه، ((وَلا يُشْعِرَنَّ)) أي: ولا يعلمن بكم أحداً: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} أي: إن علموا بمكانكم، ((يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال تعالى عنهم: ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)).
قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ))، يقول تعالى: أي أطلعنا عليهم الناس، {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]، ذكر غير واحد من السلف: أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك] {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]؛ لأن الضمير هنا على هذا التفسير ((لِيَعْلَمُوا)) أي: ليعلم الذين عثروا عليهم أن وعد الله بالقيامة حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن بعث الأجساد حق، ((وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)).
قال: وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة لشراء شيء لهم ليأكلوه، تنكر وخرج يمشي في غير جادة الطريق -التي هي وسطه أو الطريق الكبير- حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس، وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها ولا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه، ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم، ثم يقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة.
ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي، فأراد أن يأخذ طعاماً ثم يخرج مسرعاً، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل -رأى النفقة- أنكرها، وأنكر ضربها- الأختام التي عليها والصك- فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم، ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً، فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنز، وممن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة، وعهدي بها عشية أمس، وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره، حتى أخبرهم بأمره، وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم قاموا معه إلى الكهف -ملك البلد وأهلها- حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم: دعوني حتى أتقدم معكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك، واعتنقهم وكان مسلماً فيما قيل، واسمه يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله عز وجل، والله أعلم.
قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة - وهو أحد قادة المسلمين الذين كانوا يغزون الروم، فمروا بكهف في بلاد الروم- فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة، رواه ابن جرير.
والله أعلم كم مضى عليها حتى بليت، وماذا شأنها الآن؟ وقوله: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)) أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) وهذا يؤكد أنهم اطلعوا عليهم جميعاً؛ لأن الله قال: ((أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ))، فيدل أنهم عثروا عليهم جميعاً وليس على واحد منهم فقط، فالقول بأنهم رأوا الأول وسمعوا بالبقية فيه نظر، إذ إن الآية تفيد أنهم دخلوا الكهف ووجدوهم.
يقول: أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان: ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ)) أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف -يعني: اطلاعهم على أصحاب الكهف- حجة لهم وعليهم أي: حجة للمثبتين للبعث وحجة على المنكرين.
((فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ)) أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم، وهذا يدل على أنهم ماتوا آنذاك.
((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا))، حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم والثاني: أهل الشرك منهم، والله أعلم.
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، فالذين غلبوا على أمرهم لم يصفهم الله بصفة العلم، وإنما بصفة الغلبة.
قال: ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)، يحذر ما فعلوا.
وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، وفيها شيء من الملاحم وغيرها، والرقعة مثل الأوراق عندنا لكنها من جلد أو نحو ذلك فيها ملاحم وقعت في بني إسرائيل، فأمر عمر بثلاثة عشر قبراً -فيما ذكر- أن تحفر، وأن يدفن الجسد الذي وجدوه على حاله كيوم مات في واحد منها، وتغلق جميعاً، حتى لا يدري الناس في أي المقابر دفن، ووجدوا مكتوباً عنده أنه النبي دانيال، فالله عز وجل أعلى وأعلم، فإن مثل هذا الخبر متلقى من أهل الكتاب، ولم يرد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر اسم ذلك النبي، وإنما قد يكون من أنبياء الله سبحانه وتعالى، وقد يكون من أوليائه، وظنه بعضهم على غير ما هو عليه، فالله عز وجل أعلى وأعلم إلا أنه يبدو أنه رجل صالح؛ لأنه لم يتغير بدنه، وهذا من كرامات الأنبياء والشهداء فقط، والمقصود أنه أُخفي قبره.
(15/9)
عدة أصحاب الكهف
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]: يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال: فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضعف القولين الأولين بقوله: ((رَجْمًا بِالْغَيْبِ)) أي: قولاً بلا علم، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب، فإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: ((وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ))، فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.
وقوله: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا اطلعنا على أمر قلنا به، وإلا وقفنا.
وقوله: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) أي: من الناس.
قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، هكذا روى ابن جرير عن عطاء الخرساني عنه عن ابن عباس، أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله عز وجل، ويقول: عدتهم سبعة، وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) قال: أنا من القليل: كانوا سبعة.
فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.
وهو استدلال دقيق من كتاب الله عز وجل، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أبطل قولين وسكت عن الثالث، فأرشد إلى القول الراجح، وأرشد إلى ثمرة الخلاف وما ينبغي في مثل هذا الموقف.
وكما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن القرآن أشار في بعض آياته العظيمة إلى ما ينبغي في مسائل الخلاف فالذي ينبغي في مسائل الخلاف.
استيعاب الأقوال المذكورة، وتبيين الباطل منها، وإقرار الحق، وبيان فائدة الخلاف وثمرته إن كان له فائدة، وختم ذلك بتفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال عز وجل: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا))، وهذا دليل على النهي عن استفتاء الجاهل، وأنه لا يجوز أن يُستفتى الجاهل، وهذا إجماع من أهل العلم أنه لا يجوز لأحد من المستفتين أن يستفتي من يعلم جهله أو بدعته أو فسقه.
قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فرتب الذنوب مبتدأ بتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، أي: أن الذنب الذي فيه اعتداء على حقوق المخلوقين أشد وأبعد عن المغفرة، حتى يسامح ذلك المخلوق، ثم ذكر الشرك، ثم ذكر أن يقولوا على الله ما لا يعلمون.
وعموماً فإن الجدال والمراء لا ينبغي أن يكون إلا بالتي هي أحسن، فإن الله عز وجل قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وذلك لإظهار الحق وإبطال الباطل، وعدم الدخول في تفاصيل لا فائدة منها، ولا ثمرة من ورائها.
وأما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً)، فهو حديث حسن أو صحيح، فهو لمن علم أن مراءه لا يفيد، وأن جداله وصل إلى طريق مسدود، وأن البحث عن الحق قد انتهى بسبب الخصومة، وأصبح الناس إنما يتعصبون لأقوالهم، فعند ذلك يترك المراء ولو كان محقاً.
وأما إذا كان الطرف الآخر والمناظر أو الباحث يبحث عن الحق ويتحرى الصواب، فينبغي أن يستمر معه في المراء، وليكن بالطريقة السهلة البينة الواضحة الهينة.
(15/10)
أدب الاستثناء في الإيمان
قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:23 - 24].
يقول ابن كثير رحمه الله: هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب، فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة -وفي رواية: تسعين امرأة، وفي رواية: مائة امرأة)]، وهذا هو الأرجح؛ لأن مفهوم العدد إذا خالفه منطوق فالمنطوق مقدم، فالأكثر يشمل الأقل، وربما قال: سبعين، ثم عزم على التسعين، ثم عزم على مائة.
قال: (تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له -وفي رواية: قال له الملك-: قل: إن شاء الله فلم يقل، فطاف بهن، فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان- وضعت جنيناً مشوهاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)، وهذا يدلنا على أهمية الاستثناء وأن يقول الإنسان: إن شاء الله، سواء أقسم أو أخبر أنه سوف يفعل، ولماذا لم يقل: سليمان عليه السلام إن شاء الله؟ اجتهد فأخطأ أو نسي صلى الله عليه وسلم، اجتهد لأن هذه نية طاعة، فلا يلزم أن تقيد بالمشيئة، وليس كذلك، بل ينبغي أن تقيد بالمشيئة، أو أن الملك قال له ذلك، فانشغل بما كان عزم عليه من الهمة العالية ابتغاء ولود المجاهدين في سبيل الله، وحباً للجهاد في سبيل الله، فنسي أن يقول: إن شاء الله، وقدر الله عز وجل عليه ألا تلد منهن امرأة واحدة، وذلك لأنه لم يقل: إن شاء الله تعليماً للأمة في زمنه وبعد زمنه، وفيه فائدة رد الأمور إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث أحسن ما يفسر به قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34]، فالجسد الذي ألقي على كرسيه هو ذاك شق الغلام الذي وضعته إحدى نسائه ولم تضع غيره، فكان في ذلك فتنة وامتحاناً له؛ ليعلم من أين أتي؟ حيث نسي أن يقول: إن شاء الله، أو انشغل عن ذلك أو نحوه والله أعلى وأعلم.
((ثُمَّ أَنَابَ)) أي: رجع إلى الله سبحانه وتعالى، وصار بعد ذلك، يستثني ولا يترك ذلك، والله أعلى وأعلم.
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) قيل: معناه: إذا نسيت الاستثناء فاستثنى عند ذكرك له يعني: إذا لم تقل: إن شاء الله نسياناً، ثم تذكرت بعد ذلك فإنه يصح أن تقولها، قاله أبو العالية والحسن البصري، وعن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف، قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: واذكر ربك إذا نسيت، في ذلك.
قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم -وهو ضعيف-، ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به.
ومعنى قول ابن عباس: أنه يستثني ولو بعد سنة، أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله، وذكر ولو بعد سنة، فالسنة له أن يقول ذلك؛ ليكون آتياً بسنة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث، قاله ابن جرير رحمه الله، ونص على ذلك.
لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين، ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم.
لأن قول ابن عباس رضي الله عنه: له أن يستثني في حلفه ولو بعد سنة إن كان يقصد به أنه يسقط عنه الكفارة، لما كان هناك أصلاً معنى للحنث في اليمين، ولما جازت الكفارة، لأن كل إنسان أراد أن يتخلص من إثم حلفه سيقول في أي وقت: إن شاء الله.
ثم إن التقييد بسنة لا يقصده ابن عباس، وإنما يقصد التكثير؛ لأنه يؤدي إلى إلغاء كفارة اليمين أصلاً، وإلى أن يصبح كل يمين قابلاً للإلغاء بأن يستثني إذا تبين له أنه يريد أن يخالفه، مع أنه يكون حلف يميناً ناجزاً ملزماً له.
لكن الذي يحمل عليه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه مسألة الأدب دون مسألة حل الكفارة، فعند الجمهور أنه لا يأثم الإنسان إذا حلف ليفعلن كذا، ولكن يرون أن ذلك خلاف الأدب، والله أعلى وأعلم.
ويرون أن ذلك خلافاً للمستحب ويقولون: النهي للتنزيه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقسم على أشياء وأقسم أصحابه رضي الله عنهم على أشياء لن يفعلوها ولم يستثنوا، فلم ينههم عن ذلك نهياً جازماً أو نهي تحريم، فتبين بذلك أن هذا الإقرار أو أن هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذا النهي للتنبيه فيما فعل أو فيما ترك.
ولذلك نقول: إن قوله: إن شاء الله ولو بعد سنة، إنما هو لتحصيل الفضيلة، أما إذا حلف ولم يستثن استثناء متصلاً مباشرة بيمينه، كأن قطعه بنفس أو عطاس أو نحو ذلك لم يضره ذلك، واشترط بعض العلماء أن يكون الاستثناء متصلاً باليمين مباشرة، وإذا لم يفعل لم يصح له الاستثناء.
فإذا استثنى مباشرة بعد اليمين كان استثناءاً صحيحاً، وإذا لم يستثن مباشرة بعد اليمين وفصله فاصل عرفي لم يصح الاستثناء، وهذا الفاصل العرفي لا يدخل فيه انقطاع النفس، أو أراد أن يأخذ نفساً أو أنه مثلاً عطس أو انشغل بأمر أدى إلى ألا يستثني مباشرة.
وبعض العلماء يشترط أن يكون هناك نية الاستثناء منذ أول الكلام، والذي يظهر أنه لا يلزم ذلك، بل ربما تحدث له نية الاستثناء أثناء القسم أو في آخره، وطالما اتصل به أجزأ، وأجمعوا على أنه إذا قال: إن شاء الله في قسمه، ليس عليه حنث إذا خالف ما حلف عليه، ولم يكن عليه كفارة؛ لأنه قال: إن شاء الله.
إذاً: خلاصة الاستثناء أنه في مسألة الإثم والأدب وتحصيل السنة، الأصل الإثم، وإحسان الأدب وتحصيل السنة أن يقول: إن شاء الله، ولو في أي وقت يتذكره، ولكن اليمين ينعقد إذا لم يستثن متصلاً بيمينه إلا الفاصل اليسير عرفاً كنفس أو نحو ذلك.
قال: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24] أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك وقيل في تفسيره غير ذلك، والله أعلم.
(15/11)
مدة لبث أصحاب الكهف في كهفهم
قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:25 - 26].
يقول: هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة، تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن التفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا)) وهذا من المعجزات الظاهرة للقرآن في أدق أنواع الحسابات والمشاهدات، وهذا أمر محسوس مشهود، أي: التفاوت بين السنة الشمسية والسنة القمرية؛ لأن السنة أمر حسي.
وأنواع الأزمنة منها ما هو أمر عرفي، ومنها ما هو حسي، نقول مثلاً: اليوم أمر حسي؛ لأنه مرتبط بالشمس شروقاً وغروباً، فالشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق مرة ثانية، فهذا اليوم والليلة مرتبط بغروب الشمس وشروقها.
وأما الساعات والثواني والدقائق فهي أمر عرفي، فالناس تعارفوا أن يقسموا اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، لكن هل تحدث علامة مميزة كل ساعة في الكون؟ هل يحصل مثلاً للشمس ساعة أنها تعطي إشارة؟ لا، إذاً هذا أمر اصطلح عليه الناس.
وكذلك الأسبوع أمر عرفي؛ لأنه ليس أمراً حسياً، فلا يحصل في الأسبوع شيء أما الشهر فهو أمر حسي؛ لأن القمر يدور دورته كل شهر، والسنة أيضاً أمر حسي؛ لأن فيها تغير الفصول، فالشتاء يأتي كل سنة مرة، وهذا أمر ملحوظ محسوس، فكل من الشتاء والربيع والصيف والخريف يأتي، فهذا أمر محسوس.
إذاً: يوجد أمران في الحقيقة حسيان، السنة التي هي اثنا عشر شهراً قمرياً، والسنة الشمسية التي هي الفصول الأربعة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعين خريفاً).
فالحسابات الفلكية الدقيقة على أحدث المستويات العلمية، أثبتت أن كل ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية.
ولذلك قال سبحانه وتعالى في هذه الآية: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، ولم يقل: ثلاثمائة وتسع سنين كالمعتاد، لماذا قال: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا))، هو في الحقيقة ثلاثمائة سنة، ولو حسبتها بطريقة أخرى يزدادون تسعاً، فهناك إشارة إلى الفرق بين السنة الشمسية وبين القمرية، والله أعلى وأعلم.
وقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] أي: إذا سئلت عن مكثهم وليس عندك علم في ذلك من الله تعالى، فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، وكذلك إذا سئل الإنسان عن شيء علمه متعلق بالوحي، وجادله غيره، فقل: أنت أعلم أم الله، فالله سبحانه وتعالى أعلم بما لبثوا، فلو جادلك أحد فيكفيك هذا الخبر من الله عز وجل، وهو الأعلم بما لبثوا سبحانه وتعالى.
وهذه السورة متضمنة لمعجزات ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: ذلك الخبر التفصيلي البين الذي يتضمن أنواع الفوائد عن قصة أصحاب الكهف، مع أنه لم يكن عند العرب منه شيء قط، وكان اليهود أهم ما يهتمون به الأسماء كاسم الكلب، والملك الذي كان في زمنهم، وأين كان الكهف، ولم يهتموا بالفوائد العظيمة الإيمانية والعبادية والتهذيبية والدعوية، وسائر أنواع الفوائد التي تضمنتها هذه القصة العظيمة.
بهذا السياق العربي الواضح البين الذي لا اعوجاج فيه، فلو كانت هذه القصة مترجمة؛ لظهرت فيها آثار الترجمة كما يظهر في أي كتاب مترجم من الركاكة ونحو ذلك: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، {قَيِّمًا} [الكهف:2] مستقيماً، {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2].
فهذه آيات تلو آيات للرسول صلى الله عليه وسلم صالحة في كل زمن من الأزمنة لتذكير الخلق بالله سبحانه وتعالى وبمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(15/12)
إثبات صفة العلم لله سبحانه
قال: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) أي: لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كـ مجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25].
هذا قول أهل الكتاب، وقد رده الله تعالى بقوله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)).
قال تعالى: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) أي: إنه لبصير بهم، سميع لهم، ما أسمعه وما أبصره عز وجل، أبصر به، يعني: ما أبصره، أسمع به، يعني: ما أسمعه، ما أعظم سماع الرب سبحانه وتعالى، وما أعظم بصر الرب.
قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، تأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
كأن تقول: ما أعظم هذا، يعني: هذا شيء عظيم جداً، وممكن تقول: أعظم به وأكرم، يعني هذا أكرم الأشياء.
قال: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) قال قتادة: لا أحد أبصر من الله، ولا أسمع، وقال ابن زيد: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ))، يرى أعمالهم، ويسمع ذلك منهم.
وقوله: ((مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس.
(15/13)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [8]
لا يخفى على كل مسلم ما للرفقة الصالحة من أثر كبير في حياة المسلم، فهي التي تعينه بعد الله سبحانه وتعالى على طاعة الله، والتقرب إليه، والإكثار من ذكره، وهذه الرفقة يجب أن تكون منتقاة ومختارة وفق الأسس والأوصاف التي وضعها ورضيها رب العالمين، من الطاعة له والإخلاص وعمل الصالحات، وأن لا تكون وفق ميزان المال والجاه والسلطان.
(16/1)
أهمية الرفقة الصالحة وفضلها
قال الله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:27 - 31].
أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتلو كتابه سبحانه وتعالى، وأن يصبر نفسه مع عباد الله المؤمنين؛ وذلك لأهمية الرفقة الصالحة، فهي من أهم الأمور في الدعوة إلى الله عز وجل.
إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لابد فيها من رفقة؛ حتى ولو كانوا أقل حالاً ومنزلة وعلماً من الذي أُمر أن يكون معهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى الخلق منزلة، وهو أقربهم إلى الله عز وجل، وأشدهم علماً بالله سبحانه وتعالى، وأشدهم له خشية؛ ومع ذلك أُمر بأن يصبر نفسه معهم؛ وذلك لأنهم يخلصون نيتهم لله عز وجل، والقرب من المخلصين من دقائق نعيم أهل الجنة؛ ولذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه وهو في النزع الأخير الرفيق الأعلى، فقال: (بل الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى!) وهذا يدلنا على أهمية الرفقة الصالحة.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من الأنبياء الذين سبقوه جميعاً، وهو سيد الناس يوم القيامة، وهو سيد ولد آدم ولا فخر، يطلب الرفيق الأعلى، ويطلب مرافقة الأنبياء الذين سبقوه، ومنهم إبراهيم عليه السلام وهو الذي بعده في المنزلة بين الخلق جميعاً، فإنهما أفضل من الملائكة، وأفضل من كل البرية، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لمن قال له: يا خير البرية! فقال: ذاك إبراهيم عليه السلام)، قال إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83].
(16/2)
تقويم الناس في ميزان الشرع وميزان الجاهلية
قد يكون من أمرت بمجالستهم فقراء؛ فتطمع النفس إلى مصاحبة من هو من أهل المال والسلطان، والنفس تتشوق إلى ذلك وتتطلع إليه، وتفتخر به، تقول: إن فلاناً الكبير هو من أصحابي، أو من زواري، أو ممن أزورهم وممن أدخل عليهم، النفس تتطلع إلى ذلك؛ حتى إن كثيراً من الناس يزن الأمور بموازين الدنيا، من السلطان والمال والجاه والسمعة بين الخلق؛ ولهذا اقترن الأمر بصبر النفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، بعدم النظر إلى من هو أعلى منك مالاً وجاهاً وسلطاناً، اقترن ذلك بالنهي عن أن تتطلع العينان إلى من أعطي زينة الحياة الدنيا، والنهي عن أن تتعداهم، قال عز وجل: ((وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)).
قوله: ((وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ)) المقصود أن تتطلع النفس إلى غيرهم، وهو أن ينظر نظر المعجب إلى غيرهم من أهل الدنيا، وهذا هو الذي نهي عنه، وليس مجرد التطلع أو النظر، إنما المقصود منه ما يتبع ذلك النظر من تطلع النفس إلى زخرف الحياة الدنيا الذي أُعطيه المترفون.
وسنة الله سبحانه وتعالى أن يكون الأغلب من المترَفين من الكافرين، أو من الفاسقين والظالمين، قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116].
فالملأ دائماً ليسوا أتباعاً للدعوة في أول نشأتها، وفي فترات ضعفها؛ ولذلك يظل الدعاة إلى الله يتطلعون إلى من يقوي دعوتهم، ولا شك أن المال والسلطان والجاه والمنزلة من أعظم ما تتقوى به الدعوة، ونفوس الدعاة متتطلعة إلى التمكين للدعوة إلى الله عز وجل، فلربما من أجل ما يرون من المصلحة، وما يريدون دفعه من المفسدة تتطلع النفوس إلى بعض الطاعة، وبعض المتابعة لهؤلاء المترفين، وهذا من أعظم الخطر، ومن مزالق الأقدام، إنما هي مصالح وهمية، وتحدث مفاسد عظيمة جرّاء متابعة أهل الباطل وأهل الترف وأهل الدنيا وأهل الغفلة عن ذكر الله عز وجل، هم يريدون نشأة المجتمع أو استمراره على موازين الجهل والظلم التي هم عليها؛ ولذلك يقررون مبادئ وقواعد توزن بها أعمال الناس تخالف شرع الله عز وجل، ويعظمون ما حقره الله، ويحقرون ما عظمه الله، فهم لا يلتفتون مثلاً إلى العلم والإيمان، وإنما يلتفتون إلى السلطان والمال كما ذكرنا، يلتفتون إلى نوع الملبس والمركب والمطعم، فيكون ذلك عندهم عظيماً، فمن كان عنده من ذلك الشيء الكثير كان عندهم مقدماً محترماً، حتى ولو كان من أفسق الفاسقين.
وأنت ترى هذه الموازين في مجتمعات الشرق والغرب موازين مقدسة عندهم لا تُمَس، وهي مدنسة في الحقيقة؛ لأنهم يرون أهل الفجور والفسق من أهل الفن والغناء واللهو واللعب هم المشاهير والعظماء؛ الذين تفتح لهم الأبواب، وهم الذين يقدمون في المجالس ويستشارون في الأمور، ويقدمون على غيرهم في مهمات المجتمع، وهذا دليل على غفلة القلوب عن ذكر الله، وهم لا يعتبرون الإنسان الذي عنده من الإيمان والدين والعلم ما عنده؛ لأنه ليس له وضع في دنياهم كما يقولون ويزعمون.
هذه موازين الجاهلية، بل عامة مجتمعات الأرض مبنية على هذه الموازين، ولذلك فقبول هذه الأفكار بزعم المصلحة، والرغبة في التمكين للدين؛ من أعظم ما يؤدي إلى تمييع القضية وإلى تشويه الدين وانحراف الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.
(16/3)
سبب انزلاق وانحراف بعض الدعاة إلى الله
كم رأينا وسمعنا من ينتسب إلى الدين وهو يقرر عقائد الضلال، بل وأحياناً الكفر والعياذ بالله؛ لأنه أطاع من أغفل الله قلبه عن ذكره من أهل الفساد، ونحن نعلم أن انزلاق قدمه إلى هذه الهاوية، ما كان إلا ببعده عن عباد الله الصالحين، مع أنه ربما كان في وقت من الأوقات أفضل من كثير من هؤلاء الصالحين الذين يريدون وجه الله عز وجل، وربما كان أعلم منهم وأعلى قدراً، لكنه اتبع هواه، لكنه عدت عيناه عن هؤلاء الصالحين، وصار يريد زينة الحياة الدنيا، وكان بداية انحرافه دعوى المصلحة.
ولذا وجدنا هذا العتاب الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم بالقطع واليقين ما كان يريد من تطلعه إلا إيمان من يؤمن من علية القوم، ما كان يريد إلا مصلحة الدين والتمكين للإسلام، فأنزل الله عز وجل عليه هذه الآيات، وكذا قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس:1 - 12].
هذه هي الموازين الإيمانية التي لابد أن نزن بها الأمور، فكما ذكرنا يبدأ الشيطان في تسويل الأمر لكثير من الناس، ممن ينتسب إلى العلم والدين؛ بأن ذلك مصلحة، وأن ذلك دفع مفسدة، فتنقلب الموازين بعد حين، تجدونه والعياذ بالله يقرَّب كل ما يريده أعداء الله، ولربما فطن المشركون والمنافقون واليهود والنصارى وأعداء الإسلام إلى هذه المفاتيح في شخصيته، فيعطونه ما يريد من الوجاهة والمنزلة ومن زخرف الدنيا؛ فإذا به يصير لسان حالهم، وربما صوَّب كفرهم والعياذ بالله، فخرج عن الإسلام بتصويب هذا الكفر، فنعوذ بالله من ذلك.
وتجدون ما هو أدنى من ذلك تصريحاً؛ فإنك تجد من يقبل أنواع الضلال كلها كما ذكرنا، ويحاول أن ينسبها إلى الإسلام، ويأتي مما يعلم من الدين بما يلبس به على الناس، فتجده مثلاً يخلط على عوام الناس بين السماحة والعدل والقسط الذي أمر الله عز وجل به مع الكفار وبين الموالاة والمحبة والمودة، فتجده يصرح بالمودة والموالاة للكفار، ويقول: هذا مما أمُرنا به، وهذا مما لم ينهنا عنه الشرع، ويأتي بالأدلة الدالة على العدل والقسط والبر والإحسان لمن لم يسئ إلينا ولم يحاربنا في الدين.
نقول: البر والإحسان أمر، والموالاة والمحبة والمودة أمر آخر، وتجد العجب العجاب ممن يخلط بين الأمور، تجده مثلاً إذا أراد الناس تحكيم غير شرع الله سبحانه وتعالى، فإذا به ينادي مثلاً بالشورى ويزعم أنها هي الديمقراطية الحديثة، ونحن نعلم الفرق الهائل بين الأمرين، فهذه بعض الأمثلة مما نسمعه في واقعنا، وتلك هي النتيجة الخطيرة لمن اتبع وأطاع من أغفل الله قلبه عن ذكره سبحانه وتعالى، فيلبس الأمور على الناس، وربما استحل المحرمات، فيسمي الربا بغير اسمه؛ تلبيساً على الناس، فيقول لهم: هذه الفوائد أحل من المضاربة التي شرعها الله عز وجل، والمشاركة التي بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم مشروعيتها ونحو ذلك، مع أنه يخالف إجماع أهل العلم على ذلك.
ويسمي المعازف المحرمة والفسق والفجور والمحرمات باللهو المباح البريء، ويدعي أن ذلك مما أباحه الله سبحانه وتعالى، ويحتج عليه بغناء جاريتين غنتا عند النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، بعيداً تماماً عن كل هذا الذي نسمعه، وبالقطع واليقين لا يشك عالم في تحريم ما يذكر للناس من الغناء، وما يعرض عليهم ليل نهار.
وليس هذا في أناس بأعيانهم دون غيرهم؛ ولكن هناك طوائف كثيرة حتى من المنتسبين إلى الدعوة إلى الله، وإن لم يكونوا أتباعاً ولا أذناباً للظالمين والمنافقين؛ بل بداية أمرهم أنهم ابتعدوا عن الصالحين، وفي نفس الوقت اتبعوا وأطاعوا من أغفل الله قلبه عن ذكره, ولهذا نجد مزيداً من الانحراف جيلاً بعد جيل وسنة بعد سنة، وربما يوماً بعد يوم، وتجد المبادئ الجاهلية هي التي سيطرت على عقول الكثيرين كما ذكرنا، لهذا كان هذا التوكيد الشديد البين العتاب الواضح للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن قبول أدنى مبدأ وأدنى أمر -ولو لمصلحة ولو للتمكين للدين- من مبادئ الجاهلية، ومن باب الظلم والطغيان والعدوان.
لذلك نقول: هذا الأمر من أعظم الأمور أهمية في منهج الدعاة إلى الله، وهو حاجتك أيها الملتزم إلى صحبة الصالحين، كان الأنبياء يحتاجون إلى صحبة الصالحين، وكان الأتقياء العلماء الدعاة يحتاجون إلى صحبة تلامذتهم وأتباعهم، وهم لم يحتاجوا إلى ذلك من أجل أن يظهر علمهم بذلك، أو يظهر فضلهم عليهم، لا، هذا أمر خطير، إنهم لا يصحبونهم لكي يعظمونهم، بل هذا في فترة الاستضعاف التي تكون فيها الصحبة تهمة لهؤلاء؛ إنما يحتاجون إليهم للثبات على الدين، ولكي تظل إرادة وجه الله عز وجل هي المحرك الحقيقي للدعاة إلى الله، وللعاملين في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولكي لا تدخل موازين الباطل والجاهلية إلينا من حيث لا نشعر.
لذا قال عز وجل: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28].
إذاً: نهى الله عن طاعة الغافلين عن ذكر الله، ونهى عن طاعة من لا يذكرون الله إلا قليلاً، أو من لا يذكرونه بالمرة، وكون فلان يذكر الله أو لا يذكره لا نلحظه بمجرد إمساكه لمسبحة مثلاً، ولكن نلحظه في شئون حياته، فى كلامه كم فيه من ذكر الله، وكم فيه من البعد عن ذكر الله، نلحظه في كتابته، في أعماله وأحواله، في يومه وليلته ماذا يصنع وماذا يسمع وماذا يقول، وماذا يعمل؛ بهذا تعرفه، وهذا والله أمر جلي ظاهر، لا يحتاج إلى كبير مجهود.
فأنت تجد حياة الناس في ليلهم ونهارهم ما بين العمل والمقهى والتلفاز والأفلام الأخرى، والصراعات الداخلية فيما بينهم والنزاعات، إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، إذا وجد هؤلاء فاحذرهم، قال عز وجل: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)).
أنا ضربت المثال بالأدنى؛ ليُنتَبَه لما هو أشد من ذلك، ضربت مثالاً بعامة الناس فضلاً عمن يقضون أوقاتهم فيما هو أشد فسقاً وفجوراً والعياذ بالله ممن يقضي أوقاته في الملاهي الليلية، وفي أماكن الفجور وغيرها مما نتعفف عن ذكره، فضلاً عمن يظل الساعات الطويلة يكيد لأهل الإسلام والصد عن سبيل الله عز وجل، ويقضي ساعاته الطويلة ومعظم حياته مع الكفرة والثناء عليهم والتقديس لهم وغير ذلك، ولا يكاد يلتقي بأهل الصلاح أبداً، نسأل الله العفو والعافية.
(16/4)
سبب انحراف الدعوات والجماعات الإسلامية
لو تأمل الإنسان في تاريخ الدعوات لوجد أن انقسام كثير من الدعوات؛ بسبب بعد كثير من الصالحين عن كثير منها مما أدى إلى مزيد من انحرافها وأدى إلى تشويه هذه الدعوات بالكلية؛ لأن قوماً وفريقاً منهم أطاعوا من أغفل الله قلبه عن ذكره سبحانه وتعالى، فتحولت بعد ذلك إلى دعوة ممسوخة ليست دعوة إلى الله سبحانه وتعالى، دعوة مليئة بالمنكرات، ولو أنهم تمكنوا لما غيروا كثيراً، أو لَمَا كان الوضع يختلف كثيراً عما يفعله أعداء الإسلام، إلا أنه صار هناك إسلام بالاسم فقط، والاسم لم يختف بعد عند أعداء الإسلام، ولا مانع عندهم من بقائه، حتى الكفرة يقولون: نحن لا نحارب الإسلام، حتى اليهود أنفسهم يقولون: نحن لا نحارب الإسلام، هم يقولون: نحن نحارب التطرف! لا يتجرأ اليهود أن يقولوا: نحن أعداء الإسلام إلى يومنا هذا.
فإذاً: قضية الاسم وأن هذا إسلامي صار كأنه دهان يُدهن به كل شيء حتى يصير إسلامياً، حتى الغناء واللهو واللعب، يقال له: هذا غناء إسلامي، وهذا تمثيل إسلامي، وهذا لعب إسلامي وغير ذلك، أمر عجب! وهو على ما هو عليه، هذا أمر ملحوظ بلا شك، وكل هذا بسبب البعد عن الصالحين وبعد الصالحين عنهم.
(16/5)
التحذير من طاعة الكافرين والمنافقين
قوله سبحانه: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)) يشمل الكفرة والمنافقين والظلمة وكل من غفل عن ذكر الله، بالدرجات المتفاوتة، والطاعة في هذا طاعة في الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وطاعة في البعد عن كتابه، وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والطاعة موالاة، ولذا ورد التحذير مرات ومرات من طاعة الكافرين والمنافقين، ولذلك نرى أن من أعظم الخطر الذي يدعو إليه دعاة ينتسبون للإسلام: تأكيد طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره، ويؤكدون أن هذه الطاعة هي مفتاح الخير، وأن ذلك هو سبب الأمان للدعاة إلى الله عز وجل، وأن مخالفة الطاعة لهؤلاء كانت هي السبب في البلايا والمحن التي تصيب المسلمين والملتزمين، ووالله إن هذا لهو قلب للحقائق وللأمور رأساً على عقب.
كيف ذلك؟! إطاعة من وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاة على أبواب جنهم تحل مشاكل الدعوة والدعاة؟ وهذا والله تلحظه في كتابات كثيرة، وفي توجيهات عديدة من كثير ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الإسلام، للأسف الشديد هذا بسبب الغفلة عن كنوز القرآن، والعلم الذي احتوته آيات الله سبحانه وتعالى.
ولذلك في قصة أهل الكهف ما يبين هذا المعنى، وهو أنهم اجتمعوا مع بعضهم وفارقوا أهل السلطان والمال والجاه والدنيا؛ لغفلتهم عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ولم يطيعوهم فيما دعوا إليه من ترك دينهم.
وهكذا يجب أن يكون كل من دعا إلى الله سبحانه وتعالى، الطاعة موالاة، فأنت هل ترضى أن يكون مصيرك مصير من أغفل الله قلبه عن ذكره؟!
(16/6)
خطر الغفلة عن ذكر الله
(16/7)
الغفلة عن ذكر الله عز وجل
قال أهل العلم: إن أول مراتب السير إلى الله عز وجل: الانتباه من رقدة الغفلة، وأن يتيقظ الإنسان ويتيقظ قلبه من رقدة الغفلة.
الغفلة عن ذكر الله، الغفلة عن الموت وما بعده، الغفلة عن اليوم الآخر والجنة والنار، الغفلة عن محبة الله سبحانه وتعالى ومعرفته بأسمائه وصفاته، الغفلة عن أعظم لذة ومتعة في الوجود وهي التلذذ بالقرب من الله عز وجل وعبادته، والاختلاط بأهل الدنيا ليل نهار والقرب منهم يؤدي إلى الغفلة، ولا يكاد أحدنا يذكر شيئاً ينتشله من الغفلة طالما كان مع الناس، إلا أن يمن الله عز وجل عليه بمن يذكره أو بأن يكون هناك مذكر في نفسه لكي يظل قلبه متيقظاً بدلاً من الغفلة، الغفلة عن معاني التوحيد والإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر.
فمنذ كم وأنت تفكر، وأنت تستشعر أن معك على الدوام ملكين كريمين، يكتبان أعمالك، قال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أليس هذا من الإيمان بالملائكة؟ ولكن هل تستشعره أنت في حسك وفي تصرفك وسلوكك أم غفلت عن ذلك؟ كم استشعرت أن الملائكة تحف المجالس التي يكون فيها ذكر الله؟ والله لو أن الناس قيل لهم: إن فلاناً المشهور سيحضر الدرس الفلاني يستمع فيه لأتى الملايين والآلاف لكي يستمعوا إلى هذا المجلس الذي سيحضره فلان، فاعلم أن ملائكة الله سبحانه وتعالى تأتي وتحضر مجالس ذكر الله سبحانه وتعالى، ومجالس تلاوة كتابه وتدبره ومعرفة ما فيه من الحلال والحرام، ومجالس التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل في المساجد وغيرها.
(16/8)
الغفلة عن تدبر سير الرسل والأنبياء
قد يكون الإنسان غافلاً وهو من أهل الإيمان؛ وذلك لأن القلب تستتر عنه بصيرته لكثرة الحواجز.
فمثلاً: في الإيمان برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تكون الغفلة عن الصفات العظيمة التي عليها كل رسول من هؤلاء الرسل، وتدبر صفات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يقيناً يجذب القلب إلى حبهم جذباً، ويجعلك تحب كل واحد منهم.
وكثير من الناس ينشغلون بسيرة بعض الشخصيات فيظل يقرؤها كثيراً؛ فيحب هذا الشخص، ويعجب به إعجاباً شديداً، وهكذا لو تأملت في سير الأنبياء في القرآن، فإن ذلك يجعلك تسلك الطريق الصحيح في مواجهة أي موقف يحدث لك؛ لأنك تستحضر ما ينبغي أن تكون عليه من التشبه بهم، فهذه يقظة، والبعد عن سيرة الأنبياء وسلوك الأنبياء غفلة؛ ولذلك نجد كثيراً من المواقف المختلفة التي كان ينبغي أن يكون الأمر فيها بخلاف ما تم؛ لأن الأمر واضح فعلاً لو تأملنا سير الأنبياء وموازينهم التي يزنون بها الأمور، والمواقف التي اتخذوها، والأمور تتكرر كثيراً، ومع ذلك نجد مخالفة وبعداً شديداً عن منهج الأنبياء؛ لأننا غفلنا عن سيرتهم، وعما قص الله عز وجل علينا من صفاتهم حتى نحبهم ونتشبه بهم ونتبعهم ونطيعهم.
(16/9)
الغفلة عن تدبر كتاب الله عز وجل
كذلك الإيمان بالكتب والذكر لها، وذلك بتلاوة كتابه، كما تصدرت الآيات بهذا الأمر، قال تعالى: ((وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ)) بحيث يكون الإنسان منتبهاً حال التلاوة؛ لأنه ليس المقصود بالتلاوة هو تحريك اللسان فقط، فقد ذكرنا أن تفسير التلاوة بالاتباع هو التفسير الصحيح لهذا، ولا يتم إلا بالقراءة التي معها المتابعة، ومن السلف من فسر التلاوة بالمتابعة فقط.
على أي حال فالانتباه لما في كتاب الله عز وجل من المعاني العظيمة التي هي أساس اليقظة، وهو ضد الغفلة، والغفلة عن كتاب الله تكون بعدم قراءته وحفظه وعدم تدبر ما فيه، وكيف يتدبر فيه من لا يقرؤه؟! وكيف يتدبر فيه من لا يفتح مصحفه في يومه وليلته؟! لا شك أن ذلك يؤدي إلى الغفلة، ولذلك نحذر أنفسنا من الغفلة عن كتاب الله عز وجل.
(16/10)
الغفلة عن اليوم الآخر
كذلك الغفلة عن تذكر اليوم الآخر على الدوام، كأنك ترى الناس قد قاموا من قبورهم ووقفوا في أرض المحشر حفاة عراة غرلاً، والشمس فوقهم، والأرض قد بدلت غير الأرض التي نحن عليها، قد غيرت صفاتها، وسيرت جبالها، وعرق الناس حتى ضرب في الأرض قدر قامة رجل، وقدر سبعين ذراعاً، ومن الناس من عرقه إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، نسأل الله العافية.
وكأنك ترى الناس وقد تطايرت صحفهم، يأخذونها باليمين أو بالشمائل من وراء ظهورهم والعياذ بالله.
فكأنك ترى الموازين قد نصبت، فهذا يرجح ميزانه فيسعد سعادة لا شقاء بعدها أبداً، وذاك يخف ميزانه فيشقى شقاء لا سعادة بعده أبداً والعياذ بالله.
والناس في هذا الموقف الهائل منتظرين ماذا يصنع بهم، والمؤمن يؤتى كتابه بيمينه ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، والكافر يؤتى كتابه بشماله فيقول: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] والعياذ بالله.
وكأنك تنظر إلى الناس وهم يمرون على الصراط، ومنهم من يتساقط، ومنهم من يخدش وينجو، ومنهم من يمر كالبرق، تذكر هذه المعاني، وذلك لن يتم إلا بذكر الله عز وجل بالقرآن وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى يحيا ذلك القلب وتذهب عنه الغفلة.
إذاً: لابد من الذكر وترك الغفلة، وسائر أصول الإيمان والإسلام تحتاج إلى ذكر وبعد عن الغفلة، ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)).
(16/11)
من أسباب الغفلة عن ذكر الله: التفريط في جنب الله
تجد الدليل الواضح على خلق الله لأفعال العباد، قال: (أغفلنا) ولم يقل: غفل قلبه، وإنما قال عز وجل: ((أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ)).
إذاً: الله الذي أغفل قلبه وجعله في غفلة هو خالق أفعال العباد، وهو سبحانه الذي وضع الأمور في مواضعها، وما أضل هذا الذي أضله إلا لأجل فعل منه استحق به ذلك وصفة قبيحة فيه، لماذا أغفل الله قلبه عن ذكره؟ لماذا حرمه هذا الشرف؟ لماذا جعله موضعاً للضلال وللنجاسة في الإرادات والأعمال والأقوال؟ لأنه ((َاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)) أي: أنه اتبع الهوى وفرط في الواجب، واتبع الشهوات وضيع الصلوات وترك الواجبات وفعل المحرمات، وسبب ضلال بني آدم ترك الواجبات وفعل المحرمات، واتباع الهوى يجرك إلى مزيد من تضييع الواجبات، وهكذا تدور في دائرة لا نهاية لها إلا الاستقرار في جهنم والعياذ بالله.
تلحظ في نفسك أثر الطاعات والمكروهات والمحرمات، فأنت إذا أقبلت على الصلاة وفقت لغض البصر، ووفقت للبعد عن الشهوات، إذا صمت وصليت وقمت الليل تمكنت من نفسك، وتحكمت فيها، وإذا أطلقت بصرك حُرِمت قيام الليل، وهذا مثال بسيط، وإلا فكلما ازداد الذنب ازداد الحرمان، وازداد البعد عن الله عز وجل؛ لأن اتباع الهوى يؤدي إلى التفريط، ويؤدي إلى أنك تحرم من ذكر الله سبحانه وتعالى، ويؤدي إلى مزيد من الغفلة.
الله عز وجل أغفل قلب من أغفل عن ذكره؛ لأنه اتبع هواه، والله سبحانه وتعالى ذكر لنا أنه فعل هذا بهم عدلاً منه وحكمة؛ لأنهم فرطوا، فهم يريدون اتباع الهوى، وفرطوا في طاعتهم لله عز وجل، بل منهم من ضيعها بالكلية، فلذلك غفلت قلوبهم فأغفلها الله.
(16/12)
أسس الدعوة إلى الله
لقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله، قال عز وجل: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: هذا هو الحق من ربكم، إذا تأملت هذا الترتيب وجدت الدعوة إلى الله لا تقوم إلا بذلك، لابد من تلاوة الكتاب، ولابد من اللجوء إلى الله عز وجل، ولابد من طائفة صالحة مخلصة تصحبها على طاعة الله، فالذي ينبغي ألا تتطلع نفسك إلى صحبة أهل الدنيا والشرف، ولابد من الحذر من طاعة الغافلين فضلاً أن تكون أنت غافلاً، ولابد أن تترك اتباع الهوى، بل تحاربه وتنهى النفس عنه، ولابد ألا تفرط في طاعة الله.
هذه أسس البناء، عند ذلك سوف تقوم الدعوة على أساس متين، وسوف تكون الدعوة إلى الله مثمرة الثمار المباركة، وعندما يوجد من يدعو إلى الله بدون هذه الأسس سوف تكون دعوة ممحوقة البركة لا ثمرة لها، أو ثمارها مُرة، ثمارها شخصيات ونتاج لا يسمن ولا يغني من جوع، نتاج من الناس لا يغير الواقع، ولا يُمكَّن لدين الله عز وجل من خلاله، نسأل الله العافية.
لذلك لابد إذا أردنا أن نكون دعاة أن نقول الحق، ويصل هذا الحق إلى من أراد الله هدايته فينبت النبات الطيب، لابد أن توجد الأسس التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قصة هؤلاء الدعاة، وفي خاتمة هذه التوجيهات الإيمانية القرآنية؛ لأنها قصة عظيمة من قصص الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، قصة هؤلاء الدعاة من أهل الكهف قال تعالى: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) ليس هذا على سبيل التخيير، وإنما هو على سبيل التهديد والوعيد، كما تقول: اعمل ما شئت، وسوف ترى ما يحدث لك؛ لأن الله عقبه بقوله: ((إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)).
ولكننا نلتمس في ضوء هذه الآية أن الدعوة إلى الله في مراحلها الأولى؛ لأن السورة كما ذكرنا مكية، لا تقوم أبداً على القوة، وهذا من حكمة الله عز وجل أن الله يسر أن يبدأ الدعاة إلى الله من ضعف، ثم ينمو وجود الدعوة إلى الله حتى تقوى، وعند ذلك يشرع الله الجهاد.
وكثير من الناس يغفل عن هذا الترتيب؛ لأن الناس إذا دخلوا في الدين بالجهاد دخل فيه من يحسن ومن لا يحسن، من يريد الدين ومن لا يريده، هناك الكثيرون يدخلون في الدين إذا تمكن؛ لأنه أمر قد ترجح، كما قال عبد الله بن أبي بن سلول لما انتصر المسلمون في بدر: هذا أمر قد توجه، يعني: صار له وجه، ويبدو أنه سوف يتصدر، فدخل في الإسلام ودخل المنافقون، فكانوا أعظم خطر على المجتمع المسلم.
والذين دخلوا في دين الله أفواجاً، من السهولة أن يخرجوا منه أفواجاً، أما الذين دخلوا فيه واحداً واحداً، ونبت الإيمان في قلوبهم كشجرة تنبت في الصخر، فلا يمكن أن تنزعها الرياح من جذورها؛ لأن الإيمان قد ثبت في قلوبهم.
من الذي ثبت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ثبت الله الأمة كلها بـ أبي بكر، ثم ثبتها بمن تابعه من الصحابة؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قد امتلأ قلبه إيماناً فما تزعزع، ولولا فضل الله بهؤلاء لما كان للإسلام ذكر في وقتنا، فسبحان الله! فهؤلاء هم الذين استجابوا لدعوة الحق عندما كان ليس لها قوة تحميها، ومع هذا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومن يكفر عندهم من الدنيا ما يجعله في المنازل العالية، هناك أضعاف أضعاف الجوائز عندهم، ولكن الذي يدفع المؤمن للإيمان هو نظره للآخرة؛ لأن الظالمين أعد الله لهم ((نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا))، ولأن المؤمن إنما يستجيب لله، لا لشيء من الدنيا.
وهذا والله من أعظم الأمور أهمية في نوعية هذا الإيمان الذي يثبت في القلوب، ويظل مستقراً فيها عند الشدائد، نسأل الله عزو جل أن يجعلنا من المؤمنين حقاً.
(16/13)
وجوب الجهاد
قال تعالى: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) أبعد وضل من استدل بهذه الآية على عدم وجوب الجهاد، هذا كلام باطل لا تدل عليه الآية بوجه من الوجوه، وكما ذكرنا هذا كان في أول الإسلام، ليس معنى ذلك أن الإسلام سوف يظل هكذا على الدوام، لا يفرض الحق بالقوة التي أيده الله عز وجل بها، بل لابد بعد مرحلة معينة أن يفرض الحق إذا وجدت القوة التي تفرضه، وليس معنى ذلك أننا نكره الناس على الدين، بل يظل هذا الأمر موجوداً، ولكن يمنع الكفر والطغيان من أن يفرض نفسه على الناس جيلاً بعد جيل، ويكون حاجزاً بين الناس وبين الإيمان.
إذاً: فوظيفة المسلمين في الجهاد أن يزيلوا الشبه، وأن يمنعوا الباطل من أن يكون متسلطاً، الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، فإذا ظهر أمر الله وظهر الحق فيختاره من اختار، ويظل الأمر بعد ذلك إلى ما يختاره الإنسان لنفسه، فلن يكره أحد على الإسلام، إلا من ورد الإكراه في حقه لارتكابه جريمة الخيانة العظمى وهي الردة، فالمرتدون هم الذين يُكرَهون على الإسلام فقط، وأما من سواهم فالصحيح أن أحداً من أهل الملل لا يكره على الدخول في الإسلام، على خلاف معتبر في غير أهل الكتاب والمجوس، بمعنى أن هناك من يرى إكراه المشركين دون إكراه اليهود والنصارى والمجوس، لورود النص في أنهم لا يكرهون على الإسلام لإقرارهم بالجزية.
والصحيح أن الكل يقر بالجزية، إلا المرتدين فإنهم بإجماع أهل العلم يجب قتالهم وقتل الواحد منهم المقدور عليه إذا تمكن المسلمون من ذلك.
والخلاف في المرتدة ضعيف أيضاً؛ فإن المرتدة تقتل على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول جمهور العلماء.
والمقصود أن هذه الآية ليست للتخيير، كما يقول ذلك من ضل وأضل، ويظن أن الأمر مرده إلى إرادة الناس، ومن الخطأ كذلك القول بأن الآية تدل على عدم الجهاد، ولكن الآية كما ذكرنا: ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) الأمر هنا ((فَلْيَكْفُرْ)) للتهديد والوعيد؛ لأنه أعقبه بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم، والحق الذي لا مرية فيه ولا شك، ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال: ((إِنَّا أَعْتَدْنَا)) أي: أرصدنا ((لِلظَّالِمِينَ)) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه، ((نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) أي: سورها.
روى الإمام أحمد بسند فيه ضعف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لسرادق النار أربعة جدر، مسافة كل جدار مسافة أربعين سنة).
قال ابن عباس: ((أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) قال: حائط من نار.
وروى ابن جرير عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم، قال: فقيل له: كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية: ((نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) [الكهف:29] ثم قال: والله! لا أدخلها أبداً أو ما دمت حياً).
(16/14)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص في القرآن الكريم
القصص
في
القرآن الكريم
إعداد
إسلام محمود دربالة
عفا الله عنه
ISLAMDERBALAH@HOTMAIL.COM
(1/1)
تمهيد
الحادثة المرتبطة بالأسباب والنتائج يهفو إليها السامع. فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضين كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، والموعظة الخطابية تسرد سردًا لا يجمع العقل أطرافها ولا يعي جميع ما يلقي فيها، ولكنها حين تأخذ صورة من واقع الحياة في أحداثها تتضح أهدافها، ويرتاح المرء لسماعها، ويصغي إليها بشوق ولهفة، ويتأثر بما فيها من عبر وعظات، والقصص الصادق يمثل هذا الدور في الأسلوب العربي أقوى تمثيل، ويصوره في أبلغ صوره: قصص القرآن الكريم.
معنى القصص:
القص: تتبع الأثر. يقال: قصصتُ أثره: أي تتبعته، والقصص مصدر، قال تعالى: {فارتدا على أثارهما قصصا} [الكهف: 64] أي رجعا يقصان الأثر الذي جاءا به. وقال على لسان أم موسى {وقالت لأخته قصيه} [القصص: 11] أي تتبعي أثره حتى تنظري من يأخذه. والقصص كذلك: الأخبار المتتبعة قال تعالى {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62]، وقال: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب} [يوسف: 111] والقصة: الأمر، والخبر، والشأن، والحال وقصص القرآن: أخباره عن أحوال الأمم الماضية، والنبوات السابقة، والحوادث الواقعة _ وقد اشتمل القرآن على كثير من وقائع الماضي، وتاريخ الأمم، وذكر البلاد والديار. وتتبع آثار كل قوم، وحكى عنهم صورة ناطقة لما كانوا عليه.
قال الشيخ محمد بن عثيمين: القصص والقص لغة: تتبع الأثر
وفي الاصطلاح: الإخبار عن قضية ذات مراحل يتبع بعضها بعضًا.
(1/3)
وقصص القرآن أصدق القصص لقوله تعالى: {ومن أصدق من الله حديثًا} وذلك لتمام مطابقتها للواقع.
وأحسن القصص لقوله تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى.
وأنفع القصص لقوله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق (1)
* ... * ... *
أنواع القصص في القرآن:
والقصص في القرآن ثلاثة أنواع:
النوع الأول: قصص الأنبياء، وقد تضمن دعوتهم إلى قومهم، والمعجزات التي أيدهم الله بها، وموقف المعاندين منهم، ومراحل الدعوة وتطورها وعاقبة المؤمنين والمكذبين. كقصة نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، ومحمد، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.
النوع الثاني: قصص قرآني يتعلق بحوادث غابرة، وأشخاص لم تثبت ثبوتهم، كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وطالوت وجالوت، وابني آدم، وأهل الكهف، وذي القرنين، وقارون، وأصحاب السبت، ومريم، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل ونحوهم.
__________
(1) انظر أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح العثيمين (52 - 53).
(1/4)
النوع الثالث: قصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كغزوة بدر واُحد في سورة آل عمران، وغزوة حنين وتبوك في التوبة، وغزوة الأحزاب في سورة الأحزاب، والهجرة، والإسراء، ونحو ذلك.
* ... * ... *
فوائد قصص القرآن:
وللقصص القرآني فوائد نجمل أهمها فيما يأتي:
1 - إيضاح أسس الدعوة إلى الله، وبيان أصول الشرائع التي يبعث بها كل نبي: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].
2 - تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلوب الأمة المحمدية على دين الله وتقوية ثقة المؤمنين بنصرة الحق وجندة، وخذلان البطل وأهله: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} [هود: 12].
3 - تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم وتخليد آثارهم.
4 - إظهار صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته بما أخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال.
5 - مقارعته أهل الكتاب بالحجة فيما كتموه من البينات والهدى، وتحديه لهم بما كان في كتبهم قبل التحريف والتبديل، كقوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسة من قبل أن تنزل التوراة، قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93].
(1/5)
6 - والقصص ضرب من ضروب الأدب، يصغى إليها السامع، وترسخ عبره في النفس: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب} [يوسف: 111] (1).
7 - بيان حكم الله تعالى فيما تضمنته هذه القصص لقوله تعالى: {ولقد جاءهم من الأنبياء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر}
8 - بيان عدله تعالى بعقوبة المكذبين لقوله تعالى عن المكذبين: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك}.
9 - بيان فضله تعالى بمثوبة المؤمنين لقوله تعالى: {إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر}.
10 - تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من المكذبين له لقوله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير}.
11 - ترغيب المؤمنين في الإيمان بالثبات عليه والازدياد منه إذ علموا نجاة المؤمنين السابقين وانتصار من أمروا بالجهاد لقوله تعالى: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}.
12 - تحذير الكافرين من الاستمرار في كفرهم لقوله تعالى: {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها}.
__________
(1) انظر مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان (317 - 318)
(1/6)
13 - إثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أخبار الأمم السابقة لا يعلمها إلا الله عز وجل لقوله تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} وقوله {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} (1).
تكرار القصص وحكمته:
يشتمل القرآن الكريم على كثير من القصص الذي تكرر في غير موضع، فالقصة الواحدة قد يتعدد ذكرها في القرآن.
ومن القصص القرآنية مالا يأتي إلا مرة واحدة مثل قصة لقمان وأصحاب الكهف ومنها ما يأتي متكررًا حسب ما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة ولا يكون هذا المتكرر على وجه واحد بل يختلف في الطول والقصر واللين والشدة وذكر بعض جوانب القصة في موضع دون آخر (2).
ومن حكمة هذا:
1 - بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها. فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل الإنسان من تكرارها، بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.
2 - قوة الإعجاز _ فإيراد المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في التحدي.
__________
(1) انظر أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح العثيمين (53 - 54).
(2) انظر أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح العثيمين (54 - 55).
(1/7)
3 - الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس، فإن التكرار من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام. كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون، لأنها تمثل الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل _ مع أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما كثر تكرارها.
4 - اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة _ فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام، وتبرز معان أخرى في سائر المقامات حسب اختلاف مقتضيات الأحوال (1)
5 - بيان أهمية تلك القصة لأن تكرارها يدل على العناية بها.
6 - مراعاة الزمن وحال المخاطبين بها ولهذا تجد الإيجاز والشدة غالبًا فيما أتى من القصص في السور المكية والعكس فيما أتى في السور المدنية.
7 - ظهور صدق القرآن وأنه من عند الله حيث تأتي هذه القصص متنوعة بدون تناقض (2).
* ... * ... *
قصص القرآن بين الإيمان والإلحاد:
وقد تعرض كتاب الله عز وجل لعدد من الشبهات التي يذيعها الملاحدة والمستشرقين والمغرضين، وأذيالهم ممن ينتسبون إلى المسلمين ويتسمون بأسمائهم، ومن ذلك ما هذى به طه حسين حول قصة إبراهيم عليه السلام وبنائه الكعبة (3) إلا أن علماء الإسلام تصدوا له وردوا عليه وبينوا المحجة بأوضح حجة.
__________
(1) مباحث في علوم القرآن للقطان (318 - 319).
(2) أصول في التفسير للعثيمين (54 - 55).
(3) كما في كتابه على هامش السيرة.
(1/8)
ومن ذلك أن أحد الطلاب الجامعيين في مصر قدم رسالة لنيل درجة (الدكتوراه) كان موضوعها: (الفن القصصي في القرآن) (1) أثارت جدلاً طويلاً سنة 1367 هجرية، وكتب عنها أحد أعضاء اللجنة الذين اشتركوا في مناقشة الرسالة _ وهو الأستاذ أحمد أمين _ تقريرًا بعث به إلى عميد كلية الآداب، ونشر في مجة (الرسالة) وقد تضمن التقرير نقدًا لاذعًا لما كتبه الطالب الجامعي، وإن كان أستاذه المشرف قد دافع عنه. وصدر الأستاذ (أحمد أمين) بالعبارة الاتية:
(وقد وجدتها رسالة ليست عادية، بل هي رسالة خطيرة، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ. (والواقع أن محمدًا فنان بهذا المعنى)، ثم قال: (وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن.
اسوق بعض أمثلة، توضح مرامي كاتب هذه الرسالة وكيفة بنائها)، ثم أورد الاستاذ (أحمد أمين) أمثلة منتزعة من الرسالة تشهد بما وصفها به من هذه العبارة المجملة (2).
كإدعاء صاحب الرسالة أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي. وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادث تصويرًا فنيًا، وزعمه أن الفرآن
__________
(1) هو الدكتور محمد أحمد خلف الله.
(2) انظر نقد كتاب (الفن القصصي في القرآن) –للأستاذ محمد الخضر حسين – بلاغة القرآن صـ 94.
(1/9)
يختلق بعض القصص وأن الأقدمين أخطأوا في عد القصص القرآني تاريخًا يعتمد عليه ..
والمسلم الحق هو الذي يؤمن بأن القرآن كلام الله، وأنه منزه عن ذلك التصوير الفني الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا الحقائق التاريخية تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاه، والأساليب الرائعة.
ولعل صاحب الرسالة درس فن القصة في الأدب، وأدرك من عناصرها الأساسية الخيال الذي يعتمد على التصوير، وأنه كلما ارتقى خيالها ونأى عن الواقع كثر الشوق إليها، ورغبت النفس فيها، واستمتعت بقرائتها. ثم قاس القصص القرآني على القصة الأدبية.
وليس القرآن كذلك فإنه تنزيل من عليم حكيم، ولا يرد في أخباره إلا مايكون موافقًا للواقع، وإذا كان الفضلاء من الناس يتورعون من أن يقولوا زورًا ويعدونه من أقبل الرذائل المزرية بالإنسانية، فكيف يسوغ العاقل أن يلصق الزور بكلام ذي العزة والجلال؟ والله تعالى هو الحق: {ذلك بأن الله هو الحق وأنما بدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62].
وأرسل رسوله بالحق: {إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا} [فاطر: 24].
{والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق} [فاطر: 31].
{يا أيها الناس قد جائكم الرسول بالحق من ربكم} [النساء: 17].
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق} [المائدة: 48].
{والذي أنزل إليك من ربك الحق} [الرعد: 1].
وما قصه الله تعالى في القرآن هو الحق: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} [الكهف: 13].
(1/10)
{نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق} [القصص: 3] (1).
* ... * ... *
التربية بالقصص القرآني:
للقصة في التربية الإسلامية وظيفة تربوية لا يحققها لون آخر من ألوان الأداء اللغوي.
ذلك أن القصة القرآنية تمتاز بميزات جعلت لها آثارًا نفسية وتربوية بليغة، محكمة، بعيدة المدى على مر الزمن، مع ما تثيره من حرارة العاطفة ومن حيوية وحركية في النفس، تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه وتجديد عزيمته بحسب مقتضى القصة وتوجييها وخاتمتها، والعِبرَةِ منها. وتتجلى أهم هذه الميزات فيما يلي (2):
الميزات التربوية للقصص القرآني:
1) تشد القصة القارئ، وتوقظ انتباهه، دون توان أو تراخٍ، فتجعله دائم التأمل في معانيها والتتبع لمواقفها، والتأثر بشخصياتها وموضوعها حتى آخر كلمة فيها.
ذلك أن القصة تبدأ غالبًا، وفي شكلها الأكمل، بالتنويه بمطلب أو وعد أو الإنذار بخطر، أو نحو ذلك مما يسمى عقدة القصة، وقد تتراكم، قبل الوصول إلى حل هذه العقدة، مطالب أو مصاعب أخرى، تزيد القصة حبكًا، كما تزيد القارئ أو السامع شوقًا وانتباهًا، وتلهفًا على الحل أو النتيجة.
__________
(1) انظر مباحث في علوم القرآن للقطان (319 - 321).
(2) اعتمدت في بعض هذه الميزات على قصة يوسف من خلال تفسير ((سيد قطب)) (في ظلال القرآن) ص 1949 إلى 1951 وغيره ..
(1/11)
ففي مطلع قصة يوسف مثلاً، تعرض على القارئ (رؤيا يوسف عليه السلام) يصحبها وعد الله، على لسان أبيه، بمستقبل زاهر، ونِعَم من الله يسبغها على الأسرة الفقيرة المتعثرة، الداعية إلى الله.
وتتتابع المصائب والمشكلات على بطل القصة (يوسف عليه السلام) ويتابع القارئ اهتمامه ينتظر تحقيق وعد الله، ويترقب انتهاء هذه المصائب والمشكلات بتلهف.
2) تتعامل القصة القرآنية والنبوية مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة، متمثلة في أهم النماذج التي يريد القرآن إبرازها للكائن البشري، ويوجه الاهتمام إلى كل نموذج بحسب أهميته، فيُعرض عرضًا صادقًا يليق بالمقام ويحقق الهدف التربوي من عرضه، ففي قصة يوسف يعرض نموذج الإنسان الصابر على المصائب في سبيل الدعوة إلى الله (في شخص يوسف)، ونموذج المرأة المترفة تعرض لها حبائل الهوى فملأ قلبها الحب والشهوة، ويدفعها إلى محاولة ارتكاب الجريمة، ثم إلى سَجن إنسان بريء مخلص، لا ذنب له إلا الترفع عن الدنايا والإخلاص لسيده، ومراعاة أوامر ربه.
ونموذج إخوة يوسف: تدفعهم هواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة ومواجهة آثار الجريمة والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة.
ونموذج يعقوب: الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول. يعرض القرآن كل هذه النماذج البشرية عرضًا واقعيًا نظيفًا من غير إفحاش ولا إغراء بفاحشة أو جريمة، كما يفعل مؤلفو القصص التي يسمونها واقعية أو طبيعية، من روادِ جاهلية القرن العشرين، ذلك أن من أهم غايات القصة القرآنية: التربية الخلقية عن طريق علاج النفس البشرية علاجًا واقعيًا.
(1/12)
فالقصة القرآنية ليست غريبة عن الطبيعة البشرية، ولا محلقة في جو ملائكي محض، لأنها إنما جاءت علاجًا لواقع البشر، وعلاج الواقع البشري لا يتم إلا بذكر جانب الضعف والخطأ على طبيعته، ثم بوصف الجانب الآخر الواقعي المتسامي الذي يمثل الرسل المؤمنون، والذي تؤول إليه القصة بعد الصبر والمكابدة والجهاد والمرابطة، أو الذي ينتهي عنده المطاف لعلاج ذلك الضعف والنقص، والتردي البشري في مهاوي الشرك أو حمأة الرذيلة، علاجًا ينهض بالهمم، ويدفع بالنفس للسمو، ما استطاعت، إلى أعلى القمم، حيث تنتهي القصة بانتصار الدعوة الإلهية، ووصف النهاية الخاسرة للمشركين الذي استسلموا إلى الضعف والنقص، ولم يستجيبوا لنداء ربهم فيزكوا أنفسهم.
3) تربي القصة القرآنية العواطف الربانية وذلك:
أ) عن طريق إثارة الانفعالات كالخوف والترقب، وكالرضا والارتياح والحب، وكالتقزز والكره، كل ذلك يثار في طيات القصة بما فيه من وصف رائع ووقائع مصطفاة، فقصة يوسف مثلاً تربي الصبر والثقة بالله، والأمل في نصره، بعد إثارة انفعال الخوف على يوسف، ثم الارتياح إلى استلامه منصب الوزارة.
ب) وعن طريق توجيه جميع هذه الانفعالات حتى تلتقي عند نتيجة واحدة هي النتيجة التي تنتهي إليها القصة، فتواجه مثلاً حماسة قارئ القصة نحو يوسف وأبيه، حتى يلتقيا في شكر الله في آخر القصة، ويوجه بُغْض الشر الذي صدر عن إخوة يوسف حتى يعترفوا بخطئهم ويستغفر لهم أبوهم في آخر القصة، وهكذا ...
(1/13)
ج) وعن طريق المشاركة الوجدانية حيث يندمج القارئ مع جو القصة العاطفي حتى يعيش بانفعالاته مع شخصياتها، ففي قصة يوسف يعتري القارئ خوف أو قلق عندما يراد قتل يوسف، وإلقاؤه في الجب، ثم تنسرح العواطف قليلاً مع انفراج الكربة عنه، ثم يعود القارئ إلى الترقب عندما يدخل يوسف دار (العزيز) وهكذا يعيش القارئ مع يوسف في سجنه وهو يدعوا إلى الله، حتى يفرح بإنقاذه، ثم بتوليه وزارة مصر، وبنجاة أبيه من الحزن، وهو في كل ذلك رسول الله والداعية إلى دينه.
4) تمتاز القصة القرآنية بالإقناع الفكري بموضوع القصة.
أ) عن طريق الإيحاء، والاستهواء والتقمص، فلولا صدق إيمان يوسف لما صبر في الجب على الوحشة، ولما ثبت في دار امرأة العزيز على محاربة الفاحشة والبعد عن الزلل، هذه المواقف الرائعة توحي للإنسان بأهمية مبادئ بطل القصة وصحتها، وتستهويه صفات هذا البطل وانتصاره بعد صبر ومصابره طويلة، فيتقمص هذه الصفات حتى إنه لقلدها ولو لم يقصد إلى ذلك، وحتى إنه لَيردّدُ بعض هذه المواقف ويتصورها ويسترجعها من شدة تأثره بها.
ب) عن طريق التفكير والتأمل: فالقصص القرآني لا يخلو من محاورات فكرية ينتصر فيه الحق، ويصبح مرموقًا محفوفًا بالحوادث والنتائج التي تثبت صحته، وعظمته في النفس وأثره في المجتمع، وتأييد الله له. ففي قصة يوسف نجد حوارًا يدور بينه وبين فتيين عاشا معه في السجن فدعاهما إلى توحيد الله. وقصة نوح كلها حوار بين الحق والباطل، وكذلك قصة شعيب، وصالح وسائر الرسل: حوار منطقي مدعوم بالحجة والبرهان يتخلل القصة، ثم تدور الدوائر على أهل الباطل ويظهر الله الحق منتصرًا في نتيجة القصة، أو يهلك الباطل
(1/14)
وأهله، فيتظاهر الإقناع العقلي المنطقي والإثارة الوجدانية، والإيحاء وحب البطولة (الاستهواء) والدافع الفطري إلى حب القوة وتقليد الأقوياء، تتظاهر كل هذه العوامل وتتضافر، يؤيدها التكرار مرة بعد مرة، فما أكثر تكرار بعض قصص القرآن حتى تؤدي بمجموعها إلى تربية التصور الرباني للحياة وللعقيدة واليوم الآخر وإلى معرفة كل جوانب الشريعة الإلهية معرفة إجمالية وإلى تربية العواطف الربانية من حب في الله، وكراهية للكفر وحماسة لدين الله ولحماته، ولرسل الله، وولاء الله وانضواء تحت لوائه، وإلى السلوك المستقيم وفق شريعة الله، والتعامل حسب أوامره، وبهذا تحيط القصة القرآنية نفس الناشئ بالتربية الربانية من جميع جوانبها العقلية والوجدانية والسلوكية.
أغراض القصة القرآنية (1):
ليست القصة القرآنية عملاً فنيًا مطلقًا مجردًا عن الأغراض التوجيهية، إنما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى تحقيق أغراضه الدينية الربانية، فهي إحدى الوسائل لإبلاغ الدعوة الإسلامية وتثبيتها.
والتعبير القرآني مع ذلك يؤلف بين الغرض الديني والغرض الفني، وبهذا امتازت القصة القرآنية بميزات تربوية وفنية، ذكرنا بعضها في الصفحات الماضية حيث لاحظنا أن القصص القرآني يَجعَل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني، وإثارة الانفعالات وتربية العواطف الربانية.
وسنعرض للقارئ بعض أغراض القصة القرآنية (2) لكي يكون المربي على بينة:
__________
(1) التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ص 117 - ص 128 الطبعة الثالثة دار المعارف بمصر وقد اقتبست أهم هذه الأغراض باختصار.
(1/15)
(1) من أهم أغراض القصة عمومًا الاعتبار وقد أجلت ذلك إلى بحث (التربية بالعبرة والموعظة) وذكرت هناك بعض خطوات تدريس القصة للوصول إلى العبرة منها بالاستجواب.
من هذه الأغراض فيوجه الطلاب بالاستجواب عن كل غرض إلى معرفة هذا الغرض، وتحقيقه في نفوسهم أو في سلوكهم أو تربية عقولهم ووجدانهم وعواطفهم. وهاك أهم الأغراض:
1) كان من أغراض القصة القرآنية إثبات الوحي والرسالة، وتحقيق القناعة بأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يعرف عنه أنه يجلس إلى أحبار اليهود والنصارى، يتلو على قومه هذه القصص من كلام ربه، وقد جاء بعضها في دقة وإسهاب، فلا يشك عاقل في أنها وحي من الله، وأن محمد رسول الله يبلغ رسالة ربه، والقرآن ينص على هذا الغرض نصًا في مقدمات بعض القصص أو في أواخرها فقد جاء في أول سورة يوسف: {إنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ، نَحْنُ نَقُصٌّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هذا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لِمِنَ الْغافِلينَ} [يوسف: 2و3] وجاء في سورة هود بعد قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نوحيها إِلَيْكْ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا} [هود: 49]
2) ومن أغراض القصة القرآنية: بيان أن الدين كله من عند الله.
3) وأن الله ينصر رسله والذين آمنوا ويرحمهم وينجيهم من المآزق والكروب، من عهد آدم ونوح إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن المؤمنين كلهم أمه واحدة والله الواحد رب الجميع.
(1/16)
وكثيرًا ما وردت قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في سورة واحدة، معروضة عرضًا سريعًا بطريقة خاصة لتؤيد هذه الحقيقة، كما في سورة الأنبياء، حيث ورد ذكر: موسى وهارون، ثم لمحة موجزة عن قصة إبراهيم ولوط، وكيف نجاهم الله وأهلك قومهما، وقصة نوح، وجانب من أخبار داود وسليمان، وما أنعم الله عليهما،
وأيوب حين نجاه الله من الضر، وورد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وكلهم من الصابرين الصالحين. وذكر الله لنا: {وَذا النّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا} [الأنبياء: 87] قال تعالى {فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمَّ وَكَذَلِكَ نُنْجي الْمُؤْمِنينَ} [الأنبياء: 88] ثم قال تعالى: {وَزَكَرِيّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبَّ لا تَذَرْني فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثينَ} [الأنبياء: 89] {فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهْ إِنَّهُمْ كَانوا يُسارِعونَ في الْخَيْراتِ وَيَدْعونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكانوا لنا خاشِعينَ} [الأنبياء: 90] ويختم الله هذه السلسلة من الأنبياء بخبر مريم وابنها عيسى عليهما السلام {وَالَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيها مِنْ روحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيهْ لِلْعالَمينَ} [الأنبياء:91] ثم يخاطب الله مباشرة جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم بقوله {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمًَّة واحِدًَة وَأَنا رَبُّكُمْ فَاعْبُدونِ} [الأنبياء: 92].
فتبين بهذه الآية الكريمة تقرير الغرض الأصيل من هذا الاستعراض الطويل وهو أن جميع الأنبياء يدينون دينًا واحدًا ويخضعون لرب واحد يعبدونه وحده لا يشركون به شيئًا، وعندما نستعرض خبر كل نبي نجد أن الله قد شد أزره ونصره ونجاه من الكرب الذي نزل به، أو المأزق الذي أوشك أن يقع فيه، كما نجى ذا النون (يونس) واستجاب لزكريا، وكما نجى إبراهيم وقد أوشك أن يحترق
(1/17)
بالنار؛ وأنه سبحانه دائمًا ينعم على رسله والذين آمنوا إذا صبروا وصدقوا، كما أنعم على داود بالنصر، وسليمان بالملك، فشكروا نعمة ربهم.
4) وفي هذا شد لأزر المؤمنين، وتسلية لهم عما يلاقون من الهموم والمصائب، وتثبيت لرسول الله ومن تبعه من أمته، وتأثير في نفوس من يدعوهم القرآن إلى الإيمان وأنهم إن لم يؤمنوا لا محالة هالكون، وموعظة وذكرى للمؤمنين، وقد صرح القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى {وَكُلاَّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبَّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجاءَكَ هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةُ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنينَ} [هود: 120].
وجاء في سورة العنكبوت لمحة خاطفة عن قصة كل نبي، مختومة بالعذاب الذي عذب به المذنبون من قومه حتى ختمت جميع القصص المجملة بقوله تعالى: {فَكُلاً أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَهُ وَمِنْهُمْ مِنْ خَسَفْنا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمونَ} [العنكبوت: 40] فعلى المربي أن يستحضر مكان الموعظة والذكرى من كل قصة، ليحاور الطلاب حوارًا يوجههم إلى معرفتها والتأثر بها والعمل بمقتضاها.
5) ومن أغراض القصة في التربية الإسلامية: تنبيه أبناء آدم إلى خطر غواية الشيطان (1) وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم منذ أبيهم إلى أن تقوم الساعة، وإبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع وأقوى، وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجسه في النفس تدعو إلى الشّر، ولما كان هذا موضوعًا خالدًا فقد تكررت قصة آدم في مواضع شتى، مما يدعو المربي إلى الإلحاح على
__________
(1) [الأعراف: 25، 26، 30].
(1/18)
هذا الموضوع وتوجيه الطلاب إلى الحذر من غواية الشيطان في كل مناسبة ملائمة.
6) ومن أغراض القصص التربوية: بيان قدرة الله تعالى: بيانًا يثير انفعال الدهشة والخوف من الله لتربية عاطفة الخشوع والخضوع والانقياد ونحوها من العواطف الربانية.
كقصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه (1) وقصة خلق آدم (2)، وقصة إبراهيم والطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل جزءًا منه قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} [البقرة: 260].
__________
(1) [البقرة: 259].
(2) [البقرة من 33 إلى 37]، [وآل عمران: 59]
(1/19)
المراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي.
3 - أصول التربية الإسلامية للدكتور عبد الرحمن النحلاوي.
4 - أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين.
5 - التصوير الفني في القرآن للشيخ سيد قطب.
6 - تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير.
7 - علوم القرآن للدكتور محمد بكر إسماعيل.
8 - مباحث في علوم القرآن للدكتور مناع القطان.
9 - محاضرات في علوم القرآن للدكتور محمد سالم – الدكتور صلاح الصاوي.
10 - المدخل في علوم القرآن للشيخ محمد أبو شهبة.
11 - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني.
(1/20)
النبوة والأنبياء في القرآن والسنة
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
النبوة والأنبياء في القرآن والسنة
النبوة والأنبياء في القُرآنِ والسنَّةِ
إعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
(( حقوق الطبع متاحة لجميع الهيئات العلمية والخيرية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، القائل في محكم كتابه العزيز : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) } [الشورى/13]
والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، القائل : " الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْإِبِلُ مَعَ الْأُسْدِ جَمِيعًا وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ"مسند أحمد (9632 ) صحيح لغيره
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
وبعد :
فإن الأنبياء عليهم الصلاة وأتم التسليم هم أكمل البشر وأفضلهم ، وأصلحهم ، وهم المثل الأعلى للناس في كل خير ، قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } [الأنعام/83-90]
ومن ثمَّ فقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز صفاتهم ، وتاريخ حياتهم ، ودعوتهم ، وعلاقتهم بالناس ،بشكل مفصل .
وسبق لي أن كتبت كتابا مختصراً عن حياة الأنبياء ، فكلاهما يكمل الآخر .
وقد كتب العديدون في هذا الموضوع ، منهم الندوي النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم .
ولكن تركيزنا كان بالدرجة الأولى على القرآن الكريم ، ثم على السنَّة النبوية .
وقد قسمته إلى ثلاثة أبواب :
الباب الأول - صفات الأنبياء وصفة دعوتهم وموقف الناس منها ، تكلمت عن هذا بالتفصيل من خلال القرآن الكريم .
الباب الثاني- عِصمَة الرّسُل عليهم الصلاة والسلام
وقد تكلمت عنها باختصار ، وبينت أنواع العصمة ، وما هي الأشياء غير المعصومين منها
الباب الثالث ... -خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
وقد تحدثت فيه عن أهم خصائصه في القرآن والسنة
الباب الرابع- شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
وقد تحدثت عن شمائله العامة والخاصة باختصار ، وقد فصلتها في كتابي (( السيرة النبوية دروس وعبر ))
وقد شرحت الآيات القرآنية باختصار ، والأحاديث قمت بتخريجها من مظانها باختصار .
سائلا المولى جلَّ وعلا أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره في الدارين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 3 رمضان 1429 هـ الموافق ل 3/9/2008 م
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب الأول
صفات الأنبياء وصفة دعوتهم وموقف الناس منها
التفاضلُ بين الرسل في الدرجات
قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) [البقرة/253 ]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّ الرُّسُلَ الذِينَ ذَكَرَهُم قَدْ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي مَرَاتِبِ الكَمَالِ وَالشَّرَفِ ، فَخَصَّ بَعْضَهُمْ بِمَآثِرَ جَلِيلةٍ خَلاَ عَنْها غَيْرُهُ مَعَ اسْتِوائِهِمْ جَمِيعاً فِي اخْتِيارِهِ تَعَالَى لإِبْلاغِ رِسَالَتِهِ ، وَهدايَةِ خَلْقِهِ . فَمِنْهُم مُوسَى الذِي كَلَّمَهُ اللهُ مِنْ غَيْرِ سَفِيرٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَهُ اللهُ مَرَاتِبَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَيُؤَيِّدُهُ السِّيَاقُ أيْضاً . وَمِنْ هذِهِ الدَّرَجَاتِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأخْلاَقِهِ الشَرِيفَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِكِتَابِهِ وَشَرِيعَتِهِ { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُؤْتَ مِنَ المُعْجِزَاتِ أَعْظَمَ مِنَ مُعْجِزَةِ القُرآنِ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأمَّتِهِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } ( وَرُوِيَ عَن الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلُهُ : " فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِياءِ بِسِتٍّ : أوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ، وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً ، وَأرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كَافَّةً ، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ " ) .
وَفَضَّلَ اللهُ تَعَالَى عَيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ بِأنْ آتَاهُ البَيِّنَاتِ ( وَهِيَ مَا يُتََبَيَّنُ بِهِ الحَقُّ مِنَ الآيَاتِ وَالدَّلاَئِلِ ) ، وَأيَدَّهُ بِرُوحِ القُدْسِ ، ( وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلاَمُ ) وَقَدْ خَصَّ اللهُ عِيسَى بِإيْتَاءِ البَيِّنَاتِ تَقْبِيحاً لإِفْرَاطِ اليَهُودِ فِي تَكْذِيبِهِ وَانْتِقَاصِهِ ، وَلإِفْراطِ النَّصَارَى فِي تَعْظِيمِهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ مِنْ مَرْتَبَةِ الرِّسَالَةِ إلى مَرْتَبَةِ الأُلُوهِيَّةِ .
وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ أنْ يُؤْمِنَ النَّاسُ جَمِيعاً ، وَألاَّ يَخْتَلِفُوا وَلاَ يَقْتَتِلُوا . وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَلاَّ يَقْتتِلَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الرُّسُلُ بِالآيَاتِ الوَاضِحَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الحَقِّ ، لَمَا حَدَثَ اقْتِتَالٌ وَلاَ اخْتِلاَفٌ . وَلَكِنْ لَمْ يَشَأِ اللهُ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ .
وَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى المُسْلِمينَ عَنِ الاخْتِلافِ وَالتَّفَرُّقِ ، وَأمَرَهُمْ بِالاتِّحَادِ وَالوِئَامِ ، فَامْتَثَلُوا أمْرَهُ ثُمَّ عَادُوا إلى الاخْتِلاَفِ . وَلَوْ شَاءَ اللهُ جَمْعَهُمْ عَلَى الحَقِّ ، لَفَعَلَ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لِحِكْمَةٍ لا يُقَدِّرُهَا إلاّ هُوَ .
هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات - كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس - فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض؛ وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره . ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة - من بعد ما جاءتهم البينات - وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف . كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر . وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان ، ودفع الشر بالخير . . وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل .
{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } . .والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول . والذي تشمله دعوته ونشاطه . كأن يكون رسول قبيلة ، أو رسول أمة ، أو رسول جيل . أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال . . كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته .
كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية ..وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى - عليهما السلام - وأشار إشارة عامة إلى من سواهما :{ منهم من كلم الله - ورفع بعضهم درجات - وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } . .
وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى - عليه السلام - ومن ثم لم يذكره باسمه . وذكر عيسى بن مريم - عليه السلام - وهكذا يرد اسمه منسوباً إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية . والحكمة في هذا واضحة . فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى - عليه السلام - وبنوته لله - سبحانه وتعالى - أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت . أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها؛ وجرت حولها الدماء أنهاراً في الدولة الرومانية! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى - عليه السلام - وذكره في معظم المواضع منسوباً إلى أمه مريم . . أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل - عليه السلام - فهو حامل الوحي إلى الرسل . وهذا أعظم تأييد وأكبره . وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم ، وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل؛ وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق . . وهذا كله التأييد أما البينات التي آتاها الله عيسى - عليه السلام - فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه ، كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه ، والتي ورد ذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن . تصديقاً لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين!
ولم يذكر النص هنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - لأن الخطاب موجه إليه . كما جاء في الآية السابقة في السياق : { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين . . تلك الرسل . . إلخ } . فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل .
وحين ننظر إلى مقامات الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من أية ناحية نجد محمداً - - صلى الله عليه وسلم - في القمة العليا . وسواء نظرنا إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها ، أو من ناحية محيطها وامتدادها ، فإن النتيجة لا تتغير . .
إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة - وهي أضخم الحقائق على الإطلاق - وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء . ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة : « كن » . ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة . ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود . ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق .
ووحدة البشرية من آدم - عليه السلام - إلى آخر أبنائه في الأرض . ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة . ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة . ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة . ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم « العبادة » . ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء . ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه . ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة . . .
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى؛ كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها؛ كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة ، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة ، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني .
ومن ثم كان هو خاتم الرسل . وكانت رسالته خاتمة الرسالات . ومن ثم انقطع الوحي بعده؛ وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى؛ وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره؛ ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري - في حدود المنهج الرباني - ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة .
وقد علم الله - سبحانه - وهو الذي خلق البشر؛ وهو الذي يعلم ما هم ومن هم؛ ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن . . قد علم الله - سبحانه - أن هذه الرسالة الأخيرة ، وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل ، هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق . فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده؛ أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض؛ أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله . . أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعاً فقد كفر كفراً صراحاً لا مراء فيه؛ وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية؛ واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله ، والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة ، وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منها ليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان .
وبعد فقد اقتتل أتباع { تلك الرسل } . ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم ، ووحدة الرسالة التي جاءوا بها كلهم . . لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف اتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم - من بعد ما جاءتهم البينات - ولكن اختلفوا : فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا .ولكن الله يفعل ما يريد } . .
إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفاً لمشيئة الله . فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته - سبحانه - فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو . بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال . وأن يكون موكولاً إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال . ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في إطار المشيئة؛ وواقع وفق هذه المشيئة .
كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق ، لتنويع الخلق - مع وحدة الأصل والنشأة - لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة . وما كان الله ليجعل الناس جميعاً نسخاً مكررة كأنما طبعت على ورق « الكربون » على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة . . أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل . وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان . وفيه الاستعداد الكامن لهذا ، وأمامه دلائل الهدى في الكون ، وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان . وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد!
{ ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } . .وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى ، فيكون اختلاف كفر وإيمان ، يتعين القتال . يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض . دفع الكفر بالإيمان . والضلال بالهدى ، والشر بالخير . فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر . ولا يكفي أن يقول قوم : إنهم أتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان . وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص . . كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى . كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى . . ولكن كل فرقة من هؤلاء كانت قد بعدت بعداً كبيراً عن أصل دينها ، وعن رسالة نبيها . وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر . وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب . كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب . ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد ، هو من مشيئة الله وبإذنه : { ولو شاء الله ما اقتتلوا } . .ولكنه شاء . شاء ليدفع الكفر بالإيمان؛ وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعاً فانحرف عنها المنحرفون . وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبياً جامداً ، إنما هو ذو طبيعة شريرة . فلا بد أن يعتدي ، ولا بد أن يحاول إضلال المهتدين ، ولا بد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة .
فلا بد من قتاله لتستقيم الأمور .
{ ولكن الله يفعل ما يريد } . .مشيئة مطلقة . ومعها القدرة الفاعلة . وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم . وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم . وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل . وقدر أن الشر لا بد أن يعتدي ويريد العوج . وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال . وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة؛ وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من اتباعهم ، إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون . وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون . .
وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان . إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة .
ـــــــــــــ
(1/1)
صلة الرسل الأموات بالأحياء من الناس
1-أنهم أحياء في قبورهم
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ "(1)
ـــــــــــــ
__________
(1) - مسند أبي يعلى الموصلي (3425) ومسند البزار (6888) والصحيحة (621) وصحيح الجامع (2790) صحيح
(1/2)
2- لا تأكل الأرض أجسادهم
عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ ».(1)
ـــــــــــــ
__________
(1) - سنن أبى داود(1049 ) صحيح -أَرَمَ : بلى -أرمت : بليت
(1/3)
عرض أعمالنا عليه - صلى الله عليه وسلم -
عَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلامَ قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ.(1)
وقد حاول الشيخ ناصر الألباني رحمه الله تضعيف هذا الحديث بحجة أنه روي عن غير عبد العزيز بن أبى رواد المكي دون الزيادة فاعتبرها شاذة أو منكرة(2).
وجود العراقي سنده(3)،وقال السيوطي صحيحٌ إسناده(4).
قلت:والصواب أنه حسن على الأقل لأمور:
الأول- أن الأكثر على توثيق عبد العزيز بن أبى رواد المكى.(5)
الثاني - هنا عندنا حديثان بسند واحد ليس إلا،فلا علاقة له بزيادة الثقات،إذ زيادة الثقات تكون عادة في الحديث نفسه زيادة ونقصاً،وليس في حديثين مختلفين لفظاً ومعنى .
الثالث- أنه لم ينصَّ عالم من علماء الجرح والتعديل على تضعيف هذه الرواية،فدلَّ على قبولها عندهم،بل نصوا على تقويتها.
الرابع - هناك حديث صحيح مرسل روي عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ مِنْ سَيِّئٍ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ "(6)
وَأَخْرَجَ اِبْن الْمُبَارَك فِي الزُّهْد مِنْ طَرِيق عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ:" لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُعْرَضُ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّتُهُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً،فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ،لِيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ،يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا "(7)
ويقويه أيضاً حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلاَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ »(8).
ـــــــــــــ
__________
(1) - مسند البزار 1-14 - (ج 2 / ص 458) برقم(1925) والإتحاف 9/176 و177 ومطالب (3853) وإتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 7 / ص 30) برقم(6412) وهو حديث حسن
(2) السلسلة الضعيفة (ج 2 / ص 474) ، رقم(975)، الحويني، الفتاوى الحديثية ،(ج 2 / ص 16).
(3) - طرح التثريب، (ج 4 / ص 308) و(3/297).
(4) -الخصائص، (2/491)
(5) - انظر تهذيب الكمال[ ج18 - ص 136 ] برقم(3447 ).
(6) - أخرجه في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث - (ج 2 / ص 884) برقم(953) وفي فضل الصلاة على النبي لإسماعيل بن إسحاق - (ج 1 / ص 25) برقم (24و25) من طرق عنه وهو صحيح مرسل مما يقوي بيقين حديث عبد المجيد ويردُّ الوهم عنه
(7) - فتح الباري لابن حجر - (ج 14 / ص 279) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 21 / ص 160و162 ) وتحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 345) وسكتوا عليه . والزُّهْدُ وَالرَّقَائِقُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ(1778) وفيه رجل من الأنصار لم يسمََّ .
(8) - سنن أبى داود(2043 ) وهو حديث صحيح لغيره .
(1/4)
صلاة الأنبياء
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَتَيْتُ - وَفِى رِوَايَةِ هَدَّابٍ مَرَرْتُ - عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِى عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى قَبْرِهِ ».(1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.(2)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ ، رُبَّمَا يَعِدُ الشَّيْءَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ ، ثُمَّ يَقْضِي كَوْنَ بَعْضِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، كَوَعْدِهِ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَعْلِهِ مَحْدُودًا ، ثُمَّ قَضَى كَوْنَ مِثْلِهِ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ ، مِثْلَ مَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ فِي كِتَابِهِ ، حَيْثُ يَقُولُ : {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، وَكَإِحْيَاءِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ بَعْضَ الأَمْوَاتِ.
فَلَمَّا صَحَّ وجودُ كَوْنِ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْبَشَرِ ، إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَمْ يُنْكَرْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ أَحْيَا مُوسَى فِي قَبْرِهِ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ، وَذَاكَ أَنَّ قَبْرَ مُوسَى بِمُدَّيْنِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَرَآهُ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو فِي قَبْرِهِ إِذِ الصَّلاَةُ دُعَاءٌ ، فَلَمَّا دَخَلَ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأُسْرِيَ بِهِ ، أُسْرِيَ بِمُوسَى حَتَّى رَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَلاَمِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ سَائِرَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ : بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ إِذْ أَتَانِي آتٍ ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ لَهُ فَضِيلَةٌ فُضِّلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ ، إِذِ الْبَشَرُ إِذَا شُقَّ عَنْ مَوْضِعِ الْقَلْبِ مِنْهُمْ ، ثُمَّ اسْتُخْرِجَ قُلُوبُهُمْ مَاتُوا.
وَقَوْلُهُ : ثُمَّ حُشِيَ يُرِيدُ : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ حَشَا قَلْبَهُ الْيَقِينَ وَالْمَعْرِفَةَ ، الَّذِي كَانَ اسْتِقْرَارُهُ فِي طَسْتِ الذَّهَبِ ، فَنُقِلَ إِلَى قَلْبِهِ.
ثُمَّ أُتِيَ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا : الْبُرَاقُ ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَطِيمِ أَوِ الْحِجْرِ ، وَهُمَا جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَانْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ عَلَى قَبْرِ مُوسَى عَلَى حَسَبِ مَا وَصَفْنَاهُ ، ثُمَّ دَخَلَ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَخَرَقَ جِبْرِيلُ الصَّخْرَةَ بِإِصْبَعِهِ ، وَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ.
ذِكْرُ شَدِّ الْبُرَاقِ بِالصَّخْرَةِ فِي خَبَرِ بُرَيْدَةَ ، وَرُؤْيَتِهِ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ لَيْسَا جَمِيعًا فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
فَلَمَّا صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، اسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ يُرِيدُ بِهِ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ لِيُسْرَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، لاَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِرِسَالَتِهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ، لأَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ بِسَبْعِ سِنِينَ ، فَلَمَّا فُتِحَ لَهُ فَرَأَى آدَمَ عَلَى حَسَبِ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ.
وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ، وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، وَفِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ ، وَفِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ إِدْرِيسَ ، ثُمَّ فِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ هَارُونَ ، ثُمَّ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ مُوسَى ، ثُمَّ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَائِزٌ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ أَحْيَاهُمْ لأَنْ يَرَاهُمُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً مُعْجِزَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا أَصَّلْنَا قَبْلُ.
ثُمَّ رُفِعَ لَهُ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى ، فَرَآهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفَ.
ثُمَّ فُرِضَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ صَلاَةً ، وَهَذَا أَمْرُ ابْتِلاَءٍ أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ ابْتِلاَءَ صَفِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ فَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاَةً ، إِذْ كَانَ فِي عِلْمِ اللهِ السَّابِقِ أَنَّهُ لاَ يَفْرِضُ عَلَى أُمَّتِهِ إِلاَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فَقَطْ ، فَأَمَرَهُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً أَمْرَ ابْتِلاَءٍ ، وَهَذَا كَمَا نَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ قَدْ يَأْمُرُ بِالأَمْرِ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ الْمَأْمُورُ بِهِ إِلَى أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِيدَ وُجُودَ كَوْنِهِ ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ، أَمَرَهُ بِهَذَا الأَمْرِ أَرَادَ بِهِ الاِنْتِهَاءَ إِلَى أَمْرِهِ دُونَ وُجُودِ كَوْنِهِ ، فَلَمَّا أَسْلَمَا ، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، فَدَاهُ بِالذِّبْحِ الْعَظِيمِ ، إِذْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ كَوْنَ مَا أَمَرَ ، لَوَجَدَ ابْنَهُ مَذْبُوحًا ، فَكَذَلِكَ فَرَضَ الصَّلاَةَ خَمْسِينَ أَرَادَ بِهِ الاِنْتِهَاءَ إِلَى أَمْرِهِ دُونَ وُجُودِ كَوْنِهِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مُوسَى ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أُمِرَ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ ، أَلْهَمَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ بِسُؤَالِ رَبِّهِ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِهِ ، فَجَعَلَ جَلَّ وَعَلاَ قَوْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَهُ سَبَبًا لِبَيَانِ الْوُجُودِ لِصِحَّةِ مَا قُلْنَا : إِنَّ الْفَرْضَ مِنَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَرَادَ إِتْيَانَهُ خَمْسًا لاَ خَمْسِينَ. فَرَجَعَ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ فَسَأَلَهُ ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا ، وَهَذَا أَيْضًا أَمْرُ ابْتِلاَءٍ أُرِيدَ بِهِ الاِنْتِهَاءُ إِلَيْهِ دُونَ وُجُودِ كَوْنِهِ ، ثُمَّ جَعَلَ سُؤَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِيَّاهُ سَبَبًا لِنَفَاذِ قَضَاءِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ ، أَنَّ الصَّلاَةَ تُفْرَضَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ خَمْسًا لاَ خَمْسِينَ ، حَتَّى رَجَعَ فِي التَّخْفِيفِ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ.
ثُمَّ أَلْهَمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ صَفِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ حَتَّى قَالَ لِمُوسَى : قَدْ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ ، لَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ ، فَلَمَّا جَاوَزَ نَادَاهُ مُنَادٍ : أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي ، أَرَادَ بِهِ الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ ، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي ، يُرِيدُ : عَنْ عِبَادِي مِنْ أَمْرِ الاِبْتِلاَءِ الَّذِي أَمَرْتُهُمْ بِهِ مِنْ خَمْسِينَ صَلاَةٍ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَجُمْلَةُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فِي الإِسْرَاءِ رَآهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِجِسْمِهِ عِيَانًا دُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رُؤْيَا أَوْ تَصْوِيرًا صُوِّرَ لَهُ ، إِذْ لَوْ كَانَ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ وَمَا رَأَى فِيهَا نَوْمًا دُونَ الْيَقَظَةِ ، لاَسْتَحَالَ ذَلِكَ ، لأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ يَرَوْنَ فِي الْمَنَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْمَلاَئِكَةَ وَالأَنْبِيَاءَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ ، فَلَوْ كَانَ رُؤْيَةُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - مَا وَصَفَ فِي لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقَظَةِ ، لَكَانَتْ هَذِهِ حَالَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا مَعَهُ الْبَشَرُ ، إِذْ هُمْ يَرَوْنَ فِي مَنَامَاتِهِمْ مِثْلَهَا ، وَاسْتَحَالَ فَضْلُهُ ، وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ حَالَةً مُعْجِزَةً يُفَضَّلُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، ضِدَّ قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ هَذِهِ الأَخْبَارَ ، وَأَنْكَرَ قُدْرَةَ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ وَإِمْضَاءَ حُكْمِهِ لِمَا يُحِبُّ كَمَا يُحِبُّ ، جَلَّ رَبُّنَا وَتَعَالَى عَنْ مِثْلِ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ.(3)
ـــــــــــــ
__________
(1) - صحيح مسلم (6306)
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 241) (49) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 242)
(1/5)
الصلاة بالأنبياء
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ ، وَدُونَ الْبَغْلِ ، خَطْوُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا ، فَرَكِبْتُ ، وَمَعِي جِبْرِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَسِرْتُ ، فَقَالَ : انْزِلْ فَصَلِّ ، فَفَعَلْتُ ، فَقَالَ : أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ ، وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ ، ثُمَّ قَالَ : انْزِلْ فَصَلِّ ، فَصَلَّيْتُ ، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ ، حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ قَالَ : انْزِلْ فَصَلِّ ، فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ ، فَقَالَ : أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ ؟ صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ ، حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَجُمِعَ لِيَ الأَنْبِيَاءُ ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ، فَقَدَّمَنِى جِبْرِيلُ حَتَّى أَمَمْتُهُمْ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ، فَإِذَا فِيهَا ابْنَا الْخَالَةِ عِيسَى وَيَحْيَى ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ ، فَإِذَا فِيهَا يُوسُفُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ ، فَإِذَا فِيهَا هَارُونُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ ، فَإِذَا فِيهَا إِدْرِيسُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، فَإِذَا فِيهَا مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَإِذَا فِيهَا إِبْرَاهِيمُ ،عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، فَأَتَيْنَا سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، فَغَشِيَتْنِي ضَبَابَةٌ ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا ، فَقِيلَ لِي : إِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَقُمْ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى ، فَقَالَ : كَمْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ ؟ قُلْتُ : خَمْسِينَ صَلاَةً ، قَالَ : فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِهَا أَنْتَ وَلاَ أُمَّتُكَ ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي ، فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا ، ثُمَّ أَتَيْتُ مُوسَى ، فَأَمَرَنِى بِالرُّجُوعِ ، فَرَجَعْتُ ، فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا ، ثُمَّ رُدَّتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ، قَالَ : فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَإِنَّهُ فَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ صَلاَتَيْنِ ، فَمَا قَامُوا بِهِمَا ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَسَأَلْتُهُ التَّخْفِيفَ ، فَقَالَ : إِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَخَمْسٌ بِخَمْسِينَ ، فَقُمْ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا مِنَ اللهِ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، صِرَّى ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَقَالَ : ارْجِعْ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا مِنَ اللهِ صِرَّى - أَيْ حَتْمٌ - فَلَمْ أَرْجِعْ.(1)
ـــــــــــــ
__________
(1) - سنن النسائى(454 ) حسن - الصرى : الحتم
(1/6)
من هم أعداء الرسل ؟
قال تعالى :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) [الفرقان/31 ]
وكَمَا جَعَلْنَا لَكَ أعْدَاءً من المُشْرِكينَ يَتَقَوَّلُونَ عليكَ الترّهَاتِ والأبَاطِيلَ ، كذلكَ جعَلْنَا لكلِّ نَبيٍّ من الأنبياءِ السَّابِقِينَ أعداءً لهُمْ من شَياطينِ الإِنسِ والجنِّ ، يُقَاوِمُون دعْوَتَهم ، ويُزْعِجُونَهم ، وَيُكَذِّبُونَهُمْ ، فلا تَحْوَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَيهِمْ ، فَهَذا دَأْبُ الأنبياءِ قَبْلَكَ ، فاصبِرْ كما صَبَرُوا . وحَسْبُكَ بِرَبِّكَ هادِياً لَكَ إلى مَصَالِح الدين والدُّنْيَا ، وسينصُرُك على أعدائِكَ ، ويُبَلِّغُكَ غايةَ ما تَطْلُبُ ، ولا يَهُولَنَّكَ كَثْرَةُ عَدَدِهِم فإِنَّه تعالى جَاعلٌ كلمَتَه هي العُلْيا لا مَحَالَة .
ولله الحكمة البالغة . فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها . وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذي يتصدون لها مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة؛ وهو الذي يمحص القائمين عليها ، ويطرد الزائفين منهم؛ فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة ، التي لا تبتغي مغانم قريبة . ولا تريد إلا الدعوة خالصة ، تبتغي بها وجه الله تعالى .
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة ، تسلك طرقاً ممهدة مفروشة بالأزهار ، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون ، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون ، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة ، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل ، ووقعت البلبة والفتنة . ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات ، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتماً مقضياً ، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقوداً . فلا يكافح ويناضل ، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون ، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع ، وأعراض الحياة الدنيا . بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها . ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عوداً ، وأشدهم إيماناً ، وأكثرهم تطلعاً إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس . . عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل . وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء . وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها ، واجتازوا امتحانها وبلاءها . أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته . وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي ، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين . وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور . وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم ، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة .
فيكون هذا كله رصيداً للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء .
والذي يقع غالباً أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات؛ حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات ، وهم ثابتون على دعوتهم ، ماضون في طريقهم ، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام ، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن . . وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة ، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة . وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجاً في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع!
من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين؛ وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق ، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين ، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق ، والنهاية مقدرة من قبل ، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله . إنها الهداية إلى الحق ، والانتهاء إلى النصر :{ وكفى بربك هادياً ونصيراً }
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي . فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية . فساد في القلوب ، وفساد في النظم ، وفساد في الأوضاع . ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون ، الذين ينشئون الفساد من ناحية ، ويستغلونه من ناحية . والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد ، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء . والذين يجدون فيه سنداً للقيم الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها . . فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعاً عن وجودهم ، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه . وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة ، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر ، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري ، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن . وكذلك المجرمون . . فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق ، يستميتون في كفاحها . وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية ، لأنها تسير مع خط الحياة ، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله ، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله . .{ وكفى بربك هادياً ونصيراً } . .
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر؛ والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص؛ وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين ، أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة ، وفي وضوح ، وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان ، متقابلتان وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين ، في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم ، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .
وهذا التحديد كان قائماً ، وهذا الوضوح كان كاملاً ، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين!
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة ، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس!
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتحكم بشريعته . . ثم إذا هذه الأرض ، وإذا هذه الأقوام ، تهجر الإسلام حقيقة ، وتعلنه اسماً . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله ، ولم تدخل في الإسلام بعد
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين؛ وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين ، وطريق المشركين المجرمين؛ واختلاط الشارات والعناوين؛ والتباس الأسماء والصفات؛ والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة .
فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً . حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! . . تهمة تكفير « المسلمين »!!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم ، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!
هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف؛ وألا تقعدهم عنها لومة لائم ، ولا صيحة صائح : انظروا! إنهم يكفرون المسلمين!
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون! إن الإسلام بيّن والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو؛ ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو ، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . .
{ وكذلك نفصّل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين } . .أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوّقها غبش ، ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم « المسلمون » وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم « المجرمون » . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق ، وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين : { وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } . .. . وصدق الله العظيم . .
ـــــــــــــ
(1/7)
موحى إليهم من الله تعالى
قال تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) [النساء/163-164]
قَالَ رَجُلٌ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ أنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ بَعْدَ مُوسَى ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَالآيَاتِ التِي تَلِيهَا . ثُمَّ ذَكَرَ فَضَائِحَ المُكَذِّبِينَ وَمَعَايِبَهُمْ ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكَذِبِ ، وَمَا هُمْ عَلَيهِ مِنَ الافْتِرَاءِ وَالتَّعَنُّتِ ، وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ أَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا أَوْحَى إلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ المُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ . وَقَالَ تَعَالَى : إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى دَاوُدَ كِتَاباً هُوَ الزَّبُورُ. يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَوْحَى إلَى رُسُلٍ قَصَّهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ ، وَذَكَرَ لَهُ أَسْمَاءَهُمْ ، وَإنَّهُ أَوْحَى أَيْضاً إلَى رُسُلٍ لَمْ يَقْصُصْهُمْ عَلَيهِ ، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُمْ فِي القُرْآنِ .
وَفِي حَدِيثٍ يَرويه أبو ذر : " إنَّ عَدَدَ الأَنْبِيَاءِ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً وَإنَّ عَدَدَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ ثَلاَثُمِئَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ أو خَمْسَةَ عَشَرَ "( حديث حسن)
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ شَرَّفَ مُوسَى بِأَنْ كَلَّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، بِدُونِ وَاسِطَةٍ ( وَالوَحْيُ لِلرُّسُلِ يُسَمَّى تَكْلِيماً ) .
فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول ، ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير . . موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر : نوح . وإبراهيم . وإسماعيل . وإسحاق . ويعقوب . والأسباط . وعيسى . وأيوب . ويونس . وهارون . وسليمان . وداود . وموسى . . . وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن ، وممن لم يقصصهم عليه . . موكب من شتى الأقوام والأجناس ، وشتى البقاع والأرضين . في شتى الآونة والأزمان . لا يفرقهم نسب ولا جنس ، ولا أرض ولا وطن . ولا زمن ولا بيئة . كلهم آت من ذلك المصدر الكريم . وكلهم يحمل ذلك النور الهادي . وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير . وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور . . سواء منهم من جاء لعشيرة . ومن جاء لقوم . ومن جاء لمدينة ومن جاء لقطر . . ثم من جاء للناس أجمعين : محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين .
كلهم تلقى الوحي من الله . فما جاء بشيء من عنده . وإذا كان الله قد كلم موسى تكليماً فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتم . لأن القرآن - وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته - لم يفصل لنا في ذلك شيئاً . فلا نعلم إلا أنه كان كلاماً .
ولكن ما طبيعته؟ كيف تم؟ بأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه؟ . . . كل ذلك غيب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن . وليس وراء القرآن - في هذا الباب - إلا أساطير لا تستند إلى برهان .
أولئك الرسل - من قص الله على رسوله منهم ومن لم يقصص - اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعده الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان؛ وينذرونهم ما أعده الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب . . كل ذلك : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }
ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق؛ وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق . ولكنه - سبحانه - رحمة منه بعباده ، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم - أداة العقل - اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل { مبشرين ومنذرين } يذكرونهم ويبصرونهم؛ ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات ، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق .
{ وكان الله عزيزاً حكيماً } . .عزيزاً : قادراً على أخذ العباد بما كسبوا . حكيماً : يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه . . والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره الله في هذا الأمر وارتضاه . .
-------------
وقال تعالى :{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) [البقرة/87]
يَصِفُ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالعُتُوِّ والعِنَادِ وَالاسْتِكْبَارِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ ، وَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُم يَتَبِعُونَ فِي ذلِكَ أَهْوَاءَهُمْ . وَيُذَكِّرهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ آتى مُوسَى التَّوراةَ فَحرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ ، وَخَالَفُوا أَوَامِرَهُ وَأَوَّلُوها .
ثُمَّ أَرْسَلَ مِنْ بَعْدِهِ النَّبِيِّينَ وَالرُّسُلَ ، يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَتِهِ ، وَيُذَكِّرُونَ النَّاسَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ ، وَيَأْمُرُونَ بِالالتِزَامِ بِأَحْكَامِهِ ، وَلِذلِكَ لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عُذْرٌ فِي نِسْيَانِ الشَرَائِعِ وَتَحْرِيفِهَا . وَخَتَمَ اللهُ تَعَالَى أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ، فَجَاءَ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّورَاةِ ، وَلِهذَا أَيَّدَهُ اللهُ بِالبَيِّنَاتِ وَالمُعْجِزَاتِ ، تَأْكِيداً لِنُبُوَّتِهِ ، وَلِمَا أَتَى بِهِ ، وَأَيَّدَهُ بِجِبْرِيلَ عَلِيهِ السَّلاَمُ . وَكَان بَنُو إِسْرَائِيلَ يُعَامِلُونَ الأَنْبِيَاءَ أَسْوَأَ مُعَامَلَةٍ ، فَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بَعْضَهُمْ كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ ، وَيَقْتُلُونَ بَعْضاً آخَرَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى ، وَكُلُّ ذلِكَ لأَنَّ هؤُلاءِ الأَنْبِيَاءَ والرُّسُلَ كَانُوا يُطَالِبُونَهُمْ بِالالْتِزَامِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ، وَكَانُوا يَأْتُونَ بِمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ ، وَلِذلِكَ فَلاَ عَجََبَ إِنْ هُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ ، لأَنَّ العِنَادَ وَالجُحُودَ مِنْ صِفَتِهِمْ .
ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام ، وإبائهم الدخول فيه ، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم ، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم . . فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم . ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق ، الذي لا يخضع لأهوائهم .
وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وقد آتاه الله الكتاب . ويزيد هنا أن رسلهم توالت تترى ، يقفو بعضهم بعضاً؛ وكان آخرهم عيسى بن مريم . وقد آتاه الله المعجزات البينات ، وأيده بروح القدس جبريل - عليه السلام - فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم؛ والذي لا يملكون هم إنكاره ، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم : ففريقاً كذبتم وفريقا تقتلون! } !
ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارىء والنزوة المتقلبة .
ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة ، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته . المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت - غير المصدر الإنساني المتقلب - مصدر لا يميل مع الهوى ، ولا تغلبه النزوة . وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب ، والصحة والمرض ، والنزوة والهوى ، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى!
ولقد قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله ، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل ، وطرحوا منهج الله وشريعته ، وحكموا أهواءهم وشهواتهم ، وقتلوا فريقاً من الهداة وكذبوا فريقاً . ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل ، من الفرقة والضعف ، والذلة والهوان ، والشقاء والتعاسة . . إلا أن يستجيبوا لله ورسله ، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه ، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم ، وإلا أن يأخذوه بقوة ، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون .
-------------------
وقال تعالى { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) [الرعد/30 ]
وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، فِي هَذِهِ الأُمَّةِ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ، وَلِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ ، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا رُسُلاً فِي الأُمَمِ المَاضِيَةِ الكَافِرَةِ بِاللهِ ، وَقَدْ كُذِّبَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ ، فَلَكَ أُسْوَةٌ بِهِمْ . وَكَمَا أَنْزَلْنَا بَأْسَنَا وَنَقْمَتَنَا بِأُولئِكَ فَلْيَحْذَرْ هؤُلاَءِ مِنْ حُلُولِ النِّقَمِ بِهِمْ . وَقُلْ لِقَوْمِكَ الذِينَ يُكَذِّبُونَ بِالرَّحْمَنِ ، وَلاَ يُقِرُّونَ بِهِ : إِنَّ الذِي تَكْفُرُونَ بِهِ هُوَ اللهُ رَبِّي ، وَأَنَا مُؤْمِنٌ بِهِ ، مُعْتَرِفٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ . عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي جَمِيعِ أُمُورِي ، وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ وَأَتُوبُ ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ . ( لَمَّا صَالَحَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشاً ، يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ ، كَتَبَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَلاَ نَعْرِفُهُ ، وَكَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَكْتُبُونَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ) .
----------------------
وقال تعالى :{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) [فاطر/31 ]
وَهذَا القُرآنُ الذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِليكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، هُوَ الحَقُّ ، وَهُوَ يُصَدِّقُ الكُتُبَ السَّابِقَةَ فِيما جَاءَتْ بِهِ ، وَهِيَ بَشَّرَتْ بِهِ ، وَنَوَّهَتْ بِذِكْرِهِ فَعَلى المُؤمِنينَ أَنْ يَعْمَلُوا بِما جَاءَ فِي القُرآنِ لِيَفُوزُوا وَيَنْجُوا مِنَ العَذَاب الأََلِيمِ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بأَحْوَالِ العِبَادِ ، بَصِيرٌ بِما يَصْلُحُ لَهُمْ مِنْ شَرْعٍ وَأَحْكَامٍ .
ودلائل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه؛ فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته ، أو هو الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة . وهو مصدق لما قبله من الكتب الصادرة من مصدره . والحق واحد لا يتعدد فيها وفيه . ومنزله نزله للناس وهو على علم بهم ، وخبرة بما يصلح لهم ويصلحهم : { إن الله بعباده لخبير بصير } . .
---------------------
وقال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) [الشورى/7]
وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ ، وَأَرْسَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ لِيَسْتَطِيعَ دَعْوَتَهُمْ إِلَى اللهِ بِلُغَتِهِمْ وَلِسَانِهِمْ ، وَلِيَفْهَمُوا مِنْهُ مَعَانِي مَا يُرِيدُ إِبْلاَغَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً وَاضِحاً جَلِيّاً مُنَزَّلاً بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ ، لُغَةِ قَوْمِكَ لِتُنْذِرَ أَهْلَ مَكَةَ ( أُمَّ القُرَى ) ، وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ ، وَتُحَذِّرَهُمْ عِقَابَ اللهِ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، وَهُوَ يَوْمٌ وَاقِعٌ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ رَيْبَ ، فَيجْزِي الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ بِمَا اجْتَرَحُوا مِنَ الإِثْمِ والسَّيِّئَاتِ ، وَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيُقْذَفُونَ فِيهَا قَذْفاً ، وَيَجْزِي المُحْسِنِينَ بِالجَنَّةِ .
وأم القرى مكة المكرمة . المكرمة ببيت الله العتيق فيها . وقد اختار الله أن تكون هي وما حولها من القرى موضع هذه الرسالة الأخيرة؛ وأنزل القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده . و { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها ، ومن وراء الظروف ومقتضياتها ، وبعد ما سارت هذه الدعوة في الخط الذي سارت فيه ، وأنتجت فيه نتاجها . . حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفاً من حكمة الله في اختيار هذه البقعة من الأرض ، في ذلك الوقت من الزمان ، لتكون مقر الرسالة الأخيرة ، التي جاءت للبشرية جميعاً . والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى .
كانت الأرض المعمورة عند مولد هذه الرسالة الأخيرة تكاد تتقسمها امبراطوريات أربع : الامبراطورية الرومانية في أوربا وطرف من آسيا وإفريقية . والامبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية . والامبراطورية الهندية . ثم الامبراطورية الصينية . وتكادان تكونان مغلقتين على أنفسهما ومعزولتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسية وغيرها وهذه العزلة كانت تجعل الإمبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوراتها .
وكانت الديانتان السماويتان قبل الإسلام اليهودية والنصرانية قد انتهتا إلى أن تقعا في صورة من الصور تحت نفوذ هاتين الإمبراطوريتين ، حيث تسيطر عليهما الدولة في الحقيقة ، ولا تسيطران على الدولة! فضلا على ما أصابهما من انحراف وفساد .
ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة ، ولاضطهاد الفرس تارة ، ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال؛ وانتهت بسبب عوامل شتى إلى أن تكون ديانة مغلقة على بني إسرائيل ، لا مطمع لها ولا رغبة في أن تضم تحت جناحها شعوبا أخرى .
وأما المسيحية فقد ولدت في ظل الدولة الرومانية . التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سرا؛ وهي تتخفى من مطاردة الإمبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهاداً فظيعاً ، تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة .
فلما انقضى عهد الاضطهاد الروماني ، ودخل الإمبراطور الروماني في المسيحية ، دخلت معه أساطير الرومان الوثنية ، ومباحث الفلسفة الإغريقية الوثنية كذلك؛ وطبعت المسيحية بطابع غريب عليها؛ فلم تعد هي المسيحية السماوية الأولى . كما أن الدولة ظلت في طبيعتها لا تتأثر كثيراً بالديانة؛ وظلت هي المهيمنة ، ولم تهيمن العقيدة عليها أصلا . وذلك كله فضلاً على ما انتهت إليه المذاهب المسيحية المتعددة من تطاحن شامل فيما بينها مزق الكنيسة ، وكاد يمزق الدولة كلها تمزيقاً . وأوقع في الاضطهاد البشع المخالفين للمذهب الرسمي للدولة . وهؤلاء وهؤلاء كانوا في الانحراف عن حقيقة المسيحية سواء!
وفي هذا الوقت جاء الإسلام . جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور . وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور . ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر . فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لإمبراطورية من تلك الإمبراطوريات؛ وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته؛ بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله . وكانت الجزيرة العربية ، وأم القرى وما حولها بالذات ، هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ ، وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى .
لم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة . تقف للعقيدة الجديدة . بسلطانها المنظم ، وتخضع لها الجماهير خضوعا دقيقاً ، كما هو الحال في الإمبراطوريات الأربع .
ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة؛ فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة ، ومعتقداتها وعباداتها شتى . وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام . ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة ، فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد . ولولا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام . فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب .
وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني ، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد ، متحرراً من كل سلطان عليه في نشأته ، خارج عن طبيعته .
وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة . كان النظام القبلي هو السائد . وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام . فلما قام محمد - صلى الله عليه وسلم - بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له؛ ووجد من التوازن القبلي فرصة ، لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهم على غير دينه .
بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة ، وتدع تأديبه أو تعذيبه لأهله أنفسهم . والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم . ومن ثم كان أبو بكر رضي الله عنه يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم ، فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء ، وتمتنع فتنتهم عن دينهم . . ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد .
ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة . وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها .
وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان تزخر بحضانة عميقة لبذور نهضة؛ وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب؛ وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف إمبراطوريتي كسرى وقيصر . وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال . المذكورتان في القرآن في قوله تعالى : { لإيلاف قريش . إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة . فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله ، ووجه هذه الطاقة المختزنة ، التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح؛ ففتحها الله بمفتاح الإسلام . وجعلها رصيداً له وذخراً . ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمثال : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . وحمزة والعباس وأبي عبيدة . وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وسعد بن معاذ ، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام؛ فتفتحت له ، وحملته ، وكبرت به من غير شك وصلحت؛ ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام .
وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة ، وصيانة نشأتها ، وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها ، مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة ، التي جاءت للبشرية جميعها . وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة - صلى الله عليه وسلم - فذلك أمر يطول . ومكانه رسالة خاصة مستقلة . وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة ، التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة
وهكذا جاء هذا القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها . فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام ، وخلصت كلها للإسلام ، حملت الراية وشرقت بها وغربت؛ وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها ، للبشرية جميعها كما هي طبيعة هذه الرسالة وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها؛ وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها .
وليس من المصادفات أن يعيش الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام؛ ويتمحض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها على علم . كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض جميعا . فقد كانت اللغة العربية بلغت نضجها وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض . ولو كانت لغة ميتة أو ناقصة التكوين الطبيعي ما صلحت لحمل هذه الدعوة أولاً ، وما صلحت بالذات لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية ثانياً . . وقد كانت اللغة ، كأصحابها ، كبيئتها ، أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم .
وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة ، حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره ومصداق قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } { لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير } . .
وقد كان الإنذار الأكبر والأشد والأكثر تكراراً في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع . يوم الحشر . يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة واختلاف الأمكنة ، ليفرقهم من جديد : { فريق في الجنة وفريق في السعير } . بحسب عملهم في دار العمل ، في هذه الأرض ، في فترة الحياة الدينا .
{ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة . ولكن يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } . .
(1/8)
فلو شاء الله لخلق البشر خلقة أخرى توحد سلوكهم ، فتوحد مصيرهم ، إما إلى جنة وإما إلى نار . ولكنه سبحانه خلق هذا الإنسان لوظيفة . خلقه للخلافة في هذه الأرض . وجعل من مقتضيات هذه الخلافة ، على النحو الذي أرادها ، أن تكون للإنسان استعدادات خاصة بجنسه ، تفرقه عن الملائكة وعن الشياطين ، وعن غيرهما من خلق الله ذوي الطبيعة المفردة الموحدة الاتجاه . استعدادات يجنح بها ومعها فريق إلى الهدى والنور والعمل الصالح؛ ويجنح بها ومعها فريق إلى الضلال والظلام والعمل السيِّئ كل منهما يسلك وفق أحد الاحتمالات الممكنة في طبيعة تكوين هذا المخلوق البشري؛ وينتهي إلى النهاية المقررة لهذا السلوك : { فريق في الجنة وفريق في السعير } . . وهكذا : { يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } . . وفق ما يعلمه الله من حال هذا الفريق وذاك ، واستحقاقه للرحمة بالهداية أو استحقاقه للعذاب بالضلال .ولقد سبق أن بعضهم يتخذ من دون الله أولياء . فهو يقرر هنا أن الظالمين : { ما لهم من ولي ولا نصير } . . فأولياؤهم الذين يتخذونهم لا حقيقة لهم إذن ولا وجود .
ـــــــــــــ
(1/9)
الرسل موحى إليهم
قال تعالى :{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)(سورة الشورى51-53)
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الطُّرُقَ التِي يُوحِي بِهََا أَوَامِرَهُ إِلَى مَنْ يَخْتَارُهُمْ مِنْ عِبَادِهِ :
أ - أَنْ يُحسَّ الرَّسُولُ بِمَعَانٍ تُلْقَى فِي قَلْبِهِ فَلاَ يَتَمَارَى فِي أَنَّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى ، وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا فاتَّقُوا اللهً ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَب " ( صَحِيحُ ابْنِ حبَّانَ ) .
ب - أَوْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَنَاماً لاَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، كَرُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ .
ج - أَنْ يَسْمَعَ كَلاَماً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، كَمَا سَمِعَ مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فِي وَادِي الطُّورِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مَنْ يُكَلِّمُهُ .
د - أَنْ يُرْسِلَ اللهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ مَلَكاً فَيُوحِي ذَلِكَ المَلَكُ مَا يَشَاءُ إِلَى النَّبِيِّ .
واللهُ تَعَالَى قَاهِرٌ فَوْقَ عِبَادِهِ ، حَكِيمٌ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بِعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ .
وَكَمَا أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ ، كَذَلِكَ أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَلَمْ تَكُنْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْكَ وَحْيَهُ ، تَعْلَمُ مَا القُرْآنُ ، وَمَا الشَّرَائِعُ ، التِي بِهَا هِدَايَةُ البَشَرِ ، وَلَكِنَّ الله تَعَالَى هُوَ الذِي أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَجَعَلَهُ نُوراً يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ .
وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَتَهْدِي بِذَلِكَ النُّورِ المُنَزَّلِ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، مَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ .
وَهَذَا القُرْآنُ هُوَ الطَرِيقُ القَوِيمُ الذِي يَهْدِي اللهُ إِلَيهِ عِبَادَهُ وَهُوَ الطَّرِيقُ الذِي شَرَعَهُ اللهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ . والمُتَصَرِّفُ بِهِمَا ، والحَاكِمُ الذِي لاَ مُعَقَّبَ عَلَى حُكْمِهِ ، أَلاَ إِنَّ أُمُورَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا تَصِيرُ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيَفْصلُ فِيهَا بِعَدْلِهِ التَّام ، وَحِكْمَتِهِ .
ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها : « من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية » إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث : « وحيا » يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ، { أو من وراء حجاب } .
. كما كلم الله موسى عليه السلام وحين طلب الرؤية لم يجب إليها ، ولم يطق تجلي الله على الجبل { وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } { أو يرسل رسولاً } وهو الملك { فيوحي بإذنه ما يشاء } بالطرق التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الأولى : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال : - صلى الله عليه وسلم - « إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » . والثانية أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل له الملك رجلاً ، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول . والثالثة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها ، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها . والرابعة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .
هذه صور الوحي وطرق الاتصال . . { إنه علي حكيم } . . يوحي من علو ، ويوحي بحكمة إلى من يختار . . وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث ، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي . . كيف؟ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان ، المحيطة بكل شيء ، والتي ليس كمثلها شيء . كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان ، محدودة بحدود المخلوقات ، من أبناء الفناء؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟
وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولا شكل له معهود؟
وكيف؟ وكيف؟ . .
ولكني أعود فأقول : ومالك تسأل عن كيف؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية؟! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة . وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود .
ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول! إن النبوة هذه أمر عظيم حقا . وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً . تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ، أأنت معي في هذا التصور؟! أأنت معي تحاول أن تتصور؟! هذا الوحي الصادر من هناك .
أأقول : هناك؟! كلا . إنه ليس هناك « هناك »! الصادر من غير مكان ولا زمان ، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف . الصادر من المطلق النهائي ، الأزلي الأبدي ، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان . . إنسان مهما يكن نبياً رسولاً ، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود . . هذا الوحي . هذا الاتصال العجيب . المعجز . الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق ، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات . هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله؟ إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته ، والخارق في صورته ، الذي حدث مرات ومرات . وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين ، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » يا عائشة . هذا جبريل يقرئك السلام « قلت : وعليه السلام ورحمة الله . قالت : وهو يرى ما لا نرى » وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذه ، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه . وهؤلاء هم الصحابة رضوان الله عليهم في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه ، فيعود إليهم ويعودون إليه . .
ثم . . أية طبيعة . طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم؟ أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي ، ويختلط بذلك العنصر ، ويتسق مع طبيعته وفحواه؟
إنها هي الأخرى مسألة! إنها حقيقة . ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد ، لا تكاد المدارك تتملاه .روح هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - روح هذا الإنسان . كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي؟ كيف كانت تتفتح؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله؟
ثم . . أية رعاية؟ وأية رحمة؟ وأية مكرمة؟ . . والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان . فيوحي إليها لإصلاح أمرها ، وإنارة طريقها ، ورد شاردها . . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان ، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض؟
إنها حقيقة . ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا . وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور) .(وكذلك) . بمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا الاتصال . (أوحينا إليك) . . فالوحي تم بالطريقة المعهودة , ولم يكن أمرك بدعا . أوحينا إليك (روحاً من أمرنا) . . فيه حياة , يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود . (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) . . هكذا يصور نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم بها , قبل أن تتلقى هذا الوحي . وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكتاب وسمع عن الإيمان , وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم , وأن لهم عقيدة , فليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير . وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله .(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء) . . وهذه طبيعته الخالصة . طبيعة هذا الوحي . هذا الروح . هذا الكتاب . إنه نور . نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به , بما يعلمه من حقيقتها , ومن مخالطة هذا النور لها .(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) . . وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة , مسألة الهدى , بمشيئة الله سبحانه , وتجريدها من كل ملابسة , وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص , الذي لا يعرفه سواه ; والرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة لتحقيق مشيئة الله , فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة , فتقع مشيئة الله .(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) . . فهي الهداية إلى طريق الله , الذي تلتقي عنده المسالك . لأنه الطريق إلى المالك , الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض , وقوى السماوات والأرض , ورزق السماوات والأرض , واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم . الذي إليه تتجه , والذي إليه تصير: (ألا إلى الله تصير الأمور) .
فكلها تنتهي إليه , وتلتقي عنده , وهو يقضي فيها بأمره .وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه , ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين
وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي . وكان الوحي محورها الرئيسي . وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى . لتقرر وحدة الدين , ووحدة المنهج , ووحدة الطريق . ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة . ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز , الذي تصلح به للقيادة , وتحمل به هذه الأمانة . الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم . .
ـــــــــــــ
(1/10)
الحكمة من نزول القرآن مفرقاً
قال تعالى :{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) [الفرقان/32]
وقالً اليَهُودُ : هَلاَّ أُنْزِلَ القرآنُ على مُحَمدٍ دُفَعةً واحِدةُ كما أُنْزِلت الكُتبُ السابقةُ على الأنبيَاءِ . وَيُرُدُّ اللهُ تَعالى عَلى قَوْلِهِمْ هذا ، قائلاً : إنهُ إنما أُنزلَ القُرآنُ مُنَجًَّماً في ثَلاثٍ وعِشرينَ سَنةً بحَسَبِ الوَقَائِعِ ، وما يُحْتَاجَ إليه منَ الأَحكَامِ لِيُثَبِّتَ قُلوبَ المُؤمنينَ بهِ ، ويُثَبِّتَ قَلْبَ الرّسولِ - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أنزَلَهُ اللهُ على مَهْلٍ هكَذا على رَسُوله ، وقَرَأَهُ عليهِ ، بلِسانِ جِبريلَ عليهِ السَّلامُ ، شَيئاً فَشَيئاً لِيتَمَكنَّ مِنْ حِفْظَهِ واسْتِيعابِهِ
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، وينشئ مجتمعاً ، ويقيم نظاماً . والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة ، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع . والنفس البشرية لا تتحول تحولاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد . إنما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج؛ وتتدرج في مراقيه رويداً رويدا ، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً ، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً .
وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعداداً للانتفاع بالوجبة الثالثة ، وأشد قابلية لها والتذاذاً بها .
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها . وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها . فجاء لذلك منجماً وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة ، وهي في طريق نشأتها ونموها . ووفق استعدادها الذي ينمو يوماً بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق . جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة . جاء لينفذ حرفاً حرفاً وكلمة كلمة ، وتكليفاً تكليفاً . جاء لتكون آياته هي « الأوامر اليومية » التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان « الأمر اليومي » مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ؛ ومع الانطباع والتكيف وفق ما يتلقاه . .
من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلاً . يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويثبته على طريقه؛ ويتتابع على مراحل الطريق رتلاً بعد رتل ، وجزءاً بعد جزء : { كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً } . .
والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي . .
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلاً متتابعاً ، وتأثرت به يوماً يوماً ، وانطبعت به أثراً أثراً . فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة ، وكتاب تعبد للتلاوة ، فحسب ، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ . لم ينتفعوا من القرآن بشيء ، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير . .
----------------
وقال تعالى :{ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء/106]
وَآتَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ قُرْآناً نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ مُفَرَّقاً وَمُنَجَّماً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ ، وَتُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهْلٍ ( عَلَى مُكْثٍ ) ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ حِفْظِهِ ، وَفَهْمِ أَحْكَامِهِ ، وَالتَّمَعُّنِ فِيهَا لِتَرْسَخَ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ . وَقَدْ نَزَّلْنَاهُ شَيْئاً فَشَيْئاً بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالحَوَادِثِ وَالوَقَائِعِ ( نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ) .
وَفَرَّقْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ - كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ : وَمَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ آيَةً فَآيَةً مُفَسَّراً وَمُبَيَّناً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مَهَلٍ ، وَتُبْلِغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهَلٍ .
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، ويقيم لها نظاماً ، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها ، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل .
ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقاً وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة ، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى . والتربية تتم في الزمن الطويل ، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل . جاء ليكون منهجاً عملياً يتحقق جزءاً جزءاً في مرحلة الإعداد ، لا فقهاً نظرياً ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني!
وتلك حكمة نزوله متفرقاً ، لا كتاباً كاملاً منذ اللحظة الأولى .
ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى . تلقوه توجيهاً يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهي ، وكلما تلقوا منه أدباً أو فريضة . ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية . تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم ، وفي سلوكهم ونشاطهم . وفي بيوتهم ومعاشهم . فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه ، ومما عرفوه ، ومما مارسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن .
قال ابن مسعود رضي الله عنه كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن .
ولقد انزل الله هذا القرآن قائماً على الحق : { وبالحق أنزلناه } فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته : { وبالحق نزل } . . فالحق مادته والحق غايته . ومن الحق قوامه ، وبالحق اهتمامه . . الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود ، والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به ، متلبساً بهما ، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله ، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه . فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته . والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذي جاء به .
ـــــــــــــ
(1/11)
الحكمة من إرسال الرسل
قال تعالى : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) [النساء/165]
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللهَ ، وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالخَيْرَاتِ وَحُسْنِ الثَّوَابِ ، وَيُنْذِرُونَ ، بِالعِقَابِ وَالعَذَابِ ، مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، وَذَلِكَ لِكَيْلا يَبْقَى لِمُعْتَذِرٍ عُذْرٌ ، بَعْدَ أنْ أَوْضَحَتِ الرُّسُلُ لِلْنَّاسِ أوَامِرَ اللهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَالجَزَاءُ لاَ يَكُونُ إلاَّ لِمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ . وَكَانَ اللهُ عَزيزَ الجَانِبِ لا يُضَامُ ، حَكِيماً فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ .
وهناك حكم عديدة من إرسال الرسل :
أولاً : أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا « الإنسان » قضية الإيمان بالله؛ التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها؛ بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها؛ كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى .لو كان الله - سبحانه - وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها ، يعلم أن العقل البشري ، الذي وهبه للإنسان ، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته ، في دنياه وآخرته ، لوكله إلى هذا العقل وحده؛ يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته ، فتستقيم على الحق والصواب؛ ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ؛ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم؛ وتبليغهم عن ربهم؛ ولما جعل حجة الناس عنده - سبحانه - هي عدم مجيء الرسل إليهم : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } . . ولكن لما علم الله - سبحانه - أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى - بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط - وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة؛ وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة.
. لما علم الله - سبحانه - هذا شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل ، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } وهذه تكاد تكون إحدى البديهيات التي تبرز من هذا النص القرآني . . فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية . .
إذن . . ما هي وظيفة هذا العقل البشري؛ وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى؛ وفي قضية منهج الحياة ونظامها؟
إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول . ومهمة الرسول أن يبلغ ، ويبين ، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام . وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية ، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة .
وليس دور العقل أن يكون حاكماً على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان ، والقبول أو الرفض - بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها : أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص - ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها - بعد إدراك مدلولها ، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له - ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان . . فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح ، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها . .
إن هذه الرسالة تخاطب العقل . . بمعنى أنها توقظه ، وتوجهه ، وتقيم له منهج النظر الصحيح . . لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها ، وبقبولها أو رفضها ، ومتى ثبت النص كان هو الحكم؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفاً له أو غريباً عليه . .
إن دور العقل - في هذا الصدد - هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص . وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح . وعند هذا الحد ينتهي دوره . . إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل . فهذا النص من عند الله ، والعقل ليس إلهاً يحكم بالصحة أو البطلان ، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله .
وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير . . سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة . . أو ممن يريدون إلغاء العقل ، ونفي دوره في الإيمان والهدى . . والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا . . من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات ، وفي شؤون الحياة كلها . فإذا أدرك مقرراتها - أي إذا فهم ماذا يعني النص - لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ .
. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها . وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات ، وفق مفهوم نصوصها . . مناقشتها ليقبلها أو يرفضها . ليحكم بصحتها أو خطئها . . وقد علم أنها جاءته من عند الله . الذي لا يقص إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالخير
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله ، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة - بعد أن يدرك المقصود بها - بمقررات له سابقة عليها؛ كونها لنفسه من مقولاته « المنطقية »! أو من ملاحظاته المحدودة؛ أو من تجاربه الناقصة . . إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة ، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي - قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة - ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين - متى صح عنده أنها من الله - إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص!
. . إن العقل ليس إلهاً ، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله . .
إن له أن يعارض مفهوماً عقلياً بشرياً للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له . . هذا مجاله ، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول والأفهام المتعددة . وحرية النظر - على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه - مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع . وليس هنالك من هيئة ، ولا سلطة ، ولا شخص ، يملك الحجر على العقول ، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه تطبيقه - متى كان قابلاً لأوجه الرأي المتعددة ، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح ، المأخوذ من مقررات الدين - وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل . .
إن الإسلام دين العقل . . نعم . . بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته؛ ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان . ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة؛ وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة . ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته ، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه . . فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن ، أو عدم التسليم بها فهو كافر . . وليس هو حكماً في صحتها أو بطلانها . وليس هو مأذوناً في قبولها أو رفضها ، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلهاً ، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل ، ويرفض منها ما يرفض ، ويختار منها ما يشاء ، ويترك منها ما يشاء .
. فهذا هو الذي يقول الله عنه : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ } ويرتب عليه صفة الكفر ، ويرتب عليه كذلك العقاب . .
فإذا قرر الله - سبحانه - حقيقة في أمر الكون ، أو أمر الإنسان ، أو أمر الخلائق الأخرى . أو إذا قرر أمراً في الفرائض ، أو في النواهي . . فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه . متى أدرك المدلول المراد منه . .
إذا قال الله سبحانه { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } { أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي } { والله خلق كل دابة من ماء } { خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار } إلى آخر ما قال - سبحانه - عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء . . فالحق هو ما قال . وليس للعقل أن يقول - بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها - إنني لا أجد هذا في مقرراتي ، أو في علمي ، أو في تجاربي . . فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطأ والصواب . وما قرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الحق والصواب .
وإذا قال الله سبحانه : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن . . } إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال - سبحانه - وليس للعقل أن يقول : ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله ، أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس . . فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب ، وتدفع إليه الشهوات والنزوات . . وما يقرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الصحة والصلاح . .
وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات ، أو من منهج الحياة ونظامها ، سواء في موقف العقل إزاءه . . متى صح النص ، وكان قطعي الدلالة؛ ولم يوقت بوقت . . فليس للعقل أن يقول : آخذ في العقائد والشعائر التعبدية؛ ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها . . فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته . فما دام النص مطلقاً فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان . . احترازاً من الجرأة على الله ، ورمي علمه بالنقص والقصور - سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً . . إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية؛ لا في قبول المبدأ العام أو رفضه ، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال!
وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية .
. فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة - بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح - والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته؛ وطبيعة الكائنات فيه والأحياء؛ والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات والأحياء؛ وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها - في حدود منهج الله - لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام! .
ونقف من هذه اللفتة : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقفة أخرى :
نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل - صلوات الله عليهم - ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم - تجاه البشرية كلها . . وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة . .
إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء ، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم . فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر ، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم ، ويترتب ثوابهم أو عقابهم . . في الدنيا والآخرة .
إنه أمر هائل عظيم . . ولكنه كذلك . . ومن ثم كان الرسل - صلوات الله عليهم - يحسون بجسامة ما يكلفون . وكان الله - سبحانه - يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم . . وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلاً } ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد : { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص منه قليلاً . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً . . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً } وهذا هو الذي يُشعر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول : { قل : إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملتحداً . . إلا بلاغاً من الله ورسالاته } { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ، إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً . . ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم . وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً } إنه الأمر الهائل العظيم . . أمر رقاب الناس . . أمر حياتهم ومماتهم . . أمر سعادتهم وشقائهم . . أمر ثوابهم وعقابهم . . أمر هذه البشرية ، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة . وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة . وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها ، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ!
فأما رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل .
. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان ، ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل ، وجهاداً مضنياً بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق . . سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك ، وضلالات تزين ، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين . كما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين . بما أنه المبلغ الأخير . وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات . فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان . إنما أزالها كذلك بالسنان { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } وبقي الواجب الثقيل على من بعده . . على المؤمنين برسالته . . فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه . ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة الله على الناس؛ وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء . . على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدى . . فالرسالة هي الرسالة؛ والناس هم الناس . . وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات . . وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة؛ وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة . . الموقف هو الموقف؛ والعقبات هي العقبات ، والناس هم الناس .
ولا بد من بلاغ ، ولا بد من أداء . بلاغ بالبيان . وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون . وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة . . وإلا فلا بلاغ ولا أداء . .
إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله . . وإلا فهي التبعة الثقيلة . تبعة ضلال البشرية كلها؛ وشقوتها في هذه الدنيا ، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله ، وعدم النجاة من النار . .
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟!
إن الذي يقول : إنه « مسلم » إما أن يبلغ ويؤدي هكذا . وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى . . إنه حين يقول إنه « مسلم » ثم لا يبلغ ولا يؤدي . . كل ألوان البلاغ والأداء هذه ، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلاً من أداء شهادة له ، تحقق فيه قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } وتبدأ شهادته للإسلام ، من أن يكون هو بذاته . ثم ببيته وعائلته . ثم بأسرته وعشيرته ، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه . . وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها . . الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية . . وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق . . فإذ استشهد في هذا فهو إذن « شهيد » أدى شهادته لدينه ، ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو « الشهيد » .
وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته؛ ممثلة في علمه ، وعدله ، ورعايته ، وفضله ، ورحمته وبره . . بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى . .
نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن؛ وما أودعه من القوى والطاقات؛ وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال . وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده . . على عظمة هذه الأداة التي وهبها له؛ وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان . . فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات؛ وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى ، ويحجبها الجهل والقصور . . ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال - إلا بعد الرسالة والبيان - ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة ، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله . . ثم ترك له ما وراء ذلك - وهو ملك عريض - يبدع فيه ما شاء ، ويغير فيه ما شاء ، ويركب فيه ما شاء ، ويحلل فيه ما شاء . منتفعاً بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطىء عقله ويصيب ، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق!
ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله - سبحانه - لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين . هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق ، ووحدانيته ، وتدبيره وتقديره ، وقدرته وعلمه . . ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له ، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس . . ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج . . ولكن الله - سبحانه - بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها ، فتعطلها ، أو تفسدها ، أو تطمسها ، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط ، قد أعفى الناس من حجية الكون ، وحجية الفطرة ، وحجية العقل ، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها ، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة ، هذه الأجهزة ، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي . . وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع؛ أو تسقط حجتها وتستحق العقاب . .
ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره ، على ما يعلم به من ضعف ونقص؛ فيكل إليه هذا الملك العريض . . خلافة الأرض . . وهو بالقياس إليه ملك عريض! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير!
ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره ، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس؛ ومن عقل هاد ولكنه يضل؛ بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى ..
وهو يكذب ويعاند؛ ويشرد وينأى؛ فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه؛ ولا يحبس عنه بره وعطاياه ، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة . . ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل؛ فيعرض ويكفر ، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب . .
ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه . . استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره . . استغنى عن هدايته ودينه ورسله . . استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوّم بمنهج الله - فلم يكتب عليه عقاباً إلا بعد الرسالة والبيان . . فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده ، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة . إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه؛ وإنماء قدرات ممكنة النماء؛ وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب . . أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله ، ويتنكب هداه ، فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه . وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله . وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها ، وتنكبت هداه!
وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول : إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة . . فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح؛ فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط ، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات ، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات ، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلاً ، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان!
وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها؛ فلا يغني العقل البشري عنها . . أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلاً واحداً من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة . . لا في تصور اعتقادي؛ ولا في خلق نفسي ، ولا في نظام حياة ، ولا في تشريع واحد لهذا النظام . .
إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعاً . . بل إنهم ليقولون : إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيداً عن رسالة الله وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتدياً بهدى الرسالة .
وقد وصل أخناتون - في مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة .
وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية .
(1/12)
وفي المبادىء والنظم والتشريعات لا نجد أبداً ذلك التناسق والتوازن ، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته . ولا نجد أبداً ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى ، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها . .
إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم . فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها « العلم » الصاعد . .
ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها . . هو التوازن الذي ينشىء السعادة والطمأنينة ، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة . . والفترة التي عاشت بالإسلام كاملاً لم تبلغها البشرية - بعيداً عن الرسالة - في أي عصر . . والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام؛ مهما التمعت بعض الجوانب؛ ومهما تضخمت بعض الجوانب . فإنما تلتمع لتنطفىء جوانب أخرى . وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى . . والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى .ونقف عند هذا الحد - المناسب لسياق الظلال - في الحديث عن الإيحاءات القوية العميقة ، التي يثيرها في النفس قول الله تعالى : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } . .
-----------------------
وقال تعالى :{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) [الأنعام/48-50]
إنَّ اللهَ تَعَالَى يُرْسِلُ الرُّسُلَ لِيُبَشِّرُوا ، مَنْ آمَنَ ، بِالجَنَّةِ ، وَحُسْنِ الثَّوَابِ ، وَلِيُنْذِرُوا ، مَنْ كَفَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ، بِالعُقُوبَةِ وَالعَذَابِ ، فَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، فَهَؤُلاَءِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ، مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيا .أمَّا الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمِ ، فَإنَّهُمْ سَيُصِيبَهُمُ العَذَابُ ، بِمَا كَفَرُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَخَرَجُوا عَنْ أَوَامِرِ رَبِّهِمْ ، وَلَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ .لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي ، ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان استخداماً كاملاً في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود ، وفي أطوار الحياة ، وفي أسرار الخلق؛ والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري إليه . .وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية؛ التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان ، أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان! إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله . وهي في ذاتها خوارق معجزة . . ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود ، ويتألف منها قوامه وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند الله باهر معجز في تعبيره ومعجز في منهجه ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال . والذي لم يلحق به من بعده أي مثال!
وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة ، وتوجيهاً طويلاً ، حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة ، وهذا المدى من الرقي؛ وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري ، في ظل التوجيه الرباني ، والضبط القرآني ، والتربية النبوية . . قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد ، بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي؛ وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك ، مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية!
وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول ، وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان - كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة - فالرسول بشر ، يرسله الله ليبشر وينذر ، وهنا تنتهي وظيفته ، وتبدأ استجابة البشر ، ويمضي قدر الله ومشيئته من خلال هذه الاستجابة ، وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة . . فمن آمن وعمل صالحاً يتمثل فيه الإيمان ، فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف . فهناك المغفرة على ما أسلف ، والثواب على ما أصلح .. ومن كذب بآيات الله التي جاءه بها الرسول ، والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود . يمسهم العذاب بسبب كفرهم ، الذي يعبر عنه هنا بقوله : { بما كانوا يفسقون } حيث يعبر القرآن غالباً عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع . .تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين . . تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها؛ ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله ، ويجعل للإنسان - من خلال ذلك - حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه ، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بياناً حاسماً؛ وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله ، مما كان سائداً في الجاهليات . . وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي؛ دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية ، والجدل اللاهوتي ، الذي استنفذ طاقة الإدراك البشري أجيالاً بعد أجيال!!!
----------------------
وقال تعالى :{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) [الكهف/56]
إِنَّهُ لاَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ مِنْ صَدَّقَهُمْ ، وَآمَنَ بِدَعْوَتِهِمْ ، بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم الحُسْنَى؛ وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ ، عِقَابَ اللهِ وَعَذَابَهُ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يُرْسِلُ المُرْسَلِينَ لِيَقْتَرِحَ عَلَيْهِمُ الظَّالِمُونَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ ، وَيَطْلُبُوا مِنْهُمْ مَا لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهِ . وَالظَّالِمُونَ الكُفَّارُ لاَ يُجَادِلُونَ ، وَلا يَقْتَرِحُونَ لِلاسْتِرْشَادِ وَالاهْتِدَاءِ ، وَإِنَّمَا يُجَادِلُونَ بِالبَاطِلِ لِيُضْعِفُوا الحَقَّ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَيُبْطِلُوهُ ( لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ) ، وَلَنْ يَبْلُغُوا غَايَتَهُمْ . وَقَدِ اتَّخَذُوا جَمِيعَ الحُجَجِ وَالمُعْجِزَاتِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رُسُلُهُمْ ، وَالعَذَابِ الَّذِي حَذَّرُوهُمْ مِنْهُ ، وَخَوّفُوهُمْ مِنْ نُزُولِهِ بِهِمْ . . . هُزْواً وَسُخْرِيَةً .
ـــــــــــــ
(1/13)
إنزال الكتاب بالحق ليحكم الناس به
قال تعالى :{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) [البقرة/213]
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى مِلَّةِ آدَمَ عَلَيهِ السَّلاَمُ ، وَلَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيهِمُ العَهْدُ تَطَرَّقَ الزَّيْغُ وَالشِّرْكُ إِلى عَقَائِدِهِمْ ، وَاخْتَلَفُوا فِي المَذَاهِبِ وَالآرَاءِ وَالمُعْتَقَدَاتِ فَكَانَ مِنْ لًطْفِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ بِالخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وَمُنْذِرِينَ بِحُبُوطِ عَمَلِ مَنِ اتَّبَعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي العَاقِبَةِ وَاللهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الأَنْبِيَاءَ لِيُنَبِّهُوا أَقْوَامَهُمْ إِلى مَا غَفَلُوا عَنْهُ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ سَيِّئ ِالعَادَاتِ ، وَقَبيحِ الأَعْمَالِ . وَكِتَابُ اللهِ هُوَ الذِي يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَدْ قَامَ الاخْتِلاَفُ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ الاخْتِلافِ الذِي وَقَعَ بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالأَحْبَارِ وَالعُلَمَاءِ القَائِمِينَ عَلَى الدَّينِ بَعْدَ الرُّسُلِ ، وَكَانَ سَبَبَ الاخْتِلافِ هذا هُوَ البَغْيُ وَتَعَدِّي الحُدُودِ التِي أَقَامَهَا الدِّينُ حَوَاجِزَ بَيْنَ النَّاسِ .
وَقَدْ هَدَى اللهُ المُؤْمِنِينَ إِلى الحَقِّ الذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ ، فَوَصَلُوا إِلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُمْ . فَالإِيمَانُ الصَّحِيحُ نُورٌ يَسْطَعُ فِي العُقُولِ فَيَهْدِيهَا فِي ظُلُمَاتِ الشُّبَهِ وَالضَّلاَلاَتِ ، وَيُضِيءُ السَّبِيلَ إِلى الحَقِّ الذِي لاَ يُخَالِطُهُ بَاطِلٌ ، فَالمُؤْمِنُ هَادِئُ القَلْبِ ، مُطْمَئِنُ النَّفْسِ ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ فِي اضْطِرَابٍ وَقَلَقٍ وَحُرُوبٍ ، أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِأَنْعُمِ اللهِ فَقَدْ عُوقِبُوا عَلَى هذا الكُفْرِ بِفَشْوِ الشَّرِّ ، وَفَسَادِ الأَمْرِ ، وَاضْطِرابِ النَّفْسِ .
كان الناس أمة واحدة . على نهج واحد ، وتصور واحد . وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم ، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات . فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد . وهم أبناء الأسرة الأولى : أسرة آدم وحواء . وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعاً نتاج أسرة واحدة صغيرة ، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم ، وليجعلها هي اللبنة الأولى . وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى . حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها ، وتفرقوا في المكان ، وتطورت معايشهم؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة ، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها ، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات .
عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر ، وتعددت المناهج ، وتنوعت المعتقدات . . وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . .
{ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } . .وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى . . إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض . . إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة ، واستعدادات شتى من ألوان متعددة؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق ، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة ، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله . فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات . . « ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم » . .
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافاً في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق . . ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعاً حين تصلح وتستقيم . . هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح . الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات؛ فلا يقتلها ولا يكبحها؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح .
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل ، ويثوب الجميع منه إلى اليقين : { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } .
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى { بالحق } . . فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل ، والقول الفصل ، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم . . لا حق غيره . ولا حكم معه . ولا قول بعده . وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض . . بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة؛ ولا يقوم على الأرض السلام؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال .
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف . . إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
وهو كتاب واحد في حقيقته ، جاء به الرسل جميعاً . فهو كتاب واحد في أصله ، وهي ملة واحدة في عمومها ، وهو تصور واحد في قاعدته : إله واحد ، ورب واحد ، ومعبود واحد ، ومشرّع واحد لبني الإنسان .
. ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام ، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق . بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير .
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد . . كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله ، يقوم على القاعدة الأصيلة : قاعدة التوحيد المطلق . . ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة ، وتتراكم الخرافات والأساطير ، حتى يبعد الناس نهائياً عن ذلك الأصل الكبير ، وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة ، وتنفي ما علق بها من الانحرافات ، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات . . وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين ، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون ، وهم لا يشعرون ، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور ، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين!
وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني ، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، في كل زمان ، ومع كل رسول ، منذ أقدم الأزمان .
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس ، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه . ولم يكن بد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني ، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني ، ولا يتأثر بالقصور الإنساني ، ولا يتأثر بالجهل الإنساني!
وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علماً غير محدود . علم ما كان وما هو كائن وما سيكون . علمه كله لا مقيداً بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل ، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول ، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء . . ولا مقيداً بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد ، ومنظور ومحجوب ، ومحسوس وغير محسوس . . في حاجة إلى إله يعلم ما خلق ، ويعلم من خلق . . ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع .
وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة ، واستعلاء على النقص ، واستعلاء على الفناء ، واستعلاء على الفوت ، واستعلاء على الطمع ، واستعلاء على الرغبة والرهبة . . واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه . . في حاجة إلى إله ، لا أرب له ، ولا هوى ، ولا لذة ، ولا ضعف في ذاته - سبحانه - ولا قصور!
أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة ، والظروف المتغيرة ، والحاجات المتجددة؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت . على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه ، فيدرك خطأه وصوابه ، وغيه ورشاده ، وحقه وباطله ، من ذلك الميزان الثابت .
. وبهذا وحده تستقيم الحياة . ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله!
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل . إنما جاء ليحتكم الناس إليه . . وإليه وحده . . حين يختلفون . .
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشىء حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية :
إن الإسلام يضع { الكتاب } الذي أنزله الله { بالحق } ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية . ثم تمضي الحياة . فإما اتفقت مع هذه القاعدة ، وظلت قائمة عليها ، فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى ، فهذا هو الباطل . . هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً . في فترة من فترات التاريخ . فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل . وليس الذي يقرره الناس هو الحق ، وليس الذي يقرره الناس هو الدين . إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء ، وقولهم لشيء ، وإقامة حياتهم على شيء . . لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب؛ ولا تجعله أصلاً من أصول الدين؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين؛ ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه . .
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس! وفي التاريخ الإسلامي مثلاً وقع انحراف ، وظل ينمو وينمو . . فلا يقال : إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام! كلا! إن الإسلام يظل بريئاً من هذا الواقع التاريخي . ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافاً لا يصلح حجة ولا سابقة؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله ، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
ولقد جاء الكتاب . . ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب ، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه : { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات . . بغياً بينهم } . .
فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد .
وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب ، القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى ، أو في نفسيهما جميعاً . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } . .
هداهم بما في نفوسهم من صفاء ، وبما في أرواحهم من تجرد ، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق .وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة : { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . .
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب . وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق . ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات ، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات . .
والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء ، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط؛ أولئك يدخلون في السلم ، وأولئك هم الأعلون ، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون ، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين!
ـــــــــــــ
(1/14)
كلما ابتعد الناس عن دين الله جاءهم رسول جديد
قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) [المائدة/19 ]
يَقُولُ تَعَالَى لأهْلِ الكِتَابِ إِنَّهُ أرْسَلَ إلَيْهِمْ مُحَمَّداً رَسُولاً بَعْدَ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ مَا بَيْنَ إِرْسَالِ عِيسَى وَإِرْسَالِهِ ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَسُولٌ ( عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) ، فَانْطَمَسَتْ سُبُلُ الهُدَى ، وَتَغَيَّرَتِ الأدْيَان ، وَكَثُرَ عُبَّادُ الأوْصَانِ وَالنِّيرَانِ ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ إلى أهلِ الكِتَابِ ، بَعْدَ أنْ بَشَّرَهُمْ بِهِ فِي الكُتُبِ التي أنْزَلَهَا عَلَى أنْبِيائِهِمْ ، وَأَخْبَرَهُمْ بِهِ أنْبِيَاؤُهُمْ ، وَذَلِكَ لِكَيْلا يَحْتَجُّوا وَيَقُولُوا : مَا جَاءَنا رَسُولٌ يُبَشِّرُ بِالخَيْرِ وَيُنْذِرُ بِالشَّرِّ . فَها قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمَّدٌ بَشِيراً وَنَذِيراً ، وَاللهُ قَدِيرٌ عَلَى عِقَابِ مَنْ عَصَاهُ ، وَعَلَى إثَابَةِ مَنْ أطَاعَهُ .
فهو رسول الله إليكم . ودوره معكم أن يبين لكم ويوضح ويكشف ، ما تواطأتم على إخفائه من حقائق كتاب الله الذي معكم . . سواء في ذلك اليهود والنصارى . . وقد أخفى النصارى الأساس الأول للدين . . التوحيد . . وأخفى اليهود كثيراً من أحكام الشريعة؛ كرجم الزاني ، وتحريم الربا كافة . كما أخفوا جميعاً خبر بعثة النبي الأمي { الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن كثير مما أخفوه أو حرفوه؛ مما لم يرد به شرعه . فقد نسخ الله من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني ، مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة ، التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة - في علم الله - من الزمان ، قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة ، وتستقر - وقد أكملها الله وأتم بها نعمته ورضيها للناس ديناً - فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل .
ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول ، ووظيفته في الحياة البشرية ، وما قدر الله من أثره في حياة الناس .
{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم } . .
وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب . . القرآن . . وعلى طبيعة هذا المنهج .. الإسلام . . من أنه { نور } . .
إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص . . يجدها بمجرد أن يجد حقيقة الإيمان في قلبه . . { نور } نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف . ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم .
ثقلة الطين في كيانه ، وظلمة التراب ، وكثافة اللحم والدم ، وعرامة الشهوة والنزوة . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . تخف الثقلة ، وتشرق الظلمة ، وترق الكثافة ، وترف العرامة . .
واللبس والغبش في الرؤية ، والتأرجح والتردد في الخطوة ، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق . .
{ نور . وكتاب مبين } . . وصفان للشيء الواحد . . لهذا الذي جاء به الرسول الكريم . .
{ يهدي به الله - من اتبع رضوانه - سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم } .
لقد رضي الله الإسلام ديناً . . وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له . . يهديه . . { سبل السلام } . .
وما أدق هذا التعبير وأصدقه؛ إنه { السلام } هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها . . سلام الفرد . وسلام الجماعة . وسلام العالم . . سلام الضمير ، وسلام العقل ، وسلام الجوارح . . سلام البيت والأسرة ، وسلام المجتمع والأمة ، وسلام البشر والإنسانية . . السلام مع الحياة . والسلام مع الكون . والسلام مع الله رب الكون والحياة . . السلام الذي لا تجده البشرية - ولم تجده يوماً - إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته ، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته .
حقاً إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه ، من يتبع رضوان الله ، { سبل السلام } . . سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشئ من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير . وحرب القلق الناشئ من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة .
وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام . إذ كانوا يذوقونه مذاقاً شخصياً؛ ويلتذون هذا المذاق المريح . .
وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة؛ والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات . . من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قروناً بعد قرون!
ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا؛ ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا ، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا ، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا . . بينما نملك الدخول في السلم التي منحها الله لنا؛ حين نتبع رضوانه؛ ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا!
إننا نعاني من ويلات الجاهلية؛ والإسلام منا قريب . ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء .. فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟
إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان . ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية ، قبل أن ننقذ نحن أنفسنا ، وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام ، حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه . فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام .
{ ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه } . .والجاهلية كلها ظلمات . . ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات . وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه . وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس . وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين . والنور هو النور . . هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفاً في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور . .
{ ويهديهم إلى صراط مستقيم } . .مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها . مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه . مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات . .
إن الله الذي خلق الإنسان وفطرته؛ وخلق الكون ونواميسه؛ هو الذي وضع للإنسان هذا المنهج؛ وهو الذي رضي للمؤمنين هذا الدين . فطبيعي وبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم . حيث لا يهديهم منهج غيره من صنع البشر العاجزين الجهال الفانين!
وصدق الله العظيم . الغني عن العالمين . الذي لا يناله من هداهم أو ضلالهم شيء ولكنه بهم رحيم!
ـــــــــــــ
(1/15)
الخصائص البشرية للرسل
الرسل يموتون
قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) [آل عمران/144-145]
لَمَّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أحُدٍ ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، أُشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قُتِلَ ، فَحَصَلَ ضَعْفٌ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ ، وَتَأَخُّرٌ عَنِ القِتَالِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيةَ ، وَفِيهَا يُذَكِّرُ المُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ قَدْ سَبَقَتُهُ رُسُلٌ ، مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ ، حِينَ سَمَاعِ إِشَاعَةِ قَتْلِ الرَّسُولِ ، ضَعْفَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَفَإِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ ، أوْ قُتِلَ ، تَرَاجَعْتُمْ وَنَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ وَمَنْ يَتَرَاجَعُ وَيَنْكُصْ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً ، لأنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العَالَمِينَ ، أمّا الذِينَ امْتَثَلُوا لأمْرِ اللهِ ، وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الشَّاكِرُونَ ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
لاَ يَمُوتُ أحَدٌ إلاَّ بِقَدَرِ اللهِ ، وَحَتَّى يَسْتَوْفِيَ المُدَّةَ التِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُ أَجَلاً ( كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) ، فَلاَ يَتَقَدَّمُ عَنْهُ وَلاَ يَتَأَخَّرُ . وَإِذَا كَانَ مَحْيَا الإِنْسَانِ وَمَمَاتُهُ بِإِذْنِ اللهِ فَلاَ مَحَلَّ لِلْخَوْفِ وَالجُبْنِ ، وَلاَ عُذْرَ فِي الوَهَنِ وَالضَّعْفِ .
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ تَشْجِيعٌ لِلْجُبَنَاءِ عَلَى القِتَالِ . فَإِنَّ الإِقدَامَ وَالإِحْجَامَ لاَ يُنْقِصَانِ مِنْ عُمْرِ الإِنْسَانِ ، وَلاَ يَزِيْدَانِ فِيهِ . وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ لِلْدُّنيا فَقَطْ نَالَهُ مِنَها مَا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ مِنْ ثَوَابِها ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصْيبٌ . وَمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ ثَوَابَ الآخِرَةِ أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ ثَوَابِهَا ، وَأَعْطَاهُ مَعَها مَا قَسَمَهُ لَهُ فِي الدُّنيا مِنْ نَصِيبٍ . وَاللهُ يَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذِينَ يَعْرِفُونَ أنْعُمَ اللهِ عَلَيْهِمْ ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فَي الأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ . وَيُعْطِيهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ بِمِقْدَارِ شُكْرِهِمْ وَعَمَلِهِمْ .
إن محمداً ليس إلا رسولاً . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة؟
إن محمداً رسول من عند الله جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة!
إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء ، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة .
وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحداً إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره - صلى الله عليه وسلم - . . هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد - صلى الله عليه وسلم - والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .
إن الدعوة أقدم من الداعية : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } . .
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن العميقة في منابت التاريخ المبتدئة مع البشرية تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على الأجيال والقرون ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول الذي أرسل بها الرسل وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت :
ومن ثم هذا الاستنكار وهذا التهديد وهذا البيان المنير : { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين }
وفي التعبير تصوير حي للارتداد : { انقلبتم على أعقابكم } . . { ومن ينقلب على عقبيه } . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلاً ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمداً قد قتل فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين وانتهى أمر الجهاد للمشركين! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب كارتدادهم في المعركة على الأعقاب! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم وقالوا له : إن محمداً قد مات : « فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » .
{ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } . .فإنما هو الخاسر الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئاً . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق وتعوج الأمور كلها ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة وتستقيم في ظله النفوس وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .
{ وسيجزي الله الشاكرين } . .الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج فيشكرونها باتباع المنهج ويشكرونها بالثناء على الله ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيباً على شكرهم ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة وهو أكبر وأبقى . .
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن جاء فقط ليومىء إليه ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق كما أومأ إليه من قبله من الرسل ودعوا القافلة إلى الارتواء منه!
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون!
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يقتل فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون!
وكأنما كان الله - سبحانه - يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهراً سيفه يهدد به من يقول : إن محمداً قد مات!
ولم يثبت إلا أبو بكر الموصول القلب بصاحبه وبقدر الله فيه الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع فإذا هم يثوبون ويرجعون!
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية لمسة موحية تطرد ذلك الخوف عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ومن ابتلاء للعباد وجزاء : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً . ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها .وسنجزي الشاكرين } . .
إن لكل نفس كتاباً مؤجلاً إلى أجل مرسوم . ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم . فالخوف والهلع والحرص والتخلف لا تطيل أجلاً . والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمراً . فلا كان الجبن ولا نامت أعين الجبناء . والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد!
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس ، فتترك الاشتغال به ولا تجعله في الحساب وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية . وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع . وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته في صبر وطمأنينة وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . . فإنه إذا كان العمر مكتوباً والأجل مرسوماً . . فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد . . أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان وأن تحصر همها كله في هذه الأرض وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى وإلى اهتمامات أرفع وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟ . . مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة؟!
{ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها . ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } .
وشتان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام! - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل - والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ويريد ثواب الدنيا وحدها . . إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . والذي يتطلع إلى الأفق الآخر . . إنما يحيا حياة « الإنسان » الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . . { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً } . .
{ وسنجزي الشاكرين } . .الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون الله على تلك النعمة فينهضون بتبعات الإيمان . .
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء وفق ما يريدونه لأنفسهم من اهتمام قريب كاهتمام الدود أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان! وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف - وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة - إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه وتملك فيه الاختيار . فتختار الدنيا أو تختار الآخرة . وتنال من جزاء الله ما تختار!
ـــــــــــــ
(1/16)
يأكلون ويشربون ويجوعون
قال تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) [المائدة/75]
المَسيحُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِالرِّسَالَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْهُ رُسُلٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُ أسْوَةٌ بِهِمْ . وَأمُّهُ مُؤْمِنَةٌ مٌصَدِّقَةٌ لَهُ ( صِدِّيقَةٌ - وَهَذا أعْلَى مَقَامَاتِهَا فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أنَّها لَيْسَتْ نَبِيّةً ) ، وَكَانَ المَسِيحُ وَأمُّهُ يَحْتَاجَانِ إلى الطَّعَامِ وَالغِذاءِ ، وَمَا يَسْتَتْبِعُ الطَّعَامَ وَالغِذَاءَ ، فَهُمَا مَخْلُوقَانِ مِنَ البَشَرِ ، وَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلهاً خَالِقاً ، وَلاَ رَبّاً مَعْبُوداً . فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدٌ كَيْفَ نُوَضِّحُ لَهُمُ الآيَاتِ وَنُظْهِرُهَا ، ثُمَّ انْظُرْ ، بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْضِيحِ ، أيْنَ يَذْهَبُونَ ، وَبأيِّ قَوْلٍ يَتَمَسَّكُونَ ، وَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ؟
وأكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح - عليه السلام - وأمه الصديقة . وهي خصيصة من خصائص الأحياء الحادثين ، ودليل على بشرية المسيح وأمه - أو على ناسوته بتعبيرهم اللاهوتي - فأكل الطعام تلبية لحاجة جسدية لا مراء فيها . ولا يكون إلهاً من يحتاج إلى الطعام ليعيش . فالله حي بذاته ، قائم بذاته ، باق بذاته ، لا يحتاج ، ولا يدخل إلى ذاته - سبحانه - أو يخرج منها شيء حادث كالطعام . .
---------------------
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) [المؤمنون/51]
يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَهُ المُرْسَلِينَ بالأًَكْلِ مِنَ الحَلالِ الطَّيِّبِ ، والقِيَامِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شُكْراً للهِ عَلَى نِعَمِهٍ عَلَيْهِمْ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الحَلاَلَ عَوْنٌ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ ، والرُّسلُ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِن كَسْبِ أَيْدِيِهِمْ ، وَقَالَ لَهُم اللهُ تَعَالَى : إِنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ وَقَدْ قَامَ الرُّسُلُ عَلَيْهِم السَّلامُ بِأَمْرِ اللهِ أًَتَمَّ قِيَامٍ وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلاً وَعَمَلاً وَدَلاَلَةً وَنُصْحاً .
فالأكل من مقتضيات البشرية عامة , أما الأكل من الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالملأ الأعلى .
ونداء لهم ليصلحوا في هذه الأرض: (واعملوا صالحا) . . فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك . أما العمل الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين ; فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا , وغاية موصولة بالملأ الأعلى .
وليس المطلوب من الرسول أن يتجرد من بشريته . إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها الكريم الوضيء . الذي أراده الله لها , وجعل الأنبياء روادا لهذا الأفق ومثلا أعلى . والله هو الذي يقدر عملهم بعد ذلك بميزانه الدقيق: (إني بما تعملون عليم) .
-----------------------
وقال تعالى :{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) [الفرقان/7-9]
وَقَالَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ ، إِمْعاناً فِي عِنَادِهِمْ وَتَكْذِيِبِهِمْ : إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مِثْلَمَا نَأْكُلُ ، وَيَشْرَبُ كَمَا نَشْرَبُ ، وَيَتَجَوَّلُ فِي الأََسْوَاقِ طَلَباً لِلتَّكَسُّبِ والتِجَارَةِ ، فَكَيْفَ يُرِيدُنَا أَنْ نَصَدِّقَهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ وَهَلاَّ أَنْزلَ اللهُ مَلَكاً مِنْ عِنْدِهِ ، فَيَكُونَ شَاهِداً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ؟
وَهَلاَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ عِلْمٌ عَنْ مَكَانِ كَنْزٍ يُنْفِقُ مِنْهُ ، أو يَكُونُ لَهُ بُسْتَانٌ ( جَنَّةُ ) يَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهِ ، وَقَالَ الكَافِرُونَ ، الظالِمُونَ أنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمُ : إِنَّ مُحَمَّداً رَجُلٌّ مَسْحُورٌ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ السِّحْرُ فَهُوَ يَهْذِي وَيَخْلِطُ .
وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَقِّقَ لِرَسُولِهِ جَمِيعَ مَا سَأَلُوهُ ، وَقَالُوا لَهَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ ، لَهُ الحِكْمَةُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ ، وَلَهُ الحُجَّةُ البالِِغَةُ ، لأَنَّهُ إِنْ أجَابَهُمْ إِلَى مَا سَألُوا ثُمَّ استمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ ، دَمَّرَهُمُ اللهُ كَمَا دَمَّرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ .
فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيفَ عَلَيْكَ ، وَكَيْفَ جَاؤُوا بِمَا يَقْذِفُونَكَ بِهِ ، وَيَكْذِبُونَ بِهِ عَلَيْكَ ، فاخْتَرَعُوا لَكَ صِفَاتٍ وَأَحْوَالاً بَعِيدَةً كُلَّ البُعْدِ عَنْ صِفَاتِكَ التي أنت عليها ( وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ ساحِرٌ وَمَجْنُونٌ وَشَاعِرٌ وَمُغفْتَرٍ . . . ) وَكُلَّهُا بَاطِلَةٌ ، فَضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الحقِّ والهَدَى ، وَصَارُوا حَائِرينَ مُتَرَدِّدينَ لاَ يَهْتَدُونَ إِلى سَبِيلِ الرِّشَادِ ، وَلاَ يَدرُونَ ما يَقُولُونَ فِيكَ .
ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ ما له بشراً يتصرف تصرفات البشر؟ إنه الاعتراض المكرور الذي رددته البشرية عن كل رسول! كيف يمكن أن يكون فلان ابن فلان ، المعروف لهم ، المألوف في حياتهم ، الذي يأكل كما يأكلون ، ويعيش كما يعيشون . . كيف يمكن أن يكون رسولاً من عند الله يوحى إليه؟ كيف يمكن أن يتصل بعالم آخر غير عالم الأرض يتلقى عنه؟ وهم يرونه واحداً منهم من لحم ودم . وهم لا يوحى إليهم ، ولا يعرفون شيئاً عن ذلك العالم الذي يأتي منه الوحي لواحد منهم ، ولا يتميز في شيء عنهم .
والمسألة من هذا الجانب قد تبدو غريبة مستبعدة . ولكنها من الجانب الآخر تبدو طبيعية مقبولة . . لقد نفخ الله من روحه في هذا الإنسان؛ وبهذه النفخة الإلهية تميز وصار إنساناً ، واستخلف في الأرض . وهو قاصر العلم ، محدود التجربة ، ضعيف الوسيلة ، وما كان الله ليدعه في هذه الخلافة دون عون منه ، ودون هدي ينير له طريقه . وقد أودعه الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته . فلا عجب أن يختار الله واحداً من هذا الجنس؛ صاحب استعداد روحي للتلقي؛ فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلما غام عليهم الطريق ، وما يقدم به إليهم العون كلما كانوا في حاجة إلى العون .
إنه التكريم الإلهي للإنسان يبدو في هذه الصورة العجيبة من بعض جوانبها ، الطبيعية من البعض الآخر . ولكن الذين لا يدركون قيمة هذا المخلوق ، ولا حقيقة التكريم الذي أراده الله له ، ينكرون أن يتصل بشر بالله عن طريق الوحي؛ وينكرون أن يكون واحد من هؤلاء البشر رسولاً من عند الله . يرون الملائكة أولى بهذا وأقرب : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } . والله قد أسجد الملائكة للإنسان بما أودعه من الخصائص الفائقة ، الناشئة من النفخة العلوية الكريمة .
وإنها الحكمة الإلهية كذلك تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر . واحد من البشر يحس إحساسهم ، ويتذوق مواجدهم ، ويعاني تجاربهم ، ويدرك آلامهم وآمالهم ، ويعرف نوازعهم وأشواقهم ، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم . . ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم ، ويرجو في قوتهم واستعلائهم ، ويسير بهم خطوة خطوة ، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم ، لأنه في النهاية واحد منهم ، يرتاد بهم الطريق إلى الله ، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق!
وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد ، لأنه بشر منهم ، يتسامى بهم رويداً رويداً؛ ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم ، وأرادها منهم؛ فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم .
وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطراً سطراً ، ويحققونها معنى معنى ، وهم يرونها بينهم ، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها ، لأنها ممثلة في إنسان؛ ولو كان ملكاً ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه؛ لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم ، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته ، ولا شوق إلى تحقيق صورته!
فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً . هي حكمة الله البالغة أن جعل الرسول بشراً ليؤدي دوره على قيادة البشر . والاعتراض على بشرية الرسول جهل بهذه الحكمة . فوق ما فيه من جهل بتكريم الله للإنسان!
وكان من اعتراضاتهم الساذجة الجاهلة أن هذا الرسول يمشي في الأسواق ليكسب رزقه . فهلا كفاه الله ذلك ، وحباه بالمال الكثير عن غير كد ولا عمل : { أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها } !
والله لم يرد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له كنز ولا أن تكون له جنة . لأنه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته؛ ينهض بتكاليف رسالته الضخمة الهائلة ، وهو في الوقت ذاته يسعى لرزقه كما يسعى رجل من أمته . فلا يقولن أحد من أمته يكد لعيشه : لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكفي الحاجة ، لا يعاني صراع العيش ، ومن ثم فرغ لعقيدته ورسالته ، وتكاليفه ، فلم يعوقه عائق مما أعاني . . فها هو ذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل ليعيش ، ويعمل لرسالته ، فلا أقل من أن ينهض كل أحد من أمته بنصيبه الصغير من تكاليف هذه الرسالة وقدوته أمامه ولقد انهال المال بعد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كي تتم التجربة من جانبها الآخر وتتم القدوة . فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله ، فكان كالريح المرسلة في جوده ، حتى يستعلي على فتنة المال ، ويرخص من قيمته في النفوس؛ وكي لا يقولن أحد بعد ذلك : إنما نهض محمد - صلى الله عليه وسلم - برسالته ، لأنه عاش فقيراً لا يشغله من المال شاغل ، فها هو ذا المال يأتيه غزيراً وفيراً ، ولكنه يمضي في دعوته كذلك . شأنه يوم أن كان فقيراً .
وما المال؟ وما الكنوز؟ وما الجنان؟ حين يتصل الإنسان الفاني الضعيف بالله الباقي القوي؟ ما هذه الأرض وما فيها؟ بل ما هذا الكون المخلوق كله ، بعد الاتصال بالله خالق كل شيء ، وواهب الكثير والقليل؟ ولكن القوم ما كانوا يوم ذلك يدركون!
{ وقال الظالمون : إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } ..وهي كلمة ظالمة فاحشة حكاها عنهم هنا ، وحكاها عنهم كذلك في سورة الإسراء . ورد عليها هنا وهناك رداً واحداً :{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً } . . .
وكلتا السورتين تعالجان موضوعاً متقارباً ، في جو متقارب هنا وهناك . . وقولتهم تلك يقصدون بها الإساءة إلى شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتنقص منه . إذ يمثلونه برجل سحر عقله ، فهو يقول كلاماً غريباً لا يقوله الطبيعيون من الناس! ولكنها في الوقت ذاته تشي بشعورهم الداخلي بأن ما يقوله غير طبيعي ، ولا مألوف ، ولا هو من عادة البشر ولا من مستوى البشر . . والرد عليهم يوحي بالتعجيب من أمرهم : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } وشبهوك بالمسحورين مرة ، واتهموك بالتزوير مرة ، ومثلوك برواة الأساطير مرة . . وكله ضلال ، وبعد عن إدراك الحق { فضلوا } ضلوا عن كل طريق للحق ، وكل سبيل للهدي { فلا يستطيعون سبيلاً }
------------------
وقال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) [الرعد/38]
وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْتَ مِنَ البَشَرِ ، كَذِلَكِ أَرْسَلَنْا المُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِكَ بَشَراً ، يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ، وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ، وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُنْجِبُونَ الأَوْلاَدَ . وَلَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ أَنْ يَأْتِي قَوْمَهُ بِمُعْجِزَةٍ إِلاَّ إِذَا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِذَلِكَ ، فَالأَمْرُ كُلُّهُ للهِ ، وَهُوَ يَفْعَلُ مَايَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ . وَلِكُلِّ أَمْرٍ كَتَبَهُ اللهُ ، وَقَدَّرَهُ أَجَلٌ مُعَيْنٌ ، وَوَقْتٌ مَعْلُومٌ ، فَلاَ تَنْزِلُ آيَةٌ قَبْلَ أَوَانِهَا ، وَلَا عَذَابٌ مِمَّا خُوِّفُوا بِهِ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لَهُ ، وَكَذَلِكَ البَشَرُ يَتَعَاقَبُونَ فِي الأَرْضِ وَفْقَ مَا قَضَاهُ اللهُ .
( وَيُرْوَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ رَدّاً عَلَى اليَهُودِ حِينَمَا عَابُوا عَلَى الرَّسُولِ صلىالله عليه وسلم كَثْرَةَ مَنْ تَزَوَّجَهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ ، وَقَالُوا لَوْ كَانَ نَبِيّاً حَقّاً كَمَا يَزْعُمُ لَشَغَلَهُ أَمْرُ النُّبُوَّةِ عَنِ النِّسَاءِ ) .
وهكذا تتجلى طبيعة الرسالة وحدود الرسول . . إنما هو منذر ، ليس عليه إلا البلاغ وليس له إلا أن يتلو ما أوحي إليه ، وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله . ثم هو عبد لله ، الله ربه ، وإليه متابه ومآبه؛ وهو بشر من البشر يتزوج وينسل؛ ويزاول بشريته كاملة بكل مقتضيات البشرية؛ كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية . .
وبهذه النصاعة الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهِّومة في الفضاء والظلام ، حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي ، وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة التي حفلت بها العقائد الكنسية كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية؛ والتي قضت على « المسيحية » منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها ، بعد ما كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليه السلام؛ تجعل المسيح عبداً لله؛ لا يأتي بآية إلا بإذن الله .
وخلاصة هذا القول : إن أمر هذا الدين ليس إليه هو ، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس . فالله وحده هو الذي يملك الهداية . سواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله ، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته . . البلاغ . . وحسابهم بعد ذلك على الله . . وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته . فواجبه محدد ، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله .
بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر . . ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس ، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين . . ليس لهم أن يقولوا : لقد دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل؛ أو لقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء! . . إنْ عليهم البلاغ . . أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد . إنما هو من شأن الله! فينبغي تأدباً في حق الله واعترافاً بالعبودية له أن يترك له سبحانه ، يفعل فيه ما يشاء ويختار . .
------------------------
وقال تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) [الفرقان/20]
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هَؤُلاءِ ، وَهُوَ يُخَاطِبُ رَسُولَه - صلى الله عليه وسلم - قَائِلاً : إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلِ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ إِلاَّ مِنَ البَشَرِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَتَزَوَّجُونَ ، وَيَتَكَسَّبُونَ بِالعَمَلِ ، وَلَيسَ فِي ذَلِكَ غَرَابةٌ ، وَلا مُنَافَاةٌ لِحَالِ النُّبُوَّةِ . وَجَعَل اللهُ للأَنْبِيَاءِ مِنْ حًسْنِ القَوْلِ ، وَمِمّا أَجْرَاهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الآيَاتِ ، دَلاَئِلَ وَحُجَجاً عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِمْ ، وَصِدْقِ ما جَاؤُوا بهِ أَقْوَامَهُم ، وَجَعَلَ اللهُ بَعْضَ النَّاسِ ابْتِلاءً لِبَعْضٍ ، وَالمُفْسِدُونَ يُحَاوِلُونَ سَدَّ الطَّرِيقِ إِلى الهِدَايةِ وَالحَقِّ ، بَشَتَّى الأًسَالِيب ، فَهَلْ تَصْبِرُونَ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ عَلَى هذا الابتِلاءِ ، وَتَتَمسَّكُونَ بِدِينِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِنَصِرِهِ؟ فَإنّ الله تَعَالَى بَصِيرٌ مُطَّلِعٌ عَلى أًَحْوَالِ العِبَادِ ، وَسَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ .
فإذا كان هناك اعتراض فليس هو اعتراضا على شخصه . إنما هو اعتراض على سنة من سنن الله . سنة مقدرة مقصودة لها غايتها المرسومة: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) . ليعترض من لا يدركون حكمة الله وتدبيره وتقديره . وليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره . ولتمضي الدعوة تغالب وتغلب بوسائل البشر وطرائق البشر . وليثبت من يثبت على هذا الابتلاء:(أتصبرون ?) . . (وكان ربك بصيرا) . بصيرا بالطبائع والقلوب , والمصائر والغايات . ولهذه الإضافة هنا (وكان ربك) إيحاؤها وظلها ونسمتها الرخية على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مقام التأسية والتسلية والإيواء والتقريب . . والله بصير بمداخل القلوب . .
ـــــــــــــ
(1/17)
الرسول بشر مثلنا
قال تعالى :{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) [إبراهيم/10-12]
قَالَ الرُّسُلُ لِهَؤلاءِ المُكَذِّبِينَ ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ شَكَّهُمْ فِي وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ : أَفِي وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ شَكٌّ؟ فَإِنَّ الفِطْرَةَ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِهِ ، وَمَجْبُولَةٌ عَلَى الإِقْرَارِ بِهِ ، لِذَلِكَ كَانَ الاعْتِرَافُ بِهِ ضَرُورِيّاً فِي الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ ، وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِهَا شَكٌّ وَاضْطِرَابٌ فَتَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ المُوصِلْ إَلى وُجُودِ اللهِ ، وَلِذَلِكَ لَفَتَ الرُّسُلُ نَظَرَهُمْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ ، فَقَالُوا لَهُمْ : إِنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمُبْدِعُهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ ، وَهُوَ تَعَالَى يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِرَكُمْ فِي الدُّنْيا إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ ( مُسَمَّى ) . فَقَالَتِ الأُمَمُ لِلرُّسُلِ : كَيْفَ نَتْبَعُكُمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِكُمْ أَنَّكُمْ رُسُلُ اللهِ ، فَأَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا ، وَلَمْ نَرَ مِنْكَ مُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى رِسَالَتِكُمْ ، فَإِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ فَأْتُونَا بِبُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ وَاضِحٍ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُونَ .
فَقَالَتْ لَهُمْ الرُّسُلُ : صَحيحٌ أَنَّنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلَكِنَّ اللهَ يََمنُّ بِفَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ عِبَادِهِ ، فَيُؤْتِيهِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ ، وَلاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكُمْ بِمَا سَأَلْتُمُوهُ مِنَ المُعْجِزَاتِ وَالخَوَارِقِ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَأَمْرِهِ ، فَهُوَ الذِي يَأْتِي بِالمُعْجِزَاتِ ، وَيَأْذَنُ بِهَا ، وَالمُؤْمِنُونَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ ، فَلْنَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ عَلَى كُفْرِكُمْ ، وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّانَا .
وَبَعْدَ أَنْ أَجَابَهُم الأَنْبِيَاءُ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ ، أَخَذَ المُشْرِكُونَ يُخَوِفُونَهُمْ ، وَيَتَوَعَّدُونَهُمْ بِالانْتِقَامِ وَالإِيذَاءِ ، فَقَالَ لَهُمُ الأَنْبِيَاءُ إِنَّنَا لاَ نَخَافُ تَهْدِيدَكُمْ ، بَلْ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ، وَنَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ لاَ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ، وَقَدْ هَدَانَا لأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِهَا وَأَبْيَنِهَا؟ وَسَنَصْبِرُ عَلَى مَا أَلْحَقْتُمُوهُ بِنَا مِنَ الأَذَى بِأَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ ، وَمَنْ تَوَكّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ وَأَغَمَّهُ .
أفي الله شك والسماوات والأرض تنطقان للفطرة بأن الله أبدعهما إبداعا وأنشأهما إنشاء ? قالت رسلهم هذا القول , لأن السماوات والأرض آيتان هائلتان بارزتان , فمجرد الإشارة إليهما يكفي , ويرد الشارد إلى الرشد سريعا , ولم يزيدوا على الإشارة شيئا لأنها وحدها تكفي ; ثم أخذوا يعددون نعم الله على البشر في دعوتهم إلى الإيمان , وفي إمهالهم إلى أجل يتدبرون فيه ويتقون العذاب:
(أفي الله شك فاطر السماوات والأرض . يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) .
والدعوة أصلا دعوة إلى الإيمان , المؤدي إلى المغفرة . ولكن السياق يجعل الدعوة مباشرة للمغفرة , لتتجلى نعمة الله ومنته . وعندئذ يبدو عجيبا أن يدعى قوم إلى المغفرة فيكون هذا تلقيهم للدعوة !
(يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) . . (ويؤخركم إلى أجل مسمى) . .
فهو - سبحانه - مع الدعوة للمغفرة لا يعجلكم بالإيمان فور الدعوة , ولا يأخذكم بالعذاب فور التكذيب . إنما يمن عليكم منة أخرى فيؤخركم إلى أجل مسمى . إما في هذه الدنيا وإما إلى يوم الحساب , ترجعون فيه إلى نفوسكم , وتتدبرون آيات الله وبيان رسلكم . وهي رحمة وسماحة تحسبان في باب النعم . . فهل هذا هو جواب دعوة الله الرحيم المنان ?!
هنا يرجع القوم في جهالتهم إلى ذلك الاعتراض الجهول:
(قالوا:إن أنتم إلا بشر مثلنا , تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا) . .
وبدلا من أن يعتز البشر باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته , فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار , ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين ; ويعللون دعوة رسلهم لهم بأنها رغبة في تحويلهم عما كان يعبد آباؤهم . ولا يسألون أنفسهم:لماذا يرغب الرسل في تحويلهم ?! وبطبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثنيات في العقول لا يفكرون فيما كان يعبد آباؤهم:ما قيمته ? ما حقيقته ? ماذا يساوي في معرض النقد والتفكير ?! وبطبيعة الجمود العقلي كذلك لا يفكرون في الدعوة الجديدة , إنما يطلبون خارقة ترغمهم على التصديق: (فأتونا بسلطان مبين) . .
ويرد الرسل . . لا ينكرون بشريتهم بل يقررونها , ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منة الله في اختيار رسل من البشر , وفي منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى:
(قالت لهم رسلهم:إن نحن إلا بشر مثلكم . ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)
ويذكر السياق لفظ(يمن) تنسيقا للحوار مع جو السورة . جو الحديث عن نعم الله . ومنها هذه المنة على من يشاء من عباده . وهي منة ضخمة لا على أشخاص الرسل وحدهم . ولكن كذلك على البشرية التي تشرف بانتخاب أفراد منها لهذه المهمة العظمى . مهمة الاتصال والتلقي من الملأ الأعلى . وهي منة على البشرية بتذكير الفطرة التي ران عليها الركام لتخرج من الظلمات إلى النور ; ولتتحرك فيها أجهزة الاستقبال والتلقي فتخرج من الموت الراكد إلى الحياة المتفتحة . . ثم هي المنة الكبرى على البشرية بإخراج الناس من الدينونة للعباد إلى الدينونة لله وحده بلا شريك ; واستنقاذ كرامتهم وطاقتهم من الذل والتبدد في الدينونة للعبيد . . الذل الذي يحني هامة إنسان لعبد مثله ! والتبدد الذي يسخر طاقة إنسان لتأليه عبد مثله !
فأما حكاية الإتيان بسلطان مبين , وقوة خارقة , فالرسل يبينون لقومهم أنها من شأن الله . ليفرقوا في مداركهم المبهمة المظلمة بين ذات الله الإلهية , وذواتهم هم البشرية , وليمحصوا صورة التوحيد المطلق الذي لا يلتبس بمشابهة في ذات ولا صفة , وهي المتاهة التي تاهت فيها الوثنيات كما تاهت فيها التصورات الكنسية في المسيحية عندما تلبست بالوثنيات الإغريقية والرومانية والمصرية والهندية . وكانت نقطة البدء في المتاهة هي نسبة الخوارق إلى عيسى - عليه السلام - بذاته واللبس بين ألوهية الله وعبودية عيسى عليه السلام !
(وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله) . .
وما نعتمد على قوة غير قوته:(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) . .
يطلقها الرسل حقيقة دائمة . فعلى الله وحده يتوكل المؤمن , لا يتلفت قلبه إلى سواه , ولا يرجو عونا إلا منه , ولا يرتكن إلا إلى حماه .
ثم يواجهون الطغيان بالإيمان , ويواجهون الأذى بالثبات ; ويسألون للتقرير والتوكيد:(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ? ولنصبرن على ما آذيتمونا , وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . .
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) . .إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه . المالئ يديه من وليه وناصره . المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بد أن ينصر وأن يعين . وماذا يهم حتى ولو لم يتم في الحياة الدنيا نصر إذا كان العبد قد ضمن هداية السبيل ? والقلب الذي يحس أن يد الله - سبحانه - تقود خطاه , وتهديه السبيل , هو قلب موصول بالله لا يخطئ الشعور بوجوده - سبحانه - وألوهيته القاهرة المسيطرة ; وهو شعور لا مجال معه للتردد في المضي في الطريق , أيا كانت العقبات في الطريق , وأيا كانت قوى الطاغوت التي تتربص في هذا الطريق . ومن ثم هذا الربط في رد الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - بين شعورهم بهداية الله لهم وبين توكلهم عليه في مواجهة التهديد السافر من الطواغيت ; ثم إصرارهم على المضي في طريقهم في وجه هذا التهديد
وهذه الحقيقة - حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله وبين بديهية التوكل عليه - لا تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلا في مواجهة طاغوت الجاهلية ; والتي تستشعر في أعماقها يد الله - سبحانه - وهي تفتح لها كوى النور فتبصر الآفاق المشرقة وتستروح أنسام الإيمان والمعرفة , وتحس الأنس والقربى . . وحينئذ لا تحفل بما يتوعدها به طواغيت الأرض ; ولا تملك أن تستجيب للإغراء ولا للتهديد ; وهي تحتقر طواغيت الأرض وما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل . وماذا يخاف القلب الموصول بالله على هذا النحو ? وماذا يخيفه من أولئك العبيد ?!
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) . .(ولنصبرن على ما آذيتمونا) .لنصبرن , لا نتزحزح ولا نضعف ولا نتراجع ولا نهن ; ولا نتزعزع ولا نشك ولا نفرط ولا نحيد . .(وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . .
---------------------
وقال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف/110]
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ ، فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ ، مِنَ المَاضِي ، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَصِ أَهْلِ الكَهْفِ ، وَخَبَرِ ذِي القَرْنَيْنِ ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ وَوَاقِعُ الحَالِ ، وَلَوْ لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ اللهُ رَبِّي لِمَا عَلِمْتُهُ .
وَأَنَا أُخَبِرُكُمْ أَنَّ إِلهَكُمُ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ شَرِيكَ لَهُ . فَمَنْ كَانَ يَرْجُو ثَوَابَ اللهِ ( لِقَاءَ رَبِّهِ ) ، وَجَزَاءَهُ الحَسَنَ فِي الآخِرَةِ ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً خَيِّراً مُوَافِقَاً لِلْشَّرْعِ ، وَلاَ يُرِدْ بِهِ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى .
وَمُوَافَقَةُ العَمَلِ لِلْشَرْعِ ، وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللهِ بِهِ هُمَا الرُّكْنَانِ الأَسَاسِيَّانِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ اللهُ.
بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى . بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب . بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه . بشر يتعلم فيعلم فيعلم . . فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى , فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى , وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) . .
------------------------
وقال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) [المؤمنون/23-25]
لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى نُوحاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى قَوْمِهِ لِيَدْعُوَهُم إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَيُحَذِّرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأْسِهِ الشَّدِيدِ ، وَانْتِقَامِهِ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ ، وخَالَفَ أَمْرَهُ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلَيْسَ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، أَفَلا تَخَافُونَ عِقَابَهُ فَتَحْذَرُوا أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ سِوَاهُ؟
فَقَالَ السَّادَةُ الكُبَرَاءُ مِنْ قَوْمِهِ ( الملأُ ) : لَيْسَ نُوحٌ إِلاَ بَشَراً مِثْلَكُمْ وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَتَرَفَّعُ عَلَيْكُمْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ أُوْحِيَ إِلَيْهِ مِنْ دُونِكُمْ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ يَفْضُلكُمْ بِشيء؟ وَلَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ نَبِيَّاً لَبَعَثَ مَلَكاً مِنْ عِنْدَهِ لاَ بَشَراً ، وَنَحْنُ لَمْ يَأتِنا عَنْ أَسْلاَفِنَا وآبَائِنا الأَوَّلينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ رُسُلاً مِنَ البَشَرِ ، ولاَ سَمِعْنَا بِمِثْلِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ نُوحٌ مِنْ عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ .
وَهُوَ رَجُلٌ بِهِ جُنُونٌ ( جِنَّةٌ ) ، فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنْ أَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم ، وَاخْتَصَّهُ بِالوَحْيِ مِنْ بَيْنِكُمْ ، فَانْتَظِرُوا حَتَّى يُوَافِيَهُ أَجَلُهُ ، وَاصْبِروا عَلَيْهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَتَرْتَاحُوا مِنْهُ .
( وَقِيلَ بَلِ المَعْنَى هُوَ : اصْبِروا عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يَضِيقُ بِمَا هُوَ فِيهِ فَيَرْجِعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلى دِينِ الآباءِ والأَجْدَادِ ) .
{ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . . كلمة الحق التي لا تتبدل ، يقوم عليها الوجود ، ويشهد بها كل ما في الوجود { أفلا تتقون؟ } وتخافون عاقبة الإنكار للحقيقة الأولى التي تقوم عليها الحقائق جميعاً؟ وتستشعرون ما في إنكارها من تجن على الحق الباهر ، وما يعقب التجني من استحقاق للعذاب الأليم؟
ولكن كبراء قومه من الكفار لا يناقشون هذه الكلمة؛ ولا يتدبرون شواهدها ، ولا يستطيعون التخلص من النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم ، ولا يرتفعون إلى الأفق الطليق الذي ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الأشخاص والذوات . . فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود ، ويشهد به كل ما في الوجود ، ليتحدثوا عن شخص نوح:{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم } !
من هذه الزاوية الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة ، فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها ولا ليروا حقيقتها؛ وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها ، وتعمي عليهم عنصرها ، وتقف حائلاً بين قلوبهم وبينها؛ فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم لا يفترق في شيء عنهم ، يريد أن يتفضل عليهم ، وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم!
وهم في اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون انه يعمل لها ، ويتوسل إليها بدعوى الرسالة . . في اندفاعهم هذا الصغير لا يردون فضل نوح وحده ، بل يردون فضل الإنسانية التي هم منها؛ ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس؛ ويستكثرون أن يرسل الله رسولاً من البشر ، إن يكن لا بد مرسلاً : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } ..
ذلك أنهم لا يجدون في أرواحهم تلك النفحة العلوية التي تصل البشر بالملأ الأعلى؛ وتجعل المختارين من البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه ، ويحملونه إلى إخوانهم من البشر ، فيهدونهم إلى مصدره الوضيء .
وهم يحيلون الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر : { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } . .
ومثل هذا يقع دائماً عندما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب . فلا يتدبر الناس ما هو بين أيديهم من القضايا ، ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها . إنما هم يبحثون في ركام الماضي عن « سابقة » يستندون إليها؛ فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها!
وعند هذه الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن ان يكون ثانية . فأما الذي لم يكن فإنه لا يمكن أن يكون! وهكذا تجمد الحياة ، وتقف حركتها ، وتتسمر خطاها ، عند جيل معين من { آبائنا الأولين } !
ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون ، إنما هم يتهمون دعاة التحرر والانطلاق بالجنون . وهم يدعونهم إلى التدبر والتفكر ، والتخلية بين قلوبهم ودلائل الإيمان الناطقة في الوجود . فإذا هم يتلقون هذه الدعوة بالتبجح والاتهام : { إن هو إلا رجل به جنة ، فتربصوا به حتى حين } . .
أي إلى أن يأخذه الموت ، ويريحكم منه ، ومن دعوته ، ومن إلحاحه عليكم بالقول الجديد!
--------------------------
وقال تعالى :{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) [المؤمنون/31-38]
ثُمَّ أَوْجَدَ اللهُ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أَقْوَاماً آخَرِينَ ( قَرْناً ) ، يَخْلفُونَهم فِي الأَرْضِ - وَقِيلَ إِنَّهُمْ قَوْمُ عَادٍ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُم - وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ مَا قَالَهُ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمِ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يُحَذِّرُهم وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ . } قَرْناً آخَرِينَ - أُمَماً آخَرِينَ . أُمَماً أُخْرَى وَهُمْ عَادٌ الأُولى قَوْمُ هُودٍ .
وَإِنَّهُ تَعَالَى أًرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُم ، هُوَ هُودٌ عَلَيْه السلامُ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْم اعْبُدُوا اللهَ ، وأَطِيعُوهُ ، دُونَ الأَوْثَانِ والأَصْنَامِ ، فَإِنَّ العِبَادَةَ لاَ تَنْبَغِي إِلاَ للهِ وحْدَهُ ، أَفَلاَ تَخَافُونَ عِقَابَهُ أَنْ يَحِلّ بِكُمْ إِذَا عَبَدْتُمُ الأَصْنَامَ ، وَتَرَكْتُمْ عِبَادَتهُ وَحْدَهُ بِلاَ شَرِيكٍ .
وَقَالَ الكُبَرَاءُ المُتْرَفُونَ مِنَ قَوْمِ هَذَا النَّبِيِّ ، وَهُمُ الذِينَ كَفُرُوا بِرَبِّهِم ، وَكَذَّبُوا بِيَوْمِ القِيَامَةٍ ، لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ : إِنَّ هَذَا المُدَّعِيَ بِأَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم رَسُولاً ، إِنْ هُوَ إِلاَّ بَشَرٌ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ كَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بشَرٌ رَسُولاً مِنَ اللهِ؟
وإِنَّكُمْ إِذَا آ مَنْتُم لِبَشَرٍ مِثلِكُمْ ، وَصَدَّقْتُم بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ ، وَعَبَدْتُم الإِلَهَ الذي يَدْعُوكُم لِعِبَادَتِهِ . . فَإِنَّكُم تَكُونَونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ، لأَنَّكُم لَنْ تَنْتَفِعُوا بِطَاعَتِهِ .
ثُمَّ قَالَ الكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ سَاخِرِينَ : أَيَعِدُكُمْ هَذَا المُدَّعِي أَنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِظَامُكُم وأَجْسَادُكُمْ قَدْ بَلِيَتْ وَأَصْبَحَتْ تُرَاباً ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ .
إِنَّ مَا يَعِدُكُمْ بِهِ مِنْ بَعْثٍ وَحَشْرٍ وَنَشْرٍ ، بَعِيدٌ جِدّاً وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ .
فَهِيَ حَيَاةٌ نَعِيشُها فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَمُوتُ بَعْدَهَا ، وَتَأْتِي بَعْدَنا أجْيَالٌ أُخْرَى لِلْحِيَاةِ ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ وَبالمَوْتِ يَنْتَهِي كُلُّ شَيءٍ ، فَلاَ بَعْثَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلاَ نُشُورَ وَلاَ حسَابَ .
{ ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } . . لم يحدد من هم . وهم على الأرجح عاد قوم هود . .
{ فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون؟ } . . ذات الكلمة الواحدة التي قالها من قبله نوح . يحكيها بالألفاظ ذاتها ، مع اختلاف اللغات التي كانت تتخاطب بها القرون!
فماذا كان الجواب؟
إنه الجواب ذاته على وجه التقريب : { وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الآخرة ، وأترفناهم في الحياة الدنيا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون . ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون } . .
فالاعتراض المكرور هو الاعتراض على بشرية الرسول . وهو الأعتراض الناشئ من انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكبراء المترفين ، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم .
والترف يفسد الفطرة ، ويغلظ المشاعر ، ويسد المنافذ ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب . ومن هنا يحارب الإسلام الترف؛ ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة ، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله ، حتى لينخر فيه السوس ، ويسبح فيه الدود!
ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب .
{
(1/18)
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت ونحيا ، وما نحن بمبعوثين } . .ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة . هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض . فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا .والشر كذلك . إنما يستكملان هذا الجزاء هنالك ، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا تحول فيها ولا زوال - إلا أن يشاء الله - ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجاراً ، أو كالأحجار!
مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى التي سبقت في السورة على أطوارها الأخيرة؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون . . لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد . يموت جيل ويحيا بعده جيل . فأما الذين ماتوا ، وصاروا تراباً وعظاماً ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب! وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به ، وقد صاروا عظاماً ورفاتاً!
ثم إنهم لا يقفون عند هذه الجهالة ، والغفلة عن تدبر حكمة الحياة التي تكشف عنها أطوارها الأولى . . لا يقفون عند هذه الجهالة ، إنما هم يتهمون رسولهم بالافتراء على الله . ولا يعرفون الله إلا في هذه اللحظة ، ولهذا الغرض من اتهام الرسول :{ إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً ، وما نحن له بمؤمنين } . .
----------------------
وقال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) [فصلت/6-8]
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِكَ : وَلَسْتُ مَلَكاً ، وَقَدْ اخْتَارَنِي اللهُ تَعَالَى لِيُوحِيَ إِلَيَّ رِسَالَتَهُ إِلَيكُمْ وَهُوَ يُوحِي إِلَيَّ أَنَمَا إلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِله إِلاَّ هُوَ ، وَهُوَ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ ، وَأَنَّ الأَصْنَامَ والأَوْثَانَ والحِجَارَةَ التِي تَعْبُدُونَهَا لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا وَلاَ لِعَابِديهَا ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً . فَآمِنُوا بِاللهِ واَسْتَغْفِرُوهُ عَمَّا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ ذُنُوبٍ وَمَعَاصٍ ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العِبَادَةَ كَمَا أَمَرَكُمْ . والوَيْلُ وَالهَلاَكُ والخَسَارُ لِمَنْ أَشْرَكَ مَعَ رَبِّهِ فِي العِبَادَةِ سِوَاهُ .
وَالوَيْلُ والخَسَارُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِرَبِّهِ ، وَلَمْ يَدْفَعْ زَكَاةَ مَالِهِ لِمُوَاسَاةِ الفَقِيرِ وَالْمُحْتَاجِ واليَتَيِمِ ، وَكَفَرَ بِالْبَعْثِ وَالمَعَادِ والحِسَابِ .
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ مَنْعَ أدَاءِ الزَّكَاةِ مَقْرُوناً بِالشِّرْكِ ، لأَنَّ بَذْلَ المَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقَامَةِ الإِنْسَانِ ، وَصِدْقِهِ فِي إِيْمَانِهِ .
يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال ، والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف ، واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار ، دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين . . إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة ، ومن عظمة في احتمال هذه المشقة ، إلا من يكابد طرفاً من هذا الموقف في واقع الحياة . ثم يمضي في الطريق!
ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل . فطريق الدعوة هو طريق الصبر . الصبر الطويل . وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة ، ثم إبطاء النصر . بل إبطاء أماراته . ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول!
إن أقصى ما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول : { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون } . .
وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة ، لم نقف عليها ، فهذه الآية مكية . والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة .
وإن كان أصل الزكاة كان معروفاً في مكة . والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال ، وتحصيلها كفريضة معينة . أما في مكة فقد كانت أمراً عاماً يتطوع به المتطوعون ، غير محدود ، وأداؤه موكول إلى الضمير . . أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور .
ـــــــــــــ
(1/19)
الرسل مؤيدون بالبينات
قال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) [الروم/47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ، يَا مُحَمَّدُ ، قَبْلَكَ رُسُلاً إِلى أَقْومِهِمْ بالدَّلاَئلِ الوَاضِحَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ رُسُلُ اللهِ ، وأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ إِليهمْ لدَعْوَتِهِمْ إِلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ لا شَريكَ لهُ ، فَكَذَّبَتِ الأَقْوامُ رُسُلَها ، فانتَقَمْنا مِنَ الكَافِرينَ الذينَ اجْتَرَحُوا السِّيِّئاتِ ، وَنجَّينا الذينَ آمنُوا باللهِ ، واسْتَجَابُوا لدَعْوةِ رُسُلِهِ وقدْ أَوْجَبنا عَلَى أَنْفُسِنا نَصرَ المُؤْمِنينَ ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ ، فَلاَ تَبْتَئِسْ يَا مُحَمَّدُ لما تَرَاهُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ ، وَمِنْ إِيذَائِهِمْ إِيَّاكَ ، فَسَنَنْصُرُكَ عَليهِمْ .
ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه وهي أجل وأعظم استقبالهم للرياح المبشرات . ولا انتفعوا بها وهي أنفع وأدوم انتفاعهم بالمطر والماء! ووقفوا تجاه الرسل فريقين : مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله . ومؤمنين يدركون آيات الله ، ويشكرون رحمته ، ويثقون بوعده ، ويحتملون من المجرمين ما يحتملون . . ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق .
{ فانتقمنا من الذين أجرموا . وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } . .وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين؛ وجعله لهم حقاً ، فضلاً وكرماً . وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكاً ولا ريباً . وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر ، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير . يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد ، وسنته التي لا تتخلف ، وناموسه الذي يحكم الوجود .
وقد يبطئ هذا النصر أحياناً في تقدير البشر لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله ، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله . والله هو الحكيم الخبير . يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه ، وفق مشيئته وسنته . وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف . ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح . ووعده القاطع واقع عن يقين ، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين .
-----------------
وقال تعالى :{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) [الأعراف/101-102]
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُ قَصَّ عَلَيهِ أَخبَارَ القُرى البَائِدَةِ التِي كَذَّبَ أَهْلُها الرُّسُلَ حِينَمَا جَاؤُوهُمْ بِالبَيِّنَاتِ ، وَالحُجَجَ الدَّالَةِ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِمْ ، وَلكِنَّ هَؤُلاءِ الأَقْوَامَ لَمْ يُؤْمِنُوا حِينَمَا جَاءَهُمُ الرُّسُلُ بِمَا سَأَلُوهُ مِنَ البَرَاهِينِ وَالحُجَجِ ، لأنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ المُكَذِّبِينَ عِنَاداً وَاسْتِكْبَاراً أَوْ تَقْلِيداً ، أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الحَقِّ ، وَيُؤْمِنُوا بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ ، بَعْدَ أَنْ سَبَقَ لَهُمُ التَّكْذِيبُ بِهَا ، حِينَمَا جَاءَتْهُمُ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهَكَذَا يَطْبَعُ اللهُ وَيَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرينَ فَلا تَتَفَتَّحُ لِلإِيمَانِ .
وَلَمْ يَثْبُتَ أَكْثَرُ هؤُلاَءِ الأَقْوَامِ عَلَى عَهْدِ الفِطْرَةِ ، الذِي أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ ، وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ ، بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَعْبُدُوهُ ، فَخَالَفُوا هَذا العَهْدَ ، وَتَرَكُوهُ وَرَاءَهُمْ ظِهْرِيّاً ، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى بِلاَ دَليلٍ وَلاَ حُجَّةٍ ، وَلا بُرْهَانٍ ، فَكَانُوا مِنَ الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، وَعَنْ عَهْدِ الفِطْرَةِ .
فهو قصص من عند الله ، ما كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - به من علم ، إنما هو وحي الله وتعليمه .
{ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } . .فلم تنفعهم البينات . وظلوا يكذبون بعدها ، كما كذبوا قبلها . ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه . فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان . وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا . إنما كان ينقصهم القلب المفتوح ، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى . كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب . فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها . فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر , الذي ورد ذكره في أواخر السورة: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم:ألست بربكم ? قالوا:بلى شهدنا) . .
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل . ثم انحرفت الخلائف . كما يقع في كل جاهلية . إذ تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان , وترتد الى الجاهلية .
وأياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به , ويثبتون عليه . إنما هو الهوى المتقلب , والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم .
(وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) . .
منحرفين عن دين الله وعهده القديم . . وهذه ثمرة التقلب , ونقض العهد , واتباع الهوى . . ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله , مستقيماً على طريقته , مسترشداً بهداه . فلا بد أن تتفرق به السبل , ولا بد أن ينحرف , ولا بد أن يفسق . . وكذلك كان أهل تلك القرى . وكذلك انتهى بهم المطاف . .
----------------
وقال تعالى :{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) [التوبة/70]
يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظاً الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ المُكَذِّبِينَ : أَلَمْ تَصِلْهُمْ أَخْبَارُ َمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ الذِّينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ : قَوْمِ نُوحِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الغَرَقِ ، وَقَوْمِ عَادٍ وَكَيْفَ أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ العَقِيمِ ، وَقَوْمِ ثَمُودَ كَيْفَ أَخَذَتْهُمُ الصَّحْيَةُ ، وَقُوْمِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ قَومِ شُعَيبٍ ، وَكَيْفَ أَصَابَتْهُمْ الرَّجْفَةُ ، وَعَذَابَ يَوْمِ الظُّلَّةِ ، وَقَوْمِ لُوطٍ أَصْحَابِ المُؤْتَفِكَاتِ . . أَهَلَكَهُمُ اللهُ بِأَنْ جَعَلَ عَالِيَ دِيَارِهِمْ سَافِلَهَا .
وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الأَقْوَامَ رُسُلُهُمْ بِالحَقِّ الوَاضِحِ مِنَ اللهِ ( البَيِّنَاتِ ) ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ، فَدَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَظْلِمهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ العَذَابِ ، وَإِنَّمَا جَازَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ جَزَاءً وِفَاقاً ، وَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ .
هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين ، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون . . هؤلاء { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } ممن ساروا في نفس الطريق؟ { قوم نوح } وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب { وعاد } وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية { وثمود } وقد أخذتهم الصيحة { وقوم إبراهيم } وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم { وأصحاب مدين } وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة { والمؤتفكات } قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين . . ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين { أتتهم رسلهم بالبينات } فكذبوا بها ، فأخذهم الله بذنوبهم :
{ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ؟
إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر ، وتعميها النعمة فلا تنظر . وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف ، ولا تتوقف ، ولا تحابي أحداً من الناس . وإن كثيراً ممن يبتليهم الله بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة ، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم ، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين . عندئذ تحق عليهم كلمة الله ، وعندئذ تجري فيهم سنة الله ، وعندئذ يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر . وهم في نعمائهم يتقلبون ، وبقوتهم يتخايلون . والله من ورائهم محيط .
إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء ، نراها في كل زمان وفي كل مكان . إلا من رحم الله من عباده المخلصين .
-----------------
وقال تعالى :{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) [يونس/13، 14]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ مَكَّةَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ العَذَابِ فِي الأَقْوَامِ السَّابِقَةِ ( القُرُونِ ) الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنَ البَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ لأَنَّهُمْ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا لَوْ تَرَكَهُمُ اللهُ ، فَاعْتَبِرُوا يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ ، فَكَمَا أَهْلَكَ اللهُ مَنْ قَبْلَكُمْ ، كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللهُ بِالمُجْرِمِينَ مِنْكُمْ .
ثُمَّ اسْتَخْلَفَكُمْ اللهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ ، بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَ السَّابِقِينَ ، وَذَلِكَ بِمَا آتَاكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ ، فِي الدِّينِ وَالدُّنْيا ، لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَكُونُ أَعْمَالُكُمْ فِي خِلاَفَتِكُمْ ، وَيَظْهَرُ مَا تَخْتَارُونَهُ لأَنْفُسِكُمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ عِصْيَانٍ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ مَا حَلَّ بِمَنْ سَبَقَكُمْ .
وَقَالَ قُتَادَةُ : صَدَقَ اللهُ رَبُّنا ، مَا جَعَلَنَا خُلَفَاءَ إِلاَّ لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْمَالِنَا ، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خَيْراً بِالليْلِ أَو النَّهَارِ . وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الخِلاَفَةَ مَنُوطَةٌ بِالأَعْمَالِ لِكَيْلا يَغْتَرَّ النَّاسُ بِمَا سَيَنَالُونَهُ ، وَيَظُنُّوا أَنَّهُ بَاقٍ لَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ بِمَنْجَاةٍ مِنْ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي الظَّالِمِينَ .
لقد انتهى بهم الإسراف وتجاوز الحد والظلم - وهو الشرك - إلى الهلاك . وهذه مصارعهم كانوا يرون بقيتها في الجزيرة العربية في مساكن عاد وثمود وقرى قوم لوط . .
وتلك القرون . جاءتهم رسلهم بالبينات كما جاءكم رسولكم :{ وما كانوا ليؤمنوا } . .لأنهم لم يسلكوا طريق الإيمان ، وسلكوا طريق الطغيان فأبعدوا فيها ، فلم يعودوا مهيئين للإيمان . فلقوا جزاء المجرمين . .{ كذلك نجزي القوم المجرمين } . . وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين ، الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا ، فحق عليهم العذاب ، يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين ، وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } . .
وهي لمسة قوية للقلب البشري؛ إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل ، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه ، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك ، وإنما هي أيام يقضيها فيه ، ممتحناً بما يكون منه ، مبتلى بهذا الملك ، محاسباً على ما يكسب ، بعد بقاء فيه قليل!
إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري .. فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع . . يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى ، هي صمام الأمن له ، وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه .
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض ، وبكل شيء يملكه ، وبكل متاع يتاح له ، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة؛ ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا ، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه .وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به ، والتي يصورها قول الله سبحانه : { لننظر كيف تعملون } . .ليجعله شديد التوقي ، شديد الحذر ، شديد الرغبة في الإحسان ، وفي النجاة أيضاً من هذا الامتحان!
وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية؛ والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها! . .
فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش بتلك التصورات القاصرة . . لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة ، ولا في خلق ، ولا في حركة؛ كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان!
والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان . ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي؛ وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة . وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة ، ولا بمنتجات هذه الحياة أيضاً!
والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية ، والنظام الإسلامي ، بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر ، لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان!
ـــــــــــــ
(1/20)
ليس كل الرسل قص الله أخبارهم
قال تعالى :{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) [غافر/78]
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ قَبْلَهُ رُسُلاً إِلَى أَقْوَامِهِمْ ، مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ اللهُ لَهُ أَخْبَارَهُمْ فِي القُرْآنِ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصِ اللهُ أَخْبَارَهُمْ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
( وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ كُمْ عَدَدُ الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ مِئَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً ، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلاَثُمِئَةٍ وَخَمْسَةََ عَشَرَ جَمّاً غَفِيراً " ) . ( رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ) .
وَلَمْ يَكُنْ لأِحَدٍ مِنَ الرًّسُلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِمُعْجِزَةٍ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ بِذَلِكَ ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمُ بِهِ . فَإِذَا نَزَلَ عَذَابُ اللهِ وَنَكَالُهُ بِالمُكَذِّبِينَ قُضِيَ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ . فَيُنَجِّي اللهُ رُسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ ، وَيُهْلِكُ الكَافِرِينَ الذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللهِ كَذِباً .
إن لهذا الأمر سوابق كثيرة ، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب ، وبعضها لم يقصصه . وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم؛ وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف؛ وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح .
وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس ، وتتكئ عليها لتقررها تقريراً شديداً :{ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } . .
فالنفس البشرية ولو كانت نفس رسول تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعاً . فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة . ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق؛ ويروضوا أنفسهم عليه؛ فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء ، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد .لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله .
ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم ، اختارهم الله ، وحدد لهم وظيفتهم ، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة . .
كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات . وإذن فهي مهلة ، وهي من الله رحمة :{ فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون } . .ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير .
ـــــــــــــ
(1/21)
تكفل الله تعالى بنجاة الرسل وأتباعهم
قال تعالى :{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) [يونس/101-103]
يُرْشِدُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ التِي لاَ تُحْصَى ، وَالتِي يَعْقِلُهَا ذَوُو الأَلْبَابِ ، وَكُلُّها تَدُلُّ عَلَى أُلُوهِيَّةِ اللهِ ، وَوُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ . وَلَكِنَّ مَا هِيَ فَائِدَةُ الرُّسُلِ وَالآيَاتِ وَالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ لِقَوْمٍ جِاحِدِينَ ، لاَ يُتَوَّقَعُ إِيمَانُهُمْ ، لأَنَّهُمْ لَنْ يُوَجِّهُوا أَنْظَارَهُمْ إِلَى الاعْتِبَارِ بِالآيَاتِ ، وَالاسْتِدْلاَلِ بِهَا عَلَى مَا تَدِلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ ( وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ ) .
فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلاَّ أَنْ يَنَالَهُمْ مِنَ الأَيَّامِ الشِّدَادِ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَسْلاَفَهُمُ المَاضِينَ ، الذِينَ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ ، وَالتَّكْذِيبِ لِرُسُلِهِمْ ، فَقُلْ لَهُمْ : إِنْ كُنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ فَانْتَظِرُوا ، فَإِنِّي أَنْتَظِرُ أَنْ يُهْلِكَكُمُ اللهُ بِالعُقُوبَةِ لأَنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِلْمُرْسَلِينَ .
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالذِينَ آمَنُوا ، وَنُهْلِكَ المُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ . وَإِنْجَاءُ الرُّسُلِ وَالمُؤْمِنِينَ مِنَ العَذَابِ وَالهَلاَكِ ، الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ بِالكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ ، حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّتُهُ .
إن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة ، لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل . ولكن الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها مراراً ، هي أن بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية! وأن هذه الفطرة تسمع لهذا الكون - حين تتفتح وتستيقظ - وتسمع منه الكثير!
والمنهج القرآني في تكوين التصور الإسلامي في الإدراك البشري يتكئ على ما في السماوات والأرض ، ويستلهم هذا الكون؛ ويوجه إليه النظر والسمع والقلب والعقل .
. وذلك دون أن يخل بطبيعة التناسق والتوازن فيه؛ ودون أن يجعل من هذا الكون إلهاً يؤثر في الإنسان أثر الله! كما يجدف بذلك الماديون المطموسون ، ويسمون ذلك التجديف مذهباً « علمياً » يقيمون عليه نظاماً اجتماعياً يسمونه : « الاشتراكية العلمية » والعلم الصحيح من ذلك التجديف كله بريء!
والنظر إلى ما في السماوات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات؛ وزاد من الاستجابات والتأثرات؛ وزاد من سعة الشعور بالوجود؛ وزاد من التعاطف مع هذا الوجود . . وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله ، وبجلال الله ، وبتدبير الله ، وبسلطان الله ، وبحكمة الله ، وعلم الله . . .
ويمضي الزمن ، وتنمو معارف الإنسان العلمية عن هذا الكون ، فإن كان هذا الإنسان مهتدياً بنور الله إلى جوار هذه المعارف العلمية ، زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية من التأمل في هذا الكون ، والأنس به ، والتعرف عليه ، والتجاوب معه ، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه بالله . . وأَما إن كانت هذه المعارف العلمية غير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره ، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة ، حين تقودهم إلى مزيد من البعد عن الله؛ والحرمان من بشاشة الإيمان ونوره ورفرفته وريّاه!
{ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } !
وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب ، وتجمدت العقول ، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة؛ واحتجب الكائن الإنساني بجملته عن هذا الوجود ، فلم يسمع إيقاعات حمده وتسبيحه؟!
« إن المنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية يجعل الكون والحياة معرضاً رائعاً تتجلى فيه هذه الحقيقة . . تتجلى فيه بآثارها الفاعلة ، وتملأ بوجودها وحضورها جوانب الكينونة الإنسانية المدركة . . إن هذا المنهج لا يجعل » وجود الله « سبحانه قضية يجادل عنها . فالوجود الإلهي يفعم القلب البشري - من خلال الرؤية القرآنية والمشاهدة الواقعية على السواء - بحيث لا يبقى هنالك مجال للجدل حوله . إنما يتجه المنهج القرآني مباشرة إلى الحديث عن آثار هذا الوجود في الكون كله؛ وإلى الحديث عن مقتضياته كذلك في الضمير البشري والحياة البشرية .
» والمنهج القرآني في اتباعه لهذه الخطة إنما يعتمد على حقيقة أساسية في التكوين البشري . فالله هو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين ، وإلى الاعتقاد بإله .
بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد ، وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد . ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي إنشاء هذا الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه ، فهذا مركوز في الفطرة . ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه ، وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره . تعريفه بحقيقته وصفاته ، لا تعريفه بوجوده وإثباته . ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته - وهي الربوبية والقوامة والحاكمية - والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية ، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها . وهذا التعطل لا يعالج - إذن - بالجدل . وليس هذا هو طريق العلاج!
« إن هذا الكون ، كون مؤمن مسلم ، يعرف بارئه ويخضع له ، ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي - عدا بعض الأناسي! - و » الإنسان « يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته بأصداء الإيمان والإسلام ، وأصداء التسبيح والسجود . وذرات كيانه ذاته وخلاياه تشارك في هذه الأصداء؛ وتخضع في حركتها الطبيعية الفطرية للنواميس التي قدرها الله . فالكائن الذي لا تستشعر فطرته هذه الأصداء كلها؛ ولا تحس إيقاع النواميس الإلهية فيها هي ذاتها ، ولا تلتقط أجهزته الفطرية تلك الموجات الكونية ، كائن معطلة فيه أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . ومن ثم لا يكون هنالك سبيل إلى قلبه وعقله بالجدل ، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه ، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه ، لعلها تتحرك ، وتأخذ في العمل من جديد »
ولفت الحس والقلب والعقل للنظر إلى ما في السماوات والأرض ، وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الإنساني؛ لعله ينبض ويتحرك ، ويتلقى ويستجيب .
ولكن أولئك المكذبين من الجاهليين العرب - وأمثالهم - لا يتدبرون ولا يستجيبون . . فماذا ينتظرون؟
إن سنة الله لا تتخلف ، وعاقبة المكذبين معروفة ، وليس لهم أن يتوقعوا من سنة الله أن تتخلف . وقد يُنظرهم الله فلا يأخذهم بعذاب الاستئصال ، ولكن الذين يصرون على التكذيب لا بد لهم من النكال : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ } . . { قل : فانتظروا إني معكم من المنتظرين } . . وهو التهديد الذي ينهي الجدل ، ولكنه يخلع القلوب .
ويختم هذا المقطع من السياق بالنتيجة الأخيرة لكل رسالة ولكل تكذيب ، وبالعبرة الأخيرة من ذلك القصص وذلك التعقيب : { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا . كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين } . .
إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه : أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر ، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب . .
هكذا كان - والقصص المروي في السورة شاهد - وهكذا يكون . . فليطمئن المؤمنون . . .
--------------
وقال تعالى { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) [الصافات/171-173]
وَلَقَدْ سَبَقَ وَعْدُ اللهِ فِي الكِتَابِ الأَوَّلِ أَنَّ العَاقِبَةَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِم المُخْلِصِينَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ . وَأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُمْ وَيُؤَزِّرُهُمْ وَيُذِلُّ أَعْدَاءَهُمْ وَأَعْدَاءَ اللهِ .
وَإِنَّ جُنْدَ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا ، سَتَكُونَ لَهُمْ الغَلَبَةُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي الحَرْبِ .
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها .وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وهي إن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء . ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . . ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام .
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم .
لقد سبقت كلمة الله ، ومضت إرادته بوعده ، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد
---------------
وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) [غافر/51-52]
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى ، إِنَّهُ سَيَجْعَلُ رُسلَهُ هُمُ الغَالِبِينَ لأَعْدَائِهِمْ وَمُعَانِدِيهِمْ ، وَإِنَّهُ سَيَنْصُرُ مَعَهُمُ المُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ يَكُونُ بالطُّرُقِ التَّالِيةِ :
- إِمَّا بِجَعْلِهِمْ غَالِبِينَ عَلَى مَنْ كَذَّبَهم ، كَمَا فَعَلَ بِدَاوُدَ وَسُلَيمَانَ وَمُحَمَّدٍ ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ .
- وإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ عَادَاهُمْ وَآذَاهُمْ ، وَإِهْلاَكِهِ إِيَّاهُمْ ، وَإِنْجَائِهِ الرُّسُلَ والمُؤْمِنِينَ ، كَمَا فَعَلَ بِنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَمُوسَى وَلُوطٍ .
- وَإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ آذَى الرُّسُلَ بَعْدَ وَفَاةِ الأَنْبِيَاء والرُّسُلِ ، بِتَسْلِيطِ بَعْضِ خَلْقِ اللهِ عَلَى المُكَذِّبِينَ المُجْرِمِينَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُمْ ، كَمَا فَعَلَ مَعَ زَكَرِيا وَيَحْيَى ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ .
وَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ رَسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، كَذَلِكَ يَنْصُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ اليومُ الذِي يَقُومُ فِيهِ الأشْهَادُ مِنَ المَلاَئِكَةِ والأَنْبِيَاءِ والمُؤْمِنِينَ ، بالشَّهَادَةِ عَلَى الأُمَم المُكَذِّبَةِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ .
وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ العِبَادِ يُؤَدُّونَ شَهَادَاتِهِمْ ، فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لاَ يَنْفَعُ أَهْلَ الشِّرْكِ اعْتِذَارُهُمْ لأَنَّ أَعْذَارَهُمْ بَاطِلَةٌ ، مَرْدُودَةٌ ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ اللَّعْنَةُ والطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، وَلَهُمْ سُوءُ العَاقِبَةِ والقَرَار فِي جَهَنَّمَ ، وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَأْوَى .
فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية . ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة . وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان .
إن وعد الله قاطع جازم : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا . . } . . بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد . . فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل!
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور . ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير .
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان . ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها . وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم . ولكن صور النصر شتى .وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة . . إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها . . أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار . كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة . وهما في الظاهر بعيد من بعيد . فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! . . والحسين رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة . فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً . فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف ، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه . يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين . من المسلمين . وكثير من غير المسلمين!
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده . وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد . وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال . .
ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور . ومن القيم . قبل أن نسأل : أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!
على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة . ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة . لقد انتصر محمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته . لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض . فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً . من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة . فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة . ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية . وفق تقدير الله وترتيبه .وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك . إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا . ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها . وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها . وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله . وإن هنالك لأشكالاً من الشرك خفية؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده ، ويتوكل عليه وحده ، ويطمئن إلى قضاء الله فيه ، وقدره عليه ، ويحسن أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله .
ـــــــــــــ
(1/22)
الرسل يسألون يوم القيامة عن أقوامهم
قال تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) [المائدة/109]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ سَيَسْألُ المُرْسَلِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا أجَابَتْهُمْ بِهِ الأمَمُ التِي أرْسَلَهُمُ اللهُ إِلَيْهَا فَيَقُولُونَ : لاَ عِلْمَ لَنَا يَارَبَّنا بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِكَ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيءٍ ، وَأنْتَ تَعْلَمُ ظَاهِرَ النَّاسِ وَبَاطِنَهُمْ ، وَأنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ .
يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره؛ وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته؛ وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه . . يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام؛ حتى جاء خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان .
هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام ، في شتى الأمكنة والأزمان . . ها هو ذا مرسلهم فرادى ، يجمعهم جميعاً؛ ويجمع فيهم شتى الاستجابات ، وشتى الاتجاهات . وها هم أولاء . . نقباء البشرية في حياتها الدنيا؛ ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها ، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها . هؤلاء هم أمام الله . . رب البشرية - سبحانه - في مشهد يوم عظيم .وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة : { يوم يجمع الله الرسل . فيقول : ماذا أجبتم؟ } .
{ ماذا أجبتم؟ } . . فاليوم تجمع الحصيلة ، ويضم الشتات ، ويقدم الرسل حساب الرسالات ، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد .
{ ماذا أجبتم؟ } . . والرسل بشر من البشر؛ لهم علم ما حضر ، وليس لديهم علم ما استتر .
لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى؛ فاستجاب منهم من استجاب ، وتولى منهم من تولى . . وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى . فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده . . وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف؛ والذي يهابونه أشد من يهاب؛ والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير ..
إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم ، على مشهد من الملأ الأعلى ، وعلى مشهد من الناس أجمعين . الاستجواب الذي يراد به المواجهة . . مواجهة البشرية برسلها؛ ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم . ليعلن في موقف الإعلان ، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه - سبحانه - عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون .
أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم ، تأدباً وحياء ، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله :
فأما سائر الرسل - غير عيسى عليه السلام - فقد صدق بهم من صدق ، وقد كفر بهم من كفر؛ ولقد انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل ، الذي يدع العلم كله لله ، ويدع الأمر كله بين يديه . سبحانه . . فما يزيد السياق شيئاً في هذا المشهد عنهم . . إنما يلتفت بالخطاب إلى عيسى بن مريم وحده ، لأن عيسى بن مريم هو الذي فتن قومه فيه ، وهو الذي غام الجو حوله بالشبهات ، وهو الذي خاض ناس في الأوهام والأساطير حول ذاته ، وحول صفاته ، وحول نشأته ومنتهاه .
ـــــــــــــ
(1/23)
الفائدة من ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم
قال تعالى : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) [هود/120]
كُلُّ مَا قَصَصْنَاهُ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ المُتَقَدِّمِينَ ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أَقْوَامِهِمْ ، وَمَا احْتَمَلَهُ كُلُّ نَبِيٍّ مِنَ الأَذَى وَالتَّكْذِيبِ ، وَكَيْفَ نَصَرَ اللهُ حِزْبَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُ مِنَ الكَافِرِينَ . . . إِنَّمَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ، وَنُقَوِّيَ عَزْيمَتَكَ ، وَلِتَتَأَسَّى بِإِخْوَانِكَ المُرْسَلِينَ .
وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، المُشْتَمِلَةِ عَلَى قَصَصِ الأَنْبِيَاءِ ، وَتَفَاصِيلِ مَا جَرَى لَهُمْ مَعْ أَقْوَامِهِمْ ، القَصَصُ الحَقُّ ، وَالنَّبَأُ الصِّدْقُ ، وَالمَوْعِظَةُ التِي يَرْتَدِعُ بِهَا الكَافِرُونَ ، وَيَتَذَكَّرُ بِهَا المُؤْمِنُونَ .
ويا لله للرسول - صلى الله عليه وسلم - لقد كان يجد من قومه ، ومن انحرافات النفوس ، ومن أعباء الدعوة ، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه : { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } . .
{ وجاءك في هذه الحق } . . أي في هذه السورة . . الحق من أمر الدعوة ، ومن قصص الرسل ، ومن سنن الله ، ومن تصديق البشرى والوعيد .
----------------
وقال تعالى :{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) [يوسف/111]
لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ عِبْرَةٌ لِذَوِي العُقُولِ وَالأَلْبَابِ ، لأَنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِعَوَاقِبِ الأُمُورِ التِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أَوَائِلُهَا وَمُقَدِّمَاتُها ، وَجِهَةُ الاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ القِصَّةِ أَنَّ الذِي قَدَرَ عَلَى إِنْجَاءِ يُوسُفَ بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ ، وَإِعْلاَءِ شَأْنِهِ ، حَتَّى أَصْبَحَ عَزِيزَ مِصْرَ ، وَرَئِيسَ وُزَرَائِهَا ، بَعْدَ أَنْ بِيعَ بِالثَّمَنِ البَخْسِ ، وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ لَهُ بَعْدَ الحَبْسِ وَالسِّجْنِ ، وَجَمْعِ شَمْلِهِ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ . . . لَقَادِرٌ عَلَى إِعْزَازِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَتِهِ ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ .
وَمَا كَانَ هَذَا القَصَصُ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَيُخْتَلَقُ لأَنَّهُ أَعْجَزَ رُوَاةَ الأَخْبَارِ ، فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ ، وَبُرْهَانٌ قَاهِرٌ ، عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِطَرِيقِ الوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ ، وَقَدْ جَاءَ مُصَدِّقاً لِمَا جَاءَتْ بِهِ الكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ السَّابِقَةُ المُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِلأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ ، وَهُوَ هُدًى لِمَنْ تَدَبَّرَهُ ، وَأَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ ، وَتَلاَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ ، وَهُوَ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الذِينَ تَنْفُذُ فِيهِمْ شَرَائِعُهُ ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ .
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد . في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن . وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس . . ثم كانت العاقبة خيراً للذين اتقوا كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين . فيها عبرة لمن يعقل ، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل ، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب . فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثاً مفترى . فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضاً ولا تحقق هداية ، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثاً يفترى ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } . .
الحكمة من قصص القرآن كثيرة جداً، من أهمها:
1- ما نص عليه الله تعالى في قوله: "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [الأعراف:176]).
2- تثبيت فؤاد النبي صلى الله عيه وسلم، كما قال تعالى: "وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" [هود:120]، وهذا كما هو له - صلى الله عليه وسلم - ، فهو لغيره أيضاً، فكم انتفع أهل العلم والإيمان بقصص الأنبياء وغيرهم ! وكم كانت قصصهم منارات يهتدون بها!.
3- أن في هذه القصص عبرة لأولي الألباب، كما قال جل وعلا: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" [يوسف:111].
4- أخذ العبرة والعظة من أحوال الأمم السابقة: فإن كانوا ممن هلكوا فلأجل أن تحذر هذه الأمة سبب هلاكهم، وإن كانوا ممن نجوا لتعتبر الأمة، فتسلك أسباب النجاة.
5- معرفة قدرة الله تعالى في تنويع العقاب على المخالفين، حسب ما تقتضيه حكمته.
6- إقامة الحجة على الناس ببعث الرسل، وإنزال الكتب، وكيف قابلت الأمم أنبياءها؟ وماذا وقع لهم في حال الكفر وفي حال الاستجابة، كما قال تعالى -لما ذكر جملة من الرسل- "وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء:164-165].إلى غير ذلك من الحكم التي تظهر للمتأمل.
ـــــــــــــ
(1/24)
دعوتهم الناس على بصيرة
قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف/108 ]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هِيَ سَبِيلُهُ وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا وَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ اللهِ وَيَقِينٍ ، هُوَ وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ، مِنْ حَقِيقَةِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ ، وَمَا يَقُولُونَ بِهِ ، وَأَنَّهُ يُنْزِّهُ اسْمَ اللهِ ، وَيُقَدِّسُهُ عَنِ الشِّرْكِ وَالوَلَدِ وَالصَّحَابَةِ ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً
{ قل : هذه سبيلي } . . واحدة مستقيمة ، لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة .
{ ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } . . فنحن على هدى من الله ونور . نعرف طريقنا جيداً ، ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة ، لا نخبط ولا نتحسس ، ولا نحدس . فهو اليقين البصير المستنير . ننزه الله سبحانه عما لا يليق بألوهيته ، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين أشركوا به :{ وما أنا من المشركين } . . لا ظاهر الشرك ولا خافيه . .
هذه طريقي فمن شاء فليتابع ، ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم .
وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز ، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم ، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم ، ولا يسلك مسلكهم ، ولا يدين لقيادتهم ، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم ، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي . فهذه الدعوة لا تؤدي شيئاً ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية؛ وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة ، وعنوانه القيادة الإسلامية .. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي؛ وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضاً!
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي ، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية ، يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم ، وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم ، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة .
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين . . إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس . . وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصلية ، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ!
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية ، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام . . هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! . . إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماماً عن سبيل الجاهلية؟
ـــــــــــــ
(1/25)
الرسل رجال وليسوا نساء
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) [يوسف/109 ]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ جَمِيعاً مِنَ البَشَرِ ، فَكَيْفَ عَجِبُوا مِنْكَ ، وَلَمْ يَعْجَبُوا مِمَّنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ؟ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُمْ رِجَالاً - لاَ نِسَاءً - مِنْ أَهْلِ المُدُنِ - لاَ القُرَى - لأَنَّ أَهْلَ البَادِيَّةِ أَجْفَى النَّاسِ طِبَاعاً وَأَخْلاَقاً ، وَلأَنَّ أَهْلَ المُدُنَ إِذَا آمَنُوا تَبِعَهُمْ أَهْلُ البَوَادِيَ فِي الإِيمَانِ ، أَفَلَمْ يَسِرْ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ لَكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، فِي الأَرْضِ لِيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الذِينَ كَذَّبُوا الأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَبِرُسُلِهِ وَبِالمَعَادِ ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ جَمِيعاً ، وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ؟
وَكَمَا نَجَّيْنا المُؤْمِنِينَ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ حِينَمَا أَهْلَكْنَا المُكَذِبِينَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّتُنَا فِي الدُّنْيا ، كَذَلِكَ نُنَجِيهِمْ فِي الآخِرَةِ ، وَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَأَفْضَلُ .
لم يكونوا ملائكة ولا خلقاً آخر . إنما كانوا بشراً مثلك من أهل القرى الحاضرة ، لا من أهل البادية ، ليكونوا أرق حاشية وألين جانباً . . وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية ، فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم .
------------------
وقال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل/43-44]
لَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحْمَّداً رَسُولاً أَنْكَرَتِ العَرَبُ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : اللهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ مِنَ البَشَرِ . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } وَهُنَا يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ المُرْسَلِينَ ، مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ ، إِلاَّ مِنَ البَشَرِ ، فَاسْأَلُوا ، يَا أَيُّهَا المُنْكِرُونَ ذلِكَ ، أَهْلَ الكُتُبِ السَّابِقَةِ ( أَهْلَ الذِّكْرِ ) أَمِنَ البَشَرِ كَانَ الرُّسُلُ أَمْ مِنَ المَلاَئِكَةِ؟ فَإِنْ كَانُوا مِنَ المَلاَئِكَةِ أَنْكَرْتُمْ ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ البَشَرِ ، فَلِمَ تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ رَسُولاً؟
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ السَّابِقِينَ مِنَ البَشَرِ ، وَأَيَّدَهُمْ بِالحُجَجِ وَالدَّلاَئِلِ ( البَيِّنَاتِ ) ، وَبِالكُتْبِ ( الزُّبُرِ وَهِيَ جَمْيعُ زَبُورٍ أَيْ كِتَابٍ ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ القُرْآنَ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ، لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَيُفَصِّلَ لَهُمْ مَا أُجْمِلَ ، وَيُفَسِّرَ لَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ ، لَعَلَّ النَّاسَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فَيَهْتَدُوا ، وَيَفُوزُوا بِالنَّجَاةِ فِي الدَّارَينِ .
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً . . لم نرسل ملائكة ، ولم نرسل خلقاً آخر . رجالاً مختارين { نوحي إليهم } كما أوحينا إليك ، ونكل إليهم التبليغ كما وكلنا إليك . { فاسألوا أهل الذكر } أهل الكتاب الذين جاءتهم الرسل من قبل ، أكانوا رجالا أم كانوا ملائكة أم خلقا آخر . اسألوهم { إن كنتم لا تعلمون } . أرسلناهم بالبينات وبالكتب ( والزبر الكتب المتفرقة ) { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } سواء منهم السابقون أهل الكتاب الذين اختلفوا في كتابهم ، فجاء القرآن ليفصل في هذا الخلاف ، وليبين لهم وجه الحق فيه . أو المعاصرون الذين جاءهم القرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - يبينه لهم ويشرحه بفعله وقوله { ولعلهم يتفكرون } في آيات الله وآيات القرآن فإنه يدعو دائماً إلى التفكر والتدبر ، وإلى يقظة الفكر والشعور .
ويختم هذا الدرس الذي بدأه بالإشارة إلى الذين يستكبرون ويمكرون . . ينتهي بلمسة وجدانية بعد لمسة : أولاهما للتخويف من مكر الله الذي لا يأمنه أحد في ساعة من ليل أو نهار . والثانية لمشاركة هذا الوجود في عبادة الله وتسبيحه . فليس إلا الإنسان هو الذي يستكبر ويمكر . وكل ما حوله يحمد ويسبح .
---------------
وقال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) [الأنبياء/7-9]
وَيَرُدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ البَشَرِ قَائِلاً : إِنَّ جَمِيعَ الذِينَ أُرْسلُوا قَبَلَكَ يَا مُحَمَّدٌ كَانُوا مِنَ البَشَرِ ، ولَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ من المَلائِكَةِ ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ العِلْمِ ( الذِّكْر ) مِنَ الأُمَمِ المُتَقدِّمَةِ ( اليهُودِ والنَّصَارَى ) هَلْ كَانَ الرَّسُلُ الذِينَ جَاؤُوهُمْ مِنَ البَشَرِ أَمْ مِنَ المَلائكةِ؟
وَقَدْ وَعَدَ اللهُ رُسَُلَهُ ، فِيمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِم ، أَنَّهُ سَيُهْلِكَ الظَّالمِيِنَ المُكَذِّبِينَ ( المُسْرِفِينَ ) ، وأَنَّهُ سَيُنْجِي رُسُلَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ ، فَصَدَقَهُمُ اللهُ وَعْدَهُ ، وأَنْجَاهُمْ والذِينَ آمَنُوا مَعَهُم ، وأَهْلَكَ المُسْرِفِينَ المُتَجَاوِزِينَ الحَدَّ فِي تَكْذِيبِهِمْ ، وَدَمَّرَ عَلَيْهِم .
فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر ، يتلقون الوحي فيدعون به الناس . وما كان الرسل من قبل إلا رجالاً ذوي أجساد . وما جعل الله لهم أجساداً ثم جعلهم لا يأكلون الطعام . فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية ، والجسدية من مقتضيات البشرية . وهم بحكم انهم بشر مخلوقون لم يكونوا خالدين . . هذه هي سنة الله المطردة فليسألوا أهل الكتاب الذين عرفوا الأنبياء من قبل . إن كانوا هم لا يعلمون .لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر؛ فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم . وسلوكهم العملي نموذجاً حياً لما يدعون إليه الناس . فالكلمة الحية هي التي تؤثر وتهدي ، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة .ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام ، ولا يمشون في الأسواق ، ولا يعاشرون النساء . ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس . فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم ، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون .وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره ، فإنه يقف على هامش حياتهم ، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه . ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول . لما بينه وبينهم من قطعية في الحس والشعور .وأيما داعية لا يصدق فعله قوله . فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب . مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة . فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال ، ويؤيدها العمل . هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل .والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة ، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزهاً عن انفعالات البشر . . كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة . وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها . . لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته ، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص . وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر ، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس .
وهنالك اعتبار آخر ، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته؛ لأنه من جنس غير جنسهم ، وطبيعة غير طبيعتهم ، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية .وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس .
وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله ، باختيار الرسل منه ، ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه .
لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر؛ وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت . ومن عواطف وانفعالات . ومن آلام وآمال . ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء . . وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم . . أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض ، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة .
تلك سنة الله في اختيار الرسل . ومثلها سنته في إنجائهم ومن معهم ، وإهلاك المسرفين الظالمين المكذبين : { ثم صدقناهم الوعد ، فأنجيناهم ومن نشاء ، وأهلكنا المسرفين } . .
فهي كذلك سنة جارية كسنة اختيارهم . وقد وعدهم الله النجاة هم والمؤمنون معهم إيماناً حقيقياً يصدقه العمل؛ فصدقهم وعده ، وأهلك ، الذين كانوا يسرفون عليهم ، ويتجاوزون الحد معهم .
ـــــــــــــ
(1/26)
جزاء مكذبي الرسل
قال تعالى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) [يوسف/110]
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلاً قَبْلَهُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ يَتَرَاخَى نَصْرُ اللهِ عَنِ الرُّسُلِ ، وَأَنْ يَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ ، حَتَّى إِذَا زُلْزِلَتِ النُّفُوسُ ، وَاسْتَشْعَرَتِ القُنُوطَ وَاليَأْسَ مِنَ النَّجَاةِ وَالنَّصْرِ ، فَحِينَئِذٍ يَأْتِي نَصْرُ اللهِ ، فَيُنَجِّي مَنْ يَشَاءُ اللهُ إِنْجَاءَهُ ، وَيُهْلِكُ مَنْ يَشَاءُ إِهْلاَكَهُ ، وَلاَ يَرُدُّ أَحَدٌ بَأْسَ اللهِ وَعِقَابَهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى ( كُذِبُوا ) قَرَاءَتَانِ :
الأُولَى - ( كُذِّبُوا ) - بِضَمِّ الكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ - وَكَذَلِكَ كَانَتْ تَقْرَؤُهَا عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا - وَمَعْنَاهَا : إِنَّ الرُّسُلَ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ ، وَلَنْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ ، وَيَئِسُوا مِنْ قَوْمِهِم الكَافِرِينَ .
وَالثَّانِيَةُ - ( كُذِبُوا ) - بِضَمِ الكَافِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ - وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَمَعْنَاهَا : إِنَّهُ لَمَّا يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ ، جَاءَ نَصْرُ اللهِ فَأَيَّدَ الرُّسُلَ .
فَفِي القِرَاءَةِ الأُوْلَى : يَشْعُرُ الرُّسُلُ أَنَّهُمْ كُذِّبُوا مِنْ قِبَلِ أَقْوَامِهِمْ .
وَفِي القِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ : يُدْرِكُ القَوْمُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ .
إنها صورة رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود . وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ، وتكر الأعوام والباطل في قوته ، وكثرة أهله ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة .
إنها ساعات حرجة ، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر . والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . . تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر . وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله . . . ؟ } ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس ، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة ، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات ، وما يحس به من ألم لا يطاق .
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة . . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً : { جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يردُّ بأسنا عن القوم المجرمين }
تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله ، فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين ، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين ، مدمراً ماحقاً لا يقفون له ، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير .
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً . فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء .
والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة ، لذلك يشفقون أن يدَّعوها ، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها ، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله ، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض ، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله ، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف ، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثيرة التكاليف أيضاً . وأنه من ثم لا تنضم إليها في أول الأمر الجماهير المستضعفة ، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله ، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة ، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً . ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق ، بعد جهاد يطول أو يقصر . وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً .
----------------
وقال تعالى :{ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) [إبراهيم/44، 45]
خَوِّفْ أَيُّها الرَّسُولُ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَشَدَّتِهِ ، إِذْ يَقُولُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ : رَبَّنا آخِّرْنا إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ، وَنُؤْمِنَ بِكَ ، وَبِكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : لَقَدْ كُنْتُمْ أَقْسَمْتُمْ ، وَأَنْتُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ، أَنَّهُ لاَ زَوَالَ لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ، وَأَنَّهُ لاَ حَشْرَ وَلاَ مَعَادَ وَلاَ حِسَابَ؟ فَذُوقُوا هَذَا العَذَابِ بِذَاكَ الكُفْرِ .
وَقَدْ بَلَغَكُمْ مَا أََنْزَلْنَاهُ مِنَ العِقَابِ الشَّدِيدِ بِالأُمَمِ المُتَقَدِّمَةِ التِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا ، وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ بِهِمْ ، وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ هَؤُلاَءِ المِكَذِّبِينَ ، وَلَمْ تَعْتَبِرُوا ، وَلَمْ تَزْدَجِرُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالظُّلْمِ ، وَالآنَ تَسْأَلُونَ التَّأخِيرَ لِلتَّوْبَةِ حِينَ نَزَلَ بِكُمُ العَذَابُ ، فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَقَدْ فَاتَ الأَوَانُ .
إن هذا المثل ليتجدد في الحياة ويقع كل حين . فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم . وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم . ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبرون؛ ويسيرون حذوك النعل بالنعل سيرة الهالكين؛ فلا تهز وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها ، والتي تتحدث عن تاريخ الهالكين ، وتصور مصائرهم للناظرين . ثم يؤخذون إخذة الغابرين ، ويلحقون بهم وتخلوا منهم الديار بعد حين!
--------------------
وقال تعالى :{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) [الفرقان/35-38]
ولقَدْ أنْزَلنا التوراةَ على مُوسَى ، كما أنزلْنَا عليكَ القرآنَ يا مُحمدُ ، وجعلنا مَعَهُ أخَاهُ هارونَ وزيراً وظَهِيراً ومُعِيناً .
وأرْسَلَهُمَا اللهُ تَعالى إلى فِرعَونَ وقَوْمِهِ ، فَكَذَّبُوا بآياتِ اللهِ ، فَدَمَّرَهُمُ اللهُ تَدْمِيراً ، وأغْرَقَهُمْ في صَبيحةٍ واحدةٍ .
وَاذْكُرْ قَوْمَ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ نُوحاً عليهِ السَّلامُ ، وقَدْ لَبِثَ فيهمْ أمَداً طَويلاً يَدْعُوهُم إلى اللهِ ، ويُحَذِّرُهُمْ نِقَمَهُ ، فلَم يُؤْمِنْ لَهُ إلا قليلٌ منهمْ ( كما جَاءَ في آيةٍ أُخْرى ) ، فأغْرَقَهُمُ اللهُ جَمِيعاً بالطُّوفان ، ولمْ يُبْقِ مِنْهُم إلا مَنْ كَانَ في السَّفينةِ مَعَ نُوحٍ ، وَجَعَلُهُمُ اللهُ عِبْرَةً للنَّاسِ ، وقَدْ أعَدَّ اللهُ للكَافرينَ الظَّالمينَ عَذَاباً أليماً في الدُّنيا والآخِرَةِ .
( وفي هذا تَحْذيرٌ لقُرَيِشٍ بأَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بهِمْ ما حَلَّ بالأُمَمِ السَّالِفَةِ ) .
وقَدْ كَذَّبَ قومُ عَادٍ رَسُولَهُمْ هُوداً عليهِ السَّلامُ ، وكَذَّبَ قومُ ثَمُودَ نَبيَّهمْ صَالحاً ، وكذَّبَ أصحابُ الرَّسِّ رسولَهُم ، وقد كَذَّبَتْ جميعُ هذه الأقوامِ رسُلَهَا فأهْلَكَها الله ، كما أهْلَكَ أُمَماً وأقْواماً آخَرينَ ( قُروناً ) غيرَ هؤلاءِ لَمَّا كَذَّبُوا رسُلَهُمْ .
فهذا موسى يؤتى الكتاب ويرسل معه أخوه هارون وزيراً ومعيناً . ويؤمر بمواجهة { القوم الذين كذبوا بآياتنا } ذلك أن فرعون وملأه كانوا مكذبين بآيات الله حتى قبل إرسال موسى وهارون إليهم ، فآيات الله قائمة دائمة ، والرسل إنما يذكرون بها الغافلين . . وقبل أن تتم الآية الثانية في السياق يرسم مصيرهم في عنف وإجمال { فدمرناهم تدميراً } .
وهؤلاء قوم نوح : { لما كذبوا الرسل أغرقناهم } . . وهم كذبوا نوحاً وحده . ولكن نوحاً إنما جاءهم بالعقيدة الواحدة التي أرسل بها الرسل جميعاً . فلما كذبوه كانوا قد كذبوا الرسل جميعاً . { وجعلناهم للناس آية } فإن آية الطوفان لا تنسى على الدهر ، وكل من نظر فيها اعتبر إن كان له قلب يتدبر { وأعتدنا للظالمين عذاباً أليماً } فهو حاضر لا يحتاج إلى إعداد . ويظهر لفظ الظالمين بدل الضمير لإثبات هذا الوصف لهم وبيان سبب العذاب . وهؤلاء عاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك . كلهم لاقوا ذات المصير بعد أن ضربت لهم الأمثال ، فلم يتدبروا القول ، ولم يتقوا البوار والدمار . .
وهذه الأمثلة كلها من قوم موسى ونوح ، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك ، ومن القرية التي أمطرت مطر السوء وهي قرية لوط كلها تسير سيرة واحدة وتنتهي نهاية واحدة { وكلا ضربنا له الأمثال } للعظة والاعتبار { وكلا تبرنا تتبيراً } وكانت عاقبة التكذيب هي التحطيم والتفتيت والدمار . والسياق يستعرض هذه الأمثلة ذلك الاستعراض السريع لعرض هذه المصارع المؤثرة . وينهيها بمصرع قوم لوط وهم يمرون عليه في سدوم في رحلة الصيف إلى الشام . وقد أهلكها الله بمطر بركاني من الأبخرة والحجارة فدمرها تدميراً . ويقرر في نهايته أن قلوبهم لا تعتبر ولا تتأثر لأنهم لا ينتظرون البعث ، ولا يرجون لقاء الله .فذلك سبب قساوة تلك القلوب . وانطماسها . ومن هذا المعين تنبع تصرفاتهم واعتراضاتهم وسخرياتهم من القرآن ومن الرسول .
------------------------
وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) [ص/12-14]
وَيُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى هُؤَلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ، بِأَقْوَامٍ كَانَتْ قَبْلَهُمْ ، وَكَانَتْ أَشَدَّ مِنْهُمْ بَأْساً وَبَطْشاً وَقُوَّةً ، فَطَغَوْا وَبَغَوْا ، فَجَاءَهُمْ رُسُلُ اللهِ تَعَالَى ، فَكَذَّبُوهُمْ ، فَدَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ بَاقِيةً .
وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الأَقْوَامِ المُكَذِّبَةِ : قَوْمَ نُوحٍ الذِينَ أَغْرَقَهُمْ بالطُّوفَانِ ، وَقَوْمَ عَادٍ الذِينَ أَهْلَكَهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ، وَفِرْعُونَ مَلِكَ مِصْرَ وَجُنْدَهُ ، وَقَدْ أَغْرَقَهُمُ اللهُ فِي البَحْرِ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ . وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى ثَبَاتِ مُلْكِ فِرْعَوْنَ واسْتِقْرَارِهِ فَشَبَّهَهُ بِبَيْتٍ مِنَ الشَّعْرِ ثُبَّتَتْ أَوْتَادُهُ فِي الأَرْضِ .
( وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى - ذُو الأَوْتَادِ - هُوَ أَنَّهُ صَاحِبُ الأَهْرَامَاتِ والأَبْنِيَةِ الفَخْمَةِ المُتَرَسِّخَةِ فِي الأَرْضِ كَالأَوْتَادِ ) .
( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَاهَا هُوَ أَنَّ فِرْعُونَ سُمِّيَ بِذِي الأَوْتَادِ لأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ خُصُومِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ لَهُمْ فِي الأَرْضِ أَوْتَادَاً يَشُدُّ إِلَيْهَا أَطْرَافَهُمْ ، ثُمَّ يَقْتُلُهُمْ بِالنِّبَالِ ) . ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى ثَمُودَ قَوْمَ صَالِحٍ ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللهُ بِالصَّيْحَةِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمَ لُوطٍ وَقَدْ دَمَّرَ اللهُ قُرَاهُمْ ، وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، فَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَصْحَابَ الأَيْكَةِ ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَكَانَتْ بِلادُهُمْ جَنُوبِيِّ الأَرْدُنِّ - قُرْبَ العَقَبَةِ - وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ ، وَهُؤُلاَءِ جَمِيعاً تَحَزَّبُوا عَلَى رُسُلِهِمْ ، وَهُمْ كالأَحْزَابِ الذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ .
وَكُلُّ هَؤُلاءِ الأَقْوَامِ قَدْ كَذَّّبُوا رُسُلَ اللهِ ، وَكَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ وَبَأْسٍ وَبَطْشٍ ، وَعَدَدٍ وَبُنْيَانٍ رَاسِخٍ فِي الأَرْضِ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ ، فَكَيْفَ يَكُونَ حَالُ المَكَذِّبِينَ الضُّعَفَاءِ مِنْ قَوْمِكَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ مَا لاَ قِبلَ لَهُمْ بِهِ مِنَ العَذَابِ؟
فهذه أمثلة ممن سبقوا قريشاً في التاريخ . قوم نوح . وعاد . وفرعون صاحب الأهرام التي تقوم في الأرض كالأوتاد . وثمود . وقوم لوط . وقوم شعيب أصحاب الأيكة - الغابة الملتفة - (أولئك الأحزاب) ! الذين كذبوا الرسل . فماذا كان من شأنهم وهم طغاة بغاة متجبرون ? . . (فحق عقاب) . . وكان ما كان من أمرهم . وذهبوا فلم يبق منهم غير آثار تنطق بالهزيمة والاندحار !
ذلك كان شأن الأحزاب الغابرة في التاريخ . .
---------------------------
وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) [ق/12-14]
بَعْدَ أنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالى تَكْذِيبَ الأمَمِ الخَالِيَةِ ، أشَارَ هُنَا إلى مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عِقَابٍ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِم ، وَتَمادِيهِمْ في الضَّلاَلَةِ والتَّكْذِيبِ لِرُسُلِ اللهِ ، واسْتَهْزائِهِم بِمَا أنْذَرَهُم بهِ رُسُلُهُمْ مِنْ عَذاب اللهِ ، وَهُوَ بِذَلِكَ يُهدِّدُ مُشْرِكي قُريشٍ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ أنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بالمُكَذِّبِينَ مِنَ الأمَمِ الخَالِيَةِ .
وَأخبَرَ تَعَالى : أنّ قَوَمَ نُوح كَذَّبُوا رَسُولَهُم نُوحاً فأغْرَقَهُم اللهُ بالطُّوفَان . وَكَذَّبَ أصْحَابُ الرَّسَّ رَسُولَهُمْ فَأهلَكَهُمُ اللهُ . وَكَذَّبَتْ ثَمُودُ رَسُولَهُمْ صَالِحاً فأهْلَكَهُمُ اللهُ بالصِّيَحَةِ .
وَكَذَّبَتْ عَادٌ رسُولَهُم هُوداً فأهْلَكَهُم اللهُ ، بالرِّيحِ العَقِيم ، وَكَذَّبَ فِرْعَونُ مُوسَى وَهَارُونَ فأغْرقَه اللهُ وَقَوْمَهُ في البَحْرِ . وَأهْلَكَ اللهُ تَعَالى قَوْمَ لُوطٍ بَعْدَ أنْ أصَرَّوا عَلَى الكُفْرِ والفُسُوقِ وَإتيَانِ الفَاحِشَةِ ، فَجَعلَ اللهُ عَاليَ بِلادِهِمْ سَافِلَهَا .
وَكَذَّبَ أصْحَابُ الأيْكَةِ ( وَهُمْ قَوْمُ شُعَيِبٍ ) ، رَسُولَهم شُعَيْباً فَأهْلَكَهُمُ اللهُ بالرَّجْفَةِ ، وَعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ . وَكَذَلِكَ أهْلَكَ اللهُ تَعَالى قَوْمَ تُبَّعٍ لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبَّهِمْ ، وَإقَامَتِهِمْ عَلَى الكُفْرِ وَالضَّلالِ .
وَكُلُّ هَؤلاءِ الأقوَامِ كَذَّبوا رَسُلَ اللهِ فيما جَاؤُوهُمْ بِهِ ، فَحَقَّ عَلَيهِمْ أنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا أوْعَدَهُمْ بهِ اللهُ مِنْ عَذَابٍ أليمٍ .
وواضح أن الغرض من هذه الإشارة السريعة ليس تفصيل أمر هذه الأقوام . ولكنه إيقاع على القلوب بمصارع الغابرين . حين كذبوا الرسل . والذي يلفت النظر هو النص على أن كلاً منهم كذب الرسل : { كل كذب الرسل فحق وعيد } . وهي لفتة مقصودة لتقرير وحدة العقيدة ووحدة الرسالة . فكل من كذب برسول فقد كذب بالرسل أجمعين؛ لأنه كذب بالرسالة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعون . والرسل إخوة وأمة واحدة وشجرة ضاربة الجذور في أعماق الزمان ، وكل فرع من تلك الشجرة تلخيص لخصائصها ، وصورة منها . ومن يمس منها فرعاً فقد مس الأصل وسائر الفروع . . { فحق وعيد } ونالهم ما يعرف السامعون!
-----------------------
وقال تعالى :{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) [النحل/112-113]
جَعَلَ اللهُ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلَ حَالِ هَذِهِ القَرْيَةِ ، التِي كَانَتْ آمِنَةً لاَ تَخَافُ عَدُوّاً ، وَقَدْ تَدَفَّقَ الرِّزْقُ الوَفِيرُ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ، فَكَفَرَ أَهْلُهَا بِأَنْعُمِ اللهِ عَلَيْهِمْ ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الخَوْفَ ، وَأَذَاقَهُمْ مَرَارَةَ الجُوعِ . كَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ مَكَّة ، فَقَدْ كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِها ، وَمَنْ دَخَلَهَا كَانَ آمِناً ، لاَ يَخَافُ شَيْئاً ، وَكَانَ الرِّزْقُ الوَفِيرُ يَتَدَفَّقُ عَلَيْهَا هَنِيئاً سَهْلاً مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَمَكَانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ ، وَجَحَدَتْ بِهَا ، وَأَعَظْمُ هَذِهِ النِّعَمُ هِيَ بِعْثَةُ رَسُولٍ مِنْهُمْ . وَلِهَذا بَدَّلَ اللهُ أَهْلَهَا بِحَالَيْهِمْ ( الأَمْنِ وَالعَيْشِ الرَّغِيدِ ) ، بِحَالَيْنِ جَدِيدَيْنِ ، هُمَا : ( الجُوعُ وَالخَوْفُ - لِبَاسَ الجُوْعِ وَالخَوْفِ ) فَقَدْ جَاءَتْهُمْ سِنُونَ شِدَادٌ فَجَاعُوا ، وَهَاجَرَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى المَدِينَةِ فَكَانَتْ سَرَايَا المُسْلِمِينَ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى قَوَافِلِهِمْ إِلَى الشَّامِ ، فَخَافُوا . وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ عِقَاباً لَهُمْ مِنَ اللهِ بِسَبَبِ سُوءِ صَنِيعِهِمْ ، وَبَغْيِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ رَبِّهِمْ .
لَقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ ، وَيُذَكِّرَهُمْ بِمِنَنِ اللهِ عَلَيْهِمْ ، إِذْ جَعَلَ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يَتَخَطَّفُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِ ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ ، وَلَكِنَّهُمْ بَدَلاً مِنَ الشُّكْرِ كَذَّبُوا الرَّسُولَ ، وَاسْتَكْبَرُوا ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ ، وَأَذَلَّهُمُ اللهُ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَبَغْيِّهِمْ ، فَهُزِمُوا فِي بَدْرٍ ، وَتَتَالَتْ هَزَائِمُهُمْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وهي حال أشبه شيء بحال مكة . جعل الله فيها البيت ، وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن ، لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلا ، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت الله الكريم . وكان الناس يتخطفون من حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون . كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة ، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ، فكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل .ثم إذا رسول منهم ، يعرفونه صادقا أمينا ، ولا يعرف عنه ما يشين ، يبعثه الله فيهم رحمة لهم وللعالمين ، دينه دين إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة والعيش الرغيد؛ فإذا هم يكذبونه ، ويفترون عليه الافتراءات ، وينزلون به وبمن اتبعوه الأذى . وهم ظالمون .
والمثل الذي يضربه الله لهم منطبق على حالهم ، وعاقبة المثل أمامهم . مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ، وكذبت رسوله { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون .
ويجسم التعبير الجوع والخوف فيجعله لباسا؛ ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا ، لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد . وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولذعه وتأثيره وتغلغله في النفوس . لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون .
(1/27)
-------------------------
وقال تعالى :{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) [الدخان/10-29]
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إِنَّ قُرَيشاً لَمَّا أَبْطَأَتْ عَنِ الإِسلامِ ، وَاستَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، دَعا اللهَ أَنْ يُنزِلَ بِهِمْ سِنين كَسِنِّي يُوسُفَ ، فَأَصَابَهُمْ جُوعٌ ، وَجَهْدٌ عَظِيمَانِ ، حَتَّى أَكَلُوا العِظَامَ وَالميتَةَ ، وَجَعَلُوا يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ إِلَى السَّماءِ فَلاَ يَرَوْنَ إِلاَّ الدُّخَانَ ، فَأَتى بَعْضَهُمْ إِلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَسْقِ الله لِمُضَرَ فَإِنَّها قَدْ هَلَكَتْ ، فَاسْتَسْقَى لَهُم فَسُقوا ، فَلَمَّا كَشَفَ اللهِ تَعَالَى عَنْهُمُ العَذَابَ عَادُوا إِلى حَالِهم الأَوَّلِ .
وَحِينَما تأتي السَّماءُ بِدُخَانٍ مُبينٍ فَإِنَّه يَلُفُّ النَّاسَ ، وَيُحيطُ بِهمْ مِنْ كُلِّ جَانبٍ فَيَقُولُون : هَذَا عَذابٌ شَدِيدُ الإِيلامِ .
وَقَدْ أَبَانَ اللهُ تَعَالى في هذِه الآيةِ الكَريمةِ أَنَّ مُشْركي قُريشٍ وَعَدُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأَن يُؤْمِنوا إِذا كَشَفَ عَنْهُمُ العَذابَ ، فَقَالُوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّنا آمَنَّا بِكَ .
وَكَيفَ يَتَذكَّرُ هؤلاءِ ، وَيُوفُون بما وَعَدُوا بهِ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، منَ الإِيمانِ إِذَا دَعَا لَهُم فَكَشَفَ عَنْهُمُ العَذابَ ، وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ ، بَيِّنُ الرِّسالةِ ، مُؤَيِّدٌ بِالمُعجِزَاتِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا لهُ ، وَكَذَّبُوهُ .
ثُمَّ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا : إِنَّهُ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مَخْبُولُ العَقْلِ ، يُعَلِّمُهُ بَعْضُ الأَعَاجِمِ مَا يقُولُ ، فيدَّعِي بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَليهِ مِنْ عِندِ اللهِ تَعَالى .
إِنَّنا سَنَرْفَعُ عَنْهُم الضُّرَّ النَّازِلَ بِهَمْ لِبَعْضِ الوَقْتِ ، فَنُنَزِّلُ عَلَيهِمِ المَطَرَ لِتنبتَ الأَرْضُ ، وَإِنَّنا لَنَعْلَمُ أَنَّهمُ عَائِدُونَ إِلى مَا كَانُوا عَليهِ مِنَ الكفرِ والتَّكَذِيبِ . وَيَومَ القِيَامَةِ يَبْطِشُ اللهُ تَعَالى بِهِم البَطْشَةَ الكُبْرى ، وَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ أَشَدَّ الانْتِقَامِ ، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ يَنْصُرهُمْ أو يَشْفَعُ لَهُمْ ، فَينْدَمُونَ على مَا فَرَّطُوا في جَنبِ اللهِ ، وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ . وَلَقَدْ اخْتَبَرَ اللهُ تَعَالَى ، قَبْلَ مُشْرِكي قَومِكَ يَا مُحَمَّدُ ، القِبْطَ مِنْ قومِ فِرْعَونَ ، إِذْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى إِليهِمْ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ ، وَهُوَ رَسُولٌ كَريمٌ ، فَكَفَروا بِما جَاءَهُمْ بِهِ ، وَسَخِروا مِنهُ عِنَاداً واسْتِكْبَاراً . فَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَونَ وَقَومِهِ : أَدُّوا إِليَّ يَا عِبَادَ اللهِ مَا هُوَ وَاجبٌ عَليكم ، واستَجِيبُوا لِدَعْوَةِ اللهِ تَعَالى ، فَإِني رَسُولُ اللهِ إِليكُم ، وَإِني أمينٌ فِيما أُبلِّغكُمْ عَنْ رَبي . ( أَوِ اسْمَحُوا لِبَني إِسْرَائيلَ أَنْ يَخرُجُوا مَعِي ) .ولا تَسْتَكْبرُوا عنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى والانْقِيَادِ إِلى حُجَجهِ ، فإِني آتيكُم بِمُعْجِزَاتٍ بَاهِرَةٍ ، وأدِلةٍ قَاطِعةٍ ، عَلى صِدْقِ ما جِئْتُكُمْ بِهِ .
وَإِنِّي أَلْتَجِئُ إِلى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ أَنْ تَقْتُلُوني رَجْماً بِالحِجَارَةِ . وَإِذا لَمْ تُصَدِّقُوا ما جِئْتُكُمْ بهِ مِنْ رَبِّكُمْ فَخَلُّوا سَبِيلِي وَدَعُوا الأَمْرَ مُسَالمةً بَيْني وَبَيْنَكُمْ إِلى أَنْ يَقْضِيَ اللهُ تَعَالى بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ .
وَلَمَّا طَالَ مُقَامُ مُوسَى بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ ، وَأَقَامَ الحُجَّةَ عَليهِمْ ، وَلَمْ يَزِدْهُمْ ذلِكَ إِلاّ كُفْراً وَعِنَاداً واسْتِكْبَاراً عَنِ الحَقِّ ، وَرَفَضُوا أَنْ يُرسِلُوا مَعُهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَعَا رَبَّهُ مُسْتَنْصِراً بِهِ عَلَيهِمْ ، وَقَالَ : يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُشْرِكُونَ بِكَ ، مُكَذِّبونَ رَسُولَكَ ، فَأَنْزِلْ بِهِم بَأسَكَ وَعَذَابَكَ المَوْعُودَ .
وَحِينَئِذٍ أَمرَه اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَسِيرَ بِبَني إِسْرائيلَ لَيْلاً ( يُسْرِي ) مِنْ غَيرِ إِذنِ فِرْعَوْنَ وَلاَ رأْيهِ ، وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى بأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَه سَيَتْبَعُونَ آثارَهُمْ .
بَعْدَ أَنْ وَصَلَ مُوسى وَبَنُوا إِسْرَائيلَ إِلى البَحْرِ أَمَرَ اللهُ تَعَالى مُوسى بِأَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ البَحْرَ ، فَانْفَلَقَ ، ثُمَّ أَوْحَى اللهُ إِلى مُوسَى أَنْ يُجَاوِزَ بِبَني إِسرائيلَ البَحْرَ من خِلالِ الفِرقِ الذِي حَدَثَ في المَاءِ مِنْ أَثَرِ ضَرْبَةَ مُوسَى ، وَبَعْدَ أَنْ جَاوَزَ بَنُوا إِسرائيلَ البَحْرَ إِلى الجَانِبِ الآخَرِ ، أرادَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ البَحْرَ بِعَصَاهُ لِيُعيدَهُ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ لِكَيْلا يَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ مِنَ الفَروقِ الحَادِثَةِ في المَاءِ ، فَأَمرَ اللهُ تَعَالى مُوسَى بِتَركِ البَحْرِ كَما هُوَ حِينَ مَرَّ بِهِ سَاكِناً يَابِساً ( رَهْواً ) ، لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَ بأَنَّهُ سَيُغْرِقُ فِرْعَونَ وَقَومَه فِيهِ ، وَبَشَّرَ مُوسى بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ ( إِنَّهُم جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) .
كَم تَرَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ قَبْلَ مَهلِكِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ مِنْ بَسَاتِينَ نَضِرَةٍ ، وَحَدَائِقَ غَنَّاءَ ، وَعُيُونِ ماءٍ جَارِيةٍ وَأنْهَارٍ . وَكَمْ تَرَكُوا مِنْ زُرُوعٍ نَاضِرَةٍ ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةٍ .وَعَيْشٍ رَغِيدٍ كَانُوا يَتَفَكَّهُونَ فِيهِ فَيَأْكُلُونَ مَا شَاؤُوا ، وَيَلْبَسُونَ مَا أَحَبُّوا . فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالى فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهكَذَا يَفْعَلُ اللهُ بِالذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ ، وَيُخَالِفُونَ عَنْ أَمرِهِ فإِنَّهُ يُبِيدُهُمْ وَيُورِثُ أَرْضَهُمْ قَوْماً آخرينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ فِي شيءٍ قَرابةً ولا دِيناً .وَقَدْ كَانَ هؤلاءِ الطُّغَاةُ العُتَاةُ هَيِّنِينَ عَلَى اللهِ ، وَعَلى عِبادِ اللهِ ، إِذْ لَم يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ يُرَفَعُ إِلى السَّماء ، وَلاَ عَمَلُ خَيرٍ مَعَ عِبَادِ اللهِ في الأَرضِ يُذكرُ لهم ، فَلم تبكِ لفَقْدِهِم الأرضُ ولا السَّماءُ ، وَلم يُمْهَلُوا لِتَوْبَةٍ ، وَإِنَّما عَجَّلَ اللهُ لَهُمُ العَذَابَ دُونَ إِبْطَاءِ . وَسَأَلَ رَجُلٌ عَلياً رَضِي اللهَ عَنْهُ : هَلْ تَبكيِ السَّمَاءُ والأَرضُ عَلَى أَحَدٍ؟ فَقَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ إِلا لَهُ مُصَلَّىً فِي الأَرضُ ، وَمَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّماءِ ، وَإِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ عَمَلٌ يَصْعَدُ فِي السَّماءِ ، ثُمَّ قَرَأَ الآيةَ الكَرِيمَةَ
وهو تعبير يلقي ظلال الهوان ، كما يلقي ظلال الجفاء . . فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء . ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء . وذهبوا ذهاب النمال ، وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه ، وهو مؤمن بربه ، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه!
ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله . ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه ، مقطوعين عنه ، لا تربطهم به آصرة ، وقد قطعت آصرة الإيمان .
----------------------------
وقال تعالى :{ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) [الحاقة/9، 10]
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأُمَمِ التِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ ، وَكَفَرْتْ بِاللهِ ، كَعَادٍ وَالقُرَى التِي دَمِّرَتْ بِأَهْلِهَا ، وَقُلِبَتْ رَأْساً عَلَى عَقَبٍ ( المُؤتَفِكَاتُ ) بِالكُفْرِ وَبِالأَفْعَالِ الخَاطِئَةِ ، ذَاتِ الخَطأ الكَبِيرِ الفَاحِشِ .
فَكَذَّبَ كُلُّ قَوْمٍ الرَّسُولَ الذِي أَرْسَلَهُ اللهُ إِليهِمْ ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذَنْبِهِمْ أَخْذَةً عَظِيمَةً مُهْلِكَةً ، وَعَاقَبَهُمْ مُعَاقَبَةً زَائِدَةَ الشَّدَّةِ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَزَايُدِ قَبَائِحِهِمْ .
وفرعون كان في مصر وهو فرعون موسى ومن قبله لا يذكر عنهم تفصيل . والمؤتفكات قرى لوط المدمرة التي اتبعت الإفك أو التي انقلبت ، فاللفظ يعني هذا وهذا . ويجمل السياق فعال هؤلاء جميعاً ، فيقول عنهم انهم جاءوا { بالخاطئة } أي بالفعلة الخاطئة . . من الخطيئة . . { فعصوا رسول ربهم } . . وهم عصوا رسلاً متعددين؛ ولكن حقيقتهم واحدة ، ورسالتهم في صميمها واحدة .
فهم إذن رسول واحد . يمثل حقيقة واحدة وذلك من بدائع الإشارات القرآنية الموحية وفي إجمال يذكر مصيرهم في تعبير يلقي الهول والحسم حسب جو السورة : { فأخذهم أخذة رابية } . . والرابية العالية الغامرة الطامرة . لتناسب { الطاغية } التي أخذت ثمود { والعاتية } التي أخذت عاداً ، وتناسب جو الهول والرعب في السياق بدون تفصيل ولا تطويل!
---------------------------
وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) }(سورة الشمس11-15)
كَذَّبَتُ ثَمُودُ نَبِيِّهَا صَالِحاً بِسَبَبِ طُغْيَانِهَا وَبَغْيِهَا . إِذ انْطَلَقَ أَكثَرُ ثَمُودَ شَقَاوَةً لِيَعْقِرَ نَاقَةَ اللهِ .
( وَإِقْدَامُهُ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْذِيبه نَبِيَّهُمْ صَالِحاً فِيمَا قَالَهُ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ، وَأَنَّ النَّاقَةَ نَاقَةُ اللهِ أَرْسَلَهَا إِلَيْهِمْ آيَةً عَلَى صِدْقِ نُبَوَّتِهِ ) .
فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ صَالِحٌ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ : احْذَرُوا أَنْ تَمَسُّوا نَاقَةَ اللهِ بِسُوءٍ ، وَاحْذَرُوا التَّعَدِّيَ عَلَى شُرْبِهَا الماءَ في اليومِ الذِي اخْتَصَّتْ بِهِ .
( وَكَانَ صَالحٌ ، عَلَيهِ السَّلاَمُ ، اتَّفَقَ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلنَّاسِ شُرْبُ المَاءِ يَوْماً ، وَأَنْ يَكُونَ لِلنَّاقَةِ شُرْبُهُ يَوْماً ) .
فَكَذَّبَتْ ثَمُودُ صَالِحاً فِيمَا قَالَهُ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ، وَأَنَّ النَّاقَةَ هِيَ نَاقَةُ اللهِ أَرْسَلَهَا آيَةَ عَلَى صِدْقِ نُبُوتِهِ ، فَأَقْدَمُوا عَلى قَتْلِهَا ( عَقَرُوهَا ) ، وَلَمْ يُبَالُوا بِمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ مِنَ العَذَابِ ، فَأَطْبَقَ عَلَيْهِمُ العَذَابُ ، وَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعاً ، وَسَوَّى القَبِيلَةَ كُلَّهَا فِي العَقُوبَةِ ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ .
( وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى ( سَوَّاهَا ) قَدْ يَكُونُ إِنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَلَدَهُمْ بِالأَرْضِ بَعْدَ أَنْ دَكَّهَا دَكّاً ، فَلَمْ يَتْرُكْ فِيهَا بِنَاءً قَائِماً أَيْ إِنَّهُ دَمَّرَهَا تَدْمِيراً كَامِلاً ) . وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَخَافُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ فِي هَلاَكِهِمْ وَدَمَارِهِمْ ، لأَنَّهُ عَزِيزٌ لاَ يُغَالَبُ وَلاَ يُمَانَعُ .
وهكذا ترتبط حقيقة النفس البشرية بحقائق هذا الوجود الكبيرة ، ومشاهدة الثابتة ، كما ترتبط بهذه وتلك سنة الله في أخذ المكذبين والطغاة ، في حدود التقدير الحكيم الذي يجعل لكل شيء أجلاً ، ولكل حادث موعداً ، ولكل أمر غاية ، ولكل قدر حكمة ، وهو رب النفس والكون والقدر جميعاً
-------------------------
وقال تعالى :{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) [الفرقان/27-29]
يَنْدَمُ فِي ذَلِكَ اليومِ الظَّالِمُونَ الكَافِرُونَ ، الذين تَرَكُوا طَريقَ الرَّسُولِ ، وَكَفُرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الحَقِّ المُبِينِ ، وَيَعَضُّونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَدَماً عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ ، وَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ الرَّسُولِ المُوصِلِ إِلى الجَنَّةِ ، وَلَكِنَّ النَّدَمَ لاَ يَنْفَعُهُمْ حِيْنَئِذٍ .
وَيَقُولَ الظَالِمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مُتَحَسِّراً : يَا خَسَارَهُ وَيَا هَلاَكَهُ ، وَيَا لَيْتَهُ لَمْ يَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً وَصَدِيقاً ( وَيَذْكُرُ اسمَ من أَضَلَّهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الحَقِّ والهُدَى ) ، وَيَتَمَّنى لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَتِهِ .
لَقَدْ أَضْلَّنِي هَذَا الصَّدِيقُ عَنِ الإِيْمَانِ بالقُرْآنِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيَّ ، وَمَنَّانِي بالنَّصْرِ والفَلاَحِ ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُمَنِّي وَيَعِدَ ، وَيُمَنِّي كَذِباً وَغُرُوراً ، وَأَنْ يَخْذُلَ الإِنْسَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَتْرِكَهُ لِمَصِيرِهِ ، وَيَقُولَ لأَوْلِيَائِهِ : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ . } ( وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ : أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَذِّلُ الإِنْسَانَ عَنِ الحَقِّ ، وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي البَاطِل وَيَدْعُوهُ إٍِلَيْهِ )
وهكذا راح القرآن يهز قلوبهم هزاً بهذه المشاهد المزلزلة ، التي تجسم لهم مصيرهم المخيف ، وتريهم إياه واقعاً مشهوداً ، وهم بعد في هذه الأرض ، يكذبون بلقاء الله ، ويتطاولون على مقامه دون توقير ، ويقترحون الاقتراحات المستهترة والهول المرعب ينتظرهم هناك والندم الفاجع بعد فوات الأوان .
-------------------------
وقال تعالى :{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) [المؤمنون/31-41]
ثُمَّ أَوْجَدَ اللهُ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أَقْوَاماً آخَرِينَ ( قَرْناً ) ، يَخْلفُونَهم فِي الأَرْضِ - وَقِيلَ إِنَّهُمْ قَوْمُ عَادٍ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُم - وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ مَا قَالَهُ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمِ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يُحَذِّرُهم وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ . } قَرْناً آخَرِينَ - أُمَماً آخَرِينَ . أُمَماً أُخْرَى وَهُمْ عَادٌ الأُولى قَوْمُ هُودٍ .
وَإِنَّهُ تَعَالَى أًرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُم ، هُوَ هُودٌ عَلَيْه السلامُ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْم اعْبُدُوا اللهَ ، وأَطِيعُوهُ ، دُونَ الأَوْثَانِ والأَصْنَامِ ، فَإِنَّ العِبَادَةَ لاَ تَنْبَغِي إِلاَ للهِ وحْدَهُ ، أَفَلاَ تَخَافُونَ عِقَابَهُ أَنْ يَحِلّ بِكُمْ إِذَا عَبَدْتُمُ الأَصْنَامَ ، وَتَرَكْتُمْ عِبَادَتهُ وَحْدَهُ بِلاَ شَرِيكٍ .
وَقَالَ الكُبَرَاءُ المُتْرَفُونَ مِنَ قَوْمِ هَذَا النَّبِيِّ ، وَهُمُ الذِينَ كَفُرُوا بِرَبِّهِم ، وَكَذَّبُوا بِيَوْمِ القِيَامَةٍ ، لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ : إِنَّ هَذَا المُدَّعِيَ بِأَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم رَسُولاً ، إِنْ هُوَ إِلاَّ بَشَرٌ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ كَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بشَرٌ رَسُولاً مِنَ اللهِ؟
وإِنَّكُمْ إِذَا آ مَنْتُم لِبَشَرٍ مِثلِكُمْ ، وَصَدَّقْتُم بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ ، وَعَبَدْتُم الإِلَهَ الذي يَدْعُوكُم لِعِبَادَتِهِ . . فَإِنَّكُم تَكُونَونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ، لأَنَّكُم لَنْ تَنْتَفِعُوا بِطَاعَتِهِ .
ثُمَّ قَالَ الكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ سَاخِرِينَ : أَيَعِدُكُمْ هَذَا المُدَّعِي أَنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِظَامُكُم وأَجْسَادُكُمْ قَدْ بَلِيَتْ وَأَصْبَحَتْ تُرَاباً ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ .
إِنَّ مَا يَعِدُكُمْ بِهِ مِنْ بَعْثٍ وَحَشْرٍ وَنَشْرٍ ، بَعِيدٌ جِدّاً وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ .
فَهِيَ حَيَاةٌ نَعِيشُها فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَمُوتُ بَعْدَهَا ، وَتَأْتِي بَعْدَنا أجْيَالٌ أُخْرَى لِلْحِيَاةِ ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ وَبالمَوْتِ يَنْتَهِي كُلُّ شَيءٍ ، فَلاَ بَعْثَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلاَ نُشُورَ وَلاَ حسَابَ .
وَقَالَ هَؤُلاءِ المُكَذِّبُونَ عَنْ رَسُولِهم : إِنَّهُ يَخْتَلِقُ الأَكَاذِيبَ عَلَى اللهِ ، وَيَدَّعِي أَنَّ الله أَوْحَى إِلَيْهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ ، وَنَحْنُ لاَ نُصَدِّقُ شَيْئاً مِمَّا عَنْ رِسَالَتِهِ ، وَعَنِ البَعْثِ والنُّشُورِ ، وَالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ . . وَلَنْ نُؤْمِنَ لَهُ ، وَلَنْ نَتَّبِعَهُ .
وَلَمَّا يَئِسَ الرَّسُولُ مِنْ إِيْمَانِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهم ( وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤمِنِينَ ) ، دَعَا رَبَّهُ مُسْتَنْصِراً بِهِ ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْصُرَهُ إِلَى هَؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ ، وَأَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُم .
فَأَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ ، وَقَالَ لَهُ ، إِنَّ قَوْمَهُ سَيُصْبِحُونَ ، خِلاَلَ وَقْتٍ قَصِيرٍ ، نَادِمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ ، وَتَكْذِيبِهِم رَسُولَ رَبِّهِم ، حِيْنَما يَحِلُّ بِهِم العَذَابُ .
فَأَخَذَتْهُمُ صَيْحَةُ العَذَابِ ، وَقَدْ كَانُوا لِمِثْلِهَا مُسْتَحِقِّينَ ، بِسَبَب كُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ ( بالحَقِّ ) ، فَأَصْبَحُوا هَلْكَى لاَ غَنَاءَ فِيهِمْ ، وَلاَ فَائِدَةَ تُرْجَى مِنْهُم ، كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَظَلَمُوا أَنْفَسَهم . وَفِي هَذَا مِنَ المَذَلَّةِ والمَهَانَةِ والاسْتِخْفَافَ بِهِمْ مَا لاَ يَخْفَى ، وَإِنَّ الذي يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الآخِرَةِ مِنَ العِقَابِ والمَهَانَةِ لأَعْظَمُ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا ، وَفِيهِ عَظِيمُ العِبْرَةِ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ .
الغُثُاءُ - الشيءُ الحَقِيرُ الذي لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ الذي يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مَعَهُ ، أيْ إِنَّى هَؤُلاَءِ الكُّفَارَ أصْبَحُوا هَالِكِينَ لاَ قِيمَةَ لَهُمْ .
إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل؛ إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء بها الجميع ، والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع . ومن ثم بدأ بذكر نوح عليه السلام ليحدد نقطة البدء؛ وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة الأخيرة . ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة ، كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية . إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد ، لأن هذا هو المقصود .
{ ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } . . لم يحدد من هم . وهم على الأرجح عاد قوم هود . .
{ فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون؟ } . . ذات الكلمة الواحدة التي قالها من قبله نوح . يحكيها بالألفاظ ذاتها ، مع اختلاف اللغات التي كانت تتخاطب بها القرون!
فماذا كان الجواب؟
(1/28)
إنه الجواب ذاته على وجه التقريب : { وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الآخرة ، وأترفناهم في الحياة الدنيا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون . ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون } . .فالاعتراض المكرور هو الاعتراض على بشرية الرسول . وهو الأعتراض الناشئ من انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكبراء المترفين ، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم .والترف يفسد الفطرة ، ويغلظ المشاعر ، ويسد المنافذ ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب . ومن هنا يحارب الإسلام الترف؛ ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة ، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله ، حتى لينخر فيه السوس ، ويسبح فيه الدود!
ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب .
{ أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت ونحيا ، وما نحن بمبعوثين } . .ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة . هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض . فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا .والشر كذلك . إنما يستكملان هذا الجزاء هنالك ، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا تحول فيها ولا زوال - إلا أن يشاء الله - ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجاراً ، أو كالأحجار!
مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى التي سبقت في السورة على أطوارها الأخيرة؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون . . لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد . يموت جيل ويحيا بعده جيل . فأما الذين ماتوا ، وصاروا تراباً وعظاماً ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب! وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به ، وقد صاروا عظاماً ورفاتاً!
ثم إنهم لا يقفون عند هذه الجهالة ، والغفلة عن تدبر حكمة الحياة التي تكشف عنها أطوارها الأولى . . لا يقفون عند هذه الجهالة ، إنما هم يتهمون رسولهم بالافتراء على الله . ولا يعرفون الله إلا في هذه اللحظة ، ولهذا الغرض من اتهام الرسول : { إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً ، وما نحن له بمؤمنين } . .عندئذ لم يجد الرسول إلا أن يستنصر ربه كما استنصره من قبله نوح . وبالعبارة ذاتها التي توجه بها إلى ربه نوح : { قال : رب انصرني بما كذبون } . .وعندئذ وقعت الاستجابة ، بعد أن استوفى القوم أجلهم؛ ولم يعد فيهم خير يرجى بعد العناد والغفلة والتكذيب : { قال : عما قليل ليصبحن نادمين } . .ولكن حيث لا ينفع الندم ، ولا يجدي المتاب : { فأخذتهم الصيحة بالحق ، فجعلناهم غثاء } . .والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة ، لا خير فيها ، ولا قيمة لها ، ولا رابط بينها . . وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم الله بها ، وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا ، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى . . لم يبق فيهم ما يستحق التكريم؛ فإذا هم غثاء كغثاء السيل ، ملقى بلا احتفال ولا اهتمام وذلك من فرائد التعبير القرآني الدقيق .
ويزيدهم على هذه المهانة ، الطرد من رحمة الله ، والبعد عن اهتمام الناس : { فبعداً للقوم الظالمين }
بعداً في الحياة وفي الذكرى . في عالم الواقع وفي عالم الضمير . .
ـــــــــــــ
(1/29)
الرسل مبلغون عن الله
قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) [النحل/35]
وَيَعْتَذِرُ المُشْرِكُونَ عَنْ شِرْكِهِمْ ، وَعِبَادَتِهِمْ الأَصْنَامَ ، وَتَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ السَّوَائِبِ وَالبَحَائِرِ وَالوَصَائِلِ . . إِلخ وَيَحْتَمُونَ بِالقَدَرِ ، وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ . وَيَقُولُونَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ كَانَ كَارِهاً ذَلِكَ لِمَا فَعَلُوهُ هُمْ ، وَلاَ فَعَلَهُ آبَاؤُهُمْ ، وَلأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ بِالعُقُوبَةِ ، وَلَمَا مَكَّنَهُمْ مِنْهُ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْكُمْ ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ أَشَدَّ الإِنْكَارِ ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ ، وَبَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ رَسُولاً يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ وَعِبَادَتِهِ ، وَيُحَذِّرُهُمْ عَوَاقِبَ الشِّرْكِ ، وَنَتَائِجَ البَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالكُفْرِ ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ ، كَمَا كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رُسُلَهُمْ ، وَتَابَعُوا أَسْلاَفَهُم عَلَى ضَلاَلِهِمْ فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ . وَمَهَمَّةُ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ هِيَ إِبْلاغُ النَّاسِ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ وَلَيْسَتْ مَهَمَّتُهُمْ إِجْبَارَ النَّاسِ ، وَإِكْرَاهَهُمْ عَلَى الإِيَمَانِ .
إنهم يحيلون شركهم وعبادتهم آلهة من دون الله هم وآباؤهم ، وأوهام الوثنية التي يزاولونها من تحريمهم لبعض الذبائح وبعض الأطعمة على أنفسهم بغير شريعة من الله . . إنهم يحيلون هذا كله على إرادة الله ومشيئته . فلو شاء الله في زعمهم ألا يفعلوا شيئاً من هذا لمنعهم من فعله .
وهذا وهم وخطأ في فهم معنى المشيئة الإلهية . وتجريد للإنسان من أهم خصائصه التي وهبها له الله لاستخدامها في الحياة .فالله سبحانه لا يريد لعباده الشرك ، ولا يرضى لهم أن يحرموا ما أحله لهم من الطيبات . وإرادته هذه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه ، على ألسنة الرسل الذين كلفوا التبليغ وحده فقاموا به وأدوه : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فهذا أمره وهذه إرادته لعباده . والله تعالى لا يأمر الناس بأمر يعلم أنه منعهم خلقة من القدرة عليه ، أو دفعهم قسراً إلى مخالفته . وآية عدم رضاه عن مخالفة أمره هذا ما أخذ به المكذبين { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } .
إنما شاءت إرادة الخالق الحكيم أن يخلق البشر باستعداد للهدى وللضلال ، وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار أي الطريقين؛ ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين ، بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن والحس والقلب والعقل حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار . . ثم شاءت رحمة الله بعباده بعد هذا كله ألا يدعهم لهذا العقل وحده ، فوضع لهذا العقل ميزاناً ثابتاً في شرائعه التي جاءت بها رسله ، يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر ، ليتأكد من صواب تقديره أو خطئه عن طريق الميزان الثابت الذي لا تعصف به الأهواء . .
---------------------
وقال تعالى :{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) [الأعراف/59-62]
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، شَرَعَ فِي سَرْدِ قَصَصِ الأَنْبِياءِ الكِرَامِ ، فَابْتَدأ بِنُوحٍ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لأنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ إلى أَهْلِ الأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ .
وَقَدْ لاقَى نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ عَنَاءً وَعَنتاً ، فَوَجَدَ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَسَمّوها بِأَسْمَاء ، مِثْل وَدٍّ وَسَواع وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ . . . فَبَعَثَ اللهُ نُوحاً فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِعِبَادِةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .
فَقَالَ جُمْهُورُ السَّادَةِ وَالكُبَرَاءِ ( المَلأُ ) مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ : إِنَّنَا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ فِي دَعْوَتِكَ إِيَّانَا إلَى تَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ التي وَجَدْنَا آبَاءَنا يَعْبُدُونَها .
فَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ : إِنَّنِي لَسْتُ ضَالاً ، وَلَمْ أَخْرُجْ عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي دَعْوتي لَكُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ ، وَإِنَّما أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ وَرَبِّ كُلِّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ وَمَالِكِهِ
وَأَنَا أَتَوَلَّى إِبْلاَغَكُمْ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ اللهُ إِلَيْكُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إلَى التَّوْحِيدِ ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ ، وَأَتَوَلَّى نُصْحَكُمْ وَتَوْجِيهَكْم إِلَى الخَيْرِ وَإِنَّنِي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ ، لأَنَّنِي مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِهِ إِلَيْكُمْ .
{ لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } . .على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه ، وبلسانهم ، تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم ، وتيسيراً على البشر في التفاهم والتعارف . وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة ، ولا يستجيبون ، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم ، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة! وإن هي إلا تعلة . وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى ، مهما جاءهم من أي طريق!
لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول : { فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .فهي الكلمة التي لا تتبدل ، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها ، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره ، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ، ووحدة الرباط . وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى ، والعبودية لأمثالهم من العبيد ، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد .
إن دين الله منهج للحياة ، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله . وهذا هو معنى عبادة الله وحده ، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره . . والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره . كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره .
وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية ، وقيامها على شريعته وأمره ، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده . . كلها حزمة واحدة . . غير قابلة للتجزئة . وإلا فهو الشرك ، وهو عبادة غير الله معه ، أو من دونه!
ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة ، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه ، وفي صدق الرائد الناصح لأهله :{ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } . .
وهنا نرى أن ديانة نوح . . أقدم الديانات . . كانت فيها عقيدة الآخرة . عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم ، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب . . وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة ، ومناهج الخابطين في الظلام من « علماء الأديان » وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن .
فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة؟
{ قال الملأ من قومه : إنا لنراك في ضلال مبين } !
كما قال مشركو العرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إنه صبأ ، ورجع عن دين إبراهيم!
وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر! . . هكذا تنقلب الموازين ، وتبطل الضوابط ، ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل .
وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدى الله؟ إنها تسميهم الضالين ، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول! . . أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه ، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه!
وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما « رجعية » وتخلفاً وجموداً وريفية! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه!
وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة؛ وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه؛ وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه : إنه « جامد » . ومغلق على نفسه ، وتنقصه المرونة والثقافة! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته . .
إن الجاهلية هي الجاهلية . . فلا تتغير إلا الأشكال والظروف!
وينفي نوح عن نفسه الضلال ، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومنبعها ، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه . إنما هو رسول من رب العالمين . يحمل لهم الرسالة . ومعها النصح والأمانة . ويعلم من الله ما لا يعلمون . فهو يجده في نفسه ، وهو موصول به ، وهم عنه محجوبون : { قال : يا قوم ليس بي ضلالة ، ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي ، وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون } .
-------------------------
وقال تعالى :{ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) [المائدة/]
الرَّسُولُ مُكَلَّفٌ مِنْ رَبِّهِ بِإبْلاغِ النَّاسِ أوَامِرَ رَبِّهِ وَرِسَالاتِهِ ، وَحِسَابُ النَّاسِ عَلَى اللهِ ، وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالعَلَنَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ ، وَمَا يُبَيِّتُهُ الإِنْسَانُ فِي سِرِّهِ ، وَسَيُحَاسَبُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى جَميعِ أعْمَالِهِ فِي الدُّنْيا .
------------------
وقال تعالى :{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) [آل عمران/19، 20]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ لاَ يَقْبَلُ دِيناً مِنْ أحَدٍ غَيْرَ دَينِ الإِسْلاَمِ . وَالإِسْلاَمُ هُوَ الاسْتِسْلاَمُ الكَامِلُ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، واتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَنْ لَقِيَ اللهَ بَعْدَ بِعْثَةِ مُحَمًّدٍ عَلَى غَيْرِ شَرِيْعَتِهِ فَلا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ أقْوَامَهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ ، يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ اتِّبَاعَ سَبيلِ اللهِ هذا ، وَيَحُثُّونَهُمْ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَلكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِسمَا بَيْنَهُمْ ، وَخَرَجُوا عِنِ الإِسْلاَمِ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ الأنْبِيَاءُ ، وَتَفَرَّقُوا شِيَعاً وَطَوَائِفَ مُتَنَاحِرَةً مَتَقَاتِلَةً . وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُ ذَلِكَ الاخْتِلافِ جَهْلاً بِحَقِيقَةِ الدِّينِ ، فَالدِّينُ وَاحِدٌ لا مَجَالَ لِلاخْتِلاَفِ فِيهِ ، وَلكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا اعْتِداءً وَظُلْماً وَبَغْياً وَتَبَاغُضاً بَيْنَهُمْ ( بَغْياً بَيْنَهُمْ ) ، وَاتِّبَاعاً للرُّؤَسَاءِ الذِينَ تَجَاوَزُوا الحُدُودَ ، وَلَوْلا بَغْيُهُمْ وَنَصْرُهُمْ مَذْهَباً على َذْهَبٍ ، وَتَضْلِيلُهُمْ مَنْ خَالَفهُمْ بِتُفْسِيرِ نُصُوصِ الدِّينِ بِالرَّأيِ وَالهَوَى ، وَتَأوِيلُ بَعْضِهِ أوْ تَحْرِيفُهُ ، لَمَا حَدَثَ هَذا الاخْتِلافُ .
وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَةِ عَلى وُجوبِ الاعْتِصَامِ بِالدِّينِ وَوَحْدَتِهِ ، فَإنَّ اللهَ يجَازِيهِ عَلَى مَا اجْتَرحَ مِنَ السَّيِّئاتِ ، واللهُ سَريعُ الحِسَابِ .
فَإنْ جَادَلَكَ أهْلُ الكِتَابِ أوْ غَيْرُهُمْ ( حَاجُّوكَ ) يَا مُحَمَّدُ فِي التَّوْحِيدِ ، بَعْدَ أنْ أقَمْتَ لَهُمُ البَيِّنَاتِ وَالبَرَاهِينَ ، وَبَعْدَ أَنْ جِئْتَهُمْ بِالحَقِّ ، فَقُلْ لَهُمْ : إنَّني أخْلَصْتُ عِبَادَتِي للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلا نِدَّ ، وَلاَ وَلَدَ وَلاَ صَاحِبَةَ : وَمَنِ اتًَّبَعَني عَلى دِينِي يَقُولُ كَمَقَالَتِي . وقُلْ لأَهْلِ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى وَللأمِّيينَ ( مُشْرِكِي العَرَبِ ) أأسْلَمْتُمْ وَآمنْتُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ، كَمَا أسْلَمْتُ أنا . فَإنْ أسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى الخَيْرِ وَالرَّشَادِ ، وَإنْ رَفَضُوا الدُّخُولَ فِي الإِسْلاَمِ ، وَآثَرُوا البَقَاءَ عَلَى مَا هُمْ عَليهِ ، فَأنْتَ مُكَلَّفٌ بِبَلاغِهِمْ وَدَعْوتِهِمْن وَإلى اللهِ مَرْجِعُهُمْ ، وَعَليهِ حِسَابُهُمْ ، وَاللهُ عَليمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ ، مِمَّنْ يِسْتَحِقُّ الضَّلاَلَ .
ألوهية واحدة . . وإذن فدينونة واحدة . . واستسلام لهذه الألوهية لا يبقى معه شيء في نفوس العباد ولا في حياتهم خارجا عن سلطان الله .
ألوهية واحدة . . وإذن فجهة واحدة هي صاحبة الحق في تعبيد الناس لها ; وفي تطويعهم لأمرها ; وفي إنفاذ شريعتها فيهم وحكمها ; وفي وضع القيم والموازين لهم وأمرهم باتباعها ; وفي إقامة حياتهم كلها وفق التعليمات التي ترضاها . .
ألوهية واحدة . . وإذن فعقيدة واحدة هي التي يرضاها الله من عباده . عقيدة التوحيد الخالص الناصع . . ومقتضيات التوحيد هذه التي أسلفنا:(إن الدين عند الله الإسلام) . .
الإسلام الذي هو ليس مجرد دعوى , وليس مجرد راية , وليس مجرد كلمة تقال باللسان ; ولا حتى تصورا يشتمل عليه القلب في سكون ; ولا شعائر فردية يؤديها الأفراد في الصلاة والحج والصيام . . لا . فهذا ليس بالإسلام الذي لا يرضى الله من الناس دينا سواه . إنما الإسلام الاستسلام . الإسلام الطاعة والاتباع . الإسلام تحكيم كتاب الله في أمور العباد . . كما سيجيء في السياق القرآني ذاته بعد قليل
والإسلام توحيد الألوهية والقوامة . . بينما كان أهل الكتاب يخلطون بين ذات الله - سبحانه - وذات المسيح - عليه السلام - كما يخلطون بين إرادة الله وإرادة المسيح أيضا . . ويختلفون فيما بينهم على هذه التصورات اختلافا عنيفا يصل في أحيان كثيرة إلى حد القتل والقتال . . هنا يبين الله لأهل الكتاب وللجماعة المسلمة علة هذا الاختلاف:
(وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . بغيا بينهم) .
إنه ليس اختلافا عن جهل بحقيقة الأمر . فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله , وتفرد الألوهية . وبطبيعة البشرية , وحقيقة العبودية . . ولكنهم إنما اختلفوا (بغيا بينهم) واعتداء وظلما ; حينما تخلوا عن قسط الله وعدله الذي تتضمنه عقيدته وشريعته وكتبه .
وقد رأينا فيما نقلناه عن المؤلف المسيحي الحديث كيف كانت التيارات السياسية تخلق هذه الاختلافات المذهبية . وليس هذا إلا نموذجا مما تكرر وقوعه في حياة اليهودية والمسيحية . وقد رأينا كيف كانت كراهية مصر والشام وما اليهما للحكم الروماني سببا في رفض المذهب الروماني الرسمي والتمذهب بمذهب آخر ! كما كان حرص بعض القياصرة على التوفيق بين أجزاء مملكته سببا في ابتداع مذهب وسط , يظن أنه يوفق بين الأغراض جميعا !! كأنما العقيدة لعبة تستخدم في المناورات السياسية والوطنية ! وهذا هو البغي أشنع البغي . عن قصد وعن علم !
ومن ثم يجيء التهديد القاصم في موضعه المناسب: (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) . .
وقد عد الاختلاف على حقيقة التوحيد كفرا ; وهدد الكافرين بسرعة الحساب ; كي لا يكون الإمهال - إلى أجل - مدعاة للجاجة في الكفر والإنكار والاختلاف . .
ثم لقن نبيه - صلى الله عليه وسلم - فصل الخطاب في موقفه من أهل الكتاب والمشركين جميعا . ليحسم الأمر معهم عن بينة , ويدع أمرهم بعد ذلك لله , ويمضي في طريقه الواضح متميزا متفردا: (فإن حاجوك فقل:أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ? فإن أسلموا فقد اهتدوا . وإن تولوا فإنما عليك البلاغ . والله بصير بالعباد) . .
إنه لا سبيل إلى مزيد من الإيضاح بعد ما تقدم . فإما اعتراف بوحدة الألوهية والقوامة , وإذن فلا بد من الإسلام والاتباع . وإما مماحكة ومداورة . وإذن فلا توحيد ولا إسلام .
ومن ثم يلقن الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - كلمة واحدة تبين عقيدته كما تبين منهج حياته:(فإن حاجوك) - أي في التوحيد وفي الدين - (فقل:أسلمت وجهي لله) أنا(ومن اتبعن) . . والتعبير بالاتباع ذو مغزى هنا . فليس هو مجرد التصديق . إنما هو الأتباع . كما أن التعبير بالإسلام الوجه ذو مغزىكذلك . فليس هو مجرد النطق باللسان أو الاعتقاد بالجنان . إنما هو كذلك الاستسلام . استسلام الطاعة والاتباع . . وإسلام الوجه كناية عن هذا الاستسلام . والوجه أعلى وأكرم ما في الإنسان . فهي صورة الانقياد الطائع الخاضع المتبع المستجيب .
هذا اعتقاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ومنهج حياته . والمسلمون متبعوه ومقلدوه في اعتقاده ومنهج حياته . . فليسأل إذن أهل الكتاب والأميين سؤال التبين والتمييز ووضع الشارة المميزة للمعسكرين على وضوح لا اختلاط فيه ولا اشتباه: (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين:أأسلمتم ?) . .
فهم سواء . هؤلاء وهؤلاء . المشركون وأهل الكتاب هم مدعوون إلى الإسلام بمعناه الذي شرحناه . مدعوون للإقرار بتوحيد ذات الله , ووحدة الألوهية ووحدة القوامة . مدعوون بعد هذا الإقرار إلى الخضوع لمقتضاه . وهو تحكيم كتاب الله ونهجه في الحياة .
(فإن أسلموا فقد اهتدوا) . .فالهدى يتمثل في صورة واحدة . هي صورة الإسلام . بحقيقته تلك وطبيعته . وليس هنالك صورة أخرى , ولا تصور آخر , ولا وضع آخر , ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء . . إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء . .
(وإن تولوا فإنما عليك البلاغ) . .فعند البلاغ تنتهي تبعة الرسول وينتهي عمله . وكان هذا قبل أن يأمره الله بقتال من لا يقبلون الإسلام حتى ينتهوا:إما إلى اعتناق الدين والخضوع للنظام الذي يتمثل فيه . وإما إلى التعهد فقط بالطاعة للنظام في صورة أداء الجزية . . حيث لا إكراه على الاعتقاد . .
(والله بصير بالعباد) . . يتصرف في أمرهم وفق بصره وعلمه . وأمرهم إليه على كل حال .
--------------------
وقال تعالى :{ وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) [الرعد/40]
وَإِنْ أَرَيْنَاكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، بَعْضَ الذِي أَوْعَدْنَا بِهِ أَعْدَاءَكَ مِنَ الخِزْيَ وَالنّكَالِ فِي الدُّنيا ، أَوْ تَوَفَيْنَاكَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَةَ اللهِ ، وَقَدْ فَعَلْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ ، وَجَزَاؤُهُمْ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ ، وَسَيَجْزِي اللهُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ ، وَيَجْزِي الكَافِرِينَ بِالخِزِيِّ ، فِي الدُّنْيا ، وَبِالعَذَابِ الدَّائِمِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ .
وهكذا تتجلى طبيعة الرسالة وحدود الرسول . . إنما هو منذر ، ليس عليه إلا البلاغ وليس له إلا أن يتلو ما أوحي إليه ، وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله . ثم هو عبد لله ، الله ربه ، وإليه متابه ومآبه؛ وهو بشر من البشر يتزوج وينسل؛ ويزاول بشريته كاملة بكل مقتضيات البشرية؛ كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية . .
وبهذه النصاعة الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهِّومة في الفضاء والظلام ، حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي ، وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة التي حفلت بها العقائد الكنسية كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية؛ والتي قضت على « المسيحية » منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها ، بعد ما كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليه السلام؛ تجعل المسيح عبداً لله؛ لا يأتي بآية إلا بإذن الله .
إن هذا القول إنما يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - الرسول الذي أوحي إليه من ربه .
وكلف مخاطبة الناس بهذه العقيدة . . وخلاصة هذا القول : إن أمر هذا الدين ليس إليه هو ، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس . فالله وحده هو الذي يملك الهداية . سواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله ، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته . . البلاغ . . وحسابهم بعد ذلك على الله . . وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته . فواجبه محدد ، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله .
(1/30)
بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر . . ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس ، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين . . ليس لهم أن يقولوا : لقد دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل؛ أو لقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء! . . إنْ عليهم البلاغ . . أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد . إنما هو من شأن الله! فينبغي تأدباً في حق الله واعترافاً بالعبودية له أن يترك له سبحانه ، يفعل فيه ما يشاء ويختار . .
والسورة مكية . . من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - « بالبلاغ » . . ذلك أن « الجهاد » لم يكن بعد قد كتب . فأما بعد ذلك فقد أمر بالجهاد بعد البلاغ وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين . فالنصوص فيه نصوص حركية؛ مواكبه لحركة الدعوة وواقعها؛ وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها . . وهذا ما تغفل عنه كثرة « الباحثين » في هذا الدين في هذا الزمان . وهم يزاولون « البحث » ولا يزاولون « الحركة » فلا يدركون من ثم مواقع النصوص القرآنية ، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين!
وكثيرون يقرأون مثل هذا النص : { إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى الله تنتهي عند البلاغ . فإذا قاموا « بالتبليغ » فقد أدوا ما عليهم! . . أما « الجهاد »! فلا أدري والله أين مكانه في تصور هؤلاء!
كما أن كثيرين يقرأون مثل هذا النص ، فلا يلغون به الجهاد ، ولكن يقيدونه! . . دون أن يفطنوا إلى أن هذا نص مكي نزل قبل فرض الجهاد . ودون أن يدركوا طبيعة ارتباط النصوص القرآنية بحركة الدعوة الإسلامية . ذلك أنهم هم لا يزاولون الحركة بهذا الدين؛ إنما هم يقرأونه في الأوراق وهم قاعدون! وهذا الدين لا يفقهه القاعدون . فما هو بدين القاعدين!
على أن « البلاغ » يظل هو قاعدة عمل الرسول ، وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين .
وهذا البلاغ هو أول مراتب الجهاد . فإنه متى صح ، واتجه إلى تبليغ الحقائق الأساسية في هذا الدين قبل الحقائق الفرعية . . أي متى اتجه إلى تقرير الألوهية والربوبية والحاكمية لله وحده منذ الخطوة الأولى؛ واتجه إلى تعبيد الناس لله وحده ، وقصر دينونتهم عليه وخلع الدينونة لغيره . . فإن الجاهلية لا بد أن تواجه الدعاة إلى الله ، المبلغين التبليغ الصحيح ، بالإعراض والتحدي ، ثم بالإيذاء والمكافحة . . ومن ثم تجئ مرحلة الجهاد في حينها ، نتاجاً طبيعياً للتبليغ الصحيح لا محالة { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين ، وكفى بربك هادياً ونصيراً } هذا هو الطريق . . وليس هنالك غيره من طريق!
--------------------------
وقال تعالى :{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) [النحل/82 ]
فَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى غَيِّهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ ، وَتَوَلَّوْا عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنْتَ لَهُمْ وَوَضَّحْتَ ، وَأَبْلَغْتَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ . . . فَلاَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ ، وَلاَ تُهْلِكَ نَفْسَكَ حُزْناً عَلَيْهِمْ ، فَأَنْتَ مُكَلَّفٌ بِإِبْلاغِهِمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الحَقِّ وَالهُدَى وَالإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَقَدْ أَدَّيْتَ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ .
---------------------
وقال تعالى :{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) [يس/13-17]
وَاضْرِبْ يَا مُحَمَّدُ مَثَلاً لِقَوْمِكَ قِصَّةَ أَهْلِ القَرْيَةِ الكَافِرِينَ ، الذينَ جَاءَهُم رُسُلُ اللهِ ، فَإِنَّهَا كَقِصَّتِهِمْ
حِينَ أَرْسَل اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ رَسُولَيْنِ مِنْ عِنْدِهِ ، فَكَذَّبُوهُما ، وَأَنْكَرُوا رِسَالَتَهُمَا إِلَيْهِمْ ، فأَيَّدَهُمَا اللهُ بِرَسُولٍ ثَالِثٍ ، فَقَالَ الرُّسُلُ الثَّلاَثَةُ لأَهْلِ القَرْيَةِ : إِنَّهُمْ مُرْسَلُونَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِم اللهِ الذِي خَلَقَهُمْ ، لإِبْلاَغِهِمْ رَسَالََتَهُ ، وَلِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِيْمَانِ باللهِ وَحْدَهُ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَإِلَى عِبَادَتِهِ ، وَإِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ الذي يَرْتَضِيهِ .
فَقَالَ أَهْلُ القرْيَةِ للرُّسُلِ : إِنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ القَرْيَةِ ، وَلاَ مِيزَةَ لَهُمْ تَجْعَلُ اللهَ تَعَالَى يَخَتصُّهُمْ ، بِرَسَالاَتِهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ ، وَإِنَّ الرَّحْمَن لَمْ يُنْزِلْ إِلَيْهِمْ رَسَالَةً وَلاَ كِتَاباً ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ بِإِبْلاَغِ أَحَدٍ شيئاً ، فَمَا همْ إِلاَّ كَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ .
فَأَجَابَهُم الرُّسُلُ قَائِلين : إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ رُسُلُهُ إِلَى أَهْلِ القَرْيَةِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى اللهِ ، فِيمَا يَدَّعُونَه ، لانْتَقَمَ مِنْهُمْ .
وَقَالَ الرُّسُلُ : إِنّ َمَهَمَّتَهُمْ تَنْحَصِرُ فِي إِبْلاَغِ رِسَالَةِ اللهِ تَعَالَى إِلى أَهْلِ القَرْيَةِ ، فَإِنْ أَطَاعُوا فَازُوا بِرِضَا اللهِ وَجَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ ، وَإِنْ تَوَلُّوْا وأَعْرَضُوا وأَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَإِنَّ اللهَ سَيَجْزِيِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الجَزَاءَ الأَوْفَى .
وهذا الاعتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والإدراك ، كما يبدو فيه الجهل بوظيفة الرسول . فقد كانوا يتوقعون دائماً أن يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير . . أليس رسول السماء إلى الأرض فكيف لا تحيط به الأوهام والأساطير؟ كيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغاز حولها؟! شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلئ بها الأسواق والبيوت؟!
وهذه هي سذاجة التصور والتفكير . فالأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة والرسالة . وليست في هذه الصورة الساذجة الطفولية . وإن هنالك لسراً هائلاً ضخماً ، ولكنه يتمثل في الحقيقة البسيطة الواقعة . حقيقة إيداع إنسان من هؤلاء البشر الاستعداد اللدني الذي يتلقى به وحي السماء ، حين يختاره الله لتلقي هذا الوحي العجيب . وهو أعجب من أن يكون الرسول ملكاً كما كانوا يقترحون!
والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية . وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي . النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به . وهم بشر . فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون هم أن يقلدوه .
ومن ثم كانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - معروضة لأنظار أمته . وسجل القرآن كتاب الله الثابت المعالم الرئيسية في هذه الحياة بأصغر تفصيلاتها وأحداثها ، بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون . ومن هذه التفصيلات حياته المنزلية والشخصية . حتى خطرات قلبه سجلها القرآن في بعض الأحيان ، لتطلع عليها الأجيال وترى فيها قلب ذلك النبي الإنسان .
ولكن هذه الحقيقة الواضحة القريبة هي التي ظلت موضع الاعتراض من بني الإنسان!
ولقد قال أهل تلك القرية لرسلهم الثلاثة : { ما أنتم إلا بشر مثلنا } . . وقصدوا أنكم لستم برسل . . { وما أنزل الرحمن من شيء } . . مما تدعون أنه نزله عليكم من الوحي والأمر بأن تدعونا إليه . { إن أنتم إلا تكذبون } . . وتدعون أنكم مرسلون!
وفي ثقة المطمئن إلى صدقه ، العارف بحدود وظيفته أجابهم الرسل : { قالوا : ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون . وما علينا إلا البلاغ المبين } . .
إن الله يعلم . وهذا يكفي . وإن وظيفة الرسل البلاغ . وقد أدوه . والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لأنفسهم من تصرف . وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار . والأمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك التبليغ عن الله؛ فمتى تحقق ذلك فالأمر كله بعد ذلك إلى الله .
------------------------
وقال تعالى :{ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) [الشورى/47، 48]
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَّرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِمَا يَكُونُ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ مِنَ الأهْوَالِ والعَظَائِمِ ، حَذَّرَهُمْ مِنْهُ ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الاسْتِعْدَادِ لَهُ فَقَالَ لَهُمْ : أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَآمِنُوا بِهِ ، وَاتَّبعُوهُ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِي يَوْمُ القِيَامَةِ ، وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ ، وَهُوَ يَوْمٌ آتٍ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌَ أَنْ يَمْنَعَ مَجِيئَهُ إِذَا جَاءَ بِهِ اللهُ . وَلَيْسَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ اليَومِ مِنْ مَكَانٍ تَلْتَجِئُونَ إِلَيهِ لِتَنْجُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ ، وَلَيْسَ لَكُمْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى إِنْكَارِ مَا كَانَ مِنْكُمْ مِنْ جَرَائِمَ وَسَيِّئَاتٍ فِي الحِيَاةِ الدُّنْيَا ، لأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَسْطُورٌ فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِكُمْ ، وَإِذَا جَحَدْتُمُوهُ أَشْهَدَ اللهُ عَلَيكُمْ جُلُودَكُمْ وَأَسْمَاعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ .
( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ المَعْنَى هُوَ : أَنَّ الظَّالِمِينَ لَنْ يَجِدُوا لَهُمْ نَاصِراً يُنْكِرُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ العَذَابِ الأَليمِ .
وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ المَعْنَى هُوَ : لَيْسَ لَكُمْ مِنْ مَكَانٍ يَسْتُرُكُمْ وَتَتَنَكَّرُونَ فِيهِ فَتَغِيبُوا عَنْ بَصَرِ اللهِ تَعَالَى
فَإِنْ أَعْرَضَ المُشْرِكُونَ عَمَّا أَتَيتَهُمْ بِهِ مِنْ الحَقِّ ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ، فَدَعْهُمْ وَشَأْنَهُمْ ، فَإِنَّنَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُبَلِّغَهُمْ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيكَ مِنَ الدِّينِ والقُرْآنِ ، وَلَمْ نُرْسِلْكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تُحْصِي عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ وَتَحْفَظُهَا .
وَإِنَّا إِذَا أَصَبْنَا الإِنْسَانَ بِنِعْمَةِ مِنَّا وَرَحْمَةٍ وَرِزْقٍ فَرِحَ بِذَلِكَ وَسُرَّ ، وَإِنْ أَصَابِتْهُ فَاقَةٌ أَوْ مَرَضٌ ( سَيِّئَةٌ ) بِسَبَبِ مَا عَمِلَ مِنَ المَعَاصِي ، جَحَدَ نِعْمَتَنَا ، وَآيَسَ مِنَ الخَيرِ؛ وَالإِنْسَانُ مِنْ طَبْعِهِ الجُحُودُ وَكُفْرَانُ النِّعْمَةِ .
--------------------
وقال تعالى :{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) [التغابن/12]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى فِيمَا شَرَعَ ، وَبِطَاعَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ فِيمَا بَلَّغَ ، وَبِأَنْ يَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ ، وَبِتَرْكِ مَا نُهُوا عَنْهُ ، فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ مَهَمَّتُهُ أَدَاءُ الرِّسَالَةِ ، وَقَدْ فَعَلَ ، وَلاَ يُسْأَلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ شَيءٍ مِنْ أَعْمَالِ العِبَادِ .
ـــــــــــــ
(1/31)
بماذا بعث الرسل ؟
قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) [النحل/36]
لَقَدْ بَعَثَ اللهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ ( الطَّاغُوتِ ) ، وَعَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَعَنِ الشِّرْكِ بِاللهِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ، وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ فَاهْتَدَى ، وَمِنْهُمْ مَنَ ضَلَّ وَاسْتَكْبَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ ، لِهؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ : سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ نِهَايَةُ المُكَذِبِينَ ، وَكَيْفَ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ ، وَجَعَلَ عَاقِبَتَهُمْ أَسْوَأَ عَاقِبَةٍ ، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ بُرْهَانَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ اللهَ رَضِيَ لَهُمُ الكُفْرَ .
فالله سبحانه لا يريد لعباده الشرك ، ولا يرضى لهم أن يحرموا ما أحله لهم من الطيبات . وإرادته هذه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه ، على ألسنة الرسل الذين كلفوا التبليغ وحده فقاموا به وأدوه : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فهذا أمره وهذه إرادته لعباده . والله تعالى لا يأمر الناس بأمر يعلم أنه منعهم خلقة من القدرة عليه ، أو دفعهم قسراً إلى مخالفته . وآية عدم رضاه عن مخالفة أمره هذا ما أخذ به المكذبين { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } .
إنما شاءت إرادة الخالق الحكيم أن يخلق البشر باستعداد للهدى وللضلال ، وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار أي الطريقين؛ ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين ، بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن والحس والقلب والعقل حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار . . ثم شاءت رحمة الله بعباده بعد هذا كله ألا يدعهم لهذا العقل وحده ، فوضع لهذا العقل ميزاناً ثابتاً في شرائعه التي جاءت بها رسله ، يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر ، ليتأكد من صواب تقديره أو خطئه عن طريق الميزان الثابت الذي لا تعصف به الأهواء . . ولم يجعل الرسل جبارين يلوون أعناق الناس إلى الإيمان ، ولكن مبلغين ليس عليهم إلا البلاغ ، يأمرون بعبادة الله وحده واجتناب كل ما عداه من وثنية وهوى وشهوة وسلطان :{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } . .
ففريق استجاب { فمنهم من هدى الله } وفريق شرد في طريق الضلال { ومنهم من حقت عليه الضلالة } . . وهذا الفريق وذلك كلاهما لم يخرج على مشيئة الله ، وكلاهما لم يقسره الله قسراً على هدى أو ضلال ، إنما سلك طريقه الذي شاءت إرادة الله أن تجعل إرادته حرة في سلوكه ، بعد ما زودته بمعالم الطريق في نفسه وفي الآفاق .
كذلك ينفي القرآن الكريم بهذا النص وهم الإجبار الذي لوح به المشركون ، والذي يستند إليه كثير من العصاة والمنحرفين . والعقيدة الإسلامية عقيدة ناصعة واضحة في هذه النقطة . فالله يأمر عباده بالخير وينهاهم عن الشر ، ويعاقب المذنبين أحياناً في الدنيا عقوبات ظاهرة يتضح فيها غضبه عليهم . فلا مجال بعد هذا لأن يقال : إن إرادة الله تتدخل لترغمهم على الانحراف ثم يعاقبهم عليه الله! إنما هم متروكون لاختيار طريقهم وهذه هي إرادة الله . وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر . من هدى ومن ضلال . يتم وفق مشيئة الله على هذا المعنى الذي فصلناه .
----------------------
وقال تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) [فصلت/13-14]
فَإِنْ أََعْرَضَ مُشْرِكُو قُرَيشٍ ، فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، فَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ بِحُلُولِ نَقْمَتِهِ تَعَالَى بِكُمْ كَمَا نَزَلَتْ بِالأُمَمِ المَاضِيَةِ التِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا كَعَادٍ وَثَمُودَ وَمَنْ شَاكَلَهُمَا .
فَقَدْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ ، وَأَمَرُوهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، فَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ ، وَاسْتَكْبِرُوا عَنٍ اتِّبَاعِ دَعْوَتِهِمْ ، مُتَعَلِّلِينَ بِأَنَّ اللهَ لَوْ شَاءَ أَنْ يُرْسِلَ رَسُلاً لأَرْسَلَهُمْ مِنَ المَلاَئِكَةِ ، وَلَمْ يُرْسِلْهُمْ مِنَ البَشَرِ ، وَبِمَا أَنَّ رُسُلَهُمْ كَانُوا مِنَ البَشَرِ لِذَلِكَ أَعْلَنُوا هُمْ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَتْبَعُوهُمْ ، وَأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِمَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَيْهِمْ .
--------------------
وقال تعالى : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) [آل عمران/79-80]
مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَأهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ أنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللهِ ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ يَقُولُ لِلنَّاسِ : اعْبُدُوا اللهَ ، وَكُونُوا أهْلَ عِبَادَةٍ للهِ وَتَقْوىً ( رَبَّانِيِّينَ ) ، وَكُونُوا فُقَهَاءً تَفْهَمُونَ شَرَائِعَ دِينِهِ ، وَتَحْفَظُونَها ، وَتَدْرُسُونَ كُتُبَهُ وَتَعْمَلُونَ بِهَا .
وَلاَ يَأمُرُكُمُ النَّبِيُّ أنْ تَعْبُدُوا أحَداً غَيْرَ اللهِ ، لا نَبِيّاً مُرْسَلاً وَلاَ مَلَكاً مُقَرَّباً ، لأنًَّ عِبَادَةَ غَيرِ اللهِ كُفْرٌ . وَمَنْ دَعَا إلى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ فَقَدْ دَعَا إِلى الكُفْرِ . وَالأنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالإِيْمَانِ ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبإِخْلاصِ العِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ ، وَلَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أنْ يَدْعُوَ النَّبِيُّ النَّاسَ إلى الكُفْرِ ، بَعْدَ أنْ أَسْلَمُوا وُجُوَهَهُمْ للهِ مُؤْمِنينَ مُطِيعِينَ .
وآفة رجال الدين حين يفسدون ، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين . وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب ، نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا . فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم ، ويلوونها ليا ليصلوا منها إلى مقررات معينة ، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص ، وأنها تمثل ما أراده الله منها . بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها . معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية ، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء .
ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيداً في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلماً! الذين يحترفون الدين ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها؛ ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق ، وأن هناك عرضاً من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل! يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء ، ويلوون أعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية . ويبذلون جهداً لاهثاً في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها . . { ويقولون هو من عند الله . وما هو من عند الله . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . . كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء . فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم . إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض! وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله ، تحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله ، ومجاراة أهوائهم المنحرفة التي تصادم دين الله . . وكأنما كان الله - سبحانه - يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء ، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل .
هذا النموذج من بني إسرائيل - فيما يبدو من مجموع هذه الآيات - كانوا يتلمسون في كتاب الله الجمل ذات التعبير المجازي؛ فيلوون السنتهم بها - أي في تأويلها واستخراج مدلولات منها هي لا تدل عليها بغير ليها وتحريفها - ليوهموا الدهماء أن هذه المدلولات المبتدعة هي من كتاب الله؛ ويقولون بالفعل : هذا ما قاله الله ، وهو ما لم يقله - سبحانه - وكانوا يهدفون من هذا إلى إثبات الوهية عيسى عليه السلام ومعه « روح القدس » .. وذلك فيما كانوا يزعمون من الأقانيم : الأب والابن والروح القدس . باعتبارها كائناً واحداً هو الله - تعالى الله عما يصفون - ويروون عن عيسى - عليه السلام - كلمات تؤيد هذا الذي يدعونه ، فرد الله عليهم هذا التحريف وهذا التأويل ، بأنه ليس من شأن نبي يخصه الله بالنبوة ويصطفيه لهذا الأمر العظيم أن يأمر الناس أن يتخذوه إلهاً هو والملائكة . فهذا مستحيل : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس : كونوا عباداً لي من دون الله ، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟ } . .
إن النبي يوقن أنه عبد ، وأن الله وحده هو الرب ، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم . فما يمكن أن يدعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية . فلن يقول نبي للناس : { كونوا عباداً لي من دون الله } . . ولكن قوله لهم : { كونوا ربانيين } . . منتسبين إلى الرب ، عباداً له وعبيداً ، توجهوا إليه وحده بالعبادة ، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم ، حتى تخلصوا له وحده فتكونوا { ربانيين } . . كونوا { ربانيين } . . بحكم علمكم للكتاب وتدارسكم له . فهذا مقتضى العلم بالكتاب ودراسته .
والنبي لا يأمر الناس أبداً أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ، فالنبي لا يأمر الناس بالكفر بعد أن يسلموا لله ويستسلموا لألوهيته ، وقد جاء ليهديهم إلى الله لا ليضلهم ، وليقودهم إلى الإسلام لا ليكفرهم!
ومن ثم تتجلى استحالة هذا الذي ينسبه ذلك الفريق إلى عيسى - عليه السلام - كما يتجلى الكذب على الله في ادعائهم أن هذا من عند الله . . وتسقط في الوقت ذاته قيمة كل ما يقوله هذا الفريق وما يعيده لإلقاء الريب والشكوك في الصف المسلم . وقد عراهم القرآن هذه التعرية على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة!
ومثل هذا الفريق من أهل الكتاب فريق ممن يدعون الإسلام ، ويدعون العلم بالدين كما أسلفنا . وهم أولى بأن يوجه إليهم هذا القرآن اليوم . وهم يلوون النصوص القرآنية ليا ، لإقامة أرباب من دون الله في شتى الصور . وهم يتصيدون من النصوص ما يلوونه لتمويه هذه المفتريات .
----------------------
وقال تعالى :{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) [الأعراف/65-72]
وَكَمَا أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى نُوحاً إلى قَوْمِهِ ، كَذَلِكَ أَرْسَلَ هُوداً إلَى قَوْمِهِ عَادٍ ، وَهُوَ مِنْهُمْ ، يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ لُغَتَهُمْ وَتَفْكِيرَهُمْ لِيَسْتَطِيعَ مُخَاطَبَتَهُمْ . وَكَانَ قَوْمَ عَادٍ ذَوِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَقُوَّةٍ ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ فِي الأَحْقَافِ فِي جَنُوبِّي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ ، وَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسَ تَكْذِيباً لِلْحَقِّ ، اعْتِدَاداً مِنْهُمْ بِقُوَّتِهِمْ ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِمْ . فَدَعَاهُمْ هُودٌ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ نِقَمِهِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى فِعْلِ مَا يُسْخِطُ اللهَ مِنَ الشِّرْكِ وَالمَعَاصِي لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَهَا .
قَالَ جُمْهُورُ السَّادَةِ مِنْ قَوْمِهِ ( المَلأُ ) : إِنَّنَا نَرَاكَ فِي ضَلالٍ وَفَسَادِ رَأْيٍ ( فِي سَفَاهَةٍ ) ، إِذْ تَدْعُونَا إلَى تَرْكِ عِبَادَة الأَصْنَامِ ، وَالإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، وَإِنَّنَا نَظُنُّ أَنَّكَ كَاذِبٌ فِي دَعْواكَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا رَسُولاً .
فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّنِي لَسْتُ سَفِيهاً ضَالاً عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ ، وَلاَ ضَعِيفَ الرَّأْيِ ، كَمَا تَزْعُمُونَ ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ إِلَيْكُمْ ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالحَقِّ وَالهُدَى مِنَ اللهِ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ ، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ وَخَالِقُهُ وَمَالِكُهُ .وَمَهَمَّتِي هِيَ مَهَمَّةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ الذِينَ جَاؤُوا قَبْلِي وَهِيَ إِبْلاغُ رِسَالَةِ اللهِ إلى عِبَادِهِ ، وَإِسْدَاءُ النُّصْحِ إِليهِم ، وَأَنَا صَادِقٌ فِي نُصْحِي لَكُمْ ، أَمينٌ فِي إِبْلاَغِكُمْ مَا أَمَرَنِي رَبِّي بِإِبْلاَغِهِ إِلَيْكُمْ .
أَعَجِبْتُمْ وَكَذَّبْتُمْ أَنْ بَعَثَ اللهُ إِلَيْكُمْ رَسُولاً مِنَ البَشَرِ ( مِنْكُمْ ) يُوحِي إِلَيْهِ لِيَدْعُوكُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلِيُنْذِرَكُمْ وَيُخَوِّفَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ ، إنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى الكُفْرِ وَالجُحُودِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ؟ كَلاّ لاَ تَعْجَبُوا مِنْ ذَلِكَ ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَذَلِكَ لُطْفٌ مِنْهُ بِكُمْ ، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ ، الذِي أَهْلَكَ اللهُ النَّاسَ بِدَعْوَتِهِ لَمَّا خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ .
وَقَدْ أَكْرَمَكُمُ اللهُ فَزَادَ فِي أَجْسَامِكُمْ بَسْطَةً طُولاً وَقُوَّةً ، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ هذِهِ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَيْهَا بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ وَحُسْنِ العِبَادَةِ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فِي النَّجَاةِ مِنْ نَقْمَتِهِ تَعَالَى ، وَتَفُوزُونَ فِي اكْتِسَابِ مَرْضَاتِهِ . فَتَكَبَّرُوا وَطَغَوا ، وَزَادُوا فِي عِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ ، وَقَالُوا لِهُودَ : أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ ، وَنَتَخَلَّى عَنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ التِي كَانَ يَعْبُدُها آبَاؤُنا ، فَهَذا لَنْ يَكُونَ أَبَداً . وَإِذا كُنْتَ صَادِقاً بِأَنَّكَ رَسُولَ اللهِ ، فَأْتِنا بِمَا حَذَّرْتَنَا مِنْهُ مِنَ العَذَابِ عَلَى تَرْكِ الإِيمَانِ بِرَبِّكَ .
قَالَ لَهُمْ هُودٌ : لَقَدْ حَقَّ عَلَيكُمْ ، بِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ ، سَخَطٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَغَضَبٌ ( رِجْسٌ ) ، أَتُجَادِلُونَنِي فِي هذِهِ الأَصْنَامِ التِي اتَّخَذْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ آلِهَةً ، وَجَعَلْتُمْ لَهَا أَسْمَاءً ، وَهِيَ فِي الحَقِيقَةِ لا تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ، وَلَيْسَ لَكُمْ حُجَّةٌ مِنَ اللهِ ، وَلاَ دَلِيلٌ يُبَرِّرُ عِبَادَتَكُمْ لَهَا ، أَوْ يُصَدِّقُ زَعْمَكُمْ بِأنَّهُ رَضِيَ بِأَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ . وَمَا دُمْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ مِنْ كَلِمَةِ الكُفْرِ ، فَانْتَظِرُوا عِقَابَ اللهِ وَقَضَاءَهُ . وَأَنَا مُنْتَظِرٌ مَعَكُمْ نُزُولَهُ بِكُمْ . فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللهِ سَاقَ اللهُ إِلَى عَادٍ السَّحَابَ الذِي يَحْمِلُ إِلَيْهِم العَذَابَ ، وَأَنْجَى رَسُولَهُ هُوداً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَلُطْفٍ ، وَدَمَّرَ الكَافِرِينَ جَمِيعاً ، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلى آخِرِهِمْ ، لَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَداً ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ بِرَبِّهِمْ الوَاحِدِ الأَحَدِ .
القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا كما أسلفنا عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة . ولعل أول خطوة في هذا الإنحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح! ثم تطور هذا التعظيم جيلاً بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة؛ ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات ، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة في صورة من صور الجاهلية الكثيرة . ذلك أن الانحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق . الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا لله وحده . . الانحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمان خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله .
وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى ، وأن يستنكر منهم قلة التقوى؛ ورأوا فيه سفاهة وحماقة ، وتجاوزا للحد ، وسوء تقدير للمقام! فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياء : { قال الملأ الذين كفروا من قومه : إنا لنراك في سفاهة ، وإنا لنظنك من الكاذبين } . .هكذا جزافاً بلا تروّ ولا تدبر ولا دليل!
{ قال : يا قوم ليس بي سفاهة ، ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين } . .لقد نفى عن نفسه السفاهة في بساطة وصدق - كما نفى عن نفسه الضلالة - وقد كشف لهم - كما كشف نوح من قبل - عن مصدر رسالته وهدفها؛ وعن نصحه لهم فيها وأمانته في تبليغها . وقال لهم ذلك كله في مودة الناصح وفي صدق الأمين .
ولا بد أن يكون القوم قد عجبوا - كما عجب قوم نوح من قبل - من هذا الاختيار ، ومن تلك الرسالة ، فإذا هود يكرر لهم ما قاله نوح من قبل ، كأنما كلاهما روح واحدة في شخصين :{ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم؟ } . .ثم يزيد عليه ما يمليه واقعهم . . واقع استخلافهم في الأرض من بعد قوم نوح ، وإعطائهم قوة في الأجسام وضخامة بحكم نشأتهم الجبلية ، وإعطائهم كذلك السلطان والسيطرة :{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ، وزادكم في الخلق بسطة . فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون } . .
فلقد كان من حق هذا الاستخلاف ، وهذه القوة والبسطة ، أن تستوجب شكر النعمة ، والحذر من البطر ، واتقاء مصير الغابرين .
وهم لم يأخذوا على الله عهداً : أن تتوقف سنته التي لا تتبدل ، والتي تجري وفق الناموس المرسوم ، بقدر معلوم . وذكر النعم يوحي بشكرها؛ وشكر النعمة تتبعه المحافظة على أسبابها؛ ومن ثم يكون الفلاح في الدنيا والآخرة .
ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر . . وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم ، واختصروا الجدل ، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح ، ويهزأ بالإنذار : { قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } . .
لكأنما كان يدعوهم إلى أمر منكر لا يطيقون الاستماع إليه ، ولا يصبرون على النظر فيه :{ أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ } ؛
إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول . هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة : حرية التدبر والنظر ، وحرية التفكير والاعتقاد . ويدعه عبداً للعادة والتقليد ، وعبداً للعرف والمألوف ، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله ، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور . .
وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق ، بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد؛ وقالوا لنبيهم الناصح الأمين : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } !
ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً في رد الرسول :{ قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب . أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان؟ فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين } .لقد أبلغهم العاقبة التي أنبأه بها ربه ، والتي قد حقت عليهم فلم يعد عنها محيص . . إنه العذاب الذي لا دافع له ، وغضب الله المصاحب له . . ثم جعل بعد هذا التعجيل لهم بالعذاب الذي استعجلوه؛ يكشف لهم عن سخافة معتقداتهم وتصوراتهم :{ أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطان؟ } . .
إن ما تعبدون مع الله ليس شيئاً ذا حقيقة! إنها مجرد أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم؛ من عند أنفسكم ، لم يشرعها الله ولم يأذن بها ، فما لها إذن من سلطان ولا لكم عليها من برهان .
(1/32)
والتعبير المتكرر في القرآن : { ما نزل الله بها من سلطان } . . هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة . . إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله ، خفيف الوزن ، قليل الأثر ، سريع الزوال . . إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف ، فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق ، بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه .
وكم من كلمات براقة ، وكم من مذاهب ونظريات ، وكم من تصورات مزوقة ، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين . . ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله ، فيها من سلطانه - سبحانه - سلطان! وفي ثقة المطمئن ، وقوة المتمكن ، يواجه هود قومه بالتحدي :{ فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين } ..إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله . . إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال . كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله .
ولا يطول الانتظار في السياق : { فأنجيناه والذين معه برحمة منا ، وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ، وما كانوا مؤمنين } . .فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد . وهو ما عبر عنه بقطع الدابر . والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم!
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين . وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله؛ والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة؛ وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية ، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة . لقد خلق الله الناس ليكونوا أحراراً لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه ، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم . فهذا مناط تكريمهم . فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة . وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة ، وتدعي الإنسانية ، وهي تدين لغير الله من عباده . والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين . فهم كثرة والمتجبرون قلة . ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال .
وقفات مع قصة النبي هود عليه السلام مع قومه
* نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة .
. ودعوة توحيد العبادة والعبودية لله ، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول : { قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . . ولقد كنا دائماً نفسر « العبادة » لله وحده بأنها « الدينونة الشاملة » لله وحده . في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة . ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي . . فإن « عبد » معناها : دان وخضع وذلل . وطريق معبد طريق مذلل ممهد . وعبّده جعله عبداً أي خاضعاً مذللاً . . ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن اول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية . بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به ان المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله؛ وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره . . ولقد فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « العبادة » نصاً بأنها هي « الاتباع » وليست هي الشعائر التعبدية . وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً : « بلى . إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم » . إنما أطلقت لفظة « العبادة » على « الشعائر التعبدية » باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون . . صورة لا تستغرق مدلول « العبادة » بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة! فلما بهت مدلول « الدين » ومدلول « العبادة » في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله ، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلاً! وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح « مسلماً » لا يجوز تكفيره! وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله . . . إلى أخر حقوق المسلم على المسلم!
وهذا وهم باطل ، وانحسار وانكماش ، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ « العبادة » التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن . وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة؛ والذي نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصاً وهو يفسر قول الله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } وليس بعد تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمصطلح من المصطلحات قول لقائل .
هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيراً في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي . فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه؛ وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها؛ وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم : « يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » . .
إنه لم يكن يعني : يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله! كما يتصور الذين انحسر مدلول « العبادة » في مفهوماتهم ، وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية! إنما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها؛ ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها . . والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله . . فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده أي الدينونة له وحده إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي : جحودهم بآيات ربهم ، وعصيان رسله . واتباع أمر الجبارين من عبيده : { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم ، وعصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد } . كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين . .
وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل ، واتباع الجبارين . . فهو أمر واحد لا أمور متعددة . . ومتى عصى قوم أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا لغير الله . ودانوا للطواغيت بدلاً من الدينونة لله؛ فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله؛ وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض؛ فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض؛ وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض . إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية ، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام . . وهكذا إلى يومنا هذا . .
والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات؛ وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدارالزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد . وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن؛ وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء .
إن توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد القوامه ، وتوحيد الحاكمية ، وتوحيد مصدر الشريعة ، وتوحيد منهج الحياة ، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونه الشاملة .
. . إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من اجله كل هؤلاء الرسل ، و أن تبذل في سبيله كل هذه الجهود؛ و أن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات و الآلام على مدار الزمان . . لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه ، فالله سبحانه غني عن العالمين . ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة « بالإنسان » إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتاثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها . ( وهذا ما نرجو أن نزيده بياناً إن شاء الله في نهاية قصص الرسل في ختام السورة ) . .
* ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم : { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ، ولا تتولوا مجرمين } . . . وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . وذلك في قوله تعالى : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية ، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين . . . وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت؛ وبخاصة في نفوس الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا؛ والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها . .
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله سبحانه والحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية . . والقرآن الكريم كثيراً ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله سبحانه والحق الذي قامت به السماوات والأرض؛ والحق المتمثل في الدينونة لله وحده . . والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة ، والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة . . وذلك في مثل هذه النصوص :
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . . إن كنا فاعلين . . . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، ولكم الويل مما تصفون ، وله من في السماوات والأرض ، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون . يسبحون الليل والنهار لا يفترون . أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنشرون ، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . أم اتخذوا من دونه آلهة قل : هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون . وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }[ الأنبياء : 16 25 ]
{ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ، لنبين لكم ، ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ، ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ، ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ، وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج . . ذلك بأن الله هو الحق ، وأنه يحيي الموتى ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } [ الحج : 5 7 ] .
{ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم . ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . الملك يومئذ ، لله يحكم بينهم ، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين . والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً ، وإن الله لهو خير الرازقين ، ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم . ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله ، إن الله لعفو غفور ، ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وأن الله سميع بصير . ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة؟ إن الله لطيف خبير . له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد . ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم . وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ، إن الإنسان لكفور . لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه ، فلا ينازعنك في الأمر ، وادع إلى ربك ، إنك لعلى هدى مستقيم . . . } [ الحج : 54 - 67 ] .
وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو الحق ، وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق ، وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق . وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق ، وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق .
. فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء ، وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء؛ وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء . ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة ، وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدراراً . . . فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره ، وفي تدبيره وتصريفه ، وفي حسابه وجزائه ، في الخير وفي الشر سواء . .
ومن هذا الارتباط يتجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس . فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة . سواء عن طريق قدر الله الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم . أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك . وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان ، من النتائج المحسوسة المدركة .
وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة : إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع ، وان يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي فضلاً على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعاً حسناً في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة . . وحين قلنا مرة : إن الدينونة لله وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة ، لتخلع عليها شيئاً من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس . فضلاً على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة لله وحده دون العباد . . وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحقق حقيقته في حياة الناس . . ( وسيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء الله ) .
* ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه؛ وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل ، وفي تحد سافر ، وفي استعلاء بالحق الذي معه ، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة : { قال : إني أشهد الله ، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً ، إن ربي على كل شيء حفيظ }
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر .
. رجل واحد ، لم يؤمن معه إلا قليل ، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم ، كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى :{ كذبت عاد المرسلين . إذ قال لهم أخوهم هود : ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين ، فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . أتبنون بكل ريع آية تعبثون؟ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام وبنين . وجنات وعيون . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . إن هذا إلا خلق الأولين . وما نحن بمعذبين } [ الشعراء : 123 138 ]
فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة؛ والذين أبطرتهم النعمة؛ والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود! . . هؤلاء هم الذين واجههم هود عليه السلام هذه المواجهة . في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه؛ وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة وهم قومه وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال . وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال!
لقد وقف هود عليه السلام هذه الوقفة الباهرة ، بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك؛ وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد . . ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله . .
لقد وقف هود عليه السلام هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه ، فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها؛ ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟! وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض ، وأعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء . وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء ، ولا يضرونه شيئاً ، ولا يردون له قضاء . . ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه ، وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف يشاء؟ . .إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم . . أمام القوة المادية . وقوة الصناعة . وقوة المال . وقوة العلم البشري . وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات . . وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة؛ وأن الناس كل الناس إن هم إلا دواب من الدواب!
وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة؛ فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان .
. أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه . وأمة تتخذ من دون الله أرباباً ، وتحاد الله!
ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه ، والتدمير على أعدائه في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ! لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا الله وحده . . وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصراً سواه .
-----------------------
وقال تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء/25]
فالتَّوْحِيدُ قَاعِدَةُ العَقِيدَةِ مُنْذُ أَنْ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ إلى النَّاسِ ، لا تَبْدِيلَ فيها ، وَلاَ تَحْوِيلَ ، فَلاَ انْفِصَالَ بينَ الأُلُوهِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ ، ولا مَجَالَ للشِّرِكِ في الأُلُوهِيَّةِ ولا في العِبَادَةِ . وكُلُ نًَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ كانَ يَدْعُو إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، والفِطْرَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ ، والمُشْرِكُونَ لَهم بُرْهَانَ لَهُمْ عَلَى مَا يَدَّعُونَ .
فالعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى . فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمان : { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } . . وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر : { ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } .
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى ، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض . فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل ، لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } . . وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين ، وينجي الله الرسل والمؤمنين : { ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين } . . وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون }
فالتوحيد هو قاعدة العقيدة منذ أن يبعث الله الرسل للناس . لا تبديل فيها ولا تحويل . توحيد الإله وتوحيد المعبود . فلا انفصال بين الألوهية والربوبية؛ ولا مجال للشرك في الألوهية ولا في العبادة . . قاعدة ثابتة ثبوت النواميس الكونية ، متصلة بهذه النواميس وهي واحدة منها .
-------------------------
وقال تعالى :{ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) [العنكبوت/16-18]
(1/33)
واذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَومِكَ قِصَّةَ أَبيهِمْ إِبراهِيمَ عَليهِ السَّلامُ إِذْ آتاهُ اللهُ رُشْدَهُ مُنْذُ صِغْرِهِ ، فَكَمُلَ عَقْلُهُ ، وأَخَذَ في دَعْوَةِ قَوْمِهِ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَإِلى الإِخْلاَصِ فِي تَقوَى اللهِ في السِّرِّ والعَلَنِ . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ إِنَّ الإِيمَانُ خَيْرٌ سلهُم مِنَ الكُفْرِ إِنْ كَانُوا مِنْ ذَوِي العِلمِ والفَهْمِ ، وإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بهِ فَازُوا بالخَيرِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ .
إِنَّكُمْ لاَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِلا تَمَاثِيلَ مِنْ حِجَارَةٍ تَنْحِتُونَهَا أَنْتُمْ ، وتَخْتَلِقُونَ الكَذِبَ فَتُسَمُّونَها آلهَةً ، وهذِهِ التَّماثِيلُ لا تُمْلِكُ لَكُمْ ولا لأَنْفُسِها ضَرّاً وَلا نَفْعاً ، وَلا تَسْتَطيعُ رِزْقَكُمْ ولا رِزْقَ أَنْفُسِهَا ، والرَّازِقُ هُوَ اللهُ ، فاطْلٌبُوا الرِّزْقَ مِنَ اللهِ ، وكُلوا مِنْ رِزْقِ اللهِ واعبُدُوهُ واشْكُرُوا لهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بهِ عَلَيكُم ، واعْلَمُوا أَنَّكُمْ سَتَرجِعُونَ إِليهِ يَومَ القِيامةِ فَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى أعْمَالِكُمْ ، وَيَجِزِيكُمْ بِهَا .
وَقَالَ إِبراهِيمُ ، عَلَيهِ السَّلامُ ، مُتَابِعاً نُصْحَ قَوْمِهِ : إِنَّكُمْ إِنْ كَذَّبْتُمْ رَسُولَكُمْ فَقَدْ كَذَّبَتْ أُمَمٌ أُخْرَى قَبْلَكُمْ رُسُلَهَا ، وَقَدْ بَلَغَكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ الهَلاَكِ والدَّمَارِ ، وَكَيفَ أَخَذَهُُ اللهُ بِعَذَابِهِ ، وَمَهَمَّةُ الرَّسُولِ هيَ إِبْلاغُ النَّاسِ مَا أَمَرهُ رَبُّهُ بإِبلاغِهِ إِليهِمْ فَاحْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونُوا مِنَ السُّعَدَاءِ المُستَجٍِيبِينَ لأَمرِ اللهِ .
{ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } . .وفي هذا التعقيب ما يحفزهم إلى نفي الجهل عنهم ، واختيار الخير لأنفسهم . وهو في الوقت ذاته حقيقة عميقة لا مجرد تهييج خطابي!
وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه : أولها أنهم يعبدون من دون الله أوثاناً والوثن : التمثال من الخشب وهي عبادة سخيفة ، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله . . وثانيها : أنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أو دليل ، وإنما يخلقون إفكاً وينشئون باطلاً ، يخلقونه خلقاً بلا سابقة أو مقدمة ، وينشئونه إنشاء من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة . . وثالثها : أن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعاً ، ولا ترزقهم شيئاً : { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً } . .وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق . الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم :{ فابتغوا عند الله الرزق } . . والرزق مشغلة النفوس ، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان . ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس .وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم ، ليعبدوه ويشكروه : { واعبدوه واشكروا له }
وأخيراً يكشف لهم أنه لا مفر من الله ، فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين : { إليه ترجعون } . .فإن كذبوا بعد ذلك كله فما أهون ذلك! فلن يضر الله شيئاً ، ولن يخسر رسوله شيئاً . فقد كذب الكثيرون من قبل ، وما على الرسول إلا واجب التبليغ : { وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين } . .
وهكذا يأخذهم خطوة خطوة ، ويدخل إلى قلوبهم من مداخلها ، ويوقع على أوتارها في دقة عميقة ، وهذه الخطوات تعد نموذجاً لطريقة الدعوة جديراً بأن يتملاه أصحاب كل دعوة ، لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب .
ـــــــــــــ
(1/34)
لا عقاب قبل دعوة الرسل
قال تعالى :{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء/15]
مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى طَرِيقِ الحَقِّ وَاتَّبَعَهُ ، وَاتَّبَعَ النُّورَ الذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدُ - صلى الله عليه وسلم - فِإِنَّهُ يَكُونُ قَدِ اهْتَدَى ، وَتَكُونُ عَاقِبَةُ هُدَاهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ عَنِ الحَقِّ ، وَزَاغَ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ ، فَإِنَّمَا يَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَيَعُودُ وَبَالُ سَعْيهِ عَلَيْهِ هُوَ ، وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ ، وَلاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِ ، يَدْعُونَهُ إِلَى الحَقِّ .
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه؛ إن اهتدى فلها ، وإن ضل فعليها . وما من نفس تحمل وزر أخرى ، وما من أحد يخفف حمل أحد . إنما يسأل كل عن عمله ، ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما . .
وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود ، وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم ، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب .
--------------------
وقال تعالى :{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) [طه/134-135]
وَلَوْ أَنَّنَا أَهْلَكْنَا هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ قَبْلَ أَنْ نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولِ الكَرِيمِ ، وَقَبْلَ أَنْ نُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ هَذا القُرْآنِ العَظِيمِ ، لَقَالُوا : هَلاَّ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا يَا رَبِّ رَسُولاً قَبْلَ أَنْ تُهْلِكَنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتْبَعَهُ ، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِنَا العَذَابُ وَالدَّمَارُ ، وَقَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِنَا الذُّلُّ وَالخِزْيُ ، وَلَكِنَّ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ ، لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَهُمُ الرَّسُولُ بِكُلِّ آيَةٍ .
قل - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين بالله: كل منا ومنكم منتظر دوائر الزمان، ولمن يكون النصر والفلاح، فانتظروا، فستعلمون: مَن أهل الطريق المستقيم، ومَن المهتدي للحق منا ومنكم؟
-------------------------
وقال تعالى :{ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) [القصص/47-50]
وَلَم نَشَأْ أَنْ نُنْزِلَ عَذَاباً بِقَومِكَ هؤلاءِ ، قَبلَ أَنْ نُرِسلَ إليهِمْ رَسُولاً يَدْعُوهُم إِلى الله ، وَيُبِيِّنُ لَهُمْ شَرْعَ الله وَأَوامِرَهِ ، لِكَيلا يَحتَجُّوا بأَنَّهُم لم يَأْتِيهم رَسُولٌ ولاَ مُنْذِرٌ . وَلِكَيلا يَقُولُوا رَبَّنا لَوْ أَرْسَلَتْ إِلينَا رَسُولاً يُبَيِّنُ لنا لاتَّبَعْنَاهُ ، ولآمنَّا بِكَ ، وَصَدَّقْنَا رَسُولَك .
فَلَمَّا أَرسَلَ اللهُ تَعَالى إِليهِم مُحَمَّداً رَسُولاً ، قَالَ هؤلاءِ الكُفَّارُ على وجهِ التَّعَنُّتِ ، والعِنَادِ ، والكُّفرِ ، والإِلحَادِ : هَلاَّ جَاءَ بِمُعْجِزَةٍ مِثَلمَا جَاءَ عَلى يَدي مُوسَى ( كالعَصَا واليَدِ . . . ) ، وقدْ جَاءَ مُوسى بِكُلِّ هذهِ الآياتِ العَظِيمَةِ إِلى فِرْعَونَ ومَلَئِهِ ، فَلَم يُؤْمِنُوا ، وكَفَروا واسْتَكْبَرُوا كَمَا كَفَرَ كَثيرٌ مِنَ البَشَرِ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الآياتِ ، وقَالُوا لِمُوسَى وَهَارُونَ : إِنَّهُما سَاحِرَانَ تَعَاوَنَا وتَنَاصَرا ، وَصَدَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ ، وأَعلَنُوا كُفْرَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى وَهَارُونَ .
كَثيراً مَا يَقْرِنُ اللهُ تَعَلاى ذِكْرَ التَّورَاةِ بِذِكْرِ القُرآنِ ، وَهُنَا يَقُول مُخَاطِباً نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - ، قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المًُكَذّبينَ : أئتُونَا بِكتابٍ مُنْزَلٍ مِنْ عندِ اللهِ يَكُونُ أَكثَرَ هِدَايةً مِنَ التَّورَاةِ والقُرآنِ ، لأترُكَهُما وأَتَبَعَهُ ، هذا إِنْ كُنتُمْ صَادِقينَ فيما تَقُولُونَ مِنْ أَنَّ اللهُ أَنْزَلَ خَيْراً مِنْهُما ، وأَكْثَرَ وضُوحاً وتَفْصِيلاً .
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا طَلَبتَهُ مِنْهُمْ مِنَ الإِتيَانِ بكِتَابٍ أَهْدَى مِنَ التَّورَاةِ والقُرآنِ ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا الحَقَّ فاعْلَمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ ، واللهُ تَعَالى لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ، وَلا يُوفِّقُهُمْ إِلى اتِّبَاعِ سَبِيلِ الحَقِّ والرَّشَادِ .
كذلك كانوا سيقولون لو لم يأتهم رسول . ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة . ولكنهم حين جاءهم الرسول ، ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه : { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : لولا أوتي مثلما أوتي موسى! أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا : سحران تظاهرا ، وقالوا : إنا بكل كافرون } . .
وهكذا لم يذعنوا للحق ، واستمسكوا بالتعلات الباطلة : { قالوا : لولا أوتي مثلما أوتي موسى } إما من الخوارق المادية ، وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة ، وفيها التوراة كاملة .
ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج . يقول لهم : إن لم يكن يعجبكم القرآن ، ولم تكن تعجبكم التوراة؛ فإن كان عندكم من كتب الله ما هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه :{ قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه . إن كنتم صادقين } !
وهذه نهاية الإنصاف ، وغاية المطاولة بالحجة ، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر ، الذي لا يستند إلى دليل :{ فإن لم يستجيبوا لك ، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .
إن الحق في هذا القرآن لبين؛ وإن حجة هذا الدين لواضحة ، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده . وإنهما لطريقان لا ثالث لهما : إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى ، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم . وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق . ولا حجة من غموض في العقيدة ، أو ضعف في الحجة ، أو نقص في الدليل . كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون .
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } . . وهكذا جزما وقطعا . كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها . . إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين . متجنون لا حجة لهم ولا معذرة ، متبعون للهوى ، معرضون عن الحق الواضح : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ } . .
وهم في هذا ظالمون باغون : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن ، ولم يحيطوا علماً بهذا الدين . فما هو إلا أن يصل إليهم ، ويعرض عليهم ، حتى تقوم الحجة ، وينقطع الجدل ، وتسقط المعذرة . فهو بذاته واضح واضح ، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه ، ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه ، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله . { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
------------------------------
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) [القصص/59]
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عَنْ عَدْلِهِ فَيقُولُ : إِنَّهُ لاَ يُهْلِكُ أَحَداً وَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ ، وَإِنَّما يُهِلكُهُ بعدَ أَنْ تَقُومَ عَليهِ الحُجَّةُ . وإِنَّهُ لاَ يُهلِكُ القُرى حَوْلَ مَكَّةَ بِكُفْرِهِم وَظُلْمِهِم إِلاَّ بَعْدَ أَن يَبْعَثَ فِي أُمِّ القُرَى ( مَكَّةَ ) رَسُولاً يدْعُوهُم إِلى اللهِ ، وَيُبِيِّنُ لهُم سَبيلَ الهدَايَةِ والرَّشَادِ ، وَيتلُو عَلَيهمْ آياتِ اللهِ ، وإِنَّهُ لا يُهلِكُ هذهِ القُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظَالِمُونَ ، قَدْ كَذَّبُوا النَّبِيَّ ، وَرَفَضُوا اتِّباعَهُ ، وقَبُولَ دَعْوَتِهِ .
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى أي كبراها أو عاصمتها أن تكون مركزاً تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد . وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أم القرى العربية . فهو ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير . { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } . . يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين!
ـــــــــــــ
(1/35)
عدم رد الرسل على اقتراحات المشركين
قال تعالى :{ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) [الإسراء/90-96]
اجْتَمَعَ قَادَةُ قُرَيْشٍ عِنْدَ الكَعْبَةِ ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَأْتِيَهُمْ لِيُكَلِّمُوهُ ، فَقَالُوا لَهُ : يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ جِئْتَنَا بِشَيءٍ فَرَّقْتَ بِهِ الجَمَاعَةَ ، فَإِنْ كُنْتَ جِئْتَ تُرِيدُ الشَّرَفَ فِينَا ، سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِيكَ رِئْياً ( أَيْ تَابِعاً ) مِنَ الجِنِّ ، جَعَلْنَا مِنَ المَالِ ، وَطَلَبْنَا لَكَ الأَطِبَّاءَ حَتَّى تَشْفَى أَوْ نُعْذَرَ .
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا بِهَذَا جِئْتُكُمْ ، إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولاً فَإِنْ تَسْمَعُوا مِنِّي ، وَتَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ ، فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَإِنْ تَردُّوهُ أَصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَينَكُمْ . ثُمَّ أَخَذُوا فِي الاقْتِرَاحِ عَلَيهِ تَعْجِيزاً وَتَعَنُّتاً :
- فَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ لِيُسَيِّرَ عَنْهُم الجِبَالَ التِي ضَيَّقَتْ عَلَيْهِمْ ، وَلِيَبْسِطَ لَهُمْ بِلاَدَهُمْ ، وَلِيُفَجِّرَ فِيهَا أَنْهَاراً .
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُو رَبَّهُ لِيَبْعَثَ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ لِيَشْهَدُوا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ .
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَبْعَثَ مَلَكاً يُصَدِّقُهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ رَبُّهُ جَنَاتٍ وَبَسَاتِينَ وَكُنُوزاً وَقُصُوراً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ .
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ كِسَفاً ( أَيْ قِطَعاً ) كَمَا زَعَمَ لَهُمْ أَنَّ رَبَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لَهُ إِلاَّ بِفِعْلِ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ .
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ ذلِكَ إِلَى اللهِ ، إِنْ شَاءَ فَعَلَهُ . ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ عَمَّتِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِي : وَاللهِ ، لاَ أُؤْمِنُ بِكَ حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّماً ثُمَّ تَرَقَى فِيهِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَها ، وَتَأْتِي مَعَكَ بِصَحِيفَةٍ مَنْشُورَةٍ وَمَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ يَشْهَدُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ كَمَا تَقُولُ ، وَأَيْمُ اللهِ لَوْ فَعَلْتَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لاَ أُصَدِّقُكَ . فَهُمْ أُنَاسٌ مُتَعَنِّتُونَ لاَ يَسْأَلُونَ اسْتِرْشَاداً ، وَلَوْ كَانَ سُؤَالُهُمُ اسْتِرْشَاداً لأُجِيبُوا إِلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُمْ يَسَأْلُونَ كُفْراً وَعِنَاداً ، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ حُدُوثَ مَا يَطْلُبُونَ .
فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ : إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا ، فَإِنْ كَفَرُوا عَذَّبْتُهُمْ عَذاباً لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ تَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ .أَوْ يَكُونُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ بُسْتَانٌ ( جَنَّةٌ ) ، فِيهِ أَشْجَارُ النَّخِيلِ وَالعِنَبِ ، وَتَتَدَّفَقُ الأَنْهَارُ فِي أَرْضِهِ بِالمِيَاهِ .أَوْ أَنْ يُسْقِطَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ قِطَعاً قِطَعاً ( كِسَفاً ) كَمَا زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ ، أَوْ أَنْ يَأْتِي بِاللهِ وَالمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً يُنَاصِرُونَهُ ، وَيَدْفَعُونَ عَنْهُ ، كَمَا يَفْعَلُونَ فِي قَبَائِلِهِمْ ( وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ : أَنْ يَأْتِي بِاللهِ وَالمَلاَئِكَةِ لِيُقَابِلُوهُمْ مُعَايَنَةً وَمُوَاجَهَةً ) . أَوْ أَنْ يَكُون لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ ( زُخْرُفٍ ) ، أَوْ أَنْ تَصْعَدَ فِي السَّمَاءِ ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْكَ ، وَلَنْ نُؤْمِن أَنَّكَ صَعدْتَ إِلَى السَّماءِ حَتَّى تَأْتِيَ مَعَكَ بِصُحُفٍ مَكْتُوبَةٍ مُوَجَّهَةٍ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ المُتَحَدِّثِينَ مَعَ الرَّسُولِ .
فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : سُبْحَانَ رَبِّي إِنْ أَنَا إِلاَّ بَشَرٌ رَسُولٌ مِنَ اللهِ ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِهِ ، وَلاَ أَمْلِكُ شَيْئاً مِمَّا طَلَبْتُمْ ، وَالأَمْرُ كُلُّهُ للهِ ، إِنْ شَاءَ أَجَابَكُمْ إِلَيْهِ .
وَمَا مَنَعَ أَكْثَرَ النَّاسِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ ، وَالرِّسَالَةِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رَسُولُهُمْ ، إِلاَّ تَعَجُّبُهُمْ مِنْ إِرْسَالِ اللهِ رُسُلاً مِنَ البَشَرِ : وَقَولِهِمْ : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } وَقَوْلِهِمْ : { فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } وَقَوْلِهِمْ : { أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } .
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ كَمَا يَمْشِي البَشَرُ ، وَيُقِيمُونَ فِيهَا ، كَمَا يُقِيمُ البَشَرُ ، وَيَسْهُلُ الاجْتِمَاعُ بِهِمْ ، وَالحَدِيثُ مَعَهُمْ . . . . لأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنَ السَّمَاءِ مِنَ المَلاَئِكَةِ لِهِدَايَتِهِمْ ، وَإِرْشَادَهِمْ . وَلَكِنَّ طَبِيعَةَ المَلاَئِكَةِ لاَ تَصْلُحُ لِلاجْتِمَاعِ بِالبَشَرِ ، وَلاَ يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ التَّخَاطُبُ مَعَهُمْ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُرْسِلْ رُسُلاً إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ مِنَ المَلاَئِكَةِ ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُمْ مِنَ البَشَرِ ، وَقَدِ اخْتَارَهُمْ مِنْ بَيْنِ البَشَرِ .
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ : إِنَّ اللهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ ، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ القُرْآنَ ، وَفِيهِ أَخْبَارُ القُرُونِ الأُولَى كَمَا وَقَعَتْ ، وَهِيَ مِمَّا لاَ يَعْرِفُهُ العَرَبُ ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَ اللهِ عَلَى صِدْقِ قَوْلِي ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ ، وَمَنْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِصِدْقِهِ ، فَهُوَ صَادِقٌ ، فَادِّعَاؤُكُمْ أَنَّ الرَّسُولَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المَلاَئِكَةِ ، هُوَ تَعَنُّتٌ مِنْكُمْ .
ثُمَّ نَبَّهَ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى إِنْهَاءِ الجَدَلِ مَعَ هَؤُلاَءِ المُتَعَنِّتِينَ ، وَإِلَى أَنْ يَكِلَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللهِ ، فَهُوَ الخَبِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ ، وَهُوَ البَصِيرُ بِأَعْمَالِ العِبَادِ ، المُحِيطُ بِهَا ، فَلاَ يَشذُّ شَيءُ عَنْ عِلْمِهِ .
وهكذا قصر إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآنية ، فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية ، ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية ، أو يتبجحون في حق الذات الإلهية بلا أدب ولا تحرج . . لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال والتنويع فيها لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر ، وشتى الأجيال والأطوار . { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } وعلقوا إيمانهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً! أو بأن تكون له جنة من نخيل وعنب يفجر الأنهار خلالها تفجيراً! أو أن يأخذهم بعذاب من السماء ، فيسقطها عليهم قطعاً كما أنذرهم أن يكون ذلك يوم القيامة! أو أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً يناصره ويدفع عنه كما يفعلون هم في قبائلهم! أو أن يكون له بيت من المعادن الثمينة . أو أن يرقى في السماء . ولا يكفي أن يعرج إليها وهم ينظرونه ، بل لا بد أن يعود إليهم ومعه كتاب محبر يقرأونه!
وتبدو طفولة الإدراك والتصور ، كما يبدو التعنت في هذه المقترحات الساذجة . وهم يسوون بين البيت المزخرف والعروج إلى السماء! أو بين تفجير الينبوع من الأرض ومجيء الله سبحانه والملائكة قبيلاً! والذي يجمع في تصورهم بين هذه المقترحات كلها هو أنها خوارق . فإذا جاءهم بها نظروا في الإيمان له والتصديق به!
وغفلوا عن الخارقة الباقية في القرآن ، وهم يعجزون عن الإتيان بمثله في نظمه ومعناه ومنهجه ، ولكنهم لا يلمسون هذا الإعجاز بحواسهم فيطلبون ما تدركه الحواس!
والخارقة ليست من صنع الرسول ، ولا هي من شأنه ، إنما هي من أمر الله سبحانه وفق تقديره وحكمته .وليس من شأن الرسول أن يطلبها إذا لم يعطه الله إياها . فأدب الرسالة وإدراك حكمة الله في تدبيره يمنعان الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به . . { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا } يقف عند حدود بشريته ، ويعمل وفق تكاليف رسالته ، لا يقترح على الله ولا يتزيد فيما كلفه إياه .ولقد كانت الشبهة التي عرضت للأقوام من قبل أن يأتيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن بعد ما جاءهم ، والتي صدتهم عن الإيمان بالرسل وما معهم من الهدى ، أنهم استبعدوا أن يكون الرسول بشراً؛ ولا يكون ملكاً : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا؟ } .وقد نشأ هذا الوهم من عدم إدراك الناس لقيمة بشريتهم وكرامتها على الله ، فاستكثروا على بشر أن يكون رسولاً من عند الله . كذلك نشأ هذا الوهم من عدم إدراكهم لطبيعة الكون وطبيعة الملائكة ، وأنهم ليسوا مهيئين للاستقرار في الأرض وهم في صورتهم الملائكية حتى يميزهم الناس ويستيقنوا أنهم ملائكة .
{ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولا } .
فلو قدر الله أن الملائكة تعيش في الأرض لصاغهم في صورة آدمية ، لأنها الصورة التي تتفق مع نواميس الخلق وطبيعة الأرض ، كما قال في آية أخرى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلاً } والله قادر على كل شيء ، ولكنه خلق نواميس وبرأ مخلوقاته وفق هذه النواميس بقدرته واختياره ، وقدر أن تمضي النواميس في طريقها لا تتبدل ولا تتحول ، لتحقق حكمته في الخلق والتكوين غير أن القوم لا يدركون!
وما دامت هذه سنة الله في خلقه ، فهو يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينهي معهم الجدل ، وأن يكل أمره وأمرهم إلى الله يشهده عليهم ، ويدع له التصرف في أمرهم ، وهو الخبير البصير بالعباد جميعاً : { قل : كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ، إنه كان بعباده خبيراً بصيرا } . .
ـــــــــــــ
(1/36)
كيف يوحي الله للرسل ؟
قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) [الشورى/51]
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الطُّرُقَ التِي يُوحِي بِهََا أَوَامِرَهُ إِلَى مَنْ يَخْتَارُهُمْ مِنْ عِبَادِهِ :
أ - أَنْ يُحسَّ الرَّسُولُ بِمَعَانٍ تُلْقَى فِي قَلْبِهِ فَلاَ يَتَمَارَى فِي أَنَّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى ، وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا فاتَّقُوا اللهً ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَب " ( صَحِيحُ ابْنِ حبَّانَ ) .
ب - أَوْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَنَاماً لاَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، كَرُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ .
ج - أَنْ يَسْمَعَ كَلاَماً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، كَمَا سَمِعَ مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فِي وَادِي الطُّورِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مَنْ يُكَلِّمُهُ .
د - أَنْ يُرْسِلَ اللهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ مَلَكاً فَيُوحِي ذَلِكَ المَلَكُ مَا يَشَاءُ إِلَى النَّبِيِّ .
واللهُ تَعَالَى قَاهِرٌ فَوْقَ عِبَادِهِ ، حَكِيمٌ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بِعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ .
ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها : « من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية » إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث : « وحيا » يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ، { أو من وراء حجاب } .
. كما كلم الله موسى عليه السلام وحين طلب الرؤية لم يجب إليها ، ولم يطق تجلي الله على الجبل { وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } { أو يرسل رسولاً } وهو الملك { فيوحي بإذنه ما يشاء } بالطرق التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الأولى : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال : - صلى الله عليه وسلم - « إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » . والثانية أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل له الملك رجلاً ، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول . والثالثة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها ، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها . والرابعة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .
هذه صور الوحي وطرق الاتصال . . { إنه علي حكيم } . . يوحي من علو ، ويوحي بحكمة إلى من يختار . . وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث ، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي . . كيف؟ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان ، المحيطة بكل شيء ، والتي ليس كمثلها شيء . كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان ، محدودة بحدود المخلوقات ، من أبناء الفناء؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟
وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولا شكل له معهود؟
وكيف؟ وكيف؟ . .
ولكني أعود فأقول : ومالك تسأل عن كيف؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية؟! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة . وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود .
ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول! إن النبوة هذه أمر عظيم حقا . وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً . تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ، أأنت معي في هذا التصور؟! أأنت معي تحاول أن تتصور؟! هذا الوحي الصادر من هناك .
أأقول : هناك؟! كلا . إنه ليس هناك « هناك »! الصادر من غير مكان ولا زمان ، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف . الصادر من المطلق النهائي ، الأزلي الأبدي ، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان . . إنسان مهما يكن نبياً رسولاً ، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود . . هذا الوحي . هذا الاتصال العجيب . المعجز . الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق ، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات . هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله؟ إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته ، والخارق في صورته ، الذي حدث مرات ومرات . وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين ، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » يا عائشة . هذا جبريل يقرئك السلام « قلت : وعليه السلام ورحمة الله . قالت : وهو يرى ما لا نرى » وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذه ، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه . وهؤلاء هم الصحابة رضوان الله عليهم في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه ، فيعود إليهم ويعودون إليه . .
ثم . . أية طبيعة . طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم؟ أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي ، ويختلط بذلك العنصر ، ويتسق مع طبيعته وفحواه؟
إنها هي الأخرى مسألة! إنها حقيقة . ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد ، لا تكاد المدارك تتملاه .
روح هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - روح هذا الإنسان . كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي؟ كيف كانت تتفتح؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله؟
ثم . . أية رعاية؟ وأية رحمة؟ وأية مكرمة؟ . . والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان . فيوحي إليها لإصلاح أمرها ، وإنارة طريقها ، ورد شاردها . . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان ، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض؟
إنها حقيقة . ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء .
-----------------
وقال تعالى :{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) } (الشورى 52-53)
وَكَمَا أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ ، كَذَلِكَ أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَلَمْ تَكُنْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْكَ وَحْيَهُ ، تَعْلَمُ مَا القُرْآنُ ، وَمَا الشَّرَائِعُ ، التِي بِهَا هِدَايَةُ البَشَرِ ، وَلَكِنَّ الله تَعَالَى هُوَ الذِي أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَجَعَلَهُ نُوراً يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ .
وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَتَهْدِي بِذَلِكَ النُّورِ المُنَزَّلِ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، مَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ .
وَهَذَا القُرْآنُ هُوَ الطَرِيقُ القَوِيمُ الذِي يَهْدِي اللهُ إِلَيهِ عِبَادَهُ وَهُوَ الطَّرِيقُ الذِي شَرَعَهُ اللهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ . والمُتَصَرِّفُ بِهِمَا ، والحَاكِمُ الذِي لاَ مُعَقَّبَ عَلَى حُكْمِهِ ، أَلاَ إِنَّ أُمُورَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا تَصِيرُ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيَفْصلُ فِيهَا بِعَدْلِهِ التَّام ، وَحِكْمَتِهِ .
(وكذلك) . بمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا الاتصال . (أوحينا إليك) . . فالوحي تم بالطريقة المعهودة , ولم يكن أمرك بدعا . أوحينا إليك (روحاً من أمرنا) . . فيه حياة , يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود . (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) . . هكذا يصور نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم بها , قبل أن تتلقى هذا الوحي . وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكتاب وسمع عن الإيمان , وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم , وأن لهم عقيدة , فليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير . وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله .
(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء) . . وهذه طبيعته الخالصة . طبيعة هذا الوحي . هذا الروح . هذا الكتاب . إنه نور . نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به , بما يعلمه من حقيقتها , ومن مخالطة هذا النور لها .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) . . وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة , مسألة الهدى , بمشيئة الله سبحانه , وتجريدها من كل ملابسة , وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص , الذي لا يعرفه سواه ; والرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة لتحقيق مشيئة الله , فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة , فتقع مشيئة الله .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) . . فهي الهداية إلى طريق الله , الذي تلتقي عنده المسالك . لأنه الطريق إلى المالك , الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض , وقوى السماوات والأرض , ورزق السماوات والأرض , واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم . الذي إليه تتجه , والذي إليه تصير: (ألا إلى الله تصير الأمور) . .
فكلها تنتهي إليه , وتلتقي عنده , وهو يقضي فيها بأمره .
وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه , ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين
ـــــــــــــ
(1/37)
إذا تليت عليهم آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا
قال تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) [مريم/51-58]
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ ثَنَّى بِذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ، فَقَالَ : إِنَّ مُوسَى كَانَ مُخْلِصاً فِي عِبَادَتِهِ ( بِكَسْرِ اللامِ ) ، وَقَرَأَهَا آخَرُونَ بِفَتْحِ الّلامِ ( أَيْ مُصْطَفَى ) فَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى - { إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس } فَكَانَ رَسُولاً مِنْ أُوْلِي العَزْمِ ، وَكَانَ نَبِيّاً دَاعِياً إِلَى الخَيْرِ ، وَمُبَشِراً وَنَذِيراً لِلْخَلْقِ .
وَحِينَمَا كَانَ مُوسَى سَائِراً بِأَهْلِهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ ، وَصَلَ إِلَى وَادِي الطُّورِ ، فَلَمَحَ نَاراً عَنْ بُعْدٍ ، وَهُوَ فِي الَّليْلِ ، فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا لَعَلِّي آتِيكُمْ بِقَبَسٍ مِنَ النَّارِ ، أَوْ أَسْأَلُ مَنْ هُنَاكَ عِنْدَ النَّارِ لِيَهْدُونِي إِلَى الطَّرِيقِ ، فَوَجَدَ النَّارَ عَنْ يَمِينِهِ ، فَنَادَاهُ اللهُ تَعَالَى وَقَرَّبَهُ وَنَاجَاهُ ، وَأَنْبَأَهُ بِأَنَّهُ اخْتَارَهُ لِيَكُونَ رَسُولَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ .
حِينَمَا كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ، لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ ، وَلإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً } . وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ : { اشدد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي } فَاسْتَجَابَ اللهُ لِدُعَائِهِ ، وَشَفَاعَتِهِ فِي أَخِيْهِ هَارُونَ فَجَعَلَهُ نَبِيّاً .
وَاتْلُ يَا مُحَمَّدُ عَلَى قَوْمِكَ صِفَاتِ أَبِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ عَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ ، وَيَتَخَلَّقُونَ بِأَخْلاَقِهِ . وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ ، وَيَصِفُهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ ، مِا الْتَزَمَ بِعِبَادَةٍ قَطُّ إِلاَّ قَامَ بِهَا . ثُمَّ وَصَفَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ رَسُولاً ، وَكَانَ نَبِيّاً ، بَيْنَمَا وَصَفَ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ كَانَ نَبِيّاً .
وَأَثْنَى اللهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ صَابِراً عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ ، آمِراً أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، وَكَانَ مَرَضِيّاً عِنْدَ رَبِّهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَانَ صَدِيقاً نَبِيّاً . ( وَيُقَالُ إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ قَبْلَ نُوْحٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ) . وَقَالَ تَعَالَى إِنَّهُ رَفَعَهُ فِي الجَنَّة مَكَاناً عَلِيّاً . وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطاً ، فَكَانَ لاَ يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلاَّ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ ، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ اللهِ عَمَلاً .
وَهَؤُلاَءِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - قَصَصَهُمْ ، هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُرِيَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ ، وَمَنْ هَدَاهُمْ وَقَرَّبَهُمْ ، وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا كَلاَمَ اللهِ المُتَضَمِّنَ حُجَجَهُ وَدَلاَئِلَهُ وَبَرَاهينَهُ ، سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعاً وَخُشُوعاً وَحَمْداً وَشُكْراً عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النَّعَمِ العَظِيمَةِ وَهُمْ يَبْكُونَ .
يصف موسى بأنه كان مخلصاً استخلصه الله له ومحضه لدعوته . وكان رسولاً نبياً . والرسول هو صاحب الدعوة من الأنبياء المأمور بإبلاغها للناس . والنبي لا يكلف إبلاغ الناس دعوة إنما هو في ذاته صاحب عقيدة يتلقاها من الله . وكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون وظيفتهم القيام على دعوة موسى والحكم بالتوراة التي جاء بها من عند الله : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا . والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهدآء } ويبين فضل موسى بندائه من جانب الطور الأيمن ( الأيمن بالنسبة لموسى إذ ذاك ) وتقريبه إلى الله لدرجة الكلام . الكلام القريب في صورة مناجاة . ونحن لا ندري كيف كان هذا الكلام ، وكيف أدركه موسى . . أكان صوتاً تسمعه الأذن أم يتلقاه الكيان الإنساني كله . ولا نعلم كيف أعد الله كيان موسى البشري لتلقي كلام الله الأزلي . . إنما نؤمن أنه كان . وهو على الله هين أن يصل مخلوقه به بطريقة من الطرق ، وهو بشر على بشريته ، وكلام الله علوي على علويته . ومن قبل كان الإنسان إنساناً بنفخة من روح الله . .
ويذكر رحمة الله بموسى في مساعدته بإرسال أخيه هارون معه حين طلب إلى الله أن يعينه به { وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون } وظل الرحمة هو الذي يظلل جو السورة كله .
ثم يعود السياق إلى الفرع الآخر من ذرية إبراهيم . فيذكر إسماعيل أبا العرب : { واذكر في الكتاب إسماعيل ، إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا . وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ، وكان عند ربه مرضيا } . .
وينوه من صفات إسماعيل بانه كان صادق الوعد .
وصدق الوعد صفة كل نبي وكل صالح ، فلا بد أن هذه الصفة كانت بارزة في إسماعيل بدرجة تستدعي إبرازها والتنويه بها بشكل خاص .
وهو رسول فلا بد أن كانت له دعوة في العرب الأوائل وهو جدهم الكبير . وقد كان في العرب موحدون أفراد قبيل الرسالة المحمدية ، فالأرجح أنهم بقية الموحدين من أتباع إسماعيل . ويذكر السياق من أركان العقيدة التي جاء بها الصلاة والزكاة وكان يأمر بهما أهله . . ثم يثبت له أنه كان عند ربه مرضياً . . والرضى سمة من سمات هذه السورة البارزة في جوها وهي شبيهة بسمة الرحمة ، وبينهما قرابة!
وأخيراً يختم السياق هذه الإشارات بذكر إدريس : { واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبيا . ورفعناه مكاناً عليا } .
ولا نملك نحن تحديد زمان إدريس . ولكن الأرجح أنه سابق على إبراهيم وليس من أنبياء بني إسرائيل فلم يرد ذكره في كتبهم . والقرآن يصفه بأنه كان صديقاً نبياً ويسجل له أن الله رفعه مكاناً عليا . فأعلى قدره ورفع ذكره . .
والسياق يقف في هذا الاستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية { من ذرية آدم } . { وممن حملنا مع نوح } . { ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل } . فآدم يشمل الجميع ، ونوح يشمل من بعده ، وإبراهيم يشمل فرعي النبوة الكبيرين : ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل . وإسماعيل وإليه ينتسب العرب ومنهم خاتم النبيين .
أولئك النبيون ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم . . صفتهم البارزة : { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا } .
. فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله؛ ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته ، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر ، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجداً وبكياً . .
ـــــــــــــ
(1/38)
القول اللين عند مخاطبة الطغاة
قال تعالى :{ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) [طه/42-48]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ هَارُونَ مُؤَيَّدَيْنِ بِمُعْجِزَاتِي ، وَحُجَجِي ، وَبَرَاهِينِي الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِكُمَا ، إِلَى فِرْعَوْنَ ، وَلاَ تَفْتُرا عَنْ ذِكْرِي عِنْدَ لِقَائِكُمَا إِيَّاهُ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْناً لَكُمَا ، وَقُوَّةً وَسُلْطَاناً كَاسِراً لَهُ ، وَلاَ تَتَهَاوَنَا فِي دَعْوَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ مَا أَرْسَلْتُكُمَا بِهِ إِلَيْهِ .
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ عَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ، وَتَمَرَّدَ وَتَجَبَّرَ عَلَى اللهِ وَعَصَاهُ .وَادْعُوَاهُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَحُسْنَى إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَتَرْكِ العُتُوِّ ، وَالتَّجَبُّرِ وَالاسْتِعْلاَءِ عَلَى خَلْقِ اللهِ ، لَعَلَّ الكَلاَمَ الرَّقِيقَ اللَّيِّنِ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَرْجِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ ، وَيَتَذَكَّرُ آيَاتِ اللهِ وَيَخْشَى لِقَاءَهُ وَعَذَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ .
فَقَالَ هَارُونَ وَمُوسَى ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ : يَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَبْطِشَ بِنَا فِرْعَوْنُ إِنْ نَحْنُ دَعَوْنَاهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ ، وَالكَفِّ عَنِ العُتُوِّ وَالطُّغْيَانِ ، وَنَخْشَى أَنْ يُعَجِّلَ لَنَا بِالعُقُوبَةِ ، أَوْ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْنَا .
قَالَ اللهُ تَعَالَى : لاَ تَخَافَا فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلاَمَكُمَا وَكَلاَمَهُ ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيِّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيءٌ ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي ، فَلاَ يَتَكَلَّمُ ، وَلاَ يَتَنَفَّسُ ، وَلاَ يَبْطِشُ إِلاَّ بِإِذْنِي ، وَأَنْتُمَا فِي حِفْظِي وَرِعَايَتِي .
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقُولاَ لَهُ : إِنَّنَا رَسُولاَ اللهِ رَبِّكَ ، وَرَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، أُرْسِلْنَا إِلَيْكَ لِنَدْعُوَكَ إِلَى عِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ ، وَإِلَى الكَفِّ عَنِ البَغْيِ ، وَالطُّغْيَانِ ، وَالضَّلاَلِ ، وَلِنَدْعُوَكَ إِلَى الكَفِّ عَنْ تَعْذِيبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَالإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ ، وَقَدْ جِئْنَاكَ بِحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ مِنَ اللهِ ( آيَةٍ ) ، عَلَى صِدْقِ قَوْلِنَا إِنَّنَا رَسُولاَنِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ إِلَيْكَ ، وَالسَّلاَمَةُ وَالأَمْنُ مِنَ العَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رُسُلَ رَبِّهِ ، وَاهْتَدَى بِهُدَاهُ .
وَلَقَدْ أَخْبَرَنا اللهُ فِيمَا أَوْحَاهُ أَنَّ عَذَابَهُ الأَلِيمُ سَيَنْزِلُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِمَنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ ، وَبِمَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الإِيمَانِ ، وَيَتَوَلَّى عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ وَالاسْتِجَابَةِ إِلَى دَعْوَةِ الحَقِّ وَالهُدَى .
000000000000000
اذهب أنت وأخوك مزودين بآياتي وقد شهد منها آية العصا وآية اليد ولا تنيا في ذكري فهو عدتكما وسلاحكما وسندكما الذي تأويان منه إلى ركن شديد . . اذهبا إلى فرعون . وقد حفظتك من شره من قبل . وأنت طفل وقد قذفت في التابوت ، فقذف التابوت في اليم ، فألقاه اليم بالساحل ، فلم تضرك هذه الخشونة ، ولم تؤذك هذه المخاوف . فالآن أنت معد مهيأ ، ومعك أخوك .فلا عليك وقد نجوت مما هو أشد ، في ظروف أسوأ وأعنف .
اذهبا إلى فرعون فقد طغى وتجبر وعتا { فقولا له قولاً ليناً } فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم؛ ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة . ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان .
اذهبا إليه غير يائسين من هدايته ، راجيين أن يتذكر ويخشى . فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة ، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار .
وإن الله ليعلم ما يكون من فرعون . ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه . والله يحاسب الناس على ما يقع منهم بعد أن يقع في عالمهم . وهو عالم بأنه سيكون . فعلمه تعالى بمستقيل الحوادث كعلمه بالحاضر منها والماضي في درجة سواء .
وإلى هنا كان الخطاب لموسى عليه السلام وكان المشهد هو مشهد المناجاة في الفلاة . وهنا يطوي السياق المسافات والأبعاد والأزمان ، فإذا هارون مع موسى . وإذا هما معاً يكشفان لربهما عن خوفهما من مواجهة فرعون ، ومن التسرع في أذاه ، ومن طغيانه إذا دعواه :{ قالا : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى . قال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى . فأتياه فقولا : إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم . قد جئناك بآية من ربك . والسلام على من اتبع الهدى . إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } .
وهارون لم يكن مع موسى قطعاً في موقف المناجاة الطويل الذي تفضل المنعم فيه على عبده ، فأطال له فيه النجاء ، وبسط له في القول ، وأوسع له في السؤال والجواب فردهما معا بقولهما : { إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى } لم يكن في موقف المناجاة . إنما هو السياق القرآني يطوي الزمان والمكان ، ويترك فجوات بين مشاهد القصص ، تعلم من السياق ليصل مباشرة إلى المواقف الحية الموحية ذات الأثر في سير القصص وفي وجدان الناس .
ولقد اجتمع موسى وهارون عليهما السلام إذن بعد انصراف موسى من موقف المناجاة بجانب الطور . وأوحى الله إلى هارون بمشاركة أخيه في دعوة فرعون ثم هاهما ذان يتوجهان إلى ربهما بمخاوفهما : { قالا : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى } . .
والفرط هو التسرع بالأذى للوهلة الأولى ، والطغيان اشمل من التسرع وأشمل من الأذى . وفرعون الجبار يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما .
هنا يجيئهما الرد الحاسم الذي لا خوف بعده ، ولا خشية معه : { قال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } . .
إنني معكما . . إنه القوي الجبار الكبير المتعال . إنه الله القاهر فوق عباده . إنه موجد الأكوان والحيوات والأفراد والأشياء بقولة : كن .ولا زيادة . . إنه معهما . . وكان هذا الإجمال يكفي . ولكنه يزيدهما طمأنينة ، ولمسا بالحس للمعونة : { أسمع وأرى . . } فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى؟ والله معهما يسمع ويرى؟
ومع الطمأنينة الهداية إلى صورة الدعوة وطريق الجدال :{ فأتياه فقولا : إنا رسولا ربك . فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم . قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى . إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } . .
إنه البدء بإيضاح قاعدة رسالتهما : { إنا رسولا ربك } ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلهاً هو ربه . وهو رب الناس . فليس هو إلهاً خاصاً بموسى وهارون أو ببني إسرائيل ، كما كان سائداً في خرافات الوثنية يومذاك ان لكل قوم إلهاً أو آلهة؛ ولكل قبيل إلهاً أو آلهة . أو كما كان سائداً في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة .
ثم إيضاح لموضوع رسالتهما : { فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم } . . ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون . لاستنقاذ بني إسرائيل ، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد ، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ان يسكنوها ( إلى أن يفسدوا فيها ، فيدمرهم تدميراً ) .ثم استشهاد على صدقهما في الرسالة : { قد جئناك بآية من ربك } تدل على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك ، في هذه المهمة التي حددناها .
ثم ترغيب واستمالة : { والسلام على من اتبع الهدى } : فلعله منهم يتلقى السلام ويتبع الهدى .
ثم تهديد وتحذير غير مباشرين كي لا يثيرا كبرياءه وطغيانه : { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } . . فلعله لا يكون ممن كذب وتولى!
هكذا ألقى الله الطمأنينة على موسى وهارون . وهكذا رسم لهما الطريق . ودبر لهما الأمر . ليمضيا آمنين عارفين هاديين .
وهنا يسدل الستار ليرفع . فإذا هما أمام الطاغية في حوار وجدال .
ـــــــــــــ
(1/39)
حرص الرسل على هداية قومهم
قال تعالى : { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) [النحل/37 ]
يُخْبِرُ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ حِرْصَهُ عَلَى هِدَايَةِ المُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ لاَ يَنْفَعُهُمْ إِذَا كَانَ اللهُ قَد قَدَّرَ لَهُمُ الضَّلاَلَ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى .
فليس الهدى أو الضلال بحرص الرسول على هدى القوم أو عدم حرصه ، فوظيفته البلاغ . أما الهدى أو الضلال فيمضي وفق سنة الله وهذه السنة لا تتخلف ولا تتغير عواقبها ، فمن أضله الله لأنه استحق الضلال وفق سنة الله ، فإن الله لا يهديه ، لأن لله سننا تعطي نتائجها . وهكذا شاء . والله فعال لما يشاء . { وما لهم من ناصرين } ينصرونهم من دون الله .
ـــــــــــــ
(1/40)
النصيحة لأقوامهم
قال تعالى :{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) [الأعراف/65-68]
وَمَهَمَّتِي هِيَ مَهَمَّةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ الذِينَ جَاؤُوا قَبْلِي وَهِيَ إِبْلاغُ رِسَالَةِ اللهِ إلى عِبَادِهِ ، وَإِسْدَاءُ النُّصْحِ إِليهِم ، وَأَنَا صَادِقٌ فِي نُصْحِي لَكُمْ ، أَمينٌ فِي إِبْلاَغِكُمْ مَا أَمَرَنِي رَبِّي بِإِبْلاَغِهِ إِلَيْكُمْ .
-------------------
وقال تعالى :{ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) [هود/32-34]
قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِ نُوْحٍ يَرُدُّونَ عَلَى مَقَالَتِهِ هَذِهِ : لَقَدْ جَادَلْتَنَا يَا نُوحُ وَحَاجَجْتَنَا ، فَأَكْثَرْتَ مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى أَمْلَلْتَنا ، وَلَمْ يَعُدْ لَدَيْنَا شَيءٌ نَقُولُهُ ، وَنَحْنُ لَنْ نَتْبَعَكَ ، فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ النَّقْمَةِ وَالعَذَابِ ، وَادْعُ عَلَيْنَا بِمَا شِئْتَ ، وَلْيَأْتِنَا العَذَابُ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُنا عَلَى عِصْيَانِهِ فِي الدُّنيا قَبْلَ عِقَابِ الآخِرَةِ .
قَالَ لَهُمْ نُوحٌ : أَنَا لاَ أَمْلِكُ العَذَابَ الذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ، إِنَّمَا الذِي سَيَأْتِيكُمْ بِهِ ، وَيُعَجِّلُ العِقَابَ لَكُمْ ، هُوَ اللهُ الذِي لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ .
وَأَيُّ شَيءٍ يُفِيدُكُمْ نُصْحِي وَإِبْلاَغِي إِيَّاكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي إِنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُضِلَّكُمْ وَيَغْوِيكُمْ؟ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ أَزِمَّةِ الأُمُورِ ، المُتَصَرِّفُ المُطْلَقُ ، العَادِلُ الذِي لا يَجُورُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ النَّاسُ ، يَوْمَ الحِسَابِ ، لِيَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّ النُّصْحَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُهُ المُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ الغَيُّ وَالفَسَادُ ..
إنه العجز يلبس ثوب القدرة ، والضعف يرتدي رداء القوة؛ والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الإستهانة والتحدي :{ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } . .
وأنزل بنا العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك ، ولسنا نبالي وعيدك .
أما نوح فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم ، ولا يقعده عن بيان الحق لهم ، وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم ، وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول ، وليس عليه إلا البلاغ ، أما العذاب فمن أمر الله ، وهو الذي يدبر الأمر كله ، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله ، وسنته هي التي تنفذ . . وما يملك هو أن يردها أو يحولها . . إنه رسول . وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة ، فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه :{ قال : إنما يأتيكم به الله إن شاء ، وما أنتم بمعجزين . ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، هو ربكم وإليه ترجعون } . .فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم ، فإن هذه السنة ستمضي فيكم ، مهما بذلت لكم من النصح . لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح ، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا ، وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم ، فأنتم دائماً في قبضته ، وهو المدبر والمقدر لأمركم كله؛ ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه :{ هو ربكم وإليه ترجعون } . .
----------------------
وقال تعالى :{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) [الأعراف/73-79]
فَقَالَ صَالِحُ ، بَعْدَ أَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ ، تَقْريعاً لَهُمْ وَتَوْبِيخاً : لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، فَلَمْ تَسْتَمِعُوا إِليَّ ، وَلَمْ تَتَّبِعُونِي ، لأنَّكُمْ لا تُحِبُّونَ مَنْ يَنْصَحُكُمْ ، وَيَدْعُوكُم إلى الحَقِّ وَالخَيْرِ .
إنه الإشهاد على أمانة التبليغ والنصح؛ والبراءة من المصير الذي جلبوه لأنفسهم بالعتو والتكذيب .
--------------------------
وقال تعالى :{ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ
كَافِرِينَ (93) [الأعراف/92-93]
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى العَاقِبَةَ التِي صَارَ إِلَيْهَا قَوْمُ شُعَيبٍ ، فَقَدْ هَلَكَ الذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم أَحَداً وَكَأنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دِيَارِهِمْ ، وَالذِينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كَانُوا هُمُ الذِينَ خَسِرُوا الدُّنْيا وَالآخِرَةَ ، أَمَّا الذِينَ اتَّبُعُوهُ فَكَانُوا هُمُ الفَائِزُونَ المُفْلِحِينَ .
وَبَعْدَ أَنْ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ وَدَمَارُهُ تَوَلَّى شُعَيْبٌ عَنْهُمْ ، وَانْصَرَفَ عَنْ دِيَارِهِمْ ، وَخَاطَبَهُمْ مُقَرِّعاً ، فَقَالَ لَهُمْ : لَقَدْ نَصَحْتُ لَكُمْ يَا قَوْمِي ، وَبَلَّغْتُكُمْ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ رَبِّي إِلَيكُمْ ، مِنْ دَعْوَةٍ إلَى عِبَادَةِ اللهِ ، فَكَفَرْتُمْ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ، فَدَمَّرَكُمُ اللهُ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّنِي لاَ يُمْكِنُ أَنْ آسَفَ وَأَحْزَنَ عَلَى قَوْمٍ جَحَدُوا بِوحْدَانِيَّةِ اللهِ ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ .
ففي ومضة ها نحن أولاء نراهم في دارهم جاثمين . لا حياة ولا حراك . كأن لم يعمروا هذه الدار , وكأن لم يكن لهم فيها آثار !
ويطوي صفحتهم مشيعة بالتبكيت والإهمال , والمفارقة والانفصال , من رسولهم الذي كان أخاهم , ثم افترق طريقه عن طريقهم , فافترق مصيره عن مصيرهم , حتى لم يعد يأسى على مصيرهم الأليم , وعلى ضيعتهم في الغابرين:
(فتولى عنهم , وقال:يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم , فكيف آسى على قوم كافرين ?) . .
إنه من ملة وهم من ملة . فهو أمة وهم أمة . أما صلة الأنساب والأقوام , فلا اعتبار لها في هذا الدين , ولا وزن لها في ميزان اللّه . . فالوشيجة الباقية هي وشيجة هذا الدين , والارتباط بين الناس إنما يكون في حبل اللّه المتين . .
ـــــــــــــ
(1/41)
الرسول لا يعلم الغيب
قال تعالى :{ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) [الأنعام/50]
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ ، الذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ الآيَاتِ تَعْجِيزاً لِجَهْلِهْم بِحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ ، وَلِظَنِّهِمْ أنَّ النَّبِيَّ لاَ يَكُونُ نَبِيّاً إلاّ إذَا أَصْبَحَ قَادِراً عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ البَشَرُ عَلَيْهِ : إنِّي لاَ أَقُولُ لَكُمْ إنِّي أَمْلِكُ خَزَائِنَ اللهِ ، وَلاَ أَتَصَرَّفُ بِهَا ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنَّي أَعْلَمُ غَيْبَ اللهِ ، فَعِلْمُ الغَيْبِ عِنْدَ اللهِ وَحْدَهُ وَلا أَطَّلِعُ مِنْهُ إلاَّ عَلَى مَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ رَبِّي ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَلاَ أَدَّعِي أنِّي مَلَكٌ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ يُوحِي إِليهِ اللهُ ، وَقَدْ شَرَّفَنِي سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيَّ ، وَإِنَّنِي أَتَّبِعُ مَا يُوحِيهِ اللهُ إلَيَّ ، وَلاَ أَخْرُجُ عَنْهُ مُطْلَقاً . قُلْ لَهُمْ : هَلْ يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ الحَقَّ وَهُدِيَ إلَيهِ ، مَعَ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ ، وَلَمْ يَنْقَدْ إِلَيهِ؟ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ فِي أنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ؟
إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر ، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى . . هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة . . فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟
سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط . . إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي ، وإدراك مدلولاته . . وهذه وظيفته . . ثم هذه هي فرصته في النور والهداية؛ وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيداً عن الوحي ، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف ، وسوء الرؤية ، ونقص الرؤية ، وسوء التقدير ، وسوء التدبير .
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحداً . تجربة بعد تجربة ، وحادثة بعد حادثة ، وصورة بعد صورة . . حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة ، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاماً ، ويضع على أساسها نظاماً ، ملحوظاً فيه الشمول والتوازن .
. ومن ثم يظل - حين ينعزل عن منهج الله وهداه - يرتاد التجارب ، ويغير الأحكام ، ويبدل النظام ، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل ، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال . . وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة ، وأجهزة إنسانية كريمة . . ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله؛ وجعل التجارب والتقلبات في « الأشياء » وفي « المادة » وفي « الأجهزة » وفي « الآلات » . . وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه . والخسارة في النهاية مواد وأشياء . لا أنفس وأرواح!
ويتعرض لهذا كله - بعد طبيعة تركيبه - بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات ، لا بد لها من ضابط ، يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها ، ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده؛ فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات - وهي شتى - من ضابط آخر يضبطه هو ذاته؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضاً ، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة ، وكل حكم - في مجال الحياة البشرية - ليقّوم به تجربته وحكمه ، وليضبط به اتجاهه وحركته .
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي ، باعتبار أن كليهما - العقل والوحي - من صنع الله فلا بد أن يتطابقا . . هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر ، ولم يقل بها الله سبحانه!
والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي - حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر - إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله . . فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة ، ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري ، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به . لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل ، وأن الفطرة وحدها تنحرف . وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة ، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي ، وهو النور والبصيرة .
والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين؛ أو أن العلم - وهو من منتجات العقل - يغني البشرية عن هدى الله؛ إنما يقولون قولاً لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك . . فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم ، هي أبأس حياة يشقى فيها « الإنسان » مهما فتحت عليه أبواب كل شيء؛ ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد؛ ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق . . وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي ، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات .ثم يقيم له الأسس ، ويضع له القواعد ، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة؛ كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها - وفق شريعة الله - فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك!
والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير ، وبترك وحي الله وهداه أعمى ، واقتران الحديث عن تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الوحي وحده ، بالإشارة إلى العمى والبصر ، بالسؤال التحضيضي على التفكير : { إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل : هل يستوي الأعمى والبصير : أفلا تتفكرون؟ } . .
اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق ، أمر ذو دلالة في التعبير القرآني . . فالتفكر مطلوب ، والحض عليه منهج قرآني؛ ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي ، الذي يمضي معه مبصراً في النور؛ لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى ، بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير . .
والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق ، إنما يتحرك في مجال واسع جداً . . يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله ، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضاً؛ كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث ، ومجالات الحياة جميعاً . . فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج ، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعاً . فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان . . العقل . . إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني . . فلا تضل إذن ولا تطغى . .
-------------------
وقال تعالى :{ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) [الأعراف/188]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُفَوِّضُ الأُمُورَ إِلَيْهِ تَعَالَى ، وَأَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ عَنْ نَفْسِهِ أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ الغَيْبَ ، وَلاَ هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى شَيءٍ مِنْهُ ، إلاّ مَا أطْلَعَهُ عَلَيهِ رَبُّهُ . وَأنَهُ لَوُ كَانَ يَعْلَمُ الغَيْبَ ، وَيَعْلَمُ مَتَى يَمُوتُ ، لاسْتَكْثَرَ مِنْ فِعْلِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَالخَيْرَاتِ ، وَلَتَزَوَّدَ لِلآخِرَةِ؛ أوْ لَوْ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أنَّهُ إذا اشْتَرَى شَيئاً رَبحَ فِيهِ لَفَعَلَ ذَلِكَ . أوْ أنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ الغَيْبَ لاجْتَنَبَ الشَّرَّ وَالسُوءَ واتَّقَاهُمَا . ثُمَّ أمَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِأنْ يَقُولَ للنَّاسِ : إِنَّهُ نَذِيرٌ مِنَ العَذَابِ ، وَبشيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ ، وَهَذِهِ هِيَ مَهَمَّتُهُ ..
وبهذا الإعلان تتم لعقيدة التوحيد الإسلامي كل خصائص التجريد المطلق ، من الشرك في أية صورة من صوره . وتتفرد الذات الإلهية بخصائص لا يشاركها البشر في شيء منها . ولو كان هذا البشر محمداً رسول الله وحبيبه ومصطفاه - عليه صلوات الله وسلامه - فعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية ، ويقف العلم البشري . وعند حدود البشرية يقف شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتحدد وظيفته : { إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } . .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - نذير وبشير للناس أجمعين . ولكن الذين { يؤمنون } هم الذين ينتفعون بما معه من النذارة والبشارة؛ فهم الذين يفقهون حقيقة ما معه؛ وهم الذين يدركون ما وراء هذا الذي جاء به . ثم هم بعد ذلك خلاصة البشرية كلها ، كما أنهم هم الذين يخلص بهم الرسول من الناس أجمعين
إن الكلمة لا تعطي مدلولها الحقيقي إلا للقلب المفتوح لها ، والعقل الذي يستشرفها ويتقبلها ، وإن هذا القرآن لا يفتح كنوزه ، ولا يكشف أسراره ، ولا يعطي ثماره ، إلا لقوم يؤمنون . ولقد ورد عن بعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن . . وهذا الإيمان هو الذي كان يجعلهم يتذوقون القرآن ذلك التذوق ، ويدركون معانيه وأهدافه ذلك الإدراك ، ويصنعون به تلك الخوارق التي صنعوها في أقصر وقت من الزمان .
لقد كان ذلك الجيل المتفرد يجد من حلاوة القرآن ، ومن نوره ، ومن فرقانه ، ما لا يجده إلا الذين يؤمنون إيمان ذلك الجيل . ولئن كان القرآن هو الذي أخذ بأرواحهم إلى الإيمان ، لقد كان الإيمان هو الذي فتح لهم في القرآن ما لا يفتحه إلا الإيمان!
لقد عاشوا بهذا القرآن ، وعاشوا له كذلك . . ومن ثم كانوا ذلك الجيل المتفرد الذي لم يتكرر - بهذه الكثرة وبهذا التوافي على ذلك المستوى - في التاريخ كله . . اللهم إلا في صورة أفراد على مدار التاريخ يسيرون على أقدام ذلك الجيل السامق العجيب!
لقد خلصوا لهذا القرآن فترة طويلة من الزمان ، فلم تشب نبعه الرائق شائبة من قول البشر ، اللهم إلا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه . . وقد كان من نبع القرآن ذاته كذلك . . ومن ثم كان ذلك الجيل المتفرد ما كان .
وما أجدر الذين يحاولون أداء ما أداه ذلك الجيل أن ينهجوا نهجه ، فيعيشوا بهذا القرآن ولهذا القرآن فترة طويلة من الزمان ، لا يخالط عقولهم وقلوبهم غيره من كلام البشر ليكونوا كما كان!
--------------------
وقال تعالى :{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) [هود/31]
يُخْبِرُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ، وَأَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ ، وَلاَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَجْراً ، وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِدَعْوَةِ النَّاسِ جَمِيعاً ، الشَّرِيفِ وَالوَضِيعِ ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَدْ أَفْلَحَ وَنَجَا وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ اللهِ ، وَأَنَّهُ لا يَعْلَمُ الغَيْبَ ، إِلاّ مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَلكٍ مِنَ المَلائِكَةِ ، بَلْ هُوَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ وَمِنْهُمْ ، مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ رَبِّهِمْ ، وَمُؤَيَّدٌ بِمُعْجِزَاتِهِ ، وَأَنَّهُ لاَ يَقُولُ عَنِ المُؤْمِنِينَ ، الذِي يَحْتَقِرُونَهُمْ وَيَزْدَرُونَهُمْ : إِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ ثَوَابٌ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ، وَاللهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ، حَقّاً وَصِدْقاً فَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ جَزَاءُ الحُسْنَى ، وَإِنَّهُ إِنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ .
إن إدعيت أية دعوى من هذه الدعاوي . الظالمين للحق وقد جئت أبلغه؛ والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب الله؛ والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله .
وهكذا ينفي نوح عليه السلام عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة . ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية . ويردهم في نصاعة الحق وقوته ، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها ، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها . بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة . فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعاً نموذجاً للداعية ودرساً في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد ، دون استرضاء لتصوراتهم ، ودون ممالأة لهم ، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس!
-----------------------
وقال تعالى : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) [الأحقاف/9 ]
وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحمَّدُ : إِنَّني لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ جَاءَ إِلى الخَلْقِ في الأَرْضِ وَبلِّغَ رِسَالَةً عَنْ رَبِّهِ ، فَقَدْ جَاءَتْ رُسُلٌ قَبْلي ، وَأَبْلَغُوا أَقْوَامَهُمْ رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ، وَتَلَوا عَلَيهِمْ آيَاتِهِ وَكُتُبَهُ المُنَزَّلةَ عَلَيهِمْ .
وَأَنا بَشَرٌ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ آتيِ بِشَيءٍ مِنْ عِنْدِي ، والذِي يُرسِلُ المُعجِزاتِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ ، يُرسِلُها حِينَما يشاءا وأَنا لاَ أَعْلَمُ مَا يُفْعَلُ بي في الدُّنيا أَأُخْرَجُ مِنْ بَلَدِي أَمْ أُقتَلُ؛ وأَنا لاَ أَتَّبعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِليَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالى مِنَ القُرآنِ ، لا أَبْتَدِعُ شَيْئاً مِن عِندِي ، وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ أُنذِرُكُمْ عِقَابَ اللهِ ، وَأُخَوِّفُكُمْ مِنْ عذابها وَآتِيكُمْ بِالشَّوَاهِدِ الوَاضِحَةِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكمْ بِهِ .
إنه - صلى الله عليه وسلم - ليس أول رسول . فقد سبقته الرسل . وأمره كأمرهم . وما كان بدعا من الرسل . بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه , فيصدع بما يؤمر . هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها . . والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا , ولا يطلب لنفسه اختصاصا إنما يمضي في سبيله , يبلغ رسالة ربه , حسبما أوحي بها إليه: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي) . . فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ; أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها . إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه . واثقا بربه , مستسلما لإرادته , مطيعا لتوجيهه , يضع خطاه حيث قادها الله . والغيب أمامه مجهول , سره عند ربه . وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن , ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له . فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته: (وما أنا إلا نذير مبين) . .
وإنه لأدب الواصلين , وإنها لطمأنينة العارفين , يتأسون فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمضون في دعوتهم لله . لا لأنهم يعرفون مآلها , أو يعلمون مستقبلها . أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا . ولكن لأن هذا واجبهم وكفى . وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم . وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم . وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم , ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق .
------------------------
وقال تعالى :{ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) [الجن/25-28]
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ : إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبِ فِيهَا ، وَلَكِنَّ وَقْتَهَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهُ ، وَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي إِنْ كَانَ وَقْتُهَا قَرِيباً أَوْ بَعِيداً .
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يَعْلَمُ مَا غَابَ عَنْ أَبْصَارِ خَلْقِهِ فَلَمْ يَرَوْهُ ، وَلاَ يُطْلِعُ عَلَى غَيبِهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ .
إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى اللهُ تَعَالَى أَنْ يُطْلِعَهُ مِنَ الرُّسُلِ ، عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الغَيْبِ ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُ . وَاللهُ يَجْعَلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رُسُلِهِ ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، حَفَظَةً مِنَ المَلاَئِكَةِ الأَبْرَارِ يَحْفَظُونَهُمْ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ ، حَتَّى يُبَلِّغُوا مَا أَوْحَى اللهُ بِهِ إِلَيْهِمْ ، كَمَا تَحْفَظُهُمُ المَلاَئِكَةُ مِنْ أَذَى شَيَاطِينِ الإِنْسِ حَتَّى لاَ يُؤْذُوهُمْ ، وَلاَ يَضُرُّوهُمْ .
وَاللهُ تَعَالَى يَحْفَظُ رُسُلَهُ لِيتَمَكَّنُوا مِنْ أَدَاءِ رِسَالاَتِهِ ، وَيَحْفَظُوا مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الوَحْيِ لِيَعْلَمَ إِنْ كَانُوا قَدْ بلَّغُوا هَذِهِ الرِّسَالاَتِ؛ وَهُوَ تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ عِلْماً بِمَا عِنْدَ الرَّاصِدِ مِنَ المَلاَئِكَةِ ، وَأَحْصَى مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ فَرْداً فَرْداً ، فَهُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الأَشْيَاءِ ، لاَ يُشَاركُهُ فِي عِلْمِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ لاَ المَلاَئِكَةُ وَلاَ غَيْرُهُمْ .
إن الدعوة ليست من أمره ، وليس له فيها شيء ، إلا أن يبلغها قياماً بالتكليف ، والتجاء بنفسه إلى منطقة الأمان الذي لا يبلغه إلا أن يبلغ ويؤدي . وإن ما يوعدونه على العصيان والتكذيب هو كذلك من أمر الله ، وليس له فيه يد ، ولا يعلم له موعداً . فما يدري أقريب هو أم بعيد يجعل له الله أمداً ممتداً . سوء عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة . فكله غيب في علم الله؛ وليس للنبي من أمره شيء ، ولا حتى علم موعده متى يكون والله سبحانه هو المختص بالغيب دون العالمين :{ عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً } . .ويقف النبي - صلى الله عليه وسلم - متجرداً من كل صفة إلا صفة العبودية . فهو عبد الله . وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته . . ويتجرد التصور الإسلامي من كل شبهة ومن كل غبش . والنبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمر أن يبلغ فيبلغ : { قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً ، عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً } . .هناك فقط استثناء واحد . . وهو ما يأذن به الله من الغيب ، فيطلع عليه رسله ، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس . فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيباً من غيبه ، يكشفه لهم في حينه ويكشفه لهم بقدر ، ويرعاهم وهم يبلغونه ، ويراقبهم كذلك . . ويؤمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن هذا في صورة جادة رهيبة : { إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عدداً } . .فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، هو هذا الوحي : موضوعه ، وطريقته ، والملائكة الذين يحملونه ، ومصدره ، وحفظه في اللوح المحفوظ . إلى آخر ما يتعلق بموضوع رسالتهم مما كان في ضمير الغيب لا يعلمه أحد منهم .
وفي الوقت ذاته يحيط هؤلاء الرسل بالأرصاد والحراس من الحفظة , للحفظ والرقابة . يحمونهم من وسوسة الشيطان ونزغه , ومن وسوسة النفس وتمنيتها , ومن الضعف البشري في أمر الرسالة , ومن النسيان أو الانحراف . ومن سائر ما يعترض البشر من النقص و الضعف . .والتعبير الرهيب - (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) . . يصور الرقابة الدائمة الكاملة للرسول , وهو يؤدي هذا الأمر العظيم . . (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) . . والله يعلم . ولكن المقصود هو أن يقع منهم البلاغ فيتعلق به علمه في عالم الواقع .
(وأحاط بما لديهم) . . فما من شيء في نفوسهم وفي حياتهم ومن حولهم , إلا وهو في قبضة العلم لا يند منه شيء . .
(وأحصى كل شيء عددا) . . لا يقتصر على ما لدى الرسل ; بل يحيط بكل شيء إحصاء وعدا , وهو أدق الإحاطة والعلم !
وتصور هذه الحال . والرسول محوط بالحراس والأرصاد . وعلم الله على كل ما لديه . وكل ما حوله . وهو يتلقى التكليف جنديا لا يملك إلا أن يؤدي . ويمضي في طريقه ليس متروكا لنفسه , ولا متروكا لضعفه , ولا متروكا لهواه , ولا متروكا لما يحبه ويرضاه . إنما هو الجد الصارم والرقابة الدقيقة . وهو يعلم هذا ويستقيم في طريقه لا يتلفت هنا أو هناك . فهو يعلم ماذا حوله من الحرس والرصد , ويعلم ما هو مسلط عليه من علم وكشف !
إنه موقف يثير العطف على موقف الرسول , كما يثير الرهبة حول هذا الشأن الخطير .
ـــــــــــــ
(1/42)
مطالبون بالصبر على أذى الناس
قال تعالى : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) [الأحقاف/35] فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلى مَا تُلاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَومِكَ لَكَ ، كَمَا صَبَرَ أَصْحَابُ القُوَّةِ والثِّبَاتِ ، مِنَ الرُّسُلِ الذِينَ سَبَقُوكَ ، عَلَى تَكْذِيبِ أَقْوامِهِمْ لَهُمْ حِينَما أَبْلَغُوهُمْ دَعْوَةَ اللهِ إِلى الإِيمَانِ بِهِ . وَلا تَسْتَعْجِلْ بِسُؤَالِ رَبِّكَ أَنْ يُنزِلَ بِهِم العَذَابَ ، فَهُوَ واقعٌ بِهِمْ لا مَحَالَةَ . وَأِنَّهُمْ حِينَما يَنْزِلُ بِهِم العَذَابُ يَومَ القِيَامَةََ يَرَوْنَ أَنَّ مُدَّةَ لَبِثِهِمْ في الدُّنيا ( أَوْ في قُبُورِهِمْ ) كَانَتْ قَصِيرةً ، حَتَّى لَيَحْسَبُوها سَاعَةً مِنْ نَهارٍ .
وَهذا الذِي وُعِظْتُم بِهِ لكَافٍ في المَوعِظَةِ ، وَلاَ يَهلِكُ بالعَذابِ إِلا الكَافِرُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَأَمْرِهِ ، لأَنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ إِلا مَنْ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ .
وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم؛ وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال ، والمعاني والإيحاءات ، والقضايا والقيم .
{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل لهم } . .
توجيه يقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي احتمل ما احتمل ، وعانى من قومه ما عانى . وهو الذي نشأ يتيماً ، وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحداً بعد واحد . الأب . الأم . والجد . والعم . والزوج الوفية الحنون . وخلص لله ولدعوته مجرداً من كل شاغل . كما هو مجرد من كل سند أو ظهير . وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين . وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة .
إنه أمد قصير . ساعة من نهار . وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الأخرة . وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار . . ثم يلاقون المصير المحتوم . ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم . وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم: (بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) . .
لا . وما الله يريد ظلما للعباد . لا . وليصبر الداعية على ما يلقاه . فما هي إلا ساعة من نهار . ثم يكون ما يكون . . . والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة ، وتكررت لكل رسول ، ولكل مؤمن يتبع الرسول . وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق ، ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية ، موصولة بالهدف البعيد ، متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد . .
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن ، الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد . صبر الواثق من العاقبة ، الراضي بقدر الله ، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء ، الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به .
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة . فهي دعوة الله ، وهي دعوة إلى الله . ليس له هو منها شيء . وليس له وراءها من غاية . فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله ، وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله . فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقاً مع هذه الحقيقة ، ومع الشعور بها في أعماق الضمير .
والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون ، وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون ، يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله . ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير؛ فيستعجلون . وإذا طال عليهم الأمد يستريبون . وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم ، وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود . . عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من الله الخبير :{ فاصبر صبراً جميلاً } . .
والخطاب هنا للرسول - صلى الله عليه وسلم - تثبيتاً لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب .
والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى - صلى الله عليه وسلم - هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله . فهو صاحبها . وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار . فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم ، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل . فهما نهجان مختلفان ، وطريقان لا يلتقيان . فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم ، لحكمة يراها الله . . فالصبر حتى يأتي الله بحكمه . والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح ليلاً طويلاً هي الزاد المضمون لهذا الطريق . .. .
إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق . .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحياناً في الخير ، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
ـــــــــــــ
(1/43)
من عادى الرسل عاداه الله
قال تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) [البقرة/97-98]
نَاظَرَ اليَهُودُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَمْرِ نُبُوَّتِهِ ، فَقَالُوا لَهُ : يَا أَبَا القَاسِمِ أَخْبِرْنَا عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ فَإِن أنْبَأَتَنَا بِهَا عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتّبَعْنَاكَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ عَلَيهِمِ المِيثَاقَ إِذْ قَالَ : ( وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : هَاتُوا . فَسَألُوهُ أَسْئِلَةً أَرْبَعَةً أَجَابَهُمْ عَلَيْها ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ : لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَ وَلَهُ مَلَكٌ يَأتِيهِ بِالخَبَرِ ، فَأخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبُكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ( صَاحِبِي جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ ) . قَالُوا جِبْرِيلُ ذَاكَ الذِي يَنْزِلُ بِالحَرْبِ وَالقِتَالِ وَالعَذَابِ عَدُوُّنَا ، وَإِنَّهُ أنْذَرَ اليَهُودَ بِخَرَابِ بَيْتِ المَقْدِسِ ، فَكَانَ مَا أنْذَرَ بِهِ ، لَوْ قُلْتَ : إنَّ صَاحِبَكَ مِيكَائِيلُ لاتَّبَعْنَاكَ ، لأَنَّهُ المَلَكُ الذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالغَيْثِ . فَأَنزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ .
وَمَعْنَى الآيَةِ : إنَّ مَنْ عَادَى جِبْرِيلَ فَإنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الرُّوحُ الأمَينُ الذَي أنْزَلَ القُرآنَ عَلَى قَلبِكَ يَا مُحَمَّدُ ، بأمْرِ اللهِ ، مُصَدِّقاً لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الكُتُبِ المَنَزَّلةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَمِنْهَا التَّورَاةُ ، وَهُوَ هُدًى لِلْمُؤْمِنينَ وَبُشْرَى لِقُلُوبِهِمْ بِالجَنَّةِ .
أعْلَمَ اللهُ تَعَالَى اليَهُودَ بِأنَّ مَنْ عَادَى اللهَ بِالكُفْرِ بِهِ وَمُخَالَفةِ أوَامِرِهِ ، أوْ عَادَى أحَداً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ ، أوْ أحَداً مِنْ رُسُلِهِ أوْ جِبْرِيلَ أوْ مِيكَائِيلَ ، فَإنَّهُ يَكُونُ عَدُوّاً للهِ ، لأنَّهُ يَكُونُ كَافِراً ، وَاللهُ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ، وَمَنْ عَادَاهُ اللهُ خَسِرَ الدُّنيا وَالآخِرَةَ .
لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغاً يتجاوز كل حد ، وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل . . لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوحي من عند الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما كان عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة ، فيزعموا أن جبريل عدوهم ، لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب؛ وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد من جراء صاحبه جبريل! ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا ، فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب!
إنها الحماقة المضحكة ، ولكن الغيظ والحقد يسوقان إلى كل حماقة . وإلا فما بالهم يعادون جبريل؟ وجبريل لم يكن بشراً يعمل معهم أو ضدهم ، ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير؟ إنما هو عبد الله يفعل ما يأمره ولا يعصى الله ما أمره!.
فما كان له من هوى شخصي ، ولا إرادة ذاتية ، في أن ينزله على قلبك ، إنما هو منفذ لإرادة الله وإذنه في تنزيل هذا القرآن على قلبك . . والقلب هو موضع التلقي ، وهو الذي يفقه بعد التلقي ، ويستقر هذا الكتاب فيه ويحفظ . . والقلب يعبر به في القرآن عن قوة الإدراك جملة وليس هو هذه العضلة المعروفة بطبيعة الحال .
نزله على قلبك . . { مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين } . .
والقرآن يصدق في عمومه ما سبقه من الكتب السماوية ، فأساس دين الله واحد في جميع الكتب السماوية وجميع الديانات الإلهية . . وهو هدى وبشرى للقلوب المؤمنة ، التي تتفتح له وتستجيب . . وهذه حقيقة ينبغي إبرازها . . إن نصوص القرآن لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس ، وتفتح له من أبواب المعرفة ، وتفيض فيه من الإيحاءات والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان . ومن ثم يجد فيه الهدى ، كما يستروح فيه البشرى . وكذلك نجد القرآن يكرر هذه الحقيقة في مناسبات شتى . . { هدى للمتقين } . . { هدى لقوم يؤمنون } . . { هدى لقوم يوقنون } . . { شفاء ورحمة للمؤمنين } . فالهدى ثمرة الإيمان والتقوى واليقين. .
وبنو إسرائيل لم يكونوا يؤمنون أو يتقون أو يوقنون!
وكانوا - كعادتهم في تفريق الدين وتفريق الرسل - قد فرقوا بين ملائكة الله الذين يسمعون أسماءهم وأعمالهم ، فقالوا : إنهم على صداقة مع ميكائيل أما مع جبريل فلا! لذلك جمعت الآية التالية جبريل وميكال وملائكة الله ورسله ، لبيان وحدة الجميع ، ولإعلان أن من عادى أحداً منهم فقد عاداهم جميعا ، وعادى الله سبحانه ، فعاداه الله . فهو من الكافرين . .
ـــــــــــــ
(1/44)
رسالات الرسل تصدِّق بعضها
قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) [البقرة/101]
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - بِالقُرآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى ، وَهُوَ يُصَدِّقُ التَّورَاةَ التي بَيْنَ أيدِيهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ أصُولِ التَّوحيدِ ، وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ ، وَأخْبَارِ الأمَمِ الغَابِرَةِ ، نَبََذَ فَرِيقٌ مِنَ اليَهُودِ التَّورَاةَ وَأَهْمَلُوهَا ، وَكَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ بِمَا فِيها ، مَعَ أنَّها حَوَتْ صِفَاتِ مُحَمَّدٍ ، وَبَشَّرَتْ بِرِسَالَتِهِ ، وَلَكِنَّهُمْ كَتَمُوا ذلِكَ وَجَحَدُوهُ ، وَاليَهُودُ حِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ، وَبِالقُرْآنِ المُصَدِّقِ لِلتَّورَاةِ ، يَكُونُونَ قَدْ نَبَذُوا التَّورَاةَ التِي جَاءَ فِيها : إنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ رَسُولاً لِلنَّاسِ مِنْ وُلْدِ إسْمَاعِيلَ .
يلتفت إلى المسلمين - وإلى الناس عامة - مندداً بهؤلاء اليهود ، كاشفاً عن سمة من سماتهم الوبيئة . . إنهم جماعة مفككة الأهواء - رغم تعصبها الذميم - فهم لا يجتمعون على رأي ، ولا يثبتون على عهد ، ولا يستمسكون بعروة . ومع أنهم متعصبون لأنفسهم وجنسهم ، يكرهون أن يمنح الله شيئاً من فضله لسواهم ، إلا أنهم - مع هذا - لا يستمسكون بوحدة ، ولا يحفظ بعضهم عهد بعض ، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تند منهم فرقة فتنقض ما أبرموا ، وتخرج على ما أجمعوا : { أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟ بل أكثرهم لا يؤمنون } . .
وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل ، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد ، وأخيراً نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أول مقدمه إلى المدينة؛ وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معينة ، بينما كانوا هم أول من أعان عليه أعداءه؛ وأول من عاب دينه ، وحاول بث الفرقة والفتنة في الصف المسلم ، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه . .
وبئس هي من خلة في اليهود! تقابلها في المسلمين خلة أخرى على النقيض ، يعلنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله « المسلمون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم » . يسعى بذمتهم أدناهم ، فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد ، ولا ينقض أحد عقده إذا أبرم ، ولقد كتب أبو عبيدة - رضي الله عنه - وهو قائد لجيش عمر - رضي الله عنه - وهو الخليفة يقول : إن عبداً أمن أهل بلد بالعراق . وسأله رأيه . فكتب إليه عمر : إن الله عظم الوفاء ، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا . . فوفوا لهم وانصرفوا عنهم . . وهذه سمة الجماعة الكريمة المتماسكة المستقيمة . وذلك فرق ما بين أخلاق اليهود الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين .
{ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ، نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } . .
وكان هذا مظهراً من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه . فلقد كان ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم ، أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه ، وأن ينصروه ويحترموه . فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ، خاسوا بذلك العهد ، ونبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ، يستوي في هذا النبذ كتاب الله الذي معهم ، والذي يتضمن البشرى بهذا النبي وقد نبذوه ، والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقد نبذوه أيضاً!
وفي الآية ما فيها من سخرية خفية ، يحملها ذلك النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا فلو كانوا هم المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوماً! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب . هم الذين عرفوا الرسالات والرسل . هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور . . وماذا صنعوا؟ إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم! والمقصود طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به ، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم . ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس؛ ويمثل عملهم بحركة مادية متخيلة ، تصور هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً ، ينضح بالكنود والجحود ، ويتسم بالغلظة والحماقة ، ويفيض بسوء الأدب والقحة؛ ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة . حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور . .
ـــــــــــــ
(1/45)
واجب على كل رسول الإيمان برسالة الرسول الذي يأتي بعده لو أدركه
قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) [آل عمران/81-83]
جعل سبحانه الإيمان باليوم الآخر ركناً من أركان عقيدة الإسلام، وعلَّق سبحانه صحة إيمان العبد على الإيمان بذاك اليوم. وقرن تعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر في تسعة عشر موضعاً في القرآن، منها قوله تعالى: { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر }(البقرة:177) وقوله في حق المطلقات: { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر }(البقرة:228) وقال أيضاً مخاطباً أولياء النساء: { من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } (البقرة:232).
ووصف سبحانه المؤمنين بأنهم الذين أمنوا بالله واليوم الآخر، فقال عز من قائل: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر } (البقرة:62).
وبالمقابل فقد رتب سبحانه على الكفر بذاك اليوم ما رتبه على الكفر به، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا }(النساء:136).
وأكد سبحانه أن هذا اليوم واقع لا محال، وأنه لا مفر منه مهما حاول الإنسان ذلك، فقال تعالى: { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }(آل عمران:25) وقال أيضاً: { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا }(النساء:87).
وكان من حكمة الله سبحانه أن جعل ذلك اليوم ليجمع الناس فيه على صعيد واحد، فيحاسب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، ويقتض للمظلوم من الظالم، قال تعالى: { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب }(غافر:17) وفي الحديث الصحيح: ( حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) رواه مسلم، و "الجلحاء" الشاة التي لا قرن لها، و "القرناء" الشاة ذات القرون.
وعلاوة على ما ذكرنا من الآيات الدالة على وجوب الإيمان باليوم الآخر، فقد ثبت في السنة ما يدل على ذلك ويؤكده، من ذلك حديث جبريل عندما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصورة رجل، سائلاً عن معنى الإيمان والإسلام وغير ذلك من عقائد الإسلام، فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر ) رواه مسلم.
ومقتضى الإيمان بذاك اليوم يستلزم من المؤمن أن يعلم علم اليقين أن الله سبحانه جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وهذا القدر من الإيمان هو الواجب على كل مؤمن، وأما تفاصيل الإيمان باليوم الآخر، كمعرفة علامات هذا اليوم، ومقدماته، وماذا يكون فيه، وغير ذلك من التفاصيل، فهذا من غير الواجب على كل مؤمن معرفته، بل يكفي أن يعلمه البعض ولا يضر الآخرون جهله، فهو من فروض الكفاية التي إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين.
فإذا علم المؤمن واعتقد بحق أن ذاك اليوم آتٍ لا مراء فيه ولا جدال، كان عليه أن يَعُدَّ العدة، ويُشمِّرُ عن ساعد الجدِّ استعداداً له، فيعمل جهده لكل ما فيه خير، ويبذل وسعه لتجنب كل ما فيه شر، عملاً بقوله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }( الزلزلة:7- 8).
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ المِيثَاقَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ مِنْ لَدُنء آدَمَ ، أَنَّه مَهْمَا آتَى أَحَدَهُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ، وَبَلَغَ أيَّ مَبْلَغٍ ، ثُمَّ جَاءَ رَسُولٌ بَعْدَهُ فَإِنَّ عَلَيهِ أنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيَنْصُرَهُ ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مَا هُوَ عَلَيهِ مِنَ العِلْمش وَالنُّبُوَّةِ مِنِ اتِّباعِ مَنْ بُعِثَ بَعْدَهُ ، وَمِنْ نُصْرَتِهِ .
وَقَالَ اللهُ لِلأنْبِيَاءِ : أأقْرَرْتُمْ بِذلِكَ ، وَعَاهَدْتُمُونِي عَهْداً وَثِيقاً مُؤَكَّداً؟ قَالُوا : أقْرَرْنا . قَالَ اللهُ تَعَالَى للأنْبِيَاءِ : فَاشْهَدُوا وَأنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَقَدْ أبْلَغَ الأنْبيَاءُ ، صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ، أُمَمَهُمْ بِهَذَا العَهْدِ ، فَوَجَبَ عَلَى أُمَمِهِمْ أنْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ الذِي يَبْعَثُهُ اللهُ ، وَيَنْصُرُوهُ ، وَفَاءً وَاتِّبَاعاً بِمَا الْتَزَمَ بِهِ أنْبِياؤُهُمْ .
فَمَنْ تَخَلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذا العَهْدِ وَالمِيثَاقِ ، وَاتَّخَذَ الدِّينَ وَسِيلَةً لِلتَّفْرِيقِ وَالعُدْوانِ ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ المُتَأخِّرِ المُصَدِّقِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ ، وَلَمْ يَنْصُرْهُ ، فَأولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ الجَاحِدُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ . فَأهْلُ الكِتَابِ الذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، هُمْ خَارِجُونَ عَنْ مِيثَاقِ اللهِ ، نَاقِضُونَ لِعَهْدِهِ ، وَلَيْسُوا عَلَى الدِّينِ الحَقِّ .
يُنكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ ابْتَغَى دِيناً غَيْرَ دِينِ اللهِ الذِي أَنْزَلَهُ فِي كُتُبِهِ ، وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ ، وَهُوَ دِينُ الإِسلامِ ، الذِي يَدْعُو إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ ، الذِي اسْتَسْلَمَ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ، طَوْعاً كَمَا يَفْعَلُ المُؤْمِنُونَ ، وَكَرْهاً كَمَا اسْتَسْلَمَ الكَافِرُونَ ، فَإِنَّهُمْ جَمِيعا تَحْتَ سُلْطَانِ اللهِ العَظِيمِ الذِي لاَ يُعَارَضُ وَلاَ يُرَدُّ ، وَإليهِ يُرْجَعُونَ جَمِيعاً يَوْمَ الحَشْرِ وَالمَعَادِ ، فَيُجَازِي كُلاًّ بعَمَلِهِ .
لقد أخذ الله - سبحانه - موثقاً رهيباً جليلاً كان هو شاهده وأشهد عليه رسله . موثقاً على كل رسول . أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة . ثم جاء رسول بعده مصدقاً لما معه ، أن يؤمن به وينصره ، ويتبع دينه . وجعل هذا عهداً بينه وبين كل رسول .
والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل؛ ويجمعهم كلهم في مشهد . والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة : هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل :{ قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ } . .
وهم يجيبون :{ قالوا أقررنا } . .
فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه :{ قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } :
هذا المشهد الهائل الجليل ، يرسمه التعبير ، فيجف له القلب ويجب؛ وهو يتمثل المشهد بحضرة البارئ الجليل ، والرسل مجتمعين . .
وفي ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلاً متسانداً مستسلماً للتوجيه العلوي ، ممثلاً للحقيقة الواحدة التي شاء الله - سبحانه - أن تقوم عليها الحياة البشرية ، ولا تنحرف ، ولا تتعدد ، ولا تتعارض ، ولا تتصادم . . إنما ينتدب لها المختار من عباد الله؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده ، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به . فما للنبي في نفسه من شيء؛ وما له في هذه المهمة من أرب شخصي ، ولا مجد ذاتي . إنما هو عبد مصطفى ، ومبلغ مختار . والله - سبحانه - هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر؛ ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء . ويخلص دين الله - بهذا العهد وبهذا التصور - من العصبية الذاتية . عصبية الرسول لشخصه . وعصبيته لقومه . وعصبية أتباعه لنحلتهم . وعصبيتهم لأنفسهم . وعصبيتهم لقوميتهم . . ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد ، الذي تتابع به وتوالى ذلك الموكب السني الكريم .
وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير - صلى الله عليه وسلم - ومناصرته وتأييده ، تمسكاً بدياناتهم - لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته ، ولكن باسمها تعصباً لأنفسهم في صورة التعصب لها! - مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهداً ثقيلاً غليظاً مع ربهم في مشهد مرهوب جليل . . في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذي يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم . فسقة عن عهد الله معهم
فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه ، الخاضع لناموسه ، المدبر بأمره ومشيئته :{ فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون؟ } . .
إنه لا يتولى عن اتباع هذا الرسول إلا فاسق . ولا يتولى عن دين الله إلا شاذ . شاذ في هذا الوجود الكبير . ناشز في وسط الكون الطائع المستسلم المستجيب .
إن دين الله واحد ، جاءت به الرسل جميعاً ، وتعاقدت عليه الرسل جميعاً . وعهد الله واحد أخذه على كل رسول . والإيمان بالدين الجديد واتباع رسوله ، ونصرة منهجه على كل منهج ، هو الوفاء بهذا العهد . فمن تولى عن الإسلام فقد تولى عن دين الله كله ، وقد خاس بعهد الله كله .
والإسلام - الذي يتحقق في إقامة منهج الله في الأرض واتباعه والخلوص له - هو ناموس هذا الوجود . وهو دين كل حي في هذا الوجود .
إنها صورة شاملة عميقة للإسلام والاستسلام . صورة كونية تأخذ بالمشاعر ، وترتجف لها الضمائر . . صورة الناموس القاهر الحاكم ، الذي يرد الأشياء والأحياء إلى سنن واحد وشرعة واحدة ، ومصير واحد .
{ وإليه يرجعون } . .فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبر الجليل .
ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله ، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه ، وفي نظام حياته ، وفي منهج مجتمعه ، ليتناسق مع النظام الكوني كله . فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه ، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني . . والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره ، وفي واقعه وارتباطاته ، وفي عمله ونشاطه ، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها . وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق؛ أو لا يؤدي - على كل حال - وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له . وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه يملك معرفة أسرارها ، وتسخيرها ، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة ، ويعفيه من الخوف والقلق والتناحر . . الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون ، ولكن ليطبخ بها ويستدفىء ويستضيء!
والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون ، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي . فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب ، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه ، فيشقى ويتمزق ، ويحتار ويقلق . ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب - على الرغم من جميع الانتصارات العلمية ، وجميع التسهيلات الحضارية المادية!
إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير . خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها . . حقيقة الإيمان . . وخواء حياتها من المنهج الإلهي . هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه .
إنها تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيداً عن ذلك الظل الوارف الندي . ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيدا عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق!
ومن ثم تجد الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب؛ وتحس الخواء والجوع والحرمان؛ وتهرب من واقعها هذا بالأفيون والحشيش والمسكرات؛ وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء ، والشذوذ في الحركة واللبس والطعام! وذلك على الرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسورة والفراغ الكثير . . لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتزايد كلما تزايد الرخاء المادي والإنتاج الحضاري واليسر في وسائل الحياة ومرافقها .
إن هذا الخواء المرير ليطارد البشرية كالشبح المخيف . يطاردها فتهرب منه . ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير!
وما من أحد يزور البلاد الغنية الثرية في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون! هاربون من أشباح تطاردهم . هاربون من ذوات أنفسهم . . وسرعان ما يتكشف الرخاء المادي والمتاع الحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل ، عن الأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والقلق والمرض والجنون والمسكرات والمخدرات والجريمة . وفراغ الحياة من كل تصور كريم!
إنهم لا يجدون أنفسهم لأنهم لا يجدون غاية وجودهم الحقيقية . . إنهم لا يجدون سعادتهم لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون ، وبين نظامهم وناموس الوجود . . إنهم لا يجدون طمأنينتهم لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون .
ـــــــــــــ
(1/46)
الرسول يطاع بإذن الله
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) [النساء/64 ]
مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي رُسُلِهِ أنَّهُ لاَ يُرْسِلُهُمْ إلاَّ لِيُطَاعُوا بِإِذْنِ اللهِ ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمْ ، أَوْ رَغِبَ عَنْ حُكْمِهِمْ ، خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَسُنَّتِهِ ، وَارْتَكَبَ إثْماً عَظِيماً . وَلًوْ أنَّ هَؤُلاءِ القَوْمَ ، حِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَرَغِبُوا عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللهِ إلى حُكْمِ الطَّاغُوتِ ، جَاؤُوا الرَّسُولَ ، عَقِبَ الذَّنْبِ مُبَاشَرَةً ، فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ، وَأَظْهَرُوا نَدَمَهُمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ لِيَصْفَحَ عَنْهُمْ ، لاعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقْهِ ، وَلِيَدْعُوَ لَهُمْ بِالمَغْفِرَةِ ، وَلَوْ أنَّ الرَّسُولَ دَعَا لَهُمْ بِالمَغْفِرَةِ ، لَتَقَبَّلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ ، وَلَغَمَرَهُمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ ، وَلَشَمِلَهُمْ بِعَفْوِهِ ، فَرَحْمَةُ اللهِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ( وَسَمَّى اللهُ تَعَالَى تَرْكَ طَاعَةِ الرَّسُولِ ظُلْماً لِلنَّفْسِ أَيْ إِفْسَاداً لَهَا ) .
إن الرسول ليس مجرد « واعظ » يلقي كلمته ويمضي . لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل؛ أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول « الدين » .
إن الدين منهج حياة . منهج حياة واقعية . بتشكيلاتها وتنظيماتها ، وأوضاعها ، وقيمها ، وأخلاقها وآدابها . وعباداتها وشعائرها كذلك .
وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان . سلطان يحقق المنهج ، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ . . والله أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين . منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة . وما من رسول إلا أرسله الله ، ليطاع ، بإذن الله . فتكون طاعته طاعة لله . . ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني ، والشعائر التعبدية . . فهذا وهم في فهم الدين؛ لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل . وهي إقامة منهج معين للحياة ، في واقع الحياة . . وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظاً . لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي . يستهتر بها المستهترون ، ويبتذلها المبتذلون!!!
ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان . . كان دعوة وبلاغاً . ونظاماً وحكماً . وخلافة بعد ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقوم بقوة الشريعة والنظام ، على تنفيذ الشريعة والنظام . لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول . وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسول . وليست هنالك صورة أخرى يقال لها : الإسلام . أو يقال لها : الدين . إلا أن تكون طاعة للرسول ، محققة في وضع وفي تنظيم . ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف؛ ويبقى أصلها الثابت . وحقيقتها التي لا توجد بغيرها . . استسلام لمنهج الله ، وتحقيق لمنهج رسول الله . وتحاكم إلى شريعة الله . وطاعة للرسول فيما بلغ عن الله ، وإفراد لله - سبحانه - بالألوهية ( شهادة أن لا إله إلا الله ) ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقاً لله ، لا يشاركه فيه سواه .وعدم احتكام إلى الطاغوت . في كثير ولا قليل . والرجوع إلى الله والرسول ، فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة ، والأحوال الطارئه؛ حين تختلف فيه العقول . .
ـــــــــــــ
(1/47)
لا يؤمن الناس حتى يحكموا الرسول في جميع شئون حياتهم
قال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء/65]
يُقْسِمُ اللهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ المُقَدَّسَةِ عَلَى أنَّ أولَئِكَ الذِينَ رَغِبُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إلى الرَّسُولِ ، وَمَنْ مَاثَلَهُمْ مِنَ المُنَافِقِينَ ، لاَ يُؤْمِنُونَ إيمَاناً حَقّاً ( أَيْ إيمَانَ إِذْعَانٍ وَانْقِيَادٍ ) إلاّ إذَا كَمُلَتْ لَهُمْ ثَلاثُ خِصَالٍ :
- أنْ يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ فِي القَضَايَا التِي يَخْتَصِمُونَ فِيهَا ، وَلاَ يَبِينُ لَهُمْ فِيهَا وَجْهُ الحَقِّ .
- ألاّ يَجِدُوا ضِيقاً وَحَرَجاً مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ ، وَأنْ تُذْعِنَ نُفُوسُهُمْ لِقَضَائِهِ ، إذْعَاناً تَامَاً دُونَ امِتْعَاضٍ مِنْ قَبُولِهِ وَالعَمَلِ بِهِ ، لأَنَّهُ الحَقُّ وَفِيهِ الخَيْرُ .
- أنْ يَنْقَادُوا وَيُسَلِّمُوا لِذَلِكَ الحُكْمِ ، مُوقِنِينَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فِي حُكْمِهِ ، وَبِعِصْمَتِهِ عَنِ الخَطَأ .
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه . ويقسم عليه بذاته . فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ، ولا تأويل لمؤول .
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام . . وهي أن هذا القول مرهون بزمان ، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئاً؛ ولا يفقه من التعبير القرآني قليلاً ولا كثيراً . فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام؛ جاءت في صورة قسم مؤكد؛ مطلقة من كل قيد . . وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو تحكيم شخصه . إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه . وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول أشد المرتدين ارتداداً على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين . بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير . وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله ، في حكم الزكاة؛ وعدم قبول حكم رسول الله فيها ، بعد الوفاة!
وإذا كان يكفي لإثبات « الإسلام » أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله . . فانه لا يكفي في « الإيمان » هذا ، ما لم يصحبه الرضى النفسي ، والقبول القلبي ، وإسلام القلب والجنان ، في اطمئنان!
هذا هو الإسلام .. وهذا هو الإيمان . . فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؛ وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان!
ـــــــــــــ
(1/48)
الرسل عباد الله
قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) [النساء/171، 172]
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الكِتَابِ عَنِ الغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ ، وَعَنِ المُبَالَغَةِ ، وَتَجاوُزِ الحُدُودِ التِي حَدَّها اللهُ ، وَيَأمُرُهُمْ بِألا يَعْتَقِدُوا إلاَّ القَوْلَ الحَقَّ الثَّابِتِ بِنَصٍّ دِينيٍّ مُتَوَاتِرٍ ، وَبُرْهَانٍ قَاطِعٍ . وَيَخُصُّ فِي خِطَابِهِ ، فِي هَذِهِ الآيَةِ ، النَّصَارَى الذِينَ غَلَوا فِي المَسِيحِ فَجَعَلُوهُ إلهاً يَعْبُدُونَهُ مَعَ اللهِ . وَيَأْمُرُهُمُ اللهُ بِأنْ لاَ يَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ ، فَيَجْعَلُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَداً ، فَلاَ إله إلاَّ هُوَ ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ ، فَالمَسِيحُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ ، وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ ، خَلَقَهُ اللهُ بِكَلِمَةٍ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ ، وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ ، وَبِالتَّصْدِيقِ بِأنَّ اللهَ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ ، وَهُوَ وَاحِدٌ أَحَدٌ ، لاَ صَاحِبَهٌ لَهُ وَلاَ وَلَدٌ ، وَأنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولَهُ إلَى اليَهُودِ . ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأنْ لاَ يَجْعَلُوا عِيسَى وَأُمَّهُ شَرِيكَيْنِ مَعَ اللهِ ، فِي الخَلْقِ وَالمُلْكِ ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُواً كَبِيراً .
ثُمَّ يَأْمُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَنْتَهُوا عَنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ التِي هِيَ كُفْرٌ وَإِشْرَاكٌ ، لأنَّ فِي الانْتِهَاءِ عَنْ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : إنَّ اللهَ وَاحِدٌ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَتَنَزَّهَ ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِدٌّ أَوْ شَرِيكٌ ، وَجَمِيعُ مَا فِي الوُجُودِ مِنْ خَلْقٍ مُلْكَهُ ، وَهُمْ جَمِيعاً تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ ، وَهُوَ وَكِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ صَاحِبَةٌ أَوْ وَلَدٌ؟
لاَ يَسْتَكْبِرُ المَسِيحُ ، وَلاَ يَسْتَكْبِرُ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبُونَ ، أنْ يَكُونُوا مِنْ عِبَادِ اللهِ ، لأنَّهُمْ يَعْرِفُونَ عَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ ، وَالذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ ، وَيَرَوْنَ أنَّهُ لاَ يَلِيقُ بِهِمْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِقَاباً شَدِيداً ، وَيَحْشُرُهُمْ جَميعاً فِي جَهَنَّمَ
وقد تطورت عندهم فكرة البنوة ، وفكرة التثليث ، حسب رقي التفكير وانحطاطه . ولكنهم قد اضطروا أمام الاشمئزاز الفطري من نسبة الولد لله ، والذي تزيده الثقافة العقلية ، أن يفسروا البنوة بأنها ليست عن ولادة كولادة البشر . ولكن عن « المحبة » بين الآب والابن . وأن يفسروا الإله الواحد في ثلاثة . . بأنها « صفات » لله سبحانه في « حالات » مختلفة . . وإن كانوا ما يزالون غير قادرين على إدخال هذه التصورات المتناقضة إلى الإدراك البشري . فهم يحيلونها إلى معميات غيبية لا تنكشف إلا بانكشاف حجاب السماوات والأرض .
والله - سبحانه - تعالى عن الشركة؛ وتعالى عن المشابهة . ومقتضى كونه خالقاً يستتبع . . بذاته . . أن يكون غير الخلق . وما يملك إدراك أن يتصور إلا هذا التغاير بين الخالق والخلق . والمالك والملك .. وإلى هذا يشير النص القرآني :{ إنما الله إله واحد . سبحانه! أن يكون له ولد؟ له ما في السماوات وما في الأرض . . } وإذا كان مولد عيسى - عليه السلام - من غير أب عجيباً في عرف البشر ، خارقاً لما ألفوه ، فهذا العجب إنما تنشئه مخالفة المألوف . والمألوف للبشر ليس هو كل الموجود . والقوانين الكونية التي يعرفونها ليست هي كل سنة الله . والله يخلق السنة ويجريها ، ويصرفها حسب مشيئته . ولا حد لمشيئته .
والله - سبحانه - يقول - وقوله الحق - في المسيح : { إنما المسيح عيسى بن مريم ، رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه } . .
فهو على وجه القصد والتحديد : { رسول الله } . .
شأنه في هذا شأن بقية الرسل . شأن نوح وإبراهيم وموسى ومحمد ، وبقية الرهط الكريم من عباد الله المختارين للرسالة على مدار الزمان . .
{ وكلمته ألقاها إلى مريم } وأقرب تفسير لهذه العبارة ، أنه سبحانه ، خلق عيسى بالأمر الكوني المباشر ، الذي يقول عنه في مواضع شتى من القرآن : إنه « كن . . فيكون » . . فلقد ألقى هذه الكلمة إلى مريم فخلق عيسى في بطنها من غير نطفة أب - كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم - والكلمة التي تخلق كل شيء من العدم ، لا عجب في أن تخلق عيسى - عليه السلام - في بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله : { وروح منه } . .
وقد نفخ الله في طينة آدم من قبل من روحه . فكان « إنساناً » . . كما يقول الله تعالى : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } وكذلك قال في قصة عيسى : { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا } . فالأمر له سابقة . . والروح هنا هو الروح هناك . . ولم يقل أحد من أهل الكتاب - وهم يؤمنون بقصة آدم والنفخة فيه من روح الله - إن آدم إله ، ولا أقنوم من أقانيم الإله . كما قالوا عن عيسى؛ مع تشابه الحال - من حيث قضية الروح والنفخة ومن حيث الخلقة كذلك . بل إن آدم خلق من غير أب وأم : وعيسى خلق مع وجود أم . . وكذلك قال الله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون } ويعجب الإنسان - وهو يرى وضوح القضية وبساطتها - من فعل الهوى ورواسب الوثنية التي عقدت قضية عيسى عليه السلام هذا التعقيد كله ، في أذهان أجيال وأجيال وهي - كما يصورها القرآن - بسيطة بسيطة ، وواضحة مكشوفة .
إن الذي وهب لآدم . . من غير أبوين . . حياة إنسانية متميزة عن حياة سائر الخلائق بنفخة من روحه ، لهو الذي وهب عيسى . . من غير أب . . هذه الحياة الإنسانية كذلك . . وهذالكلام البسيط الواضح أولى من تلك الأساطير التي لا تنتهي عن ألوهية المسيح ، لمجرد أنه جاء من غير أب .وعن ألوهية الأقانيم الثلاثة كذلك! . . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً :
{ فآمنوا بالله ورسله . ولا تقولوا : ثلاثة . انتهوا خيراً لكم } . .
وهذه الدعوة للإيمان بالله ورسله - ومن بينهم عيسى بوصفه رسولاً ، ومحمد بوصفه خاتم النبيين - والانتهاء عن تلك الدعاوى والأساطير ، تجيء في وقتها المناسب بعد هذا البيان الكاشف والتقرير المريح . .
{ إنما الله إله واحد } . . تشهد بهذا وحدة الناموس . . ووحدة الخلق . ووحدة الطريقة : كن . . فيكون . . ويشهد بذلك العقل البشري ذاته . فالقضية في حدود إدراكه . فالعقل لا يتصور خالقاً يشبه مخلوقاته ، ولا ثلاثة في واحد . ولا واحداً في ثلاثة : { سبحانه أن يكون له ولد } . .
والولادة امتداد للفاني ومحاولة للبقاء في صورة النسل . . والله الباقي غني عن الامتداد في صورة الفانين؛ وكل ما في السماوات وما في الأرض ملك له سبحانه على استواء : { له ما في السماوات وما في الأرض } . .
ويكفي البشر أن يرتبطوا كلهم بالله ارتباط العبودية للمعبود؛ وهو يرعاهم أجمعين ، ولا حاجة لافتراض قرابة بينهم وبينه عن طريق ابن له منهم! فالصلة قائمة بالرعاية والكلاءة : { وكفى بالله وكيلاً } . .
وهكذا لا يكتفي القرآن ببيان الحقية وتقريرها في شأن العقيدة . إنما يضيف إليها إراحة شعور الناس من ناحية رعاية الله لهم؛ وقيامه - سبحانه - عليهم وعلى حوائجهم ومصالحهم؛ ليكلوا إليه أمرهم كله في طمأنينة . .
ويمضي السياق في البيان؛ لتقرير أكبر قضايا التصور الاعتقادي الصحيح ، وهي الحقيقة الاعتقادية التي تنشأ في النفس من تقرير حقيقة الوحدانية . . حقيقة أن ألوهية الخالق تتبعها عبودية الخلائق . . وأن هناك فقط : ألوهية وعبودية . . ألوهية واحدة ، وعبودية تشمل كل شيء ، وكل أحد ، في هذا الوجود .
ويصحح القرآن هنا عقيدة النصارى كما يصحح كل عقيدة تجعل للملائكة بنوة كبنوة عيسى ، أو شركاً في الألوهية كشركته في الألوهية : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله - ولا الملائكة المقربون - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله؛ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } .
لقد عني الإسلام عناية بالغة بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه؛ وحدانية لا تتبلس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور؛ وعني بتقرير أن الله - سبحانه - ليس كمثله شيء . فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة ولا خاصية . كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله - سبحانه وكل شيء ( بما في ذلك كل حي ) وهي أنها صلة ألوهية وعبودية . ألوهية الله ، وعبودية كل شيء لله . . والمتتبع للقرآن كله يجد العناية فيه بالغة بتقرير هذه الحقائق - أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه - بحيث لا تدع في النفس ظلاً من شك أو شبهة أو غموض .
ولقد عني الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي الحقيقة التي جاء بها الرسل أجمعون . فقررها في سيرة كل رسول ، وفي دعوة كل رسول؛ وجعلها محور الرسالة من عهد نوح عليه السلام ، إلى عهد محمد خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية - وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة - يكون منهم من يحرف هذه الحقيقة؛ وينسب لله - سبحانه - البنين والبنات؛ أو ينسب لله - سبحانه - الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم؛ اقتباساً من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات!
ألوهية وعبودية . . ولا شيء غير هذه الحقيقة . ولا قاعدة إلا هذه القاعدة . ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية ، وصلة العبودية بالألوهية . .
ولا تستقيم تصورات الناس - كما لا تستقيم حياتهم - إلا بتمحيص هذه الحقيقة من كل غبش ، ومن كل شبهة ، ومن كل ظل!
أجل لا تستقيم تصورات الناس ، ولا تستقر مشاعرهم ، إلا حين يستيقنون حقيقة الصلة بينهم وبين ربهم . .
هو إله لهم وهم عبيده . . هو خالق لهم وهم مخاليق . . هو مالك لهم وهم مماليك . . وهم كلهم سواء في هذه الصلة ، لا بنوة لأحد . ولا امتزاج بأحد . . ومن ثم لا قربى لأحد إلا بشيء يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه : التقوى والعمل الصالح . . وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله . فأما البنوة ، وأما الامتزاج فانى بهما لكل أحد؟!
ولا تستقيم حياتهم وارتباطاتهم ووظائفهم في الحياة ، إلا حين تستقر في أخلادهم تلك الحقيقة : أنهم كلهم عبيد لرب واحد . . ومن ثم فموقفهم كلهم تجاه صاحب السلطان واحد . . فأما القربى إليه ففي متناول الجميع . . عندئذ تكون المساواة بين بني الانسان ، لأنهم متساوون في موقفهم من صاحب السلطان . . وعندئذ تسقط كل دعوى زائفة في الوساطة بين الله والناس؛ وتسقط معها جميع الحقوق المدعاة لفرد أو لمجموعة أو لسلسلة من النسب لطائفة من الناس . . وبغير هذا لا تكون هناك مساواة أصيلة الجذور في حياة بني الإنسان ومجتمعهم ونظامهم ووضعهم في هذا النظام!
فالمسألة - على هذا - ليست مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب على هذا الأساس الركين ، فحسب ، إنما هي كذلك مسألة نظام حياة ، وارتباطات مجتمع ، وعلاقات أمم وأجيال من بني الإنسان .
إنه ميلاد جديد للإنسان على يد الإسلام . . ميلاد للإنسان المتحرر من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد . . ومن ثم لم تقم في تاريخ الإسلام « كنيسة » تستذل رقاب الناس ، بوصفها الممثلة لابن الله ، أو للأقنوم المتمم للأقانيم الإلهية؛ المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم .
ولم تقم كذلك في تاريخ الإسلام سلطة مقدسة تحكم « بالحق الإلهي » زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله!
وقد ظلَّ « الحق المقدس » للكنيسة والبابوات في جانب؛ وللأباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقاً مقدساً كحق الكنيسة في جانب . . ظل هذا الحق أو ذاك قائماً في أوربا باسم ( الابن ) أو مركب الأقانيم . حتى جاء « الصليبيون » إلى أرض الإسلام مغيرين . فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الإسلام بذرة الثورة على « الحق المقدس » وكانت فيما بعد ثورات « مارتن لوثر » و « كالفن » و « زنجلي » المسماة بحركة الإصلاح . . على أساس من تأثير الإسلام ، ووضوح التصور الإسلامي ، ونفي القداسة عن بني الإنسان؛ ونفي التفويض في السلطان . . لأنه ليست هنالك إلا ألوهية وعبودية في عقيدة الإسلام . .
وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية المسيح وبنوته؛ وألوهية روح القدس ( أحد الأقانيم ) وفي كل أسطورة عن بنوة أحد لله ، أو ألوهية أحد مع الله ، في أي شكل من الأشكال . . يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن عيسى بن مريم عبد لله؛ وأنه لن يستنكف أن يكون عبداً لله . وأن الملائكة المقربين عبيد لله؛ وأنهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيداً لله . وأن جميع خلائقه ستحشر إليه . وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم . وأن الذين يقرون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله - ولا الملائكة المقربون - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله . وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } .
إن المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبداً لله . لأنه - عليه السلام - وهو نبي الله ورسوله - خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان . وهو خير من يعرف أنه من خلق الله؛ فلا يكون خلق الله كالله؛ أو بعضاً من الله! وهو خير من يعرف أن العبودية لله - فضلاً على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة - لا تنقص من قدره . فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء . وهي المرتبة التي يصف الله بها رسله ، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده . . وكذلك الملائكة المقربون - وفيهم روح القدس جبريل - شأنهم شأن عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء - فما بال جماعة من أتباع المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة؟!
{ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً } . .فاستنكافهم واستكبارهم لا يمنعهم من حشر الله لهم بسلطانه .. سلطان الألوهية على العباد . . شأنهم في هذا شأن المقرين بالعبودية المستسلمين لله . .
فأما الذين عرفوا الحق ، فأقروا بعبوديتهم لله؛ وعملوا الصالحات لأن عمل الصالحات هو الثمرة الطبيعية لهذه المعرفة وهذا الإقرار؛ فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله .
{ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } .
وما يريد الله - سبحانه - من عباده أن يقروا له بالعبودية ، وأن يعبدوه وحده ، لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم ، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى أو تنقص من شيء . ولكنه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، لتصح تصوراتهم ومشاعرهم ، كما تصح حياتهم وأوضاعهم . فما يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر ، ولا أن تستقر الحياة والأوضاع ، على أساس سليم قويم ، إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار ، وما يتبع الإقرار من آثار . .
يريد الله - سبحانه - أن تستقر هذه الحقيقة بجوانبها التي بيناها في نفوس الناس وفي حياتهم . ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ليعرفوا مَنْ صاحب السلطان في هذا الكون وفي هذه الأرض؛ فلا يخضعوا إلا له ، وإلا لمنهجه وشريعته للحياة ، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه . يريد أن يعرفوا أن العبيد كلهم عبيد؛ ليرفعوا جباههم أمام كل من عداه؛ حين تعنو له وحده الوجوه والجباه . يريد أن يستشعروا العزة أمام المتجبرين والطغاة ، حين يخرون له راكعين ساجدين يذكرون الله ولا يذكرون أحداً إلا الله . يريد أن يعرفوا أن القربى إليه لا تجيء عن صهر ولا نسب . ولكن تجيء عن تقوى وعمل صالح؛ فيعمرون الأرض ويعملون الصالحات قربى إلى الله . يريد أن تكون لهم معرفة بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فتكون لهم غيرة على سلطان الله في الأرض أن يدعيه المدعون باسم الله أو باسم غير الله فيردون الأمر كله لله . . ومن ثم تصلح حياتهم وترقى وتكرم على هذا الأساس . .
إن تقدير هذه الحقيقة الكبيرة؛ وتعليق أنظار البشر لله وحده؛ وتعليق قلوبهم برضاه؛ وأعمالهم بتقواه؛ ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه . . إن هذا كله رصيد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة يضاف إلى حساب البشرية في حياتها الأرضية؛ وزاد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة تستمتع به في الأرض . . في هذه الحياة . . فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقرين بالعبودية العاملين للصالحات ، في الآخرة ، فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر . وفيض من عطاء الله .
وفي هذا الضوء يجب أن ننظر إلى قضية الإيمان بالله في الصورة الناصعة التي جاء بها الإسلام؛ وقرر أنها قاعدة الرسالة كلها ودعوة الرسل جميعاً؛ قبل أن يحرفها الأتباع ، وتشوهها الأجيال . . يجب أن ننظر إليها بوصفها ميلاداً جديداً للإنسان؛ تتوافر له معه الكرامة والحرية ، والعدل والصلاح ، والخروج من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده في الشعائر وفي نظام الحياة سواء .
والذين يستنكفون من العبودية لله ، يذلون لعبوديات في هذه الأرض لا تنتهي . . يذلون لعبودية الهوى والشهوة . أو عبودية الوهم والخرافة . ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم ، ويحنون لهم الجباه . ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيداً مثلهم من البشر هم وهم سواء أمام الله . . ولكنهم يتخذونهم آلهة لهم من دون الله . . هذا في الدنيا . . أما في الآخرة { فيعذبهم عذاباً أليماً ، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } . .
إنها القضية الكبرى في العقيدة السماوية تعرضها هذه الآية في هذا السياق في مواجهة انحراف أهل الكتاب من النصارى في ذلك الزمان . وفي مواجهة الانحرافات كلها إلى آخر الزمان . .
---------------
وقال تعالى :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) } [المائدة/17]
يَقُولُ تَعَالَى إنَّ الذِينَ قَالُوا : إنَّ المَسِيحَ عِيسَى بِنْ مَرْيَمَ هُوَ اللهُ ، قَدْ كَفَرُوا بِذَلِكَ القَوْلِ ، لأنَّ المَسْيحَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ ، فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : مَنْ ذَا الذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ المَسْيِحَ وَأُمَّهُ مِنَ اللهِ ، وَأنْ يَحْمِيَهُمَا مِنْهُ إنْ أرَادَ اللهُ أنْ يُهْلِكَهُمَا؟ بَلْ مَنْ يَسْتَطِيعُ أنْ يَعْتَرِضَ سَبِيلَ إِرَادَةِ اللهِ إنْ أَرَادَ أنْ يُهْلِكَ جَميعَ مَنْ فِي الأَرْضِ مِنَ الخَلاَئِقِ؟ فَاللهُ هُوَ مَالِكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا كَيْفَ يَشَاءُ ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَلا مُعَقِّبَ عَلَى تَصَرُّفِهِ ، فَإِذَا كَانَ الأمْرُ قَدِ التَبَسَ عَلَى هَؤُلاءِ بِسَبَبِ خَلْقِ عِيسَى مِنْ دُونِ أبٍ ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ دُونِ أبٍ وَلاَ أمٍّ .
-----------------
وقال تعالى :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) [المائدة/72-76]
(1/49)
حَكَمَ اللهُ تَعَالَى بِتَكْفِيرِ الذِينَ أدَّعُوا أنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ . وَقَالَ اللهُ تَعَالَى إنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيداً ، إذْ أَنَّهُمْ فِي إِطْرَائِهِمْ إيَّاهُ ، وَمَدْحِهِ غَلَوا غُلُوّاً كَبِيراً ، يَفُوقُ غُلُوَّ اليَهُودِ فِي تَكْذِيبِهِ وَالافْتِرَاءِ عَلَيهِ وَعَلَى أُمِّهِ ، وَقَوْلِهِمْ عَلَيْهَا بُهْتَاناً عَظِيماً ، مَعْ أنَّ المَسِيحَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا يَقُولُونَ ، فَقَدْ أمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، مُعْتَرِفاً بِأنَّهُ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ ، وَأنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، وَأَوَّلُ كَلِمَةٍ نَطَقَ بِهَا المَسِيحُ وَهُوَ صَغِيرٌ فِي المَهْدِ قَوْلُهُ : ( إنِّي عَبْدُ اللهِ ) .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّ المَسِيحَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ : إنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ أَحَداً فِي أُلُوهِيَّتِهِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ، وَلَنْ يَجِدَ الظَّالِمُونَ نَصِيراً لَهُمْ وَلاَ مُعِيناً ، وَلاَ مُنْقِذاً مِنْ عَذَابِ اللهِ الذِي سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ .
يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى أنَّ الذِينَ قَالُوا إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ هُمْ كُفَّارٌ ، وَأنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إلاَّ إلَه وَاحِدٌ ، وَهُوَ رَبُّ جَمِيعِ الكَائِنَاتِ وَإلهُهَا . وَيَتَوعَدُ اللهُ القَائِلِينَ ( إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ مِنَ الأَقَانِيمِ ) ، وَيَتَهَدَّدُهُمْ بِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَهُ مِنَ الكَذِبِ وَالافْتِرَاءِ ، لَيَمَسَّنَّ الذِينَ كَفُرُوا مِنْهُمْ ، عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .
( وَتَقُولُ فِئَةٌ مِنَ النَّصَارَى بِالأَقَانِيمِ الثَّلاَثَةِ ، أقْنُومِ الأَبِ ، وَأقْنُومِ الابْنِ ، وَأقْنُومِ الكَلِمَةِ المُنْبَثِقَةِ مِنَ الأبِ إلى الابْنِ ) .
يَقُولُ تَعَالَى كَيْفَ يَسْمَعُ هَؤُلاَءِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْنِيدِ لأَقْوَالِهِمْ ، وَالوَعِيدِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ لاَ يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى التَّوْحِيدِ ، وَعَلَى اسْتِغْفَارِ اللهِ عَمَّا فَرَّطَ مِنْهُمْ؟ ثُمَّ يَحُثُهُمْ تَعَالَى عَلَى طَلَبِ المَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ لِيَتُوبَ عَلَيْهِم سُبْحَانَهُ ، وَهُوَ الجَوَادُ الكَرِيمُ .
المَسيحُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِالرِّسَالَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْهُ رُسُلٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُ أسْوَةٌ بِهِمْ . وَأمُّهُ مُؤْمِنَةٌ مٌصَدِّقَةٌ لَهُ ( صِدِّيقَةٌ - وَهَذا أعْلَى مَقَامَاتِهَا فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أنَّها لَيْسَتْ نَبِيّةً ) ، وَكَانَ المَسِيحُ وَأمُّهُ يَحْتَاجَانِ إلى الطَّعَامِ وَالغِذاءِ ، وَمَا يَسْتَتْبِعُ الطَّعَامَ وَالغِذَاءَ ، فَهُمَا مَخْلُوقَانِ مِنَ البَشَرِ ، وَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلهاً خَالِقاً ، وَلاَ رَبّاً مَعْبُوداً . فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدٌ كَيْفَ نُوَضِّحُ لَهُمُ الآيَاتِ وَنُظْهِرُهَا ، ثُمَّ انْظُرْ ، بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْضِيحِ ، أيْنَ يَذْهَبُونَ ، وَبأيِّ قَوْلٍ يَتَمَسَّكُونَ ، وَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ؟
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى الذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَالأنْدَادَ وَالأوْثَانَ وَالمَخْلُوقَاتِ ، ضَلاَلَهُمْ وَكُفْرَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ مَا لاَ يَضُرُّ وَلاَ يَنْفَعُ ، فَيَقُولُ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ لِهَؤُلاَءِ النَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ : أَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللهِ الوَاحِدِ الأحَدِ ، وَهُوَ القَوِيُّ القَادِرُ ، الخَالِقُ السَّمِيعُ العَلِيمُ ، وَتَعْبدُونَ مَا لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلاَ لِغَيْرِهِ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً؟ وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوزاً ، مِنْ بَشَرٍ وَصَنَمٍ وَأنْدَادٍ؟
« جاء في كتاب » سوسنة سليمان « لنوفل بن نعمة الله بن جرجس النصراني : أن عقيدة النصارى التي لا تختلف بالنسبة لها الكنائس ، وهي أصل الدستور الذي بينه المجمع النيقاوي هي الإيمان بإله واحد : آب واحد ، ضابط الكل ، خالق السماوات والأرض ، كل ما يرى وما لا يرى . وبرب واحد يسوع ، الابن الوحيد المولود من الآب قبل الدهور من نور الله . إله حق من إله حق . مولود غير مخلوق ، مساو للأب في الجوهر ، الذي به كان كل شيء ، والذي من أجلنا نحن البشر ، ومن أجل خطايانا نزل من السماء ، وتجسد من الروح القدس ، ومن مريم العذراء تأنس ، وصلب عنا على عهد بيلاطس ، وتألم وقبر ، وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما في الكتب ، وصعد إلى السماء وجلس على يمين الرب ، وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات ، ولا فناء لملكه .والإيمان بالروح القدس ، الرب المحيي المنبثق من الآب ، الذي هو مع الابن يسجد له ، ويمجده ، الناطق بالأنبياء «
» وقال الدكتور « بوست » في تاريخ الكتاب المقدس : طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية : الله الآب ، والله الابن ، والله الروح القدس . فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن . وإلى الابن الفداء . وإلى الروح القدس التطهير « .
ونظراً لصعوبة تصور الأقانيم الثلاثة في واحد ، وصعوبة الجمع بين التوحيد والتثليث ، فإن الكتاب النصارى عن اللاهوت حاولوا تأجيل النظر العقلي في هذه القضية ، التي يرفضها العقل ابتداء . ومن ذلك ما كتبه القس » بوطر « في رسالة » الأصول والفروع « حيث يقول : » قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا . ونرجو ان نفهمه فهماً أكثر جلاء في المستقبل حين يكشف لنا الحجاب عن كل ما في السماوات وما في الأرض . وأما في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية « .
والله - سبحانه - يقول : إن هذه المقولات كلها كفر . وهي تتضمن - كما رأينا - القول بألوهية المسيح عليه السلام؛ والقول بأن الله ثالث ثلاثة . . وليس بعد قول الله - سبحانه - قول . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل :{ لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . وقال المسيح : يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم . إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار } . .وهكذا حذرهم المسيح عليه السلام فلم يحذروا ، ووقعوا بعد وفاته عنهم فيما حذرهم من الوقوع فيه ، وما أنذرهم عليه الحرمان من الجنة والانتهاء إلى النار . . ونسوا قول المسيح - عليه السلام - :{ يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } . .
حيث أعلن لهم أنه هو وهم في العبودية سواء ، لربوبية الله الواحد الذي ليس له من شركاء .
ويستوفي القرآن الحكم على سائر مقولاتهم الكافرة :{ لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } .
ويقرر الحقيقة التي تقوم عليها كل عقيدة جاء بها رسول من عند الله :{ وما من إله إلا إله واحد } . .
ويهددهم عاقبة الكفر الذي ينطقون به ويعتقدونه : { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } . .
والكافرون هم الذين لا ينتهون عن هذه المقولات التي حكم عليها الله بالكفر الصراح .
ثم أردف التهديد والوعيد بالتحضيض والترغيب : { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } . .ليبقي لهم باب التوبة مفتوحاً؛ وليطمعهم في مغفرة الله ورحمته ، قبل فوات الآوان . .
ثم واجههم بالمنطق الواقعي القويم ، لعله يرد فطرتهم إلى الإدراك السليم . مع التعجيب من أمرهم في الانصراف عن هذا المنطق بعد البيان والإيضاح :{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وأمه صديقة ، كانا يأكلان الطعام .انظر كيف نبين لهم الآيات . ثم انظر أنى يؤفكون . . }أكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح - عليه السلام - وأمه الصديقة . وهي خصيصة من خصائص الأحياء الحادثين ، ودليل على بشرية المسيح وأمه - أو على ناسوته بتعبيرهم اللاهوتي - فأكل الطعام تلبية لحاجة جسدية لا مراء فيها . ولا يكون إلهاً من يحتاج إلى الطعام ليعيش . فالله حي بذاته ، قائم بذاته ، باق بذاته ، لا يحتاج ، ولا يدخل إلى ذاته - سبحانه - أو يخرج منها شيء حادث كالطعام . .
ونظراً لوضوح هذا المنطق الواقعي ونصاعته التي لا يجادل فيها إنسان يعقل ، فإنه يعقب عليه باستنكار موقفهم والتعجيب من انصرافهم عن ذلك المنطق البين :{ انظر كيف نبين لهم الآيات ، ثم انظر أنى يؤفكون } . .ولقد كانت هذه الحياة البشرية الواقعية للمسيح عليه السلام ، مصدر تعب لمن أرادوا تأليهه - على الرغم من تعاليمه - فقد احتاجوا إلى كثير من الجدل والخلاف حول لاهوتية المسيح عليه السلام وناسوتيته - كما ذكرنا ذلك من قبل باختصار .
واستطراداً في ذلك المنطق القرآني المبين من زاوية اخرى يجيء هذا الاستنكار :{ قل : أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً؛ والله هو السميع العليم } ؟ . .
ويختار التعبير بكلمة « بما » بدل كلمة « من » في هذا الموضع قصداً . ليدرج « المخلوقات » التي تعبد كلها - بما فيها من العقلاء - في سلك واحد . لأنه يشير إلى ماهيتها المخلوقة الحادثة البعيدة عن حقيقة الألوهية . فيدخل عيسى ، ويدخل روح القدس ، وتدخل مريم ، كلهم في « ما » لأنهم بماهيتهم من خلق الله . ويلقي هذا التعبير ظله كذلك في هذا المقام؛ فيبعد أن يكون أحد من خلق الله مستحقاً للعبادة؛ وهو لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً :{ والله هو السميع العليم } . .
الذي يسمع ويعلم؛ ومن ثم يضر وينفع . كما أنه هو الذي يسمع دعاء عبيده وعبادتهم إياه ، ويعلم ما تكنه صدورهم وما يكمن وراء الدعاء والعبادة . . فأما ما سواه فلا يسمع ولا يعلم ولا يستجيب الدعاء . .
وينهي هذا كله بدعوة جامعة ، يكلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوجهها إلى أهل الكتاب : { قل : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيراً . وضلوا عن سواء السبيل } .
فمن الغلو في تعظيم عيسى - عليه السلام - جاءت كل الانحرافات . ومن أهواء الحكام الرومان الذين دخلوا النصرانية بوثنيتهم ، ومن أهواء المجامع المتناحرة كذلك دخلت كل تلك المقولات على دين الله الذي أرسل به المسيح ، فبلغه بأمانة الرسول ، وهو يقول لهم : { يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم . إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار } .
ــــــــــــ
من طبيعة بني إسرائيل قتل الرسل أو تكذيبهم
قال تعالى : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) [المائدة/70]
يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ أَخَذَ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فِي التَّوْرَاةِ ، عَلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى ، وَعَلَى اتِّبَاعِ الأَحْكَامِ التِي شَرَعَهَا لِهَدْيِ خَلْقِهِ ، وَعَلَى تَحَلِّيهِمْ بِالفَضَائِلِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ ، وَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ للهِ وَرَسُولِهِ ، وَأنَّهُ أرْسَلَ إلَيْهِمُ النًّبِيِّينَ لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ ، وَيُؤَكِّدُوا عَهْدَ اللهِ ، فَنَقَضُوا العَهْدَ وَالمِيثَاقَ ، وَاتَّبَعُوا آرَاءَهُمْ ، وَقَدَّمُوهَا عَلَى الشَرَائِعِ ، فًَمَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ مِنَ الشَرَائِعِ قَبَلُوهُ ، وَمَا خَالَفَهَا رَدُّوهُ ، وَرَفَضُوهُ ، وَكُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَاهُ أَنْفُسَهُمْ ، وَلاَ يَتَّفِقُ مَعَ رَغَبَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ ، كَذَّبُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ .
إنه تاريخ قديم! فليس موقفهم من رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - بالأول ولا بالأخير! إنهم مردوا على العصيان والإعراض؛ ومردوا على النكول عن ميثاق الله؛ ومردوا على اتخاذ هواهم إلههم لا دين الله ، ولا هدى الرسل؛ ومردوا على الإثم والعدوان على دعاة الحق وحملة دعوة الله :{ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً . كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون } .
وسجل بني إسرائيل مع أنبيائهم حافل بالتكذيب والإعراض؛ حافل بالقتل والاعتداء! حافل بتحكيم الشهوات والأهواء .
ولعله من أجل ذلك قص الله تاريخ بني إسرائيل على الأمة المسلمة في تفصيل وتطويل . . لعلها تتقي أن تكون كبني إسرائيل؛ ولعلها تحذر مزالق الطريق ، أو لعل الواعين منها الموصولين بالله يدركون هذه المزالق؛ أو يتأسون بأنبياء بني إسرائيل حين يصادفون ما صادفوا وأجيال من ذراري المسلمين تنتهي إلى ما انتهى إليه بنو إسرائيل ، حين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم؛ فتحكم الهوى؛ وترفض الهدى ، وتكذب فريقاً من الدعاة إلى الحق ، وتقتل فريقاً؛ كما صنع بغاة بني إسرائيل ، في تاريخهم الطويل!
لقد صنع بنو إسرائيل تلك الآثام كلها؛ وهم يحسبون أن الله لن يفتنهم بالبلاء ، ولن يأخذهم بالعقاب . حسبوا هذا الحسبان غفلة منهم عن سنة الله؛ وغروراً منهم بأنهم « شعب الله المختار »!
{ وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا } . .طمس الله على أبصارهم فلا يفقهون مما يرون شيئاً؛ وطمس على مسامعهم فلا يفيدون مما يسمعون شيئاً . .
{ ثم تاب الله عليهم } . .وأدركهم برحمته . . فلم يرعووا ولم ينتفعوا : { ثم عموا وصموا . كثير منهم . . }
{ والله بصير بما يعملون } . .وهو مجازيهم بما يراه ويعلمه من أمرهم . . وما هم بمفلتين . .
ويكفي أن يعرف الذين آمنوا هذا التاريخ القديم عن يهود ، وهذا الواقع الجديد؛ لتنفر قلوبهم المؤمنة من ولائهم ، كما نفر قلب عبادة بن الصامت؛ فلا يتولاهم إلا المنافقون من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول!
ـــــــــــــ
(1/50)
الرسول أمين على دين الله
قال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)[الأعراف/104-105]
وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَونَ : لَقَدْ أَرْسَلَنِي رَبِّي وَرَبُّ العَالَمِينَ إِلَيْكَ ، وَهُوَ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فِي هَذا الوُجُودِ . وَجَدِيرٌ بِي ، وَحَقٌّ عَلَيَّ ( حَقِيقٌ عَلَيَّ ) ، أَنْ لاَ أَفْتَرِي عَلَى اللهِ كَذِباً ، وَأَنْ لاَ أَقُولُ إلاَّ الحَقَّ وَالصِدْقَ ، لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ جَلالِ شَأْنِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَلَقَدْ جِئْتُكُمْ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ ، مِنْ رَبِّكُمْ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ ، فَاسْمَحْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ ، وَحَرِّرْهُمْ مِنْ رِبْقَةِ العُبُودِيَّةِ التِي فَرَضْتَهَا عَلَيْهِمْ .
{ يا فرعون } . . لم يقل له : يا مولاي! كما يقول الذين لا يعرفون من هو المولى الحق! ولكن ناداه بلقبه في أدب واعتزاز . ناداه ليقرر له حقيقة أمره ، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود : { إني رسول من رب العالمين } . .
لقد جاء موسى - عليه السلام - بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله . حقيقة ربوبية الله الواحد للعالمين جميعاً . . ألوهية واحدة وعبودية شاملة . . لا كما يقول الخابطون في الظلام من « علماء الأديان » ومن يتبعهم في زعمهم عن « تطور العقيدة » إطلاقاً ، وبدون استثناء لما جاء به الرسل من ربهم أجمعين! . . إن العقيدة التي جاء بها الرسل جميعاً عقيدة واحدة ثابتة؛ تقرر ألوهية واحدة للعوالم جميعها . ولا تتطور من الآلهة المتعددة ، إلى التثنية ، إلى الوحدانية في نهاية المطاف . . فأما جاهليات البشر - حين ينحرفون عن العقيدة الربانية - فلا حد لتخبطها بين الطواطم والأرواح والآلهة المتعددة والعبادات الشمسية والتثنية والتوحيد المشوب برواسب الوثنية . . وسائر أنواع العقائد الجاهلية . . ولا يجوز الخلط بين العقائد السماوية التي جاءت كلها بالتوحيد الصحيح ، الذي يقرر إلهاً واحداً للعالمين؛ وتلك التخبطات المنحرفة عن دين الله الصحيح .
ولقد واجه موسى - عليه السلام - فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة ، التي واجه بها كل نبي - قبله أو بعده - عقائد الجاهلية الفاسدة . . واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه ودولته ونظام حكمه . . إن ربوبية الله للعالمين تعني - أول ما تعني - إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره؛ وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له - من دون الله - بإخضاعهم لشرعه هو وأمره . . واجهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولاً من رب العالمين . . ملزماً ومأخوذاً بقول الحق على ربه الذي أرسله .
{ حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق } . . فما كان الرسول الذي يعلم حقيقة الله ، ليقول عليه إلا الحق ، وهو يعلم قدره؛ ويجد حقيقته - سبحانه - في نفسه ..
{ قد جئتكم ببينة من ربكم } . .تدلكم على صدق قولي : إني رسول من رب العالمين .
وباسم تلك الحقيقة الكبيرة . . حقيقة الربوبية الشاملة للعالمين . . طلب موسى من فرعون أن يطلق معه بني إسرائيل . .
إن بني إسرائيل عبيد لله وحده؛ فما ينبغي أن يعبدهم فرعون لنفسه! إن الإنسان لا يخدم سيدين ، ولا يعبد إلهين . فمن كان عبداً لله ، فما يمكن أن يكون عبداً لسواه . وإذ كان فرعون إنما يعبد بني إسرائيل لهواه؛ فقد أعلن له موسى أن رب العالمين هو الله . وإعلان هذه الحقيقة ينهي شرعية ما يزاوله فرعون من تعبيد بني إسرائيل!
إن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان . تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله . تحريره من شرع البشر ، ومن هوى البشر ، ومن تقاليد البشر ، ومن حكم البشر
وإعلان ربوبية الله للعالمين لا يجتمع مع خضوع أحد من العالمين لغير الله؛ ولا يجتمع مع حاكمية أحد بشريعة من عنده للناس . . والذين يظنون أنهم مسلمون بينما هم خاضعون لشريعة من صنع البشر - أي لربوبية غير ربوبية الله - واهمون إذا ظنوا لحظة واحدة أنهم مسلمون! إنهم لا يكونون في دين الله لحظة واحدة وحاكمهم غير الله ، وقانونهم غير شريعة الله . إنما هم في دين حاكمهم ذاك . في دين الملك لا في دين الله!
وعلى هذه الحقيقة أُمر موسى - عليه السلام - أن يبني طلبه من فرعون إطلاق بني إسرائيل : { يا فرعون إني رسول من رب العالمين } . . . { فأرسل معي بني إسرائيل } . . .
مقدمة ونتيجة . . تتلازمان ولا تفترقان . .
---------------
وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) [الشعراء/105-110]
يُخبرُ اللهُ تَعَالى عَنْ نوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ ، وَهُوَ أولُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالى إِلى أَهلِ الأرضِ ، بَعدَمَا عَبَدَ النَّاسُ الأَصْنَامَ والأَنْدَادَ ، فَبَعَثَهُ اللهُ إلى قومهِ نَاهياً لَهُمْ عَنْ ذَلك ، وَمُحَذِّراً إيَّاهُمْ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعالَى ، فكَذَّّبَهُ قَومُهُ ، واستَمَرُّوا مُقِيمينَ عَلَى عِبَادَةِ الأصْنَامِ والأَوْثَانِ والشِّرْكِ باللهِ . ( ومَنْ كَذَّبَ رسُولاً فكأَنَّه كَذَّبَ جَميعَ المُرْسَلين لاتِّحَادِ دَعْوَةِ جميعِ الرُّسُلِ في أُصُولِها وغَايَاتِها ، وَلِذلِكَ قَالَ : { كَذَّبَتْ قومُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ . }
إِذْ قالَ لَهُمْ نوحٌ - وسَمَّاهُ أخَاهُمْ لأَنَّهُ مِنْهُمْ نَسَباً - : ألا تَخَافُونَ الله في عِبَادَتِكُم غَيْرَهُ؟ وَهلاَّ اتَّقَيْتُمْ عِقَابَهُ؟
إنِّي رَسُولُ اللهِ إليكُمْ؟ أمينٌ فِيمَا بَعَثَني بهِ إليْكُمْ ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالات رَبِّي ، ولا أَزيدُ فِيهَا ولا أًُنْقِصُ مِنْهَا . فَأَطِيعُونِي فيما دَعَوْتُكُمْ إليهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، واتَّقُوهُ وأَخْلِصُوا العِبَادَةَ لَهُ ، وأَقْلِعُوا عَنِ ارْتِكَابِ المُنْكَرَاتِ والمَعَاصِي .
وإِنِّي لا أطْلُبُ منكُمْ أجْراً ، ولا جَزَاءً ، عَلَى نُصْحِي في إِبْلاَغِ رِسَالَةِ رَبِّكُمْ إلَيْكُمْ ، وإنَّمَا أَبْتَغِي الاجْرَ والثَّوَابَ على ذَلك عندَ اللهِ ربِّ العَالَمين
فَخَافُوا الله واتَّقُوهُ وأَطِيعُوني واسْتِجِيُبُوا لِنُصْحِي ، فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ الأمْرُ ، وبَانَ لَكُمْ نُصْحِي وأَمَانَتِي في أداءِ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ إليكُمْ .
تلك هي النهاية . نهاية القصة . يبدأ بها لإبرازها منذ البداية . ثم يأخذ في التفصيل .
وقوم نوح لم يكذبوا إلا نوحاً . ولكنه يذكر أنهم كذبوا المرسلين . فالرسالة في أصلها واحدة ، وهي دعوة إلى توحيد الله ، وإخلاص العبودية له . فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين أجمعين ، فهذه دعوتهم أجمعين . والقرآن يؤكد هذا المعنى ويقرره في مواضع كثيرة ، بصيغ متعددة ، لأنه كلية من كليات العقيدة الإسلامية ، تحتضن بها الدعوات جميعاً؛ وتقسم بها البشرية كلها إلى صفين : صف المؤمنين وصف الكافرين ، على مدار الرسالات ومدار القرون . وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة لكل دين وكل عقيدة من عند الله هي أمته ، منذ فجر التاريخ إلى مشرق الإسلام دين التوحيد الأخير .
وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة وفي كل دين . وإذا المؤمن يؤمن بالرسل جميعاً ، ويحترم الرسل جميعاً ، لأنهم جميعهم حملة رسالة واحدة هي رسالة التوحيد .
إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان . إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل . وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل . في كل زمان وفي كل مكان . وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله؛ وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن ، والقرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ . ترتفع فتصبح قيمة واحدة . هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع ، ويقوّم بها الجميع .
{ كذبت قوم نوح المرسلين . إذ قال لهم أخوهم نوح : ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين . فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . فاتقوا الله وأطيعون } .
هذه هي دعوة نوح التي كذبه فيها قومه وهو أخوهم وكان الأليق بالأخوة أن تقود إلى المسالمة والاطمئنان والإيمان والتصديق . ولكن قومه لم يأبهوا لهذه الصلة ، ولم تلن قلوبهم لدعوة أخيهم نوح إذ قال لهم : { ألا تتقون؟ } وتخافون عاقبة ما أنتم فيه؟ وتستشعر قلوبكم خوف الله وخشيته؟
وهذا التوجيه إلى التقوى مطرد في هذه السورة . فهكذا قال الله عن فرعون وقومه لموسى وهو يكلفه التوجه إليهم . وهكذا قال نوح لقومه . وهكذا قال كل رسول لقومه من بعد نوح :
{ إِني لكم رسول أمين } . . لا يخون ولا يخدع ولا يغش ، ولا يزيد شيئاً أو ينقص شيئاً مما كلفه من التبليغ .
{ فاتقوا الله وأطيعون } . . وهكذا يعود إلى تذكيرهم بتقوى الله ، ويحددها في هذه المرة ، وينسبها إلى الله تعالى ، ويستجيش بها قلوبهم إلى الطاعة والتسليم .
ثم يطمئنهم من ناحية الدنيا وأعراضها ، فما له فيها من أرب بدعوتهم إلى الله ، وما يطلب منهم أجراً جزاء هدايتهم إليه ، فهو يطلب أجره من رب الناس الذي كلفه دعوة الناس . وهذا التنبيه على عدم طلب الأجر يبدو أنه كان دائماً ضرورياً للدعوة الصحيحة ، تمييزاً لها مما عهده الناس في الكهان ورجال الأديان من استغلال الدين لسلب أموال العباد . وقد كان الكهنة ورجال الدين المنحرفون دائماً مصدر ابتزاز للأموال بشتى الأساليب . فأما دعوة الله الحقة فكان دعاتها دائماً متجردين ، لا يطلبون أجراً على الهدى . فأجرهم على رب العالمين .
-------------
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : أَضَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَيْفًا فَلَمْ يَلْقَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَصْلُحُهُ ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ : " يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ : أَسْلِفْنِي دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ " . قَالَ : لَا ، إِلَّا بِرَهْنٍ . فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ : " أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ ، وَلَوْ أَسْلَفَنِي أَوْ بَاعَنِي لَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ " . فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ؛ يَعْزِفُهُ عَنِ الدُّنْيَا . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ(1)
وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مَوْلاهُ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِى الْكَعْبَةَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: وَلِى حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدَىَّ أَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَأَجِىءُ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ الَّذِى أَنْفَسُهُ عَلَى نَفْسِى، فَأَصُبُّهُ عَلَيْهِ فَيَجِىءُ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ فَيَبُولُ، فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ، وَمَا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ، فَقَالَ: بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا، قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ، فَجَاءَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ، فَوَضَعَهُ فِى ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ هُوَ - صلى الله عليه وسلم - (2)-
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ قَالَ : لَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ دَخَلَ قَالُوا : قَدْ جَاءَ الْأَمِينُ ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ(3).
ــــــــــــ
من يؤذي الرسل له عذاب أليم
قال تعالى : { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة/61-66]
وَمِنَ المُنَافِقِينَ قَوْمٌ يُؤْذًُونَ رَسُولَ اللهِ بِالكَلاَمِ فِيهِ ، وَيَقُولُونَ : هُوَ أُذُنٌ يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحٍَ ، وَمَنْ قَالَ لَهُ شَيْئاً صَدَّقَهُ ، وَمَنْ حَدَّثَهُ بِشَيْءٍ صَدَّقَهُ ، فَإِذَا جِئْنَا وَحَدَّثْنَاهُ وَحَلَفْنَا لَهُ صَدَّقَنَا .
فَقُلْ لَهُمْ : هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنَ الكَاذِبِ ، وَلاَ يَقْبَلُ مِمَّا يَسْمَعُ إِلاَّ مَا يَعُدُّه حَقّاًُ ، وَفِيهِ مَصْلَحَةُ الخَلْقِ ، وَلَيْسَ هُوَ بِأُذُنٍ فِي سَمَاعِ البَاطِلِ وَالكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ ، إِنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَيُصَدِّقُ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَثِقُ بِدِينِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ ، وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الكَافِرِينَ . وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ بِالقَوْلِ أَوْ بِالعَمَلِ قَدْ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الآخِرَةِ .
قَالَ رَجُلٌ مِنَ المُنَافِقِينَ عَنْ رُؤَسَاءِ المُنَافِقِينَ ، الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَنَزَلَ فِيهِمْ مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ : ( إِنَّ هَؤُلاَءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا ، وَإِذَا كَانَ مَا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ حَقّاً ، لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ ) . فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَقَالَ : إِنَّ مُحَمَّداً لاَ يَقُولُ إِلاَّ حَقّاً ، وَلأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الحِمَارِ ) . ثُمَّ ذَهَبَ المُسْلِمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ يُحَدِّثُهُ بِمَا جَرَى . فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ إِلَى المُنَافِقِ وَسَأَلَهُ ، وَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا قُلْتَ؟ فَأَخَذَ المُنَافِقُ يَحْلِفُ بِاللهِ إِنَّهُ مَا قَالَ ذَلِكَ . وَقَالَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ : اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ ، وَكَذِّبْ الكَاذِبَ . فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ الْكَرِيمَةَ .
فَهَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَالُوا مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِمَّا يُورِثُ أَذَى النَّبِيِّ لِيُرْضُوكُمْ ، فَلاَ تُخْبِرُوا النَّبِيَّ ، مَعْ أَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ أَحَقُّ بِالإِرْضَاءِ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، لأنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَيَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ . وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ .
أَلاَ يَعْلَمُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ أَنَّ مَن شَاقَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بِتَعَدِّي حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ ، وَحَارَبَهُمَا وَخَالَفَهُمَا ، وَلَمَزَ رَسُولَ اللهِ فِي أَعْمَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ ، فَإِنَّهُ سَيَصْلَى نَارَ جَهَنَّمَ ، وَيَبْقَى خَالِداً فِيهَا ، وَهَذا هُوَ الذُّلُ العَظِيمُ ، وَالشَّقَاءُ الكَبِيرُ .
كَانَ المُنَافِقُونَ يَقُولُونَ القَوْلَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى اللهُ أَنْ لاَ يَفْشِي عَلَيْنَا سِرَّنَا هَذَا بِإِنْزَالِ آيَةٍ عَلَى رَسُولِهِ ، تَفْضَحُ مَا قُلْنَاهُ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : إِنَّهُ سَيُخْرِجُ مَا يَحْذَرُونَ لِيَعْلَمَهُ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ ، فَلْيَسْتَهْزِئُوا مَا شَاؤُوا .
وَخَوْفُ المُنَافِقِينَ مِنَ الْفَضِيحَةِ ، وَمِنْ كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ، همُاَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الشَّكِّ وَالارْتِيَابِ ، لأَنَّهُمْ مُذَبْذَبُونَ ، لاَ هُمْ مَعَ المُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ ، وَلاَ هُمْ بِالكَافِرِينَ الجَازِمِينَ بِصِحَّةِ الكُفْرِ .
حِينَمَا كَانَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - مُنْطَلِقاً فِي الطَّرِيقِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ بَعْضُ المُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ : أَتَحْسَبُونَ جَلاَدَ بَنِي الأَصْفَر ( يَعْنِي الرُّوم ) كَقِتَالِ العَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً ، وَاللهِ لَكَأَنَّنَا بِكُمْ غَداً مُقْرَّنِينَ فِي الحِبَالِ؟ وَكَانَ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ إِرْجَافاً ، وَتَرْهِيباً لِلْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ : أَدْرِكِ القَوْمَ فَقَدِ احْتَرَقُوا ، فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا ، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا . . فَقَالَ لَهُمْ عَمَّارُ ذَلِكَ فَأَتَوْا إِلَى رَسُولِ اللهِ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّمَا كَنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ . أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا جَادِّينَ فِيمَا يَقُولُونَ ، وَإِنَّمَا قَالُوا مَا قَالُوا لِلتَّسَلِّيِ وَالتَّلَهِّي ، وَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ هَذَا عُذْرٌ مَقْبُولٌ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اتِخَاذَ الدِّينِ هَزْواً وَلِعِباً كُفْرٌ مَحْضٌ ، لأنَّ الخَوْضَ وَالَّلعِبَ فِي صِفَاتِ اللهِ ، وَشَرْعِهِ وَآيَاتِهِ ، المُنْزَّلَةِ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِهَا .
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ : لاَ تَعْتَذِرُوا عَمَّا قُلْتُمْ ، فَقَدْ كَفَرْتُمْ بِهَذَا القَوْلِ الذِي اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِ بِآيَاتِ اللهِ . وَاعْتِذَارُكُمْ هُوَ إِقْرَارٌ بِذَنْبِكُمْ ، فَإنْ يَعْفُ اللهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِكُمْ لِتَوْبَتِهِمْ ، فَإِنَّهُ سَيُعَذِّبُ بَعْضاً آخَرَ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ بِهَذِهِ المَقَالَة الفَاجِرَةِ ، وَلأَنَّهُمْ ظَلُّوا مُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ .
إنه سوء الأدب في حق الرسول ، يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات . إنهم يجدون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أدباً رفيعاً في الاستماع إلى الناس بإقبال وسماحة؛ ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته؛ ويهش لهم ويفسح لهم من صدره . فيسمون هذا الأدب العظيم بغير اسمه ، ويصفونه بغير حقيقته ، ويقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - { هو أذن } أي سماع لكل قول ، يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة ، ولا يفطن إلى غش القول وزوره . من حلف له صدقه ، ومن دس عليه قولاً قبله . يقولون هذا بعضهم لبعض تطميناً لأنفسهم أن يكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقة أمرهم ، أو يفطن إلى نفاقهم . أو يقولونه طعناً على النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين . وقد وردت الروايات بهذا وذلك في سبب نزول الآية .وكلاهما يدخل في عمومها . وكلاهما يقع من المنافقين .
ويأخذ القرآن الكريم كلامهم ليجعل منه رداً عليهم :
{ ويقولون : هو أذن } . .نعم . . ولكن .
{ قل : أذن خير لكم } . .أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم وفيه خيركم وصلاحكم . وأذن خير يستمع إليكم في أدب ولا يجبهكم بنفاقكم ، ولا يرميكم بخداعكم ، ولا يأخذكم بريائكم .
{ يؤمن بالله } .فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم .
{ ويؤمن للمؤمنين } . .فيطمئن إليهم ويثق بهم ، لأنه يعلم منهم صدق الإيمان الذي يعصمهم من الكذب والالتواء والرياء .{ ورحمة للذين آمنوا منكم } . .يأخذ بيدهم إلى الخير .{ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } . .من الله غيرة على الرسول أن يؤذى وهو رسول الله .
{ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } .يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، على طريقة المنافقين في كل زمان ، الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور؛ ثم يجبنون عن المواجهة ، ويضعفون عن المصارحة ، فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم .
{ والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } . .فماذا يكون الناس؟ وماذا تبلغ قوتهم؟ ولكن الذي لا يؤمن بالله عادة ولا يعنو له ، يعنو لإنسان مثله ويخشاه؛ ولقد كان خيراً أن يعنو لله الذي يتساوى أمامه الجميع ، ولا يذل من يخضع له ، إنما يذل من يخضع لعباده ، ولا يصغر من يخشاه ، إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد الله .{ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ، ذلك الخزي العظيم } . . سؤال للتأنيب والتوبيخ ، فإنهم ليدعون الإيمان ، ومن يؤمن يعلم أن حرب الله ورسوله كبرى الكبائر ، وأن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد ، وأن الخزي هو الجزاء المقابل للتمرد . فإذا كانوا قد آمنوا كما يدعون ، فكيف لا يعلمون؟
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 1 / ص 426)(982) فيه ضعف
(2) - غاية المقصد فى زوائد المسند (1680 ) صحيح
(3) - المعجم الأوسط للطبراني(2537) ومجمع الزوائد( 13880 ) صحيح
(1/51)
إنهم يخشون عباد الله فيحلفون لهم ليرضوهم ، ولينفوا ما بلغهم عنهم . فكيف لا يخشون خالق العباد ، وهم يؤذون رسوله ، ويحاربون دينه . فكأنما يحاربون الله ، تعالى الله أن يقصده أحد بحرب! إنما هو تفظيع ما يرتكبون من إثم ، وتجسيم ما يقارفون من خطيئة ، وتخويف من يؤذون رسول الله ، ويكيدون لدينه في الخفاء .
وإنهم لأجبن من أن يواجهوا الرسول والذين معه ، وإنهم ليخشون أن يكشف الله سترهم ، وأن يطلع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نواياهم :{ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم . قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون . ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب . قل : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } . .إن النص عام في حذر المنافقين أن ينزل الله قرآناً يكشف خبيئتهم ، ويتحدث عما في قلوبهم .فينكشف للناس ما يخبئونه . وقد وردت عدة روايات عن حوادث معينة في سبب نزول هذه الآيات .
قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء ( يقصدون قراء القرآن ) فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته؛ فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ } إلى قوله : { كانوا مجرمين } وإن رجليه لتسفعان الحجارة ، وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متعلق بسيف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال محمد بن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك؛ فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال . . إرجافاً وترهيباً للمؤمنين . فقال مخشي ابن حمير : والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأننا ننجوا أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . « وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني لعمار بن ياسر أدرك القوم فإنهم قد احترقوا ، فاسألهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا » فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه . فقال وديعة بن ثابت ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على راحلته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي . فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : « بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوته إلى تبوك ، وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات . فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - » احبسوا على هؤلاء الركب « فأتاهم فقال : قلتم كذا . قلتم كذا . قالوا : يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله فيهم ما تسمعون .إنما كنا نخوض ونلعب . . كأن هذه المسائل الكبرى التي يتصدون لها ، وهي ذات صلة وثيقة بأصل العقيدة . . كأن هذه المسائل مما يخاض فيه ويلعب . { قل : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ } .لذلك ، لعظم الجريمة ، يجبههم بأنهم قالوا كلمة الكفر . وكفروا بعد إيمانهم الذي أظهروه ، وينذرهم بالعذاب ، الذي إن تخلف عن بعضهم لمسارعته إلى التوبة وإلى الإيمان الصحيح ، فإنه لن يصرف عن بعضهم الذي ظل على نفاقه واستهزائه بآيات الله ورسوله ، وبعقيدته ودينه : { بأنهم كانوا مجرمين } . .
---------------
وقال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) [الصف/5]
وَيُسَلِّي اللهُ تَعَالَى عَبْدَهُ مُحَمَّداً عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنْ تَكذِيبِ قَوْمِهِ وَإِيذَائِهِمْ ، فَذَكَّرَهُ رَبُّهُ بِمَا لاَقَاهُ مُوسَى ، عَلَيهِ السَّلاَمُ ، مِنْ قَوْمِهِ ، إِذْ قَالَ لَهُمْ : لِمَاذَا تُؤْذُونَنِي وَتُخَالِفُونَ أَمْرِي ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقِي ، فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رِسَالَةِ رَبِّي ، فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ ، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ ، صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الهُدَى ، وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ .
وإيذاء بني إسرائيل لموسى وهو منقذهم من فرعون وملئه ، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم إيذاء متطاول متعدد الألوان ، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق .ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صوراً شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء .
كانوا يتسخطون على موسى وهو يحاول مع فرعون إنقاذهم ، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له! فكانوا يقولون له لائمين متبرمين : { أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } كأنهم لا يرون في رسالته خيراً ، أو كأنما يحملونه تبعة هذا الأذى الأخير!
وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون . . حتى مالوا إلى عبادة فرعون وقومه { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا : يا موسى اجعل لنآ إلهاً كما لهم آلهة } وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح ، حتى أضلهم السامري : { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا : هذآ إلهكم وإله موسى فنسي! } ثم جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء : المن والسلوى . فقالوا : { يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها } وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسئيون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون : { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } { ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا } { فذبحونا وما كادوا يفعلون } ثم طلبوا يوم عطلة مقدساً فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه .
وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته لموسى : { قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا : { قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد ، والاتهام الشخصي بالباطل كما جاء في بعض الأحاديث .
وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة : { يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } . .
وهم كانوا يعلمون عن يقين . . إنما هي لهجة العتاب والتذكير . .
وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة ، فزادهم الله زيغاً ، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى . وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبداً : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } . .وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله ، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر ، وهم على هذا الزيغ والضلال .
والرسول من حقه الإكرام والإعظام، والانقياد بأوامره، والابتدار لحكمه.
وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق فوق كل إحسان بعد إحسان الله، ففي غاية الوقاحة والجراءة والزيغ عن الصراط المستقيم، الذي قد علموه وتركوه، ولهذا قال: { فَلَمَّا زَاغُوا } أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم { أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم، لا لهم قصد في الهدى، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده، ليس ظلما منه، ولا حجة لهم عليه، وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب [عقوبة لهم وعدلا منه بهم] كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
ــــــــــــ
لا يجوز للرسول أن يستغفر للمنافقين والكافرين
قال تعالى : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) [التوبة/80 ]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ لَيْسُوا أَهْلاً لِلاسْتِغْفَارِ ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَغْفَرَ لَهُم النَّبِيُّ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ، وَذَلِكَ لإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ بِوَاحْدَانِيًّةِ اللهِ ، وَوَحْيهِ لِرَسُولِهِ ، وَلِشَكِّهِمْ فِي أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى ، وَغَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
وَيُرْوَى أَنَّهُ حِينَ مَرِضَ رَئِيسُ المُنَافِقِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، انْطَلَقَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبِي يُحْتَضَرُ فَأُحِبُّ أَنْ تَشْهَدَهُ وَتُصَلِّي عَلَيْهِ . فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى شَهِدَهُ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ إِنَّ اللهَ قَالَ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ولأَسْتَغْفِرَنَّ لَهُمْ سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِينَ .
ويبدو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للمخطئين عسى أن يتوب الله عليهم . فأما هؤلاء فقد أخبر بأن مصيرهم قد تقرر ، فلا رجعة فيه :{ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } . . { والله لا يهدي القوم الفاسقين } .أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعد ترجى لهم أوبة . وفسدت قلوبهم فلم يعد يرجى لها صلاح . .
{ إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } . .والسبعون تذكر عادة للتكثير . لا على أنها رقم محدد . والمعنى العام أن لا رجاء لهم في مغفرة ، لأنه لا سبيل لهم إلى توبة . والقلب البشري حين يصل إلى حد معين من الفساد لا يصلح ، والضلال حين ينتهي إلى أمد معين لا يرجى بعده اهتداء . والله أعلم بالقلوب .
--------------------
وقال تعالى :{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) }[التوبة/113، 114]
لَمَّا حَضَرَتِ الوَفَاةُ أَبَا طَالِبٍ ، عَمَّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، دَخَلَ النَّبِيُّ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، عَلَيهِ ، وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُمَيَّة ، فَقَالَ لَهُ : أَيْ عَمُّ ، قُلْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، كَلمةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعُبْدُ اللهِ بْنُ أُمَيَّةَ : يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَقَالَ أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ . فَقَالَ النَّبِيُّ : لأَسْتَغِفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ، وَفِيهَا دَعْوَةٌ لِلنَّبِيَّ وَالمُؤْمِنِينَ إِلَى عَدَمِ الاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَلَوْ كَانُوا أَقْرِبَاءَهُمْ .
" قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الجِوَارَ ، وَيَصِلُ الأَرْحَامَ ، وَيَفُكُّ العَانِي ، وَيُوفِي الذِّمَمَ ، أَفَلا نَسْتَغْفِر لَهُمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ : بَلَى وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ لأَبِي كَمَا اسْتَغْفِرَ إِبراهيمُ لأَبِيهِ " . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ ، وَالتي قَبْلَها ، وَعَذَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ إِبْرَاهيمَ عَلَيْهَ السَّلاَمُ فِي هَذِهِ الآيَةِ ، عَمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ الاسْتِغْفَارِ لأَبِيهِ المُشْرِكِ .
وَالمُسْلِمُ يَدْعُوا لِقَرِيبِهِ غَيْرِ المُسْلِمِ بِالصَّلاَحِ مَا دَامَ حَيّاً ، فَإِذَا مَاتَ وَكَلَهُ إِلى شَأْنِهِ ، وَتَوَقَّفَ عَنِ الدُّعَاءِ وَالاسْتِغْفَارِ لَهُ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ إِبراهيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ ، أَيْ كَثِيرُ الدُّعَاءِ ، كَثِيرُ الدُّعَاءِ ، كَثِيرُ التَّضَرُّعِ .
والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم؛ فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم ، في غير صلة بالله ، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه . . ما كان لهم قطعاً وليس من شأنهم أصلاً . . أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك ، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان .
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية . فإذا انبتَّت وشيجة العقيدة انبتَّت الأواصر الأخرى من جذورها ، فلا لقاء بعد ذلك في نسب ، ولا لقاء بعد ذلك في صهر . ولا لقاء بعد ذلك في قوم . ولا لقاء بعد ذلك في أرض . . إما إيمان بالله فالوشيجة الكبرى موصولة ، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها . أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان .
{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، إن إبراهيم لأواه حليم } . .فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه . فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له الله لعله يهديه ، ذلك إذ قال له : { سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً } فلما أن مات أبوه على الشرك ، وتبين إبراهيم أن أباه عدو لله لا رجاء في هداه ، { تبرأ منه } وقطع صلته به .
{ إن إبراهيم لأواه حليم } . .كثير التضرع لله ، حليم على من آذاه . ولقد آذاه أبوه فكان حليماً؛ وتبين أنه عدو لله فتبرأ منه وعاد لله ضارعاً .
ــــــــــــ
جزاء من يترك الجهاد في سبيل الله خلف الرسل
قال تعالى : { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)} [التوبة/81-85]
ذَمَّ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَفَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ، إِغْرَاءً لَهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى المُنْكَرِ ، وَتَثْبِيطاً لِعَزَائِمِ الْمُؤْمِنِينَ : لاَ تَخْرُجُوا إِلَى الجِهَادِ فِي الحَرِّ . فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ : إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ الَّتِي سَيَصِيرُونَ إِلَيْهَا ، هِيَ أَشَدُّ حَرّاً مِنْ قَيْظِ الصَّحْرَاءِ الذِي فَرُّوا مِنْهُ . وَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْرِكُونَ وَيَعْقِلُونَ لَمَا خَالَفُوا وَقَعَدُوا ، وَلَمَا فَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ .
ثُمَّ تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ عَلَى فِعَالِهِمْ السَّيِّئَةِ ، فَقَالَ لِنَبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لِيَضْحَكُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيا الفَانِيَةِ قَلِيلاً ، لأَنَّ الدُّنْيَا نَفْسَهَا شَيْءٌ قَلِيلٌ ، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا ، وَصَارُوا إِلَى اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، اسْتَأْنَفُوا بُكَاءً لاَ يَنْقَطِعُ أَبَداً بِسَبَبِ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ كُفْرٍ وَآثَامٍ ، وَعَلَى مَا فَوَّتُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ فُرَصِ اكْتِسَابِ الحَسَنَاتِ ، وَعَمَلِ مَا يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ .
فَإِذَا رَدَّكَ اللهُ تَعَالَى مِنْ غَزْوَتِكَ هَذِهِ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ المُنَافِقِينَ المُتَخَلِّفِينَ ( وَكَانُوا ، فِيمَا قِيلَ ، اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً ) فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ مَعَكَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى ، فَقُلْ لَهُمْ : لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ وَتَعْزِيزٌ ، وَلَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَرَفُ صُحْبَتِي إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ أَبَداً ، لأَنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِخِزْيِ الْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ دُعِيتُمْ فِيهَا إِلَى الجِهَادِ ، وَأَنْتُمْ لاَ عُذْرَ لَكُمْ يُبَرِّرُ هَذَا التَّخَلُّفَ ، فَاقْعُدُوا مَعَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الجِهَادِ ، مِنَ العَجَزَةِ وَالمَرْضَى وَالنِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ .
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يَتَبَرَّأَ مِنَ المُنَافِقِينَ ، وَأَنْ لاَ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ ، وَأَنْ لاَ يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ دَاعِياً مُسْتَغْفِراً لَهُ ، لأنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ، وَمَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ . وَهَذا حُكْمٌ عَامٌ فِي كُلِّ نِفَاقٍ ، وَإِنْ كَانَتِ الآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ هِي حَادِثَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ . وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُنَافِقٍ أَبَداً .
فَلاَ يُثِرْ عَجَبَكَ مَا تَرَاهُمْ فِيهِ مِنْ وَفْرَةِ المَالِ ، وَكَثْرَةِ الأَوْلاَدِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيمَا أَعْطَاهُمْ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْهَا ، وَفِي الإِنْفَاقِ فِي الجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، مِمَّا يُوجِبُهُ الإِسْلاَمُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ يُمِيتُهُم اللهُ عَلَى الكُفْرِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ نَكَالاَ لَهُمْ ، وَعَذَاباً فِي الدَّارِ الآخِرَةِ فَتَكُونَ الأَمْوَالُ وَالأَوْلاَدُ اسْتِدْرَاجاً لَهُمْ مِنَ اللهِ .
هؤلاء الذين أدركتهم ثقلة الأرض . ثقلة الحرص على الراحة ، والشح بالنفقة . وقعد بهم ضعف الهمة وهزال النخوة ، وخواء القلب من الإيمان . . هؤلاء المخلفون - والتعبير يلقي ظل الإهمال كما لو كانوا متاعاً يخلف أو هملاً يترك - فرحوا بالسلامة والراحة { خلاف رسول الله } وتركوا المجاهدين يلاقون الحر والجهد ، وحسبوا أن السلامة غاية يحرص عليها الرجال! { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } .. { وقالوا : لا تنفروا في الحر } وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال .
إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة ، وطراوة الإرادة؛ وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب ، وينفرون من الجهد ، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم ، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز . وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات . ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك ، لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان ، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال .
والنص يرد عليهم بالتهكم المنطوي على الحقيقة : { وقالوا : لا تنفروا في الحر . قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون } . .
فإن كانوا يشفقون من حر الأرض ، ويؤثرون الراحة المسترخية في الظلال . فكيف بهم في حر جهنم وهي أشد حراً ، وأطول أمداً؟ وإنها لسخرية مريرة ، ولكنها كذلك حقيقة . فإما كفاح في سبيل الله فترة محدودة في حر الأرض ، وإما انطراح في جهنم لا يعلم مداه إلا الله :
{ فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون } . .
(1/52)
وإنه لضحك في هذه الأرض وأيامها المعدودة ، وإنه لبكاء في أيام الآخرة الطويلة . وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما يعدون .
{ جزاء بما كانوا يكسبون } . .
فهو الجزاء من جنس العمل ، وهو الجزاء العادل الدقيق .
هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد - في ساعة العسرة - وتخلفوا عن الركب في أول مرة . هؤلاء لا يصلحون لكفاح ، ولا يُرجون لجهاد ، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي ، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج ، فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ، فاقعدوا مع الخالفين } . .
إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق . والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب . فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة . والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة ، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء ، جناية على الصف كله ، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحة المرير . .
{ فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً } .
لماذا؟ .{ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } . . ففقدتم حقكم في شرف الخروج؛ وشرف الانتظام في الكتيبة ، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل . فلا سماحة في هذا ولا مجاملة : { فاقعدوا مع الخالفين } . . المتجانسين معكم في التخلف والقعود .
هذا هو الطريق الذي رسمه الله تعالى لنبيه الكريم ، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبداً .
فليعرف أصحابها في كل زمان وفي كل مكان ذلك الطريق . .
وكما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بألا يسمح للمتخلفين في ساعة العسرة أن يعودوا فينتظموا في الصفوف ، كذلك أمره ألا يخلع عليهم أي ظلال من ظلال التكريم : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره . إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } .
ولقد ذكر المفسرون حوادث خاصة عنتها هذه الآية . ولكن دلالة الآية أعم من الحوادث الخاصة . فهي تقرر أصلاً من أصول التقدير في نظام الجماعة المكافحة في سبيل العقيدة ، هو عدم التسامح في منح مظاهر التكريم لمن يؤثرون الراحة المسترخية على الكفاح الشاق؛ وعدم المجاملة في تقدير منازل الأفراد في الصف . ومقياس هذا التقدير هو الصبر والثبات والقوة والإصرار والعزيمة التي لا تسترخي ولا تلين .
والنص يعلل هذا النهي في موضعه هنا { إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } وهو تعليل خاص بعدم الصلاة أو قيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قبر منافق . . ولكن القاعدة - كما ذكرنا - أوسع من المناسبة الخاصة . فالصلاة والقيام تكريم . والجماعة المسلمة يجب ألا تبذل هذا التكريم لمن يتخلف عن الصف في ساعة الجهاد ، لتبقى له قيمته ، ولتظل قيم الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل الله ، وبما يصبرون على البذل ، ويثبتون على الجهد ، ويخلصون أنفسهم وأموالهم لله لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة ، ثم يعودون في الصف مكرمين!
لا التكريم الظاهر ينالونه في أعين الجماعة ، ولا التكريم الباطن ينالونه في عالم الضمير : { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم . إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } . .
ـــــــــــــ
(1/53)
المؤمنون الصادقون لا يتخلفون عن موكب الرسل
قال تعالى : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) [التوبة/120-121]
يُعَاتِبُ اللهُ تَعَالَى المُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ، عَلَى تَخَلُّفِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ ، وَإِيثَارِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ وَيَخُصُّ بِالعِتَابِ أَهْلَ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ ، فَإِنَّهُمْ نَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الأَجْرِ ، لأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ عَطَشٌ وَلاَ تَعَبٌ وَلاَ مَجَاعَةٌ ( مَخْمَصَةٌ ) ، وَلاَ يَنْزِلُونَ مَنْزِلاً يُرْهِبُ الكُفَّارَ ، وَيَغِيظُهُمْ ، وَلاَ يُحَقِّقُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ ظَفَراً وَغَلَبَةً . . إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُمْ بِهذِهِ الأَعْمَالِ ، ثَوَابَ عَمَلٍ صَالِحٍ جَزِيلٍ ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً .
وَلاَ يُنْفِقُ هؤُلاَءِ الغُزَاةُ قَليلاً وَلاَ كَثِيراً فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً فِي سَيْرِهِمْ إِلَى أَعْدَائِهِمْ ، إِلاَّ كَتَبَ لَهُمْ ، وَسُجِّلَ فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ عَلَيهِ جَزَاءً أَحْسَنَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الجَلِيلَةِ فِي غَيْرِ الجِهَادِ ، فَالنَّفَقَةُ الصَّغِيرَةُ فِي الجِهَادِ كَالنَّفَقَةِ الكَبِيرَةِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ المَبَرَّاتِ .
وفي التعبير تأنيب خفي . فما يؤنب أحد يصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوجع من أن يقال عنه . إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول الله ، وهو معه ، وهو صاحبه!
وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل . فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة؛ وهو يزعم أنه صاحب دعوة؛ وأنه يتأسى فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - !
إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول الله - فضلاً على الأمر الصادر من الله - ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه!
{ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً ، إلا كتب لهم ، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون }
إنه على الظمأ جزاء ، وعلى النصب جزاء ، وعلى الجوع جزاء . وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء . وعلى كل نيل من العدو جزاء . يكتب به للمجاهد عمل صالح ، ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم الله أجراً .
وإنه على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر . وعلى الخطوات لقطع الوادي أجر . . أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة .
ألا والله ، إن الله ليجزل لنا العطاء . وإنها والله للسماحة في الأجر والسخاء . وإنه لمما يخجل أن يكون ذلك كله على أقل مما احتمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشدة واللأواء . في سبيل هذه الدعوة التي نحن فيها خلفاء ، وعليها بعده أمناء!
ـــــــــــــ
(1/54)
لكل أمة رسول
قال تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) [يونس/47 ]
مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ رَسُولاً مِنْهَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ : مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ ، وَمِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ الذِي يُنْجِيهِمْ مِنَ العِقَابِ فِي الآخِرَةِ ، فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ وَبَلَّغَهُمْ مَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي مُخَالَفَتِهِ ، وَيَوْمَ الحِسَابِ فِي الآخِرَةِ يَأْتِي كُلُّ رَسُولٍ لِيَشْهَدَ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ أُمَّتِهِ ، وَعَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ رِسَالَتَهُ ، فَيَحْكُمُ اللهُ بَيْنَهُمْ بِالعَدْلِ التَّامِّ ، فَلاَ يَظْلِمُ أَحَداً شَيْئاً مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ .
إنه يقال للرسول - صلى الله عليه وسلم - إن أمر هذه العقيدة ، وأمر القوم الذين يخاطبون بها . كله لله ، وأن ليس لك من الأمر شيء . دورك فيها هو البلاغ ، أما ما وراء لك فكله لله . وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك ، فليس حتماً على الله أن يريك عاقبتهم ، وما ينزله بهم من جزاء . . هذا له وحده سبحانه! أما أنت - وكل رسول - فعليك البلاغ . . ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله . . ذلك كي يعلم العبيد مجالهم ، وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة ومهما تعرضوا فيها للعذاب!!
ـــــــــــ
الرسول يرسل بلسان قومه
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) [إبراهيم/4]
مِنْ لُطْفِ اللهِ بِخَلْقِهِ أَنَّهُ لاَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلَى النَّاسِ إِلاَّ بِلِسَانِهِمْ ، لِيَفْهَمُوا مِنْهُمْ مَا يُرِيدُونَ قَوْلَهُ لَهُمْ ، وَلِيُوَضِحُوا لَهُمْ مَا أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ بِهِ ، لِتَقُومَ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ ، وَيَنْقَطِعَ العُذْرَ . وَبَعْدَ أَنْ يَقُومَ الرُّسُلُ بِمُهِمَّةِ الدَّعْوَةِ وَالإِيضَاحِ وَالبَلاَغِ ، وَإِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَى النَّاسِ ، يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ عَنْ وَجْهِ الحَقِّ وَالهُدَى ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ ، وَاللهُ هُوَ العَزِيزُ الذِي لاَ يُقْهَرُ ، مَا شَاءَ كَانَ ، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَأَفْعَالِهِ .
وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة . فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم ، ليبين لهم وليفهموا عنه ، فتتم الغاية من الرسالة .
وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بلسان قومه وإن كان رسولاً إلى الناس كافة لأن قومه هم الذين سيحملون رسالته إلى كافة البشر . وعمره - صلى الله عليه وسلم - محدود . وقد أمر ليدعو قومه أولاً حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام . ومن ثم تكون مهداً يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض . والذي حدث بالفعل وهو من تقدير الله العليم الخبير أن اختير الرسول إلى جوار ربه عند انتهاء الإسلام إلى آخر حدود الجزيرة ، وبعث جيش أسامة إلى أطراف الجزيرة ، الذي توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يتحرك بعد . . وحقيقة إن الرسول قد بعث برسائله إلى خارج الجزيرة يدعو إلى الإسلام ، تصديقاً لرسالته إلى الناس كافة . ولكن الذي قدره الله له ، والذي يتفق مع طبيعة العمر البشري المحدود ، أن يبلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه بلسانهم ، وأن تتم رسالته إلى البشر كافة عن طريق حملة هذه الرسالة إلى الأصقاع . . وقد كان . . فلا تعارض بين رسالته للناس كافة ، ورسالته بلسان قومه ، في تقدير الله ، وفي واقع الحياة .{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } . . { فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } . .إذ تنتهي مهمة الرسول كل رسول عند البيان . أما ما يترتب عليه من هدى ومن ضلال ، فلا قدرة له عليه ، وليس خاضعاً لرغبته ، إنما هو من شأن الله . وضع له سنة ارتضتها مشيئته المطلقة . فمن سار على درب الضلال ضل ، ومن سار على درب الهدى وصل . . هذا وذلك يتبع مشيئة الله ، التي شرعت سنته في الحياة .
{ وهو العزيز الحكيم } . .القادر على تصريف الناس والحياة ، يصرفهم بحكمة وتقدير فليست الأمور متروكة جزافاً بلا توجيه ولا تدبير .
ـــــــــــ
أكثر الناس لا يؤمنون بالرسل ويسخرون منهم
قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) [الحجر/10-15]
يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ تَكْذِيبِ الكُفَّارِ لَهُ ، وَيَقُولُ لَهُ : إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى الأُمَمِ الخَالِيَةِ التِي كَانَتْ تَكْفُرُ بِرَبِّهَا ، وَتُكْذِّبُ رُسُلَهُ ، وَقَدْ أًَهْلَكَهُمُ اللهُ ، لأَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ .
وَلَمْ يَأْتِ أُمَّةً رَسُولٌ إِلاَّ اسْتَهْزَؤُوا بِهِ وَكَذَّبُوهُ ، لأنَّ حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ ، مُسْتَثْقَلٌ عَلَى النُّفُوسِ ، كَمَا أَنَّ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ مَا أَلِفُوهُ مِنَ المُعْتَقَدَاتِ هُوَ ثَقيلٌ أَيْضاً .
وَكَذَلِكَ يُلْقِي اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ ، وَيَسْلُكُهُ فِيها مُكَذَّباً بِمَا فِيهِ ، مُسْتَهْزَأً بِهِ غَيْرَ مَقْبُولٍ لَدَيْهِمْ لأنَّهُ لَيْسَ فِي نُفُوسُهُمْ اسْتِعْدَادٌ لِتَلَقِّي الحَقِّ ، وَلاَ تُضِيءُ نُفُوسُهُمْ بِمَصَابِيحِ هِدَايَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ كَمَا فَعَلَ الذِينَ مِنَ قَبْلِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ ، فَلَكَ يَا مُحَمَّدُ أُسْوَةٌ بِمَنْ سَبَقَكَ مِنَ الرُّسُلِ .
وَقَوْمُكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَذا القُرْآنِ مَعَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِمَا فَعَلَهُ اللهُ بِمَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ مِنَ العَذَابِ وَالاسْتِئْصَالِ ، وَكَيْفَ نَجَّى رُسُلَهُ وَالذِينَ آمَنُوا لَهُمْ ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ ، وَسَيَحِلُّ بِهؤُلاَءِ الذِينَ يُكَذِّبُونَكَ مَا حَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ ، وَنَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ حِينٍ .
إِنَّ هؤُلاَءِ الكَفَرَةَ المُعَانِدِينَ يَطْلُبُونَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ لِيُؤْمِنُوا لَكَ ، وَلَكِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا ، حَتَّى إِنَّنا لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَظَلُّوا يَصْعَدُونَ فِي ذَلكَ البَابِ فَيَرَوْنَ مَنْ فِي السَّمَاءِ مِنَ المَلائِكَةِ ، وَمَا فِيهَا مِنَ العَجَائِبِ لِمَا صَدَّقُوا بِذَلِكَ
وَلَقَالُوا : لَقَدْ سُدَّتْ أَبْصَارُنا ، وَحُبِسَتْ عَنِ النَّظَرِ ، وَشُبِّهَ عَلَيْنَا ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا) ، وَسُحِرْنَا ، فَمَا نَرَاهُ هُوَ تَخَيُّلٌ لاَ حَقِيقَةَ لَهُ ، وَقَدْ سَحَرَنَا مُحَمَّدُ بِمَا يَظْهَرُ عَلى يَدَيْهِ مِنَ الآيَاتِ . فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ ، فَكَيْفَ يَقْتَرِحُ عَلَيْكَ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ؟
يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري . ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء . ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان . وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل . فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة . إنما هم قوم مكابرون . مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف!
إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير ، مثيراً لشعور الاشمئزاز والتحقير . .
وهذا النموذج ليس محلياً ولا وقتياً ، ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين . . إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته ، وتستغلق بصيرته ، وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي ، وينقطع عن الوجود الحي من حوله ، وعن إيقاعاته وإيحاءاته .
هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها « المذاهب العلمية! » وهي أبعد ما تكون عن العلم؛ بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة . .
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله؛ ويجادلون في وجوده سبحانه وينكرون هذا الوجود .
. ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله ، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته ، بلا خالق ، وبلا مدبر ، وبلا موجه . . يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و « أخلاقية! » كذلك . ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس ، والتي لا تنفصل عنه بحال . . « علمية » . . هي وحدها « العلمية »!
وعدم الشعور بوجود الله سبحانه ، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية ، هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النّكدة . كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحاً عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة :{ ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون . لقالوا : إنما سكّرت أبصارنا ، بل نحن قوم مسحورون! } . .
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء . وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطاباً هامساً وجاهراً ، باطناً وظاهراً ، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار .
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته؛ وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره؛ كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه . . وهي موافقات لا تحصى . . إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري ، كما ترفضه الفطرة من أعماقها . وكلما توغل « العلم » في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته؛ رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده؛ واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه . . هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته . قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجئ إلا أخيرا!
إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته ، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده . كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة . وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا : كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا :
يقول عالم الأحياء والنبات « رسل تشارلز إرنست » الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا : « لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية .
وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذي خلق الأشياء ودبرها .
« إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيماناً راسخا »
وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة . إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة . والمنطق السائد في بحثه هو منطق « العلم الحديث » بكل خصائصه لا منطق الإلهام الفطري ، ولا منطق الحس الديني . ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري ، كما يقررها الحس الديني . ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود ، اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها : أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا!
والذين يجادلون في الله مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل ، وعن منطق الكون . . أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا . . إنهم العُمْي الذين يقول الله تعالى فيهم { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } وإذا كانت هذه حقيقتهم؛ فإن ما ينشئونه من مذاهب « علمية! » اجتماعية وسياسية واقتصادية؛ وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة والإنسانية والتاريخ الإنساني؛ يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط ، صادر عن أعمى ، معطل الحواس الأخرى ، محجوباً عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعاً على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها . وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئاً؛ فضلاً على أن يكيف نظرته ، ويقيم منهج حياته ، على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلاً!
إن هذه قضية إيمانية اعتقادية ، وليست قضية رأي وفكر! إن الذي يقيم تفكيره ، ويقيم مذهبه في الحياة ، ويقيم نظام حياته كذلك ، على أساس أن هذا الكون المادي هو منشئ ذاته ، ومنشئ الإنسان أيضا . . إنما يخطئ في قاعدة الفكرة والمذهب والنظام؛ فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير؛ ولا يمكن أن تلتحم في جزيئة واحدة مع حياة مسلم ، يقيم اعتقاده وتصوره ، ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره .
ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى « الاشتراكية العلمية » منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء! ويصبح الأخذ بما يسمى « الاشتراكية العلمية » وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء انظمتها عدولاً جذرياً عن الإسلام : اعتقاداً وتصوراً ثم منهجا ونظاما .. حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك « الاشتراكية العلمية » واحترام العقيدة في الله بتاتاً . ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والاسلام . . وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها . .
إن الناس في أي أرض وفي أي زمان؛ إما أن يتخذوا الإسلام ديناً ، وإما ان يتخذوا المادية ديناً . فإذا اتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا « الاشتراكية العلمية » المنبثقة من « الفلسفة المادية » ، والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه ، نظاما . . وعلى الناس أن تختار . . إما الإسلام ، وإما المادية ، منذ الابتداء!
إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير . إنما هو نظام قائم على عقيدة . . كما أن « الاشتراكية العلمية » بهذا الاصطلاح ليست قائمة على هواء ، إنما هي منبثقة انبثاقاً طبيعيا من « المذهب المادي » الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر اصلا ، ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي . . ومن ثَمَّ ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى « الاشتراكية العلمية » بكل تطبيقاتها!
ولا بد من الاختيار بينهما . . ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار!!!
---------------
وقال تعالى : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) [يس/30-32]
يَا حَسْرَةَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ ، وَيَا نَدَامَتَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَمَا يُعَايِنُونَ العَذَابَ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ ، فَإِنَّهُمْ مَا جَاءَهُمْ مِنْ رَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَإِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ إِلاَّ اسْتَهْزَؤُوا بِهِ وَكَذَّبُوا ، وَجَحَدُوا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الحَقِّ .
- أَلَم يَتَّعِظُ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ الكَافِرُونَ بِمَا حُلَّ بِمَنْ أَهَلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى قَبْلَهُمْ مِنَ المُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ ، وَيَعْتَبِرُوا بِمَا نَزَلَ بِهِمْ ، وَيُدْرِكُوا أَنَّهُمْ لاَ رَجْعَةَ لَهُمْ إِلَى الحَيَاةِ الدُّنْيَا؟
وَإِنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ المَاضِيَةِ والآتِيَةِ سَتَحضُرُ يَوْمَ القِيَامَةِ لِلحِسَابِ بَيْنَ يَدَي اللهِ تَعَالَى ، فَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيا ، إِنْ خَيْراً فَخَيراً ، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً .
والحسرة انفعال نفسي على حال مؤسفة لا يملك الإنسان شيئاً حيالها ، سوى أن يتحسر وتألم نفسه . والله سبحانه وتعالى لا يتحسر على العباد؛ ولكنه يقرر أن حالة هؤلاء العباد مما يستحق حسرة المتحسرين! فهي حال بائسة مؤسفة تنتهي بأصحابها إلى شر وخيم وبلاء عظيم!
يا حسرة على العباد تتاح لهم فرصة النجاة فيعرضون عنها ، وأمامهم مصارع الهالكين قبلهم لا يتدبرونها ولا ينتفعون بها . ويفتح الله لهم أبواب رحمته بإرسال الرسل إليهم الحين بعد الحين؛ ولكنهم يتجافون أبواب الرحمة ويسيئون الأدب مع الله : { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } .
{ ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون } . .
ولقد كان في هلاك الأولين الذاهبين لا يرجعون ، على مدار السنين وتطاول القرون . . لقد كان في هذا عظة لمن يتدبر . ولكن العباد البائسين لا يتدبرون . وهم صائرون إلى ذات المصير . فأية حالة تدعو إلى الحسرة كهذا الحال الأسيف؟!
إن الحيوان ليرجف حين يرى مصرع أخيه أمامه؛ ويحاول أن يتوقاه قدر ما يستطيع . فما بال الإنسان يرى المصارع تلو المصارع ، ثم يسير مندفعاً في ذات الطريق؟ والغرور يملي له ويخدعه عن رؤية المصير المطروق! وهذا الخط الطويل من مصارع القرون معروض على الأنظار ولكن العباد كأنهم عمي لا يبصرون!
وإذا كان الهالكون الذاهبون لا يرجعون إلى خلفائهم المتأخرين ، فإنهم ليسوا بمتروكين ولا مفلتين من حساب الله بعد حين . .{ وإن كل لما جميع لدينا محضرون } .
--------------
وقال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) [الزخرف/46، 47]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ عَبْدَهُ مُوسَى رَسُولاً إِلَى فِرْعَونَ وَقوْمِهِ ، وَأَيَّدَهُ بِآيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ تَأْيِيداً لَهُ فِي دَعْوَتِهِ ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى : إِنَّهُ رَسُولٌ رَبِّ العَالَمِينَ إِلَيهِمْ ، كَمَا قُلْتَ أَنْتَ لِقَوْمِكَ إِنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِلَيهِمْ .فَلَمَا جَاءَهُمْ مُوسَى بِالمُعْجِزَاتِ التِي أَيَّدَهُ اللهُ بَهَا كَاليَدِ والعَصَا . . فَإِذَا بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ يَضْحَكُونَ مِنْ تِلْكَ المُعْجِزَاتِ ، وَيَسْخَرُونَ مِنْ مُوسَى دُونَ أَنْ يَتَأَمَّلُوا فِيهَا ، كَمَا يَسْخَرُ اليومَ قَوْمُكَ مِمّا جِئْتَهُمْ بِهِ
ـــــــــــ
إلقاء الشيطان في أمنيات الرسل
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) [الحج/52-54]
أَوْرَدَتْ بَعْضُ كُتًُب التَّفْسِير فِي أًَسْبَاب نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ قِصَّةً غَريبَةً تُعْرَفُ بِقَصَّةِ الغَرَانِيق . والفُرْنُوقُ طَائرٌ أَبْيْضُ . . وَتَقُولُ القِصَّةُ إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ في مَكَّةَ سُورَةَ النَّجْمِ في حُضُور جَمْعٍ مِنَ المُسْلِمينَ والمُشْرِكِينَ فَلَمّا بَلَغَ في قِراءَتِهِ { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ ( تِلْكَ الغَرَانِيْقُ العُلَى وإنّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى ) فَقَالَ المُشْرِكُونَ مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بخَيْر قَبْلَ اليَوْم . فَلَمَّا خَتَمَ السّورَة سَجَدَ وَسَجَدُوا . فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فَنَزَلَ تَسْلِيَةً لَهُ { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ . . الآيَةَ } .
(1/55)
وَلَكِنَّ عْلَمَاءَ المُسْلِمِينَ الثِّقاتَ ( مِثْلَ القَاضِي عِيَاضٍ والفَخْر الرِّازيَّ والقْسْطَلاَّني وابن إٍِسْحَاقٍ والأمام محمد عبده . . الخ يَقُولُونَ إِنَّه لاَ يَجُوزُ عَلَى النَّبيِّ تَعْظِيمُ الأوْثَانِ . وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لارْتفَعَ الأَمَانُ عَن شَرْعهِ ، وَجَوَّزْنَا في كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأحْكَامِ والشَّرَائع أَنْ يَكُونَ كَذَلِك أي مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ . وَيَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مِنْ وَضْع الزَّنَادِقَِ .
وأفْرَدَ عَالِمُ حَلَب الجَليلُ الشَّيْخُ عَبْدُ الله سِرَاجُ الدِّين فَصْلاً مُطَوَّلاً في كِتَابِه ( هَدْي القُرْآن الكريم إلى الحجة والبرهان ) لِنَفِي هَذِهِ القِصَّةِ ، وَتَأْكِيدِ عَدَم جَوَاز وُقُوعِها
وَيَتَلَخَّصُ رَأْيُ القَائِلين بِنَفْي القِصَّة في الآتي :
1 ) - يَمْتَنِعُ في حَقِّ النَّبيَّ ( - صلى الله عليه وسلم - ) أَنْ يَتَمِنَّى أَنْ يَنْزلَ عَلَيْهِ شَيءٌ مِنَ القُرْآنٍِ في مَدْح آلِهةٍ غَيْر الله لأنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ . كَمَا يَمْتَنعُ في حَقِّه أَنْ يتَسَوَّدَ الشَّيْطَانُ عَلَيْه ، وَيُشَبِّهَ عَلَيْهِ القُرْآنَ حَتَّى يَجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَيَعْتَقِد النَّبيّ أنّ مِنَ القُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى يُفْهمَهُ جِبْرِيلُ ذَلِكَ .
2 ) - يَمْتَنِعُ بِحَقِّ النَّبيِّ ( - صلى الله عليه وسلم - ) أَنْ يَقُول ذَلِكَ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ عَمْداً أَو سَهْواً ، فَالنَّبيَّ مَعْصًوُمٌ مِنْ جَرَيَانِ الكُفْر عَلَى لِسَانِهِ أوْ قَلْبهِ عَمْداً أََو سَهْواً ، أوْ أَنْ يًَشْتَبِهَ عَلَيْهِ المَلَكُ وَمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ للشَّيْطَانِ عَلَيْه سَبيلٌ .
3 ) - وَيَقُولُ العَالِمُ الهنْدِيّ مُحَمَّد عَلي إن قِراءةَ الآيَاتِ مُتَسَلْسِلَةً تُظْهِرَ أنْ لَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ تُحْشَرَ بَيْنَها آيَاتٌ مُناقِضَةٌ لَها في أَصْلِ العَقِيدَةِ الاسْلاَميَّةِ . وَصُلْب دَعْوَة مُحَمَّد ، دَعْوَة التَّوْحِيدِ .
4 ) - وَيَرى الامَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْدُه أنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الآيَةِ بِمَا يَلي :
لَمْ يُرْسِل الله رَسُولاً نَبيّاً إلى قَوْمٍ إلاَّ وتَمنَّى أَنْ يَتَّبعهُ قَوْمُهُ وأنْ يَسْتَجيبُوا لِمَا يَدْعُوهُم إلَيْهِ . وَلَكِنَّ مَا تَمَنَّى نَبَيّ وَلاَ رَسُولٌ هَذِهِ الأمْنِيَة السَّامِيَة إلاّ ألْقَى الشَّيْطَانُ في سَبيلِهِ العَوائِق وأثار الشكوك وَوَسْوسَ في صُدُور النَّاس ، لَسْلِبَهُم القُدْرَةَ عَلَى الانْتِفَاع بما وُهِبُوهُ مِنْ قُوَّةِ العَقْل ، وسَلاَمَة الفِكرِ ، فَثَاروا في وَجْهِ النَّبيِّ وصَدّوهُ عَنْ غَايَتِهِ . فإذَا ظَهَروُوا في بادِئ الأمر ظَنّوا أنَّهُمْ عَلَى الحَقْ ، وَلَكِنَّ كَلِمَةَ الله سَتَكُون دَائماً هِي العُلْيا ، وَكَلِمِةُ الشَيْطَانُ وأعوانِهِ هِيَ السُفْلى دائماً .
فَأَمَّا الذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَشَكٌّ وِنَفَاقٌ ، أَوْ انْحِرافٌ ( مِنْ المُنافِقِينَ ) ، والقاسِيةُ قُلُوبُهُمْ مِنَ اليَهُود والكُفَّارِ والمعانِدِينَ فَيَجِدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الحَالِ مَادَّةً للجَدَلِ واللَّجَاجِ والشِّقَاقِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ .
وَأَمَّا الذينَ أُوتُوا العِلْمَ والمَعْرِفَةَ فَتَطَمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى بَيَانِ اللهِ ، وَحُكْمِهِ الفَاصِلِِ ، لأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بالعِلْمِ الذي أُوتُوهُ بَيْنَ الحَقِّ والبَّاطِلِ ، فَيُؤمِنُونَ بالحَقِّ وَيُصَدّقُونَه ، وَيَنْقَادُونَ إِلَيْهِ ، وَتَخْضَعُ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَتَذِلُّ فَتُخْبِتُ ، واللهُ يَهدي الذين آمنوا في الدُّنيا والآخِرَةِ إِلى الطَّريقِ القَوِيمِ .أمَّا فِي الدُّنْيا فَيُرْشِدُهُمُ إِلَى الحَقِّ وإِلَى اتِّبَاعِهِ ، وَيُوفِّقُهم إِلى مُخَالَفَةِ البَّاطِلِ وإِلَى اجْتِنَابِهِ ، وفِي الآخِرَةِ يَهْدِيهِم إِلَى الطَّرِيقِ المُوْصِلِ إِلَى الجَنَّةٍ ، ويُجَنِّبُهم نَارَ جَهَنَّمَ .(1)
ـــــــــــ
حرص الرسل الشديد على هداية قومهم
قال تعالى : { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) [الشعراء/123-135]
يُخْبِرُ اللهُ تَعالى أنَّهُ أرْسَلَ رَسُولَهُ هُوداً إلى قَوْمِ عَادٍ - وكَانُوا يَسْكُنُونَ الأحْقَافَ وهِيَ تِلاَلٌ رَمْلِيَّةٌ قُرْبَ حَضْرَمَوْتَ - وكَانُوا بعدَ قومِ نُوحٍ - فَدَعَاهُمْ هُودٌ إلى عِبادَةِ اللهِ تَعَالى وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ ، والإِقَلاعِ عَنْ عبادةِ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ فكذَّبُوهُ
- فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ عليهِ السَّلامُ : أَلاَ تَخَافُونَ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَ اللهِ آلهةً أُخْرى هيَ أَصنامٌ لا تَضرُّ ولا تَتْفَعُ؟
إنِّي مُرْسَلٌ إِليكُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالى ، وَإِني صَادِقٌ فِيما أُبَلِّغُكُمْ إِيَّاهُ مِنْ رَبِّكُمْ .
فَأَطْيعُونِي ، واتَّبِعُوا قَوْلِي ، واسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِي واتَّقُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، واعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ .وَأَنَا لا أسْأَلُكُمْ جَزَاءً وأجْراً عَلَى مَا أقُومُ بِهِ منْ دَعْوَتِي إيَّاكُمْ ، وَإِنَّمَا أنْتَظِرُ الأجْرَ والثَّوَابَ عَلَى ذَلكَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمينَ الذِي بَعَثَنِي إليْكُمْ .
كانَ قومُ عادٍ جَِبَّارينَ في غَايةِ القُوةِ وشِدَّةِ البَطْشِ ، وَكَانَتْ لَهُمْ وَفْرَةٌ في الأموالِ والزُّرُوعِ والمِيَاهِ والأَبْنَاءِ ، وَمَعَ ذلكَ كانُوا يَعْبُدُونَ غيرَ اللهِ مَعَهُ ، فَبَعَثَ اللهُ إِليهمْ هُوداً ، وهُو رَجُلٌ منهُم ، رَسُولاً ونَذِيراً فَدَعَاهُمْ إلى اللهِ ، وَحَذَّرهُمْ نِقَمَهُ وَعَذَابَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَتَبْنُونَ في كُلِّ مُرْتَفَعِ منَ الأَرضِ ( رِيْعٍ ) بِنَاءٍ ضَخْماً مُحْكَماً للعَبَثِ والتَّفَاخُرِ والدَّلاَلَةِ على الغِنَى والقُوَّوةِ؟ لِذلِكَ أنْكَرَ علَيْهِمْ نَبيُّهُم الاشْتِغَالَ فيما لا يُجْدِي في الدُّنيا والآخِرَةِ .
وَتَبْنُونَ قصُوراً مُشَيَّدَةً وَحِيَاضَاً ضَخْمَةً لِجَمْعِ المِيَاهِ ، وتظُنُّونَ أنَّكُمْ خَالِدُونَ في هِذه الحَياةِ الدُّنْيا ، وَهذَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ لَكُمْ ، بَلْ هُوَ زَائِلٌ عنْكُمْ كَمَا زَالَ عَمَّنْ قَبْلَكُمْ
ويَصِفُهُمْ نَبِيُّهُم بِالقَسْوَةِ ، والغِلْظَةِ ، وَالجَبَرُوتِ ، فَيَقُولُ لهمْ : إنَّهُمْ حِينَما ينْتَقِمُونَ وَيضْرِبُون ، فإنَّهُم يفْعلونَ ذَلِكَ بقَسْوَةٍ بَالِغَةٍ ، كَما يَفْعَلُ الجبَّارُونَ الأقْوِياءُ الذينَ لا يَخَافُونَ اللهَ تَعالى . فأَطِيعُوني فِيمَا دعوتُكُم إليهِ ، وتَجَنَّبُوا ما حَذَّرْتُكُمْ منْهُ ، واتَّقُوا الله ، وَخَافُوا نِقَمَهُ في الدُّنْيا والآخرةِ .
واتَّقُوا الله الذي آتاكمُ الأمْوالَ ، والبَنينَ والقُوَّة .الذِي أمدَّكُمْ بأنْعَامٍ تَنْتَفِعُونَ بأوْبَارِهَا وأصْوافِها ولُحُومِها وألْبَانِها ، وأمَدَّكُمْ بِبَنِينَ يَزيْدُونَ في قُوَّتِكُمْ .وأمَدَّكُم بِبساتِينَ ومَزَارِعَ وعيونِ ماءٍ تَجْري في أرْضِكُمْ .
فإنْ كذَّبْتُمْ وتَوَلَّيْتُم ورَفَضْتُم اتِّبَاعِي فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِليهِ مِنْ عِبادةِ اللهِ تَعَالى ، فإِنِّي أخافُ أن تَحِلَّ بِكُمْ نِقَمُ اللهِ وعذابُهُ في يومِ القيامةِ ، وهُوَ يَومٌ شديدُ الهَوْلِ .
فهي الكلمة الواحدة يقولها كل رسول : دعوة إلى تقوى الله وطاعة رسوله . وإعلان للزهد فيما لدى القوم من عرض الحياة ، وترفع قيم الأرض الزائلة ، وتطلع إلى ما عند الله من أجر كريم .
ثم يزيد ما هو خاص بحال القوم وتصرفاتهم ، فينكر عليهم الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة ، والإعلان عن الثراء ، والتكاثر والاستطالة في البناء؛ كما ينكر غرورهم بما يقدرون عليه من أمر هذه الدنيا ، وما يسخرونه فيها من القوى ، وغفلتهم عن تقوى الله ورقابته : { أتبنون بكل ريع آلهة تعبثون ، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون؟ } . .
والريع المرتفع من الأرض . والظاهر أنهم كانوا يبنون فوق المرتفعات بنياناً يبدو للناظر من بعد كأنه علامة . وأن القصد من ذلك كان هو التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة . ومن ثم سماه عبثاً . ولو كان لهداية المارة ، ومعرفة الاتجاه ما قال لهم : { تعبثون } . . فهو توجيه إلى أن ينفق الجهد ، وتنفق البراعة ، وينفق المال فيما هو ضروري ونافع ، لا في الترف والزينة ومجرد إظهار البراعة والمهارة .
ويبدو كذلك من قوله : { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } أن عاداً كانت قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغاً يذكر؛ حتى لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور ، وتشييد العلامات على المرتفعات؛ وحتى ليجول في خاطر القوم أن هذه المصانع وما ينشؤونه بوساطتها من البيان كافية لحمايتهم من الموت ، ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء .
ويمضي هود في استنكار ما عليه قومه :{ وإذا بطشتم بطشتم جبارين } . .
فهم عتاة غلاظ ، يتجبرون حين يبطشون؛ ولا يتحرجون من القسوة في البطش . شأن المتجبرين المعتزين بالقوة المادية التي يملكون .
وهنا يردهم إلى تقوى الله وطاعة رسوله ، لينهنه من هذه الغلظة الباطشة المتجبرة : { فاتقوا الله وأطيعون } . .
ويذكرهم نعمة الله عليهم بما يستمتعون به ويتطاولون ويتجبرون ، وكان الأجدر بهم أن يتذركوا فيشكروا ، ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم ، وأن يعاقبهم على ما أسرفوا في العبث والبطش والبطر الذميم!
{ واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون .إنها ذات الدعوة بألفاظها يدعوها كل رسول . ويوحد القرآن عن قصد حكاية العبارة التي يلقيها كل رسول على قومه للدلالة على وحدة الرسالة جوهراً ومنهجاً ، في أصلها الواحد الذي تقوم عليه ، وهو الإيمان بالله وتقواه ، وطاعة الرسول الآتي من عند الله .
ثم يزيد ما هو من شأن ثمود خاصة ، وما تقتضيه طبيعة الموقف وطبيعة الظروف . إذ يذكرهم أخوهم صالح بما هم فيه من نعمة ( وقد كانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز ، وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك ) ويخوفهم سلب هذه النعمة ، كما يخوفهم ما بعد المتاع من حساب على ما كان من تصرفهم فيه :{ أتتركون فيما ها هنا آمنين . في جنات وعيون . وزورع ونخل طلعها هضيم . وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين؟ } .
وإنهم ليعيشون بين هذا المتاع الذي يصوره لهم أخوهم صالح . ولكنهم يعيشون في غفلة عنه لا يفكرون فيمن وهبهم إياه؛ ولا يتدبرون منشأه ومأتاه ، ولا يشكرون المنعم الذي أعطاهم هذا النعيم . فيأخذ رسولهم في تصوير هذا المتاع لهم ليتدبروه ويعرفوا قيمته ، ويخافوا زواله .
وفيما قاله لهم لمسات توقظ القلوب الغافية ، وتنبه فيها الحرص والخوف : { أتتركون فيما ها هنا آمنين؟ } أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة . . وسائر ما يتضمنه هذا الإجمال من تفخيم وتضخيم . . أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت ، ولا يزعجكم سلب ، ولا يفزعكم تغيير؟
أتتركون في هذا كله من جنات وعيون ، وزروع متنوعات ، ونخل جيدة الطلع ، سهلة الهضم حتى كأن جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون! وتتركون في البيوت تنحتونها في الصخور بمهارة وبراعة ، وفي أناقة وفراهة؟
{ فاتقوا الله وأطيعون . ولا تطيعوا أمر المسرفين . الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون } . .
ولكن هذه اللمسات وهذه النداءات لا تصل إلى تلك القلوب الجاسية الجافية ، فلا تصغي لها ولا تلين :{ قالوا : إنما أنت من المسحرين . ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين } . .
إنما أنت ممن سحرت عقولهم فهو يهرفون بما لا يعرفون! كأنما الدعوة إلى الله لا يدعوها إلا مجنون!
{ ما أنت إلا بشر مثلنا } . . وتلك هي الشبهة التي ظلت تخايل للبشرية كلما جاءها رسول . فقد كان تصور البشرية القاصر للرسول عجيباً دائماً؛ وما كانت تدرك حكمة الله في أن يكون الرسول بشراً ، وما كانت تدرك كذلك تكريم هذا الجنس البشري باختيار الرسل منه ليكونوا رواد البشرية المتصلين بمصدر الهدى والنور
------------------
وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) [الشعراء/141-152]
يُخبرُ اللهُ تَعالى أَنَّهُ أرْسَلَ عَبْدَهُ صَالِحاً رَسُولاً إلى قَوْمِهِ ثُمودَ ، وَكَانُوا عَرَباً يَسْكُنُونَ الحِجْرَ ، بينَ وَادِي القُرى وبِلادِ الشَّامِ ، ومَسَاكِنُهُمْ مَعْرُوفةٌ باسْمِ مَدَائِنِ صَالِحٍ ، وَكَانُوا بَعْدَ عادٍ ، وَقَبْلَ إبراهيمَ عليهِ السلامُ ، فدَعَاهُمْ نَبيُّهُمْ صَالِحٌ إلى عِبادةِ اللهِ تعالَى وَحْدَه لا شَريكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُ ، وبِذَلكَ يَكُونُون قَدْ كَذَّبُوا جَميعَ الرُّسُلِ لاتِّحَادِ رِسَالاتِ الرُّسُلِ في أصُولِها وغَايَاتِها .
وَقَالَ لَهُمْ نبيُّهُمْ صَالِحٌ : أَلا تَخَافُونَ أَنْ تُشْرِكُوا معَ اللهِ آلهةً أُخْرى في العِبَادَةِ؟ ( وَصَالحٌ مِنْ ثمودَ لِذَلكَ قَالَ تَعَالى عَنهُ إِنهُ أخُوهمْ ) .
فَأنَا مُرسلٌ إِليكمْ مِنَ اللهِ تَعَالى ، وَإِنِّي أمينٌ في نُصْحي لكُمْ ، وفِي إِبْلاغِكُمْ رِسَالَة رَبِّي .
فأَطِيعُوني فِيما دَعَوْتُكُمْ إليهِ من عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى وَحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ ، وفِي الإِقْلاَعِ عَنْ عِبَادَةِ الأصْنَامِ والأنْدَادِ .
وإنِّي لا أبْتَغِي مِنْكُمْ أَجْراً عَلَى مَا أقومُ بهِ من إبْلاَغِكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي ، وإنَّمَا أطْلُبُ الأجْرَ والثَّوَابَ عليهِ منَ اللهِ وَحْدَهُ .
وذَكَّرَهُمْ بِمَا أنْعَمَ اللهُ بِهِ عليهِمْ من الأرْزَاقِ والجَنَّاتِ ، والزُّرُوعِ والثمارِ ، ثُمَّ قالَ لهمْ : هلْ تَظُنُّونَ أنْ تُتْرَكُوا طَوِيلاً في هَذا النّعيمِ والرَّفَاهِ والأمْنِ ، وأنتُمْ كافِرُون ، جَاحِدُون نِعَمَ اللهِ ، مُخَالِفُونهَ أوامِرَهُ؟
في هذهِ الجَنَّاتِ والعُيُونِ والخَيْراتِ الحِسَانِ .وفي هذِهِ الزُّرُوعِ وَالنَّخِيلِ ، وَقَدْ أيْنَعَ ثمرُهَا ، وبَلَغَ ، فأصْبَحَ نَاضِجاً هَضِيماً . وتَنْحِتُون بُيُوتاً في الجِبَالِ أَشَراً وبَطَراً وعَبَثاً ( فَارِهِينَ ) ، منْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلى سُكْنَاهَا . فأطِيعُوني فيمَا دَعَوْتُكُم إليهِ منْ عِبَادَةِ اللهِ وحدَهُ ، والإٍِقْلاَعِ عنِ الكُفْرِ والضَّلاَلِ والطُّغيَانِ وعِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَأقْبِلُوا عَلَى مَا يَعُودُ عليكُمْ نَفْعُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ ، وتسبيحهِ بُكْرَةً وأَصِيْلاً . ( كَانَ قومُ ثمودَ مَهَرةً حَاذِقينَ في نَحْتِ البيُوتِ في الجِبَال ونَقْشِها ) .
وَلاَ تُطِيعُوا أمْرَ الرُّؤسَاءِ والكُبَراءِ ، الدُّعَاةِ إلى الشِّرْكِ والكُفْرِ ومُخَالَفَةِ الحَقِّ ( المُسْرِفِينَ ) .
وَهَؤُلاءِ الكُبراءُ يُفْسِدُونَ في الأَرْضِ ، وَيَدْعُونَ إِلى الضَّلالِ وَيَصْرِفُون النَّاسَ عَنِ الحقِّ ، وَلا يَدْعُونَ إلى الهُدى وَالإِصْلاحِ .
إنها ذات الدعوة بألفاظها يدعوها كل رسول . ويوحد القرآن عن قصد حكاية العبارة التي يلقيها كل رسول على قومه للدلالة على وحدة الرسالة جوهرا ومنهجا , في أصلها الواحد الذي تقوم عليه , وهو الإيمان بالله وتقواه , وطاعة الرسول الآتي من عند الله .
ثم يزيد ما هو من شأن ثمود خاصة , وما تقتضيه طبيعة الموقف وطبيعة الظروف . إذ يذكرهم أخوهم صالح بما هم فيه من نعمة - [ وقد كانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز , وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك ] - ويخوفهم سلب هذه النعمة , كما يخوفهم ما بعد المتاع من حساب على ما كان من تصرفهم فيه:أتتركون فيما ها هنا آمنين . في جنات وعيون . وزروع ونخل طلعها هضيم . وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ? .
وإنهم ليعيشون بين هذا المتاع الذي يصوره لهم أخوهم صالح . ولكنهم يعيشون في غفلة عنه لا يفكرون فيمن وهبهم إياه ; ولا يتدبرون منشأه ومأتاه , ولا يشكرون المنعم الذي أعطاهم هذ النعيم . فيأخذ رسولهم في تصوير هذا المتاع لهم ليتدبروه ويعرفوا قيمته , ويخافوا زواله .
وفيما قاله لهم لمسات توقظ القلوب الغافية , وتنبه فيها الحرص والخوف:(أتتركون في ما هاهنا آمنين ?) أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة . . وسائر ما يتضمنه هذا الإجمال من تفخيم وتضخيم . . أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت , ولا يزعجكم سلب , ولا يفزعكم تغيير ?
أتتركون في هذا كله من جنات وعيون , وزروع متنوعات , ونخل جيدة الطلع , سهلة الهضم حتى كأن جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون ! وتتركون في البيوت تنحتونها في الصخور بمهارة وبراعة , وفي أناقة وفراهة ?
وبعد أن يلمس قلوبهم هذه اللمسات الموقظة يناديهم إلى التقوى , وإلى الطاعة , وإلى مخالفة الملأ الجائرين البعيدين عن الحق والقصد , الميالين إلى الفساد والشر
(فاتقوا الله وأطيعون . ولا تطيعوا أمر المسرفين . الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) . .
ولكن هذه اللمسات وهذه النداءات لا تصل إلى تلك القلوب الجاسية الجافية , فلا تصغي لها ولا تلين:(قالوا:إنما أنت من المسحرين . ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين) . .
إنما أنت ممن سحرت عقولهم فهم يهرفون بما لا يعرفون ! كأنما الدعوة إلى الله لا يدعوها إلا مجنون !
(ما أنت إلا بشر مثلنا) . . وتلك هي الشبهة التي ظلت تخايل للبشرية كلما جاءها رسول . فقد كان تصور البشرية القاصر للرسول عجيبا دائما ; وما كانت تدرك حكمة الله في أن يكون الرسول بشرا , وما كانت تدرك كذلك تكريم هذا الجنس البشري باختيار الرسل منه ليكونوا رواد البشرية المتصلين بمصدر الهدى والنور
وكانت البشرية تتصور الرسول خلقا آخر غير البشر . أو هكذا ينبغي أن يكون ; ما دام يأتي إليها بخبر السماء , وخبر الغيب , وخبر العالم المحجوب عن البشر . . ذلك أنها ما كانت تدرك سر هذا الإنسان الذي كرمه الله به , وهو أنه موهوب القدرة على الاتصال بالملأ الأعلى وهو على هذه الأرض مقيم . يأكل وينام ويتزوج ويمشي في الأسواق . ويعالج ما يعالجه سائر البشر من المشاعر والنوازع , وهو متصل بذلك السر العظيم .
وكانت البشرية جيلا بعد جيل تطلب خارقة معجزة من الرسول تدل على أنه حقا مرسل من الله: فأت بآية إن كنت من الصادقين . . وهكذا طلبت ثمود تلك الخارقة , فاستجاب الله لعبده صالح , وأعطاه هذه الخارقة في صورة ناقة ; لا نخوض في وصفها كما خاض المفسرون القدامى , لأنه ليس لدينا سند صحيح نعتمد عليه في هذا الوصف . فنكتفي بأنها كانت خارقة كما طلبت ثمود .
(قال:هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم . ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) . .لقد جاءهم بالناقة , على شرط أن يكون الماء الذي يستقون منه يوما للناقة ويوما لهم , لا يجورون عليها في يومها , ولا تجور عليهم في يومهم , ولا يختلط شرابها بشرابهم , كما لا يختلط يومها بيومهم . ولقد حذرهم أن ينالوها بسوء على الإطلاق , وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم .
فماذا فعلت الآية الخارقة بالقوم المتعنتين ? إنها لم تسكب الإيمان في القلوب الجافة ; ولم تطلع النور في الأرواح المظلمة . على الرغم من قهرها لهم وتحديهم بها . وإنهم لم يحفظوا عهدهم , ولم يوفوا بشرطهم:(فعقروها فأصبحوا نادمين) .
والعقر:النحر . والذين عقروها منهم هم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ولقد حذرهم منهم صالح وأنذرهم فلم يخشوا النذير . ومن ثم كتبت خطيئتها على الجميع , وكان الجميع مؤاخذين بهذا الإثم العظيم .
ولقد ندم القوم على الفعلة , ولكن بعد فوات الأوان وتصديق النذير: (فأخذهم العذاب) . . ولا يفصل نوعه هنا للمسارعة والتعجيل !
-----------------
وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) [الشعراء/160-166]
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 2527)
(1/56)
وأَرْسَلَ اللهُ تَعَالى لُوطاً علَيهِ السَّلامُ - وهُوَ ابنُ أَخي إِبراهيمَ - إلى قَومٍ عُرِفُوا فيما بعْدُ بقومِ لوطٍ ، وكَانُوا يَسْكُنُونَ مَدينةَ سَدُومٍ جَنُوبِيِّ البَحْرِ المَيِّتِ في الأُرْدُنَّ فَدعَاهُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وأنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُ الذِي بَعَثَهُ اللهُ إلَيْهِمْ ، ونَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ تَعالى ، وعنِ ارْتِكَابِ الفَواحِشِ التي لَمْ يَسْبِقْهُمْ أحَدٌ منَ العَالَمِينَ إلى ارْتِكَابِها ، فكذَّبُوهُ .
فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ : أَلا تَتَّقٌونَ اللهَ ، وتَخَافُونَ عِقَابَهُ ، وأنتُمْ تَعْبَدُونَ منْ دُونِهِ آلهةً أصْنَاماً لا تَضُرُّ ولا تْنَفَعُ ، وتَرْتَكِبُونَ الفَواحِشَ؟
فإِنيّ رَسُولُ اللهِ إليكمُ ، وَإِنيّ أَمينٌ في إِبْلاَغِكُم مَا أتَلَقَّاهُ مِنْ رَبِّي . فأَطِيعُوني وَاسْمَعُوا قولي ، وَاتَّقُوا الله وأخْلِصُوا العِبَادَةَ لَهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ .
وَأَنا لا أَسْأَلُكُمْ جَزَاءً ، وَلاَ أَجْراً عَلى نُصْحِي لَكُمْ ، ودَعْوَتي إيَّاكُمْ إِلى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى ، وَإِنَّما أبْغِي الأَجْرَ والثَّوَابَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ عِنْدِ اللهِ ربِّ العَالَمِين .
وَقَالَ لَهُمْ : إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنَ دُونِ النِّسَاءِ ، وَهذَا أمرٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَسْبِقْكُمْ إِليهِ أََحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ .وتَذَرُونَ نَِاءَكُمْ وَمَا خَلَقَ اللهُ لَكُمْ مِنْهُنَّ ، فَأَنْتُمْ بِذَلِكَ قَوْمٌ مُعْتَدُون ، مُتَجَاوِزُونَ حُدودَ اللهِ ، وشَرائِعَهُ .فَقَالُوا لَهُ : لئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عَمَّا جِئْتَنَا بهِ مِنْ دَعْوَتِنا إلى التَّطَهُّرِ ، وتَركِ ما وَجَدْنا عَليه آباءَنا ، لَنُنْخِرجَنَّكَ مِنْ بينِ أظْهُرِنا ، ولَنَنْفِيَنَّكَ منْ بَلْدَتِنا أنْتَ وأَهْلَكَ ، فإِنَّكُمْ أُنَاسٌ تَتَطَهَّرُون .فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ إنَّهُ كَارِهٌ لِمَا يفْعَلونَهُ ، وَلا يَرْضَى بهِ ، وإِنَّه بَراءٌ مِنهُمْ .
والخطيئة المنكرة التي عرف بها قوم لوط ( وقد كانوا يسكنون عدة قرى في وادي الأردن ) هي الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور ، وترك النساء . وهو انحراف في الفطرة شنيع . فقد برأ الله الذكر والأنثى؛ وفطر كلاً منهما على الميل إلى صاحبه لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة عن طريق النسل ، الذي يتم باجتماع الذكر والأنثى . فكان هذا الميل طرفاً من الناموس الكوني العام ، الذي يجعل كل من في الكون وكل ما في الكون في حالة تناسق وتعاون على إنفاذ المشيئة المدبرة لهذا الوجود . فأما إتيان الذكور الذكور فلا يرمي إلى هدف ، ولا يحقق غاية ، ولا يتمشى مع فطرة هذا الكون وقانونه . وعجيب أن يجد فيه أحد لذة . واللذة التي يجدها الذكر والأنثى في التقائهما إن هي إلا وسيلة الفطرة لتحقيق المشيئة . فالانحراف عن ناموس الكون واضح في فعل قوم لوط . ومن ثم لم يكن بد أن يرجعوا عن هذا الانحراف أو أن يهلكوا ، لخروجهم من ركب الحياة ، ومن موكب الفطرة ، ولتعريهم من حكمة وجودهم ، وهي امتداد الحياة بهم عن طريق التزاوج والتوالد .
فلما دعاهم لوط إلى ترك هذا الشذوذ ، واستنكر ما هم فيه من ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم ، والعدوان على الفطرة وتجاوز الحكمة المكنونة فيها . . تبين أنهم غير مستعدين للعودة إلى ركب الحياة ، وإلى سنة الفطرة :{ قالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين } .
وقد كان فيهم غريباً . وفد عليهم مع عمه إبراهيم حين اعتزل أباه وقومه ، وترك وطنه وأرضه ، وعبر الأردن مع إبراهيم والقلة التي آمنت معه . ثم عاش وحده مع هؤلاء القوم حتى أرسله الله إليهم ، ليردهم عما هم فيه ، فإذا بهم يهددونه بالإخراج من بينهم ، إذا لم ينته عن دعوتهم إلى سواء الفطرة القويم!
عندئذ لم يبق إلا أن يعالنهم بكراهة ما هم عليه من شذوذ ، في تقزز واستبشاع :{ قال : إني لعملكم من القالين } . .والقلى : الكره البالغ . يقذف به لوط في وجوههم في اشمئزاز .
------------------
وقال تعالى :{ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) [الشعراء/176-184]
أهْلُ الأَيْكَةِ هُمْ أصْحَابُ مَدْيَنَ ، والأَيْكَةُ هيَ الشَّجَرُ المُلْتَفُّ كَالغَيْضَةِ ، كَانُوا يَعْبُدونَها ، وَمَدْينُ تَقَعُ جَنُوبِيِّ الأُرْدُنِّ قَريباً مِنَ العَقَبَةِ .
وَنتبيُّهُمْ شُعيبٌ عليهِ السلامُ ، وَهُوَ مِنْهُمْ ، وَقَدْ أرْسَلَهُ اللهُ إليهمْ ليَدْعُوَهُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ ، وَتَرْكِ مَا هُمْ عَليهِ مِنَ الفَسَادِ والضَّلالِ فَكَذَّبُوهُ .
فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شُعَيْبٌ : ألا تَعْبُدونَ اللهَ وتُطِيعُونَ أَمْرَهُ ، وتُقْلِعُونَ عَنْ عِبَادَةِ ما سِواهُ منَ الأصْنَامِ والأَنْدَادِ؟ وتَكُفُّونَ عَنْ تَطْفِيفِ المِكْيَالِ والمِيزانِ؟ إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفعَلُوا ذَلكَ فإِنَّ اللهَ سَيُعَاقِبُكُمْ عِقَاباً شَدِيداً . وإِنِّي رَسُولٌ إليْكُمْ منَ اللهِ ، أمينٌ في إبْلاَغِكُم مَا أَتَلَقَّاهُ مِنْ رَبِّي . فَأَطِيعُونِي وَاسْمَعُوا قَوْلِي ، وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العِبَادَةَ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ .وَأَنَا لاَ أَسْألُكُمْ جَزَاءً أو أَجْراً عَلَى نُصْحي لكُمْ ، وَدَعْوَتي إيَّاكُمْ إِلى عِبادةِ اللهِ تَعالى وَحْدَه لا شَريكَ لهُ ، وإِنَّما أبْغِي الأَجْرَ والثَّوابَ على ذَلِكَ مِنَ اللهِ الكَرِيمِ وَهُوَ رَبُّ العَالَمينَ . ثمَّ أمرَهُمْ بإِيفَاءِ المِكْيَالِ والمِيزانِ ، وَنَهَاهُمْ عن التَّطْفِيفِ ، وقالَ لهمْ : إذا دَفْعْتُمْ للنَّاسِ فأوْفُوا الكَيلَ والمِيزانَ حقَّهُمَا ، ولا تَبْخَسُوا الكَيْلَ فَتُعْطُوا ناقِصاً ، وَتَأْخُذُوهُ وَافياً إِذا كَانَ لَكُمْ ، وَلكِنْ خُذُوا كَما تُعْطُوْنَ ، وأعْطُوا كَمَا تأخُذُون .
وزِنُوا بالمِيزَانِ العَادِلِ المَضْبُوطِ ( القِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ) . ولا تُنْقِصُوْا النَّاسَ شَيْئاً مِنْ حُقُوقِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ ، وَلاَ تَعِيثُوا في الأَرضِ فَسَاداً ، وَلا تَقْطَعُوا الطَّريقَ عَلَى النَّاسِ ، كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } .
وَحَذَّرَهُمْ شُعَيْبٌ مِنْ نِقْمَةِ اللهِ وبأْسِهِ ، وَهُوَ الذي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ آباءَهُمُ الأوَّلينَ مِنَ العَدَمِ ليَكُونُوا مُصْلِحِينَ في الأرضِ .
وقد بدأهم شعيب بما بدأ به كل رسول قومه من أصل العقيدة والتعفف عن الأجر ، ثم أخذ يواجههم بما هو من خاصة شأنهم :{ أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ، وزنوا بالقسطاس المستقيم ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين } .
وقد كان شأنهم كما ذكر في سورتي الأعراف وهود أن يطففوا في الميزان والمكيال ، وأن يأخذوا بالقسر والغصب زائداً عن حقهم ، ويعطوا أقل من حق الناس ، ويشتروا بثمن بخس ويبيعوا بثمن مرتفع . ويبدو أنهم كانوا في ممر قوافل التجارة ، فكانوا يتحكمون فيها . وقد أمرهم رسولهم بالعدل والقسط في هذا كله ، لأن العقيدة الصحيحة يتبعها حسن المعاملة . ولا تستطيع أن تغضي عن الحق والعدل في معاملات الناس .
ثم استجاش شعيب مشاعر التقوى في نفوسهم ، وهو يذكرهم بخالقهم الواحد . خالق الأجيال كلها والسابقين جميعاً :{ واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين } .
فما كان منهم إلا أن يطلقوا عليه الاتهام بأنه مسحور ، فهو يخلط ويهذي بما يقول : { قالوا : إنما أنت من المسحرين } . .
وإلا أن يستنكروا رسالته . فهو بشر مثلهم ، وما هكذا في زعمهم يكون الرسول . ويرمونه بالكذب فيما يقول :{ وما أنت إلا بشر مثلنا . وإن نظنك لمن الكاذبين } .
وإلا أن يتحدوه أن يأتيهم بما يخوفهم به من العذاب إن كان صادقاً فيما يدعيه؛ وأن يسقط عليهم رجوماً من السماء ، أو يحطمها عليهم ويسقطها قطعاً :{ فأسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين } . .
وهو تحدي المستهتر الهازئ المستهين! وهو شبيه بتحدي المشركين للرسول الكريم . .{ قال : ربي أعلم بما تعملون } . .ويعجل السياق بالنهاية دون تفصيل ولا تطويل .{ فكذبوه . فأخذهم عذاب يوم الظلة . إنه كان عذاب يوم عظيم } . .قيل : أخذهم حر خانق شديد يكتم الأنفاس ويثقل الصدور . ثم تراءت لهم سحابة ، فاستظلوا بها؛ فوجدوا لها برداً ، ثم إذا هي الصاعقة المجلجلة المدوية تفزعهم وتدمرهم تدميراً .
وكان ذلك { يوم الظلة } فالظلة كانت سمة اليوم المعلوم!
ـــــــــــ
وجوب الاقتداء بالرسل
قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) [الأحزاب/21 ]
يَحُثُّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلَى الاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والتَّأَسِّي بِهِ فِي صَبْرِهِ وَمَصَابَرَتِهِ وَمُرَابِطَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَظْهَرُوا الضَّجَرَ وَتَزَلْوَلُوا واضْطَربُوا فِي أَمْرِهِمْ يَوْمَ الأَحْزابِ : هَلاَّ اقْتَدَيْتُمْ بِرَسُولِ اللهِ ، وتَأَسَّيْتُمْ بِشَمَائِلِهِ فَلَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إِنْ كُنْتُمْ تَبْتَغُونَ ثَوابَ اللهِ ، وَتَخَافُونَ عِقَابَهُ ، وَتَذْكُرونَ اللهَ ذِكْراً كَثيراً ، فَذِكْرُ اللهِ يُؤَدِّي إِلى أُسْوَةٌ حَسَنٌ - قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ .
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد ، مثابة الأمان للمسلمين ، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان . وإن دراسة موقفه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحادث الضخم لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة؛ ويذكر الله ولا ينساه .
ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال . إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل .
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل في الخندق مع المسلمين . يضرب بالفأس ، ويجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب في المكتل . ويرفع صوته مع المرتجزين ، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل ، فيشاركهم الترجيع! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية : « كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمه ، وسماه عمراً . فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج :
سماه من بعد جعيل عمراً وكان للبائس يوماً ظهراً
فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة » عمرو « ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » عمراً « . وإذا مروا بكلمة » ظهر « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ظهراً »
ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم ، يضرب بالفأس ، ويجرف بالمسحاة ، ويحمل في المكتل ، ويرجع معهم هذا الغناء .
ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز .
« وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب . فقال - صلى الله عليه وسلم - » أما إنه نعم الغلام! « وغلبته عيناه فنام في الخندق . وكان القر شديداً . فأخذ عمارة بن حزم سلاحه ، وهو لا يشعر . فلما قام فزع . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك «! ثم قال : » من له علم بسلاح هذا الغلام «؟ فقال عمارة : يا رسول الله هو عندي . فقال : » فرده عليه « . ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعباً! »
وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب ، لكل من في الصف ، صغيراً أو كبيراً . كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة : « يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك! » ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم ، في أحرج الظروف . .
ثم كانت روحه - صلى الله عليه وسلم - تستشرف النصر من بعيد ، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول؛ فيحدث بها المسلمين ، ويبث فيهم الثقة واليقين .
قال ابن إسحاق : « وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فغلظت عليّ صخرة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريب مني . فلما رآني أضرب ، ورأى شدة المكان عليّ ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة . قال : ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى . قال : ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخرى . قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت ، لمع المعول وأنت تضرب؟ قال : » أوَ قد رأيت ذلك يا سلمان «؟ قال : قلت . نعم : قال : أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن . وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب . وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق » .
وجاء في « إمتاع الأسماع للمقريزي » أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان . رضي الله عنهما .
ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب ، والخطر محدق بها محيط .
ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائداً من استطلاع خبر الأحزاب؛ وقد أخذه القر الشديد؛ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه . فإذا هو في صلاته واتصاله بربه ، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه صلوات الله وسلامه عليه بين رجليه ، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو .ويمضي في صلاته . حتى ينتهي ، فينبئه حذيفة النبأ ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه - صلى الله عليه وسلم - فبعث حذيفة يبصر أخبارها!
أما أخبار شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في الهول ، وثباته ويقينه ، فهي بارزة في القصة كلها ، ولا حاجة بنا إلى نقلها ، فهي مستفيضة معروفة .
---------------
وقال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } [الأنعام/83-90]
وَتِلْكَ هِيَ حُجَّةُ اللهِ الدَّامِغَةُ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ ، أَرْشَدَ إِلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لِيُوجِّهُهَا إلَى قَوْمِهِ ، وَهُمْ يُجَادِلُونَهُ فِي رَبِّهِ ، وَاللهُ يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، دَرَجَاتٍ فِي الدِّينِ وَالفَهْمِ وَالحُجَّةِ ، وَإنَّ رَبَّكَ اللهَ الذِي رَبَّاكَ وَعَلَّمَكَ وَهَدَاكَ يَا مُحَمَّدُ ، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ الرُّسُلِ ، حَكِيمٌ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَهْتَدِي بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ، وَبِمَنْ يَضِلُّ ، وَبِمَنْ قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِ .
يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ وَهَبَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ بَعْدَ أَنْ شَاخَ وَطَعَنَ فِي السِّنِّ ، وَبَشَّرَتْهُ المَلاَئِكَةُ بِأنَّ ابْنَهُ إِسْحَاقَ سَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ يَعْقُوبُ ، فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ .
وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ هَدَى كُلاًّ مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِمَا آتَاهُمَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالحِكْمَةِ ، وَإِنَّهُ تَعَالَى هَدَى مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ : ( أَوْ مِنْ ذُرِّيَةِ إَبْرَاهِيمَ - وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ ) : دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَيُوسُفَ وَأَيُّوبَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَآتَاهُمُ الحُكْمَ وَالنَّبُوَّةَ ، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ المُحْسِنِينَ فَيَهْدِيهِمْ إلَى الحَقِّ وَالصَّوَابِ وَالإِيمَانِ .
وَهَدَى اللهُ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ أَيْضاً : زَكَرِيّا وَابْنَهُ يَحْيِى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَإِلْيَاسَ ، وَقَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ جَمِيعاً مِنَ الصَّالِحِينَ . وَكَانَتْ لِهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ مِيزَةُ الزُّهْدِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَلَذَّاتِها ، وَزِينَتِهَا ، لِذَلِكَ خَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ .
وَمِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ ، مِمَّنْ هَدَاهُمُ اللهُ ، يَذْكُرُ تَعَالَى : إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ ، وَاليَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوْطاً فَهَدَاهُمْ ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّة ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُهْتَدِينَ ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى العَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ .
وَهَدَى اللهُ بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ - لاَ كُلّهُمْ إذْ إِنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ الأَقْرَبِينَ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدِي أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، كَآزَرَ أَبِي إِبْرَاهِيم ، وَابْنِ نُوحٍ وَزَوْجَةِ لُوطٍ - . وَيَقُولُ تَعَالَى إنَّهُ اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَهَدَاهُمُ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ .
وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ أَحَداً ، لَهَلَكَ عَمَلُهُمْ ، وَلَضَاعَ أَجْرُ أَعَمْالِ الخَيْرِ التِي عَمَلُوهَا ، ( وَهَذا تَشْدِيدٌ لأَمْرِ الشِّرْكِ ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ ) .
أُولَئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ ، بِأنْ آتَاهُمُ الكِتَابَ ( صُحُفَ إِبْرَاهِيم ، وَتَوْرَاةِ مُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى ) كَمَا آتَاهُمُ العِلْمَ وَالفِقْهَ فِي الدِّينِ ( الحُكْمَ ) ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّةَ لِيَهْدُوا النَّاسَ إلى اللهِ ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ ، وَلَطْفٌ مِنْهٌ بِخَلْقِهِ ، فَإنْ يَكْفُرْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ فِي الأَرْضِ مِنَ البَشَرِ ( هَؤلاءِ ) بِالكِتَابِ وَالحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِرِعَايَتِهَا قَوماً مُؤْمِنِينَ ، لاَ يَجْحَدُونَ مِنْهَا شَيْئاً ، وَلاَ يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفاً . ( وَهُمُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَاُر وَالمُؤْمِنُونَ - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا المَقْطَعِ مِنَ الآيَةِ ) .
وَهَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ، الذِينَ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ ، وَالذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ آتَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، هُمُ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ هِدَايَةً كَامِلَةً ، فَاهْتَدِ ، يَا مُحَمَّدُ ، بِهُدَاهُمْ ، وَاقْتَدِ بِهِمْ ، فِي الأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ ، وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ ، وَالعَفْوِ عَنْهُم ، وَقُلْ لِقَوْمِكَ إنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً عَلَى إِبْلاغِ رِسَالَةِ رَبِّي إلَيْكُمْ ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيَّ مِنَ القُرْآنِ ، فَهَذَا القُرْآنُ هُوَ تَذْكِيرٌ ( ذِكْرَى ) لِلْعَالَمِينَ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ فَيَرْشُدُونَ مِنَ الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلَةِ .
(1/57)
ولقد كانت هذه هي الحجة التي ألهمها الله إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه . ولقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه . . وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله؛ ولا أنه هو صاحب القوة والسلطان في الكون ، ولكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة . فلما واجههم إبراهيم ، بأن من كان يخلص نفسه لله لا يخاف من دونه ، فأما من يشرك بالله فهو أحق بالمخافة . . لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها الله له وألهمه إياها ، سقطت حجتهم ، وعلت حجته ، وارتفع إبراهيم على قومه عقيدة وحجة ومنزلة . . وهكذا يرفع الله من يشاء درجات . متصرفاً في هذا بحكمته وعلمه : { إن ربك حكيم عليم } . .وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا القرآن يتنزل عليهم غضاً؛ وتشربه نفوسهم؛ وتعيش به وله؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من الخوارق ، في ربع قرن من الزمان : روى ابن جرير - بإسناده - « عن عبدالله بن إدريس ، قال : لما نزلت هذه الآية : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } ، شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس كما تظنون . وإنما هو ما قال لقمان لابنه : { لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم » وروى كذلك - بإسناده - عن ابن المسيب ، أن عمر بن الخطاب قرأ : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } فلما قرأها فزع . فأتى أبيّ بن كعب . فقال : يا أبا المنذر ، قرأت آية من كتاب الله . من يَسلم؟ فقال : ما هي؟ . . فقرأها عليه . . فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال : غفر الله لك! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول : { إن الشرك لظلم عظيم } إنما هو : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك . وروى - بإسناده - عن أبي الأشعر العبدي عن أبيه ، أن زيد بن صوحان سأل سلمان ، فقال : يا أبا عبدالله ، آية من كتاب الله قد بلغت مني كل مبلغ : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } ! فقال سلمان : هو الشرك بالله تعالى ذكره . فقال زيد : ما يسرني بها أني لم أسمعها منك ، وأن لي مثل كل شيء أمسيت أملكه .
فهذه الآثار الثلاثة تصور لنا كيف كان حس هذا الرهط الكريم بهذا القرآن الكريم . كيف كانت جدية وقعه في نفوسهم . كيف كانوا يتلقونه وهم يشعرون أنه أوامر مباشرة للتنفيذ وتقريرات حاسمة للطاعة ، وأحكام نهائية للنفاذ . وكيف كانوا يفزعون حين يظنون أن هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة ومستوى التكليف المطلوب . وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأي درجة من درجات التقصير ، والتفاوت بين عملهم وبين مستوى التكليف . حتى يأتيهم من الله ورسوله التيسير .
إنه مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد هذه النفوس التي حملت هذا الدين . . وكانت ستاراً لقدر الله؛ ومنفذاً لمشيئته في واقع الحياة . .بعد ذلك يعرض السياق موكب الإيمان الجليل ، يقوده ذلك الرهط الكريم من الرسل : من نوح إلى إبراهيم إلى خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - يعرض السياق هذا الموكب ممتداً موصولاً - وبخاصة منذ إبراهيم وبنيه من النبيين - ولا يراعي التسلسل التاريخي في هذا العرض - كما يلاحظ في مواضع أخرى - لأن المقصود هنا هو الموكب بجملته ، لا تسلسله التاريخي : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب - كلاً هدينا - ونوحاً هدينا من قبل - ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون .
. وكذلك نجزى المحسنين . . وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس . . كل من الصالحين . وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا . . وكلاً فضلنا على العالمين . . ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم . . واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم . . ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون . أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين . أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتده ، قل : لا أسألكم عليه أجراً . إن هو إلا ذكرى للعالمين } . .وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبياً رسولاً - غير نوح وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين من { آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } . . والتعقيبات على هذا الموكب : { وكذلك نجزي المحسنين } . . { وكلاً فضلنا على العالمين } . . { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } . . وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله ، وهدايته إلى الطريق المستقيم .وذكر هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد للتقريرات التي تليه:{ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}
وهذا تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض . فهدى الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل . وينحصر المستيقن منه ، والذي يجب اتباعه ، في هذا المصدر الواحد ، الذي يقرر الله - سبحانه - أنه هو هدى الله؛ وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده . . ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله ، وتوحيد المصدر الذي يستمدون منه هداه ، وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي ، فإن مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم : أي ان يذهب ضياعاً ، ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً فتنتفخ ثم تموت . . وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط!
{ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } . .وهذا هو التقرير الثاني . . فقرر في الأول مصدر الهدى ، وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل . وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم ، هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة - « والحكم » يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك - وكلا المعنيين محتمل في الآية . فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى ، والزبور مع داود ، والإنجيل مع عيسى . وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان - وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله ، وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور .فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا ، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط ، كما جاء في الآيات الأخرى . وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة . . وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه ، يحملونه إلى الناس ، ويقومون عليه ، ويؤمنون به ويحفظونه . . فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب : { هؤلاء } فإن دين الله غني عنهم؛ وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين! . . إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها ، وموكب موصول تماسكت حلقاته؛ ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول؛ وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية؛ بما يعلمه من استحقاقه للهداية! . . وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن ، وفي قلوب العصبة المسلمة - أياً كان عددها - إن هذه العصبة ليست وحدها . ليست مقطوعة من شجرة! إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وحلقة في موكب جليل موصول ، موصولة أسبابه بالله وهداه . . إن المؤمن الفرد ، في أي أرض وفي أي جيل ، قوي قوي ، وكبير كبير ، إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الإنساني ، وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور .{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل : لا أسألكم عليه أجراً . إن هو إلا ذكرى للعالمين } . .وهو التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان ، هم الذين هداهم الله . وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به . فهذا الهدى وحده هو الذي يسير عليه . وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه ، وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به . . قائلاً لمن يدعوهم : { لا أسألكم عليه أجراً } . . { إن هو إلا ذكرى للعالمين } . . للعالمين . . لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد . . إنه هدى الله لتذكير البشر كافة . ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه . وإنما أجره على الله!
ـــــــــــ
الرسل لا يخشون أحدا في تبليع الرسالة إلا الله
قال تعالى : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) [الأحزاب/38-39]
لَيْسَ عَلى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أَوْ غَضَاضَةٍ فِيما أَحَلَّ اللهُ لَهُ ، وَأَمَرَهُ بهِ ( فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ ) ، مِنْ زَوَاجِ زَيْنَبِ مُطَلَّقَةِ مُتَبَنَّاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، وَهذا حُكْمُ اللهِ في الأَنبياءِ قبْلَهُ فَقَدْ أَبَاحَ لَهُمْ الزَّوْجَاتِ والسَّرَارِي ، وَكَانَ لِسُلِيمَانَ وَدَاوُدَ وغيرِهِمَا مِنَ الأَنبياءِ كَثِيراتٌ مِنْهُنَّ .وَمَا يُقَدِّرُهُ اللهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ سَيَقَعُ لا مَحَالَةَ ، وَلاَ رَادَّ لَهُ . وَفِي هذِهِ الآيةِ رَدٌّ عَلَى اليَهُودِ الذِينَ عَابُوا عَلَى الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - كَثْرَةَ أَزْوَاجِهِ .
يَصِفُ اللهُ تَعَالى الأَنبياءُ الكِرَام الذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبلِ مُحَمَّدٍ ، بِأَنذَهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِإِبَلاغِ رِسَالاتِ رَبِّهِمْ إِلى مَنْ أَرْسَلَهُمُ اللهُ إِليهِمْ ، وَلا يَتَرَدَّدُونَ فِي ذَلِكَ مَهْمَا كَانَ الحُكْمُ الذِي يُرِيدُونَ تَبلِيغَه ثَقِيلاً عَلَى نُفُوسِهِمْ . وَيَخَافُونَ الله فِي تَرْكِهِمْ تَبليغَ الرِّسَالاَتِ ، وَلا يَخَافُونَ أَحَداً سِوَاهُ ، وَكَفى بِاللهِ مُعِيناً وَنَاصِراً وَحَافِظاً لأَعْمَالِ العِبَادِ ، وَمُحَاسِباً عَلَيها .
{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله } . .فقد فرض له أن يتزوج زينب ، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء . وإذن فلا حرج في هذا الأمر ، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بدعاً من الرسل
{ سنة الله في الذين خلوا من قبل } . .فهو أمر يمضي وفق سنة الله التي لا تتبدل . والتي تتعلق بحقائق الأشياء ، لا بما يحوطها من تصورات وتقاليد مصطنعة لا تقوم على أساس .
{ وكان أمر الله قدراً مقدورا } . .فهو نافذ مفعول ، لا يقف في وجهه شيء ولا أحد . وهو مقدر بحكمة وخبرة ووزن ، منظور فيه إلى الغاية التي يريدها الله منه . ويعلم ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها . وقد أمر الله رسوله أن يبطل تلك العادة ويمحو آثارها عملياً ، ويقرر بنفسه السابقة الواقعية . ولم يكن بد من نفاذ أمر الله .
وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل : { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله } . .
فلا يحسبون للخلق حساباً فيما يكلفهم الله به من أمور الرسالة ، ولا يخشون أحداً إلا الله الذي أرسلهم للتبليغ والعمل والتنفيذ .{ وكفى بالله حسيباً } . . فهو وحده الذي يحاسبهم ، وليس للناس عليهم من حساب .
ـــــــــــــ
(1/58)
اتهام الرسل بالسحر والجنون
قال تعالى : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) [الذاريات/52، 53]
يُسَلِّي اللهُ تَعَالى رَسُولَهُ الكَرِيمَ - صلى الله عليه وسلم - وَيُعْلِمُهُ أنَّ مَا قَالَه هؤُلاءِ المُشْرِكُونَ المُكَذِبُونَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، وَهُوَ سَاحِرٌ . . أوْ مَجْنُونٌ ، سَبَقَ أنْ قَالَهُ المُكَذِّبُونَ مِنَ الأمَمِ الأخْرى الخَالِيَةِ لِرُسُلِهِمْ ، فَصَبُروا عَلَى إِيذاءِ أقوامِهِمْ ، حَتَّى جَاءَ نَصْرُ اللهِ .أأوْصَى بَعْضُهُم بَعْضاً بِهَذا القَوْلِ ، فَتَنَاقَلَهُ الخَلَفُ عَن السَّلَفِ حَتَّى قَالَهُ المُكَذِّبُونَ مِنْ قَومكَ؟ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ طُغَاةٌ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ وَتَلاَقَتْ في الطَّعْنِ عَلَى الرُّسُلِ ، فَقال مُتَأخِّرُهُمْ كَمَا قَالَ مُتَقَدِّمُهُمْ .
فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين؛ وهو استقبال واحد للحق والرسل يستقبلهم به المنحرفون : { كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا : ساحر أو مجنون } . . كما يقول هؤلاء المشركون! كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون! وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين!
والنتيجة الطبيعية التي تترتب على هذا الموقف المكرور ، الذي كأنما تواصى به الطاغون على مدار القرون ، ألا يحفل الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكذيب المشركين . فهو غير ملوم على ضلالهم ، ولا مقصر في هدايتهم : { فتول عنهم فمآ أنت بملوم } . . إنما هو مذكر ، فعليه أن يذكر ، وأن يمضي في التذكير ، مهما أعرض المعرضون وكذب المكذبون : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } . . ولا تنفع غيرهم من الجاحدين . والتذكير هو وظيفة الرسل . والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة ، والأمر فيهما إلى الله وحده . الذي خلق الناس لأمر يريده .
---------------
وقال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) [الصف/6]
وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ : إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِليْهِمْ ، وَإِنَّهُ مُصَدِّقٌ بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُتُبِ اللهِ وَأَنْبِيَائِهِ جَمِيعاً ، وَإِنَّهُ جَاءَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي بَعْدهُ اسْمُهُ أَحْمَدُ ، وَدَاعِياً إِلَى التَّصْدِيقِ بِهَذَا الرَّسُولِ . فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَحْمَدُ المُبَشَّرُ بِهِ بِالأَدْلةِ الوَاضِحَةِ ، وَالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَةِ كَذَّبُوهُ ، وَقَالُوا عَمَّا جَاءَهُمْ : إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ .
( وَقَدْ جَاءَ فِي الفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ السَّفْرِ الخَامِسِ مِنَ التَّورَاةِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي : ( يَا مُوسَى إِنِّي سَأُقِيمُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيّاًَ مِنَ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ أَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَا آمُرُهُ بِهِ ، وَالذِي لاَ يَقْبَلُ ذَلِكَ النَّبِيَّ الذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِي ، أَنَا أَنْتَقِمُ مِنْهُ وَمِنْ سِبْطِهِ ) .
وَجَاءَ فِي الإِصْحَاحِ 21 مِنْ سِفَرِ أَشْعِيا بِشَارَةٌ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي :
" وَحْيٌ مِنْ جِهَةَ بِلاَدِ العَرَبِ : فِي الوَعْرِ مِنْ بِلاَدِ العَرَبِ تَبَيتينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ . هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ العَطْشَانِ يَا سَكَّانَ أَرْضِ تِيمَاءَ وَافُوا الهَارِبَ بِخُبْزِهِ . فإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا ، مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ المَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ القَوْسِ المَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الحَرْبِ . فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارٍ وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارٍ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ " ." وَهَذِهِ النُّبُوءَةُ إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى هِجْرَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ إِلَى يَثْرِبَ ، بَعْدَ أَنْ تَزَايَدَ إِيذَاءُ قُرَيشٍ لَهُ وَلِلمُسْلِمِينَ . ثُمَّ إِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى نَصْرِ رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ عَلَى قُرَيشٍ أَحْفَادِ عَدْنَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ( وَعَدْنَانُ هُوَ قِيدَارُ ) وَتَحْطِيمِ جَبُرُوتِ قُرَيشٍ وَسُلْطَانِهَا بِقْتَلِ كُبَرَائِهَا ، وَأَسْرِ أَعْدَادٍ مِنْهُمْ ، وَقَدْ جَرَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ بَعْدَ عَامٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ إِلَى يَثْرِبَ ،وَجَاءَتِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ فِي الإِنْجِيلِ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي : ( قَالَ يَسُوعُ : إِنَّ الفَارْقَليط رُوحَ الحَقِّ الذِي يُرْسِلُهُ أَبِي يَعْلِّمُكُمْ كُلَّ شَيءٍ ) ( إِنْجِيلُ يُوحَنَّا - الفَصْلُ 15 - وَالفَارْقَلِيط لَفْظٌ يَعْنِي الحَمْدَ ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالحَامِدِ وَالحَمَّادِ ) .
{ يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم } . .فلم يقل لهم : إنه الله ، ولا إنه ابن الله ، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله .{ مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } . .في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة ، يسلم بعضها إلى بعض ، وهي متماسكة في حقيقتها ، واحدة في اتجاهها ، ممتدة من السماء إلى الأرض ، حلقة بعد حلقة في السلسة الطويلة المتصلة . . وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه . فهو منهج واحد في أصله ، متعدد في صوره ، وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها ، ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري ، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملة شاملة ، تخاطب العقل الراشد ، في ضوء تلك التجارب ، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده ، داخل نطاق المنهج المرسوم للإنسان في جملته ، المتفق مع طاقاته واستعداداته .وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص ، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها . فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن .وقد قرئ القرآن على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه : { النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام بهذه الحقيقة ، التي كانوا يتواصون بتكتمها!
كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه ، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في الجزيرة العربية . ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم . فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم ، كرهوا هذا وحاربوه!
وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار . وهو القول الأخير . .
ويبدو أن الآيات التالية في السورة جاءت على الأكثر بصدد استقبال بني إسرائيل اليهود والنصارى للنبي الذي بشرت به كتبهم . والتنديد بهذا الاستقبال ، وكيدهم للدين الجديد الذي قدر الله أن يظهره على الدين كله ، وأن يكون هو الدين الأخير!
ولقد وقف بنو إسرائيل في وجه الدين الجديد وقفة العداء والكيد والتضليل ، وحاربوه شتى الوسائل والطرق حرباً شعواء لم تضع أوزارها حتى اليوم . حاربوه بالاتهام : { فلما جاءهم بالبينات قالوا : هذا سحر مبين } . . كما قال الذين لا يعرفون الكتب ولا يعرفون البشارة بالدين الجديد . وحاربوه بالدس والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي ، للإيقاع بين المهاجرين والأنصار في المدينة ، وبين الأوس والخزرج من الأنصار . وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة .
وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين كما وقع في غزوة الأحزاب . وحاربوه بالإشاعات الباطلة كما جرى في حديث الإفك على يد عبد الله بن أبي سلول ، ثم ما جرى في فتنة عثمان على يد عدو الله عبد الله بن سبأ . وحاربوه بالأكاذيب والإسرائيليات التي دسوها في الحديث وفي السيرة وفي التفسير حين عجزوا عن الوضع والكذب في القرآن الكريم .ولم تضع الحرب أوزارها لحظة واحدة حتى اللحظة الحاضرة . فقد دأبت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الكيد للإسلام ، وظلتا تغيران عليه أو تؤلبان عليه في غير وناة ولا هدنة في جيل من الأجيال . حاربوه في الحروب الصليبية في المشرق ، وحاربوه في الأندلس في المغرب ، وحاربوه في الوسط في دولة الخلافة الأخيرة حرباً شعواء حتى مزقوها وقسموا تركة ما كانوا يسمونه « الرجل الأبيض » . . واحتاجوا أن يخلقوا أبطالاً مزيفين في أرض الإسلام يعملون لهم في تنفيذ أحقادهم ومكايدهم ضد الإسلام . فلما أرادوا تحطيم « الخلافة » والإجهاز على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي صنعوا في تركيا « بطلاً »! . . ونفخوا فيه . وتراجعت جيوش الحلفاء التي كانت تحتل الأستانة أمامه لتحقق منه بطلاً في أعين مواطنيه . بطلاً يستطيع إلغاء الخلافة ، وإلغاء اللغة العربية ، وفصل تركيا عن المسلمين ، وإعلانها دولة مدنية لا علاقة لها بالدين! وهم يكررون صنع هذه البطولات المزيفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام والحركات الإسلامية في بلد من بلاد المسلمين ، ليقيموا مكانه عصبية غير عصبية الدين! وراية غير راية الدين .
ـــــــــــــ
(1/59)
المنافقون يرفضون الاعتذار واستغفار الرسول لهم
قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) [المنافقون/5، 6]
وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ تَعَالَوا إِلَى رَسُولِ اللهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَكُمْ عَمَّا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ ذُنُوبٍ وَآثَامٍ وَنِفَاقٍ أَمَالُوا رُؤُسَهُمْ ، وَأَعْرَضُوا اسْتِكْبَاراًَ وَأَنَفَةً أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ .
( رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ وَالَّلوَاتِي تَلِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزَا بَنِي المُصْطَلِقِ ، فَازْدَحَمَ عَلَى المَاءِ أَجِيرٌ لِعُمَرَ بِنِ الخَطَّّّابِ وَرَجُلٌ مِنْ حُلَفَاءِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، وَاقْتَتَلاَ فَنَادَى أَجِيرُ عُمَرَ يَا لِلمْهَاجِرِينَ . وَصَاحَ الآخَرُ يَا لِلأَنْصَارِ ، فَتَصَايِحَ القَوْمُ ، وَقَالَ عَبْدُ اللهُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولِ لِمَنْ حَوْلَهُ : مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ المُهَاجِرِينَ إِلاَّ كَمَا قَالَ القَائِلُ : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ ، إِنَّا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعْزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ . وَقَالَ لأَصْحَابِهِ هَذَا مَا صَنَعْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُ بِلاَدَكُمْ ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ ، أَمَّا وَاللهِ لَوْ كَفَفْتُمْ عَنْهُمْ لَتَحَوَّلُوا عَنْكُمْ مِنْ بِلاَدِكُمْ إِلَى غَيْرِهَا .
وَنَقَلَ الحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَلاَمٌ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، فَاقْتَرَحَ عَمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْمَحَ لَهُ بِضَرْبِ عُنُقِ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، فَرَفَضَ الرَّسُولُ ذَلِكَ الاقْتِرَاحَ . واسْتَدْعَى الرَّسُولُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ وَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَ ، فَأَنْكَرَ وَحَلَفَ إِنَّ الغُلاَمَ لَكَاذِبٌ . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ : يَا غُلاَمُ صَدَّقَكَ اللهُ ، وَكَذَّبَ المُنَافِقِينَ .
وَلَمَّا بَانَ كَذِبُ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، قِيلَ لَهُ نَزَلَتْ فِيكَ آيٌ شِدَادٌ فَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللهِ يَسْتَغْفِرْ لَكَ ، فَلَوَى رَأْسَهُ وَقَالَ : أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُوْمِنَ فآمَنْتُ ، وَأَمْرَتُمُونِي أَنْ أُزَكِّي فَزَكَّيْتُ ، وَمَا بَقِيَ إِلاَّ أَنْ أَسْجُدَ لِمُحَمَّدٍ ، وَبَعْدَ أَيَّامِ قَلِيلَةٍ اشْتَكَي هَذَا المُنَافِقُ مَرَضاً وَمَاتْ ) .
وَسَوَاءٌ اسْتَغْفَرْتَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَهُمْ وَآثَامَهُمْ ، لأَنَّ اللهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمِ الشَّقَاءَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الفِسْقِ ، وَمَا رَانَ عَلَى قٌلقوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ .
فهم يفعلون الفعلة ، ويطلقون القولة . فإذا عرفوا أنها بلغت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالأَيمان يتخذونها جنة . فإذا قال لهم قائل : تعالوا يستغفر لكم رسول الله ، وهم في أمن من مواجهته ، لووا رؤوسهم ترفعاً واستكباراً! وهذه وتلك سمتان متلازمتان في النفس المنافقة . وإن كان هذا التصرف يجيء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومقام . ولكنهم هم في ذوات أنفسهم أضعف من المواجهة؛ فهم يستكبرون ويصدون ويلوون رؤوسهم ما داموا في أمان من المواجهة . حتى إذا ووجهوا كان الجبن والتخاذل والأيمان!
ـــــــــــــ
(1/60)
حاجة البشرية إلى رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى :{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) [البينة/1-7]
جاءت هذه الرسالة في إبانها ، وجاء هذا الرسول في وقته ، وجاءت هذه الصحف وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها حدثاً لا تصلح الأرض إلا به . فأما كيف كانت الأرض في حاجة إلى هذه الرسالة وإلى هذا الرسول فنكتفي في بيانه باقتطاف لمحات كاشفة من الكتاب القيم كتبه الرجل المسلم « السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي » بعنوان : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » . . وهو أوضح وأخصر ما قرأناه في موضوعه :
جاء في الفصل الأول من الباب الأول :
كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف . فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون . وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها . وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ، فنسي نفسه ومصيره ، وفقد رشده ، وقوة التمييز بين الخير والشر ، والحسن والقبيح . وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن ، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدها ، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب ، فضلاً عن البيوت ، فضلاً عن البلاد . وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فراراً بدينهم من الفتن ، وضناً بأنفسهم ، أو رغبة إلى الدعة والسكون ، فراراً من تكاليف الحياة وجدها ، أو فشلاً في كفاح الدين والسياسة ، والروح والمادة؛ ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم ، وأكل أموال الناس بالباطل . .
« أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين؛ ولعبة المجرمين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها؛ وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة ، ولا للأمم دعوة ، وأفلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي ، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري » . .
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية والديانات قبيل البعثة المحمدية . وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى ..
من ذلك قوله عن اليهود والنصارى : { وقالت اليهود عزير ابن الله . وقالت النصارى المسيح ابن الله } { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } وقوله عن اليهود : { وقالت اليهود : يد الله مغلولة . غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } وقوله عن النصارى : { لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } وقوله عن المشركين : { قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . ولا أنا عابد ما عبدتم؛ ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين } وغيرهما كثير . .
وكان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشر والانحطاط والشقاق والخراب الذي عم أرجاء الأرض . . « وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج ، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة ، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة ، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء » .
ومن ثم اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة . وما كان الذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين . .
ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد . إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } . .
وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام فقد انقسموا شعباً وأحزاباً . مع أن رسولهم هو موسى عليه السلام وكتابهم هو التوراة . فكانوا طوائف خمسة رئيسية هي طوائف الصدوقيين ، والفريسيين ، والآسيين ، والغلاة ، والسامريين . . ولكل طائفة سمة واتجاه . ثم كان التفرق بين اليهود والنصارى ، مع أن المسيح عليه السلام هو أحد أنبياء بني إسرائيل وآخرهم ، وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، ومع هذا فقد بلغ الخلاف والشقاق بين اليهود والمسيحيين حد العداء العنيف والحقد الذميم . وحفظ التاريخ من المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان .
« وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم ( أي اليهود ) إلى المسيحيين وبغض المسيحيين إليهم ، وشوه سمعتهم . ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس ( 610م ) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية ، فأرسل الأمبراطور قائده » ابنوسوس « ليقضي على ثورتهم ، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة ، فقتل الناس جميعاً قتلاً بالسيف ، وشنقاً ، وإغراقاً ، وإحراقاً ، وتعذيباً ، ورمياً للوحوش الكاسرة .
. وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة ، قال المقريزي في كتاب الخطط : « وفي أيام ( فوقا ) ملك الروم ، بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس ، وفلسطين وعامة بلاد الشام ، وقتلوا النصارى بأجمعهم ، وأتوا إلى مصر في طلبهم ، وقتلوا منهم أمة كبيرة ، وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر . وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم؛ وأقبلوا نحو الفرس من طبرية ، وجبل الجليل ، وقرية الناصرة ومدينة صور ، وبلاد القدس؛ فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم ، وخربوا لهم كنيستين بالقدس ، وأحرقوا أماكنهم ، وأخذوا قطعة من عود الصليب ، وأسروا بطرك القدس وكثيراً من أصحابه . إلى أن قال بعد أن ذكر فتح القدس :
» فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور ، وأرسلوا بقيتهم في بلادهم ، وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم ، فكانت بينهم حرب ، اجتمع فيها من اليهود نحو 20 ألفاً وهدموا كنائس النصارى خارج صور . فقوّس النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة ، وقتل منهم كثير . وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية ، وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنه ، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ، ويجدد ما خربه الفرس ، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها ، وقدموا لها الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمنهم منه ويحلف لهم على ذلك ، فأمنهم وحلف لهم . ثم دخل القدس ، وقد تلقاهم النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة ، فوجد المدينة وكنائسها خراباً ، فساءه ذلك ، وتوجع لهم ، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس ، وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس ، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس ، وقاموا قياماً كبيراً في قتلهم عن آخرهم ، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم ، وحسنوا له ذلك . فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه ، فأفتاه رهبانهم وبطارقتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم ، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم ، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على مر الزمان والدهور! فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها ، حتى لم يبق في مماليك الروم والشام إلا من فر واختفى . .
« وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان : اليهود والنصارى ، من القسوة والضراوة بالدم الإنساني ، وتحين الفرص للنكاية في العدو ، وعدم مراعاة الحدود في ذلك » .
ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم ، مع أن كتابهم واحد ونبيهم واحد . تفرقوا واختلفوا أولاً في العقيدة . ثم تفرقوا واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقابلة . وقد دارت الخلافات حول طبيعة المسيح عليه السلام وعما إذا كانت لاهوتية أو ناسوتية .وطبيعة أمه مريم . وطبيعة الثالوث الذي يتألف منه « الله » في زعمهم وحكى القرآن قولين منها أو ثلاثة في قوله : { لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ } « وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية ، وبين نصارى مصر . أو بين » الملكانية « ، » المنوفوسية « بلفظ أصح . فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح ، وكان المنوفوسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الإلاهية . التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع ، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين ، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى . . كل طائفة تقول للأخرى : إنها ليست على شيء .
» وحاول الإمبراطور هرقل ( 610 641 ) بعد انتصاره على الفرس ( سنة 638 ) جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وتقررت صورة التوفيق أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح ، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان ، ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك ، وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة ، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية . وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة ، متوسلاً إلى ذلك بكل الوسائل . ولكن القبط نابذوه العداء ، وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف! وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة . وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة . وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل فأرجأ القول فيه ، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراته . وجعل ذلك رسالة رسمية ، ذهب بها إلى جميع جهات العالم الشرقي . ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ، ووقع اضطهاد فظيع على يد قيصر في مصر استمر عشر سنين ، ووقع في خلالها ما تقشعر منه الجلود ، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون غرقاً ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض ويوضع السجين في كيس مملوء بالرمل ويرمى في البحر . إلى غير ذلك من الفظائع « .
وكان هذا الخلاف كله بين أهل الكتاب جميعاً { من بعد ما جاءتهم البينة } . . فلم يكن ينقصهم العلم والبيان؛ إنما كان يجرفهم الهوى والانحراف .
على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق :
عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة : { وذلك دين القيمة } .
. عقيدة خالصة في الضمير ، وعبادة لله ، تترجم عن هذه العقيدة ، وإنفاق للمال في سبيل الله ، وهو الزكاة . . فمن حقق هذه القواعد ، فقد حقق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب ، وكما هو في دين الله على الإطلاق . دين واحد . وعقيدة واحدة ، تتوالى بها الرسالات ، ويتوافى عليها الرسل . . دين لا غموض فيه ولا تعقيد . وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف ، وهي بهذه النصاعة ، وبهذه البساطة ، وبهذا التيسير . فأين هذا من تلك التصورات المعقدة ، وذلك الجدل الكثير؟
فأما وقد جاءتهم البينة من قبل في دياناتهم على أيدي رسلهم؛ ثم جاءتهم البينة ، حية في صورة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة؛ ويقدم لهم عقيدة ، واضحة بسيطة ميسرة ، فقد تبين الطريق . ووضح مصير الذين يكفرون والذين يؤمنون :
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . رضى الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه } . .
إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الرسول الأخير؛ وإن الإسلام الذي جاء به هو الرسالة الأخيرة . وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض لترد الناس إلى الصلاح . وكانت هناك فرصة بعد فرصة ومهلة بعد مهلة ، لمن ينحرفون عن الطريق فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة الشاملة الكاملة ، فقد تحددت الفرصة الأخيرة ، فإما إيمان فنجاة ، وإما كفر فهلاك . ذلك أن الكفر حينئذ دلالة على الشر الذي لا حد له ، وأن الإيمان دلالة على الخير البالغ أمده .
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية } حكم قاطع لا جدال فيه ولا محال . مهما يكن من صلاح بعض أعمالهم وآدابهم ونظمهم ما دامت تقوم على غير إيمان ، بهذه الرسالة الأخيرة ، وبهذا الرسول الأخير . لا نستريب في هذا الحكم لأي مظهر مظاهر الصلاح ، المقطوعة الاتصال بمنهج الله الثابت القويم .
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك هم خير البرية } .حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا محال . ولكن شرطه كذلك واضح لا غموض فيه ولا احتيال . إنه الإيمان . لا مجرد مولد في أرض تدعى الإسلام ، أو في بيت يقول : إنه من المسلمين . ولا بمجرد كلمات يتشدق بها الإنسان! إنه الإيمان الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة : { وعملوا الصالحات } . وليس هو الكلام الذي لا يتعدى الشفاه! والصالحات هي كل ما أمر الله بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل .
وفي أولها إقامة شريعة الله في الأرض ، والحكم بين الناس بما شرع الله . فمن كانوا كذلك فهم خير البرية .
{ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } . .
جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات . والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض . . كما يمثله جريان الأنهار من تحتها ، وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال!
ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم :{ رضي الله عنهم ورضوا عنه } . .هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم . . وهذا الرضا في نفوسهم عن ربهم . الرضا عن قدره فيهم . والرضا عن إنعامه عليهم . والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم . الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق . .
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته . . { رضي الله عنهم ورضوا عنه } حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال!
{ ذلك لمن خشي ربه } .وذلك هو التوكيد الأخير . التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله ، ونوع هذه الصلة ، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح ، وتنهى عن انحراف . . الشعور الذي يزيح الحواجز ، ويرفع الأستار ، ويقف القلب عارياً أمام الواحد القهار . والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره . فالذي يخشى ربه حقاً لا يملك أن يُخطر في قلبه ظلاً لغيره من خلقه . وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك . فإما عمل خالص له ، وإلا لم يقبله .
ـــــــــــــ
(1/61)
من صفات كتب الرسل
قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) [البينة/1-3]
لَمْ يَكُنِ الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ ، وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى - أَهْلِ الكِتَابِ - وَمِنَ المُشْرِكِينَ ، بِمُفَارِقِينَ كَفْرَهُمْ ، وَمَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ ، وَلاَ مُتَخَلِّينَ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الغَفْلَةِ عَنِ الحَقِّ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمْ بِيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى .
وَهَذِهِ البَيِّنَةُ التِي يَنْتَظِرُونَ إِرْسَالَهَا إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ ، هِيَ بَعْثُ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ ، يَأْتِيهِمْ بِقُرْآنٍ مُطَهَّرٍ مُنَزَّهٍ عَنِ التَّشْوِيهِ ، وَالتَّحْرِيفِ ، وَيَتَضَمَّنُ كُتُبَ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ التِي تَنْطِقُ بِالحَقِّ ، كَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى . وَالبَيِّنَةُ التِي يَنْتَظِرُونَ إِرْسَالَهَا إِلَيْهِمْ هِيَ صُحُفٌ مُطَهَّرَةٌ فِيهَا أَحْكَامُ مُسْتَقِيمَةٌ نَاطِقَةٌ بِالحَقِّ وَالصَّوَابِ . ( وَقِيلَ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ المَقْصُودُ بِالكُتُبِ الوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ سُوَرُ القُرْآنِ وَآيَاتُهُ ، أَوِ الأَحْكَامُ وَالشَّرَائِعُ التِي تَضَمَّنَتْهَا ) .
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة . كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديد ، وحركة جديدة . وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعاً سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها ، أو المشركين في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء .
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة : { رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة } . . مطهرة من الشرك والكفر { فيها كتب قيمة } . . والكتاب يطلق على الموضوع ، كما يقال كتاب الطهارة وكتاب الصلاة ، وكتاب القدر ، وكتاب القيامة ، وهذه الصحف المطهرة وهي هذا القرآن فيها كتب قيمة أي موضوعات وحقائق قيمة . .
ـــــــــــــ
(1/62)
الرسول يصاب بالبأساء والضراء
قال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) [البقرة/214]
يُخَاطِبَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ هَدَاهُمْ إِلى السِّلْمِ ، وَإِلَى الخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَةِ الاخْتِلاَفِ ، إِلى نُورِ الوِفَاقِ ، بِاتِّبَاعِهِمْ هُدَى الكِتَابِ زَمَنَ التَّنْزيلِ ، الذِينَ يَظُنُّونَ مِنْهُمْ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ إِلى الإِسْلاَمِ فِيهِ الكِفَايَةُ لِدُخُولِ الجَنَّةِ دُونَ أَنْ يَتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ وَالأَذَى فِي سَبيلِ الحَقِّ ، وَهِدَايَةِ الخَلْقِ ، جَهْلاً مِنْهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الهُدَى مُنْذُ أَنْ خَلَقَهُمْ . فَيَقُولُ لَهُمْ : هَلْ تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ تُبْتَلَوا وَتُخْتَبَرُوا كَمَا فُعِلَ بِالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ ابْتُلُوا بِالفَقْرِ ( البَأَسَاءُ ) ، وَبِالأَسْقَامِ وَالأَمْرَاضِ ( الضَّرَّاءُ ) ، وَخُوِّفُوا وَهُدَّدُوا مِنَ الأَعْدَاءِ ( زُلْزِلُوا ) ، وَامتُحِنُوا امْتِحَاناً عَظِيماً ، وَاشْتَدَّتِ الأُمُورُ بِهِمْ حَتَّى تَسَاءَلَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ قَائِلِينَ : مَتَى يَأْتِي نَصْرُ اللهِ .
وَحِينَما تَثْبُتُ القُلُوبُ عَلَى مِثْلِ هذِهِ المِحَنِ المُزَلْزِلَةِ ، حِينَئِذٍ تَتِمُّ كَلِمَةُ اللهِ ، وَيَجِيءُ نَصْرُهُ الذِي يَدَّخِرُهُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِبَادِهِ الذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ أَنْ لاَ نَصْرَ إِلاَّ نَصْرُ اللهِ
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى ، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ، وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين ، الذين يكل إليهم رايته ، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . . إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله ، والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم : { متى نصر الله؟ } ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف ، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب ، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب : { متى نصر الله؟ } . .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . . عندئذ تتم كلمة الله ، ويجيء النصر من الله : { ألا إن نصر الله قريب } . .إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ، فهم يتطلعون فحسب إلى { نصر الله } ، لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ، مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان ، والصبر والثبات ، والتجرد لله وحده ، والشعور به وحده ، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية ، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم ، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها ، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة ، والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها ، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون ، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . . وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل .هذا هو الطريق : إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .
ـــــــــــــ
(1/63)
بأي شيء آمن الرسول ؟
قال تعالى : { آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) [البقرة/285]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأنَّهُ صَدَّقَ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الوَحْي ، وَآمَنَ بِمَا أَنْزَلَ إِليهِ مِنْ رَبِّهِ . وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَمَامِ حِكْمَتِهِ فِي نِظَامِ خَلِيقَتِهِ ، وَيْؤْمِنُونَ بِوُجُودِ مَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَيُصَدِّقُونَ بِجَميعِ الأَنْبياءِ وَالرُّسُلِ وَالكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالأنبِياءِ ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالأنبياءِ ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ جَمِيعاً صَادِقُونَ ، هَادُونَ إلى سَبيلِ الخَيْرِ ، وَإنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَنْسَخُ شَرِيعَةَ بَعْضٍ بِإذْنِ اللهِ . وَقَالُوا : سَمِعْنَا قَوْلَكَ يَا رَبَّنَا وَفَهِمْنَاهُ ، وَامْتَثَلْنَا لِلْعَملِ بِمُقْتَضَاهُ ، نَسْألُكَ المَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَإليكَ نَحْنُ صَائِرُونَ .
إنها صورة للمؤمنين ، للجماعة المختارة التي تمثلت فيها حقيقة الإيمان فعلاً . ولكل جماعة تتمثل فيها هذه الحقيقة الضخمة . . ومن ثم كرمها الله - سبحانه - وهو يجمعها - في حقيقة الإيمان الرفيعة - مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو تكريم تدرك الجماعة المؤمنة حقيقته؛ لأنها تدرك حقيقة الرسول الكبيرة؛ وتعرف أي مرتقى رفعها الله إليه عنده ، وهو يجمع بينها وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة واحدة ، في آية واحدة ، من كلامه الجليل : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } . .
وإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربه هو إيمان التلقي المباشر . تلقي قلبه النقي للوحي العلي . واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة . الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة؛ وبلا أداة أو واسطة . وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها فلا يصفها إلا من ذاقها ، ولا يدركها من الوصف - على حقيقتها - إلا من ذاقها كذلك! فهذا الإيمان - إيمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم . على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطبيعة الحال وكيان أيٍّ سواه ممن لم يتلق الحقيقة المباشرة من مولاه .
فما هي طبيعة هذا الإيمان وحدوده؟
{ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا : سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا وإليك المصير } . .إنه الإيمان الشامل الذي جاء به هذا الدين . الإيمان الذي يليق بهذه الأمة الوارثة لدين الله ، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة ، الضاربة الجذور في أعماق الزمان ، السائرة في موكب الدعوة وموكب الرسول وموكب الإيمان الممتد في شعاب التاريخ البشري ، الإيمان الذي يتمثل البشرية كلها منذ نشأتها إلى نهايتها صفين اثنين : صف المؤمنين وصف الكافرين .
حزب الله وحزب الشيطان . فليس هنالك صف ثالث على مدار الزمان .
{ كل آمن بالله } . . والإيمان بالله في الإسلام قاعدة التصور . وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة . وقاعدة الخلق وقاعدة الاقتصاد . وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك .
الإيمان بالله معناه إفراده - سبحانه - بالألوهية والربوبية والعبادة . ومن ثم إفراده بالسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة .
ليس هناك شركاء - إذن - في الألوهية أو الربوبية . فلا شريك له في الخلق . ولا شريك له في تصريف الأمور . ولا يتدخل في تصريفه للكون والحياة أحد . ولا يرزق الناس معه أحد . ولا يضر أو ينفع غيره أحد . ولا يتم شيء في هذا الوجود صغيراً كان أو كبيراً إلا ما يأذن به ويرضاه .
وليس هناك شركاء في العبادة يتجه إليهم الناس . لا عبادة الشعائر ولا عبادة الخضوع والدينونة . فلا عبادة إلا لله . ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه ، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه . فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان . ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق ، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد . . من الله . . فهذا هو معنى الإيمان بالله . . ومن ثم ينطلق الإنسان حراً إزاء كل من عدا الله ، طليقاً من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله ، عزيزاً على كل أحد إلا بسلطان من الله .
{ وملائكته } . .والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب ، الذي تحدثنا عن قيمته في حياة الإنسان في مطلع السورة - في الجزء الأول من الظلال - وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن « إنسانيته » بخصائصها المميزة . . ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه ، ولكنه يحس وجودها بفطرته . فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب - كما منحها الله له - اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب .
والإيمان بالملائكة : إيمان بحقيقة غيبية ، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته ، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له . . بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية . ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان - وهو فاطره وهو العليم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه - أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه ، ويعينه على تمثلها - ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها - وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها ، ولا يطمئن باله ولا يقر قراره قبل الحصول عليها! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم ، فينفوا حقائق الغيب من حياتهم ، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة؛ أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات!
وفضلاً على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة - شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله - يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود ، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه - وهو ضئيل - كما أنه يؤنس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله؛ تشاركه إيمانه بربه ، وتستغفر له ، وتكون في عونه على الخير - بإذن الله - وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك .
. ثم هنالك المعرفة : المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته . .{ وكتبه ورسله } . . { لا نفرِّق بين أحد من رسله } . .
والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام . فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله ، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله ، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم ، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم . . ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم . فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم؛ حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين - محمد - صلى الله عليه وسلم - فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد ، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة .وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله؛ وتقوم على دين الله في الأرض ، وهي الوارثة له كله؛ ويشعر المسلمون - من ثم - بضخامة دورهم في هذه الأرض إلى يوم القيامة . فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل . وهم المختارون لحمل راية الله - وراية الله وحدها - في الأرض ، يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات ، من قومية ووطنية وجنسية وعنصرية وصهيونية وصليبية واستعمارية وإلحادية . . إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض ، على اختلاف الأسماء والمصطلحات واختلاف الزمان والمكان .
إن رصيد الإيمان الذي تقوم الأمة المسلمة حارسة عليه في الأرض ، ووارثة له منذ أقدم الرسالات ، هو أكرم رصيد وأقومه في حياة البشرية . إنه رصيد من الهدى والنور ، ومن الثقة والطمأنينة ، ومن الرضى والسعادة ، ومن المعرفة واليقين . . وما يخلو قلب بشري من هذا الرصيد حتى يجتاحه القلق والظلام ، وتعمره الوساوس والشكوك ، ويستبد به الأسى والشقاء . ثم يروح بتخبط في ظلماء طاخية ، لا يعرف أين يضع قدميه في التيه الكئيب!
وصرخات القلوب التي حرمت هذا الزاد ، وحرمت هذا الأنس ، وحرمت هذا النور ، صرخات موجعة في جميع العصور . . هذا إذا كان في هذه القلوب حساسية وحيوية ورغبة في المعرفة ولهفة على اليقين .فأما القلوب البليدة الميتة الجاسية الغليظة ، فقد لا تحس هذه اللهفة ولا يؤرقها الشوق إلى المعرفة . . ومن ثم تمضي في الأرض كالبهيمة تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع . وقد تنطح وترفس كالبهيمة ، أو تفترس وتنهش كالوحش؛ وتزاول الطغيان والجبروت والبغي والبطش ، وتنشر الفساد في الأرض . . ثم تمضي ملعونة من الله ملعونة من الناس!
والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة - ولو غرقت في الرغد المادي - خاوية - ولو تراكم فيها الإنتاج - قلقة - ولو توافرت لها الحريات والأمن والسلام الخارجي - وأمامنا في أمم الأرض شواهد على هذه الظاهرة لا ينكرها إلا مراوغ يتنكر للحس والعيان!
والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم ، ويعرفون أنهم صائرون إليه ، فيطلبون مغفرته من التقصير : { وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير } . ويتجلى في هذه الكلمات أثر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله . يتجلى في السمع والطاعة ، السمع لكل ما جاءهم من عند الله ، والطاعة لكل ما أمر به الله . فهو إفراد الله بالسيادة كما ذكرنا من قبل ، والتلقي منه في كل أمر . فلا إسلام بلا طاعة لأمر الله ، وإنفاذ لنهجه في الحياة . ولا إيمان حيث يعرض الناس عن أمر الله في الكبيرة والصغيرة من شؤون حياتهم؛ أو حيث لا ينفذون شريعته ، أو حيث يتلقون تصوراتهم عن الخلق والسلوك والاجتماع والاقتصاد والسياسة من مصدر غير مصدره . فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل .ومع السمع والطاعة . . الشعور بالتقصير والعجز عن توفية آلاء الله حق شكرها؛ وفرائض الله حق أدائها . والالتجاء إلى رحمة الله لتتدارك تقصيرهم وعجزهم بسماحتها : { غفرانك ربنا } . .ولكن طلب الغفران إنما يجيء بعد تقديم الاستسلام وإعلان السمع والطاعة ابتداء بلا عناد أو نكران . . وإنما يعقبه كذلك اليقين بأن المصير إلى الله . المصير إليه في الدنيا والآخرة . المصير إليه في كل أمر وكل عمل . فلا ملجأ من الله إلا إليه؛ ولا عاصم من قدره ، ولا مرد لقضائه ولا نجوة من عقابه إلا برحمته وغفرانه : { وإليك المصير } .
وهذا القول يتضمن الإيمان باليوم الآخر - كما رأينا - والإيمان باليوم الآخر هو أحد مقتضيات الإيمان بالله وفق التصور الإسلامي الذي يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض بعهد منه وشرط ، يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاطه في هذه الأرض؛ وأنه خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا ، ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء . . فاليوم الآخر والجزاء فيه حتمية من حتميات الإيمان وفق التصور الإسلامي . . وهذا الإيمان على هذا النحو هو الذي يكيف ضمير المسلم وسلوكه ، وتقديره للقيم والنتائج في هذه العاجلة . فهو يمضي في طريق الطاعة ، وتحقيق الخير ، والقيام على الحق والاتجاه إلى البر سواء كانت ثمرة ذلك - في الأرض - راحة له أم تعباً .كسباً له أم خسارة . نصراً له أم هزيمة . وجداناً له أو حرماناً . حياة له أو استشهاداً . لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء ، واجتيازه للامتحان . . لا يزحزحه عن الطاعة والحق والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى والشر والقتل . . فهو إنما يتعامل مع الله؛ وينفذ عهده وشرطه؛ وينتظر الجزاء هناك!
إنها الوحدة الكبرى . طابع العقيدة الإسلامية . ترسمه هذه الآية القصيرة : الإيمان بالله وملائكته . والإيمان بجميع كتبه ورسله ، بلا تفريق بين الرسل ، والسمع والطاعة ، والإنابة إلى الله . واليقين بيوم الحساب .
إنه الإسلام . العقيدة اللائقة بأن تكون ختام العقائد ، وآخر الرسالات . العقيدة التي تصور موكب الإيمان الواصب من مبتدى الخليقة إلى منتهاها . وخط الهداية المتصل الموصول بأيدي رسل الله جميعاً . المتدرج بالبشرية في مراقي الصعود . الكاشف لها عن الناموس الواحد بقدر ما تطيق : حتى يجيء الإسلام ، فيعلن وحدة الناموس كاملة ، ويدع للعقل البشري التفصيل والتطبيق .
ـــــــــــــ
(1/64)
وجوب الإيمان بدعوة الرسل
قال تعالى : { قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) [آل عمران/84]
قُلْ : آمَنَّا ، أنَا وَمَنْ مَعِي ، بِوُجُودِ اللهِ ، وَبِوَاحْدَانِيَّتِهِ ، وَبِالقُرآنِ الذِي أُنْزِلَ عَلَينا ، وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّينَ مِنَ الصُّحُفِ وَالوَحْيِ ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى مِنَ التَّورَاةِ ، وَعَلَى عِيسَى مِنَ الإِنْجِيلَ وَالمُعْجِزَاتِ ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّينَ مَنْ وَحْيٍ مِنْ رَبِّهِمْ ( وَهَذا يَعُمُّ وَيَشْمَلُ جَمِيعَ الأنْبِيَاءِ ) فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِمْ جَمِيعاً وَبِمَا أنزِلَ عَليهِمْ ، وَلاَ نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ ، وَلاَ نُمَيِّزُ أحَداً مِنْهُمْ عَلَى أحَدٍ ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ وُجُوهَنَا للهِ ، لاَ نَبْتَغِي بِذَلِكَ إلاَّ التَّقَرُّبَ إلَيهِ .
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله ، وفي ولائه لكافة الرسل حملته . وفي توحيده لدين الله كله ، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد ، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده .
ومما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين - وهو القرآن - وما أنزل على سائر الرسل من قبل ، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله : { ونحن له مسلمون } ..
فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه . بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس . كما يتجلى في الآية قبلها { أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون } . . فظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر ، واتباع النظام ، وطاعة الناموس . . ومن ثم تتجلى عناية الله - سبحانه - ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة . كي لا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان ، أو تصديق يستقر في القلب ، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله ، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة .
ـــــــــــــ
(1/65)
جزاء من ارتد عن دعوة الرسل
قال تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) [آل عمران/86-89]
أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ أنْ اسْأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَعَادَ إلى الإِسْلاَمِ .فَالذِينَ يَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلاَمِ بَعْدَ أنَ تَبَّينَ لَهُمْ هُدَاهُ ، وَقَامَتَ لَدَيْهِمِ البَرَاهِينُ عَلَى صِدْقِهِ ، وَصِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ ، كَيْفَ يَسْتَحِقُونَ الهِدَايَةَ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : إِنَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَالِمِينَ أنْفُسَهُمْ ، الجَانِينَ عَلَيهَا ، لأَنَّهُمْ تَنَكَّبُوا عَنِ الطَّرِيقِ القَوِيمِ ، وَتَرَكُوا هِدَايَةَ العَقْلِ ، بَعْدَ أنْ ظَهَرَ نُورُ النُّبُوَّةِ ، وَعَرَفُوهُ بِالبَيِّنَاتِ . وَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُونَ سَخَطَ اللهِ وَغَضَبَهُ ، وَسَخَطَ المَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ جَمِيعاً ، إِذْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ لَعَنُوهُمْ .وَمَنْ لَعَنَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَانَ جَزَاؤُهُمُ العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ ، وَيَبْقَوْنَ خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَةِ وَالعَذَابِ مَسْخُوطاً عَلَيْهِمْ إلَى الأبَدِ . وَلاَ يُفَتَّر عَنْهُمُ العَذَابُ ، وَلاَ يُخَفَّفُ سَاعَةً وَاحِدَةً ، وَلاَ يُمْهَلُونَ لِمَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ بِهَا .
وهي حملة رعيبة يرجف لها كل قلب فيه ذرة من إيمان؛ ومن جدية الأمر في الدنيا وفي الآخرة سواء . وهو جزاء حق لمن تتاح له فرصة النجاة ثم يعرض عنها هذا الإعراض .ولكن الإسلام - مع هذا - يفتح باب التوبة ، فلا يغلقه في وجه ضال يريد أن يتوب؛ ولا يكلفه إلا أن يطرق الباب . بل أن يدلف إليه فليس دونه حجاب . وإلا أن يفيء إلى الحمى الآمن ، ويعمل صالحاً فيدل على أن التوبة صادرة من قلب تاب : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } . .فأما الذين لا يتوبون ولا يثوبون . الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفراً والذين يلجون في هذا الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة وينتهي أمد الاختبار ، ويأتي دور الجزاء . هؤلاء وهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة . ولن ينفعهم أن يكونوا قد أنفقوا ملء الأرض ذهباً فيما يظنون هم أنه خير وبر ، ما دام مقطوعاً عن الصلة بالله . ومن ثم فهو غير موصول به ولا خالص له بطبيعة الحال . ولن ينجيهم أن يقدموا ملء الأرض ذهباً ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة . فقد أفلتت الفرصة وأغلقت الأبواب : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون . إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به . أولئك لهم عذاب أليم . وما لهم من ناصرين } . .وهكذا يحسم السياق القضية بهذا التقرير المروع المفزع ، وبهذا التوكيد الواضح الذي لا يدع ريبة لمستريب .
ـــــــــــــ
(1/66)
جزاء من عصى الرسول
قال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) [النساء/41، 42]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَشِدَّةِ أَمْرِهِ ، فَإِذَا كَانَ لاَ يَضِيعُ مِنْ عَمَلِ العَامِلِ مِثْقَالُ ذَرَّةْ فَكَيفُ يَكُونُ الأَمْرُ وَالحَالُ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، حِينَ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ ، وَيَجِيءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَاهِدٍ عَلَيهَا ( هُوَ نَبِيًّها ) ، وَيَأتِي بِمُحَمَّدٍ شَاهِداً عَلَى قَوْمِهِ ( هَؤُلاَءِ ) ؟ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ عَرْضُ أَعْمَالِ الأُمَمِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وَمُقَابَلَةُ عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِعَقَائِدِ الأَنْبِيَاءِ ، وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ ، فَمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ أَنَّهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ، وَمَا أَمَرَ النَّاسُ بِالعَمَلِ بِهِ فَهُوَ نَاجٍ ، وَمَنَ تَبَرَّأَ مِنْهُ الأَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنَ الأَخْسَرِينَ .
فِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَتَمَنَّى الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ ، وَعَصَوْا رَسُولَهُ ، لَوْ أنَّ الأَرْضَ انْشَقَّتْ وَابْتَلَعَتُهُمْ مِمَّا يَرَونَ مِنْ هَوْلِ المَوْقِفِ ، وَمِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الخِزِي وَالفَضِيحَةِ وَالتَّوبِيخِ . فَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ ، فَيَقُولُ المُشْرِكُونَ : إنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً إلاَّ مِمَّنْ وَحَدَّهُ ، فَتَعَالُوا نَجْحَدْ . فَيَسأَلُهُمْ رَبُّهُمْ ، فَيَقُولُونَ : وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ . فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ، وَيَسْتَنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ ، فَعِنْدَئِذٍ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ أنَّ الأَرْضَ سُوِّيَتْ بِهِمْ ، وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً .
إنه يمهد لمشهد القيامة ، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة . . وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعرة . . وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلاً عنها أجراً من لدنه عظيماً . . فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل ، بالإيمان والعمل . .
فأما هؤلاء . هؤلاء الذين لم يقدموا إيماناً ، ولم يقدموا عملاً . . هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل . . فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال ، إذا جئنا من كل أمة بشهيد - هو نبيها الذي يشهد عليها - وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟
وعندئذ يرتسم المشهد شاخصاً . . ساحة العرض الواسعة . وكل أمة حاضرة . وعلى كل أمة شهيد بأعمالها . . وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون ، الكاتمون لفضل الله ، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله . . هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشهادة! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا . بكل ما كفروا وما أنكروا . بكل ما اختالوا وما افتخروا . بكل ما بخلوا وبخلوا . بكل ما راءوا وتظاهروا . . هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به ، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم . في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به . في مواجهة الرسول الذي عصوه . . فكيف؟؟؟
إنها المهانة والخزي ، والخجل والندامة . . مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار . .
والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر . إنما يرسم « صورة نفسية » تتضح بهذا كله؛ وترتسم حواليها تلك الظلال كلها . ظلال الخزي والمهانة ، والخجل والندامة : { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثاً «!
ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية ، نحس بكل تلك المعاني ، وبكل تلك الانفعالات ، وهي تتحرك في هذه النفوس .. نحس بها عميقة حية مؤثرة . كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر . . وصفي أو تحليلي . . وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة ، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير .
ـــــــــــــ
(1/67)
وجوب طاعة الرسل
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء/59]
بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَلَمَّا خَرَجُوا اسْتَاءَ مِنْهُمْ مِنْ شَيءٍ كَانَ مِنْهُمْ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللهِ أنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : فَاجْمَعُوا حَطَباً ، ثُمَّ دَعَا بِنَارٍ فَأَضْرَمَهَا فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُم : عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَتَدْخُلُنَّهَا ( أَيْ لَتَقْتُلُنَّ أنْفُسَكُمْ فِي النَّارِ ) ، فَرَفَضُوا ذَلِكَ إلى أنْ يَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ : " الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ "
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ : " السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ "
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِإِطَاعَتِهِ تَعَالَى ، وَبِالعَمَلِ بِكِتَابِهِ ، وَبِإِطَاعَةِ رَسُولِهِ ، لأَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَيُبَلِّغُ عَنِ اللهِ شَرْعَُ وَأَوَامِرَهُ ، كَمَا يَأْمُرُ اللهُ بِإِطَاعَةِ أُوْلِي الأمْرِ ، مِنْ حُكَّامٍ وَأُمَرَاءٍ وَرُؤَسَاءٍ جُنْدٍ ، مِمَّنْ يَرْجِعُ النَّاسُ إلَيْهِمْ فِي الحَاجَاتِ ، وَالمَصَالِحِ العَامَّةِ ، فَهَؤُلاءِ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ وَجَبَ أنْ يُطَاعُوا فِيهِ ، بِشَرْطِ أنْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ ، وَأنْ لاَ يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ ، وَلاَ سُنَّةَ نَبِّيهِ التِي عُرِفَتْ بِالتَّوَاتُرِ ، وَأنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الأَمْرِ ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ غَيْرَ مُكْرَهِينَ عَلَيهِ بِقُوَّةِ أَحَدٍ أَوْ نُفُوذِهِ .
وَكُلُّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ المُسْلِمُونَ فَمِنَ الوَاجِبِ رَدُّهُ إلى كِتَابِ اللهِ ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، وَيَحْتَكِمْ إلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ، فَلَيْسَ مُؤْمِناً بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ .
وَمَنْ يَحْتَكِم إلى شَرْعِ اللهِ ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلاً ( تَأْوِيلاً ) ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ لِلنَّاسِ إلاَّ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَمَنْفَعَتُهُمْ ، وَالاحْتِكَامِ إلى الشَّرْعِ يَمْنَعُ الاخْتِلافَ المُؤَدِّي إلَى التَّنَازُعِ وَالضَّلاَلِ .
وفي هذا النص القصير يبين الله - سبحانه - شرط الإيمان وحد الإسلام .في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة؛ وقاعدة الحكم ، ومصدر السلطان . . وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده؛ والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصاً ، من جزيئات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال؛ مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام . . ليكون هنالك الميزان الثابت ، الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام!
إن « الحاكمية » لله وحده في حياة البشر - ما جل منها وما دق ، وما كبر منها وما صغر - والله قد سن شريعة أودعها قرآنه . وأرسل بها رسولاً يبينها للناس . ولا ينطق عن الهوى . فسنته - صلى الله عليه وسلم - من ثم شريعة من شريعة الله .
والله واجب الطاعة . ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة . فشريعته واجبة التنفيذ . وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله - ابتداء - وأن يطيعوا الرسول - بما له من هذه الصفة . صفة الرسالة من الله - فطاعته إذن من طاعة الله ، الذي أرسله بهذه الشريعة ، وببيانها للناس في سنته . . وسنته وقضاؤه - على هذا - جزء من الشريعة واجب النفاذ . . والإيمان يتعلق - وجوداً وعدماً - بهذه الطاعة وهذا التنفيذ - بنص القرآن : { إن كنم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . .
فأما أولو الأمر؛ فالنص يعين من هم .{ وأولي الأمر . . منكم . . }أي من المؤمنين . . الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية . . من طاعة الله وطاعة الرسول؛ وإفراد الله - سبحانه - بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء؛ والتلقي منه وحده - فيما نص عليه - والرجوع إليه أيضاً فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء ، مما لم يرد فيه نص؛ لتطبيق المبادىء العامة في النصوص عليه .
والنص يجعل طاعة الله أصلاً؛ وطاعة رسوله أصلاً كذلك - بما أنه مرسل منه - ويجعل طاعة أولي الأمر . . منكم . . تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله . فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم ، كما كررها عند ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله - بعد أن قرر أنهم « منكم » بقيد الإيمان وشرطه . .
وطاعة أولي الأمر . . منكم . . بعد هذه التقريرات كلها ، في حدود المعروف المشروع من الله ، والذي لم يرد نص بحرمته؛ ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادىء شريعته ، عند الاختلاف فيه . . والسنة تقرر حدود هذه الطاعة ، على وجه الجزم واليقين :
في الصحيحين من « حديث الأعمش : إنما الطاعة في المعروف » .
وفيهما من « حديث يحيى القطان : السمع والطاعة على المرء المسلم . فيما أحب أو كره . ما لم يؤمر بمعصية . فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » .
وأخرج مسلم من « حديث أم الحصين : ولو استعمل عليكم عبد . يقودكم بكتاب الله . اسمعوا له وأطيعوا » .بهذا يجعل الإسلام كل فرد أميناً على شريعة الله وسنة رسوله . أميناً على إيمانه وهو ودينه . أميناً على نفسه وعقله . أميناً على مصيره في الدنيا والآخرة . . ولا يجعله بهيمة في القطيع؛ تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع! فالمنهج واضح ، وحدود الطاعة واضحة . والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد ، ولا تتفرق ، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون!
ذلك فيما ورد فيه نص صريح . فأما الذي لم يرد فيه نص . وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية ، على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات - ولا يكون فيه نص قاطع ، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق . . مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام - فإنه لم يترك كذلك تيهاً . ولم يترك بلا ميزان . ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع . . ووضع هذا النص القصير ، منهج الاجتهاد كله ، وحدده بحدوده؛ وأقام « الأصل » الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضاً .
{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } . .
ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمناً . فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو ، فردوه إلى المبادىء الكلية العامة في منهج الله وشريعته . . وهذه ليست عائمة ، ولا فوضى ، ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول . وهناك - في هذا الدين - مبادىء أساسية واضحة كل الوضوح ، تغطي كل جوانب الحياة الأساسية ، وتضع لها سياجاً خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين .
{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . .تلك الطاعة لله والطاعة للرسول ، ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول . . ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول . . هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر . كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر . . فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود . . ولا يوجد الإيمان ، ثم يتخلف عنه أثره الأكيد .
وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي ، يقدمها مرة أخرى في صورة « العظة » والترغيب والتحبيب؛ على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب : { ذلك خير وأحسن تأويلاً } . .ذلك خير لكم وأحسن مآلاً . خير في الدنيا وخير في الآخرة . وأحسن مآلاً في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة كذلك . . فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة - وهو أمر هائل ، عظيم - ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة .
إن هذا المنهج معناه : أن يستمتع « الإنسان » بمزايا منهج يضعه له الله . . الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير . . منهج بريء من جهل الإنسان وهوى الإنسان ، وضعف الإنسان ، وشهوة الإنسان
منهج لا محاباة فيه لفرد ، ولا لطبقة ، ولا لشعب ، ولا لجنس ، ولا لجيل من البشر على جيل . . لأن الله رب الجميع ، ولا تخالجه - سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - شهوة المحاباة لفرد ، أو طبقة ، أو شعب ، أو جنس ، أو جيل .
ومنهج من مزاياه ، أن صانعه هو صانع هذا الإنسان . . الذي يعلم حقيقة فطرته ، والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ، كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها؛ ووسائل خطابها وإصلاحها ، فلا يخبط - سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - في تيه التجارب بحثاً عن منهج يوافق . ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية ، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون ، فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري . وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج؛ ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول
ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون ، الذي يعيش فيه الإنسان . فهو يضمن للإنسان منهجاً تتلاءم قواعده مع نواميس الكون؛ فلا يروح يعارك هذه النواميس . بل يروح يتعرف إليها ، ويصادقها ، وينتفع بها . . والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه .
ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكاناً للعمل في المنهج . . مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة . ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادىء العامة للدين . . ذلك إلى المجال الأصيل ، الذي يحكمه العقل البشري ، ويعلن فيه سيادته الكاملة : ميدان البحث العلمي في الكون؛ والإبداع المادي فيه . .{ ذلك خير وأحسن تأويلاً } . . وصدق الله العظيم
-----------------
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) [محمد/33]
يَأمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ بإطِاعَةِ اللهِ ، وَإطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيما يأمُرانِهِمْ بِهِ ، وَفيما يَنْهَيانِهِمْ عَنْهُ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ إبْطَالِ أَعْمَالِهِم الحَسَنةِ ، بارِتكَابِ المَعَاصِي ، وَفِعْلِ الكَبَائِرِ والنِّفَاقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأعْمَالِ التي تُبْطِلُ الحَسَناتِ وَتُذْهِبُها .
وهذا التوجيه يوحي بأنه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يتحرى الطاعة الكاملة؛ أو من تثقل عليه بعض التكاليف ، وتشق عليه بعض التضحيات ، التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف للإسلام ، وتناوشه من كل جانب؛ والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى يصعب فصمها والتخلي عنها نهائياً كما تقتضي العقيدة ذلك .
ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفاً عميقاً في نفوس المسلمين الصادقين ، فارتعشت له قلوبهم ، وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم ، ويذهب بحسناتهم . .
قال الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا أبو قدامة ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، ولا تبطلوا أعمالكم } . . فخافوا أن يبطل الذنب العمل .
وروي من طريق عبد الله بن المبارك ، أخبرني بكر بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كنا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول ، حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } . . فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش . حتى نزل قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك . فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ونرجو لمن لم يصبها .
ومن هذه النصوص يتجلى كيف كانت نفوس المسلمين الصادقين تتلقى آيات القرآن : كيف تهتز لها وتضطرب ، وكيف ترتجف منها وتخاف ، وكيف تحذر أن تقع تحت طائلتها ، وكيف تتحرى أن تكون وفقها ، وأن تطابق أنفسها عليها . . وبهذه الحساسية في تلقي كلمات الله كان المسلمون مسلمين من ذلك الطراز!
------------------
وقال تعالى :{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) [الحشر/7]
مَا جَعَلَهُ اللهُ فَيئاً لِرَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ القُرَى - كَبَنِي النَّضِيرِ وَخَيْبَرَوَقُرَيْظَةَ - فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ البِرِّ ، وَلاَ يُقْسَمُ فِي الجَيْشِ كَالمَغْنَمِ ، فَيُعْطَى لِلرَّسُولِ لِيُعْطَيِ مِنْهُ ذَوِي قُرْبَاهُ ( وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي مِنْهُ بَنِي المُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمِ ) . وَلِلْيَتَامَى وَالفُقَرَاءِ وَلِلْمَسَاكِينِ مِنْ ذَوِي الحَاجَاتِ ، وَلابْنِ السَّبِيلِ ( وَهُوَ المُسَافِرُ الذِي نَفَدَتْ نَفَقَتُهُ ) ، وَقَدْ قَضَى اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لِكَيْلاَ يَأْخُذَهُ الأُغْنِيَاءُ ، وَيَتَدَاوَلُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَيَتَكَاثَرُوا بِهِ ، فَلاَ يَصْلُ شَيءٌ مِنْهُ إِلَى الفُقَرَاءِ .
وَمَا جَاءَكُم بِهِ الرَّسُولُ مِنْ أَحْكَامٍ فَتَمَسَّكُوا بِهِ ، وَمَا أَعْطَاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الفَيءِ فَخُذُوهُ ، فَهُوَ حَلاَلٌ لَكُمْ ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَلاَ تَقْرَبُوهُ ، واتَّقُوا اللهَ فامْتَثِلُوا لأَمْرِهِ ، وَاتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عِنْهُ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى شَدِيدُ العِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ : " لا أَلْفَينَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ يأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَا أَمْرَتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لاَ أَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتبَعْنَاهُ " ) .
دُوْلَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ - مُلْكاً مُتَدَاوَلاً بَيْنَهُمْ خَاصَّةً .
تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي : { كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم } . . كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . . ولو أن هاتين القاعدين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه ، إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي .
والقاعدة الأولى ، قاعدة التنظيم الاقتصادي ، تمثل جانباً كبيراً من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام . فالملكية الفردية معترف بها في هذه النظرية . ولكنها محددة بهذه القاعدة . قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، ممنوعاً من التداول بين الفقراء . فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفاً من أهداف التنظيم الاجتماعي كله . وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد .
ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة . ففرض الزكاة . وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفاً في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية ، وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات . وما يعادل ذلك في الأنعام . وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي . وهي نسب كبيرة . ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء . وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها . وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء . وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال . وحرم الاحتكار . وحظر الربا . وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء .
وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيداً أصيلاً على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى .
ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية ، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي ، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولاً عنه ، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقاً بدون ربا وبدون احتكار ، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير . نشأ وحده . وسار وحده ، وبقي حتى اليوم وحده . نظاماً فريداً متوازن الجوانب ، متعادل الحقوق والواجبات ، متناسقاً تناسق الكون كله . مذ كان صدوره عن خالق الكون . والكون متناسق موزون!
فأما القاعدة الثانية قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية . فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرآناً أو سنة .والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول . فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان ، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان . . وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية ، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات ، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء ، وكل ما تشاء ، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان . فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها والإمام نائب عن الأمة في هذا وفي هذا تنحصر حقوق الأمة . فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع .
فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلاً من أصول ما جاء به الرسول . وهذا لا ينقض تلك النظرية ، إنما هو فرع عنها ، فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص ، وألا يخالف أصلاً من أصوله فيما لا نص فيه . وتنحصر سلطة الأمة والإمام النائب عنها في هذه الحدود . وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعيه . وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله ، وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله . كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون ، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح!
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرها الأول . . وهو الله . . فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } . . وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه ، ولا هروب منه . فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر ، خبير بالأعمال ، وإليه المرجع والمآب . وعلموا أنه شديد العقاب . وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم ، وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة ، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب . .
ولقد كان توزيع ذلك الفيء فيء بني النضير على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصاً بهذا الفيء ، تحقيقاً لقاعدة : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } . . فأما الحكم العام ، فهو أن يكون للفقراء عامة . من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال . وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق .
ـــــــــــــ
(1/68)
من تحاكم إلى الطاغوت فقد كفر بدعوة الرسل
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) [النساء/60-63]
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَدِّعِي الإِيمَانَ بِاللهِ ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَهُوَ مَعْ ذَلِكَ يُرِيدُ أنْ يَتَحَاكَمَ فِي فَصْل ِالخُصُومَاتِ إلى غَيْرِ كِتَابِ اللهِ ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ .
( وَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنْصَاريٍّ وَيَهُودِيٍّ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُحَمَّدٌ . وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ ( وَهُوَ مِنْ كُبَرَاءِ اليَهُودِ ) . وَيَذُمُّ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَعْدِلُونَ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ، إلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ البِاطِلِ ( وَهُوَ المُرَادٌ هُنَا بِالطَّاغُوتِ ) ، وَقَدْ أُمِرُوا بِأَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ، وَبِحُكْمِ الجَاهِلِيَّةِ ، وََلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُوهُمْ الى اتِّبَاعِهِ لِيُضِلَّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَشَرْعِهِمْ وَهُدَى رَبِّهِمْ ، وَيُبْعِدَهُمْ عَنْهَا . وَإِذَا دُعِيَ هَؤُلاءِ - الذِينَ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ ، ثُمَّ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إلى الطَّاغُوتِ - إلى رَسُولِ اللهِ لِلتَّحَاكُمِ لَدَيْهِ ، وِفْقاً لِمَا شَرَعَ اللهُ ، اسْتَكْبَرُوا وَأَعْرَضُوا وَرَغِبُوا عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللهِ إَعْرَاضاً مُتَعَمَّداً مِنْهُمْ .
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إذَا سَاقَتْهُمُ المَقَادِيرُ إلَيكَ فِي مَصَائِبَ تَحِلُّ بِهِمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ ، وَاحْتَاجُوا إِلَيْكَ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ جَاؤُوكَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكَ ، وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِذَهَابِهِمْ إلى غَيْرِكَ ، وَبِتَحَاكُمِهِمْ إلَى أَعْدَائِكَ ، إلا المُدَارَاةَ وَالمُصَانَعَةَ ( إحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ) ، لاَ اعْتِقَاداً مِنْهُمْ بِصِحَّةِ تِلْكَ الحُكُومَةِ .
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ المُنَافِقٌُونَ ، وَاللهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ مَبْلَغَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالحِقْدِ وَالكَيْدِ ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَإنَّهُ لاَ تَخْفَى عَلَيهِ مِنْهُمْ خَافِيةٌ . ثُمَّ يَدْعُو اللهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - إلى مُعَامَلَتِهِمْ :
- أَوْلاً : بِالإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ الإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ ، وَهَذَا النَّوعُ مِنَ المُعَامُلَةِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمُ الهَوَاجِسَ وَالشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ .
- ثُمَّ بِالنُّصْحِ وَالتَّذْكِيرِ بِالخَيْرِ ، عَلَى وَجْهٍ تَرِقُّ لَهُ قُلُوبُهُمْ ، وَيَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّأمُّلِ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ العِظَاتِ .
- ثُمَّ بِالقَوْلِ البَلِيغِ ، الذِي يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِهِمْ ، كَالتَّوَعُّدِ بِالقّتْلِ ، وَالاسْتِئْصَالِ إنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ نِفَاقٌ ، وَأنْ يُخْبِرَهُمْ أنَّ اللهَ عَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ .
يريدون أن يتحاكموا إلى . . الطاغوت . . الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . ولا ضابط له ولا ميزان ، مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . . ومن ثم فهو . . طاغوت . . طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية . وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضاً! وهم لا يفعلون هذا عن جهل ، ولا عن ظن . . إنما هم يعلمون يقيناً ويعرفون تماماً ، أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه : { وقد أمروا أن يكفروا به } . . فليس في الأمر جهالة ولا ظن . بل هو العمد والقصد . ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم . زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب . .
{ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } . .فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت . وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت! هذا هو الدافع يكشفه لهم . لعلهم يتنبهون فيرجعوا . ويكشفه للجماعة المسلمة ، لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك .
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله . . ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به : { وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً } .
يا سبحان الله! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري . . وإلا ما كان نفاقاً . .
إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان ، أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به ، وإلى من آمن به . فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل ، وبالرسول وما أنزل إليه . ثم دعي إلى هذا الذي آمن ، به ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه؛ كانت التلبية الكاملة هي البديهية الفطرية . فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية . ويكشف عن النفاق . وينبئ عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان!
وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله - سبحانه - أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله . ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله . بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدوداً!
ثم يعرض مظهراً من مظاهر النفاق في سلوكهم؛ حين يقعون في ورطة أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل الله وإلى الرسول؛ أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت .ومعاذيرهم عند ذلك . وهي معاذير النفاق :{ فكيف إذا أصابتهم مصيبة - بما قدمت أيديهم - ثم جاءوك يحلفون بالله : إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } . .
وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة - يومذاك - حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم . فما يطيق المجتمع المسلم أن يرى من بينه ناساً يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أنزل ، وبالرسول وما أنزل إليه؛ ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة الله؛ أو يصدون حين يدعون إلى التحاكم إليها . . إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان . وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء؛ وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء!
أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم؛ نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل؛ ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت؛ في قضية من قضاياهم .
أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم . لعلهم يتفكرون ويهتدون . .
وأياً ما كان سبب المصيبة؛ فالنص القرآني ، يسأل مستنكراً : فكيف يكون الحال حينئذ! كيف يعودون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - :{ يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } . .
إنها حال مخزية . . حين يعودون شاعرين بما فعلوا . . غير قادرين على مواجهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحقيقة دوافعهم . وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين : أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق! وهي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته : أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب ، التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة . . إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين . . هي هي دائماً وفي كل حين!
والله - سبحانه - يكشف عنهم هذا الرداء المستعار . ويخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم . ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق ، والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم . فأعرض عنهم وعظهم ، وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } . .
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم؛ ويحتجون بهذه الحجج ، ويعتذرون بهذه المعاذير . والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور . . ولكن السياسة التي كانت متبعة - في ذلك الوقت - مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم ، وأخذهم بالرفق ، واطراد الموعظة والتعليم . .
والتعبير العجيب : { وقل لهم . . في أنفسهم .. قولاً بليغاً } .تعبير مصور . . كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس ، ويستقر مباشرة في القلوب .وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله . . بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت؛ ومن الصدود عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول . . فالتوبة بابها مفتوح ، والعودة إلى الله لم يفت أوانها بعد؛ واستغفارهم الله من الذنب ، واستغفار الرسول لهم ، فيه القبول! ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية : وهي أن الله قد أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه - لا ليخالف عن أمرهم . ولا ليكونوا مجرد وعاظ! ومجرد مرشدين!
ـــــــــــــ
(1/69)
طاعة الرسول من طاعة الله
قال تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) [النساء/80 ]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ ، فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ، لأنَّهُ الآمِرُ النَّاهِي فِي الحَقِيقَةِ ، وَالرَّسُولُ هُوَ المُبِلْغُ عَنْ رَبِّهِ ، وَمَنْ عَصَاهُ ، فَقَدْ عَصَى اللهَ ، أمَّا الذِينَ يَتَوَلَّوْنَ عَنِ الحَقِّ وَيَرْفُضُونَهُ ، فَقَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيءٌ لأَنَّكَ لَمْ تُرْسَلْ إلاَّ مُبَشِراً وَنَذِيراً ، وَلَمْ تُرْسَلْ مُسَيْطِراً عَلَيْهِم تَحْفَظُ عَلَيْهِم أَفْعَالَهُمْ ، فَالأَفْعَالُ وَالطَّاعَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِالاخْتِيَارِ بَعْدَ الإِقْنَاعِ .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأداء هذه الوظيفة { وكفى بالله شهيداً } . .
وأمُر الناس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن من أطاعه فقد أطاع الله . فلا تفرقة بين الله ورسوله . ولا بين قول الله وقول رسوله . . ومن تولى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه . ولم يرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليجبره على الهدى ، ويكرهه على الدين ، وليس موكلاً بحفظه من العصيان والضلال . فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول؛ ولا داخلاً في قدرة الرسول .
بهذا البيان يصحح تصورهم عن حقيقة ما يقع لهم . . فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره . وما يصيبهم من حسنة أو سيئة - بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة ، سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر ، أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع - فهو من عند الله . لأنه لا ينشىء شيئاً ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله . . وما يصيبهم من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله ، لأنه بسبب منهجه وهدايته . وما يصيبهم من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند أنفسهم ، لأنه بسبب تنكبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته . .
والرسول وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول . لا ينشىء ولا يحدث ولا يخلق . ولا يشارك الله تعالى في خاصية الألوهية هذه : وهي الخلق والإنشاء والإحداث . وهو يبلغ ما جاء به من عند الله ، فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله . وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول . والرسول ليس مكلفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين ، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي .بعد البلاغ والبيان . .
حقائق - هكذا - واضحة مريحة ، بينة صريحة؛ تبني التصور ، وتريح الشعور؛ وتمضي شوطاً مع تعليم الله لهذه الجماعة ، وإعدادها لدورها الكبير الخطير . .
ـــــــــــــ
(1/70)
من أطاع الرسول فقد اهتدى
قال تعالى :{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) [النور/54]
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : أطِيعُوا الله ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طَاعَةً صَادِقَةً ، واتَّبِعُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُوِلِهِ ، فَفِي اتِّبَاعِهِمَا الهِدَايَةُ والرَّسَادُ ، أَمَّا إِذَا تَوَلَّيْتُمْ وأَعْرَضْتُم وَتَرَكْتُم مَا جَاءَكُم بِهِ رَسُولُ اللهِ ، فَعَلَى الرُّسُولِ إِبْلاَغُ الرِّسَالَةِ ، وأَدَاءُ الأَمَانَةِ (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) ، فَهِيَ مَا حَمَّلَهُ اللهُ ، أَمَّا أَنْتُمْ فَقَدْ حُمِّلْتُمْ قَبُولَ ذَلِكَ ، والإِيْمَانَ بِهِ وتَعْظِيمَهُ ، والقِيَامَ بِمُقْتَضَاهُ ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَبْلُغُوا الهِدَايَةَ لأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ ، والرَّسُولُ مُكَلَّفٌ بِدَعْوَتِكُمْ وَإِبْلاَغِكُمْ .
{ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي: تبليغكم البين الذي لا يبقي لأحد شكا ولا شبهة، وقد فعل صلى الله عليه وسلم، بلغ البلاغ المبين، وإنما الذي يحاسبكم ويجازيكم هو الله تعالى، فالرسول ليس له من الأمر شيء، وقد قام بوظيفته.
ـــــــــــــ
(1/71)
من أطاع الرسول رحمه الله
قال تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) [النور/56]
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَه المُؤْمِنِينَ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ، وَإِتْمَامِهَا بِخُشُوعٍ وَحُضَورِ قَلْبٍ ، وَبِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَبِإِيتاءِ الزَّكَاةِ ( وَهِيَ الإِحْسَانُ إِلى الضُعَفَاءِ والفُقَرَاءِ ) كَمَا يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُطِيعُوا فِي ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ ، بِهِ ، وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ لَعَلَّ الله يَرْحَمُهُمْ بِذَلِكَ .
فهذه هي العدة . . الاتصال بالله , وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح , وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه , وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة , وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: (لعلكم ترحمون) في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال , وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال .فإذا استقمتم على النهج , فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض , وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم , أقوياء بنظامكم , أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب .إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات . ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية , وهو يدرك شروطها على حقيقتها , قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب , أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالات .إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله , وحكمت هذا النهج في الحياة , وارتضته في كل أمورها . . إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن . وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة , وذلت , وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ; واستبد بها الخوف ; وتخطفها الأعداء .ألا وإن وعد الله قائم . ألا وإن شرط الله معروف . فمن شاء الوعد فليقم بالشرط . ومن أوفى بعهده من الله ?
ـــــــــــــ
(1/72)
وجوب استشارة الرسول في السراء والضراء
قال تعالى : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) [النساء/83]
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلى مَنْ يُبَادِرُ إلى الأُمُورِ قَبْلَ أنْ يَتَحَقَقُ مِنْهَا ، فَيُخْبِرُ بِهَا وَيُفْشِيهَا ، وَيَنْشُرُهَا ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ لَهَا أَسَاسٌ مِنَ الصِّحَّةِ ، وَيَكُونُ مِنْ شَأْنِهَا أنْ تُحْدِثَ البَلْبَلَةَ فِي الجَمَاعَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ صَحِيْحَةٌ وَلَكِنْ يَكُونُ فِي إفْشَائِهَا وَالإِعْلاَنِ عَنْهَا مَضَرَّةٌ بِالأمَّةِ ، يُفِيدُ مِنْهَا أعْدَاؤُها .
وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ أشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَلَّقَ زَوْجَاتِهِ فَجَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ، وَرَأى النَّاسَ فِي المَسْجِدِ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ طَلاقِ رَسُولِ اللهِ أَزْوَاجَهُ ، فَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَيهِ ، فَسَألَهُ إنْ كَانَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ ، فَقَالَ : لاَ . فَخَرَجَ عُمَرُ وَقَالَ للنَّاسِ إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ .وَقِيلَ أَيْضاً : إِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ الأَحْزَابِ إذِ اشْتَدَّ الأَمْرُ بِالمُسْلِمِينَ ، وَجَاءَ مَنْ يُخْبِرُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ مَعَ المُسْلِمِينَ ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ إِلَيْهِمْ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْتَكْشِفُونَ خَبَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَقاَلَ لَهُمْ إنْ وَجَدْتُمُ الخَبَرَ صَحِيحاً فَالْحنُوا إِلَينَا بِإِشَارَةٍ لِكَيْلاَ يَفُتّ ذَلِكَ فِي عَضُدِ المُسْلِمِينَ ، وَيَزِيدَ فِي اضْطِرَابِهِمْ ، فَعَادَ الوَفْدُ وَأخْبَرَ النَّبِيَّ بِنَقْضِهِمُ العَهْدَ ، وَانْتَشَرَ خَبَرُ نَقْضِ بَنِي قُرَيْظَةَ العَهْدَ ، وَانْضِمَامِهِمْ إلى الكُفَّارِ ، وَتَنَاقَلَهُ المُسْلِمُونَ فَزَادَ ذَلِكَ فِي اضْطِرابِهِمْ . وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : لَوْ أنَّ هَؤُلاءِ رَدُّوا مَا سَمِعُوا إلى الرَّسُولِ ، وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنَ المُسْلِمِينَ ، الذِينَ يَسْتَطِيعُونَ تَقْدِيرَ الأمُورِ ، وَمَعْرِفَةَ مَا يَجُوزُ نَشْرُهُ وَإذَاعُتُهُ ، وَمَا لاَ يَجُوزُ ، لَقَدَّرُوهُ ، وَلَرأوا إنْ كَانَ يَحْسُنُ نَشْرُهُ وَإذَاعَتُهُ أوْ لا .
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِكُمْ - إذْ هَدَاكُمْ إلى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ظَاهِراً وَبَاطِناً ، وَرَدَّ الأُمُورَ العَامَّةَ إلى الرَّسُولِ ، وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ - لاَتَّبَعْتُمْ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ ، كَمَا اتَّبَعَتْها تِلَكَ الطَّائِفَةُ مِنَ المُنَافِقِينَ ، التِي تَقُولُ لِلرَّسُولِ : طَاعَةٌ! ثُمَّ تُبَيِّتُ فِعْلَ غَيْرِ مَا قَالَتْ ، وَالتِي تُذْيعُ أَمْرَ الأَمْنِ وَالخَوْفِ ، وَتُفْسِدُ سِيَاسَةَ الأُمَّةِ ، وَلأخَذْتُمْ بِآرَاءِ المُنَافِقِينَ ، فِيمَا تَأْتُونَ ، وَفِيمَا تَذَرُونَ ، وَلَمَا اهْتَدى إلى الصَّوَابِ مِنْكُمْ إلاَّ قَلِيلُونَ .
والصورة التي يرسمها هذا النص ، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي ، لم تألف نفوسهم النظام؛ ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر؛ وفي النتائج التي تترتب عليها ، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث؛ ولم يدركوا جدية الموقف؛ وأن كلمة عابرة وفلتة لسان ، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته ، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال؛ وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال! أو - ربما - لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر؛ وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك ، وإذاعتها ، حين يتلقاها لسان عن لسان . سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف . .
فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة! - فإن إشاعة أمر الأمن مثلاً في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو . . إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعاً من التراخي - مهما تكن الأوامر باليقظة - لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية! كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته ، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة . وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكاً ، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف . . وقد تكون كذلك القاضية!
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه؛ أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته .أو هما معاً . . ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك؛ باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان ، ومختلفة المستويات في الإدراك ، ومختلفة المستويات في الولاء . . . وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني .
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم } .
أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان معهم ، أو إلى أمرائهم المؤمنين ، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة؛ واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة ، والملابسات المتراكمة .
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم ، الذي يقوده أمير مؤمن - بشرط الإيمان ذاك وحدّه - حين يبلغ إلى أذنيه خبر ، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره . لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه؛ أو بين من لا شأن لهم به . لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة ، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر - حتى بعد ثبوته - أو عدم إذاعته . .
وهكذا كان القرآن يربي . . فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة؛ ويعلم نظام الجندية في آية واحدة . . بل بعض آية . . فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف ، فيحمله ويجري متنقلاً ، مذيعاً له ، من غير تثبت ، ومن غير تمحيص ، ومن غير رجعة إلى القيادة . . ووسطها يعلم ذلك التعليم . . وآخرها يربط القلوب بالله في هذا ، ويذكرها بفضله ، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل ، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد؛ الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } . .
آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها؛ وتتناول القضية من أطرافها؛ وتتعمق السريرة والضمير؛ وهي تضع التوجيه والتعليم!!! ذلك أنه من عند الله . . { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } . .
ـــــــــــــ
(1/73)
من شاق الرسول فله جهنم
قال تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) [النساء/115]
مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - بِارْتِدَادِهِ عَنِ الإِسْلاَمِ ، وَإِظْهَارِ العَدَاوَةِ لَهُ ، وَمَنْ يَسْلُكْ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ التِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ، فَصَارَ فِي شِقٍّ ، وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ آخَرَ ، وَذَلِكَ عَنْ عَمَدٍ مِنْهُ ، بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ الحَقُّ ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الرُّشْدُ ، وَمَنْ يَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ ، التِي قَامَ عَلَيْهَا إِجْمَاعُ الأُمَّةِ المُسْلِمَةِ ( وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ دَلِيلٌ عَلَى العِصْمَةِ مِنَ الخَطَأ ) ، جَازَاهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُحَسِّنَ لَهُ أَفْعَالَهُ فِي صَدْرِهِ ، وَيُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْارَجاً لَهُ ، وَيَجْعَلَ مَصِيرَهُ فِي جَهَنَّمَ ، يَصْطَلِي بِلَظَاهَا ، وَسَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمَصِيراً .
وقد ذكر في سبب نزول هذه المجموعة من الآيات . أن بشير بن أبيرق قد ارتد والتحق بالمشركين . . { من بعد ما تبين له الهدى } . . فقد كان في صفوف المسلمين ، ثم اتبع غير سبيل المؤمنين . . ولكن النص عام ، ينطبق على كل حالة ، ويواجه كل حالة من مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومشاقته كفر وشرك وردة ، ينطبق عليه ما ينطبق على ذلك الحادث القديم .والمشاقة - لغة - أن يأخذ المرء شقاً مقابلاً للشق الذي يأخذه الآخر . والذي يشاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يأخذ له شقاً وجانباً وصفاً غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى هذا أن يتخذ له منهجاً للحياة كلها غير منهجه ، وأن يختار له طريقاً غير طريقه . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء يحمل من عند الله منهجاً كاملاً للحياة يشتمل على العقيدة والشعائر التعبدية ، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها . . وهذه وتلك كلتاهما جسم هذا المنهج ، بحيث تزهق روح هذا المنهج إذا شطر جسمه فأخذ منه شق وطرح شق! والذي يشاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو كل من ينكر منهجه جملة ، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض ، فيأخذ بشق منه ويطرح شقاً!
وقد اقتضت رحمة الله بالناس ، ألا يحق عليهم القول ، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيراً ، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولاً . وبعد أن يبين لهم . وبعد أن يتبينوا الهدى . ثم يختاروا الضلالة . وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف . فإذا تبين له الهدى . أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله . ثم شاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه ، ولم يتبعه ويطعه ، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له ، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال ، ويوليه الوجهة التي تولاها ، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم . ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه : { ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ، ونصله جهنم . وساءت مصيراً! } . .
-----------------
وقال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) [محمد/32 ]
إنَّ الذِينَ كَفَرُوا باللهِ ، وَارتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَم وَخَالَفُوا الرَّسُولَ ، وَوَقَفُوا في وَجْهِ الحَقِّ أنْ يَبْلغَ النَّاسَ ، وَصَدُّوا النَّاسَ عنِ الدُّخُولِ في الإِسْلامِ بالقُّوَّةِ وبِالمَالِ وَبالخِدَاعِ ، وَشَاقُّوا الرَّسُولَ بِمُحَارَبتِهِ في حَيَاتِهِ ، وَبِمُحَارَبةِ دِينِهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ بَعْدَ مَماتِهِ .
إنَّ الذِينَ يُقْدِمُونَ عَلَى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ ، بَعْدَ أنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ هُوَ الحَقُّ ، فَإنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيئاً ، لأنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ، وَنَاصِرُ رَسُولِهِ وَمُظْهِرُ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّه ، وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ، وَسَيُحْبِطُ اللهُ أعْمَالَهَم ، فَتَنْتَهِي إلى الخَيْبَةِ والدَّمَارِ .
إنه قرار من الله مؤكد ، ووعد منه واقع : أن الذين كفروا ، ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس؛ وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل ، وشاقوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته بإعلان الحرب عليه ، والمخالفة عن طريقه ، والوقوف في غير صفه . أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته . وذلك { من بعد ما تبين لهم الهدى } . . وعرفوا أنه الحق؛ ولكنهم اتبعوا الهوى ، وجمح بهم العناد ، وأعماهم الغرض ، وقادتهم المصلحة العاجلة . .
قرار من الله مؤكد ، ووعد من الله واقع أن هؤلاء { لن يضروا الله شيئاً } . . وهم أضأل وأضعف من أن يذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى . فليس هذا هو المقصود . إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته .
ولن يحدثوا حدثاً في نواميسه وسننه . مهما بلغ من قوتهم ، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت . فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها؛ وليست ضراً حقيقياً لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه . والعاقبة مقررة : { وسيحبط أعمالهم } . . فتنتهي إلى الخيبة والدمار . كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام!
ـــــــــــــ
(1/74)
دعوة الرسل دعوة الحق والخير
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) [النساء/170]
بَعْدَ أَنْ أَقَامَ اللهُ سُبْحَانَهُ الحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الكِتَابِ ، وَرَدَّ شُبُهَاتِهِمْ ، وَاقْتِرَاحَاتِهِمُ التِي اقْتَرَحُوهَا تَعَنُّتاً وَعِنَاداً ، خَاطَبَ جَمِيعَ النَّاسِ ، وَأَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ ، وَشَفَعَهُ بِالوَعْدِ عَلَى عَمَلِ الخَيْرِ ، وَالوَعِيدِ عَلَى الكُفْرِ وَعَمَلِ السُّوءِ ، فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّهُمْ قَدَ جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ، بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ ، وَالبَيَانِ الشَّافِي مِنَ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَعَلَيهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ ، وَأنْ يَتَّبِعُوهُ ، لأنَّ فِي ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ . ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : أمَّا إذَا أَصْرَرْتُمْ عَلَى الكُفْرِ ، أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ، فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ، وَعَنْ إِيْمَانِكُمْ ، وَلاَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ ، لأنَّهُ يَمْلِكُ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَهُمْ جَمِيعاً خَلْقُهُ وَعَبِيدُهُ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْكُمُ الهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الغِوَايَةَ فَيُضِلَّهُ وَيُغْوِيهِ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ .
وهي دعوة سبقها دحض مفتريات أهل الكتاب ، وكشف جبلة اليهود ومناكرهم في تاريخهم كله ، وتصوير تعنتهم الأصيل ، حتى مع موسى نبيهم وقائدهم ومنقذهم ، كما سبقها بيان طبيعة الرسالة وغايتها . وهذه الغاية وتلك الطبيعة تقتضيان أن يرسل الله الرسل ، وتقتضيان أن يرسل الله محمداً حتماً . فهو رسول إلى العالمين . إلى الناس كافة - بعدما غبرت الرسالات كلها خاصة بقوم كل رسول - فلم يكن بد من تبليغ عام في ختام الرسالات ، يبلغ إلى الناس كافة : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } . . ولو لم تكن هذه الرسالة عامة للناس كافة لكان للناس - ممن سيأتون من أجيال وأمم - حجة على الله . فانقطعت هذه الحجة بالرسالة العامة للناس وللزمان ، وكانت هي الرسالة الأخيرة . فإنكار أن هناك رسالة بعد أنبياء بني إسرائيل غير عيسى ، أو بعد عيسى - عليه السلام - لا يتفق مع عدل الله ، في أن يأخذ الناس بالعقاب بعد البلاغ . . ولم يسبق أن كانت هناك رسالة عامة . ولم يكن بد من هذه الرسالة العامة . . فكانت بعدل الله ورحمته بالعباد . . وكان حقاً قول الله سبحانه { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة . كما يتجلى من هذا البيان . .
ـــــــــــــ
(1/75)
نهي الرسول عن الحزن على من سارع بالكفر
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) [المائدة/41]
نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَالتِي بَعْدَهَا فِي المُنَافِقِينَ ، الذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ، وَفِي أعْدَاءِ الإِسْلامِ مِنَ اليَهُودِ ، الذِينَ كَانُوا كَثِيرِي الاسْتِمَاعِ إلى كَلامِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالإِخْبَارِ عَنْهُ ، لأجْلِ الكَذِبِ عَلَيهِ بِالتَّحْرِيفِ وَاسْتِنْبَاطِ الشُّبُهَاتِ ، فَهُمْ جَوَاسِيسُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ لأعْدَائِهِمْ ، مَهَمَّتُهُمْ إبْلاغُ رُؤُوسِ الكُفْرِ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ ، كُلَّ مَا يَقِفُونَ عَلَيهِ لِيَكُونَ مَا يَفْتَرُونَهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُسْلِمِينَ مِنْ كَذِبٍ مَقْبُولاً ، لأنَّهُمْ يَرْوُونَ مَا يُقَالُ ، وَيُحَرِّفُونَ فِيهِ ، وَكَانَ هَؤُلاءِ يَأتُونَ إلى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ ، ثُمَّ يَنْقُلُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْهُ إلى الرُّؤسَاءِ ذَوِي الكّيْدِ ، الذِينَ لَمْ يَأْتُوا إلَى النَّبِيِّ لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ بِآذَانِهِمْ ، إمّا كِبْراً وَإِمَّا تَمَرُّداً .
وَيَقُومُ الرُّؤسَاءُ الرُّوحِيُّونَ مِنَ اليَهُودِ بِتَحْرِيفِ كَلامِ التَّورَاةِ مِنْ بَعْدِ أنْ وَضَعَهُ اللهُ فِي مَوَاضِعِهِ ، وَأَحْكَمَهُ ، إمَّا تَحْريفاً لَفْظِيَاً ، بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِكَلِمَةٍ ، وَإِمّا بِإخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ ، وَإِما بِالزِّيَادَةِ فِيهِ ، أوْ بِالنَّقْصِ مِنْهُ ، وَإمَّا تَحْرِيفاً مَعْنَوسّاً ، بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنى يَخْتَلِفُ عَنِ المَعْنَى الذِي قَصَدَهُ الشَّارِعُ ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : إنْ حَكَمَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ الحُكْمَ الذِي تُرِيدُونَ فَاقْبَلُوهُ ، وَإنْ قَضَى بِغَيْرِهِ فلا تَسْتَمِعُوا إليهِ .
( وَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي يَهُودَيَّين زَنَيا بَعْدَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى المَدِينَةِ بِقَلِيلٍ ، وَكَانَ اليَهُودُ قَدْ تَخَلَّوْا عَنْ تَنْفِيذِ مَا شَرَّعَهُ اللهُ لَهُمْ فِي التَّورَاةِ مِنْ رَجْمِ الزُّنَاةِ المُحْصِنِينَ ، فَحَرَّفُوا حُكْمَ اللهِ ، وَاصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى جَلْدِ الزَّانِي مِئَةَ جَلْدَةٍ مَعَ صَبْغِ الوَجْهِ بِالسَّوَادِ ( وَيُسَمُّونَهُ التَّحْمِيمَ ) . فَلَمَّا وَقَعَتْ حَادِثَةُ الزِّنَى ، قَالَ بَعْضُ اليَهُودِ لِبَعْضٍ تَعَالُوا نَتَحَاكَمُ إلى مُحَمَّدٍ فَإنْ حَكَمَ بِالجَلْدِ ، وَصَبْغِ الوَجْهُ بِالسَّوَادِ ، فَخُذُوا ذلِكَ عَنْهُ ، وَاجْعَلُوهُ حُجَّةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ ، وَيَكُونُ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ قَدْ حَكَمَ بَيْنَكُمْ بِذَلِكَ ، وَإنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلاَ تَتَّبِعُوهُ . فَلَمَّا جَاؤُوا إلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - سَألَهُمْ عَمَّا فِي كِتَابِهِمْ فِي حُكْمِ الزُّنَاةِ ، فَقَالُوا نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ . فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلاَّمٍ - وَكَانَ حَبْراً مِنْ أحْبَارِهِمْ ثُمَّ أَسْلَمَ - كَذَيْتُمْ إنَّ فِيهِ الرَّجْمَ ) .
وَمَنْ أَرَادَ اللهُ أنْ يَخْتَبِرَهُ فِي دِينِهِ فَيُظْهِرَ الاخْتِبَارُ كُفْرَهُ وَضَلاَلَهُ ، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ يَِا مُحَمَّدُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، لأنَّ اللهَ لَمْ يُرِدْ أنْ يُطَهْرَ قَلْبَهُ ، وَلاَ أنْ يَهْدِيَهُ؛ وَلِهَذا الضَّالِّ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ، وَلَهُ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . فَلا تَحْزَنْ يَِا مُحَمَّدُ بَعْدَ هَذَا عَلَى مُسَارَعَتِهِمْ فِي الكُفْرِ ، وَلاَ تَطْمَعُ فِي هِدَايَتِهِمْ إلى الإِيمَانِ ، فَإِنَّكَ لاَ تَمْلِكُ لأَحَدٍ نَفْعاً ، وَإِنَّمَا عَلَيكَ البَلاَغُ .
هذه الآيات تشي بأنها مما نزل في السنوات الأولى للهجرة؛ حيث كان اليهود ما يزالون بالمدينة - أي قبل غزوة الأحزاب على الأقل وقبل التنكيل ببني قريظة إن لم يكن قبل ذلك ، أيام أن كان هناك بنو النضير وبنو قينقاع ، وأولاهما أجليت بعد أحد والثانيه أجليت قبلها - ففي هذه الفترة كان اليهود يقومون بمناوراتهم هذه؛ وكان المنافقون يأرزون إليهم كما تأرز الحية إلى الجحر! وكان هؤلاء وهؤلاء يسارعون في الكفر؛ ولو قال المنافقون بأفواههم : آمنا . . وكان فعلهم هذا يحزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويؤذيه . .
والله - سبحانه - يعزي رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويواسيه؛ ويهون عليه فعال القوم ، ويكشف للجماعة المسلمة حقيقة المسارعين في الكفر من هؤلاء وهؤلاء؛ ويوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المنهج الذي يسلكه معهم حين يأتون إليه متحاكمين؛ بعد ما يكشف له عما تآمروا عليه قبل أن يأتوا إليه وما بيتوه : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا ، بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . . . }
روي أن هذه الآيات نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم - تختلف الروايات في تحديدها - منها الزنا ومنها السرقة . . وهي من جرائم الحدود في التوراة؛ ولكن القوم كانوا قد اصطلحوا على غيرها؛ لأنهم لم يريدوا أن يطبقوها على الشرفاء فيهم في مبدأ الأمر . ثم تهاونوا فيها بالقياس إلى الجميع ، وأحلوا محلها عقوبات أخرى من عقوبات التعازير ( كما صنع الذين يزعمون أنهم مسلمون في هذا الزمان! ) . . فلما وقعت منهم هذه الجرائم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تآمروا على أن يستفتوه فيها .. فإذا أفتى لهم بالعقوبات التعزيرية المخففة عملوا بها ، وكانت هذه حجة لهم عند الله . . فقد أفتاهم بها رسول! . . وإن حكم فيها بمثل ما عندهم في التوراة لم يأخذوا بحكمه . . فدسوا بعضهم يستفتيه . . ومن هنا حكاية قولهم : { إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا } . .
وهكذا بلغ منهم العبث ، وبلغ منهم الاستهتار ، وبلغ منهم الالتواء أيضاً في التعامل مع الله والتعامل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المبلغ . . وهي صورة تمثل أهل كل كتاب حين يطول عليهم الأمد ، فتقسو قلوبهم؛ وتبرد فيها حرارة العقيدة ، وتنطفئ شعلتها؛ ويصبح التفصي من هذه العقيدة وشرائعها وتكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل؛ ويبحث له عن « الفتاوى » لعلها تجد مخرجاً وحيلة؛ أليس الشأن كذلك اليوم بين الذين يقولون : إنهم مسلمون : { من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } ! أليسوا يتلمسون الفتوى للاحتيال على الدين لا لتنفيذ الدين؟ أليسوا يتمسحون بالدين أحياناً لكي يقر لهم أهواءهم ويوقع بالموافقة عليها! فأما إن قال الدين كلمة الحق وحكم الحق فلا حاجة بهم إليه . . { يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه؛ وإن لم تؤتوه فاحذروا } ! إنه الحال نفسه . ولعله لهذا كان الله - سبحانه - يقص قصة بني إسرائيل بهذا الإسهاب وهذا التفصيل ، لتحذر منها أجيال « المسلمين » وينتبه الواعون منها لمزالق الطريق .
والله - سبحانه - يقول لرسوله في شأن هؤلاء المسارعين بالكفر ، وفي شأن هؤلاء المتآمرين المبيتين لهذه الألاعيب : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . فهم يسلكون سبيل الفتنة ، وهم واقعون فيها ، وليس لك من الأمر شيء ، وما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنة وقد سلكوا طريقها ولجوا فيها : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } . .
وهؤلاء دنست قلوبهم ، فلم يرد الله أن يطهرها ، وأصحابها يلجون في الدنس :{ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } . .وسيجزيهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة :{ لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم } . .فلا عليك منهم ، ولا يحزنك كفرهم ، ولا تحفل بأمرهم . فهو أمر مقضي فيه . .
ثم يمضي في بيان حال القوم ، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك ، قبل أن يبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين :
{ سماعون للكذب ، أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين } . .
كرر أنهم سماعون للكذب . مما يشي بأن هذه أصبحت خصلة لهم . . تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل ، وتنقبض لسماع الحق والصدق . . وهذه طبيعة القلوب حين تفسد ، وعادة الأرواح حين تنطمس .. ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة ، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات . . وما أروج الباطل في هذه الآونة وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة!
وهؤلاء : سماعون للكذب . أكالون للسحت . . والسحت كل مال حرام . . والربا والرشوة وثمن الكلمة والفتوى! في مقدمة ما كانوا يأكلون ، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان! وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركة ويمحقها . وما أشد أنقطاع البركة وزوالها من المجتمعات المنحرفة . كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله .
ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه - فإن شاء أعرض عنهم - ولن يضروه شيئاً - وإن شاء حكم بينهم . فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط ، غير متأثر بأهوائهم ، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم . .
{ إن الله يحب المقسطين } . .والرسول - صلى الله عليه وسلم - والحاكم المسلم ، والقاضي المسلم ، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن؛ وإنما يقوم بالقسط لله . لأن الله يحب المقسطين . فإذا ظلم الناس وإذا خانوا ، وإذا انحرفوا ، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم . لأنه ليس عدلاً لهم؛ وإنما هو لله . . وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام ، في كل مكان وفي كل زمان .
وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر . إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتمياً . فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله . وأهلها جميعاً ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة . مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام؛ وهو ألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام؛ وعلى ما يختص بالنظام العام . فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم ، كامتلاك الخنزير وأكله ، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم . ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم . وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا . كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء ، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعاً : مسلمين وغير مسلمين . فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام . .
وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير ، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ مثال ذلك ما رواه مالك ، عن نافع ، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - : « إن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ « فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال عبدالله بن سلام : كذبتم . إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال عبدالله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم . فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم! فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما . فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة ». ( أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري )
ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس قال :« أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وَسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا ، وفرقاً منكم . فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم! فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكماً بينهم . ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم! فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه! فدسوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر الله رسوله ص بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } ، إلى قوله : { الفاسقون } . . ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل . . ( أخرجه أبو داود من حديث أبى الزناد عن أبيه ) . . وفي رواية لابن جرير عين فيها » العزيزة « وهي بنو النضير » والذليلة « وهي بنو قريظة . . مما يدل - كما قلنا - على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم . .
ـــــــــــــ
(1/76)
جزاء من آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب
قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) [المائدة/82-86]
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّ أَكْثَر النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( الذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَاتَّبَعُوهُ ) ، هُمُ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ . وَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ هُمُ النَّصَارَى ، الذِينَ قَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ يُتَابِعُونَ المَسِيحَ عَلَى دِينِهِ ، لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرِّقَّةِ وَالرَّأْفَةِ ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ ، وَيُبَصِّرُونَهُمْ بِمَا فِي دِينِهِمْ مِنْ سُمُوٍّ وَآدَابٍ وَفَضَائِلَ ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ رُهْبَاناً يَضْرِبُونَ لَهُمُ المَثَلَ فِي الزُّهْدِ وَالتَقَشُّفِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَزُخْرُفِهَا وَفِتْنَتِهَا ، وَيُنَمُّونَ فِي نُفُوسِهِمُ الخَوْفَ مِنَ اللهِ ، وَالانْقِطَاعَ لِلْعِبَادَةِ ، وَإنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الإِذْعَانِ لِلْحَقِّ ، حِينَمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أنَّهُ حَقٌّ .
( كَانَ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ يَشْتَرِكُونَ فِي بَعْضِ الصِفَاتِ التِي اقْتَضَتْ عَدَاوَتَهُمُ الشَّدِيدَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ : كَالكِبْرِ وَالعُتُوِّ وَالبَغْيِّ وَالأَثَرَةِ وَالقَسْوَةِ ، وَضَعْفِ العَاطِفَةِ الإِنْسَانِيَّةِ ( مِنْ حَنَانٍ وَرَحْمَةٍ ) وَالعَصَبِيَّةِ القَوْمِيَّةِ . وَكَانَ مُشْرِكُو العَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَرَقَّ مِنَ اليَهُودِ قُلُوباً ، وَأَعْظَمَ سَخَاءً وَإِيثَاراً ، وَأَكْثَرَ حُرِّيَّةً فِي الفِكْرِ وَاسْتِقْلالاً فِي الرَّأْيِ ) .
وَإذَا سَمِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ القُرْآنِ ، وَتُلِيَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ ، تُفيِضُ عُيُونُهُمْ بِالدَّمْعِ ( أَيْ يَبْكُونَ حَتَّى يَسيلَ الدَّمعُ مِنْ عُيُونِهِمْ ) ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ مَا بَيْنَهُ القُرْآنُ هُوَ الحَقُّ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ عُتُوٌّ وَلاَ اسْتِكْبَارٌ وَلا تَعَصُّبٌ كَمَا يَمْنَعُ غَيرَهُمْ . وَحِينَ يَسْمَعُونَ الحَقَّ الذِي جَاءَ بِهِ القُرْآنُ ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا جَاءَ فِي كُتُبِهِمْ ، يَتَضَرَّعُونَ إلى اللهِ بِأنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ إيمَانَهُمْ وَأنْ يَكْتُبَهُمْ مَعْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، لأنَّهُمْ يَعْلمُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ ، وَمِمَّا يَتَنَاقََلُونَهُ عَنْ أَسْلاَفِهِمْ ، أنَّ النَّبِيَّ الأَخِيرَ الذِي يَكْمُلُ بِهِ الدِّيْنُ ، وَيَتمُّ التَّشْرِيعُ ، يَكُونُ مُتَّبِعُوهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونُونَ حُجَّةً عَلَى المُشْرِكِينَ وَالمُبْطِلِينَ .
وَيَقُولُ هَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّصَارَى : وَمَا الذِي يَمْنَعُنَا مِنْ أنْ نُؤْمِنَ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَمَا الذِي يَصُدُّنَا عَنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، بَعْدَ أنْ ظَهَرَ أنَّهُ رُوُحُ الحَقِّ الذِي بَشَّرَ بِهِ المَسِيحُ وَإِنَّنَا لَنَطْمَعُ أنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ بِالعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ .
فَجَازَاهُمُ اللهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِرُسُلُهِ ، وَعَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِالحَقِّ ، وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ بِإدْخَالِهِمْ فِي رَحْمَتِهِ ، وَإسْكَانِهِمْ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي فِي جَنَبَاتِهَا الأَنْهَارُ ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أبَداً وَذَلِكَ هُوَ الجَزَاءُ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِمَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً .
وَالذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ ، وَبِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ ، وَجَحَدُوا آيَاتِهِ وَخَالَفُوهَا ، فَأُولَئِكَ سَيَكُونُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَسَيَبْقُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبداً .
لقد كانت هذه الأمة تتلقى هذا القرآن لتقرر - وفق توجيهاته وتقريراته - خطتها وحركتها ، ولتتخذ - وفق هذه التوجيهات والتقريرات - مواقفها من الناس جميعاً . فهذا الكتاب كان هو موجهها ومحركها ورائدها ومرشدها . . ومن ثم كانت تَغلب ولا تُغلب ، لأنها تخوض معركتها مع أعدائها تحت القيادة الربانية المباشرة؛ مذ كان نبيها يقودها وفق الإرشادات الربانية العلوية . .
وهذه الإرشادات الربانية ما تزال؛ والتقريرات التي تضمنها ذلك الكتاب الكريم ما تزال . والذين يحملون دعوة الاسلام اليوم وغداً خليقون أن يتلقوا هذه التقريرات وتلك الإرشادات كأنهم يخاطبون بها اللحظة؛ ليقرروا على ضوئها مواقفهم من شتى طوائف الناس؛ ومن شتى المذاهب والمعتقدات والآراء ، ومن شتى الأوضاع والأنظمة وشتى القيم والموازين . . اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . .
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . . }
إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطاباً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن تكون كذلك خطاباً عاما خرج مخرج العموم ، لأنه يتضمن أمراً ظاهراً مكشوفاً يجده كل إنسان . وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم . . وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهر الذي تؤديه . .
فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا؛ وأن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى ، ويجده كل من يتأمل!
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيباً .
. ولكن تقديم اليهود هنا ، حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أصلا أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأناً خاصاً غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي! إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة ، وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا! ونقول : إن هذا « على الأقل » . ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا . .
وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة ، فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائماً أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمداً من عداء الذين أشركوا!
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة . وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة . وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل؛ والتي لم تخبُ لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا ، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعاً
لقد عقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول مقدمه إلى المدينة ، معاهدة تعايش مع اليهود؛ ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة . . ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل ، حتى قال الله فيهم : { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون . أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟ بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام ، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج ، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تعد لليهود فرصة للتسلط!
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية ، وأفادتها من قرون السبي في بابل ، والعبودية في مصر ، والذل في الدولة الرومانية .
ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة؛ وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة : { ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق - يوم أن كان الناس مسلمين - استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه - ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين ، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الأرض؛ وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة ، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين ، ويشنونها حرباً صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين!
وصدق الله العظيم : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا }
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة؛ وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم؛ وبين قريش في مكة ، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . يهودي . .
والذي ألب العوام ، وجمع الشراذم ، وأطلق الشائعات ، في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما تلاها من النكبات . . يهودي . .والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الروايات والسير . . يهودي . .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة؛ ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال « الدستور » بها في عهد السلطان عبدالحميد ، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي « البطل » أتاتورك . . يهودي . .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود!
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية . . يهودي . . ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي . . ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود!
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا ، وأعرض مجالا ، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا . . إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها . وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول . وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة؛ ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية .. ( التي تعد الماركسية مجرد فرع لها ) وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية ، التي سنتعرض لها في الفقرة التالية .فإذا سمعنا الله - سبحانه - يقول :{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } . .
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا . . ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي ، فإننا ندرك طرفاً من حكمة الله في تقديم اليهود على الذين أشركوا!
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة ، التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام ، وعلى نبي الإسلام ، فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها . . ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله! . . ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه . .
{ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ، وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون : ربنا آمنا ، فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء المحسنين . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } . .
إن هذه الآيات تصور حالة ، وتقرر حكما في هذه الحالة . . تصور حالة فريق من أتباع عيسى - عليه السلام - : { الذين قالوا : إنا نصارى } . . وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . .
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالا للشك في أنها تصور حالة معينة ، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين ، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها ، ويجعلون منها مادة للتميع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة ، وموقف هذه المعسكرات منهم . . لذلك نجد من الضروري - في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص : إن الحالة التي تصورها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس ، قالوا : إنا نصارى . هم أقرب مودة للذين آمنوا : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } . . فمنهم من يعرفون حقيقة دين النصارى فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم . .ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد ، ولا يدع الأمر مجهلا ومعمماً على كل من قالوا : إنا نصارى . . إنما هو يمضي فيصور موقف هذه الفئة التي يعنيها : { واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون ربنا آمنا ، فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } . .فهذا مشهد حي يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس ، الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا .
. إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم ، ولانت قلوبهم ، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه . والذي لا يجدون له في أول الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير - وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفي بها القول ، فيفيض الدمع ، ليؤدي ما لا يؤديه القول؛ وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف .
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع؛ ولا يقفون موقفا سلبيا من الحق الذي تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن؛ والشعور بالحق الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان . . إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موقفا إيجابيا صريحا . . موقف القبول لهذا الحق ، والإيمان به ، والإذعان لسلطانه ، وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذعان في لهجة قوية عميقة صريحة : { يقولون : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين؟ } . .
إنهم أولاً يعلنون لربهم إيمانهم بهذا الحق الذي عرفوه . ثم يدعونه - سبحانه - أن يضمهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق؛ وأن يسلكهم في سلك الأمة القائمة عليه في الأرض . . الأمة المسلمة ، التي تشهد لهذا الدين بأنه الحق ، وتؤدي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر . . فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمون إلى هذه الأمة المسلمة؛ ويشهدون ربهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعه هذه الأمة؛ ويدعونه - سبحانه - أن يكتبهم في سجلها . .
ثم هم بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوق عن الإيمان بالله؛ أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لايؤمنوا به ، ولا يأملوا - بهذا الإيمان - أن يقبلهم ربهم ، ويرفع مقامهم عنده ، فيدخلهم مع القوم الصالحين : { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين؟ } . .فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق . . موقف الاستماع والمعرفة ، ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر ، ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة ، مع دعاء الله - سبحانه - أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق؛ الذين يؤدون شهادتهم سلوكاً وعملاً وجهاداً لإقراره في الأرض ، والتمكين له في حياة الناس . ثم وضوح الطريق في تقديرهم وتوحده؛ بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد : هو طريق الإيمان بالله ، وبالحق الذي أنزله على رسوله ، والأمل - بعد ذلك - في القبول عنده والرضوان .
ولا يقف السياق القرآني هنا عند بيان من هم الذين يعنيهم بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا من الذين قالوا : إنا نصارى؛ وعند بيان سلوكهم في مواجهة ما أنزل الله الى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحق؛ وفي اتخاذ موقف إيجابي صريح ، بالإيمان المعلن ، والانضمام إلى الصف المسلم؛ والاستعداد لأداء الشهادة بالنفس والجهد والمال؛ والدعاء إلى الله أن يقبلهم في الصف الشاهد لهذا الحق على هذا النحو؛ مع الطمع في أن يختم لهم بالانضمام إلى موكب الصالحين ..
لا يقف السياق القرآني عند هذا الحد في بيان أمر هؤلاء الذين يقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . بل يتابع خطاه لتكملة الصورة ، ورسم المصير الذي انتهوا إليه فعلاً : { فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . وذلك جزاء المحسنين } . .
لقد علم الله صدق قلوبهم وألسنتهم؛ وصدق عزيمتهم على المضي في الطريق؛ وصدق تصميمهم على أداء الشهادة لهذا الدين الجديد الذي دخلوا فيه؛ ولهذا الصف المسلم الذي اختاروه ، واعتبارهم أن أداء هذه الشهادة - بكل تكاليفها في النفس والمال - منة يمن الله بها على من يشاء من عباده؛ واعتبارهم كذلك أنه لم يعد لهم طريق يسلكونه إلا هذا الطريق الذي أعلنوا المضي فيه؛ ورجاءهم في ربهم أن يدخلهم مع القوم الصالحين . .
لقد علم الله منهم هذا كله؛ فقبل منهم قولهم ، وكتب لهم الجنة جزاء لهم؛ وشهد لهم - سبحانه - بأنهم محسنون ، وأنه يجزيهم جزاء المحسنين : { فأثابهم الله - بما قالوا - جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . وذلك جزاء المحسنين . . }
والإحسان أعلى درجات الإيمان والإسلام . . والله - جل جلاله - قد شهد لهذا الفريق من الناس أنه من المحسنين .
هو فريق خاص محدد الملامح هذا الذي يقول عنه القرآن الكريم : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى } . .
هو فريق لا يستكبر عن الحق حين يسمعه ، بل يستجيب له تلك الاستجابة العميقة الجاهرة الصريحة . وهو فريق لا يتردد في إعلان استجابته للإسلام ، والانضمام للصف المسلم؛ والانضمام إليه بصفة خاصة في تكاليف هذه العقيدة؛ وهي أداء الشهادة لها بالاستقامة عليها والجهاد لإقرارها وتمكينها . وهو فريق علم الله منه صدق قوله فقبله في صفوف المحسنين . .
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد في تحديد ملامح هذا الفريق المقصود من الناس الذين تجدهم أقرب مودة للذين آمنوا . بل إنه ليمضي فيميزه من الفريق الآخر من الذين قالوا : إنا نصارى . ممن يسمعون هذا الحق فيكفرون به ويكذبون ، ولايستجيبون له ، ولا ينضمون إلى صفوف الشاهدين : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } . .
والمقصود قطعاً بالذين كفروا وكذبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون - من الذين قالوا إنا نصارى - ثم لا يستجيبون .
والقرآن يسميهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف . سواء في ذلك اليهود والنصارى؛ ويضمهم إلى موكب الكفار مع المشركين سواء؛ ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق؛ وفي موقف الامتناع عن الدخول في الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس ديناً سواه . . نجد هذا في مثل قول الله سبحانه: { لم يكن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - منفكين حتى تأتيهم البينة } { إن الذين كفروا من - أهل الكتاب والمشركين - في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم } { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } فهو تعبير مألوف في القرآن ، وحكم معهود . . وهو يأتي هنا للتفرقة بين فريقين من الذين قالوا : إنا نصارى؛ وللتفرقة بين موقف كل فريق منهما تجاه الذين آمنوا؛ وللتفرقة كذلك بين مصير هؤلاء وأولئك عند الله . . هؤلاء لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين . وأولئك أصحاب الجحيم . .وليس كل من قالوا : إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا } . . كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها . . إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضاً ، ولا ملامحها مجهلة ، ولا موقفها متلبساً بموقف سواها في كثير ولا قليل . .
ولقد وردت روايات لها قيمتها في تحديد من هم النصارى المعنيون بهذا النص :
(1/77)
أورد القرطبي في تفسيره : « وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه ، لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحاق وغيره - خوفاً من المشركين وفتنتهم؛ وكانوا ذوي عدد . ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه ، حالت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرب . فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة . فأهدوا إلى النجاشي وابعثوا له برجلين من ذوي رأيكم يعطيكم من عنده ، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر . فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا . فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي؛ فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين ، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم . ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ سورة » مريم « فقاموا تفيض أعينهم من الدمع .فهم الذين أنزل الله فيهم : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى } وقرأ إلى { الشاهدين } ( رواه أبو داود . قال : حدثنا محمد بن مسلمة المرادي ، قال : حدثنا ابن وهب . قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، عن أبي بكر عبدالرحمن بن الحرث بن هشام . وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير : أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة . وساق الحديث بطوله .
« وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال : قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرون رجلاً وهو بمكة ، أو قريب من ذلك ، من النصارى حين ظهر خبره ، من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فكلموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة . فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا ، دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله عز وجل ، وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا : خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل ، فلم تطل مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ، ما نعلم ركباً أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا نألو أنفسنا خيراً . . فيقال : إن النفر النصارى من أهل نجران . ويقال : إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } إلى قوله : { لا نبتغي الجاهلين } » وقيل : إن جعفراً وأصحابه قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف ، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيراء الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن . فقرأ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة « يس » إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا به ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى . فنزلت فيهم { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى } . . يعني وفد النجاشي . وكانوا أصحاب الصوامع . وقال سعيد بن جبير : وأنزل الله فيهم أيضاً { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } إلى قوله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } إلى آخر الآية . وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلاً من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية وستين من أهل الشام . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى ، فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - آمنوا به فأثنى الله عليهم « .وهذا الذي نقرره في معنى هذا النص؛ والذي يدل عليه السياق بذاته ، وتؤيده هذه الروايات التي أسلفنا ، هو الذي يتفق مع بقية التقريرات في هذه السورة وفي غيرها عن موقف أهل الكتاب عامة - اليهود والنصارى - من هذا الدين وأهله . كما أنه هو الذي يتفق مع الواقع التاريخي الذي عرفته الأمة المسلمة خلال أربعة عشر قرناً .
إن السورة وحدة في اتجاهها وظلالها وجوها وأهدافها؛ وكلام الله سبحانه لا يناقض بعضه بعضاً . { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } وقد وردت في هذه السورة نفسها نصوص وتقريرات ، تحدد معنى هذا النص الذي نواجهه هنا وتجلوه . . نذكر منها : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين } { قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ، فلا تأس على القوم الكافرين } كذلك جاء في سورة البقرة : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم . قل : إن هدى الله هو الهدى؛ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } كذلك صدّق الواقع التاريخي ما حذر الله الأمة المسلمة إياه؛ من اليهود ومن النصارى سواء . وإذا كان الواقع التاريخي قد حفظ لليهود وقفتهم النكدة للإسلام منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الإسلام عليهم المدينة؛ في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة؛ وإذا كان اليهود لا يزالون يقودون الحملة ضد الإسلام في كل أرجاء الأرض اليوم في حقد خبيث وكيد لئيم . . فإن هذا الواقع قد حفظ كذلك للنصارى الصليبيين أنهم اتخذوا من الإسلام موقف العداء منذ واقعة اليرموك بين جيش المسلمين وجيوش الروم - فيما عدا الحالات التي وقع فيها ما تصفه الآيات التي نحن بصددها فاستجابت قلوب للإسلام ودخلت فيه . وفيما عدا حالات أخرى آثرت فيها طوائف من النصارى أن تحتمي بعدل الإسلام من ظلم طوائف أخرى من النصارى كذلك؛ يلاقون من ظلمها الوبال! - أما التيار العام الذي يمثل موقف النصارى جملة فهو تلك الحروب الصليبية التي لم يخب أوارها قط - إلا في الظاهر - منذ التقى الإسلام والرومان على ضفاف اليرموك!
لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان ، كما تجلت في حروب الإبادة التي شنتها الصليبية على الإسلام والمسلمين في الأندلس ، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على المماليك الإسلامية في إفريقية أولاً ، ثم في العالم كله أخيراً ..
ولقد ظلت الصهيونية العالمية والصليبة العالمية حليفتين في حرب الإسلام - على كل ما بينهما من أحقاد - ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العليم الخبير : { بعضهم أولياء بعض } حتى مزقوا دولة الخلافة الأخيرة . ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة . وبعد أن أجهزوا على عروة « الحكم » ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على عروة « الصلاة »!
ثم ها هم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنيين . فيؤيدون الوثنية حيثما وجدت ضد الإسلام . عن طريق المساعدات المباشرة تارة ، وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة أخرى! وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقف الصليبية منها ببعيد .
وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض . وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم ، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام ، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال!
هذا موجز سريع لما سجله الواقع التاريخي طوال أربعة عشر قرناً؛ من مواقف اليهودية والصليبية تجاه الإسلام؛ لا فرق بين هذه وتلك؛ ولا افتراق بين هذا المعسكر وذاك في الكيد للإسلام ، والحقد عليه ، والحرب الدائبة التي لا تفتر على امتداد الزمان .
وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً؛ فلا ينساقوا وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة؛ التي تنظر إلى أوائل مثل هذا النص القرآني - دون متابعة لبقيته؛ ودون متابعة لسياق السورة كله ، ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة ، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله - ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد؛ الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها ، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة .
إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئاً أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة - مهما قل عددها وعدتها - فالذين ينيمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة . وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة؛ ولكن ضررهم لا يقل - حينئذ - عن ضرر أعدى الأعداء ، بل إنه ليكون أشد أذى وضراً .
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم؛ وهو لا يناقض بعضه بعضاً فلنقرأه إذن على بصيرة . .
ـــــــــــــ
(1/78)
التحذير من معصية الرسول
قال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) [المائدة/92]
يَأمُرُ ناللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أمَرَ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ الخَمْرِ وَالمَيسِرِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ المُحَرَّمَاتِ ، وَبِطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيمَا بَيَّنَهُ لَهُمْ مِنْ شَرْعِ اللهِ ، وَفِيمَا يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَهُمْ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ العِصْيَانِ وَالمُخَالَفَةِ وَالعِنَادِ . ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ إنْ تَوَلَّوْا عَنِ الإِيمَانِ ، وَأصَرُّوا عَلَى المُخَالَفَةِ ، وَالاعْتِدَاءِ عَلَى حُرُماتِ اللهِ ، وَعَلَى تَجَاوُزِ شَرْعِهِ الكَرِيمِ ، فَإنَّ الحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَيهِمْ ، وَالرَّسُولُ قَامَ بِمَا أمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنَ الإِبْلاغِ وَالإِنْذَارِ وَالدَّعْوَةِ ، وَإنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى اللهِ فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أعْمَالِهِمْ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِها
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله : طاعة الله وطاعة الرسول . . الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة ، والتهديد الملفوف : { فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } . .
وقد بلّغ وبيّن ، فتحددت التبعة على المخالفين ، بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم ، في هذا الأسلوب الملفوف ، الذي ترتعد له فرائص المؤمنين! . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحداً إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأدى؛ ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم ، وما هو بدافع عنهم عذاباً - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين!
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب ، فتنفتح له مغاليقها ، وتتكشف له فيها المسالك والدروب . .
ـــــــــــــ
(1/79)
الكفار يقلدون الآباء والأجداد ويؤثرون ذلك على دعوة الرسل
قال تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) [المائدة/103-104]
البَحِيرَةُ هِيَ الوَاحِدَةُ مِنَ الأنْعَامِ التِي يَبْحَرُونَ أذْنَهَا ، أيْ يَشُقُّونَهَا شَقّاً وَاسِعاً ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إذَا انْتَجَتْ خَمْسَةَ أبِطُنٍ وَكَانَ الخَامِسُ أنْثَى . وَكَانُوا يَجْعَلُونَ دَرَّهَا لِلطَّوَاغِيتِ ، فَلاَ يَحْلِبُهَا أحَدٌ مِنَ النَّاسِ ، وَيُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ .
السَّائِبَةُ - وَهِيَ التِي تُسَيَّبُ بِأنْ يَنْذُرُهَا لىلِهَتِهِمْ ، فَتَرْعَى حَيْثُ تَشَاءُ ، وَلا يُحْمَلُ عَلَيهَا شَيءٌ ، وَلا يُجَزُّ صُوفُها ، وَلا يُحْلَبُ لَبَنُها إلاَّ لِضَيْفٍ .
الوَصِيلَةُ - هِيَ النَّاقَةُ البكْرُ ، تُبْكِرُ فِي أوَّلِ نَتَاجِ الإِبْلِ ، ثُمَّ تُثنِّي بِأنْثَى ، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَها لِطَواغِيتِهِمْ إنْ وَصَلَتْ إِحْداهما بِالأخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ .
الحَامِي - هُوَ فَحْلُ الإِبِلِ يُولدُ مِنْ ظَهْرِهِ عَشَرَةُ أبْطُنٍ ، فَيَقُولُونَ حَمَى ظَهْرَهُ ، فَلاَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ ، وَلا يُمْنَعُ مَاءً وَلا مَرْعَى .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِهَؤُلاءِ بِأنْ يُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّهُ اللهُ ، وَلَمْ يَشُرَعْ مَا شَرَعَهُ البُغَاةُ لأنْفُسِهِمْ ، وَلكنَّ الذِينَ كَفَروا يَفْتَرُونَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَهُ شَرْعاً وَقُرْبةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إليهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَاصِلٍ ، بَلْ هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ ، وَأكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ .
وَإذا دُعُوا إلَى مَا شَرَعَهُ اللهُ وَأَوْجَبَهُ ، فِي القُرْآنِ ، مِنَ الأَحْكَامِ المُؤَيَّدَةِ بِالحُجَجِ وَالأَدِلَّةِ ، وَإلَى رَسُولِهِ المُبَيِّنِ لِمُجْمَلِ هَذِهِ الأحْكَامِ ، وَإلَى تَرْكِ مَا حَرَّمَهُ اللهُ قَالُوا : يَكْفِينَا أنْ نَتَّبِعَ مَا وَجَدْنَا عَلَيهِ الآبَاءَ وَالأجْدَادَ مِنَ الطَّرَائِقِ وَالمَسَالِكِ وَالمُعْتَقَدَاتِ . فَإذا كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ شَيْئاً ، وَلا يَعْرِفُونَ حَقّاً ، وَلاَ يَهْتَدُونَ إليه ، فَكَيْفَ يَتْبِعُونَهُمْ وَالحَالَةُ هَذِهِ؟ إنَّهُمْ إنِ اتَّبَعُوهُمْ كَانُوا بِلاَ شَكٍّ أكْثَرَ جَهْلاً مِنْ آبَائِهِمْ وَأضَلَّ سَبيلاً .
والذين يتبعون ما شرعه غير الله هم كفار . كفار يفترون على الله الكذب . مرة يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة الله . . ومرة يقولون : إننا نشرع لأنفسنا ولا ندخل شريعة الله في أوضاعنا . . ونحن مع هذا لا نعصي الله . . وكله كذب على الله : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } . .
ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم الذي جاء به من عند الله . فهم لم يكونوا يجحدون الله البتة .بل كانوا يعترفون بوجوده وبقدرته وبتصريفه للكون كله . ولكنهم مع ذلك كانوا يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون أن هذا شرع الله! وهم بهذا كانوا كفاراً . ومثلهم كل أهل جاهلية في أي زمان وفي أي مكان يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون - أو لا يزعمون - أن هذا شرع الله!
إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه ، وهو الذي بينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو ليس مبهماً ولا غامضاً ولا قابلاً لأن يفتري عليه أحد من عنده ما يفتري ، ويزعم أنه منه ، كما يتصور أهل الجاهلية في أي زمان وفي أي مكان!
ولذلك يصم الله الذين ادعوا هذا الادعاء بالكفر . ثم يصمهم كذلك بأنهم لا يعقلون! ولو كانوا يعقلون ما افتروا على الله . ولو كانوا يعقلون ما حسبوا أن يمر هذا الافتراء!
ثم يزيد هذه المفارقة في قولهم وفعلهم إيضاحاً : { وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا حسبنا : ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؟ } . .
إن ما شرعه الله بيّن . وهو محدد فيما أنزل الله ومبين بما سنه رسوله . . وهذا هو المحك . وهذه هي النقطة التي يفترق فيها طريق الجاهلية وطريق الإسلام . طريق الكفر وطريق الإيمان . . فإما أن يدعى الناس إلى ما أنزل الله بنصه وإلى الرسول ببيانه فيلبوا . . فهم إذن مسلمون . وإما أن يدعوا إلى الله والرسول فيأبوا . . فهم إذن كفار . . ولا خيار . .
وهؤلاء كانوا إذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا! فاتبعوا ما شرعه العبيد ، وتركوا ما شرعه رب العبيد . ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد ، واختاروا عبودية العقل والضمير ، للآباء والأجداد .
ثم يعقب السياق القرآني على موقفهم ذاك تعقيب التعجيب والتأنيب : { أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؟ } . .
وليس معنى هذا الاستنكار لاتباعهم لآبائهم ولو كانوا لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ، أن لو كان يعلمون شيئاً لجاز لهم اتباعهم وترك ما أنزل الله وترك بيان الرسول! إنما هذا تقرير لواقعهم وواقع آبائهم من قبلهم . فآباؤهم كذلك كانوا يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم أو ما شرعوه هم لأنفسهم . ولا يركن أحد إلى شرع نفسه أو شرع أبيه ، وبين يديه شرع الله وسنة رسوله ، إلا وهو لا يعلم شيئاً ولا يهتدي! وليقل عن نفسه أو ليقل عنه غيره ما يشاء : إنه يعلم وإنه يهتدي . فالله - سبحانه - أصدق وواقع الأمر يشهد . . وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول! فوق أنه مفتر كفور!
ـــــــــــــ
(1/80)
موقف الأعراب من دعوة الرسول
قال تعالى : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) [التوبة/97-99]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الأَعْرَابِ ( وَالأَعْرَابُ هُمْ رِجَالُ البَادِيَةِ مِنَ العَرَبِ ) كُفّاراً وَمُنَافِقِينَ ، وَأَنَّ الكُفْرَ وَالنِّفَاقَ فِيهِمْ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ مِمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ المُدُنِ ، نَظَراً لِجَفَاءِ طِبَاعِهِمْ ، وَغِلْطَةِ قُلُوبِهِمْ ، وَلِبُعْدِهِمْ عَنِ الحِكْمَةِ ، وَمَنَابِعِ العِلْمِ ، وَلِذَلِكَ فَحَرِيٌّ بِهِمْ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ ، وَلاَ أَحْكَامَ الإِسْلاَمِ ، لأَنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ النَّاسَ ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ .
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَعُدُّونَ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْ مَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ غُرْماً وَخَسَاراً ، يَحْتَمِلُونَهما مُكْرِهِينَ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ فِي ثَوَابِ اللهِ تَعَالَى عَنِ الجِهَادِ ، وَأَعْمَالِ الخَيْرِ ، وَيَنْتَظِرُونَ أَنْ تَحِلَّ بِكُمُ المَصَائِبُ وَالكَوَارِثُ ، وَأَنْ تَدُورَ عَلَيْكُمُ الدَّوَائِرُ فِي الحَرْبِ . وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ قَائِلاً : عَلَيْهِمْ هُمْ دَائِرةُ السَّوْءِ وَالبَوَارِ ، وَاللهُ سَمِيعٌ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ المُخْلِصِينَ ، عَليمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الخِذْلاَنَ .
وَهُنَاكَ مِنَ الأَعْرَابِ جَمَاعَةٌ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَاليَوْمِ الآخِرِ ، وَيَعُدُّونَ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْ مَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ ، قُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللهِ ، وَيَبْتَغُونَ بِهَا دُعَاءَ الرَّسُولِ لَهُمْ ( وَصَلَوَاتُ الرَّسُولِ ) لأَنَّهُ ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ، كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ . وَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُ قَبِلَ هذِهِ النَّفَقَةَ مِنْهُمْ ، وَسَتَكُونُ قُرْبةً عَظِيمَةً لَهُمْ عِنْدَهُ ، وَسَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، وَسَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ ، وَسَيَرْحَمُهُمْ لأَنَّهُ تَعَالَى كَثِيرُ الغُفْرَانِ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ ، رَحِيمٌ بِهِمْ .
والتعبير بهذا العموم يعطي وصفاً ثابتاً متعلقاً بالبدو وبالبداوة . فالشأن في البدو أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً ، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله .
والجدارة بعدم العلم بما أنزل الله على رسوله ناشئة من ظروف حياتهم ، وما تنشئه في طباعهم من جفوة ، ومن بعد عن المعرفة وعن الوقوف عند الحدود ، ومن مادية حسية تجعل القيم المادية هي السائدة . وإن كان الإيمان يعدل من هذه الطباع ، ويرفع من تلك القيم ، ويصلهم بالأفق الوضيء المرتفع على الحسية .
وقد وردت روايات كثيرة عن جفوة الأعراب . . ومما أورده ابن كثير في التفسير
» قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان ، وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم « نهاوند » ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني! فقال زيد : وما يربيك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال! فقال زيد ابن صوحان : صدق الله ورسوله : { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } .« وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن « .
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولاً ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } » ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه أضعافها حتى رضي - ، قال : « لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي » لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء
قال حديث مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أبو أسامة وابن نمير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ قالوا : نعم! قالوا : لكنا والله ما نقبل! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة؟ » .
وكثير من الروايات يكشف عن طابع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب . حتى بعد الإسلام . فلا جرم يكون الشأن فيهم أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، لطول ما طبعتهم البداوة بالجفوة والغلظة عندما يقهرون غيرهم؛ أو بالنفاق والالتواء عندما يقهرهم غيرهم؛ وبالاعتداء وعدم الوقوف عند الحدود بسبب مقتضيات حياتهم في البادية .
{ والله عليم حكيم } . .عليم بأحوال عباده وصفاته وطباعهم . حكيم في توزيع المواهب والخصائص والاستعدادات ، وتنويع الأجناس والشعوب والبيئات .
وبعد الوصف الرئيسي العام للأعراب يجيىء التصنيف حسبما أحدث الإيمان في النفوس من تعديلات؛ وما أنشأه كذلك من فروق بين القلوب التي خالطتها بشاشته والقلوب التي بقيت على ما فيها من كفر ونفاق؛ مما يمثل الواقع في المجتمع المسلم حينئذاك : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ، ويتربص بكم الدوائر . عليهم دائرة السوء ، والله سميع عليم } . .
وربما عجل بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم ، إلحاقاً لهم بمنافقي المدينة الذين كان يتحدث عنهم في المقطع السالف كله؛ وليتصل جو الحديث عن المنافقين من هؤلاء ومن هؤلاء .{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } . .
فهو مضطر لأن ينفق من ماله في الزكاة ، وفي غزوات المسلمين؛ تظاهراً بالإسلام ، ليستمتع بمزايا الحياة في المجتمع المسلم؛ ومداراة للمسلمين وهم أصحاب السلطان اليوم في الجزيرة! وهو يعد ما ينفقه غرامة وخسارة يؤديها كارهاً ، لا مساعدة للغزاة المجاهدين ، ولا حباً في انتصار الإسلام والمسلمين .
{ ويتربص بكم الدوائر } . .وينتظر متى تدور الدائرة على المسلمين ، ويتمنى ألا يعودوا من غزاة سالمين!
وهنا يعاجلهم السياق بدعاء من الله - سبحانه - عليهم؛ ودعاء الله معناه وقوع مدلول الدعاء عليهم : { عليهم دائرة السوء } . .
كأن للسوء دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم؛ وتدور عليهم فلا تدعهم . وذلك من باب تجسيم المعنوي وتخييله ، الذي يعمق وقع المعنى ويحييه .
{ والله سميع عليم } .والسمع والعلم يتناسبان هنا مع جو التربص بالسوء من أعداء الجماعة المسلمة ، والنفاق الذي تحتويه جوانحهم ، وتخفيه ظواهرهم . . والله سميع لما يقولون عليم بما يظهرون وما يكتمون .
وهناك الفريق الآخر ممن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان : { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول . ألا إنها قربة لهم . سيدخلهم الله في رحمته . إن الله غفور رحيم } . .
فهو الإيمان بالله واليوم الآخر باعث الإنفاق عند هذا الفريق ، لا الخوف من الناس ، ولا الملق للغالبين ، ولا حساب الربح والخسارة في دنيا الناس!
وهذا الفريق المؤمن بالله واليوم الآخر يبتغي بما ينفق أن يكون قربى من الله؛ ويتطلب صلوات الرسول . . أي دعواته . . الدالة على رضاه - صلى الله عليه وسلم - ، المقبولة عند الله ، وهو يدعو بها للمؤمنين بالله واليوم الآخر ، المنفقين ابتغاء القربى من الله ورضاه .
لذلك يبادر السياق فيقرر لهم أنها قربى مقبولة عند الله : { ألا إنها قربة لهم } . .
ويبشرهم بحسن العاقبة وعداً من الله حقاً : { سيدخلهم الله في رحمته } . .
ويجسم الرحمة كأنها دار يدخلونها فتحتويهم؛ وذلك في مقابل تجسيم { دائرة السوء } على الفريق الآخر ، الذي يتخذ ما ينفق مغرماً ، ويتربص بالمؤمنين الدوائر .
{ إن الله غفور رحيم } . .
يقبل التوبة ، ويتقبل النفقة ، ويغفر ما كان من ذنب ، ويرحم من يبتغون الرحمة . ـــــــــــــ
(1/81)
الجهاد في الله حق جهاده
قال تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) [الحج/78]
يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بٍِالجِهَادِ وأَخْلَصَهُُ : بِالأَمْوَالِ والأَنْفْسِ والألْسِنَةِ ، فَقَدْ اصْطفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ، واخْتَارَهُمْ عَلَى مَنْ سَِِوامهُم ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونَ ، وَلَمْْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْهِمِ فِي شَيْءٍٍ مِنْ أُمورِ دِينِِهمِ ، بَلْ وَسَّع عَلَيهم ، فِي شَيْءِ مِنْ أُمورِ دِيِنهِم ، بَلْْ وَسَّعَ عََلَيْهِمِ ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلّةِ إبْرِاهيِمَ عَلَيْهِم فِي شَيْءٍ مِنْ أُمورِ دِيِنِهم ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْهم ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامَمُ ( وَنَصَبَ مِلَّةِ ) عَلَى تَقْدِيرِ الزَمُوا مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) ، وَقَدْ سَمَّاهُم اللهُ تَعَالَى بِالمُسْلِمين فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ ، وَفي هَذَا القُرْآنِ ( مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) . وَقَدْ جَعَلَ اللهُ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَسَطاً عُدُولاً لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، لأَنَّ النَّاسَ جَمِيعاً يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِ المُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمِ ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغَتَهُم رِسَالَةَ أَبْلَغَتْهُم رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، والرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُ أَبْلَغَهَا مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيهِ ، فَلْيُقَابِلِ المُسْلِمُونَ هَذِهِ النِعْمَةَ العَظِيمَةَ بالقِيَامِ بِشُكْرِ اللهِ عَلَيهَا ، وَأداءِ حَقِّ اللهِ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِم ، ومِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إقَامَةُ الصَّلاَةِ وأداؤها حَقَّ أَدَائِها ، وَدفْعُ الزَّكَاةِ ، والاعْتِصَامُ بِاللهِ ، وَالاسْتِعَانَهُ بِهِ ، والاتِّكَالُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مَوْلاَهُمْ وَحَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ ، وَهُوَ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّاصِر عَلَى الاَعْداءِ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - " بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ " ) . " وَأَوْصَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعَاذَ بنَ جبَلٍ وَأَبَا مُوسَى حِينَما بَعَثَهُمَا أمِيرَيْنَ عَلَى اليَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا : بَشِّرِا وَلاَ تُنَفَّرَا ، وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرا " .
يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . . العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة ، الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة ، فاستقام ضميرها واستقامت حياتها . . نهضت بالتبعة الشاقة : { وجاهدوا في الله حق جهاده } . . وهو تعبير شامل جامع دقيق ، يصور تكليفاً ضخماً ، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .
{ وجاهدوا في الله حق جهاده } . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء ، وجهاد النفس ، وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .
{ وجاهدوا في الله حق جهاده } . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة ، واختاركم لها من بين عباده : { هو اجتباكم } . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك مجالاً للتخلي عنها أو الفرار! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء!
وهو تكليف محفوف برحمة الله : { وما جعلنا عليكم في الدين من حرج } . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ في تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة ، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم!
وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : { ملة أبيكم إبراهيم } وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم عليه السلام فلم تنتقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .
وقد سمى الله هذه الأمة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك القرآن : { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا } . .
والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحتى سلمت إليها الأمانة ، وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله : { ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهدآء على الناس } . . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يشهد على هذه الأمة ، ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله .
ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية . حتى إذا انحرفت عنه , وتخلت عن تكاليفه , ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة . وما تزال . ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله .
هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله:فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله . هو مولاكم . فنعم المولى ونعم المصير .
فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد . والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد . والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد
بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله . وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض . والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها , بل يدعو إلى إعدادها . ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد , والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله .
فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء .
إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ; ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام .
وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية , ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة , المستقيمة على منهج الله في ظل الله . .
ـــــــــــــ
(1/82)
تحريم مواددة من حارب الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) [الممتحنة/1-5]
هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ، وَكَانَ حَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، هَاجَرَ مِنْ مَِكَّةَ ، وَتَرَكَ فِيهَا مَالَهُ وَوَلَدَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ قُرَيِشٍ . فَلَمَا أَرَادَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فَتَحَ مَكَّةَ دَعَا رَبَّهُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيشٍ ، حَتَّى يَأْخْذَهُمْ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ ، فَكَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلَى قُرَيشٍ يُعَرِّفُهُمْ بِعَزْمِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى غَزْوِهِمْ ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ امْرَأَةٍ لِيَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً . وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالكِتَابِ ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ ، وَأَمَرَهُمَا بِالذَّهَابِ إِلَى رَوْضَةِ خَاخٍ لِيَأَتِيَاهُ بِالكِتَابِ مِنَ المَرْأَةِ ، فَلَمَّا جَاءَاهَا طَلَبا مِنْهَا الكِتَابَ فأَنْكَرَتْهُ ، فَهَدَّدَاهَا بِتَجْرِيدِهَا مِنْ ثِيَابِهَا لِتَفْتِيشِهَا ، فَأَخْرَجَتِ الكِتَابَ مِنْ ضَفَائِرِ شَعْرِهَا .
وَسَأَلَ الرَّسُولُ حَاطِباً عَنِ الكِتَابِ فَاعْتَرَفَ وَقَالَ لِلرَّسُولُ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كُفْراً ، وَلاَ ارْتِدَاداً عَنِ الإِسْلاَمِ ، وإِنَّمَا لِيَتَّخِذَ بِهِ يَداً عِنْدَ قُرَيشٍ يَحْمِي بِهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ . فَقَالَ الرَّسُولُ للصَّحَابَةِ إِنَّهُ صَدَقَكُمْ . وَقَالَ عُمْرُ بِنُ الخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنْقَ هَذَا المُنَافِقِ . فَقَالَ الرَّسُولُ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ .
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ لاَ يَتَّخِذَوا الكُفَّارَ أَعْواناً وَأَنْصَاراً لَهُمْ يُبَلِّغُونَهُمْ أَخْبَارَ الرَّسُولِ التِي لاَ ينْبَغِي لأَعْدَائِهِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَيهَا ، وَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ ، فَكَيْفَ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا تَتَّخِذُونَهُمْ أَنْصَاراً تُسِرُّونَ إِليهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ ، وَيُضُرُّ الرَّسُولَ والمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ بَينِ أَظْهَرِهِمْ كُرْهاً بِالتَّوْحِيدِ ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ يُؤَاخَذُونَ عَلَيهِ غَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِنْ كُنْتُمْ ، يَا أَيَّهُا المُؤْمِنُونَ ، قَدْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ، فَلاَ تُوَلُوا أَعْدَائِي ، وَمَنْ يَفْعَلْ هَذِهِ المُوَالاَةَ ، وَيُفْشِ سِرَّ الرَّسُول لأَعْدَائِهِ ، فَقَدْ حَادَ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ المُوصِلَةِ إِلَى الجَنَّةِ .
إِنْ ظَفِرَ بِكُمْ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ ، الذِينَ تُلْقَونَ إِليهِم بِالمَوَدَّةِ ، يُظْهِرُوا لَكُمْ عَدَاوَتَهُمْ ، وَيَمُدُّوا إِليكُمْ أَيدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يَسُوؤُكُمْ : يُقَاتِلُونَكُمْ وَيَشْتَمُونَكُمْ وَيَتَمَنَّونَ لَو تَكْفرُونَ بِرَبِّكُمْ فَتَكُونُوا عَلَى مِثْلِ دِينِهِمْ ، فَكَيْفَ تُسِرُّونَ إِلَى هَؤُلاَءِ بِالمَوَدَّةِ وَهَذِهِ هِيَ حَالُهُمْ؟ . .
وََيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الذِي اعْتَذَرَ بِرَغْبَتِهِ فِي المُحَافَظَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَمْوَالِهِ فِي مَكَّةَ ، بِأَنَّ الأَقَارِبَ وَالأَوْلاَدَ ، الذِينَ تُوَالُونَ الكُفَّارَ مِنْ أَجْلِهِمْ ، لَنْ يَنْفَعُوكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلَنْ يَدْفَعُوا عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ عَذَابِ اللهِ ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا ، لأَنَّهُ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ . وَيَذْهَلُ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَّنْ سِوَاهُ ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَأْنٌ يُغَنِيهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ .
أَفَلاَ تَأَسَّى هَؤُلاَءِ الذِينَ يُوَادُّونَ الكَافِرِينَ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَصْحَابِهِ المُؤْمِنينَ ، حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِم الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ : إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ ، وَجََحَدْنَا ما أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ ، وَأَنْكَرْنَا عِبَادَتَكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ ، وَقَدْ أَعْلَنَّا الحَرْبَ عَلَيْكُمْ ، فَلاَ هَوَادَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، وَسَنَبْقَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَتُوَحِّدُوهُ ، وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ .
وَلَكُمْ فِي أَبْيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا ، وَتَعْتَبِرُونَ بِهَا فِي مَسْلَكِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ ، وَلاَ تَسْتَثْنُوا مِنْ تَصَرُّفَاتِ إِبْرَاهِيمَ التِي تَقْتَدُونَ بِهَا إِلاَّ اسْتْغْفَارَهُ لأَبِيهِ الذِي بَقِيَ مُقِيماً عَلَى الكُفْرِ ، فَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ : إِنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُ اللهَ ، وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَالأَمْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ . وَلَكِنَّ هَذَا القَوْلَ صَدَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمِ حِينَمَا وَعَدَهُ أَبُوهُ بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَيَتْبَعُهُ فِيمَا يَعْبُدُ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ عَدُوٌ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .
وَحِينَمَا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالمُؤْمِنُونُ مَعَهُ قَوْمَهُمْ لَجَؤُوا إِلَى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ قَائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّنَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا ( تَوَكَّلْنَا ) ، وَرَجَعْنَا إِلَيكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِنَا ، وَإِلَيكَ مَصِيرُنَا حِينَ تَبْعَثُنَا مِنْ قُبُورِنَا لِلْعََرْضِ وَالحِسَابِ . فَاقْتَدُوا بِهِمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ .
رَبَّنَا وَلاَ تُسَلِّطْ قَوْمَنَا الكَافِرِينَ عَلَينَا ، وَلاَ تَجْعَلْهُمْ يَظْهَرُونَ عَلَينَا ، فَيَعْمَلُوا عَلَى فِتْنَتِنَا عَنْ دِينِنَا بِالعَذَابِ وَالنَّكَالِ . وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا لأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِيمَا يَقُولُونَ ، وَفِيمَا يَعْبُدُونَ ، رَبَّنَا واسْتُرْ ذُنُوبَنَا عَنْ غَيرِكَ ، وَاعْفُ عَنَّا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَينَكَ ، إِنَّكَ يَا رَبِّ أَنْتَ القَوِيُّ العَزِيزُ الذِي لاَ يُضَامُ ، الحَكِيمُ فِيمَا تَشْرَعُ ، وَفِيمَا تَقْضِي .
{ وودوا لو تكفرون } . .وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان . فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز . كنز الإيمان . ويرتد إلى الكفر ، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان!
والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر ، ويهتدي بنوره بعد الضلال ، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار أو أشد . فعدو الله هو الذي يود أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان ، وإلى فراغ الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور .
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة . ويزرع هنا وينتظر الحصاد هناك . فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة ، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة :
ومن ثم يقول لهم : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } . . التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . ذلك أنه { يوم القيامة يفصل بينكم } . . لأن العروة التي تربطكم مقطوعة . وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله .
{ والله بما تعملون بصير } . . مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير
ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة : أمة التوحيد . وهذه القافلة الواحدة : قافلة الإيمان . فإذا هي ممتدة في الزمان ، متميزة بالإيمان ، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة . . إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم . أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى . وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها ، بل كذلك في السيرة ، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها؛ ثم خلص منها هو ومن آمن معه ، وتجرد لعقيدته وحدها : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه؛ إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ، ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده . إلا قول إبراهيم لأبيه ، لأستغفرن لك ، وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ، واغفر لنا ربنا ، إنك أنت العزيز الحكيم . . لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر .ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق ، وماض طويل ، وأسوة ممتدة على آماد الزمان ، وإذا هو راجع إلى إبراهيم ، لا في عقيدته فحسب ، بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله ، الواقفين تحت راية الله ، قد مرت بمثل ما يمر به ، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشق على المؤمنين . . ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها ، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة : { إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } . .
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان . وفي هذا الفصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه : { لأستغفرن لك } . .
فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } . . كما جاء في سورة أخرى .
ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله ، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال : { وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } . .
وهذا التسليم المطلق لله ، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه ، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه : { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } . .
فلا تسلطهم علينا . فيكون في ذلك فتنة لهم ، إذ يقولون : لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيراً ما تحيك في الصدور ، حين يتمكن الباطل من الحق ، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات .
والمؤمن يصبر للابتلاء ، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور .
وبقية الدعاء : { واغفر لنا } . .يقولها إبراهيم خليل الرحمن . إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه ، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه ، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه ، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده .
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء : { ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } . .العزيز : القادر على الفعل ، الحكيم : فيما يمضي من تدبير .وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه ، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها؛ مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين :{ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم ، ويجدون فيها أسوة تتبع ، وسابقة تهدي . فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة . . وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين .
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج . من يريد أن يحيد عن طريق القافلة . من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق . فما بالله من حاجة إليه سبحانه { فإن الله هو الغني الحميد } . .
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد ، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض؛ وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة ، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة؛ ووجدوها طريقاً معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها .
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين ، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك ولو كان وحده في جيل! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق!
ـــــــــــــ
(1/83)
إهلاك من أخرجوا الرسل من ديارهم بغير حق
قال تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) [الإسراء/76، 77]
وَلَمَّا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ إِمْكَانِ اسْتِدْرَاجِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الانْحِرَافِ بِالدَّعْوَةِ عَمَّا أَوْحَى اللهُ بِهِ إِلَيْهِ ، أَرَادُوا أَنْ يُزْعِجُوهُ ، وَيَسْتَخِفُّوهُ ( يَسْتَفِزُّونَكَ ) ، لِيُخْرِجُوهُ مِنْ مَكَّةَ ( مِنَ الأَرْضِ ) ، فَضَيَّقُوا عَلَيْهِ ، وَعَلَى بَنِي هَاشِمَ ، وَأَلْجَؤُهُمْ إِلَى الشُّعَبِ ثَلاَثَ سِنِينَ . وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مُهَاجِراً ، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَنْ يُهْلِكَ قُرَيْشاً بِالإِبَادَةِ . وَلَوْ أَنَّ قُرَيْشاً أَخْرَجَتْ رَسُولَ اللهِ عَنْوَةً وَقَسْراً ، لَحَلَّ بِهِمُ الهَلاَكُ ( وَإِذَا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَ قَلِيلاً ) .
فَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَدْمِيرِ الأُمَمِ التِي تُكَذِّبُ رُسُلَها ، وَتُخْرِجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ سُنَّةً جَارِيَةً ، لاَ تَتَحَوَّلُ وَلاَ تَتَبَدَّلُ . وَلَمَّا لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَأْخُذَ قُرَيْشاً بِعَذَابِ الإِبَادَةِ ، لَمْ يُقَدِّرْ أَنْ يُخْرِجُوهُ عَنْوَةً ، بَلْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِالهِجْرَةِ ، وَهَكَذا مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي طَرِيقِهَا ، لاَ تَحْوِيلَ لَهَا وَلاَ تَبْدِيلَ .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى . . منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم . ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله . ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء . . .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها ، ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق ، وعصمته من الفتنة ، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوا خليلاً . وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات ، دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله ، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً . محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً ، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية ، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها!
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل ، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة .لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر ، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل ، لا يمكن أن يكون مؤمناً بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر . وليس فيها فاضل ومفضول . وليس فيها ضروري ونافلة . وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه ، وهي كلٌّ متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه . كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره!
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات . فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم ، وعرف المتسلطون ان استمرار المساومة ، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها!
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها؛ هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة . والله وحده هو الذي يعتمد عيه المؤمنون بدعوتهم . ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة ، فلن تنقلب الهزيمة نصراً!
لذلك امتن الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن ثبته على ما أوحى الله ، وعصمه من فتنة المشركين له ، ووقاه الركون إليهم ولو قليلاً ورحمه من عاقبة هذا الركون ، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً ، وفقدان المعين والنصير .
وعندما عجز المشركون عن استدارج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض أي مكة ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجراً ، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة . ولو أخرجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنوة وقسراً لحل بهم الهلاك { وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً } فهذه هي سنة الله النافذة : { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ، ولا تجد لسنتنا تحويلا } .
ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول ، لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم . وهذا الكون تصرفه سنن مطردة ، لا تتحول أمام اعتبار فردي . وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون ، إنما هي السنن المطردة الثابتة . فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشاً بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل ، لحكمة علوية ، لم يرسل الرسول بالخوارق ، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة ، بل أوحى إليه بالهجرة . ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول . .
ـــــــــــــ
(1/84)
وعد الله تعالى بنصرة الرسل وأتباعهم
قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) [غافر/51-52]
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى ، إِنَّهُ سَيَجْعَلُ رُسلَهُ هُمُ الغَالِبِينَ لأَعْدَائِهِمْ وَمُعَانِدِيهِمْ ، وَإِنَّهُ سَيَنْصُرُ مَعَهُمُ المُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ يَكُونُ بالطُّرُقِ التَّالِيةِ :
- إِمَّا بِجَعْلِهِمْ غَالِبِينَ عَلَى مَنْ كَذَّبَهم ، كَمَا فَعَلَ بِدَاوُدَ وَسُلَيمَانَ وَمُحَمَّدٍ ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ .
- وإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ عَادَاهُمْ وَآذَاهُمْ ، وَإِهْلاَكِهِ إِيَّاهُمْ ، وَإِنْجَائِهِ الرُّسُلَ والمُؤْمِنِينَ ، كَمَا فَعَلَ بِنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَمُوسَى وَلُوطٍ .
- وَإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ آذَى الرُّسُلَ بَعْدَ وَفَاةِ الأَنْبِيَاء والرُّسُلِ ، بِتَسْلِيطِ بَعْضِ خَلْقِ اللهِ عَلَى المُكَذِّبِينَ المُجْرِمِينَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُمْ ، كَمَا فَعَلَ مَعَ زَكَرِيا وَيَحْيَى ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ .
وَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ رَسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، كَذَلِكَ يَنْصُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ اليومُ الذِي يَقُومُ فِيهِ الأشْهَادُ مِنَ المَلاَئِكَةِ والأَنْبِيَاءِ والمُؤْمِنِينَ ، بالشَّهَادَةِ عَلَى الأُمَم المُكَذِّبَةِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ .
وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ العِبَادِ يُؤَدُّونَ شَهَادَاتِهِمْ ، فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لاَ يَنْفَعُ أَهْلَ الشِّرْكِ اعْتِذَارُهُمْ لأَنَّ أَعْذَارَهُمْ بَاطِلَةٌ ، مَرْدُودَةٌ ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ اللَّعْنَةُ والطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، وَلَهُمْ سُوءُ العَاقِبَةِ والقَرَار فِي جَهَنَّمَ ، وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَأْوَى .
لقد اطلعت منه البشرية على مثل من نهاية الحق والباطل . نهايتهما في هذه الأرض ونهايتهما كذلك في الآخرة . ورأت كيف كان مصير فرعون وملئه في الحياة الدنيا ، كما رأوهم يتحاجون في النار ، وينتهون إلى إهمال وصغار . وذلك هو الشأن في كل قضية كما يقرر القرآن :
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } . .
فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية . ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة . وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان .
إن وعد الله قاطع جازم : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا . . } . . بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد . . فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل!
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور . ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير .
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان . ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها . وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم . ولكن صور النصر شتى .
وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة . . إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها . . أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار . كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة . وهما في الظاهر بعيد من بعيد . فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! . . والحسين رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة . فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً . فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف ، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه . يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين . من المسلمين . وكثير من غير المسلمين!
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده . وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد . وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال . .
ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور . ومن القيم . قبل أن نسأل : أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!
على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة . ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة . لقد انتصر محمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته . لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض . فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً . من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة . فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة . ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية . وفق تقدير الله وترتيبه .وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك . إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا . ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها . وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها . وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله . وإن هنالك لأشكالاً من الشرك خفية؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده ، ويتوكل عليه وحده ، ويطمئن إلى قضاء الله فيه ، وقدره عليه ، ويحسن أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله .
---------------------
وقال تعالى :{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) [الصافات/171-173]
وَلَقَدْ سَبَقَ وَعْدُ اللهِ فِي الكِتَابِ الأَوَّلِ أَنَّ العَاقِبَةَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِم المُخْلِصِينَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ .وَأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُمْ وَيُؤَزِّرُهُمْ وَيُذِلُّ أَعْدَاءَهُمْ وَأَعْدَاءَ اللهِ .وَإِنَّ جُنْدَ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا ، سَتَكُونَ لَهُمْ الغَلَبَةُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي الحَرْبِ .
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها .وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وهي إن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء . ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . . ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام .
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم .
ـــــــــــــ
(1/85)
إنزال الكتاب والميزان على الرسل
قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) [الحديد/25]
وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى الرُّسُلَ بِالمُعْجِزَاتِ وَالحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنَ اللهِ إِلَى أَقْوَامِهِمْ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الكُتُبَ وَالشَّرَائِعَ ، فِيهَا الهِدَايَةُ لِلنَّاسِ ، وَفِيهَا صَلاَحُ أُمُورِهِمْ ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَعَامَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالعَدْلِ ، وَبِأَلاَّ يَظْلِمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَداً . وَلَمَّا كَانَ لاَ بُدَّ لإِقَامَةِ العَدْلِ مِنْ سُلْطَةٍ وَقُوَّةٍ وَسِلاَحٍ ، لِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الحَدِيدَ تُصْنَعُ مِنْهُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ والدُّرُوعُ وَعُدَدُ الحُرُوبِ ، التِي تَرْدَعُ مَنْ يَتَجَاوَزُ الحُدُودَ ، وَيَأْبى إِقَامَةَ العَدْلِ ، بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ . كَمَا جَعَلَ اللهُ فِي الحَدِيدِ مَنَافِعَ لِلنَّاسِ ، يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ ، وَمَعَايِشِهِمْ ، كَأَدَوَاتِ العَمَلِ وَالحَرْثِ . . . وَالسَّلاَحِ والسُّفُنِ . . . وَإِنَّمَا فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ مَنْ يَنْوِي اسْتِعْمَالَ السَّلاَحِ فِي نَصْرِ دِينِ اللهِ ، وَمَنْ يَنْوِي اسْتِعْمَالَهُ فِي الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ ، وَاللهُ قَوِيٌ عَزِيزٌ يَنْصُرُ مَنْ نَصَرَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِ مِنْهُ إِلَى الخَلْقِ ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الجِهَادَ لِيَبْلُوا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ .
فالرسالة واحدة في جوهرها ، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها ، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق . وبعضهم أنزل عليه كتاب . والنص يقول { وأنزلنا معهم الكتاب } بوصفهم وحدة . وبوصف الكتاب وحدة كذلك ، إشارة إالى وحدة الرسالة في جوهرها .
{ والميزان } . . مع الكتاب . فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزاناً ثابتاً ترجع إليه البشرية ، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة ، وتصادم المصالح والمنافع . ميزاناً لا يحابي أحداً لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع ، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع .
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف الزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف ، ومصطخب المنافسة وحب الذات . فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر ، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة . { ليقوم الناس بالقسط } . . فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته ، لا يهتدي الناس إلى العدل ، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه ، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء!
{ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } . .
والتعبير { بأنزلنا الحديد } كالتعبير في موضع آخر بقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحدث ، فهي منزلة بقدره وتقديره . فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية ، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان ، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه .
أنزل الله الحديد { فيه بأس شديد } . . وهو قوة في الحرب والسلم { ومنافع للناس } . . وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } . وهي إشارة الى الجهاد بالسلاح؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال .
ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب ، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله ، فهو نصر لمنهجه ودعوته ، أم الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر : { إن الله قويٌ عزيز } . .
ــــــــــــ
مهمة الرسول تعليم الكتاب والحكمة
قال تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) [البقرة/151]
كَانَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلاَمُ قَدْ دَعَا رَبَّهُ ، وَهُوَ يَرْفَعُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ ، أَنْ يَبْعَثَ اللهُ فِي أَهْلِ البَيْتِ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيهِم آيَاتِ اللهِ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ، وَيُزَكِّيهم . فاستجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَائِهِ وَأَرْسَلَ مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً مِنْ نَسْلِ وِلْدِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَأنزَلَ عَلَيهِ القُرْآنَ لِيَتْلُوهُ عَلَى النَّاسِ ، وَجَعَلَ رَسُولَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، وَمَنْهَجٍ قَويمٍ ، لِيَقْتَدِيَ بِهِ المُؤْمِنُونَ في أَعْمَالِهِمْ ، يُعَلِّمُهُمْ أَحْكَامَ دِينِهِمْ ، وَيُزَكِّي نُفُوسَهُمْ وَيُطَهِّرُهَا مِن رَذَائِلِ الأَخْلاَقِ وَانْحِرَافاتِ الجَاهِلِيّةِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُُلُمَاتِ الجَهْلِ وَفَسَادِ الأَخْلاَقِ إِلى نُورِ الإِيمانِ وَالعِلْمِ وَسُمُوِّ الأَخْلاَقِ ، وَهُوَ مَا صَارُوا إِليهِ فِي الإِسْلاَمِ .
وَقَدْ كَانَتْ سُنَّةُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - العَمَلِيَّةُ ، وَسِيرَتُهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَعَ أَصْحَابِهِ مُفَصِّلَةً لِمُجْمَلِ القُرآنِ ، مُبَيِّنَةً لِمُبْهَمِهِ ، كَاشِفَةً عَنِ المَنَافِعِ وَالأَسْرَارِ التِي تَنْطَوي عَلَيهَا الأَحْكَامُ ، وَيُعَلِّمُهُمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَهُ مِنْ قَبْلُ ، مِمَّا جَاءَ بِهِ الوَحْيُ .
والذي يلفت النظر هنا ، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة ، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل . دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت ، رسولاً منهم ، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . . ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم ، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين ، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم . وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثاً إنما هو قديم؛ وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم ، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد .
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم ، وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم ، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم :{ كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم } . .
فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم ، وأن يختار الرسول الأخير منكم ، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم!
{ يتلو عليكم آياتنا } . . فما يتلو عليكم هو الحق . . والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله . وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته .
فمن هم هؤلاء الناس؟ من هم وما هم؟ حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته ، ويتحدث إليهم بقوله ، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل؟ ولولا أن فضل الله يفيض؟ ولولا أنه - سبحانه - منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام ، وما يستقبل هذا الإفضال؟
{ ويزكيكم } . .ولولا الله ما زكي منهم من أحد ، ولا تطهر ولا ارتفع . ولكنه أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - يطهرهم . يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية ، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره . ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة . والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديماً وحديثاً يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان ، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة ، وهي أنظف كثيراً مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان! ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب . . وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر ، ويلطخ المجتمع والحياة . ويطهر حياتهم من الظلم والبغي وينشر العدل النظيف الصريح الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم ، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور . .
{ ويعلمكم الكتاب والحكمة } . .وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه ، وهي الحكمة ، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة ، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة ، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات . . وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزكاهم بآيات الله .
{ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } . .وكان ذلك حقاً في واقع الجماعة المسلمة ، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة ، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء ، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء . فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة ، خبيرة بصيرة عالمة . . وكان هذا القرآن - مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن - هو مادة التوجيه والتعليم . وكان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن - هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة : القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيراً من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل .
وما يزال هذا المنهج الذي خرّج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين ولو آمنت حقا بهذا القرآن ولو جعلته منهجاً للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان!
----------------
وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) [آل عمران/164]
مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى المُؤْمِنِينَ أنْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ جِنْسِهِمْ ، وَمِنْ أهْلِ بَلَدِهِمْ وَلُغَتِهِمْ ( مَنْ أنْفُسِهِمْ ) ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ مُخَاطَبَتِهِ وَمُجَالَسَتِهِ ، وَالانْتِفَاعِ بِصُحْبَتِهِ وَسُؤَالِهِ عَمَّا سَيْتَشْكِلُ عَلَيْهِمْ فِي أمُوِر دِينِهِمْ ، وَيَتْلُو عَلَيهِم القُرآنَ ( آياتِ اللهِ ) وَيَأمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ، لِتَزْكُوَ أنْفُسُهُم ، وَتَطْهُرَ مِنْ أرْجَاسِ الجَاهِليَّةِ ، وَيُعَلِّمُهُمُ القُرآنَ ( الكِتَابَ ) وَالسُّنَّةَ ( الحِكْمَةَ ) فَقَدْ كَانُوا قَبْلَ هَذا الرَّسُولِ فِي غَيٍّ وَجَهَالَةٍ ( ضَلاَلٍ ) ظَاهِرَيْنِ لِكُلِّ أحَدٍ .
إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولاً وأن يكون هذا الرسول { من أنفسهم } . . إن العناية من الله الجليل بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي .المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر . وإلا فمن هم هؤلاء الناس ومن هم هؤلاء الخلق حتى يذكرهم الله هذا الذكر ويعنى بهم هذه العناية؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم أن يرسل لهم رسولاً من عنده يحدثهم بآياته - سبحانه - وكلماته لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل؟
وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول { من أنفسهم } . . لم يقل « منهم » فإن للتعبير القرآني { من أنفسهم } ظلالاً عميقة الإيحاء والدلالة . . إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس لا صلة الفرد بالجنس . فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى . إنما هي أعمق من ذلك وأرقى . ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله . فهو منة على المؤمنين . . فالمنة مضاعفة ممثلة في إرسال الرسول وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب .
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية . . في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني :{ يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } . .
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها . في تكريم الله لهم . بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل :{ يتلو عليهم آياته } . .
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة!
ولو تأمل أن الله الجليل - سبحانه - يتكرم عليه فيخاطبه بكلماته . يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته; وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها . ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو - هو الإنسان - هو العبد الصغير الضئيل - وعن حياته وعن خوالجه وعن حركاته وسكناته . يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة وهذا التفضل وهذا العطاء؟
إن الله الجليل غني عن العالمين . وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج . . ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل ويتلمسه بعنايته ويتابعه بدعوته! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته!
فيا للكرم! ويا للمنة! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء!
{ ويزكيهم } . .يطهرهم ويرفعهم وينقيهم . يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم . ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم . ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم . . يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته . . ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم .وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها .
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده .. يقول جعفر :
« أيها الملك . كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام
ومن أرجاسها ما حكته عائشة - رضي الله عنها - وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية :
» إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء . فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه! ويعتزلها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت . فهو إبنك يا فلان . تسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها . ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل! والنكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً - فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك! « . .
ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق . ويكفي تصور الرجل وهو يرسل امرأته إلى » فلان « لتأتي له منه بولد نجيب . تماماً كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب لتأتي له منه بنتاج جيد!
ويكفي تصور الرجال - ما دون العشرة! - يدخلون إلى المرأة مجتمعين - » كلهم يصيبها! « . . ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها!
أما البغاء - وهو الصورة الرابعة - فهو البغاء! يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة! لا يجد في ذلك معرة! ولا يمتنع من ذلك!
إنه الوحل .الذي طهر الإسلام منه العرب . وزكاهم . وكانوا - لولا الإسلام - غارقين إلى الأذقان فيه!
ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفاً من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية . يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » :
« وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف تؤكل حقوقها وتبتز أموالها وتحرم من إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة . عن ابن عباس قال : » كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها أو تموت فيذهب بمالها « . . وقال عطاء بن رباح : » إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم « . . وقال السدّي : إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه فإذا مات وترك امرأته فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن يَنكحها بمهر صاحبه أو يُنكحها فيأخذ مهرها . وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها » . وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها يؤخذ مما تؤتى من مهر وتمسك ضراراً للاعتداء . وتلاقي من بعلها نشوزاً أو إعراضاً وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد .
« وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد . ذكر الهيثم بن عدي - على ما حكاه عنه الميداني - أن الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة . فجاء الإسلام وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد . فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن . ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء . أو شيماء ( سوداء ) أو برشاء ( برصاء ) أو كسحاء ( عرجاء ) تشاؤماً منهم بهذه الصفات . ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق ، وخوف الفقر . .
» وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل . وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات . وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق « . .
ومن أرجاسها - وأصل هذه الأرجاس جميعاً - الشرك والوثنية الهابطة الساذجة : كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه :
» انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها . فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص بل كان لكل بيت صنم خصوصي .قال الكلبي : كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً « . واستهترت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتاً ومنهم من اتخذ صنماً; ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب . وكان في جوف الكعبة - البيت الذي بني لعبادة الله وحده - وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنماً . وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة . روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً هو خيراً منه القيناه وأخذنا الآخر ; فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به . وقال الكلبي : كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً وجعل ثلاث أثافيّ لقدره وإذا ارتحل تركه .
» وكان للعرب - شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان - آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب . فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم ويتوسلون بهم عند الله . واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم . قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن . وقال صاعد : كانت حمير تعبد الشمس . وكنانة القمر . وتميم الدبران . ولخم وجذام المشتري . وطي سهيلاً . وقيس الشعري العبور . وأسد عطارداً « .
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية ، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء . ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم! ومن مفاخراتهم في أسواقهم! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة التي تشغل اهتماماتهم فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة
(1/86)
» هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر . فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة وما ذاك إلا أن كليباً رئيس معد رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها; وقتل جساس بن مرة كليباً واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب وكانت كما قال المهلهل أخو كليب : « قد فني الحياة وثكلت الأمهات ويتم الأولاد . دموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن » .
« وكذلك حرب داحس والغبراء .فما كان سببها إلا أن داحساً فرس قيس بن زهير كان سابقاً في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة فلطم وجهه وشغله ففاتته الخيل . وتلا ذلك قتل . ثم أخذ بالثأر . ونصر القبائل لأبنائها وأسر ونزح للقبائل وقتل في ذلك ألوف من الناس « .
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة . إذ لم تكن لهم رسالة للحياة ولا فكرة للبشرية ولا دور للإنسانية يشغلهم عن هذا السفساف . . ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة . . وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية؟ ماذا تكون اهتماماتهم؟ وماذا تكون تصوراتهم؟ وماذا تكون أخلاقهم؟
إن الجاهلية هي الجاهلية . ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها . لا يهم موقعها من الزمان والمكان . فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم ومن شريعة - منبثقة من هذه العقيدة - تحكم حياتهم فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة . . والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها .
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها . ومسابقات جمالها ومراقصها وحاناتها . وإذاعاتها . ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري ، والأوضاع المثيرة ، والإيحاءات المريضة ، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها . . إلى جانب نظامها الربوي ، وما يكمن وراءه من سعار للمال ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون . . وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي ، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت وكل نظام وكل تجمع إنساني . . نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية .
إن البشرية تتآكل إنسانيتها وتتحلل آدميتها وهي تلهث وراء الحيوان ومثيرات الحيوان لتلحق بعالمه الهابط! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر . لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع ، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة ومن نظام العقيدة ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة : والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة - بإذن الله - لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة; من النواحي الأخلاقية والاجتماعية; وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي والرخاء الحضاري!
{ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } .ضلال في التصور والاعتقاد وضلال في مفهومات الحياة وضلال في الغاية والاتجاه وضلال في العادات والسلوك وضلال في الأنظمة والأوضاع وضلال في المجتمع والأخلاق . .
والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون - ولا شك - ماضي حياتهم وأوضاعهم ، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام ، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام; وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي نقلهم من طور القبيلة واهتمامات القبيلة وثارات القبيلة لا ليكونوا أمة فحسب . ولكن ليكونوا - على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن - أمة تقود البشرية وترسم لها مثلها ومناهج حياتها وأنظمتها كذلك في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي منحهم وجودهم القومي ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي . . وقبل كل شيء وأهم من كل شيء . . وجودهم الإنساني الذي يرفع إنسانيتهم ويكرّم آدميتهم ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم الذي جاءهم هدية ومنة من لدن ربهم الكريم . والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك وعلموها كيف تحترم « الإنسان » وتكرمه بتكريم الله . غير مسبوقين في هذا لا في الجزيرة العربية ولا في أي مكان . . وفي اللفتة السابقة إلى « الشورى » طرف من هذا المنهج الإلهي ، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله .
وكانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعالم ، ونظرية للحياة البشرية ومذهباً مميزاً للحياة الإنسانية . . والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب تقدمه للبشرية لتدفع بالبشرية إلى الأمام .
وقد كان الإسلام وتصوره للوجود ورأيه في الحياة وشريعته للمجتمع وتنظيمه للحياة البشرية ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله « الإنسان » . . كان الإسلام بخصائصه هذه هو « بطاقة الشخصية » التي تقدم بها العرب للعالم فعرفهم واحترمهم وسلمهم القيادة .
وهم اليوم وغداً لا يحملون إلا هذه البطاقة . ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم . وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم; وإما أن ينبذوها فيعودوا هملاً - كما كانوا - لا يعرفهم أحد ولا يعترف بهم أحد!
وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟
يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول .{ ويعلمهم الكتاب والحكمة } . .والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة . وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة!
يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق تنحني له الجباه ويغرقون به أسواقها ويغطون به على ما عندها من إنتاج؟؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار!
يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية . وتشقى بها جميعاً غاية الشقاء!
ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟
لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة . لا شيء إلا هذا المنهج الفريد . لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها وأكرمهم بها . وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم . والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس!
إنها - وحدها - بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديماً للبشرية فأحنت لها هامتها . والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم فيكون فيها الخلاص والإنقاذ .
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة . وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة . وهي التي تقدم أكبر منهج . وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة .
والعرب يملكون هذه الرسالة - وهم فيها أصلاء وغيرهم من الشعوب هم شركاء - فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟!
لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة . وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان . . وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان!
ثم يمضي السياق خطوة في استعراض أحداث المعركة والتعقيب عليها; فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم - وهم المسلمون - مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة وتصوغهم صياغة واقعية تتعامل مع واقع الأمر وطبيعة السنن وجدية هذا الواقع الذي لا يحابي أحداً لا يأخذ بالسنن ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة; وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم! . . ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة - التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية الحقيقة - بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج; وبمشيئة الله الطليقة من وراء السنن والقوانين; فيكشف لهم عن حكمة ما وقع وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها ; وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها وليمحص قلوبهم ويميز صفوفهم من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث . فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره .
وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالاً . أمية القلم وأمية العقل سواء . وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة في أي باب من الأبواب . وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشىء معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب . فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا وحكماء العالم ، وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان .
ــــــــــــ
الحسنات التي تصيب الرسل من الله
قال تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) [النساء/79]
يُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَيَقْصُدُ بِالخِطَابِ مَنْ أُرْسِلَ النَّبِيُّ إلَيْهِم ، فَيَقُولُ : مَا أَصَابَكَ يا ابْنَ آدَمَ ، مِنْ خَيْرٍ وَحَسَنَةٍ ، فَهُوَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيكَ ، فَهُوَ الذِي سَخَرَ لَكَ المَنَافِعَ التِي تَتَمَتَّعُ بِهَا ، وَتحَسُنُ لَدَيْكَ . وَكُلَّمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَهُوَ مِنْ نَفْسِكَ ، فَإنَّكَ بِمَا أُوتِيتَ مِنْ قُدْرَةٍ عَلى العَمَلِ وَالاخْتِيَّارِ ، فِي دَرْءِ المَفَاسِدِ ، وَجَلَبِ المَنَافِعِ ، وَتَرْجِيحِ بَعْضِ المَقَاصِدِ عَلى بَعْضِ . . . قَدْ تُخْطئُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَسُوؤُكَ ، وَمَا يَنْفَعُكَ ، لأنَّكَ لا تَضْبُطُ إرَادَتَكَ وَهَوَاكَ ، وَلاَ تُحِيطُ بِالسُّنَّنِ وَالأَسْبَابِ ، فَأَنْتَ تُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، إمَّا بِالهَوَى ، وإمَّا قَبْلَ أنْ تُحِيطَ خَبَراً بِمَعْرِفَةِ النَّافِعِ والضَّارِّ ، فَتَقَعُ فِيمَا يَسُوءُ .
وَقَدْ أَرْسَلَكَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ للنَّاسِ لِتُبْلِغَهُمْ شَرَائِعَ رَبِّهِمْ ، وَأَوَامِرَهُ ، وَنَوَاهِيَهُ ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ ، وَهَوُ عَالِمٌ بِمَا تُبْلِغُهُمْ إيَّاهُ ، وَبِمَا يَرُدُّونَ عَلَيْكَ بِهِ .
إن الله - سبحانه - قد سن منهجاً ، وشرع طريقاً ، ودل على الخير ، وحذر من الشر . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج ، ويسير في هذا الطريق ، ويحاول الخير ، ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسباً . . إنما هي الحسنة فعلاً في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذي سن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه ، ولا يسلك طريقه الذي شرعه ، ولا يحاول الخير الذي دله عليه ، ولا يحذر الشر الذي حذره منه .
. حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول ، ومجال غير المجال الأول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئاً . وهي أن تحقق الحسنة ، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشىء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أياً كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث ، وهذا الذي يكون .ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمله وموقف الناس منه ، وموقفه من الناس . ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية : { وأرسلناك للناس رسولاً . وكفى بالله شهيداً . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأداء هذه الوظيفة { وكفى بالله شهيداً } . .وأمُر الناس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن من أطاعه فقد أطاع الله . فلا تفرقة بين الله ورسوله . ولا بين قول الله وقول رسوله . . ومن تولى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه . ولم يرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليجبره على الهدى ، ويكرهه على الدين ، وليس موكلاً بحفظه من العصيان والضلال . فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول؛ ولا داخلاً في قدرة الرسول .
بهذا البيان يصحح تصورهم عن حقيقة ما يقع لهم . . فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره . وما يصيبهم من حسنة أو سيئة - بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة ، سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر ، أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع - فهو من عند الله . لأنه لا ينشىء شيئاً ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله . . وما يصيبهم من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله ، لأنه بسبب منهجه وهدايته . وما يصيبهم من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند أنفسهم ، لأنه بسبب تنكبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته . .
والرسول وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول . لا ينشىء ولا يحدث ولا يخلق . ولا يشارك الله تعالى في خاصية الألوهية هذه : وهي الخلق والإنشاء والإحداث . وهو يبلغ ما جاء به من عند الله ، فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله . وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول . والرسول ليس مكلفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين ، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي .بعد البلاغ والبيان . .
حقائق - هكذا - واضحة مريحة ، بينة صريحة؛ تبني التصور ، وتريح الشعور؛ وتمضي شوطاً مع تعليم الله لهذه الجماعة ، وإعدادها لدورها الكبير الخطير . .
ـــــــــــــ
(1/87)
الرسول الأمي
قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) [الجمعة/2-3]
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولاً فِي العَرَبِ الأُميِّينَ هُوَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ أُميٌّ مِنْهُمْ . لاَ يَقْرَأُ وَلاَ يَكْتُبُ ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ إِليْهِمْ لِيَتْلُوَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ القُرآنِ التِي أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى ، لِيُطهرَهُمْ مِنْ خَبَائِث العَقَائِِدِ وَلِيعَلِّمَهُم الشَّرَائِعَ والأَحْكَامَ ، وَحِكْمَتَهَا وَأَسْرَارَهَا ، وَقَدْ كَانَ هَؤُلاَءِ الأُمِّيونَ ، قَبْلَ إِرْسَالِ النَّبِيِّ إِليهِمْ ، فِي ضَلاَلٍ بَيِّنٍ عَنْ جَادَّةِ الهُدَى ، إِذْ إِنَّ العَرَبَ كَانُوا قَبْلاً عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ ، ثُمَّ ابْتَعَدُوا عَنِ التَّوْحِيدِ ، وَتَسَرَّبَتِ الضَّلاَلاَتُ إِلَى عَقِيدَتِهِمْ ، فأَصْبَحُوا مُشْرِكِينَ .
وَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى مُحَمَّداً إِلَى أُمَمٍ أُخْرَى غَيْرِ العَرَبِ لَمْ يَجِيئُوا بَعْدُ ، وَسَيَجِيئُونَ ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ العَزِيزُ ذُو السُّلْطَانِ ، القَادِرُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ مِنْ أُمَّةِ العَرَبِ التِي كَانَتْ مُسْتَضْعَفَةً أُمَّةً قَوِيَّةً قَادِرَةً عَلَى نَشْرِ دِينِ اللهِ فِي أَرْجَاءِ الأَرْضِ ، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ .
والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين؛ وليرسل فيهم رسولاً منهم ، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم؛ ويخرجهم من أميتهم أو من أمميتهم بتلاوة آيات الله عليهم ، وتغيير ما بهم ، وتمييزهم على العالمين . .
{ ويزكيهم } . . وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - تطهير للضمير والشعور ، تطهير للعمل والسلوك ، وتطهير للحياة الزوجية ، وتطهير للحياة الاجتماعية .
تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد؛ ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح ، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح . وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني . ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال . . إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع . تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه ، ويتعامل مع الملأ الأعلى؛ ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم .
{ ويعلمهم الكتاب والحكمة } . . يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل الكتاب . ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور ، ويحسنون التقدير ، وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل وهو خير كثير .
{ وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } . . ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ليكرّهاه في المهاجرين من المسلمين ، ويشوها موقفهم عنده ، فيخرجهم من ضيافته وجيرته . . فقال جعفر :
« أيها الملك . كنا قوماً أهل جاهلية . نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان؛ وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام » . .
ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من ضلال فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة الأمناء عليها ، بما علم في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح؛ ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة؛ وقد فرغت منه نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر ، فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات ، ومن ثم لم تستقم أبداً بعد ذلك ، لا في حياة موسى عليه السلام ، ولا من بعده . حتى كتب الله عليهم لعنته وغضبه ، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة .
وعلم الله أن الجزيرة في ذلك الأوان هي خير مهد للدعوة التي جاءت لتحرير العالم كله من ضلال الجاهلية ، ومن انحلال الحضارة في الإمبراطوريات الكبيرة ، التي كان سوس الانحلال قد نخر فيها حتى اللباب! هذه الحالة التي يصفها كاتب أوربي حديث فيقول :« ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى . لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها .وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة ، مشرفة على التفكك والانحلال؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام . وكانت المدنية ، كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله ، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه « . .
وهذه الصورة مأخوذة من زاوية النظر لكاتب أوربي . وهي من زاوية النظر الإسلامية أشد عتاماً وظلاماً!
وقد اختار الله سبحانه تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين ، بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء . فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
{ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ، وهو العزيز الحكيم } . .وهؤلاء الآخرون وردت فيهم روايات متعددة . .قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ثور ، عن أبي الغيث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : » كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزلت عليه سورة الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } قالوا : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثاً ، وفينا سلمان الفارسي ، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان الفارسي ثم قال : لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء « فهذا يشير إلى أن هذا النص يشمل أهل فارس . ولهذا قال مجاهد في هذه الآية : هم الأعاجم وكل من صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير العرب .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثنا الوليد بن مسلم . حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب « ثم قرأ : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } . . يعني بقية من بقي من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .وكلا القولين يدخل في مدلول الآية . فهي تدل على آخرين غير العرب . وعلى آخرين غير الجيل الذي نزل فيه القرآن . وتشير إلى أن هذه الأمة موصولة الحلقات ممتدة في شعاب الأرض وفي شعاب الزمان ، تحمل هذه الأمانة الكبرى ، وتقوم على دين الله الأخير .{ وهو العزيز الحكيم } . . القوي القادر على الاختيار . الحكيم العليم بمواضع الاختيار . .واختياره للمتقدمين والمتأخرين فضل وتكريم :{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم } . .
وإن اختيار الله لأمة أو جماعة أو فرد ليحمل هذه الأمانة الكبرى ، وليكون مستودع نور الله وموضع تلقي فيضه ، والمركز الذي تتصل فيه السماء بالأرض . . إن اختيار الله هذا لفضلٌ لا يعدله فضل . فضل عظيم يربى على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته؛ ويربى على متاعب الطريق وآلام الكفاح وشدائد الجهاد .والله يذكر الجماعة المسلمة في المدينة ، والذين يأتون بعدها الموصولين بها والذين لم يحلقوا بها . يذكرهم هذا الفضل في اختيارهم لهذه الأمانة ، ولبعث الرسول فيهم يتلو عليهم الكتاب ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . ويترك للآتين في أطواء الزمان ذلك الرصيد الضخم من الزاد الإلهي ، ومن الأمثلة الواقعية في حياة الجماعة الأولى . يذكرهم هذا الفضل العظيم الذي تصغر إلى جانبه جميع القيم ، وجميع النعم؛ كما تصغر إلى جانبه جميع التضحيات والآلام . .
ـــــــــــــ
(1/88)
مهمة الرسول الأساسية إخراج الناس من الظلمات إلى النور
قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) [الطلاق/8-12]
يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، وَسَلَكَ غَيرَ مَا شَرَعَهُ اللهُ ، وَيُخْبِرُ عَمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ بِالأُمَمِ المُكَذِّبَةِ السَّالِفَةِ ، فَيَقُولُ تَعَالَى . إِنَّ كَثِيراً مِنْ أَهْلِ القُرَى خَالَفُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ ، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ الذِينَ أُرْسِلُوا إِليهِمْ ، وَتَمَادَوا فِي طُغْيَانِهِمْ ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ اللهُ حِسَاباً عَسِيراً عَلَى أَعْمَالِهِم كُلِّهَا ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً مُنْكَراً فِي الآخِرَةِ .
فَجَنَتْ ثِمَارَ مَا غَرَسَتْ أَيْدِيهَا مِنْ أَعْمَالِ السُّوءِ فَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا الخُسرَانَ والنَّكَالَ .
وَقَدْ هَيَّأَ اللهُ تَعَالَى لَهُمُ العَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الآخِرَةِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَبِيلِ الرُّسُلِ .
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ ذَوِي الأَلْبَابِ وَالأَفْهَامِ بِوُجُوبِ تَقْوَى رَبِّهِمْ ، وَإِطَاعَةِ أَمْرِهِ ، وَالخَشْيَةِ مِنْ مُخَالَفةِ أَمْرِهِ ، لِكَيْلاَ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الأُمَمَ المُكَذِّبَةَ السَّالِفَةَ ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى إليهِمْ قرآناً يُذَكِّرُهُمْ بِرَبِّهِمْ وَخَالِقهِمْ لِيَعْمَلُوا بِمَا يُرْضِيهِ تَعَالَى .
وَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى إِليكُمْ ، يَا ذَوِي الأَلْبَابِ وَالبَصَائِرِ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ القُرْآنِ الذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، وَهِيَ آيَاتٌ وَاضِحَاتٌ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهَا وَيَعْقِلُهَا ، لِيُخْرِجَ مَنْ لَدِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلْهُدَى مِنْ ظُلُمَاتِ الكُفْرِ ، إِلَى نُورِ الإِيْمَانِ ، وَمَنْ يَهْتَدِ إِلَى الإِيْمَانِ بِاللهِ فَإِنَّ اللهَ يُدْخِلُهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا وَيَبْقَى خَالداً فِيهَا ، وَيُوسِّعُ لَهُ فِيهَا فِي الرِّزْقِ الحَسَنِ مِنْ جَمِيعِ مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ .
اللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ ، وَخَلَقَ مِثْلَهُنَّ فِي العَدَدِ مِنَ الأَرْضِ ، وَيَجْرِي قَضَاءُ اللهِ وَقَدَرُهُ بَيْنَهُنَّ ، وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيهِنَّ ، فَهُوَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فِيهِنَّ وَفْقَ عِلْمِهِ الوَاسِعِ وَحِكْمَتِهِ .
وَاللهُ تَعَالَى يُنْزِلُ قَضَاءَهُ وَأَمْرَهُ بَيْنَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّهُ لاَ يَسْتَعِصِي عَلَى اللهِ شَيءٌ وَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ .
ونقف لحظة أمام هذا التحذير فنرى أن الله أخذ القرى واحدة بعد واحدة كلما عتت عن أمر ربها ورسله . . ونجد أن هذا التحذير يساق هنا بمناسبة الطلاق وأحكامه ، فيرتبط الطلاق وحكمه بهذه السنة الكلية . ويوحي هذا الارتباط أن أمر الطلاق ليس أمر أسر أو أزواج . إنما هو أمر الأمة المسلمة كلها . فهي المسؤولة عن هذا الأمر . وهي المسؤولة فيه عن شريعة الله . ومخالفتها عن أمر الله فيه أو مخالفتها عن أمر الله في غيره من أحكام هذا النظام ، أو هذا المنهج الإلهي المتكامل للحياة هي عتو عن أمر الله ، لا يؤاخذ به الأفراد الذين يرتكبونه ، إنما تؤاخذ به القرية أو الأمة التي تقع فيها المخالفة ، والتي تنحرف في تنظيم حياتها عن نهج الله وأمره . فقد جاء هذا الدين ليطاع ، ولينفذ كله ، وليهيمن على الحياة كلها . فمن عتا عن أمر الله فيه ولو كان هذا في أحوال الأفراد الشخصية فقد تعرض لما تعرضت له القرى من سنة الله التي لا تتخلف أبداً .وتلك القرى ذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً . . ذاقته في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير . ولقد ذاقت هذا الوبال قرى وأمم وشعوب عتت عن منهج الله في الأرض . ونحن نشهد وأسلافنا شهدوا هذا الوبال . ذاقته فساداً وانحلالاً ، وفقراً وقحطاً ، وظلماً وجوراً ، وحياة مفزعة لا أمن فيها ولا سلام ، ولا طمأنينة فيها ولا استقرار . وفي كل يوم نرى مصداق هذا النذير!
وذلك فوق العذاب الشديد الذي ينتظر العتاة عن أمر الله ونهجه في الحياة حيث يقول الله : { أعد الله لهم عذاباً شديداً } . . والله أصدق القائلين .
إن هذا الدين منهج نظام جماعي كما أسلفنا الحديث في سورة الصف جاء لينشئ جماعة مسلمة ذات نظام خاص . وجاء ليصرف حياة هذه الجماعة كلها . ومن ثم فالجماعة كلها مسؤولة عنه ، مسؤولة عن أحكامه . ولن تخالف عن هذه الأحكام حتى يحق عليها هذا النذير الذي حق على القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله
وفي مواجهة هذا الإنذار ومشاهده الطويلة يهتف بأولي الألباب الذين آمنوا . الذين هدتهم ألبابهم إلى الإيمان . يهتف بهم ليتقوا الله الذي أنزل لهم الذكر : { قد أنزل الله إليكم ذكراً } . . ويجسم هذا الذكر ويمزجه بشخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيجعل شخصه الكريم هو الذكر ، أو بدلاً منه في العبارة : { رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات } . .
وهنا لفتة مبدعة عميقة صادقة ذات دلائل منوعة . .
إن هذا الذكر الذي جاء من عند الله مر إليهم من خلال شخصية الرسول الصادق حتى لكأن الذكر نفذ إليهم مباشرة بذاته ، لم تحجب شخصية الرسول شيئاً من حقيقته .
والوجه الثاني لإيحاء النص هو أن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استحالت ذكراً ، فهي صورة مجسمة لهذا الذكر صنعت به فصارت هو . وهو ترجمة حية لحقيقة القرآن . وكذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا وصفته عائشة رضي الله عنها وهي تقول : « كان خلقه القرآن » . . وهكذا كان القرآن في خاطره في مواجهة الحياة . وكان هو القرآن يواجه الحياة!
وفوق نعمة الذكر والنور والهداية والصلاح ، وعد بنعيم الجنات خالدين فيها أبداً . وتذكير بأن هذا الرزق هو أحسن الرزق ، فلا يقاس إليه رزق الأرض : { قد أحسن الله له رزقاً } . . وهو الرازق في الدنيا والآخرة ، ولكن رزقاً خير من رزق ، واختياره للأحسن هو الاختيار الحق الكريم .وهكذا يلمس نقطة الرزق مرة أخرى ، ويهون بهذه الإشارة من رزق الأرض ، إلى جانب رزق الجنة .
عندما جرى قدر الله أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة؛ وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة؛ وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام؛ وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان . .
عندما جرى قدر الله بهذا كله جعل الله هذا المنهج في هذه الصورة ، شاملاً كاملاً متكاملاً ، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم ، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض ، وبالكائن الذي كرمه الله على كثير من عباده ، ونفخ فيه من روحه .
وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام : نمواً وتكاثراً ، ورفعة وتطهراً ، في آن واحد . فلم يعطل طاقة باقية بانية ، ولم يكبت استعداداً نافعاً . بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الاندفاع إلى الأفق الكريم ، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة ، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود .
وعندما جرى قدر الله أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا جرى كذلك باختيار رسولها - صلى الله عليه وسلم - إنساناً تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها ، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها . إنساناً قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها . ضليع التكوين الجسدي ، قوي البنية ، سليم البناء؛ صحيح الحواس ، يقظ الحس ، يتذوق المحسوسات تذوقاً كاملاً سليماً . وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة ، حي الطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، متفتح للتلقي والاستجابة . وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قوي الإرادة ، يملك نفسه ولا تملكه . . ثم هو بعد ذلك كله . . النبي . . الذي تشرق روحه بالنور الكلي ، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادى من السماء ، والذي يرى نور ربه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحن له الجذع ، ويرتجف به أحد الجبل . . ! . . ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها . فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها . .
ثم يجعل الله حياته الخاصة والعامة كتاباً مفتوحاً لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صور هذه العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية . ومن ثم لا يجعل فيها سراً مخبوءاً ، ولا ستراً مطوياً . بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي . حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر . بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للناس!
إنه ليس له في نفسه شيء خاص .فهو لهذه الدعوة كله . فعلام يختبئ جانب من حياته - صلى الله عليه وسلم - أو يخبأ؟ إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة؛ وقد جاء - صلى الله عليه وسلم - ليعرضها للناس في شخصه ، وفي حياته ، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه . ولهذا خلق . ولهذا جاء .
ولقد حفظ عنه أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ونقلوا للناس بعدهم جزاهم الله خيراً أدق تفصيلات هذه الحياة . فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية ، لم تسجل ولم تنقل . . وكان هذا طرفاً من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول ، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول . فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة
ــــــــــــ
جزاء من آمن بالرسل ونصرهم
قال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) [المائدة/12]
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَخَذَ العُهُودَ وَالمَوَاثِيقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَعْمَلُنَّ بِأَحْكَامِ التَّورَاةِ التِي تَحْوي شَرِيعَتَهُمْ . وَأَمَرَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ ، بِأنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ ، مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الاثْنَيِ عَشَرَ ، نَقِيباً يَكُونُ كَفِيلاً عَلَى جَمَاعَتِهِ ، بِالوَفَاءِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمرُوا بِهِ ، فَاخْتَارَ مُوسَى النُّقَبَاءَ ، وَأَخَذَ المِيثَاقَ وَتَكَفَّلَ لَهُ النُّقَبَاءُ بِالوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمُوا بِهِ .
فَسَارَ بِهِمْ مُوسَى إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ التِي وَعَدَهُمُ اللهُ السُّكْنَى فِيهَا ، وَكَانَ فِيها الكَنْعَانِيُّونَ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا بَعَثَ مُوسَى النُّقَبَاءَ يَتَحَسَّسُونَ الأخْبَارَ ، فَرَأوا أجْسَامَ الكَنْعَانِيِّينَ قَوَّيةً ، فَهَابُوهُمْ ، وَرَجَعُوا يُحَدِّثُونَ قَوْمَهُمْ بِمَا رَأوا ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَنَكَثُوا المِيثَاقَ ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ إلاَّ نَقِيبَانِ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِبَني إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَان مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ : إنَّكُمْ بِحِفْظِي وَرِعَايَتِي ، وَإنِّي نَاصِرُكُمْ وَمُعِينُكُمْ مَا دُمْتُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى المِيثَاقِ ، وَإني مَشْرِفٌ عَلَيكُمْ ، وَمُبْصِرٌ لأَفْعَالِكُمْ ، سَمِيعٌ عَلِيمٌ بِضَمَائِرِكُمْ ، وَقَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِكُمْ ، فَإذا أقَمْتُمُ الصَّلاَةَ ، وَأدَّيتُمُوهَا حَقَّ أَدَائِها ، وَدَفَعْتُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جَمِيعاً ، وَصَدَّقْتُمُوهُمْ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ مِنَ الوَحْي ، وَنَصْرَتُمُوهُمْ وَآزَرْتُمُوهُمْ عَلَى الحَقِّ ( عَزَّرْتُمُوهُمْ ) ، وَأَنْفَقْتُم الأَمْوَالَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ ( أَقْرَضَتْمُ اللهُ ) . . . إذَا فَعَلْتُمْ كُلَّ ذَلِكَ لأكَفِّرنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ، وَأمْحُونَّ ذُنُوبَكُمْ ، وَأسْتُرُهَا عَلَيكُمْ ، وَلا أَؤاخِذُكُمْ عَلَيها وَلأدْخِلَنَّكُمْ فِي رَحْمَتِي ، وَأسْكِنُكُمْ جَنَّتِي التِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ . وَمَنْ خَالَفَ هَذا المِيثَاقَ بَعْدَ عَقْدِهِ وَتَوْكِيدِهِ ، فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الوَاضِحَ ، وَعَدَلَ عَنِ الهُدَى إلَى الضَّلالِ .
لقد كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ميثاقاً بين طرفين؛ متضمناً شرطاً وجزاء . والنص القرآني يثبت نص الميثاق وشرطه وجزاءه ، بعد ذكر عقد الميثاق وملابسات عقده . . لقد كان عقداً مع نقباء بني إسرائيل الاثني عشر ، الذين يمثلون فروع بيت يعقوب - وهو إسرائيل - وهم ذرية الأسباط - أحفاد يعقوب - وعدتهم اثنا عشر سبطاً . . وكان هذا نصه :{ وقال الله : إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم . فقد ضل سواء السبيل } . .
. . { إني معكم } . . وهو وعد عظيم . فمن كان الله معه ، فلا شيء إذن ضده . ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود - في الحقيقة - له ولا أثر . ومن كان الله معه فلن يضل طريقه ، فإن معية الله - سبحانه - تهديه كما أنها تكفيه . ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى ، فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده . . وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن ، وقد وصل ، وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم .
ولكن الله - سبحانه - لم يجعل معيته لهم جزافاً ولا محاباة؛ ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده . . إنما هو عقد . . فيه شرط وجزاء .
شرطه : إقامة الصلاة . . لا مجرد أداء الصلاة . . إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب؛ وعنصراً تهذيبياً وتربوياً وفق المنهج الرباني القويم؛ وناهياً عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر!
وإيتاء الزكاة . . اعترافاً بنعمة الله في الرزق؛ وملكيته ابتداء للمال؛ وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه - وهو المالك والناس في المال وكلاء - وتحقيقاً للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن؛ وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سبباً في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته؛ كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب ، وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه .. كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة؛ ويحول دونه منهج الله في توزيع المال؛ وفي دورة الاقتصاد . .
والإيمان برسل الله . . كلهم دون تفرقة بينهم . فكلهم جاء من عند الله؛ وكلهم جاء بدين الله . وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعاً ، وكفر بالله الذي بعث بهم جميعاً . .
وليس هو مجرد الإيمان السلبي ، إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل ، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له ، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه . . فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به ، وليقيمه في الأرض ، وليحققه في حياة الناس . فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي ، ولا مجرد شعائر تعبدية . إنما هو منهج واقعي للحياة . ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة . والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة ، وتعزير ، وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه . . وإلا فما وفى المؤمن بالميثاق .
وبعد الزكاة إنفاق عام . . يقول عنه الله - سبحانه - إنه قرض لله . . والله هو المالك ، وهو الواهب . . ولكنه - فضلاً منه ومنة - يسمي ما ينفقه الموهوب له - متى أنفقه لله - قرضاً لله . .
ذلك كان الشرط . فأما الجزاء فكان :
تكفير السيئات . . والإنسان الذي لا يني يخطىء ، ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة . . تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة ، وتدارك لضعفه وعجزه وتقصيره . .
وجنة تجري من تحتها الأنهار . . وهي فضل خالص من الله ، لا يبلغه الإنسان بعمله ، إنما يبلغه بفضل من الله ، حين يبذل الجهد ، فيما يملك وفيما يطيق . .
وكان هنالك شرط جزائي في الميثاق :
{ فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل } . .
فلا هدى له بعد ذلك ، ولا أوبة له من الضلال . بعد إذ تبين له الهدى ، وتحدد معه العقد ، ووضح له الطريق ، وتأكد له الجزاء . .
ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل . . عمن وراءهم . وقد ارتضوه جميعاً؛ فصار ميثاقاً مع كل فرد فيهم ، وميثاقاً مع الأمة المؤلفة منهم . . فماذا كان من بني إسرائيل!
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق ، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها ، ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفاً لئيماً ماكراً عنيداً ، وخانوه وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله ، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .
ـــــــــــــ
(1/89)
نهي الرسول أن يكون من الجاهلين
قال تعالى : {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) [الأنعام/34، 35]
يَلْفِتُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ رَسُولِهِ إلى مَا لاَقَاهُ الرُّسُلُ قَبْلَهُ مِنْ تَكْذِيبِ أَقْوَامِهِمْ لَهُمْ ، فَصَبَرُوا عَلَى الإِيذَاءِ وَالتَّكْذِيبِ ، حَتَّى جَاءَ نَصْرُ اللهِ . ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : فَعَلَيْكَ أيُّهَا الرَّسُولُ أنْ تَتَأَسَى بِهِمْ ، وَتَصْبِرَ ، فَكَمَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ مَنْ سَبَقَكَ مِنَ الرُّسُلِ ، كَذَلِكَ سَيَنْصُرُكَ اللهُ عَلَى أَعْدَائِكَ الكَافِرِينَ ، وَلاَ مُبَدِّلَ لَكَلِمَاتِ اللهِ التِي قَضَى فِيهَا أنَّ النَّصْرَ وَالعَاقِبَةَ سَتَكُونَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . وَلَقَدْ جَاءَكَ أيُّهَا الرَّسُولُ نَبَأُ نَصْرِ اللهِ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَادَاهُمْ مِنْ أَقْوَامِهِمْ ، فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ نَبَأِ المُرْسَلِينَ قَبْلَكَ ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَكَ ، وَتَثْبِيتٌ . إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ، ماض في الطريق اللاحب ، ماض في الخط الواصب . . مستقيم الخطى ، ثابت الأقدام . يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون ، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء . . والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد . . والعاقبة هي العاقبة ، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق . . إن نصر الله دائماً في نهاية الطريق :{ ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين } . .
كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . . كلمات للذكرى ، وللتسرية وللمواساة ، والتأسية . . وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريقهم واضحاً ، ودورهم محدداً ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما أنها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . . دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب ، وتتلقى أصحابها بالأذى . . وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . . وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم ، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة ، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة .
. لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله . فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه . ولا مبدل لكلماته . سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم ، أم تعلقت بالأجل المرسوم .إنه الجد الصارم ، والحسم الجازم ، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية . .ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرغبة البشرية ، المشتاقة إلى هداية قومه ، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين ، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ، ودور الناس أجمعين ، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم :{ وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض ، أو سلماً في السماء ، فتأتيهم بآية! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون } . .وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابراً محتسباً ، لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم!. . . تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء ، فأتهم بآية!. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعاً . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدر الذي يكون عدلاً معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف .. فاعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه .{ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين } .
يا لهول الكلمة! ويا لحسم التوجيه! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
ــــــــــــ
الرسل مبشرون ومنذرون
قال تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) [الأنعام/48، 49]
إنَّ اللهَ تَعَالَى يُرْسِلُ الرُّسُلَ لِيُبَشِّرُوا ، مَنْ آمَنَ ، بِالجَنَّةِ ، وَحُسْنِ الثَّوَابِ ، وَلِيُنْذِرُوا ، مَنْ كَفَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ، بِالعُقُوبَةِ وَالعَذَابِ ، فَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، فَهَؤُلاَءِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ، مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيا .
أمَّا الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمِ ، فَإنَّهُمْ سَيُصِيبَهُمُ العَذَابُ ، بِمَا كَفَرُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَخَرَجُوا عَنْ أَوَامِرِ رَبِّهِمْ ، وَلَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ .
لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي ، ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان استخداماً كاملاً في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود ، وفي أطوار الحياة ، وفي أسرار الخلق؛ والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري إليه . .
وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية؛ التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان ، أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان! إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله . وهي في ذاتها خوارق معجزة . . ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود ، ويتألف منها قوامه وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند الله باهر معجز في تعبيره ومعجز في منهجه ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال . والذي لم يلحق به من بعده أي مثال!
وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة ، وتوجيهاً طويلاً ، حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة ، وهذا المدى من الرقي؛ وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري ، في ظل التوجيه الرباني ، والضبط القرآني ، والتربية النبوية . . قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد ، بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي؛ وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك ، مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية!
وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول ، وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان - كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة - فالرسول بشر ، يرسله الله ليبشر وينذر ، وهنا تنتهي وظيفته ، وتبدأ استجابة البشر ، ويمضي قدر الله ومشيئته من خلال هذه الاستجابة ، وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة . . فمن آمن وعمل صالحاً يتمثل فيه الإيمان ، فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف . فهناك المغفرة على ما أسلف ، والثواب على ما أصلح .
. ومن كذب بآيات الله التي جاءه بها الرسول ، والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود . يمسهم العذاب بسبب كفرهم ، الذي يعبر عنه هنا بقوله : { بما كانوا يفسقون } حيث يعبر القرآن غالباً عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع . .
تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين . . تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها؛ ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله ، ويجعل للإنسان - من خلال ذلك - حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه ، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بياناً حاسماً؛ وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله ، مما كان سائداً في الجاهليات . . وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي؛ دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية ، والجدل اللاهوتي ، الذي استنفذ طاقة الإدراك البشري أجيالاً بعد أجيال!!!
----------------
وقال تعالى :{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) [الكهف/56]
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : إِنَّهُ لاَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ مِنْ صَدَّقَهُمْ ، وَآمَنَ بِدَعْوَتِهِمْ ، بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم الحُسْنَى؛ وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ ، عِقَابَ اللهِ وَعَذَابَهُ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يُرْسِلُ المُرْسَلِينَ لِيَقْتَرِحَ عَلَيْهِمُ الظَّالِمُونَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ ، وَيَطْلُبُوا مِنْهُمْ مَا لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهِ . وَالظَّالِمُونَ الكُفَّارُ لاَ يُجَادِلُونَ ، وَلا يَقْتَرِحُونَ لِلاسْتِرْشَادِ وَالاهْتِدَاءِ ، وَإِنَّمَا يُجَادِلُونَ بِالبَاطِلِ لِيُضْعِفُوا الحَقَّ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَيُبْطِلُوهُ ( لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ) ، وَلَنْ يَبْلُغُوا غَايَتَهُمْ . وَقَدِ اتَّخَذُوا جَمِيعَ الحُجَجِ وَالمُعْجِزَاتِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رُسُلُهُمْ ، وَالعَذَابِ الَّذِي حَذَّرُوهُمْ مِنْهُ ، وَخَوّفُوهُمْ مِنْ نُزُولِهِ بِهِمْ . . . هُزْواً وَسُخْرِيَةً .
ــــــــــــ
جزاء من سخر بآيات الله وكذب رسله
قال تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) [الكهف/103-106]
قُلْ ، أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَكَ بِالبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ : هَلْ تُرِيدُونَ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً؟ إِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ يَرْضَاهَا تَعَالَى ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِيهَا ، وَأَنَّ عَمَلَهُمْ مَقْبُولٌ . وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ مُخْطِئُونَ وَاهِمُونَ ، وَعَمَلُهُمْ مَرْدُودٌ .
يُفَسِّرُ اللهُ تَعَالَى هُنَا مَعْنَى ( الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) ، وَيَدُلٌّ عَلَيْهِمْ ، فَيَقُولُ : إِنَّهُمُ الَّذِينَ عَمِلُوا أَعْمَالاً بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَتِهِ ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيءٍ مِنَ الهُدَى وَالصَّوَابِ ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ وَمَحْبُوبُونَ ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَسَنَةٌ يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى . وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ، وَكَفَرُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا ، وَكَفَرُوا بِحُجَجِ رَبِّهِمْ وَبَرَاهِينِهِ وَدَلاَئِلِهِ التِي أَقَامَهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ ، وَكَذَّبُوا بِالآخِرَةِ وَالحِسَابِ ، فَهَلَكَتْ أَعْمَالُهُمْ وَبَطَلَتْ ( حَبِطَتْ ) ، فَلاَ تَزِنُ أَعْمَالُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ شَيْئاً ، وَلاَ يَكُونُ فِي كَفَّةِ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَلٌ صَالِحٌ يُرَجِّحُهَا ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ خَالِيَةٌ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ ، وَالمَوَازِينُ لاَ تَرْجَحُ وَلاَ تَثْقُلُ إِلاَّ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ . ( وَفِي الحَدِيثِ : " يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَظِيمٍ طَوِيلٍ فَلاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جُنَاحَ بَعُوضَةٍ " ) . ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ ) .
وَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَقَدْ جَازَاهُمُ اللهُ بِهَذا الجَزَاءِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وَاتِّخَاذِهِمْ ، آيَاتِ اللهِ وَرُسُلِهِ وَنُذُرِهِ هُزْواً ، فَاسْتَهْزَؤُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ .
أي: قل يا محمد، للناس -على وجه التحذير والإنذار-: هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟
{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صنعه، فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنها باطلة، وأنها محادة لله ورسله ومعاداة؟" فمن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم،فـ { فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟ ألا ذلك هو الخسران المبين }
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } أي: جحدوا الآيات القرآنية والآيات العيانية، الدالة على وجوب الإيمان به، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر.
{ فَحَبِطَتْ } بسبب ذلك { أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } لأن الوزن فائدته، مقابلة الحسنات بالسيئات، والنظر في الراجح منها والمرجوح، وهؤلاء لا حسنات لهم لعدم شرطها، وهو الإيمان، كما قال تعالى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } لكن تعد أعمالهم وتحصى، ويقررون بها، ويخزون بها على رءوس الأشهاد، ثم يعذبون عليها، ولهذا قال: { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ } أي: حبوط أعمالهم، وأنه لا يقام لهم يوم القيامة، { وَزْنًا } لحقارتهم وخستهم، بكفرهم بآيات الله، واتخاذهم آياته ورسله، هزوا يستهزئون بها، ويسخرون منها، مع أن الواجب في آيات الله ورسله، الإيمان التام بها، والتعظيم لها، والقيام بها أتم القيام، وهؤلاء عكسوا القضية، فانعكس أمرهم، وتعسوا، وانتكسوا في العذاب.
ــــــــــــ
الله يرعى الرسل ويختارهم
قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) [القصص/7]
لَمَّا أَكثرَ فِرعَونَ القَتْلَ في بَني إِسرائيلَ خَافَ الأَقباطُ أَن يَفْنَى بَنُو إِسرائيلَ ، فَيُضْطَرُّ القِبطُ ، إِلى القِيامِ بِمَا يَقُومُ بهِ بَنُو إِسْرائيلَ مِنَ الأَعمَالِ الشَّاقةِ ، فَقَالُوا لِفرعَوْنَ ذَلِكَ ، فَأَمرَ بِقْتْلِ الوِلْدَانِ عَاماً ، وَتَركِهِمْ عَاماً ، فَوُلِدَ هارُونُ في السَّنةِ التي يَتْركُونَ فِيها الذُّكُورَ ، وَوُلِدَ مُوسَى في السَّنةِ التي يَقْتُلُونَ فِيها الذُّكُورَ فَخَافَتْ أُمُهُ عَلَيه ، وَضَاقَتْ بهِ ذَرْعاً ، وَقَدْ أَحَبَّتْهُ حُبّاً شَديداً ( فَفَدْ أَلقى اللهُ تَعَالى مَحَبَّتَهُ في قَلْبِ كُلِّ مَنْ رَآهُ كَمَا جَاءَ في حُبّاً شَديداً ( فَقَدْ أَلقى اللهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ في قَلْبِ كُلِّ مَنْ رَآهُ كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى ) فَأَلْهَمَهَا اللهُ أَنْ تَضَعَهُ فِي تَابُوتٍ ، وَتَقْذِفَهُ فِي المَاءِ حِينَمَا يَدْخُلُ عَلَيها أَحْدٌ تَخَافُهُ . وَرَبَطَتِ التَّابُوتَ بِحَبْلٍ فإِذا ذَهَبَ مَا تَحْذَرُهُ جَذَبَتِ الحَبلَ وأَخْرَجَتْ مُوسَى مِنَ التَّابُوتِ . وذَات يومٍ دَخَلَ عَلَيها مَنْ تَحْذَرُهُ ، فَوَضَعَتْ مُوسَى في المَهْدِ ، وَنَسِيَتْ رَبطَ الحَبْلِ ، فَذَهَبَ بهِ المَاءُ ، واحتَمَلَهُ حَتَّى مَرَّ بهِ أَمامَ دارِ فِرعَونَ . وَقَدْ وَعَدَ اللهُ أُمَّ مُوسَى بمَا يُسلِّيها ، ويُطْمْئِنُ قَلبَها ، وَهُوَ أَنَّهُ سَيَحفَظُهُ لَهَا ، وَسَيَرُدُّهُ إِليها لِتكُونَ مُرضِعَتَهُ ، وأَنَّهُ سيَجعَلُهُ مُرْسَلاً إِلى فِرْعوْنَ الطَّاغِيَةِ ، وسَيَجْعَلُ على يَدَيهِ هَلاَكَ فِرعَونَ ، ونَجَاةَ بَني إِسْرائِيلَ مِمَّا هُمْ فيهِ .
يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه . فإذا خفت عليه وهو في حضنك . وهو في رعايتك . إذا خفت عليه وفي فمه ثديك ، وهو تحت عينيك . إذا خفت عليه { فألقيه في اليم } !!
{ ولا تخافي ولا تحزني } إنه هنا . . في اليم . . في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها ، اليد التي لا خوف معها . اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها . اليد التي تجعل النار برداً وسلاماً ، وتجعل البحر ملجأ ومناما .اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعاً أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب .
{ إنا رادوه إليك } . . فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده . . { وجاعلوه من المرسلين } . . وتلك بشارة الغد ، ووعد الله أصدق القائلين .
------------------
وقال تعالى :{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه/37-41]
قَالَ لَهُ تَعَالَى : إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ لَهُ أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ ، مَرَّةً أُخْرَى ، إِذْ تَوَلاَّهُ بِعِنَايَتِهِ ، وَأَكْرَمَهُ وَحِفَظَهُ وَرَعَاهُ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَضَنَّ عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ فِيمَا سَأَلَ .
وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَقْتُلُ الذُّكُورَ مِنْ مَوَالِيدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، لِرُؤْيَا رَآهَا فَأَزْعَجَتْهُ ، فَلَمَّا وُلِدَ مُوسَى خَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فِرْعَونُ ، فَأَلْهَمَ اللهُ أُمَّ مُوسَى إِلْهَاماً طَمْأَنَ قَلْبَها
وَهذا الإِلْهَامُ الَّذِي أَلْهَمَهَا اللهُ هُوَ أَنْ تَضَعَ مُوسَى فِي تَابُوتٍ صَغِيرٍ ، فَتَقْذِفَهُ فِي المَاءِ ( اليَمِّ ) ، فَيَحْمِلَهُ اليَمُّ إِلَى شَاطِئِ النَّهْرِ فِي المَكَانِ المُواجِهِ لِقَصْرِ فِرْعَوْنَ ، فَيَأْخُذُهُ فِرْعَوْنُ - وَهُوَ عَدُوٌّ للهِ وَلِمُوسَى - فَيُرَبِّيِهِ وَزَوْجَهُ ، وَيَقْذِفُ اللهُ حُبَّهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ وَزَوْجِهِ ، وَهَكَذا يُرَبَّى مُوسَى بِعَيْنِ اللهِ وَرِعَايَتِهِ ، وَيُنْشَّأَ أَحْسَنَ تَنْشِئَةٍ ، فَفَعَلَتْ أُمُّ مُوسَى مَا أُلْقِيَ فِي رَوْعِهَا ، فَأَخَذَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ، وَفِرَحَتْ بِهِ زَوْجُهُ ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِ المَرَاضِعَ ، فَلَمْ يَكُنْ يَقْبَلُ الرَّضَاعَ مِنْ ثَدِيِ امْرَأَةٍ أُخْرَى ، وَذَلِكَ لِيُيَسِّرَ اللهُ عَوْدَتَهُ إِلَى أُمِّهِ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهَا وَلاَ تَحْزَنَ لِفِرَاقِهِ .
(1/90)
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ ، وَعَرَضُوا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ فَأَبَاهَا ، جَاءَتْ أُخْتُ مُوسَى ، وَقَالَتْ لآلِ فِرْعَوْنَ : هَلْ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ، وَيُرْضِعُونَهُ؟ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أُمِّهَا فَعَرَضَتْ ثَدْيَهَا عَلَى مُوسَى فَأَخَذَهُ ، فَفَرِحَ جَمَاعَةُ فِرْعَوْنَ فَرَحاً شَدِيداً ، وَاسْتَأْجَرُوهَا لإِرْضَاعِهِ ، وَبِذَلِكَ قَرَّتْ عَيْنُهَا ، وَاطْمَأَنَّتْ عَلَى سَلاَمَةِ ابْنِهَا ، إِذْ أَصْبَحَ مَشْمُولاً بِرِعَايَةِ فِرْعَوْنَ وَزَوْجِهِ .
وَلَمَّا كَبُرَ مُوسَى ، وَجَدَ قِبْطِيّاً يَتَخَاصَمُ مَعَ إِسْرَائِيلِيٍّ ، فَضَرَبَ مُوسَى القِبْطِيَّ بِجُمْعِ يَدِهِ فَقَتَلَهُ ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِمَقْتَلِهِ ، ثُمَّ وُجَدَ ذَلِكَ الإِسْرَائِيلِيَّ يَتَخَاصَمُ مَعَ قِبْطِيٍّ آخَرَ فَاسْتَغَاثَ الإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى ، فَوَبَّخَهُ مُوسَى عَلَى شُرُورِهِ ، فَخَافَ الإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مُوسَى ، وَقَالَ لَهُ لَعَلَّكَ تُرِيدُ قَتْلِي كَمَا قَتَلْتَ القِبْطِيَّ يَوْمَ أَمْسِ . وَعَلِمَ فِرْعَوْنُ بِأَنَّ مُوسَى هُوَ قَاتِلُ القِبْطِيِّ فَهَرَبَ إِلَى مَدْيَنَ . وَلِبِثَ فِيهَا عَشْرَ سِنِينَ يَرْعَى الغَنَمَ فِيهَا لِشُعَيْبٍ .
ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى الأَجَلُ سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ ، وَفِي الطَّرِيقِ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ رِسَالَتَهُ فِي الوَقْتِ المُقَدَّرِ .
حَدِيثُ الفُتُونِ :
وَسَأَلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍِ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الفُتُونِ الوَارِدِ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ لَهُ :
- أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ الذُّكُورِ مِنَ المَوْلُودِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَكَانَ رِجَالُهُ يَطُوفُونَ ، فَلاَ يَتْرُكُونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ المَوْجُودِينَ فِي مِصْرَ وَلِيداً ذَكَراً إِلاَّ ذَبُحُوهُ ، وَلَمَّا خَافَ الأَقْبَاطُ أَنْ يَفْنَى بَنُو إِسْرَائِيلَ وَلاَ يَبْقَى لِلأَقْبَاطِ مَنْ يَخْدِمَهُمْ ، وَيَقُومُ بِالأَعْمَالِ الشَّاقَةِ لَدَيْهِمْ ، اسْتَقَرَّ رَأْيُ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنْ يَذْبَحَ ذُكُورَ الأَطْفَالِ سَنَةً ، وَيَتْرُكَهُمْ سَنَةً . وَحَمَلَتْ أُمّ مُوسَى بِهِ فِي عَامٍ يَذْبَحُ فِيهِ الذَّكُورُ ، فَخَافَتْ عَلَيْهِ ، فَمَا دَخَلَ عَلَى مُوسَى وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، أَوْ مِمَّا يُرَادُ بِهِ هُوَ مِنَ الفُتُونِ .
- ثُمَّ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ، وَخَافَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَتْهُ فِي اليَمِّ بِوَحْيٍّ مِنَ اللهِ ، فَلَمَّا اخْتَفَى عَنْهَا ابْنُهَا وَسْوَسَ لَهَا الشَّيْطَانُ ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا : مَا صَنَعْتُ بِابْنِي ، لَوْ أَنَّهُ بَقِيَ عِنْدِي وَذُبِحَ فِي حِجْرِي لَوَارَيْتُهُ التُّرَابَ ، فَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَأْكُلُهُ دَوَابُّ البَحْرِ .
- وَلَمَّا التَقَطَهُ جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ فِي التَّابُوتِ حَمَلْنَهُ إِلَيْهَا ، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ أَحَبَّتْهُ ، بِوَحْيٍّ مِنَ اللهِ ، مَحَبَّةٍ كَبِيرَةٍ ، وَجَاءَهَا الذَّبَّاحُونَ لِيَذْبَحُوا مُوسَى ، وَذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ .
- فَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ اتْرُكُوهُ حَتَّى آتِي فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبُهُ إِيَّاهُ ، فَإِنَّ هَذا الوَاحِدُ لاَ يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ ، فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ : قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكْ . فَقَالَ فِرْعَوْنُ : قُرَّةُ عَيْنٍ لَكِ ، أَمَّا أَنَا فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهِ .
- ثُمَّ عَرَضَتْهُ عَلَى المَرَاضِعِ فَأَبَاهَا ، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهاً فَقَالَتْ لابْنَتِهَا قُصِّي أَثَرَهُ فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ فَعَرَفَتْهُ ، وَلَمَّا عَرَفَتْ أَنَّهُ رَفَضَ الرَّضَاعَ مِنَ المُرْضِعَاتِ ، تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَتْ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ؟ فَقَالُوا وَمَا يُدْرِيكَ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ؟ هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي أَمْرِهَا ، وَذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ .
ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى رَجُلاً إِسْرَائِيلِيّاً يَتَخَاصَمُ مَعَ قَبْطِيٍّ فَاسْتَغَاثَ الإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى فَقَتَلَ القَبْطِيَّ ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَنْ قَتَلَهُ ، فَخَافَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ . ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى ذَلِكَ الإِسْرَائِيلِيُّ يَتَخَاصَمُ مَعَ قِبْطِيٍّ آخَرَ ، فَاسْتَاءَ مُوسَى مِنْ فِعْلِ الإِسْرَائِيلِيِّ ، فَقَالَ لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ . فَخَافَ الإِسْرَائِيلِيُّ أَنْ يَقْتُلَهُ مُوسَى ، فَقَالَ لَهُ : أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ؟ فَعَرَفَ القِبْطِيُّ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي قَتَلَ القِبْطِيُّ الآخَرَ ، فَذَهَبَ إِلَى فِرْعَوْنٍ يُعْلِمُهُ بِمَا سَمِعَ ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ مُوسَى ، وَأَرْسَلَ الذَّبَّاحِينَ يَبْحَثُونَ عَنْهُ ، وَسَمِعَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى بِمَا أَمَرَ بِهِ فِرْعَوْنُ ، فَأَسْرَعَ إِلَى مُوسَى يُخْبِرُهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ فِرْعَوْنُ ، فَهَرَبَ مُوسَى إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ ، وَهَذا مِنَ الفُتُونِ أَيْضاً .
وَبَقِيَ مُوسَى عَدداً مِنَ السِّنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ يَرْعَى الغَنَمَ لِصِهْرِهِ ، حَتَّى انْقَضَتْ المُدَّةُ التِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا ، ثُمَّ جَاءَ فِي الوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ وَأَرَادَتْهُ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى ، مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ ، لِيَجْعَلَهُ رَسُولاً .
وَاخْتَرْتُكَ لإِقََامَةِ حُجَّتِي ، وَاصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَتِي وَبِكَلاَمِي ، فَصِرْتَ أَشْبَهُ بِمَنْ يَرَاهُ المَلِكُ أَهْلاً لِكَرَامَتِهِ ، فَيُقَرِّبُهُ وَيَجْعَلُهُ مِنْ خَوَاصِّهِ .
إن موسى عليه السلام ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض وأطغى جبار . إنه ذاهب لخوض معركة الإيمان مع الطغيان . إنه ذاهب إلى خضم من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر؛ ثم مع قومه بني إسرائيل وقد أذلهم الاستعباد الطويل وأفسد فطرتهم ، وأضعف استعدادهم للمهمة التي هم منتدبون لها بعد الخلاص . فربه يطلعه على أنه لن يذهب غفلاً من التهيؤ والاستعداد . وأنه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد . وأنه صنع على عين الله منذ زمان ، ودرب على المشاق وهو طفل رضيع . ورافقته العناية وسهرت عليه وهو صغير ضعيف . وكان تحت سلطان فرعون وفي متناوله وهو مجرد من كل عدة ومن كل قوة فلم تمتد إليه يد فرعون ، لأن يد القدرة كانت تسنده ، وعين القدرة كانت ترعاه .
في كل خطاه . فلا عليه اليوم من فرعون ، وقد بلغ أشده . وربه معه . قد اصطنعه لنفسه ، واستخلصه واصطفاه .
{ ولقد مننا عليك مرة أخرى } . . فالمنة قديمة ممتدة مطردة ، سائرة في طريقها معك منذ زمان . فلا انقطاع لها إذن بعد التكليف الآن .
لقد مننا عليك إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ، وألهمناها ما يلهم في مثل حالها . . ذلك الإلهام : { أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل } . .حركات كلها عنف وكلها خشونة . . قذف في التابوت بالطفل . وقذف في اليم بالتابوت . وإلقاء للتابوت على الساحل . . ثم ماذا؟ أين يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى به على الساحل . من يتسلمه؟ { عدو لي وعدو له } .وفي زحمة هذه المخاوف كلها . وبعد تلك الصدمات كلها . ماذا؟ ما الذي حدث للطفل الضعيف المجرد من كل قوة؟ ما الذي جرى للتابوت الصغير المجرد من كل وقاية؟
{ وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } !!!
يا للقدرة القادرة التي تجعل من المحبة الهينة اللينة درعاً تتكسر عليها الضربات وتتحطم عليه الأمواج . وتعجز قوى الشر والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء؛ ولو كان طفلاً رضيعاً لا يصول ولا يجول بل لا يملك أن يقول . .
إنها مقابلة عجيبة في تصوير المشهد . مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل الصغير ، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف . . والرحمة اللينة اللطيفة تحرسه من المخاوف ، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة ، ممثلة في المحبة لا في صيال أو نزال : { ولتصنع على عيني } . . وما من شرح يمكن ان يضيف شيئاً إلى ذلك الظل الرفيق اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير القرآني العجيب : { ولتصنع على عيني } وكيف يصف لسان بشري ، خلقاً يصنع على عين الله؟ إن قصارى أي بشري أن يتأمله ويتملاه . . إنها منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية . فكيف بمن يصنع صنعاً على عين الله؟ إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه
ولتصنع على عيني . تحت عين فرعون عدوك وعدوي وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافع . ولكن عينه لا تمتد إليك بالشر لأني القيت عليك محبة مني . ويده لا تنالك بالضر وأنت تصنع على عيني .
ولم أحطك في قصر فرعون ، بالرعاية والحماية وأدع أمك في بيتها للقلق والخوف . بل جمعتك بها وجمعتها بك : { إذ تمشي أختك فتقول : هل أدلكم على من يكفله؟ فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن } . .
وكان ذلك من تدبير الله . إذ جعل الطفل لا يقبل ثدي المرضعات . وفرعون وزوجه وقد تبنيا الطفل الذي ألقاه اليم بالساحل مما لا يفصله السياق كما يفصله في موضع آخر يبحثان له عن موضع .فيتسامع الناس وتروح أخت موسى بإيحاء من أمها تقول لهم : هل أدلكم على من يكفله؟ وتجيء لهم بأمه فيلقم ثديها . وهكذا يتم تدبير الله للطفل وأمه التي سمعت الإلهام فقذفت بفلذة كبدها في التابوت ، وقذفت بالتابوت في اليم ، فألقاه اليم بالساحل . ليأخذه عدو لله وله ، فيكون الأمن بإلقائه بين هذه المخاوف ، وتكون النجاة من فرعون الذي كان يذبح أطفال بني إسرائيل . بإلقائه بين يدي فرعون بلا حارس ولا معين!
ومنة أخرى : { وقتلت نفسا فنجيناك من الغم ، وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى . واصطنعتك لنفسي } . .ذلك حين كبر وشب في قصر فرعون ، ثم نزل المدينة يوماً فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما إسرائيلي والآخر مصري ، فاستعانه الإسرائيلي فوكز المصري بيده فخر صريعاً . ولم يكن ينوي قتله إنما كان ينوي دفعه . فامتلأت نفسه بالغم على هذه الفعلة وهو المصنوع على عين الله منذ نشأته؛ وتحرج ضميره وتأثم من اندفاعه . . فربه يذكره هنا بنعمته عليه ، إذ هداه إلى الاستغفار فشرح صدره بهذا ونجاه من الغم . ولم يتركه مع هذا بلا ابتلاء ليربيه ويعده لما أراد؛ فامتحنه بالخوف والهرب من القصاص؟ وامتحنه بالغربة ومفارقة الأهل والوطن؛ وامتحنه بالخدمة ورعي الغنم ، وهو الذي تربى في قصر أعظم ملوك الأرض ، وأكثرهم ترفاً ومتاعاً وزينة . .وفي الوقت المقدر . عندما نضج واستعد ، وابتلي فثبت وصبر؛ وامتحن فجاز الامتحان . وتهيأت الظروف كذلك والأحوال في مصر ، وبلغ العذاب ببني إسرائيل مداه . .في ذلك الوقت المقدر في علم الله جيء بموسى من أرض مدين ، وهو يظن أنه هو جاء : { فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى } جئت في الوقت الذي قدرته لمجيئك . . { واصطنعتك لنفسي } خالصاً مستخلصاً ممحضاً لي ولرسالتي ودعوتي . . ليس بك شيء من هذه الدنيا ولا لهذه الدنيا . إنما أنت للمهمة التي صنعتك على عيني لها واصطنعتك لتؤديها . فما لك في نفسك شيء . وما لأهلك منك شيء ، وما لأحد فيك شيء . فامض لما اصطنعتك له
-----------------
وقال تعالى :{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) (الضحى6-11)
أَلَمْ تَكُنْ يَتِيماً لاَ أَبَ لَكَ وَلاَ أُمَّ يَهْتَمّانِ بِأَمْرِكَ ، وَيعْتَنِيَانِ بِشُؤُونِكَ ، فَتَعَهَّدَكَ رَبُّكَ وَمَا زَالَ يَحْمِيكَ وَيَتَعَهَّدُكَ بِرِعَايَتِهِ حَتَّى بَلَغَتْ ذُرْوَةَ الكَمَالِ الإِنْسَانِي؟
وَوَجَدَكَ حَائِراً مُضْطَرِباً فِي أَمْرِكَ ، إِذْ وَجَدْتَ قَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ فِي عِبَادَتِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ ، فَهَدَاكَ إِلَى الحَقِّ ، وَاخْتَصَّكَ بِرِسَالَتِهِ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ وَحْيَهُ؟
وَكُنْتَ فَقِيراً لَمْ يَتْرُكَ لَكَ وَالِدَاكَ شَيئَاً تَعِيشُ بِهِ فَأَنْجَاكَ اللهُ مِنَ الفَقْرِ وَأَغْنَاكَ . وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْكَ أَنْ لاَ تَقْهَرَ اليَتِيمَ وَتَسْتَذِلَّهُ ، بَلِ ارْفَعْ مِنْ شَأْنِهِ بالأَدَبِ ، وَهَذَّبْ نَفْسَهُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ لِيَكُونَ عُضْواً نَافِعاً فِي جَمَاعَتِكَ ، وَمَنْ ذَاقَ مَرَارَةَ اليُتْمِ وَالضَّيقِ فِي نَفْسِهِ ، فَمَا أَجْدَرَهُ بِأَنْ يَسْتَشْعِرَهَا فِي غَيْرِهِ . وَلاَ تَزْجُرْ سَائِلاً مُسْتَجْدياً يَطْلُبُ مِنْكَ إِحْسَاناً بَلْ تَفَضَّلْ عَلَيْهِ بِشَيءٍ ، وَأَحْسِنْ مُخَاطَبَتَهُ . وَأَوْسِعْ فِي البَذْلِ عَلَى الفُقَرَاءِ ، وَأَفِضْ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى طَالِبِيهَا ، وَاشْكُرِ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ بِإِظْهَارِ نِعَمِهِ عَلَيْكَ ، وَبِالحَدِيثِ عَنْهَا .
ـــــــــــــ
(1/91)
اتهام الرسل بتهم كاذبة فاجرة
قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) [سبأ/43-47]
وَقَدِ اسْتَحَقَّ هؤُلاءِ المُشْرِكُونَ العَذَابَ الأَلِيمَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ لأَنَّهُمْ كَانُوا إِذا تُلِيَتْ عَلَيهم آياتُ كِتابِ اللهِ ، الدَّالَّةُ عَلى التّوحِيدِ ، وَبُطلاَنِ الشِّرْكِ يَقُولُونَ : إِنَّ هذا الرَّدلَ يريدُ أَنْ يَصْرِفَكُمْ عَنِ الدِّينِ الحَقِّ ، دِينِ الآباءِ والأجدادِ لِيجْعَلَكُمْ مِنْ أتباعِهِ ، دُونَ أَنْ يكُونَ لهُ حُجَّةٌ وبُرْهَانٌ عَلى صِحَّةِ مَا يَقُولُ . وَقَالُوا : إِنَّ القُرآنَ الذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ، وَقَالَ إِنَّهُ نَزَلَ عَلَيهِ مِنَ السَّمَاءِ ، إِنْ هُوَ إِلا كَذِبٌ افْتَراهُ وَصَنَعُهُ وَنَسَبَهُ إِلى اللهِ ، تَرْوِيجاً لِدَعْوَتِهِ . وَقَالَ المُشْرِكُونَ عَنِ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مُشْتَمِلاً عَلَى الشَّرائِعِ وَالهَدَى : إِنْ هذا إلاَّ سِحْرٌ بَيِّنٌ لاَ خَفَاءَ فِيهِ . وَقَدْ أًثَّر هذا السِّحْرُ عَلَى عُقُولِنا وَقُلُوبِنَا .
وَرَدَّ اللهُ تَعَالى عَلَى هؤُلاءِ المُشْرِكِينَ القَائِلينَ : إِنَّ دِينَهُمْ هُوَ الدِّينَ الصَّحِيحُ ، فَقَالَ : إِنَّ الدِّينَ الصَّحِيحُ ، فَقَالَ : إِنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ لاَ يَكُونَ إِلا بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَبِكِتَابٍ يَنْزِلُ عَلَى الرَّسُولِ لِيُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ ، وَيُبَيِّنَ لَهُمْ فِيهِ الشَّرائعَ والأًَحْكَامَ . وهؤُلاءِ المُشْرِكُونَ مِنْ أُمَّةٍ لَمْ يَأْتِها كِتَابٌ قَبْلَ القُرآانِ ، وَلَمْ يُرْسِلِ اللهِ إليهمْ رَسُولاً قَبْلَ مُحَمَّدٍ ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَهُمْ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيهِ مِنْ شِرْكٍ هُوَ الدِّينَ الصَّحِيحُ؟
وَكَانَ لَهُمْ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ فِيمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ ، التِي بَلَغَتْ مِنَ القُوّةِ والبَأْسِ والغِنَى أَضْعافاً كَثيرةً مِمَّا بَلَغَهُ مُشْرِكُو قُرَيِشٍ ، فَدَمَّرُهُمُ اللهُ ، وَأَبَادَهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَ اللهِ ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللهِ شَيئاً ، وَهُمْ يَرَوْنَ آثَارَ هذِهِ الأُمَمِ وَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ ، فَكَيفَ وَجدُوا عِقَابَ اللهِ وَعَذَابَهُ وَنَكَالَهُ بِمَنْ كَفَرَواسْتَكْبَرَ ، وَكَذَّبَ رُسَلَ اللهِ؟ ( فَكَيفَ كَانَ نَكِيرِ ) .
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤُلاءِ المُشْرِكِينَ ، الزَّاعِمِينَ أَنَّكَ مَجْنُونٌ : إِنَّنِي أَنْصَحُ لَكُمْ ألاَّ تُبَادِرُوا إِلى التَّكْذِيبِ عِنَاداً واسْتِكْباراً ، بَلِ اتَّئدُوا ، وَتَفَكَّروا مَلِيّاً فيمَا دَعَوْتُكُمْ إِليهِ ، وَابحثوا عَنِ الحَقِّ وَالحَقيقةِ ، إِمَا وَاحداً واحِداً ، وَإِما اثْنَينِ اثْنَينِ ( لأَنَّ الازْدِحَامِ يَكُونُ سَبَباً لِتَخْلِيطِ الكَلامِ ، وقِلَّةِ الإِنْصَافِ ) فَإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ ، وَتَرَوَّوْا فِي أَمْرِهِمْ ، وَصَلُوا إِلَى أَنَّ مُحَمَّداً ليسَ مَجْنُوناً ، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلاً ، وأَصْدَقُهُمْ قَوْلاً ، وَأَجْمَعُهُمْ لِلْكَمَالِ النَّفْسِيِّ وَالعَقْلِيِّ ، وَهذا يُوجِبُ عَلَيهمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ ، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِرِسَالَتِهِ ، وَأَنْ يَتذَبِعُوهُ فِيما يَدْعُوهُم إِليهِ ، وَأَنَّهُ ليسَ إِلا نَذِيراً لِهؤلاءِ بِينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، يَحِلُّ بِهِمْ يَومَ القَيَامَةِ ، إِنْ قَدِمُواعَلَى رَبذِهِمْ وَهُمْ نُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ ، وَإِشْرَاكِهِمْ ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ ، وَلَمْ يُحْدِثُوا تَوْبَةً .
وَقُلْ لَهُمْ : إِنِّي لا أُرِيدُ مِنْكُمْ جُعْلاً وَلاَ أَجْراً ، وَلاَ عَطَاءَ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالةِ التِي أَمَرني اللهُ بِإِبْلاَغِها إِليكُمْ ، وَإِنَّما أَطْلُبُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنَ اللهِ ، وَهُوَ العَلِيمُ بِجَمِيعِ الأُمُورِ ، المُشَاهِدُ لَها ، فَيَعلَمُ صِدْقي وإِخْلاصِي فِيما دَعَوْتُكُمْ إِليهِ .
لقد قابلوا الحق الواضح البين الذي يتلوه عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برواسب غامضة من آثار الماضي ، وتقاليد لا تقوم على أساس واضح ، وليس لها قوام متماسك . ولقد أحسوا خطورة ما يواجههم به القرآن الكريم من الحق البسيط المستقيم المتماسك . أحسوا خطورته على ذلك الخليط المشوش من العقائد والعادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم فقالوا قولتهم تلك : { ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم } . .
ولكن هذا وحده لا يكفي . فإن مجرد أنه يخالف ما كان عليه الآباء ليس مطعناً مقنعاً لجميع العقول والنفوس . ومن ثم اتبعوا الادعاء الأول بادعاء آخر يمس أمانة المبلغ ، ويرد قوله أنه جاء بما جاء به من عند الله : { وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى } . .
والإفك هو الكذب والافتراء؛ ولكنهم يزيدونه توكيداً : { ما هذا إلا إفك مفترى } .
ذلك ليشككوا في قيمته ابتداء ، متى أوقعوا الشك في مصدره الإلهي .
ثم مضوا يصفون القرآن ذاته : { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين } . .
فهو كلام مؤثر يزلزل القلوب ، فلا يكفي أن يقولوا : إنه مفترى . فحاولوا إذن أن يعللوا وقعه القاهر في القلوب .فقالوا : إنه سحر مبين!
فهي سلسلة من الاتهامات ، حلقة بعد حلقة ، يواجهون بها الآيات البينات كي يحولوا بينها وبين القلوب . ولا دليل لهم على دعواهم . ولكنها جملة من الأكاذيب لتضليل العامة والجماهير . أما الذين كانوا يقولون هذا القول وهم الكبراء والسادة فقد كانوا على يقين أنه قرآن كريم ، فوق مقدور البشر ، وفوق طاقة المتكلمين! وقد سبق في الظلال ما حدث به بعض هؤلاء الكبراء بعضاً في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمر القرآن؛ وما دبروا بينهم من كيد ليصدوا به الجماهير عن هذا القرآن الذي يغلب القلوب ويأسر النفوس!
وقد كشف القرآن أمرهم ، وهو يقرر أنهم أميون لم يؤتوا من قبل كتاباً يقيسون به الكتب؛ ويعرفون به الوحي؛ فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتاباً وليس وحياً ، وليس من عند الله . ولم يرسل إليهم من قبل رسول . فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون : { وما آتيناهم من كتب يدرسونها ، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } !
ويلمس قلوبهم بتذكيرهم بمصارع الذين كذبوا من قبل . وهم لم يؤتوا معشار ما أوتي أولئك الغابرون . من علم ، ومن مال ، ومن قوة ، ومن تعمير . . فلما كذبوا الرسل أخذهم النكير . أي الهجوم المدوي المنكر الشديد :{ وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي . فكيف كان نكير؟ } . .
ولقد كان النكير عليهم مدمراً مهلكاً . وكانت قريش تعرف مصارع بعضهم في الجزيرة . فهذا التذكير يكفي . وهذا السؤال التهكمي { فكيف كان نكير؟ } سؤال موح يلمس المخاطبين . وهم يعرفون كيف كان ذلك النكير!
وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ، ومعرفة الافتراء من الصدق ، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل : { قل : إنما أعظكم بواحدة . . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ، ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } . .
إنها دعوة إلى القيام لله . بعيداً عن الهوى . بعيداً عن المصلحة . بعيداً عن ملابسات الأرض . بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب ، فتبعد به عن الله . بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة . والمؤثرات الشائعة في الجماعة .
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط ، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة؛ ولا مع العبارات المطاطة ، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها .
دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي ، بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة .
وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة . منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات . وعلى مراقبة الله وتقواه .
وهي « واحدة » . . إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق . القيام لله .
. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة . . التجرد . . الخلوص . . ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون .
{ أن تقوموا لله . مثنى وفرادى } . . مثنى ليراجع أحدهما الآخر ، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء . . وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق .
{ ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة } . . فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة . وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده . إن هو إلا القول المحكم القوي المبين .
{ إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } . .لمسة تصور العذاب الشديد وشيكاً أن يقع ، وقد سبقه النذير بخطوة . لينقذ من يستمع . كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق . وهو تصوير فوق أنه صادق بارع موح مثير . .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم بشير ابن المهاجر ، حدثني عبدالله بن بريرة عن أبيه رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً ، فنادى ثلاث مرات : « أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال - صلى الله عليه وسلم - : إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم . فبعثوا رجلاً يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم ، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه . أيها الناس أتيتم . أيها الناس أتيتم . أيها الناس أتيتم » .
وروي بهذا الإسناد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « بعثت أنا والساعة جميعاً . إن كادت لتسبقني » .
ذلك هو الإيقاع الأول المؤثر الموحي . يتبعه الإيقاع الثاني :{ قل : ما سألتكم من أجر فهو لكم . إن أجري إلا على الله . وهو على كل شيء شهيد } . .دعاهم في المرة الأولى إلى التفكر الهادئ البريء . . ما بصاحبكم من جنة . . ويدعوهم هنا أن يفكروا ويسألوا أنفسهم عما يدعوه إلى القيام بإنذارهم بين يدي عذاب شديد . ما مصلحته؟ ما بواعثه؟ ماذا يعود عليه؟ ويأمره أن يلمس منطقهم ويوقظ وجدانهم إلى هذه الحقيقة في صورة موحية : { قل : ما سألتكم من أجر فهو لكم } !
خذوا أنتم الأجر الذي طلبته منكم! وهو أسلوب فيه تهكم . وفيه توجيه . وفيه تنبيه
{ إن أجري إلا على الله } . .هو الذي كلفني . وهو الذي يأجرني . وأجره هو الذي أتطلع إليه . ومن يتطلع إلى ما عند الله فكل ما عند الناس هين عنده هزيل زهيد لا يستحق التفكير .
{ وهو على كل شيء شهيد } . .
ــــــــــــ
الرسول منذر الغافلين
قال تعالى : {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) [يس/1-7]
أُقْسِمُ بِالقُرآنِ المُحْكَمِ المُشْتَمِلِ عََلى الحِكْمَةِ والعِلْمِ النَّافِعِ ، الذي لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ . إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ المُرْسَلِينَ مِنَ اللهِ إِلَى النَّاسِ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ .
الذِينَ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ دِيناً قَيِّماً ، وَشَرْعاً مُسْتَقِيماً هُوَ الإِسْلاَمُ للهِ تَعَالَى .
إِنَّ هَذَا الدِّينَ الذي جِئْتَ بِهِ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ القَوِيِّ الغَالِبِ لِكُلِّ شَيءٍ ( العَزِيزِ ) ، الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً يَدْعُوهُمْ إِلى الهُدَى .
( وَتَنْزِيلَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَيْ نُزِّلَ تَنْزِيلاً ) . إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ لِتُنْذِرَ قَوْمَكَ العَرَبَ ، الذينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ قَبْلَكَ ، فَهُمْ سَاهُونَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ مَعْرِفَةِ الأَدْيَانِ والشَّرَائِعِ .
لَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِنَا الأَزَلِيِّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَخْتَارُونَ الإِيْمَانَ ، وَلاَ يُصَدِّقُونَ بَرَسُولِهِمْ ، فَوَافَقَ وَاقِعُهُمْ مَا عَلِمْنَاهُ عَنْهُمْ ، فَلَنْ يُؤْمِنُوا .
يقسم الله سبحانه بهذين الحرفين : « يا . سين » كما يقسم بالقرآن الحكيم . وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور؛ والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن . وأن آية كونه من عند الله ، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها ، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم؛ ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف .
ويصف القرآن وهو يقسم به بأنه { القرآن الحكيم } . والحكمة صفة العاقل . والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة . وهي من مقتضيات أن يكون حكيماً . ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها . فإن لهذا القرآن لروحاً! وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك! وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك! وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات ، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته ، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله! ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره؛ ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن . كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب!
والقرآن حكيم . يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه . ويضرب على الوتر الحساس في قلبه . ويخاطبه بقدر . ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه .
والقرآن حكيم . يربي بحكمة ، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم . منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم . ويقرر للحياة نظاماً كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم .
يقسم الله سبحانه بياء وسين والقرآن الحكيم على حقيقة الوحي والرسالة إلى الرسول الكريم : { وإنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } . .
وما به سبحانه من حاجة إلى القسم . ولكن هذا القسم منه جل جلاله بالقرآن وحروفه ، يخلع على المقسم به عظمة وجلالاً ، فما يقسم الله سبحانه إلا بأمر عظيم ، يرتفع إلى درجة القسم به واليمين!
{ إنك لمن المرسلين } . . والتعبير على هذا النحو يوحي بأن إرسال الرسل أمر مقرر ، له سوابق مقررة . فليس هو الذي يراد إثباته . إنما المراد أن يثبت هو أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المرسلين . ويخاطبه هو بهذا القسم ولا يوجهه إلى المنكرين المكذبين ترفعاً بالقسم وبالرسول وبالرسالة عن أن تكون موضع جدل أو مناقشة . إنما هو الإخبار المباشر من الله للرسول .
{ إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } . .وهذا بيان لطبيعة الرسالة بعد بيان حقيقة الرسول . وطبيعة هذه الرسالة الاستقامة . فهي قائمة كحد السيف لا عوج فيها ولا انحراف ، ولا التواء فيها ولا ميل . الحق فيها واضح لا غموض فيه ولا التباس . ولا يميل مع هوى ولا ينحرف مع مصلحة . يجده من يطلبه في يسر وفي دقة وفي خلوص .
وهي لاستقامتها بسيطة لا تعقيد فيها ولا لف ولا دوران . لا تعقد الأمور ولا توقع في إشكالات من القضايا والتصورات والأشكال الجدلية . وإنما تصدع بالحق في أبسط صورة من صوره ، وأعراها عن الشوائب والأخلاط ، وأغناها عن الشرح ، وتفصيص العبارات وتوليد الكلمات ، والدخول بالمعاني في الدروب والمنحنيات! يمكن أن يعيش بها ومعها البادي والحاضر ، والأمي والعالم ، وساكن الكوخ وساكن العمارة؛ ويجد فيها كل حاجته؛ ويدرك منها ما تستقيم به حياته ونظامه وروابطه في يسر ولين .
وهي مستقيمة مع فطرة الكون وناموس الوجود ، وطبيعة الأشياء والأحياء حول الإنسان ، فلا تصدم طبائع الأشياء ، ولا تكلف الإنسان أن يصدمها ، إنما هي مستقيمة على نهجها ، متناسقة معها ، متعاونة كذلك مع سائر القوانين التي تحكم هذا الوجود وما فيه ومن فيه .
وهي من ثم مستقيمة على الطريق إلى الله ، واصلة إليه موصلة به ، لا يخشى تابعها أن يضل عن خالقه ، ولا أن يلتوي عن الطريق إليه . فهو سالك درباً مستقيماً واصلاً ينتهي به إلى رضوان الخالق العظيم .
والقرآن هو دليل هذا الصراط المستقيم . وحيثما سار الإنسان معه وجد هذه الاستقامة في تصويره للحق ، وفي التوجيه إليه ، وفي أحكامه الفاصلة في القيم ، ووضع كل قيمة في موضعها الدقيق .
{ تنزيل العزيز الرحيم } . .يعرّف الله عباده بنفسه في مثل هذه المواضع ، ليدركوا حقيقة ما نزّل إليهم . فهو العزيز القوي الذي يفعل ما يريد . وهو الرحيم بعباده الذي يفعل بهم ما يفعل ، وهو يريد بهم الرحمة فيما يفعل .فأما حكمة هذا التنزيل فهي الإنذار والتبليغ :{ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون } . .
والغفلة أشد ما يفسد القلوب . فالقلب الغافل قلب معطل عن وظيفته . معطل عن الالتقاط والتأثر والاستجابة . تمر به دلائل الهدى أو يمر بها دون أن يحسها أو يدركها . ودون أن ينبض أو يستقبل . ومن ثم كان الإنذار هو أليق شيء بالغفلة التي كان فيها القوم ، الذين مضت الأجيال دون أن ينذرهم منذر ، أو ينبههم منبه . فهم من ذرية إسماعيل ولم يكن لهم بعده من رسول . فالإنذار قد يوقظ الغافلين المستغرقين في الغفلة ، الذين لم يأتهم ولم يأت آباءهم نذير .
ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين؛ وعما نزل بهم من قدر الله ، وفق ما علم الله من قلوبهم ومن أمرهم . ما كان منه وما سيكون :{ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } . .
لقد قضي في أمرهم ، وحق قدر الله على أكثرهم ، بما علمه من حقيقتهم ، وطبيعة مشاعرهم . فهم لا يؤمنون . وهذا هو المصير الأخير للأكثرين . فإن نفوسهم محجوبة عن الهدى مشدودة عن رؤية دلائله أو استشعارها .
ــــــــــــ
الرسول لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة
قال تعالى : {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) [يس/20-21]
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ يَسْعَى مُسْرِعاً إِلَى حَيْثُ كَانَ يَجْتَمِعُ النَّاسُ وَهُمْ يُحَاوِرُونَ الرُّسُلَ ، فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْمِ اتِّبِعُوا رُسُلَ اللهِ إِلَيْكُمْ .
اتَّبِعُوا الذِينَ لا يَطْلُبُونَ أَجْرَاً عَلَى تَبْلِيِغِهِمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، وَلاَ يَطْلُبُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ إِلَى سَبِيلِ اللهِ القَوِيمِ ، فَإِذَا اتَّبَعْتمُوهُم اهْتَدَيْتُمْ بِهُدَاهُمْ .
إن الذي يدعو مثل هذه الدعوة ، وهو لا يطلب أجراً ، ولا يبتغي مغنماً . . إنه لصادق . وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله؟ ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة؟ ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة؟ والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم ، وهو لا يجني من ذلك كسباً ، ولا يطلب منهم أجراً؟
{ اتبعوا من لا يسألكم أجراً } . . { وهم مهتدون } . .وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم . فهم يدعون إلى إله واحد . ويدعون إلى نهج واضح . ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض . فهم مهتدون إلى نهج سليم ، وإلى طريق مستقيم .
---------------
وقال تعالى :{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) [يونس/71-72]
(1/92)
يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنْ إِيذَاءِ قَوْمِهِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ . وَيَبْدَأُ تَعَالَى بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَيَقُولُ تَعَالَى : أَخْبِرْ يَا مُحَمَّدُ كُفَّارَ مَكَّةَ الذِينَ يُكَذِبُونَكَ خَبَرَ نُوحٍ مَعْ قَوْمِهِ الذِينَ كَذَّبُوهُ ، كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ ، وَدَمَّرَهُمْ بِالغَرَقِ أَجْمَعِينَ ، وَلَيْحَذَرْ هَؤُلاَءِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ البَلاَءِ وَالهَلاَكِ وَالدَّمَارِ مَا أَصَابَ أُوْلَئِكَ .لَقَدْ قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ : يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ ثَقُلَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي بَيْنَكُمْ ( كَبُرَ ) ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْكُمْ تَذْكِيرِي إِيَّاكًُمْ بِآيَاتِ اللهِ ، وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ ، فَإِنِّي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى اللهِ الذِي أَرْسَلَنِي ، وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ، وَإِنِّي لاَ أُبَالِي بِكُمْ ، وَلاَ أَكُفُّ عَنْكُمْ ، سَوَاءَ عَظُمَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي أَوْ لاَ ، فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ، مِنَ الأَصْنَامِ الذِينَ تَدْعُونَهُمْ ، وَلاَ تَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ مُلْتَبَساً عَلَيْكُمْ ( غَمَّةً ) ، بَلْ كُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ ، لِكَيْلا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ ، وَافْصِلُوا أَمْرَكُمْ مَعِيَ ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُحِقُّونَ فَاقْضُوا إِلَيَّ ، وَافْعَلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ ، وَلاَ تُؤَخِرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً ( وَلاَ تُنْظِرُونَ ) . فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ تَذْكِيرِي ، وَأَدْبَرْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ ( تَوَلَّيْتُمْ ) ، فَلاَ يَضُرُّنِي ذَلِكَ لأَنَّنِي لَمْ أَطْلُبْ مِنْكُمْ أَجْراً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَطْلُبُ الأَجْرَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ الذِي أَمَرَنِي بِأَن أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ، المُؤْمِنِينَ العَابِدِينَ القَائِمِينَ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ .
------------------
وقال تعالى :{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) [يوسف/104]
وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً عَلَى نُصْحِكَ لَهُمْ ، وَلاَ عَلَى دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى اللهِ ، وَإِلَى تَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ ، فَإْنَ لَمْ يَهْتَدُوا فَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ، وَسَيَهْدِي اللهُ قَوْماً غَيْرَهُمْ ، فَمَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لَيْسَ إَلاَّ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً لِلْعِبَادِ .
----------------
وقال تعالى :{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) [الفرقان/57]
وقُلْ يا مُحمدُ لِمَنْ أُرْسِلَتْ إليهِم : أنَا لا أسْأَلُكُم أجْراً على مَا جِئْتُكُمْ بِهِ عندِ رَبِّي ، لتقُولوا إنَّما يَدْعُونا لأَخْذِ أموالِنا ، ومِنْ ثَمَّ لا نَتَّبِعُهُ حَتَّى لا يكونَ لَهُ في أمْوالِنا مَطْمَعٌ . ولكنْ مَنْ شاءَ أنْ يَتقربَ إلى اللهِ تَعالى بالإِنْفاقِ في وُجوهِ الخيرِ والبِرِّ ، ويَتَّخِذَ ذلكَ سَبيلاً إلى رحمةِ اللهِ ، ونَيْلِ ثَوَابهِ فَلْيَفْعَلْ .
ــــــــــــ
الرسل دعوا على أقوامهم
قال تعالى : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) [نوح/26-27]
وََقَالَ نُوحٌ بَعْدَ أَنْ يَئِسَ مِنْ صَلاَحِ قَوْمِهِ : رَبِّ لاَ تَدَعْ أَحَداً مِنَ الكَافِرِينَ حَيّاً عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ، يُقِيمُ فِي دَارٍ فِيهَا .
فَإِنَّكَ يَا رَبِّ إِنْ أَبْقَيْتَ أَحَداً مِنْهُمْ حَيّاً فَإِنَّهُمْ سَيَعْمَلُونَ عَلَى إِضْلاَلِ عِبَادِكَ . وَصَرْفِهِمْ عَنِ الهُدَى وَالإِيْمَانِ ، وَلاَ يَلِدُ هَؤُلاَءِ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ إِلاَّ كَفَرَةً فَجَرَةً مِنْ أَمْثَالِهِمْ .
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه . وأحياناً لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين ، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائياً ، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين . وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح ، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازاً كاملاً لا يبقي منهم دياراً أي صاحب ديار فقال : { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك } . . ولفظة { عبادك } توحي بأنهم المؤمنون . فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضوع بهذا المعنى . وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة ، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من الله في عافيه!
ثم إنهم يوجدون بيئة وجواً يولد فيها الكفار ، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار ، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون ، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور ، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها . وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام ، وحكاها عنه القرآن : { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } . . فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل ، وينشئون عادات وأوضاعاً ونظماً وتقاليد ، ينشأ معها المواليد فجاراً كفاراً ، كما قال نوح . .
من أجل هذا دعا نوح عليه السلام دعوته الماحقة الساحقة . ومن أجل هذا استجاب الله دعوته ، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر؛ وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير .
-----------------
وقال تعالى :{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) [يونس/88]
بَعْدَ أَنْ أَعَدَّ مُوسَى قَوْمَهُ مَا اسْتَطَاعَ لِلْخُرُوجِ بِهِمْ مِنْ مِصْرَ ، وَغَرَسَ فِي قُلُوبِهِمْ الإيمَانَ ، وَالثِّقَةَ بِاللهِ ، وَحُبَّ العِزَّةِ وَالكَرَامَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، تَوَجَّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَهُ ، وَدَعَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ، لِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الكُفْرِ وَالعُتُوِّ وَالضَّلاَلِ ، وَلَمَّا رَفَضُوهُ مِنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ وَالهُدَى ، فَقَالَ : رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنْ أَثَاثِ الدُّنْيا ، وَمَتَاعِهَا وَزُخْرُفِها ، وَمِنَ الأَمْوَالِ الجَزِيلَةِ ، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ إِسْرَافَهُمْ فِي الضَّلاَلِ ، وَافْتِتَانِ الجَهَلَةِ بِمَا أَعْطَيتَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِذْ ظَنُّوا أَنَّكَ إِنَّمَا أَعْطَيْتَهُمْ هذا لأَنَّكَ تُحِبُّهُمْ . رَبَّنَا أَهْلِكْ أَمْوَالَهُمْ وَامْحَقْها ( اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ) ، وَاطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَزِدْهَا قَسْوَةً حَتَّى لاَ تَلِينَ ، وَلاَ يَصِلَ إِلَيْهَا الإِيمَانُ ، لِيَسْتَحِقُّوا عَذَابَكَ الشَّدِيدَ .
{ ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا } . .ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك ، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين . وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم . ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيراً من القلوب التي لا يبلغ من يقينها بالله أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار ، وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل الله في الدنيا والآخرة . وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس . ويطلب لوقف هذا الإضلال ، ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء ، أن يطمس الله على هذه الأموال بتدميرها والذهاب بها ، بحيث لا ينتفع بها أصحابها . أما دعاؤه بأن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب ، ومن أن يكون لها توبة أو إنابة . دعاء بأن يزيدها الله قسوة واستغلاقاً حتى يأتيهم العذاب ، وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان؛ لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل ، ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان .
ـــــــــــــ
(1/93)
شرعهم واحد في أصله
قال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) [الشورى/13-15]
شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا شَرَعَ لِنُوحٍ ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ وَأُوْلِي العَزْمِ مِنَ الرُسُلِ ، وَأَمْرَهُمْ أَمْراً مُؤَكَّداً مِمَّا هُوَ أَصْلُ الإِيْمَانِ ، وَأَصْلُ الشَّرَائِعِ ، مِمَّا لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتَلافِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ : كَالإِيْمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَالإِيْمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ ، وَالإِيْمَانِ بِالمَلاَئِكَةِ وَالكُتُبِ والرُّسُلِ . وَقَدْ أَوْصَاهُمْ تَعَالَى جَمِيعاً بِإِقَامَةِ دِينِ التَّوْحِيدِ والتَّمْسُّكِ بِهِ ، وَبِحِفْظِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ زَيغٌ أَوِ اضْطِرَابٌ ، وَبِأَلاَّ يَتَفَرَّقُوا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَمَبَادِئِهَا .
أَمَّا فِي التَّفَاصِيلِ فَقَدْ جَاءَ كُلُّ مُرْسَلٍ بِمَا يُنَاسِبُ قَوْمَهُ وَزَمَانَهُ ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً .
وَقَدْ شَقَّ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ ، وَتَركِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ ، وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ ، وَاللهُ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيُقَرِّبُهُمْ إِلَيهِ ، وَيُوَفِّقُهُمْ لِلعَمَلِ بِطَاعَتِهِ
يُبَيِّنَ اللهُ تَعَالَى الأَسْبَابَ التِي حَمَلَتِ النَّاسَ عَلَى التَّفَرُّقِ والاخْتِلاَفِ فِي الدِّينِ ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ جَمِيعاً بِأَمْرٍ وَاحِدٍ ، وَطَلَبَ مِنْهُمِ الأَخْذَ بِهِ ، وَعَدَمَ التَّفَرُّقِ فِيهِ . فَقَالَ تَعَالَى : إِنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ عَلِمُوا أَنَّ الفُرْقَةُ ضَلاَلَةٌ ، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ بَغْياً وَطَلَباً لِلرِئَاسَةِ وَلِلحَمِيَّةِ وَالعَصِبِيَّةِ ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَذْهَبُ مَذْهَباً وَتَدْعُو إِلَيهِ ، وَتُقَبِّحُ مَا سَوَاهُ لِلظُّهُورِ وَالتَّفَاخُرِ ، وَلَوْلاَ الكَلِمَةُ السَّابِقَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يُؤَخِّرَ حَسَابِهُمْ ، وَالفَصْلَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ، لَعَجَّلَ لَهُمْ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا . وَالذِينَ وَرِثُوا التَّوْرَاةَ والإِنْجِيل عَنْ أَسْلاَفِهِم السَّابِقِينَ ، هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ كِتَابِهِمْ ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ حَقَّ الإِيْمَانِ .
وَهُمْ يَقَلِّدُونَ أَسْلاَفَهُمْ بِلاَ حُجَّةٍ وَلاَ دَلِيلٍ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ وَحِيرَةٍ مُقْلِقَيْنِ .
فَادْعُ النَّاسَ إِلَى إِقَامَةِ الدِّينِ القَوِيمِ ، الذِي أَوْحَى بِهِ اللهُ إِلَى جَمِيعِ المُرْسَلِينَ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ ، الذِينَ جَاؤُوا قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ قَدْ دَعَوْتَ إِلَى تَحْقِيقِ وَحْدَةِ الدِّينِ كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ ، وَاثْبُتْ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ ، وَعَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دِينٍ وَشَرْعٍ كَمَا أَمَرَكُمْ ، وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ المُشْرِكِينَ ، الذِينَ شَكُّوا فِي الحَقِّ بِمَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ ، وَقُلْ : إِنَّنِي صَدَّقْتُ بِجَمِيعِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مِنَ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ، لا أُكَذِّبُ بِشَيءٍ مِنْهَا ، وَإِنَّ رَبِّي قَدْ أَمَرَنِي بِالعَدْلِ فِي الحُكْمِ والقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ ، فَلا أَحِيفُ وَلاَ أَجُورُ ، وَأَمَرَنِي رَبِّي بِأَنْ أَقُولَ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ : إِنَّ اللهَ هُوَ المَعْبُودُ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ ، وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ، وَنَحْنُ نُقِرُّ بِهِ طَوْعاً وَاخْتِيَاراً ، وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ رَبُوبِيَّتَهُ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لاَ يَضِيرُهُ بِشَيءٍ فَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، وَنَحْنُ بَرَاءٌ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْمَلُونَ ، فَنَحْنُ نُجْزَى بِأَعْمَالِنَا ، وَأَنْتُمْ تُجْزَونَ بِأَعْمَالِكُمْ وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ وِزْرَ أََحَدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ وَلاَ خُصُومَةَ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ وَلاَ احْتِجَاجَ ، فَإِنَّ الحَقَّ قَدْ وَضَحَ وَلَيْسَ لِلمحَاجَّةِ مَجَالٌ ، وَاللهُ تَعَالَى سَيَجْمَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيَقْضي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بِالحَقِّ فِيمَا كُنَّا نَخْتَلِفُ فِيهِ فِي الحِيَاةِ الدُّنْيَا ، وَإِلَيهِ المَرْجِعُ والمآبُ فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بَعَمَلِهِ إِنَّ خَيْراً فَخَيْراً ، وَإِنْ شَرّاً فَشَراً .
هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر ، ووحدة المنهج ، ووحدة الاتجاه . فالآن يفصل هذه الإشارة؛ ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو في عمومه ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . وهو أن يقيموا دين الله الواحد ، ولا يتفرقوا فيه . ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم ، دون التفات إلى أهواء المختلفين . ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم ، ودحض حجة الذين يحاجون في الله ، وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد .
ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ :
{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } . .
وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة . حقيقة الأصل الواحد ، والنشأة الضاربة في أصول الزمان . ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن . وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد . فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام . . نوح . إبراهيم . موسى . عيسى ، محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير .
إنه سيستروح السير في الطريق ، مهما يجد فيه من شوك ونصب ، وحرمان من أعراض كثيرة . وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله . الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ .
ثم إنه السلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد ، السائرين على شرعه الثابت؛ وانتفاء الخلاف والشقاق؛ والشعور بالقربى الوثيقة ، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم ، ووصل الحاضر بالماضي ، والماضي بالحاضر ، والسير جملة في الطريق .
وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى؟ وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى؛ وفيما يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد؟ وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين؟ ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير؟ والوصية الواحدة الصادرة للجميع : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ؟ فيقيموا الدين ، ويقوموا بتكاليفه ، ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به؛ ويقفوا تحت رايته صفا ، وهي راية واحدة ، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم حتى انتهت إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - في العهد الأخير .
ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفاً آخر :{ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } . .
كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم؛ وكانوا يريدون أن يتنزل { على رجل من القريتين عظيم } أي صاحب سلطان من كبرائهم . ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق الأمين ، ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش . ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان!
وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان؛ وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية . فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم .
وكبر عليهم أن يقال : إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية؛ فتشبثوا بالحماقة ، وأخذتهم العزة بالإثم ، واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم ، على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين .والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن الله هو الذي يصطفي ويختار من يشاء؛ وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه ، ويتوب إلى ظله من الشاردين :{ الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } . .وقد اجتبى محمداً - صلى الله عليه وسلم - للرسالة . وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب .
ثم يعود إلى موقف أتباع الرسل ، الذين جاءوا قومهم بدين واحد ، فتفرق أتباعهم شيعا وأحزابا :{ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } ..فهم لم يتفرقوا عن جهل؛ ولم يتفرقوا لأنهم يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم ، ويربط رسلهم ومعتقداتهم . إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم . تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء . تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة ، والشهوات الباغية . تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم . ولو أخلصوا لعقيدتهم ، واتبعوا منهجهم ما تفرقوا .
ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله أخذا عاجلا ، جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرق والتفريق . ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها ، بإمهالهم إلى أجل مسمى { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم } . . فحق الحق وبطل الباطل؛ واتنهى الأمر في هذه الحياة الدنيا . ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم .
فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي ، فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم؛ إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشيء ، وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات :{ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } . .
وما هكذا تكون العقيدة . فالعقيدة هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن ، فتميد الأرض من حوله وهو ثابت راسخ القدمين فوق الصخرة الصلبة التي لا تميد . والعقيدة هي النجم الهادي الثابت على الأفق يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع ، فلا يضل ولا يحيد . فأما حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة ، فلا ثبات لشىء ولا لأمر في نفس صاحبها ، ولا قرار له على وجهة ، ولا اطمئنان إلى طريق .
ولقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله؛ ويقودوا من وراءهم من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال . فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد ، وهم أنفسهم حائرون .
وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد .
يقول الأستاذ الهندي أبو الحسن الندوي في كتابه : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » :
« أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين ، ولعبة المحرفين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها ، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام ، وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها ، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة ، وأفلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي ، ولا نظاماً ثابتا من الحكم البشري » .
ويقول الكاتب الأوربي « ج . ه . دنيسون » في كتابه « العواطف كأساس للحضارة » : « ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هارٍ من الفوضى ، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت؛ ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها .وكان يبدو إذ ذاك أن المدينة الكبرى ، التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة ، مشرفة على التفكك والانحلال؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار : بدلاً من الاتحاد والنظام . وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله . واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه « . . يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - . .
ولأن أتباع الرسل تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب . . لهذا وذلك ، ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله . . أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ووجه إليه الأمر أن يدعو وأن يستقيم على دعوته ، وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة؛ وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين :{ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب . وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . لا حجة بيننا وبينكم . الله يجمع بيننا ، وإليه المصير } . .
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء . القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت . تدعو إلى الله على بصيرة . وتستقيم على أمر الله دون انحراف . وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك . القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق . والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد ، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد : { وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب } . . ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل . { وأمرت لأعدل بينكم } . . فهي قيادة ذات سلطان ، تعلن العدل في الأرض بين الجميع . ( هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها . ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة ) . وتعلن الربوبية الواحدة : { الله ربنا وربكم } . . وتعلن فردية التبعة : { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } . . وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل : { لا حجة بيننا وبينكم } . . وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير : { الله يجمع بيننا وإليه المصير } . .
وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة ، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق . فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر . وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض . وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات .
ـــــــــــــ
(1/94)
الرسل لا يجبرون الناس على الهداية
قال تعالى: { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) [الرعد/7]
وََيَقُولُ المُشْرِكُونَ كُفْراً وَعِنَاداً : لَوْ أَنَّ مُحَمَّداً يَأْتِينَا بِمُعْجِزَةٍ مِنْ رَبِّهِ ( آيَةٌ ) ، مِثْلِ الآيَاتِ التِي جَاءَ بِهَا الأَنْبِيَاءُ السَّابِقُونَ ( وَقَدْ طَلَبُوا مِنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يَجْعَلَ لَهُم الصَّفَا ذَهَباً . وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُزِيحَ عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا مُرُوجاً وَأَنْهَاراً. . ) .
وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : إِنَّ مَهَمَّةَ النَّبِيِّ هِيَ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ إِلَى النَّاسِ ، وَالإِنْذَارِ بِالعُقُوبَةِ وَالعَذَابِ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى وَالإِيمَانِ بِاللهِ ، وَقَدْ فَطَرَهُ اللهُ تَعَالَىعَلَى طَرِيقِ الهُدَى . وَهَذا الهَادِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيّاً أَوْ حَكِيماً أَوْ مُجْتَهِداً يَسِيرُ عَلَى سُنَنِ النَّبِيِّ وَيَقْتَفِي خُطَاهُ .
-----------------
وقال تعالى :{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) [البقرة/272]
كَانَ المُسْلِمُونَ يُريدُونَ أنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَى أقْرِبَائِهِمِ المُشْرِكِينَ المُحْتَاجِينَ ، وَلَكِنَّهُمْ كَانوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ . فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُؤْمِنِينَ بَعْدَهَا بالصَّدَقَةِ عَلَيهِمْ ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ سَألَهُمْ مِنْ كُلِّ دِينٍ ، فَالمُؤْمِنُ غَيْرُ قَادرٍ عَلَى هِدَايةِ الآخَرِينَ ، وَاللهُ هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى هِدايَتِهِمْ .
وَالإِنْفَاقُ عَمَلُ خَيْرٍ يَعُود نَفْعُهُ عَلَى المُنْفِقِ نَفْسِهِ ، وَالمُؤْمِنُ لا يُنْفِقُ إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَمَتَى ابْتَغَى المُؤْمِنُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى هِدَايةِ الآخَرِينَ ، وَاللهُ هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى هِدايَتِهِمْ .
وَالإنْفَاقُ عَمَلُ خَيْرٍ يَعُود نَفْعُهُ عَلَى المُنْفِقِ نَفْسِهِ ، وَالمُؤْمِنُ لا يُنْفِقُ إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَمَتَى ابْتَغَى المُؤْمِنُ مِنْ إنْفَاقِهِ وَجْهَ اللهَ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ عَلى اللهِ ، لاَ يَهُمُّهُ مَنِ الذِي نَالَهُ الإنْفَاقُ بَرّاً كَانَ أوْ فَاجِراً . وَكُلُّ مَا تُنْفِقُونَهُ سَيُوفَّى إليكُمْ بِالتَّمَامِ ، وَلا يَنْقُصُكُمْ مِنْهُ شَيءٌ ( لاَ تُظْلَمُونَ ) .
إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله - ولو كان هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه من أمر الله وحده .فهذه القلوب من صنعه؛ ولا يحكمها غيره ، ولا يصرفها سواه ، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله . وما على الرسول إلا البلاغ . فأما الهدى فهو بيد الله يعطيه من يشاء ، ممن يعلم - سبحانه - أنه يستحق الهدى ، ويسعى إليه . وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده ، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده . . ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين ، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم؛ ويعطف عليهم ، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي ، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد .
{ ليس عليك هداهم ، ولكن الله يهدي من يشاء } . .
فلتفسح لهم صدرك ، ولتفض عليهم سماحتك ، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك . وأمرهم إلى الله . وجزاء المنفق عند الله .
ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها ، ويروضهم عليها . . إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده؛ ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب . إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله . يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله - سبحانه - يقرر حق المحتاجين جميعاً في أن ينالوا العون والمساعدة - ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة - دون نظر إلى عقيدتهم . ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال ، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله . وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام؛ ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام :{ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا من خير يوف إليكم ، وأنتم لا تظلمون } . .
ولا يفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون :{ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } . .
إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه . إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . لا ينفق عن هوى ولا عن غرض . لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . خالصاً متجرداً لله . . ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته؛ ويطمئن لبركة الله في ماله؛ ويطمئن لثواب الله وعطائه؛ ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله . ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض . وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل!
----------------
وقال تعالى :{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) [القصص/56]
يَقُولُ اللهُ تَعَالى لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ هِدَايَةَ مَنْ أَحْبَبْتَ أَنْتَ هِدَايَتَهُ ، وَلَيسَ ذَلكَ إٍليكَ ، وَإِنَّما أَنْتَ رَسُولٌ عَلَيكَ البَلاَغُ ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدَى ، وَبِمَنْ ضَلَّ سَواءَ السَّبيلِ .
( وقيلَ إِنَّ هذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ في أَبي طَالِبٍ ، فَحِينَما حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ أَتاهُ الرَّسُولُ وَقالَ لَهُ : يا عمَّاهُ قُلْ : لا َ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، أَشْهَدُ لَكَ بِها عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ ، فَقَالَ لَوْلاَ أَنْ تُعيَّرَنِي قُرَيشٌ : يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلا جَزَعَُهُ مِنَ المَوتِ ، لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ ) .
وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذاً بصرامة هذا الدين واستقامته . فهذا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكافله وحاميه والذائد عنه ، لا يكتب الله له الإيمان ، على شدة حبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشدة حب رسول الله له أن يؤمن . ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة ، ولم يقصد إلى العقيدة . وقد علم الله هذا منه ، فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرجوه . فأخرج هذا الأمر أمر الهداية من حصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعله خاصاً بإرادته سبحانه وتقديره . وما على الرسول إلا البلاغ . وما على الداعين بعده إلا النصيحة . والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن ، والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو الضلال .
---------------------
وقال تعالى :{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى/52-53]
وَكَمَا أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ ، كَذَلِكَ أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَلَمْ تَكُنْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْكَ وَحْيَهُ ، تَعْلَمُ مَا القُرْآنُ ، وَمَا الشَّرَائِعُ ، التِي بِهَا هِدَايَةُ البَشَرِ ، وَلَكِنَّ الله تَعَالَى هُوَ الذِي أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَجَعَلَهُ نُوراً يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ .
وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَتَهْدِي بِذَلِكَ النُّورِ المُنَزَّلِ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، مَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ .
رُوحاً مِنْ أمْرِنَا - قُرآناً - أَوْ جِبْرِيلَ ، عَلْيهِ السَّلاَمُ ، أَوْ نُبُوَّةً .
وَهَذَا القُرْآنُ هُوَ الطَرِيقُ القَوِيمُ الذِي يَهْدِي اللهُ إِلَيهِ عِبَادَهُ وَهُوَ الطَّرِيقُ الذِي شَرَعَهُ اللهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ . والمُتَصَرِّفُ بِهِمَا ، والحَاكِمُ الذِي لاَ مُعَقَّبَ عَلَى حُكْمِهِ ، أَلاَ إِنَّ أُمُورَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا تَصِيرُ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيَفْصلُ فِيهَا بِعَدْلِهِ التَّام ، وَحِكْمَتِهِ .
(وكذلك) . بمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا الاتصال . (أوحينا إليك) . . فالوحي تم بالطريقة المعهودة , ولم يكن أمرك بدعا . أوحينا إليك (روحاً من أمرنا) . . فيه حياة , يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود . (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) . . هكذا يصور نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم بها , قبل أن تتلقى هذا الوحي . وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكتاب وسمع عن الإيمان , وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم , وأن لهم عقيدة , فليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير . وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله .
(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء) . . وهذه طبيعته الخالصة . طبيعة هذا الوحي . هذا الروح . هذا الكتاب . إنه نور . نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به , بما يعلمه من حقيقتها , ومن مخالطة هذا النور لها .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) . . وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة , مسألة الهدى , بمشيئة الله سبحانه , وتجريدها من كل ملابسة , وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص , الذي لا يعرفه سواه ; والرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة لتحقيق مشيئة الله , فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة , فتقع مشيئة الله .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) . . فهي الهداية إلى طريق الله , الذي تلتقي عنده المسالك . لأنه الطريق إلى المالك , الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض , وقوى السماوات والأرض , ورزق السماوات والأرض , واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم . الذي إليه تتجه , والذي إليه تصير:(ألا إلى الله تصير الأمور) . .
فكلها تنتهي إليه , وتلتقي عنده , وهو يقضي فيها بأمره .
وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه , ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين
ــــــــــــ
الرسل يتألمون لعدم اهتداء قومهم
قال تعالى :{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) [الكهف/6]
لاَ تُهْلِك يَا مُحَمَّدُ نَفْسَكَ حُزْناً عَلَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ لأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ ، وَبِهَذا القُرْآنِ ( بِهَذَا الحَدِيثِ ) ، بَلْ أَبْلِغْهُمْ أَنْتَ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَادْعُهُمْ إِلَى اللهِ ، وَهَذِهِ هِيَ مُهِمَّتُكَ ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .
أي فلعلك قاتل نفسك أسفاً وحزناً عليهم ، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن . وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف . فدعهم فقد جعلنا ما على الأرض من زخرف ومتاع ، وأموال وأولاد . . جعلناه اختباراً وامتحاناً لأهلها ، ليتبين من يحسن منهم العمل في الدنيا ، ويستحق نعمتها ، كما يستحق نعيم الآخرة :{ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } .
والله يعلم . ولكنه يجزي على ما يصدر من العباد فعلاً ، وما يتحقق منهم في الحياة عملاً . ويسكت عمن لا يحسنون العمل فلا يذكرهم لأن مفهوم التعبير واضح .
-------------
وقال تعالى :{ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) [فاطر/8]
أَفَمَنْ حَسَّنَ لَهُ الشَّيطَانُ عَمَلَهُ السَّيِّءَ ، مِنْ مَعَاصِي اللهِ ، وَالكُفْرِ بِهِ ، وَالإِشْرَاكِ فِي عِبَادَتِهِ مَنْ هُمْ دُونَهُ . . فَرَأى ذَلِكَ حَسَناً ، وَظَنَّ قَبِيحَهُ بِهِ جَمِيلاً ، هَلْ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِيهِ حِيلةٌ؟ وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ أَنْ تَهْدِيَهُ إِلى الحَقِّ والصَّوَابِ؟ وَهَلْ يَسْتَوِي هَذا الضاَّلُّ مَعَ مَنْ هَدَاهُ اللهُ ، وَوَفَّقَهُ إِلى الإِيمَانِ فَرَأَى الحَسَنَ حَسَناً فَفَعَلَهُ ، وَالقَبيحَ قَبِيحاً فَاجِتَنَبَهُ؟ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّما يَتِمُّ بِقَدرٍ مِنَ اللهِ ، فَهُوَ تَعَالى الذِي يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، وَلاَ رَادَّ لأَمْرِهِ ، وَقَدَرِهِ ، فَلاَ تَأْسَفْ أَنْتَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِدَعْوَتِكَ ، وَعَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ، فَإِنَّ اللهَ حَكِيمٌ فِي قَدَرِهِ ، وَهُوَ تَعَالى عَليمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ، وَسَيَجِزِيهِمِ بِهِ .
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيهِمْ حَسَرَاتٍ - فَلاَ تُهْلِكْ نَفْسَكَ عَلَيهِمْ هَمّاً وَحُزْناً .
(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً . . . ?) . .هذا هو مفتاح الشر كله . . أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً . أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها . ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه , لأنه واثق من أنه لا يخطىء ! متأكد أنه دائماً على صواب ! معجب بكل ما يصدر منه ! مفتون بكل ما يتعلق بذاته . لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء , ولا أن يحاسبها على أمر . وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه . لأنه حسن في عين نفسه . مزين لنفسه وحسه . لا مجال فيه للنقد , ولا موضع فيه للنقصان !
هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان ; وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال . فإلى البوار !
إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب . فلا يأمن مكر الله . ولا يأمن تقلب القلب . ولا يأمن الخطأ والزلل . ولا يأمن النقص والعجز . فهو دائم التفتيش في عمله . دائم الحساب لنفسه . دائم الحذر من الشيطان . دائم التطلع لعون الله .
وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال , وبين الفلاح والبوار .إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة يصورها القرآن في ألفاظ معدودة:(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) . .
إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير . ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين . هو هذا الغرور . هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق . ولا يحسن عملاً لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء . ولا يصلح خطأ لأنه واثق أنه لا يخطىء ! ولا يصلح فاسداً لأنه مستيقن أنه لا يفسد ! ولا يقف عند حد لأنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلاح !
إنه باب الشر . ونافذة السوء . ومفتاح الضلال الأخير . .
ويدع السؤال بلا جواب . . (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ?) . . ليشمل كل جواب . كأن يقال:أفهذا يرجى له صلاح ومتاب ? أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب الله ? أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء ? . . . إلى آخر صور الإجابة على مثل هذا السؤال . وهو أسلوب كثير التردد في القرآن .
وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد:(فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) : وكأنما يقول:إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة ; مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله ; وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال !
فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ; بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا . طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء . وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى . . وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال .
وما دام الأمر كذلك (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) . .إن هذا الشأن . شأن الهدى والضلال . ليس من أمر بشر . ولو كان هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من أمر الله . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن . وهو مقلب القلوب والأبصار . . والله - سبحانه - يعزي رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له . حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضلالهم , ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلال . وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم , ومن رؤية الحق الذي جاء به معروفاً بينهم ! وهو حرص بشري معروف . يرفق الله سبحانه برسوله من وقعه في حسه , فيبين له أن هذا ليس من أمره , إنما هو من أمر الله .
وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم , وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير . ورأوا الناسفي الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ; ولا يرون ما فيها من الخير والجمال . ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال . وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها الله - سبحانه - رسوله . فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد . ثم لا يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له الله الصلاح والفلاح .
(إن الله عليم بما يصنعون) . .وهو يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه بحقيقة صنعهم . والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم ; ويعلمها بعد أن تكون . وهو يقسم لهم وفق علمه الأزلي . ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون .
-----------------
وقال تعالى :{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) [الأنعام/33-35]
يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - وَيَقُولُ لَهُ : إنَّنَا نَعْلَمُ تَكْذِيبَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَنَعْلَمُ حُزْنَكَ وَأَسَفَكَ لِمَا يَقُولُونَ .
وَلَكِنَّ الظَالِمِينَ الكَافِرِينَ يُعَانِدُونَ الحَقَّ ، وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ ، وَلَيْسَتْ غَايَتُهُمْ تَكْذِيبَكَ أَنْتَ ، وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللهِ . ( كَمَا يَقُولُ أَبُو جَهْلٍ لِلْنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنَّنَا لا نُكَذِّبُكَ ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ ) .
وَيَوْمَ بَدْرٍ جَاءَ الأَخْنَسُ بْنُ شُرَيقٍ إلى أَبْيِ جَهْلٍ وَاخْتَلَى بِهِ ، وَقَالَ لَهُ : لَيْسَ بَيْنَنَا أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، أَخْبِرْنِي يَا أبَا الحَكَم ِعَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ : وَيْحَكَ وَاللهُ إِنَّ مٌحَمَّداً لَصَادِقٌ ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ ، وَلكِنْ إذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَبْقَى لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟
يَلْفِتُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ رَسُولِهِ إلى مَا لاَقَاهُ الرُّسُلُ قَبْلَهُ مِنْ تَكْذِيبِ أَقْوَامِهِمْ لَهُمْ ، فَصَبَرُوا عَلَى الإِيذَاءِ وَالتَّكْذِيبِ ، حَتَّى جَاءَ نَصْرُ اللهِ . ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : فَعَلَيْكَ أيُّهَا الرَّسُولُ أنْ تَتَأَسَى بِهِمْ ، وَتَصْبِرَ ، فَكَمَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ مَنْ سَبَقَكَ مِنَ الرُّسُلِ ، كَذَلِكَ سَيَنْصُرُكَ اللهُ عَلَى أَعْدَائِكَ الكَافِرِينَ ، وَلاَ مُبَدِّلَ لَكَلِمَاتِ اللهِ التِي قَضَى فِيهَا أنَّ النَّصْرَ وَالعَاقِبَةَ سَتَكُونَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . وَلَقَدْ جَاءَكَ أيُّهَا الرَّسُولُ نَبَأُ نَصْرِ اللهِ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَادَاهُمْ مِنْ أَقْوَامِهِمْ ، فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ نَبَأِ المُرْسَلِينَ قَبْلَكَ ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَكَ ، وَتَثْبِيتٌ .
(1/95)
كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَقْتَرِحُونَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَآيَاتٍ لِيُؤْمِنُوا لَهُ ، وَكَانَ النَّبِيِّ يَتَمَنَّى لَوْ آتَاهُ اللهُ بَعْضَ مَا طَلَبُوا ، حِرْصاً مِنْهُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ ، وَأَسَفاً وَحُزْناً مِنْهُ عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى الكُفْرِ وَالاسْتِكْبَارِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أنَّ هَؤُلاءِ الجَاحِدِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِنْ أتَاهُمُ الرَّسُولُ بِمَا يَطْلُبُونَ مِنَ الآيَاتِ . لِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى مُخَاطِباً رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ كَانَ قَدْ شَقَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ ، فَإنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْحَثَ عَنْ نَفَقٍ فِي الأَرْضِ فَتَذْهَبَ فِيهِ فَتَأْتِيهِمْ بَآيَةٍ ، أَوْ أَنْ تَجْعَلَ لَكَ سُلَّماً تَرْتَقِي فِيهِ إلَى السَّمَاءِ لِتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أفْضَلَ مِمَّا أَتَيْتَهُمْ بِهِ فَافْعَلْ ، فَالآيَاتِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْتِي بِمُعْجِزَةٍ مِنْ عِنْدِكَ . وَلَوْ شَاءَ اللهُ هِدَايَتَهُمْ جَمِيعاً لَهَدَاهُمْ ، وَلَجَمَعَهُمْ عَلَى الحَقِّ ، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ سُنَنَ اللهِ فِي خَلْقِهِ ، فَتَتَمَنَّى مَا تَرَاهُ حَسَناً نَافِعاً ، وَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ مُمْتَنِعاً .
إن مشركي العرب في جاهليتهم - وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش - لم يكونوا يشكون في صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فلقد عرفوه صادقاً أميناً ، ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة ، كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته ، وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر ، ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله . .
ولكنهم - على الرغم من ذلك - كانوا يرفضون إظهار التصديق ، ويرفضون الدخول في الدين الجديد! إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لأن في دعوته خطراً على نفوذهم ومكانتهم .
. وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله ، والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه . .
والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة :
قال ابن اسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري : أنه حُدِّث ، أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه . وكل لا يعلم بمكان صاحبة . فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الصبح تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئاً . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له . حتى إذا طلع الفجر تفرقوا . فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود . فتعاهدوا على ذلك . . ثم تفرقوا . . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به . ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه في بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف . . أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه! قال : فقام عنه الأخنس وتركه . .
وروى ابن جرير - من طريق أسباط عن السدي - في قوله : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . . لما كان يوم بدر ، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم ، فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته ، فإن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته . قفوا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غَلب محمد رجعتم سالمين ، وإن غُلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً - فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أُبي - فالتقى الأخنس بأبي جهل ، فخلا به ، فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد : أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا! فقال أبو جهل : ويحك! والله إن محمداً لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ..
ونلاحظ : أن السورة مكية ، وهذه الآية مكية لا شك في ذلك؛ بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر . . ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحياناً عن آية ما : « فذلك قوله : كذا . . » ويقرنون إليها حادثاً ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه؛ ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث ، بغض النظر عما إذا كان سابقاً أو لاحقاً . . فإننا لا نستغرب هذه الرواية . .
وقال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد ، « عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حُدِّثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيداً - قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ - وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ، ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون - فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا ابن أخي . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة ، والمكان في النسب . وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها . قال : فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » قل : يا أبا الوليد أسمع « قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء ، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه - قال : » أفرغت يا أبا الوليد؟ « قال : نعم . قال : » فاستمع مني « . قال : أفعل . قال : » بسم الله الرحمن الرحيم : حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . . « ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، معتمداً عليهما ، يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد . ثم قال : » قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك « . . فقام عتبة إلى أصحابه »
فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم!
وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً - بإسناده - « عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضى في قراءته إلى قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . . } فأمسك عتبة على فيه ، وناشده الرحم ، ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم . . إلى آخره . . ثم لما حدثوه في هذا قال : فأمسكت بفيه ، وناشدته الرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب » .
وقال ابن اسحاق : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم . فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأياً نقل به ، قال : بل أنتم فقولوا : أسمع . قالوا : نقول : كاهن! قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه! قالوا : فنقول : مجنون! قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته! قالوا : فنقول : شاعر! قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر! قالوا : فنقول : ساحر! قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم! قالوا : فما نقول يا أبا عبد الشمس؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل! وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته .
. فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره!
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثورة ، عن معمر ، عن عبادة بن منصور ، عن عكرمة : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له . فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام . فأتاه فقال له : أي عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً! قال : لم؟ قال : يعطونكه ، فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله! ( يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازاً! ) قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالاً! قال : فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال ، وأنك كاره له! قال : فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن! والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا . والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته . وإنه ليعلو وما يعلى . قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه . . قال : فدعني حتى أفكر فيه . . فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر . يؤثره عن غيره . فنزلت : { ذرني ومن خلقت وحيداً . . } حتى بلغ : { عليها تسعة عشر } وفي رواية أخرى أن قريشاً قالت : لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها! فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه! ثم دخل عليه . . وأنه قال - بعد التفكير الطويل - إنه سحر يؤثر . أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه .
فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكذبهم فيما يبلغه لهم . وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات ، وما وراءها من السبب الرئيسي ، وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب ، الذي يزاولونه ، وهو سلطان الله وحده . كما هو مدلول شهادة أن لا إله إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام . وهم كانوا يعرفون جيداً مدلولات لغتهم؛ وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة .
وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد . . وصدق الله العظيم : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . .
والظالمون في هذا الموضع هم المشركون . كما يغلب في التعبير القرآني الكريم .
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته ، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به . . يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله - وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن - ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق ، حتى جاءهم نصر الله . ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل ، ولا يغير منها اقتراحات المقترحين ، كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق : { ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين } . .
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ، ماض في الطريق اللاحب ، ماض في الخط الواصب . . مستقيم الخطى ، ثابت الأقدام . يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون ، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء . . والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد . . والعاقبة هي العاقبة ، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق . . إن نصر الله دائماً في نهاية الطريق : { ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين } . .
كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . . كلمات للذكرى ، وللتسرية وللمواساة ، والتأسية . . وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريقهم واضحاً ، ودورهم محدداً ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما أنها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . . دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب ، وتتلقى أصحابها بالأذى . . وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . . وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم ، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة ، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة .
. لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله . فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه . ولا مبدل لكلماته . سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم ، أم تعلقت بالأجل المرسوم .
إنه الجد الصارم ، والحسم الجازم ، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية . .
ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرغبة البشرية ، المشتاقة إلى هداية قومه ، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين ، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ، ودور الناس أجمعين ، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم : { وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض ، أو سلماً في السماء ، فتأتيهم بآية! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون } . .وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابراً محتسباً ، لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم!. . .
تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء ، فأتهم بآية! .
إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعاً . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدر الذي يكون عدلاً معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف .. فاعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه .
{ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين } .يا لهول الكلمة! ويا لحسم التوجيه! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
ــــــــــــ
الرسل لا تتقول على الله
قال تعالى :{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) [الحاقة/44-47]
وَلَوْ أَنَّ مُحَمَّداً افْتَرَى عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقْوَالِ البَاطِلَةِ ، فَزَادَ فِي الرِّسَالَةِ أَوْ نَقَّصَ مِنْهَا ، أَوْ قَالَ شَيْئاً مِنْ عِنْدِهِ فَنَسَبَهُ إِلينَا ، لَعَاجَلْنَاهُ بِالعُقوبَةِ .
لأَمْسَكْنَا بِيَمِينِهِ كَمَا يُفَعَلُ بِمَنْ تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ .ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ عِرْقَ العُنُقِ الأَكْبَرِ . وَمَتَى قُطِعَ الوَتِينُ كَانَ المَوْتُ المُحَقَّقُ .وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَحْجِزَ عِقَابَنَا وَيَمْنَعَهُ مِنَ النُّزُولِ بِهِ .
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما أبلغهم . وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوج بها إليه ، لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات . ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق .
هذه هي القضية من الناحية التقريرية . . ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر ، يلقي ظلالاً بعيدة وراء المعنى التقريري . ظلالاً فيها رهبة وفيها هول . كما أن فيها حركة وفيها حياة . ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات!
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين . وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته . ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه . . البشر أجمعين . . كما أن وراءها الإيمان إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحاً ولا مجاملة لأحد كائنا من كان . ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب . ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع!
ـــــــــــــ
(1/96)
خوف الرسل على قومهم
قال تعالى :{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) [الأعراف/59]
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، شَرَعَ فِي سَرْدِ قَصَصِ الأَنْبِياءِ الكِرَامِ ، فَابْتَدأ بِنُوحٍ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لأنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ إلى أَهْلِ الأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ .
وَقَدْ لاقَى نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ عَنَاءً وَعَنتاً ، فَوَجَدَ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَسَمّوها بِأَسْمَاء ، مِثْل وَدٍّ وَسَواع وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ . . . فَبَعَثَ اللهُ نُوحاً فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِعِبَادِةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )
لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول :{ فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .
فهي الكلمة التي لا تتبدل ، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها ، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره ، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ، ووحدة الرباط . وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى ، والعبودية لأمثالهم من العبيد ، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد .
إن دين الله منهج للحياة ، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله . وهذا هو معنى عبادة الله وحده ، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره . . والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره . كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره .
وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية ، وقيامها على شريعته وأمره ، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده . . كلها حزمة واحدة . . غير قابلة للتجزئة . وإلا فهو الشرك ، وهو عبادة غير الله معه ، أو من دونه!
ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة ، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه ، وفي صدق الرائد الناصح لأهله : { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } . .
وهنا نرى أن ديانة نوح . . أقدم الديانات . . كانت فيها عقيدة الآخرة . عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم ، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب . . وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة ، ومناهج الخابطين في الظلام من « علماء الأديان » وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن .
--------------- وقال تعالى :{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) [هود/2-4]
وَأَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ ، بِأَنْ لاَ تَعْبُدُوا غَيْرَهُ آلهاً ، وَبِأَنْْ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً . وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ : إِنَّ اللهَ أَرْسَلَنِي نَذِيراً مِنَ العَذَابِ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ ، وَبَشِيراً بِالثَّوَابِ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ
وَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ مُتَضَرِّعِينَ إِلَيْهِ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ وَالإِجْرَامِ ، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ ، وَبِإِخْلاَصِ العِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ، وَاسْتَغْفَرْتُمْ رَبَّكُمْ ، وَتُبْتُمْ إِلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُمَتِّعُكُمْ فِي الدُّنْيا مَتَاعاً حَسَناً ، وَيَرْزُقُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَيَنْسَأُ لَكُمْ فِي آجَالِكُمْ إلَى الوَقْتِ الذِي قَضَى عَلَيْكُمْ فِيهِ بِالمَوْتِ ، وَيَجْعَلُكُمْ خَيْرَ الأُمَمِ نِعْمَةً وَقُوَّةً وَعِزَّةً ، وَيُعْطِي كُلَّ ذِي فَضْلٍ ، مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ ، جَزَاءَ فَضْلِهِ . أَمَّا إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَعْرَضْتُمْ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرِ الهَوْلِ ، شَدِيدِ البَأْسِ .
وَسَيَكُونُ مَعَادُكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ : مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى إِعَادَةِ الخَلاَئِقِ إلَى الحَيَاةِ مَرَّةً أُخْرَى يَوْمَ القِيَامَةِ .
وما كان لدين أن يقوم في الأرض ، وأن يقيم نظاماً للبشر ، قبل أن يقرر هذه القواعد .
فتوحيد الدينونة لله وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة؛ وبين تحرير البشرية من عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف ، أو استعبادها للأرباب المتفرقة ونزواتهم ، وللوسطاء عند الله من خلقه! وللملوك والرؤساء والحكام الذين يغتصبون أخص خصائص الألوهية وهي الربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية فيعبّدون الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة .
وما من نظام اجتماعي او سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي أو دولي ، يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة ثابتة ، لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة ، إلا حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة دقيقة .
وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق؛ ويستمتعوا بالكرامة الحقيقية التي أكرمهم بها الله ، إلا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ، ويتجرد منها العبيد في كل صورة من الصور .
وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهلية والإسلام؛ ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت ، على ألوهية الله سبحانه للكون؛ وتصريف أموره في عالم الأسباب والنواميس الكونية : إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس ، الذي يحكمهم بشرعه ، ويصرفهم بأمره ، ويدينهم بطاعته؟
لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ، ويذلونهم بهذا الإغتصاب لسلطان الله ، ويجعلونهم عبيداً لهم من دون الله . وكانت الرسالات والرسل والدعوات الإسلامية تجاهد دائماً لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي . . الله سبحانه . .
والله سبحانه غني عن العالمين . لا ينقص في ملكه شيئاً عصيان العصاة وطغيان الطغاة . ولا يزيد في ملكه شيئاً طاعة الطائعين وعبادة العابدين . . ولكن البشر هم أنفسهم الذين يذلون ويصغرون ويسفلون حين يدينون لغير الله من عباده؛ وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون لله وحده ، ويتحررون من العبودية للعبيد . . ولما كان الله سبحانه يريد لعباده العزه والكرامة والإستعلاء فقد أرسل رسله ليردوا الناس إلى عبادة الله وحده . وليخرجوهم من عبادة العبيد . . لخيرهم هم أنفسهم . . والله غني عن العالمين .
إن الحياة البشرية لا تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده الله للإنسان إلا بأن يعزم البشر أن يدينوا لله وحده ، وأن يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير الله . ذلك النير المذل لكرامة الإنسان في أية صورة قد كان!
والدينونة لله وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده . والربوبية تعني القوامة على البشر ، وتصريف حياتهم بشرع وأمر من عند الله ، لا من عند أحد سواه .
وهذا ما يقرر مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب الله وفحواه : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير : ألا تعبدوا إلا الله } . .
وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب الله الكريم .
والإقرار بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها . وكل شك في أن هذا من عند الله ، كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير . والذين يظنون أنها من عند محمد مهما أقروا بعظمة محمد لا يمكن أن تنال من نفوسهم الإحترام الملزم ، الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو الصغير . . إن الشعور بأن هذه العقيدة من عند الله هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى الله ، وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين ، فلا تتلجلج ولا تتردد ولا تحيد .كما أن الإقرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطاً لما يريده الله من البشر . كي يتلقى البشر في كل ما يتعلق بالدينونة لله من مصدر واحد ، هو هذا المصدر .
وكي لا يقوم كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قولاً ، ويشرع للناس شرعاً ، ثم يزعم أنه شرع الله وأمره! بينما هو يفتريه من عند نفسه!
وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع ، ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات . . ثم يقول : هذا من عند الله!!
وما يحسم هذه الفوضى وهذا الإحتيال على الناس باسم الله ، إلا أن يكون هناك مصدر واحد هو الرسول لقول الله .والإستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه ، وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة . والتوبة بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب ، والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة . ولا توبة بغير هذين الدليلين ، فهما الترجمة العملية للتوبة ، وبهما يتحقق وجودها الفعلي ، الذي ترجى معه المغفرة والقبول . . فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام ، بينما هو لا يدين لله وحده ، ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه؛ فلا قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله . .
والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة ، وقوام التبليغ . وهما عنصرا الترغيب والترهيب ، اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق! . .
والإعتقاد باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة ، وأن الخير الذي تدعو إليه الرسالات هو غاية الحياة؛ ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه؛ فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر ، الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها . أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون و ينتكسون إلى درك العذاب . . وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف . فإن غلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة ، ولم تلج في العصيان . ومن ثم تصلح هذه الأرض لحياة البشر . وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير . فالإعتقاد باليوم الآخر ليس طريقاً للثواب في الآخرة فحسب كما يعتقد بعض الناس إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا . والحافز على إصلاحها وإنمائها . على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفاً في ذاته ، إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه ، وكرمه على كثير من خلقه ، ورفعه عن درك الحيوان؛ لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان؛ ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته .
ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة ، بعد توحيد الدينونة لله ، وإثبات الرسالة من عنده . . الدعوة إلى الإستغفار من الشرك والتوبة . . وهما بدء الطريق للعمل الصالح . والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام . إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح ، من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج .
والجزاء المشروط :{ يمتعكم متاعا حسناً إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله } . .
والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا . أما في الآخرة فهو بالنوع والكم وبما لم يخطر على قلب بشر . فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة .
إننا نشاهد كثيراً من الطيبين الصالحين ، المستغفرين التائبين ، العاملين في الحياة . . مضيقاً عليهم في الرزق . فأين إذن هو المتاع الحسن؟
وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين!
ولا بد لإدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع ، وننظر إليها في محيطها الشامل العام ، ولا نقتصر منها على مظهر عابر .
إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح ، قائم على الإيمان بالله ، والدينونة له وحده ، وإفراده بالربوبية والقوامة ، وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة . . إلا كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة؛ وإلا ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة . فإذا شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب ، فذلك شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله ، القائم على العدل بين الجهد والجزاء .
على أن الأفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعاً حسناً ، حتى لو ضيق عليهم في الرزق ، وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم ، كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة ، وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله . وليس هذا خيالاً وليس ادعاء . فطمأنينة القلب إلى العاقبة ، والإتصال بالله ، والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله . . عوض عن كثير؛ ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ .
ولا نقول هذا لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلاً على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية للعدالة . فالإسلام لا يرضى بهذا ، والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع . والجماعة المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد ، ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين . إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله ، المضيق عليهم في الرزق ، وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد الله المستغفرين التائبين بهدى الله .
{ ويؤت كل ذي فضل فضله } . .خصصها بعض المفسرين بجزاء الآخرة . وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة ، على النحو الذي فسرنا به المتاع الحسن في الدنيا؛ وهو متحقق في جميع الأحوال . وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها الفضل . يجده رضى نفسياً وارتياحاً شعورياً ، واتصالاً بالله وهو يبذل الفضل عملاً أو مالاً متجهاً به إلى الله . أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من الله وسماحة فوق الجزاء .
إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية ، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين . . . وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت؛ وبخاصة في نفوس الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا؛ والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها . .
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله سبحانه والحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية . . والقرآن الكريم كثيراً ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله سبحانه والحق الذي قامت به السماوات والأرض؛ والحق المتمثل في الدينونة لله وحده . . والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة ، والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة . .
----------------
وقال تعالى :{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) [الأحقاف/21 ]
ويُسَلِّي اللهُ تَعَالى رَسُولَه الكَريمَ عَمَّا يُلاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ ، واسْتِهْزَائِهِمْ بهِ ، وَيُذَكِّرُهُ بِقَصَصِ الأَنبِيَاءِ الذِينَ قَبْلَهُ ، فَكَذَّبَهمْ أَقْوامُهُم ، وَاسْتَهْزَاؤوا بِهِمْ فَجَاءَ نَصْرُ اللهِ فَنَجَّى الرُّسُلَ وَالذِينَ آمَنُوا ، وأَهْلَكَ المُجْرِمينَ .
وَهُنَا يَبْدَأُ تَعَالى بِسَرْدِ قِصَّةِ هُودٍ ، عَلَيهِ السَّلاَمُ ، مَعَ قُومِهِ عَادٍ ، وَقَدْ كَانوا يَسْكُنُونَ الأَحْقَافَ في مِنْطَقَةِ حَضْرَمَوْتَ ، جَنُوبيِّ الجَزِيرَةِ العَرَبيَّةِ ، فَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ إِليهِمْ فَدَعَاهُم إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَنْعُمِ اللهِ عَلَيهِم ، وَبِما مَنَّ عَلَيهِمْ بِهِ من قُوَّةٍ وَغِنىً ، وَكَثْرَةِ عَدَدٍ ، وَأَنذَرَهُمْ بَأسَ اللهِ الشَّدِيدَ وَعِقَابَهُ إِن أَقَامُوا عَلى كُفْرِهم وَظُلْمِهِمْ . وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ قَبْلَ هُودٍ رُسُلاً آخرِينَ دَعَوا أَقْوَامَهُم إِلى الإِيمانِ باللهِ ، وَأَنْذَرُوهُمْ عَذَابَ اللهِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ ، وَحَثُّوهُمْ عَلَى الإِقْلاَعِ عَنِ الشِّرْكِ بِاللهِ ، وَعَلى إِفرادِهِ تَعَالى بِالأُلُوهِيَّةِ وَحْدَهُ . وَقَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ نَاصِحاً : إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمِ الهَوْلِ ، هُوَ َيَوْمُ القِيَامَةِ إِذا أَصَرُّوا علَى كَفْرهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ .
---------------
وقال تعالى :{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) [النحل/127، 128]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ الكَرِيمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ أَذًى فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَمِنْ إِعْرَاضٍ عَنِ الدَّعْوَةِ ، وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ الصَّبْرَ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَعَوْنِهِ وَقُوَّتِهِ ، وَيَقُولُ لَهُ لاَ تَحْزَنْ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ ، وَلاَ تَكُنْ فِي ضِيقٍ وَغَمٍّ مِمَّا يُجْهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهِ فِي عَدَاوَتِكَ ، وَإِيصَالِ الأَذَى إِلَيْكَ ، فَإِنَّ اللهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَمُظْهِرُكَ عَلَيْهِمْ .
إِنَّ اللهَ مُؤَيِّدٌ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ وَهُدَاهُ الذِينَ آمَنُوا ، وَاتَّقَوْا مَحَارِمَ رَبِّهِمْ ، فَاجْتَنَبُوهَا خَوْفاً مِنْ عِقَابِهِ ، وَالذِينَ يُحْسِنُونَ رِعَايَةَ فَرَائِضِهِ ، وَالقِيَامَ بِحُقُوقِهِ ، وَلُزُومَ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ ، وَفِي تَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ .
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال ، وضبط للعواطف ، وكبت للفطرة ، فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه : { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلا بالله } . . فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس ، والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره .
ويوصي القرآن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي وصية لكل داعية من بعده ، الا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون ، فإنما عليه واجبه يؤديه ، والهدى والضلال بيد الله ، وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال . وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله ، فالله حافظه من المكر والكيد ، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئاً لنفسه
ولقد يقع به الاذى لامتحان صبره ، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه ، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون .
هذا هو دستور الدعوة إلى الله كما رسمه الله . والنصر مرهون باتباعه كما وعد الله . ومن أصدق من الله؟ .
-----------
وقال تعالى :{لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) [النمل/70]
وَلاَ تَحْزَنْ يا مُحَمَّدُ عَلَى تَولِّي هُؤلاءِ المُكَذِّبينَ عَمّا جِئْتَهُم بهِ ، ولا تَأْسَفْ على ألا يكُونوا مُؤمِنينَ ، ولا تُذْهِبْ نَفْسَكَ عليهم حَسَرَاتٍ ، ولا يَضِيقَنَّ صَدْرُكَ بمَكْرِهِمْ وكَيدِهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ لَكَ ، فإِنَّ الله مُؤَيِّدُكَ وَناصِرُكَ وُمظْهِرُ دِينِكَ عَلَى مَنْ خَالفَكَ وَعَانَدَكَ .
وهذا النص يصور حساسية قلبه - صلى الله عليه وسلم - وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه من مصائر المكذبين قبلهم ، ويدل كذلك على شدة مكرهم به وبالدعوة وبالمسلمين حتى ليضيق صدره الرحب الكبير .
ـــــــــــــ
(1/97)
هل الرسل تخاف ؟
قال تعالى :{ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه/45-46]
فَقَالَ هَارُونَ وَمُوسَى ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ : يَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَبْطِشَ بِنَا فِرْعَوْنُ إِنْ نَحْنُ دَعَوْنَاهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ ، وَالكَفِّ عَنِ العُتُوِّ وَالطُّغْيَانِ ، وَنَخْشَى أَنْ يُعَجِّلَ لَنَا بِالعُقُوبَةِ ، أَوْ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْنَا .
قَالَ اللهُ تَعَالَى : لاَ تَخَافَا فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلاَمَكُمَا وَكَلاَمَهُ ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيِّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيءٌ ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي ، فَلاَ يَتَكَلَّمُ ، وَلاَ يَتَنَفَّسُ ، وَلاَ يَبْطِشُ إِلاَّ بِإِذْنِي ، وَأَنْتُمَا فِي حِفْظِي وَرِعَايَتِي .
والفرط هو التسرع بالأذى للوهلة الأولى ، والطغيان اشمل من التسرع وأشمل من الأذى . وفرعون الجبار يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما .
هنا يجيئهما الرد الحاسم الذي لا خوف بعده ، ولا خشية معه : { قال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } . .
إنني معكما . . إنه القوي الجبار الكبير المتعال . إنه الله القاهر فوق عباده . إنه موجد الأكوان والحيوات والأفراد والأشياء بقولة : كن .ولا زيادة . . إنه معهما . . وكان هذا الإجمال يكفي . ولكنه يزيدهما طمأنينة ، ولمسا بالحس للمعونة : { أسمع وأرى . . } فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى؟ والله معهما يسمع ويرى؟
----------------
وقال تعالى :{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) [الزمر/36]
واللهُ تَعَالَى يَكْفِي الذِي يَعْبُدُهُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيهِ فَيُؤَمِّنُ الرِّزْقَ لَهُ ، وَيصْرِفُ عَنْهُ البَلاَءَ ، وَيَنْصُرُهُ عَلَى الأَعْدَاءِ . وَيُخَوِّفُكَ المُشْرِكُونَ بِغيرِ اللهِ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْدادِ التِي يَعْبُدُونَها جَهَلاً وَضَلاَلاً ، فَهَذِهِ الأَصْنَامُ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ ، وَكُلُّ نَفْعٍ وَضُرٍّ لا يَصِلُ إِلا بِإِرَادَةِ اللهِ تَعَالى .
وَمَنْ أًَضَلَّهُ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ يَهدِيهِ إِلى الرَّشَادِ ، وَيُنِقِذَهُ مِنَ الضَّلالَةِ .
إنها قضية بسيطة واضحة ، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن . . إنه الله . ومَن هم دون الله . وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه .وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة . وهو الذي يقضي في العباد قضاءه . في ذوات أنفسهم ، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم : { ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل } . .
وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله ، ومن يستحق الهدى فيهديه . فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء .
{ أليس الله بعزيز ذي انتقام؟ } بلى . وإنه لعزيز قوي . وإنه ليجازي كلاً بما يستحق . وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام . فكيف يخشى أحداً أو شيئاً من يقوم بحق العبودية له ، وهو كافله وكافيه؟
----------------
وقال تعالى :{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) [آل عمران/173-175]
وَخَافَتْ قُرَيشٌ أنْ يَجْمَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهْلَ المَدِينَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي المَعْرَكَةِ ، وَيَخْرُجَ وَرَاءَهُمْ ، فَأَرْسَلُوا إلَيهِ بَعْضَ نَاقِلِي الأخْبَارِ لِيُهَوِّلُوا عَلَيهِ ، لِيَكُفَّ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ ، وَقَالَ نَاقِلُوا الأَخْبَار لِلْمُسْلِمِينَ : إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ( النَّاسَ ) قَدْ حَشَدُوا لَكُمْ ، وَجَمَعُوا قُوَاهُمْ ، فَاحْذَرُوهُمْ ، وَاخْشَوْهُمْ ، فَلَمْ يَزِدْ هَذَا القَوْلُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ - الذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْرَسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُلَبِّينَ دَعْوَتَهُ ، رَاغِبِينَ فِي نَيْلِ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ وَنَصْرِهِ - إلاَّ إِيمَاناً بِرَبِهِمْ ، وَثِقَةً بِوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَأجْرِهِ ، وَرَدُّوا عَلَى مُخَاطِبِيِهِمْ قَائِلِينَ : إِنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ ، وَهُوَ حَسْبُهُمْ .
لَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ كَفَاهُمُ اللهُ مَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ ، وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأسَ النَّاسِ ( الكَافِرِينَ ) ، فَرَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ ، وَقَدْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللهِ ، وَعَظِيمِ فَضْلِهِ ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ
( خَرَجَ المُسْلِمُونَ مَعَ الرَّسُولِ إلى مَوْقِعٍ يُعْرَفُ بِحَمْراءِ الأَسَدِ ، وَأرْسَلَ إلى المُشْرِكِينَ رُسُلاً يُحَذِّرُونَهُمْ ، فَخَافَتْ قُرَيْشٌ وَتَابَعَتْ سَيْرَهَا نَحْوَ مَكَّةَ ) .
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ وَاعَدَ َرسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَدْراً مِنَ العَامِ القَابِلِ ، فَخَرَجَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُسْلِمِينَ إلَى بَدْرٍ فِي المَوْعِدِ المُحَدَّدِ ، وَتَخَلَّفَتْ قُرَيْشٌ ، فَاشْتَرَى رَسُولَ اللهِ عِيْراً مَرَّتْ بِهِمْ فِي المَوْسِمِ ، ثُمَّ بَاعَهَا فَرَبِحَ ، وَوَزَّعَ الرِّبْحَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَانْقَلَبُوا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الثَّانِيَةِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ، وَنَالُوا رِضْوَانَ اللهِ ، وَحَصَلُوا عَلَى فَضْلِهِ فِي الرِّبْحِ . وَاللهُ عَظِيمُ الفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ .
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ ، وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ ، وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ ، وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً ، فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ ، وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ . وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ ، وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلاناً قوياً عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة :
قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحداً قال : شهدنا أحداً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخي ، فرجعنا جريحين . فلما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ - والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أيسر جراحاً منه فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس .فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلاً وترضى به وحده وتكتفي وتزداد إيماناً به في ساعة الشدة وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس :{ حسبنا الله ونعم الوكيل } . .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه المكتفين به المتجردين له:{ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله}
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
{ بنعمة من الله وفضل } . .فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء : نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله لأن هذا هو الأصل الكبير الذي يرجع إليه كل فضل وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل!
{ والله ذو فضل عظيم } . .بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله صورتهم هذه وموقفهم هذا وهي صورة رفيعة ، وهو موقف كريم .
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جداً كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة . . لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ; وقد هزتها الحادثة هزاً عنيفاً . أطار الغبش وأيقظ القلوب وثبت الأقدام وملأ النفوس بالعزم والتصميم
نعم . وكان فضل الله عظيماً في الابتلاء المرير . .
وأخيراً يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . . إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . . ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان وأن يبطلوا محاولته .فلا يخافوا أولياءه هؤلاء ولا يخشوهم بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر الذي ينبغي أن يخاف : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } .
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه ويلبسهم لباس القوة والقدرة ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول وأنهم يملكون النفع والضر . . ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم ودفعهم عن الشر والفساد .
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً بطاشاً جباراً لا تقف في وجهه معارضة ولا يصمد له مدافع ولا يغلبه من المعارضين غالب . . الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكراً والمنكر معروفاً وينشرون الفساد والباطل والضلال ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . . دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له وجلاء الحق الذي يطمسونه . .
والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . . ومن هنا يكشفه الله ويوقفه عارياً لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة : حقيقة مكره ووسوسته ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته . . إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . . لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان :{ فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين } . .
وأخيراً يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن من مسارعة الكفار إلى الكفر ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف! فإن هذا لن يضر الله شيئاً . وإنما هي فتنة الله لهم وقدر الله بهم فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة ; فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته! وقد كان الهدى مبذولاً لهم فآثروا عليه الكفر ; فتركوا يسارعون في الكفر . وأملي لهم ليزدادوا إثماً مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء . فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء .
ـــــــــــــ
(1/98)
الرسول قد يحزن على فقد ولده
قال تعالى : { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) [يوسف/11-13]
وَبَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى الخُطَّةِ ، جَاؤُوا إلى أبِيهِمْ يَعْقُوبَ ، عَلَيهِ السَّلاَمُ ، يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَعْهَدَ إِلَيهِمْ بِأَخِيهِمْ يُوسفُ ، لِيُنَفِّذُوا فِيهِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيهِ رَأْيُهُمْ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي البِئْرِ ، وَهُمْ يَتَطَاهَرُونَ بِالنُّصْحِ وَالمَحَبَّةِ لأَخِيهِمْ يُوسُفَ . وَقَالُوا لأَبِيهِمْ : لِمَاذَا لاَ تَأَمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَنَحْنُ لَهُ نَاصِحُونَ؟ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً إِلَى البَرِّيَّةِ لِيَسْتَمْتِعَ بِرِفْقَتِنَا وَيَلْعَبَ ، وَإِنَّنَا نَتَكَفّّلُ بِحِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ . قَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ : إِنَّهُ لَيَشُقُّ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ يُوسُفَ مُدًَّةَ ذَهَابِهِمْ بِهِ لِلرَّعْيِ لِفَرْطِ تَعَلُّقِهِ بِهِ ، وَلِمَا يَتَوَسَّمُهُ فِيهِ مِنَ الخَيْرِ العَظِيمِ ، ثُمَّ إِنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَنْشَغِلُوا عَنْهُ فَيَأَتِيَهُ الذِئْبُ وَيَأْكُلَهُ ، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ .
-----------------
وقال تعالى :{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) [يوسف/84-86]
وَأَعْرَضَ يَعْقُوبُ عَنْ بَنِيهِ ، وَقَالَ مُتَذَكِّراً حُزْنَهُ القَدِيمَ عَلَى يُوسُفَ : ( يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ ) ، وَجَدَّدَ لَهُ حُزْنَهُ الجَدِيدُ عَلَى ابْنِهِ الأَصْغَر ، حُزْنَهُ الدَّفِينَ عَلَى يُوسُفَ ، وَعَمِيَتْ عَيْنَاهُ ، وَأَصَابَتْهُمَا غِشَاوَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ كَثْرَةِ البُكَاءِ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَكْظُمُ غَيْظَهُ عَلَى بَنِيهِ ، وَيَحْمِلُ مَصَابَهُ وَهُوَ صَامِتٌ لاَ يَشْكُو إِلَى مَخْلُوقٍ مَا يُعَانِيهِ .
وَقَالَ لَهُ أَبْنَاؤُهُ : إِنَّكَ لاَ تُفَارِقُ ذِكْرَ يُوسُفَ ، وَإِنَّنَا لَنَخَافُ عَلَيْكَ ، إِن اسْتَمَرَّتْ بِكَ هذِهِ الحَالُ ، أَنْ يَحِلَّ بِكَ الهَلاَكُ وَالتَّلَفُ ، وَأَنْ تَتَدَهْوَرَ صِحَّتُكَ وَتَضْعَفَ قِوَاكَ
فَأَجَابَهُمْ أَبُوهُمْ عَمَّا قَالُوهُ لَهُ : إِنَّهُ لاَ يَشْكُو إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ وَحُزْنَهُ ، وَإِنَّمَا يَشْكُو ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ ، وَإِنَّهُ يَرْجُو مِنْهُ وَحْدَهُ الخَيْرَ ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنَ اللهِ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ صَادِقَةٌ ، وَأَنَّهَا لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تَتَحَقَّقَ ، وَأَنَّهُ وَأَبْنَاءَهُ سَيَسْجُدُونَ لَهُ تَعْظِيماً لأَمْرِهِ ، وَأَنَّ الأَوْلاَدَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلاَ يُدْرِكُونَهُ .
ـــــــــــــ
(1/99)
أشد الناس بلاء الرسل
ابتلاء النبي إبراهيم عليه السلام بذبح ولده
قال تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) [الصافات/101، 111]}
فأجبنا له دعوته، وبشَّرناه بغلام حليم، أي: يكون حليمًا في كبره، وهو إسماعيل.
فلما كَبِر إسماعيل ومشى مع أبيه قال له أبوه: إني أرى في المنام أني أذبحك، فما رأيك؟(ورؤيا الأنبياء حق) فقال إسماعيل مُرْضيًا ربه، بارًّا بوالده، معينًا له على طاعة الله: أمض ما أمرك الله به مِن ذبحي، ستجدني -إن شاء الله- صابرًا طائعًا محتسبًا.
فلما استسلما لأمر الله وانقادا له، وألقى إبراهيم ابنه على جبينه -وهو جانب الجبهة- على الأرض؛ ليذبحه.ونادينا إبراهيم في تلك الحالة العصيبة: أن يا إبراهيم، قد فعلتَ ما أُمرت به وصَدَّقْتَ رؤياك، إنا كما جزيناك على تصديقك نجزي الذين أحسنوا مثلك، فنخلِّصهم من الشدائد في الدنيا والآخرة.
إن الأمر بذبح ابنك هو الابتلاء الشاق الذي أبان عن صدق إيمانك.
واستنقذنا إسماعيل، فجعلنا بديلا عنه كبشًا عظيمًا.وأبقينا لإبراهيم ثناءً حسنًا في الأمم بعده.تحيةٌ لإبراهيم من عند الله، ودعاءٌ له بالسلامة من كل آفة.كما جزينا إبراهيم على طاعته لنا وامتثاله أمرنا، نجزي المحسنين من عبادنا.إنه من عبادنا المؤمنين الذين أعطَوا العبودية حقها.
--------------
فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ، ولو كان هو الابن فلذة الكبد . ولو كانت هي النفس والحياة . وأنت يا إبراهيم قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء . وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين . فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت . يفديها بذبح عظيم . قيل : إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل!
وقيل له : { إنا كذلك نجزي المحسنين } . . نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء . ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء!
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان . وجمال الطاعة . وعظمة التسليم . والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم ، الذي تتبع ملته ، والذي ترث نسبه وعقيدته . ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه . ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئاً ، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء ، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية . مستسلمة لا تقدم بين يديه ، ولا تتألى عليه ، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام .
ـــــــــــــ
(1/100)
قصة النبي أيوب عليه السلام
قال تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) [ص/41، 44] }
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ قِصَّةَ نَبِيِّ اللهِ وَعَبْدِهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، إِذ ابْتَلاَهُ اللهُ بِجَسَدِهِ حَتَّى أَرْهَقَهُ المَرَضُ ، وَابْتَلاَهُ بِأَوْلاَدِهِ فَمَاتَ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ ، وَتَفَرَّقَ مَنْ تَفَرَّقَ ، وَابْتَلاَهُ بِهَلاَكِ مَالِهِ ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِي لِعَيْشِهِ ، فَصَبَرَ صَبْراً جَمِيلاً . وَلَمَّا طَالَ بِهِ البِلاَءُ دَعَا رَبَّهُ مُتَضَرِّعاً : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى .
وَهُنَا قَالَ : لَقَدْ مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ، إِذْ أَنَّ أَيُّوبَ لَمَّا طَالَ بَلاَؤُهُ تَخَلَّى عَنْهُ أَهْلُهُ وَأَصْدِقَاؤُهُ إِلاَّ زَوْجَتهُ ، وَقِلَّة قَلِيلَة مِنَ الأَصْحَابِ .
فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ لِهَؤُلاَءِ المُقِيمِينَ عَلَى الإِخْلاَصِ لأَيُّوبَ لِيُنَفِّرَهُمْ مِنْهُ ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ : لَوْ أَنَّ اللهَ كَانَ يُحِبُّ أَيُّوبَ مَا ابْتَلاَهُ .
فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَاءِ أَيُّوبَ لَمَّا رَأَى إِخْلاَصَهُ لِرَبِّهِ ، وَنُفُورَهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ .
فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ بِرِجْلِهِ الأَرْضَ فَيَتَفَجَّرَ مِنْهَا المَاءُ ، وَفِي هَذَا الماءِ المُتَفَجِّرِ شِفَاؤُهُ فَفَعَلَ ، فَتَفَجَّرَ الماءُ فَشَرِبَ واغْتَسَلَ فَبَرِيءَ ، وَعَادَ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا عَادَتْ إِلَيْهِ صِحَّتُهُ جَمَعَ اللهُ لَهُ أَهْلَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ والتَّشَتُّتِ ، وَأَكْثَرَ نَسْلَهُمْ حَتَّى صَارُوا ضِعْفَي مَا كَانُوا عَلَيهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللهِ بِأَيُّوبَ ، وَجَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ إِلَى اللهِ ، وَتَذْكِرَةً لِذَوِي العُقُولِ والأَلْبَابِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ الفَرَجُ ، وَعَاقِبَةَ التَّقْوَى وَالإِخْلاَصِ والثِّقَةِ بِاللهِ أَن الله لا يَتَخَلَّى عَنْ عِبَادِهِ المُخْلِصِينَ ، بَلْ يَرْعَاهُمْ وَيُعِزُّهُمْ وَيُقَويهِمْ .
وَكَانَ أَيُّوبُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، قَدْ غَضِبَ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي شَيءٍ فَعَلْتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ، فَأَقْسَمَ إِنْ شَفَاهُ اللهُ تَعَالَى لَيَضْرِبَنَّهَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ قَدْ أَخْلَصَتْ لَهُ ، وَاحْتمَلَتْ بَلاَؤَهُ بِصَبْرٍ كَبِيرٍ فَكَانَ ضَرْبُها مَعَ كُلِّ مَا احْتَمَلَتْهُ جَزَاءً سَيِّئاً ، فَأَفْتَاهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ حُزْمَةً مِنَ العِيدَانِ فِيهَا مِئَةُ عُودٍ ، وَيَضْرِبَها بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً ، فَيَتَحَلَّلَ مِنْ يَمِينِهِ ، وَلاَ يَحْنَثَ ، فَرحِمَهُ اللهُ بِهَذِهِ الفَتْوَى ، وَرَحِمَ زَوْجَتَهُ الصَّابِرَةَ ، فَقَدْ كَانَ أَيُّوبُ عَبْداً مُخْلِصاً للهِ ، كَثِيرَ الإِنَابَةِ إِلَيْهِ ..
ـــــــــــــ
(1/101)
ابتلاء ذي النون
قال تعالى :{ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) [الأنبياء/87-88]
يَذْكُرُ اللهُ تَعالى قِصَّةَ يونُسَ عليهِ السلامُ ( وهوَ ذو النُّونِ أيْ صاحبُ الحُوت ) ، وكانَ اللهُ قَدْ بَعَثَهُ نَبِياً إلى أَهْل نينَوَى فَدَعَاهُمْ إلى عِبَادةِ اللهِ وَحدَهُ فَأَبَوْا ، وَتَمَادَوْا في كُفْرِهم ، فَخَرَجَ يُونُسُ مِنْ بَيْنِهِم مُغَاضِباً لَهُمْ ، وأَتْذَرَهُمْ بأنَّ العَذَابَ وَاقِعٌُ بِهِمْ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّام ، فَلما تَحَقَّقُوا مِنْ ذَلِكَ ، وَعِلمُوا أنَّ النبيَّ لا يَكْذِبُ ، خًَرَجُوا مِنَ البلدِ بأطْفَالِهم وأنْعامِهم ومَوَاشِيهِم ، ثُمَّ تَضَرَّعُوا إلى اللهِ تَعَالى ، وَجأَرُوا إليهِ بالدُّعَاءِ ، فَرَفَعَ اللهُ عَنْهُمْ العَذابَ ، وصَرَفَهُ عَنْهُم ، كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى .
أمَّا يونسُ فإنَّه تَرَكَ قَوْمَه مُغَاضِباً لَهُم ، وذَهَبَ فَرَكِبَ في سَفِينَةٍ فَاضْطَرَبَتْ وَخافَ مَنْ فِيها مِنْ غَرَقِها ، فاقْتَرعُوا على رَجُل يُلقُونهُ مِنْ بينِهم في الماءِ يَتَخفَّفُونَ مِنهُ ، فوقَعَتِ القُرْعَةُ على يُونُسَ ، فَأَبَوْا أنْ يُلْقُوهُ ، ثُمَّ أعادُوا القُرْعَةَ فَوَقَعَتْ علَيْهِ ، فَأَبَوْا ، ثمَّ أعَادُوا للمرةِ الثّالثةِ فَوَقَعَتْ عليه ، فَتَجَرَّدَ يُونُسُ مِنْ ثِيَابِهِ ، وأَلْقَى بِنَفْسِهِ في المَاءِ ، فالْتَقَمَهُ الحُوتُ ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ بصَاحِبِ الحُوتِ ( ذُو النُّونِ ) .
أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو: يونس، أي: صاحب النون، وهي الحوت، بالذكر الجميل، والثناء الحسن، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه، فدعاهم، فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم.
[فجاءهم العذاب] ورأوه عيانا، فعجوا إلى الله، وضجوا وتابوا، فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى: { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وقال: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله. ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها [لقوله: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ } { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: فاعل ما يلام عليه] والظاهر أن عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك، ظن أن الله لا يقدر عليه، أي: يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى، ولا مانع من عروض هذا الظن للكمل من الخلق على وجه لا يستقر، ولا يستمر عليه، فركب في السفينة مع أناس، فاقترعوا، من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم، فأصابت القرعة يونس، فالتقمه الحوت، وذهب به إلى ظلمات البحار، فنادى في تلك الظلمات: { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فأقر لله تعالى بكمال الألوهية، ونزهه عن كل نقص، وعيب وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته.
قال الله تعالى: { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ولهذا قال هنا { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي الشدة التي وقع فيها
{ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } وهذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم أن الله تعالى سينجيه منها ويكشف عنه ويخفف لإيمانه كما فعل بـ " يونس " عليه السلام
ـــــــــــــ
(1/102)
الأنبياء إخوة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَاعْرِفُوهُ ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَنْزِعُ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ ، كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بِلَّةٌ ، وَإِنَّهُ يَدُقُّ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيُفِيضُ الْمَالَ ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ ، وَإِنَّ اللَّهَ يَهْلِكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الإِسْلاَمِ ، وَيَهْلِكُ اللَّهُ الْمَسِيحَ الضَّالَّ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ ، وَيُلْقِي اللَّهُ الأَمَنَةَ حَتَّى يَرْعَى الأَسَدُ مَعَ الإِبِلِ ، وَالنَّمِرُ مَعَ الْبَقَرِ ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ مَعَ الْحَيَّاتِ ، لاَ يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.(1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الإِسْلاَمِ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ وَتَقَعُ الأَمَنَةُ فِى الأَرْض ِ حَتَّى تَرْتَعَ الإِبِلُ مَعَ الأَسَدِ جَمِيعاً وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالحَيَّاتِ لاَ يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ »(2).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلِى وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ ، وَيَقُولُونَ لَوْلاَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ »(3).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ مَثَلِى وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ ، وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ »(4).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَثَلِى وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ يَقُولُونَ مَا رَأَيْنَا بُنْيَانًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِلاَّ هَذِهِ اللَّبِنَةَ. فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ ».(5)
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلِى وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا فَأَحْسَنَهَا وَأَجْمَلَهَا وَأَكْمَلَهَا إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ فَيَقُولُونَ أَلاَّ وَضَعْتَ هَا هُنَا لَبِنَةً فَيَتِمَّ بُنْيَانُكَ ». فَقَالَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - « فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةَ »(6).
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ ، الأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ. قَالَ : فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بُنْيَانُهُ ، وَتُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهِ نُظَّارٌ ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ ، لاَ يَعِيبُونَ غَيْرَهَا ، فَكُنْتُ أَنَا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ ، خُتِمَ بِيَ الرُّسُلُ.(7)
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
النبوة والأنبياء في القرآن والسنة
الباب الثاني
عِصمَة الرّسُل عليهم الصلاة والسلام
هل الرسل معصومون عن الخطأ والمعصية ، وهل هي عصمة عامّة شاملة ؟ هذا ما سنحاول بيانه في هذا الفصل .
المبحث الأول
العِصمة في التحمّل وفي التبليغ
اتفقت الأمة على أنَّ الرسل معصومون في تحمّل الرسالة(8)، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلاّ شيئاً قد نُسخ ، وقد تكفل الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرئه فلا ينسى شيئاً مما أوحاه إليه ، إلا شيئاً أراد الله أن ينسيه إياه :{ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)}[ الأعلى : 6-7 ] ، وتكفل له بأن يجمعه في صدره : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) [ القيامة : 16-18 ]
وهم معصومون في التبليغ ، فالرسل لا يكتمون شيئاً ممّا أوحاه الله إليهم ، ذلك أن الكتمان خيانة ، والرسل يستحيل أن يكونوا كذلك ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) } [ المائدة : 67 ].
ولو حدث شيء من الكتمان أو التغيير لما أوحاه الله ، فإن عقاب الله يحلّ بذلك الكاتم المغيّر (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) ) [ الحاقة : 44-47 ] .
ومن العصمة ألاّ ينسوا شيئاً مما أوحاه الله إليهم ، وبذلك لا يضيع شيء من الوحي، وعدم النسيان في التبليغ داخل في قوله تعالى : ( سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] وما يدلُّ على عصمته في التبليغ قوله تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ) [ النجم : 3-4 ] .
عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القتل :
عصم الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من القتل حتى يبلغ رسالة ربه ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)) [ المائدة : 67 ] ، قال سفيان الثوري فيما نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية : " بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك ، وناصرك ومؤيدك على أعدائك ، ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك "(9)
وقد أورد ابن كثير في تفسيره هذه الآية الأحاديث التي تفيد أنّ الصحابة كانوا يحرسون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول هذه الآية ، فلما نزلت ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرس(10).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اجْمَعُوا لِى مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنَ الْيَهُودِ . فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنِّى سَائِلُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْهُ . فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَ بَا الْقَاسِمِ . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَبُوكُمْ . قَالُوا أَبُونَا فُلاَنٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ . فَقَالُوا صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ . فَقَالَ هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ . فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِى أَبِينَا . قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَهْلُ النَّارِ . فَقَالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اخْسَئُوا فِيهَا ، وَاللهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ . قَالُوا نَعَمْ . فَقَالَ هَلْ جَعَلْتُمْ فِى هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا . فَقَالُوا نَعَمْ . فَقَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ . فَقَالُوا أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. " رواه البخاري(11).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِىءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ. فَقَالَ « مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَلِكَ ». أَوْ قَالَ « عَلَىَّ ». قَالَ فَقَالُوا أَلاَ نَقْتُلُهَا قَالَ « لاَ ». فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِى لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(12)
فقد عصم الله رسوله أن يقتله السمِّ ، وأكل معه بعض أصحابه فماتوا كما أفادته بعض الأحاديث التي روت الواقعة .
عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان :
وعصم الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان ، وقد أعان الله رسوله على قرينه الشيطان فأسلم ، فلا يأمره إلا بخير ، ففي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ ». قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَإِيَّاىَ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلاَ يَأْمُرُنِى إِلاَّ بِخَيْرٍ »(13).
وعن عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلاً. قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ « مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ ». فَقُلْتُ وَمَا لِى لاَ يَغَارُ مِثْلِى عَلَى مِثْلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ ». قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَمَعِىَ شَيْطَانٌ قَالَ « نَعَمْ ». قُلْتُ وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَالَ « نَعَمْ ». قُلْتُ وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « نَعَمْ وَلَكِنْ رَبِّى أَعَانَنِى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ »(14).
ــــــــــــ
المبحث الثاني
عدم العصمة من الأعراض البشريّة كالخوف والنسيان
الأعراض البشرية كالخوف والغضب والنسيان تقع من الرسل والأنبياء ، وهي لا تنافي عصمتهم والأمثلة على ذلك في الكتاب والسنَّة كثيرة ، فمن ذلك :
1- خوف إبراهيم عليه السلام من ضيوفه :
أوجس إبراهيم عليه السلام في نفسه خيفة عندما رأى أيدي ضيوفه لا تمتد إلى الطعام الذي قدمه لهم ، ولم يكن يعلم أنّهم ملائكة تشكلوا في صور البشر ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) [ هود : 70 ] .
2- عدم صبر موسى عليه السلام على تصرفات العبد الصالح :
وموسى وعد الخضر بأن يصبر في صحبته له ، فلا يسأله عن أمر يفعله العبد الصالح حتى يحدث له منه ذكراً ، ولكنه لم يتمالك نفسه ، إذ رأى تصرفات غريبة ، فكان في كل مرّة يسأل أو يعترض أو يوجه(15)، وفي كل مرّة يذكّره العبد الصالح ويقول له : ( قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ) [ الكهف : 75 ] . وعندما كشف له عن سر أفعاله قال له: ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) [ الكهف : 82 ] .
3- تصرفات موسى عليه السلام عندما رأى قومه يعبدون العجل :
وغضب موسى غضباً شديداً ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح وفي نسختها هدى - عندما عاد إلى قومه بعد أن تمّ ميقات ربه ، فوجدهم يعبدون العجل ، ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [ الأعراف : 150 ]
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى : إِنَّ قَوْمَكَ صَنَعُوا كَذَا وَكَذَا ، فَلَمَّا يُبَالِ ، فَلَمَّا عَايَنَ أَلْقَى الأَلْوَاحَ.(16)
4- نسيان آدم وجحوده :
ومن ذلك نسيان آدم عليه السلام وجحوده ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَىْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ أَىْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ أَىْ رَبِّ مَنْ هَذَا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. فَقَالَ رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَىْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِى أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِى أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَنَسِىَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ »(17)..
5- نبي يحرق قرية النمل :
ومن ذلك ما وقع من نبي من الأنبياء غضب إذ قرصته نملة ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فعاتبه الله على ذلك فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « نَزَلَ نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَهَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً »(18).
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَزَلَ نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا وَأَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ فِى النَّارِ - قَالَ - فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَهَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً ».(19)
6- نسيان نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصلاته الظهر ركعتين :
ومن ذلك نسيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير البلاغ ، وفي غير أمور التشريع ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعَشِىِّ - قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا - قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا ، كَأَنَّهُ غَضْبَانُ ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى ، وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا قَصُرَتِ الصَّلاَةُ . وَفِى الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ ، وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ فِى يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ قَالَ « لَمْ أَنْسَ ، وَلَمْ تُقْصَرْ » . فَقَالَ « أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ » . فَقَالُوا نَعَمْ . فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ . فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ(20)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ صَلَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعَشِىِّ - قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَكْثَرُ ظَنِّى الْعَصْرَ - رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِى مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رضى الله عنهما - فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ « لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ » . قَالَ بَلَى قَدْ نَسِيتَ . فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ .(21)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَى صَلاَتَيِ الْعَشِيِّ - وَأَظُنُّ أَنَّهَا الظُّهْرُ - رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهَا ، إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ ، وَقَالُوا : قُصِرَتِ الصَّلاَةُ ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ ، قَالَ : وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ إِمَّا قَصِيرُ الْيَدَيْنِ - وَإِمَّا طَوِيلُهُمَا - يُقَالُ لَهُ : ذُو الْيَدَيْنِ ، فَقَالَ : أَقُصِرَتِ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللهِ ، أَمْ نَسِيتَ ؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : لَمْ تُقْصَرِ الصَّلاَةُ وَلَمْ أَنَسَ ، فَقَالَ : بَلْ نَسِيتَ ، فَقَالَ : أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ كَبَّرَ ، وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ.
قَالَ : وَنُبِّئْتُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ سَلَّمَ.(22)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 15 / ص 225) (6814) صحيح
(2) - مسند أحمد (9882) صحيح
المربوع : بين الطويل والقصير -السبط : مسترسل الشعر -العلات : أولاد العلات الإخوة لأب من أمهات شتى
(3) - صحيح البخارى(3534 )
(4) - صحيح البخارى(3535 )
(5) - صحيح مسلم(6099 )
(6) - صحيح مسلم (6100)
(7) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 316) (6406) صحيح
(8) - نقل الإجماع على العصمة في هذا أكثر من واحد انظر : مجموع الفتاوى 10/291 ، ولوامع الأنوار البهية : (2/304) .
(9) - تفسير ابن كثير : 3/1205 .
(10) - المصدر السابق : 3/1206 .
(11) - صحيح البخارى(3169)
(12) - سنن أبى داود(4510 ) صحيح -اللهوات : جمع اللهاة وهى اللحمة المعلقة فى أصل الحنك
(13) - صحيح مسلم (7286 )
(14) - صحيح مسلم (7288 )
(15) - كانت المرة الأولى من موسى نسياناً ، أمّا الثانية والثالثة فكان متعمداً .
(16) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 96) (6213) صحيح
(17) - سنن الترمذى (3356 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. -النسمة : النفس والروح -الوبيص : البريق
(18) - صحيح البخارى(3319 ) ومسلم (5987)
(19) - صحيح مسلم (5988 )
(20) - صحيح البخارى(482 ) ومسلم (1316 )
السرعان : أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشىء ويقبلون عليه بسرعة
(21) - صحيح البخارى(1229 ) -السرعان : أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشىء ويقبلون عليه بسرعة
(22) - صحيح ابن حبان - (ج 6 / ص 396) (2675) صحيح
(1/103)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ الأَخْبَارُ الثَّلاَثَةُ قَدْ تُوهِمُ غَيْرَ الْمُتَبَحِّرِ فِي صِنَاعَةِ الْعِلْمِ أَنَّهَا مُتَضَادَّةٌ ، لأَنَّ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ ، وَفِي خَبَرِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ الْخِرْبَاقَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ ، وَفِي خَبَرِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ تَضَادٌّ وَلاَ تَهَاتُرٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ : سَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ ، وَخَبَرَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : أَنَّهُ سَلَّمَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ ، وَخَبَرَ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ : أَنَّهُ سَلَّمَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ ، فَدَلَّ مِمَّا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّهَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي ثَلاَثِ صَلَوَاتٍ لاَ فِي صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ.(1)
وقد صرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطروء النسيان عليه كعادة البشر ، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَزَادَ أَوْ نَقَصَ ، وَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : لَوْ حَدَثَ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمُوهُ ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ ، فَأَيُّكُمْ شَكَّ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ ، وَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ(2).
وعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ صَلَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - - قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَ أَدْرِى زَادَ أَوْ نَقَصَ - فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَحَدَثَ فِى الصَّلاَةِ شَىْءٌ قَالَ « وَمَا ذَاكَ » . قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا . فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ « إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِى الصَّلاَةِ شَىْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِى ، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِى صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّى الصَّوَابَ ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُسَلِّمْ ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ »(3).
قال هذا بعد نسيانه في إحدى الصلوات .
ــــــــــــ
المبحث الثالث
مدى العصمة في إصابة الحق في القضاء
الأنبياء والرسل يجتهدون في حكم ما يعرض عليهم من وقائع ، ويحكمون وفق ما يبدو لهم ، فهم لا يعلمون الغيب ، وقد يخطئون في إصابة الحق ، فمن ذلك عدم إصابة نبي الله داود في الحكم ، وتوفيق الله لابنه سليمان في تلك المسألة .
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا ، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ . وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ . فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى ، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا . فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ . هُوَ ابْنُهَا . فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ(4)..
وقد وضح الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه القضية وجلاّها ، فعن أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ ، فَأَقْضِىَ لَهُ بِذَلِكَ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا »(5)..
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا ، فَلاَ يَأْخُذْ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ »(6).
ــــــــــــ
المبحث الرابع
العصمة من الشرك والمعاصي والذّنوب
المطلب الأول
العصمة من الكبائر
الأمة الإسلامية مجمعة على عصمة الأنبياء والرسل من الكبائر من الذنوب وقبائح العيوب ، كالزنى والسرقة والمخادعة ، وصناعة الأصنام وعبادتها ، والسحر ، ونحو ذلك ، وقد برأ كتاب الله وسنَّة رسوله أنبياء الله ورسله مما افتراه عليهم اليهود والنصارى في المحرف من كتبهم.
إن الأنبياء والرسل أزكى الناس وأطهرهم وأفضلهم ، ووالله إن هؤلاء لضالون فيما وصفوا به أنبياء الله الأبرار الأطهار .
ولذا فإن الأمة الإسلامية هي المدافعة عن الأنبياء والرسل ، المشيدة بمآثرهم ، فهي وارثة الأنبياء ، المقيمة لدينهم ، بخلاف ما عليه اليهود والنصارى تجاه أنبيائهم .
ــــــــــــ
المطلب الثاني
العصمة من الصغائر
ذهب أكثر علماء الإسلام إلى أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر ، وقال ابن تيمية : " فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ دُونَ الصَّغَائِرِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَجَمِيعِ الطَّوَائِفِ حَتَّى إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَ " أَبُو الْحَسَنِ الآمدي " أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ بَلْ هُوَ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ .(7).. . .
الأدلة :
وقد استدل جماهير العلماء على دعواهم بأدلة :
1- معصية آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها ، ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى - إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى - فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) [ طه : 116-121 ] .
والآية في غاية الوضوح والدلالة على المراد ، فقد صرحت بعصيان آدم ربه .
2- ونوح دعا ربه في ابنه الكافر ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) [ هود : 45 ] ، فلامه ربه على مقالته هذه ، وأعلمه أنّه ليس من أهله ، وأن هذا منه عمل غير صالح ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [هود : 46] فاستغفر ربّه من ذنبه وتاب وأناب ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) [ هود : 47 ] .
والآية صريحة في كون ما وقع منه كان ذنباً يحتاج إلى مغفرة ( وإلاَّ تغفر لي وترحمني .. ) .
3- وموسى أراد نصرة الذي من شيعته ، فوكز خصمه فقضى عليه ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [ القصص : 15-16 ] ، فقد اعترف موسى بظلمه لنفسه ، وطلب من الله أن يغفر له ، وأخبر الله بأنه غفر له .
4- وداود عليه السلام تسّرع في الحكم قبل سماع قول الخصم الثاني ، فأسرع إلى التوبة فغفر الله له ذنبه ( فاستغفر ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب - فغفرنا له ذلك ) [ ص : 24-25 ] .
5- ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عاتبه ربه في أمور ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [ التحريم : 1 ] نزلت بسبب تحريم الرسول - صلى الله عليه وسلم - العسل على نفسه ، أو تحريم مارية القبطية .
وعاتبه ربه بسبب عبوسه في وجه الأعمى ابن أم مكتوم ، وانشغاله عنه بطواغيت الكفر يدعوهم إلى الله ، والإقبال على الأعمى الراغب فيما عند الله هو الذي كان ينبغي أن يكون من الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَن جَاءهُ الْأَعْمَى - وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى .. ) [ عبس : 1-4 ] علما بأنه قد ذكر بعض أهل العلم أن ما وقع في شأن ابن أم مكتوم لا يعد ذنباً لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخاطبه بسوء وكان ابن أم مكتوم أعمى لا يرى ملامح وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أسرى بدر الفدية فأنزل الله تعالى : ( لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ الأنفال : 68 ] .
وقد يستعظم بعض الناس القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، ويذهبون إلى تأويل النصوص من الكتاب والسنة الدالة على هذا ويحرفونها، والدافع لهم إلى هذا القول شبهتان: الأولى: أن الله تعالى أمر باتباع الرسل والتأسي بهم، والأمر باتباعهم يستلزم أن يكون كل ما صدر عنهم محلا للاتباع، وأن كل فعل أو اعتقاد منهم طاعة، ولو جاز أن يقع الرسول في معصية لحصل التناقض، لأن ذلك يقتضي أن يجتمع في هذه المعصية التي وقعت من الرسول الأمر باتباعها وفعلها، من حيث إننا مأمورون بالتأسي به، والنهي عن موافقتها من حيث كونها معصية.
وهذه الشبهة صحيحة وفي محلها لو كانت المعصية خافية غير ظاهرة بحيث تختلط بالطاعة، ولكن الله تعالى ينبه رسله ويبين لهم المخالفة، ويوفقهم إلى التوبة منها من غير تأخير.
الثانية: أن الذنوب تنافي الكمال وأنها نقص، وهذا صحيح إن لم يصاحبها توبة، فإن التوبة تغفر الحوبة، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم، بل إن العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته خيراً منه قبل وقوعه في المعصية كما نقل عن بعض السلف (كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة) وقال آخر: (لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه)، ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار، فالأنبياء لا يقرون على ذنب، ولا يؤخرون توبة، فالله عصمهم من ذلك، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها(8)
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ وَحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِى أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى الَّذِى كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ».(9)
وفي الكتاب الكريم : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [البقرة : 222] وقال تعالى مبيناً مثوبة التائبين : ( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ... ) [ الفرقان : 70 ] .
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِىِّ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِى مَعَ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ ، فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ، وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَىْ رَبِّ . حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِى نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ . فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ »(10).
ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار منه ، يدلنا على هذا أن القرآن لم يذكر ذنوب الأنبياء إلا مقرونة بالتوبة والاستغفار ، فأدم وزوجه عصيا فبادرا إلى التوبة قائلين : ( ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ الأعراف : 23 ] وما كادت ضربة موسى تسقط القبطي قتيلاً حتى سارع طالباً الغفران والرحمة قائلاً : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) [ القصص : 16 ] . وداود ما كاد يشعر بخطيئته حتى خرّ راكعاً مستغفراً ( فاستغفر ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب ) [ص : 24] .
فالأنبياء لا يقرون على الذنب ، ولا يؤخرون التوبة ، فالله عصمهم من ذلك ، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها .
والسبب في عصمة الأنبياء مما عصموا منه وعدم عصمتهم مما لم يعصموا منه :
الرسل والأنبياء بشر من البشر ، عصمهم الله في تحمل الرسالة وتبليغها ، فلا ينسون شيئاً ، ولا ينقصون شيئاً ، وبذلك يصل الوحي الذي أنزله الله إلى الذين أرسلوا إليهم كاملاً وافياً ، كما أراده الله جلّ وعلا ، وهذه العصمة لا تلازمهم في كلّ أمورهم فقد تقع منهم المخالفة الصغيرة ( خلاف الأولى )، بحكم كونهم بشراً ، ولكنّ رحمة الله تتداركهم ، فينبههم الله إلى خطئهم ، ويوفقهم للتوبة والأوبة إليه .
يقول الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر : " إنّ الوحي لا يلازم الأنبياء في كلّ عمل يصدر عنهم ، وفي كلِّ قول يبدر منهم ، فهم عرضة للخطأ ، يمتازون عن سائر البشر بأنّ الله لا يقرّهم على الخطأ بعد صدوره ، ويعاتبهم عليه أحياناً "(11).
ــــــــــــ
المطلب الثالث
تكريم الأنبياء وتوقيرهم :
هذه الصغائر التي تقع من الأنبياء لا يجوز أن تتخذ سبيلاً للطعن فيهم ، والإزراء عليهم ، فهي أمور صغيرة ومعدودة غفرها الله لهم ، وتجاوز عنها ، وطهرهم منها ، وعلى المسلم أن يأخذ العبرة والعظة لنفسه من هذه ، فإذا كان الرسل الكرام الذين اختارهم الله واصطفاهم عاتبهم الله ولامهم على أمور كهذه ، فإنّه يجب أن نكون على حذر وتخوف من ذنوبنا وآثامنا ، وعلينا أن نتأسى بالرسل والأنبياء في المسارعة إلى التوبة والأوبة إلى الله، وكثرة التوجه إليه واستغفاره(12).
- - - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
النبوة والأنبياء في القرآن والسنة
الباب الثالث
خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم -
رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لكل الناس
قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) [الأعراف/158]
قُلْ يَا مُحَمَّدُ للنَّاسِ جَمِيعاً : إِنِّي رَسُولُ اللهِ تَعَالَى إِلَى جَمِيعِ البَشَرِ ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هَُو الذِي أَرْسَلَنِي ، وَهُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا ، وَهُوَ مُدَبِّرُهُمَا وَمُصَرِّفُهُما حَسْبَ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ ، فَهُوَ المَعْبُودُ وَحْدَهُ لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ ، وَهُوَ الذِي يَخْلُقُ الكَائِنَاتِ ، وَهُوَ الذِي يَقْضِي بِفَنَائِهَا . فَآمِنُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَمِيعاً بِاللهِ الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الذِي أَرْسَلَهُ إلى النَّاسِ كَافَّةً ، وَهَذا الرَّسُولُ يُؤْمِنُ بِتَوْحِيدِ اللهِ ، وَيُؤْمِنُ بِكَلِمَاتِهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ
وَاتَّبِعُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ طَرِيقَ الرَّسُولِ الأُمِّيِّ ، وَاقْتَفُوا أَثَرَهُ ، فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُكُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
إنها الرسالة الأخيرة ، فهي الرسالة الشاملة ، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل . . ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين - وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة ، تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة . وكانت كل رسالة تتضمن تعديلاً وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية . حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها ، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها ، وجاءت للبشر جميعاً ، لأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان . وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً . ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية - كما خرجت من يد الله - إلا تعليم الله . فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً : { قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } . .
وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواجه برسالته الناس جميعاً ، هي آية مكية في سورة مكية . . وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب ، الذين يزعمون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدور في خلده وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها ، وأنه إنما بدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشاً ، ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب .
ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها . . كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف! وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديماً على هذا الدين وأهله . وما يزالون ماضين فيها!
وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله . وأن يكون « المستشرقون » الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله . . إنما البلية الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم . المحاربين لهم ولعقيدتهم ، أساتذة لهم ، يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه ، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه ، ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم « مثقفون! » . .
ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن رسالته للناس جميعاً . فنجد بقية التكليف هي تعريف الناس جميعاً بربهم الحق سبحانه : { الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو ، يحيي ويميت } . .
إنه - صلى الله عليه وسلم - رسول للناس جميعاً من ربهم الذي يملك هذا الوجود كله - وهم من هذا الوجود - والذي يتفرد بالألوهية وحده ، فالكل له عبيد . والذي تتجلى قدرته وألوهيته في أنه الذي يحيي ويميت . .
والذي يملك الوجود كله ، والذي له الألوهية على الخلائق وحده ، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً . هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه ، الذي يبلغه إليهم رسوله . . فهو تعريف للناس بحقيقة ربهم ، لتقوم على هذا التعريف عبوديتهم له ، وطاعتهم لرسوله :{ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون } . .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 6 / ص 397)
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 6 / ص 384) (2660) صحيح
(3) - صحيح البخارى (401 )
(4) - صحيح البخارى (6769 ) ومسلم (4592 )
(5) - صحيح البخارى(2458 )
(6) - صحيح البخارى(6967) - الألحن : الأعرف والأقدر على بيان مقصوده
(7) - مجموع الفتاوى - (ج 4 / ص 319)
(8) - فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 36 / ص 217) الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر رقم الفتوى:54423تاريخ الفتوى:25 شعبان 1425، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 12519، 27512، 29447، 38915.
(9) - صحيح مسلم (7131 ) - الدوية : الصحراء التى لا نبات بها
(10) - صحيح البخارى(2441 )
(11) - حياة محمد لهيكل ، انظر مقدمة الكتاب بقلم الشيخ المراغي ص 11 .
(12) - انظر كتاب الرسل والرسالات للأشقر
(1/104)
وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغي أن نقف أمامها لحظات :
* إنه يتضمن ابتداء ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام . . ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى : { الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو ، يحيي ويميت } . . فالأمر بالإيمان هو أمر بالإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة . كما سبقه التعريف برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس جميعاً .
* ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي - صلوات الله وسلامه عليه - يؤمن بالله وكلماته . . ومع أن هذه بديهية ، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها . فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه ، ووضوحه في نفسه ، ويقينه منه . لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه { الذي يؤمن بالله وكلماته } .
. وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه . .
* ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه . وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه ، واتباعه كذلك في سنته وعمله . وهو ما يقرره قول الله سبحانه : { واتبعوه لعلكم تهتدون } . . فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا باتباعه فيه . ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي . . وهو الإسلام . .
إن هذا الدين يعلن عن طبيعته وعن حقيقته في كل مناسبة . . إنه ليس مجرد عقيدة تستكن في الضمير . . كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس . . إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وفيما يشرعه ويسنه . . والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب . ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله . ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله . . فهذا هو دين الله . . وليس لهذا الدين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة : { واتبعوه لعلكم تهتدون } بعد الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . ولو كان الأمر في هذا الدين أمر اعتقاد وكفى ، لكان في قوله : { فآمنوا بالله ورسوله } الكفاية!
----------------
وقال تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) } [سبأ/28]
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلى قَوْمِكَ خَاصَّةً ، وَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلى الخَلْقِ جَمِيعاً ، مُبَشِّراً مَنْ أَطَاعَ الله بالثَّوابِ الجَزِيلِ ، والجَنَّاتِ العَالِيَاتِ ، وَمُنْذِراً مَنْ عَصَاهُ بِالعَذَابِ الأَلِيمِ . وَلكِنَّ أكثرَ الناسِ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَيَحْمِلُهُم جَهْلُهُمْ عَلَى الإِصْرَارِ عَلَى مَا هُمْ عَليهِ مِنَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ .
ـــــــــــــ
(1/105)
محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين
قال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) [الأحزاب/40]
وَلَمَّا قَالَ المُشْرِكُونَ وَاليَهُودُ : تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ مِنِ امْرَأَةِ ابْنِهِ ، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالى هذِهِ الآيةَ الكَريمَةَ ، وَفِيها يَقُولُ تَعَالى : إِنَّ مُحَمّداً لَمْ يَكُنْ أَبَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ لِيحَرَّمَ عَلَيهٍ التَّزوُّجُ بِمُطَلَّقَةِ ابْنِهِ ، ولَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ يُبَلِّغُ رِسَالَتَهُ إِلى خَلْقِ اللهِ . وَهُوَ خَاتَمُ النّبِيِّنَ وَآخِرُهُمْ وَلاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ . ( فَقَدْ مَاتَ أبناءُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - الذُّكُورُ كُلُّهُمْ قَبْلَهُ ) .
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) فزينب ليست حليلة ابنه , وزيد ليس ابن محمد . إنما هو ابن حارثة . ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة .
والعلاقة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين جميع المسلمين - ومنهم زيد بن حارثة - هي علاقة النبي بقومه , وليس هو أبا لأحد منهم: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) . .
ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية , لتسير عليها البشرية ; وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض , التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير .
(وكان الله بكل شيء عليما) . . فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية , وما يصلحها ; وهو الذي فرض على النبي ما فرض , واختار له ما اختار . ليحل للناس أزواج أدعيائهم , إذا ما قضوا منهن وطرا , وانتهت حاجتهم منهن , وأطلقوا سراحهن . . قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء . ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين ; ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين .
ـــــــــــــ
(1/106)
من صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - (رؤوف رحيم بالمؤمنين)
قال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) [التوبة/128، 129]
يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُؤْمِنِينَ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاَ مِنْ جِنْسِهِمْ وَلُغَتِهِمْ وَقَوْمِهِمْ ( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) ، يَعِزُّ عَلَيْهِ وَيَصْعُبُ الشَّيْءُ الذِي يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ، وَيَزِيدُهُمْ عَنَتاً ، وَشَرِيعَتُهُ كُلُّها يُسْرٌ وَسَمَاحَةٌ وَكَمَالٌ ، عَلَى مَنْ أرَادَها يُسْراً وَسَمَاحَةًُ ، وَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَصَلاحِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ شَدِيدُ الرَأْفَةِ وَالرَحْمِةِ بِالمُؤْمِنِينَ .
فَإِنْ أَعْرَضُوا عَمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ العَظِيمَةِ المُطَهَّرَةِ ، وَأَعْرَضُوا عَنِ الإِيمَانِ بِكَ ، وَالاهْتِدَاءِ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ ، فَلاَ تَحْزَنْ لِذَلِكَ ، وَقُلْ : يَكْفِينِي اللهُ ، لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَهُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيءٍ وَخَالِقُهُ ، لأَنَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ، وَجَمِيعُ الخَلْقِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ تَحْتَ العَرْشِ ، مَقْهُورُونَ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُّلِ شَيءٍ ، وَقَدَرُهُ نَافِذُّ فِي كُلِّ شَيءٍ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ .
{ حريص عليكم } . .لا يلقي بكم في المهالك ، ولا يدفع بكم إلى المهاوي ، فإذا هو كلفكم الجهاد ، وركوب الصعاب ، فما ذلك من هوان بكم عليه ، ولا بقسوة في قلبه وغلظة ، إنما هي الرحمة في صورة من صورها . الرحمة بكم من الذل والهوان ، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة ، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة ، وحظ رضوان الله ، والجنة التي وعد المتقون .
ـــــــــــــ
(1/107)
لا يجوز دخول بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - دون إذن ولا نكاح أزواجه من بعده
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) [الأحزاب/53]
يَا أَيُّها المُؤِمنُونَ لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ أَنْ تُدْعَوْا إِلى طعام تَطْعَمُونَهُ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ إِدْرَاكَ نُضْجِهِ ، ( أَي إِذا دُعِيتُم إِلى طَعَامٍ في بَيْتِ رَسُولِ اللهِ فَلا تَدْخُلُوا إِلا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الطَّعَامَ قَدْ تَمَّ نُضْجُهُ وإِعْدَادُهُ ) وَلكِنْ إِذا دَعَاكُمُ النَّبِيُّ إِلى الدُّخُولِ فَادخُلُوا ، فَإِذَا أَكَلْتُمُ الطَّعَامَ فَانصَرِفُوا ، وَلا تَمْكُثُوا فِيهِ لِتَبَادُلِ الحَدِيثِ ، فَذَلِكَ اللُبْثُ ، بَعْدَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ ، كَانَ يُؤِْي النَّبِيَّ ، وَيُثْقِلُ عَليهِ وَعَلى أَهْلِهِ ، وَلكِنَّهُ كَانَ يَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ يَقُولَ لَكُمْ ذَلِكَ ، وَأَنْ يَدْعُوَكُمْ إِلى الانْصِرَافِ ، وَاللهُ الذِي يُريدُ أَنْ يُحْسِنَ تَرِبيتَكم وَتَأدِيبكُمْ ، يُريدُ أَنْ يَقُولَ لَكُمُ الحَقَّ لتَعمَلُوا بِهِ ، فَإِذا طَعِمْتُم فِي بَيتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاخْرُجُوا ، وَلاَ تَقْعُدُوا لِلْحَدِيثِ . وَإِذا طَلَبْتُم مِنْ أَزواجِ النَّبِيِّ وَنِسَاءِ المُؤمِنِينَ شَيئاً تَتَمَتَّعُونَ بِهِ ، مِنْ مَاعُونٍ ، وَغيرِهِ ، فَاطْلُبُوهُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ . وَذلِكَ الدُّخُولُ بَعْدَ الاسْتِئِذَانِ ، وَعَدَمُ البَقَاءِ بَعْدَ الطَّعَامِ للاسْتِئْنَاسِ بِالحَدِيثِ ، وَسُؤالُ نِسَاءِ النَّبِيِّ المَتَاعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ . . كُلُّ ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ وَقُلُوبِ النِّسَاءِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ ، وَأَبْعَدُ عَنْ الرِّيبِ والشُّكُوكِ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤِمِنينَ أَنْ يَفْعَلُوا فَعْلاً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ يُؤْذِيهِ وَيُزْعِجُهُ ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُؤْذُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالتَّزَوٌّجِ بِنِسَائِهِ . فَإِيذَاءُ النَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لاَ يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلاَّ اللهُ تَعَالى .
روى البخاري بإسناده عن أنس بن مالك قال : « بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش بخبز ولحم . فأرسلت على الطعام داعياً . فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون . ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه . فقلت : يا رسول الله ما أجد أحداً أدعوه . قال : » ارفعوا طعامكم « . وبقي ثلاث رهط يتحدثون في البيت . فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : » السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته « . قالت : وعليك السلام ورحمة الله . كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك . فتقرى حجر نسائه ، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن كما قالت عائشة . ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحياء . فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة . فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا . فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه . أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب » .
والآية تتضمن آداباً لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت ، حتى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة .
وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاماً يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأهله . وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي زينب بنت جحش جالسة وجهها إلى الحائط! والنبي - صلى الله عليه وسلم - يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه ، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم! حتى تولى الله سبحانه عنه الجهر بالحق { والله لا يستحيي من الحق } .
ومما يذكر أن عمر رضي الله عنه بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجاب؛ وكان يتمناه على ربه . حتى نزل القرآن الكريم مصدقاً لاقتراحه مجيباً لحساسيته!
من رواية للبخاري بإسناده عن أنس بن مالك . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله . يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب . .
وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن . فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا . فأما إذا لم يدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه! ثم إذا طعموا خرجوا ، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث . . وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون . فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده ، بل إنهم ليتخلفون على المائدة ، ويطول بهم الحديث؛ وأهل البيت الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب متأذون محتبسون ، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون! وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة ، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم .
ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - والرجال : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } . .
وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع : { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } . .
فلا يقل أحد غير ما قال الله . لا يقل أحد إن الاختلاط ، وإزالة الحجب ، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب ، وأعف للضمائر ، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة ، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك . . إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين . لا يقل أحد شيئاً من هذا والله يقول : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } . . يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات . أمهات المؤمنين . وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق! وحين يقول الله قولاً .
ويقول خلق من خلقه قولاً . فالقول لله سبحانه وكل قول آخر هراء ، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد!
والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله ، وكذب المدعين غير ما يقوله الله . والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول . وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل . ( وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار ) .
وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة؛ وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث . . كان يؤذي النبي فيستحيي منهم . وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله . وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده؛ وهن بمنزلة أمهاتهم . ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده ، احتفاظاً بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } . .
وقد ورد أن بعض المنافقين قال : إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة!
{ إن ذلكم كان عند الله عظيماً } . . وما أهول ما يكون عند الله عظيماً!
ـــــــــــــ
(1/108)
محمد - صلى الله عليه وسلم - شديد على الكفار رحيم بالمؤمنين
قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
إِن مُحمداً - صلى الله عليه وسلم - رَسُولُ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً ، بِلاَ شَكٍّ وَلاَ رَيبٍ ، وَإِنَّ أصْحَابَهُ يَتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ الجَمِيلةِ الحَسَنةِ ، فَهُمْ أشِدَّاءٌ غِلاَظُ القُلُوبِ عَلَى الكُفارِ ، وَهُمْ رُحَماءُ مُتَوَادُّونَ فيما بَيْنَهم يَرَاهُم النَّاظِرُ إليهِمْ دَائِبينَ عَلَى أدَاءِ الصَّلاةِ ، مُخْلِصِينَ فيها للهِ ، مُحْتَسِبينَ أجْرَهَا عِنْدَ اللهِ ، يَبْتَغُونَ بِصَلاتِهِمْ رِضَا اللهِ وَرِضْوَانَهُ ، تَتْرُكُ نُفُوسُهُمُ المُطْمَئِنَّةُ أَثَراً عَلَى وُجُوهِهِمْ ، فَهِي هَادِئَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ مَسْتَبْشِرَةٌ ، وَهَذِهِ هِيَ صِفَاتُ المُؤمِنينَ المُخْلِصِينَ في التورَاةِ . وَجَاءَ وَصْفُهُمْ في الإِنجيلِ أَنَّ أتْبَاعَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَليلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَلِيلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ فُروعَهُ ( شَطْأهُ ) التي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ عَلَى جَوَانِبِهِ ، فَيَقْوى وَيَتَحَوَّلُ من الدِّقَّةِ إِلى الغِلْظَةِ ، وَيَسْتَقيمُ عَلَى أصُولِهِ فَيُعْجَبُ بِهِ الزَّراعِ لِخِصْبِهِ ، وَقُوَّتِهِ ، وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ ، وَقَدْ نَمَّاهُمُ اللهُ وأكْثَرَ عَدَدَهُم لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ ، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، العَامِلِينَ للصَّالِحَاتِ ، بأن يَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهمْ ، وَأنْ يُجْزِلَ لَهُمُ الأجْرَ والعَطَاءَ ، وبِأنْ يُدْخِلَهُمْ جَنَّاتِهِ ، وَاللهُ لاَ يُخْلِفَ وَعْدَهُ أبَداً
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : { تراهم ركعاً سجداً } . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . . { ذلك مثلهم في التوراة } . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . { كزرع أخرج شطأه } { فآزره } . . { فاستغلظ } { فاستوى على سوقه } . { يعجب الزراع } . . : { ليغظ بهم الكفار }
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : { محمد رسول الله } . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الارتكاز الأصيلة في هذه الحياة .
وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعاً . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . قد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : { تراهم ركعاً سجداً } . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم؛ فعبر عنها تعبيراً يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعاً سجداً .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : { سيماهم في وجوهم من أثر السجود } . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما في النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : { من أثر السجود } . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوراى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلاً .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ، ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : { ذلك مثلهم في التوارة } . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بما قبل أن يجيئوا إليها .
{ ومثلهم في الإنجيل } . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم : { كزرع أخرج شطأه } . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه ، من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . { فآزره } . أو أن العود آزر فرخه فشده . { فاستغلظ } الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . { فاستوى على سوقه } لا معوجا ومحنيا .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين: (محمد رسول الله) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم , ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات , وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة , وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم , ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة , والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء , ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم , كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها , ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى , ومن الانفعال لغير الله , والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم , هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة: (تراهم ركعا سجدا) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة , وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ; فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم , حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم , وكل ما تتطلع إليه أشواقهم , هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم , ونضحها على سماتهم: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية , ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: (من أثر السجود) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه , حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل , والشفافية الصافية , والوضاءة الهادئة , والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ; ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة: (ذلك مثلهم في التوراة) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى , وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .
(ومثلهم في الإنجيل) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه , أنهم (كزرع أخرج شطأه) . . فهو زرع نام قوي , يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده .(فآزره) . أو أن العود آزر فرخه فشده .(فاستغلظ) الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . (فاستوى على سوقه) لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .
هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع , العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب: (يعجب الزراع) . وفي قراءة يعجب(الزارع) . . وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد: (ليغيظ بهم الكفار) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هيزرعة الله . أو زرعة رسوله , وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !
وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا , فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . فتثبت في صلب الوجود كله , وتتجاوب بها أرجاؤه , وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال , تحاول أن تحققها , لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .
وفوق هذا التكريم كله , وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم , التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود , والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله , وفي ميزان الله , وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية , وقد نزلت هذه السورة , وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .
ـــــــــــــ
(1/109)
وجوب خفض الصوت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) [الحجرات/3، 4]
والذِينَ يَخْفِضُونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ في حَضْرَتِهِ إِجْلالاً واحتِراماً ، هُمُ الذِينَ ابتْلَى اللهُ قُلُوبَهم بالمِحَنِ والتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ ، حَتَّى تَطَهَّرَتْ وَصَفَتْ بِما كَابَدَتْهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى المَشَاقِّ ، وَهَؤُلاءِ لَهُم مَغْفِرةٌ مِنْ رَبِّهمْ لذُنُوبِهمْ ، وَلَهُم ثَوَابٌ عَظِيمٌ عَلَى غَضِّهم أصْواتَهم عِنْدَ النَّبِيِّ احتِراماً مِنْهُمْ لَهُ ، وَتَعْظِيماً لِقَدْرِهِ .
اجْتَمعَ أناسٌ مِنَ العَرَبِ فَقَالُوا : انْطَلِقُوا بِنا إِلى هَذَا الرَّجلِ ، فَإِنْ كَانَ نَبِيّاً فَنَحْنَ أسْعَدُ النَّاسِ بِهِ ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكاً نَعِشْ بِجَنَاحِهِ ، فَجَاؤُوا إلى حُجْرِةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ وَهُو في حُجْرتِهِ : يَا مُحَمَّدُ . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى هَذِهِ الآيةَ الكَريمةَ تأدِيباً لهؤُلاءِ وأمْثَالِهِمْ ، الذِينَ يَأتُونَ إِلى النَّبيِّ ، وَهُوَ في بَيْتِهِ مَعَ نِسَائِهِ ، فَيُنَادُونَهُ بأصْواتٍ مُرْتَفِعةٍ لِيَخْرُجَ إليهِمْ .
وَيَقُولُ تَعَالى : إِنَّ الذِينَ يَفْعَلُون ذَلِكَ أكْثَرُهُم جُهَّالٌ بِمَا يَجِبُ لِلرَّسُولِ مِنَ التَّعظِيمِ وَالاحتِرامِ .
فالتقوى هبة عظيمة ، يختار الله لها القلوب ، بعد امتحان واختبار ، وبعد تخليص وتمحيص ، فلا يضعها في قلب إلا وقد تهيأ لها ، وقد ثبت أنه يستحقها . والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة . هبة التقوى . وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم .
إنه الترغيب العميق ، بعد التحذير المخيف .بها يربي الله قلوب عباده المختارين ، ويعدها للأمر العظيم . الذي نهض به الصدر الأول على هدى من هذه التربية ونور .
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء فقال : أتدريان أين أنتما؟ ثم قال : من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف . فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً!
وعرف علماء هذه الأمة وقالوا : إنه يكره رفع الصوت عند قبره - صلى الله عليه وسلم - كما كان يكره في حياته - عليه الصلاة والسلام - احتراماً له في كل حال .
ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام التاسع الذي سمي « عام الوفود » . . لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة ، ودخولهم في الإسلام ، وكانوا أعراباً جفاة ، فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - المطلة على المسجد النبوي الشريف : يا محمد . اخرج لنا . فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الجفوة وهذا الإزعاج . فنزل قوله تعالى : { إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم ، والله غفور رحيم } . .
فوصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون . وكرّه إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرمة رسول الله القائد والمربي . وبيّن لهم الأولى والأفضل وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم . وحبب إليهم التوبة والإنابة ، ورغبهم في المغفرة والرحمة .
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع ، وتجاوزوا به شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كل أستاذ وعالم . لا يزعجونه حتى يخرج إليهم؛ ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم . . يحكى عن أبي عبيد - العالم الزاهد الراوية الثقة - أنه قال : « ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه » .
ـــــــــــــ
(1/110)
الرسول لا يجيب قومه بكل ما يقترحونه عليه
قال تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) [الحجرات/7-8]
واعلَمُو يَا أَيُّها المُؤْمِنُون أنَّ رَسُولَ اللهِ بَيْنَ أظْهُركُمْ فَعَظِّمُوهُ وَوَقِّرُوهُ وَاصْدُقُوهُ ، وَتأدَّبوا مَعَهُ ، وَهُوَ أَشْفَقُ عَلَيكُمْ مِنْ أنفِسكُم ، وَلَوْ أنّهُ تَعَجَّلَ في عَمَلِ مَا أرَدْتُم قَبْلَ وَضُوحِ الأمرِ ، وَقَامَ بِمَا أَشَرْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الآراءِ لَوَقَعْتُم في الإِثْمِ وَالمَشَقَّةِ والحَرَجِ ( لَعَيِنتُّمْ ) ، وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إليكُم الإِيمَانَ والأُمُورَ الصَّالِحَةَ ، وَجَعَلَكُمْ تَكْرَهُونَ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعَصْيَانَ .
وَهَؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفاتِ السَّابِقَةِ هُمُ الرَّاشِدُونَ المُهتَدُونَ ، الذِينَ آتاهُمُ اللهُ رُشْدَهُمْ .
وَهذَا العَطَاءُ ، الذِي مَنَحَكُمُ اللهُ إيَّاهُ ، هُوَ فَضْلٌ منهُ عَليكُمْ ، وَإِنعَامٌ عَلَيكُمْ مِنْ لَدُنْهُ ، وَاللهُ عَليمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايةَ ممَّنْ يَسْتَحِقُّ الغَوَايةَ ، وَهُوَ حَكِيمٌ في شرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ .
وهي حقيقة تتصور بسهولة لأنها وقعت ووجدت . ولكنها عند التدبر تبدو هائلة لا تكاد تتصور! وهل من اليسير أن يتصور الإنسان أن تتصل السماء بالأرض صلة دائمة حية مشهودة؛ فتقول السماء للأرض؛ وتخبر أهلها عن حالهم وجهرهم وسرهم ، وتقوّم خطاهم أولا بأول ، وتشير عليهم في خاصة أنفسهم وشؤونهم . ويفعل أحدهم الفعلة ويقول أحدهم القولة ، ويسر أحدهم الخالجة؛ فإذا السماء تطلع ، وإذا الله - جل جلاله - ينبئ رسوله بما وقع ، ويوجهه لما يفعل وما يقول في هذا الذي وقع . . إنه لأمر . وإنه لنبأ عظيم . وإنها لحقيقة هائلة . قد لا يحس بضخامتها من يجدها بين يديه . ومن ثم كان هذا التنبيه لوجودها بهذا الأسلوب : { واعلموا أن فيكم رسول الله } . . اعلموا هذا وقدروه حق قدره ، فهو أمر عظيم ،ومن مقتضيات العلم بهذا الأمر العظيم أن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله . ولكنه يزيد هذا التوجيه إيضاحاً وقوة ، وهو يخبرهم أن تدبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بوحي الله أو إلهامه فيه الخير لهم والرحمة واليسر . وأنه لو أطاعهم فيما يعن لهم أنه خير لعنتوا وشق عليهم الأمر . فالله أعرف منهم بما هو خير لهم ، ورسوله رحمة لهم فيما يدبر لهم ويختار : { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم } . .
وفي هذا إيحاء لهم بأن يتركوا أمرهم لله ورسوله ، وأن يدخلوا في السلم كافة ، ويستسلموا لقدر الله وتدبيره ، ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه .
ثم يوجههم إلى نعمة الإيمان الذي هداهم إليه ، وحرك قلوبهم لحبه ، وكشف لهم عن جماله وفضله ، وعلق أرواحهم به؛ وكره إليكم الكفر والفسوق والمعصية ، وكان هذا كله من رحمته وفيضه : { ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم؛ وكَّره إليكم الكفر والفسوق والعصيان . أولئك هم الراشدون . فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم } . .
واختيار الله لفريق من عباده ، ليشرح صدورهم للإيمان ، ويحرك قلوبهم إليه ، ويزينه لهم فتهفو إليه أرواحهم ، وتدرك ما فيه من جمال وخير . . هذا الاختبار فضل من الله ونعمة ، دونها كل فضل وكل نعمة . حتى نعمة الوجود والحياة أصلاً ، تبدوا في حقيقتها أقل من نعمة الإيمان وأدنى! وسيأتي قوله تعالى : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } فنفصل القول إن شاء الله في هذه المنة .
والذي يستوقف النظر هنا هو تذكيرهم بأن الله هو الذي أراد بهم هذا الخير ، وهو الذي خلص قلوبهم من ذلك الشر : الكفر والفسوق والعصيان . وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلاً منه ونعمة . وأن ذلك كله كان عن علم منه وحكمة . . وفي تقرير هذه الحقيقة إيحاء لهم كذلك بالاستسلام لتوجيه الله وتدبيره ، والاطمئنان إلى ما وراءه من خير عليهم وبركة ، وترك الاقتراح والاستعجال والاندفاع فيما قد يظنونه خيراً لهم؛ قبل أن يختار لهم الله . فالله يختار لهم الخير ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، يأخذ بيدهم إلى هذا الخير . وهذا هو التوجيه المقصود في التعقيب .
وإن الإنسان ليعجل ، وهو لا يدري ما وراء خطوته . وإن الإنسان ليقترح لنفسه ولغيره ، وهو لا يعرف ما الخير وما الشر فيما يقترح . { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } ولو استسلم لله ، ودخل في السلم كافة ، ورضي اختيار الله له ، واطمأن إلى أن اختيار الله أفضل من اختياره ، وأرحم له وأعود عليه بالخير . لاستراح وسكن . ولأمضى هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب في طمأنينة ورضى . . ولكن هذا كذلك منة من الله وفضل يعطيه من يشاء .
ـــــــــــــ
(1/111)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين
قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } [الأنبياء/107]
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا وأَمْثَالِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ والأَحْكَامِ إِلاَّ لِرَحْمَةِ النَّاسِ ، وَهِدَايَاِهِمْ فِي شُؤُونِ دِينِهِمْ وَدُونْيَاهُمْ ، وَلاَ يَهْتَدِي بِهِ إٍِلاَّ المُتَهَيِّئُوْنَ لِتَقَبُّلِ الهُدَى .
ولقد أرسل الله رسوله رحمة للناس كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى ، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون المستعدون . وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين .
إن المنهج الذي جاء مع محمد - صلى الله عليه وسلم - منهج يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة .
ولقد جاءت هذه الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي : جاءت كتاباً مفتوحاً للعقول في مقبل الأجيال ، شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل ، مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
ولقد وضع هذا الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة . وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة ، واستنباط وسائل تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها ، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم .
وكفل للعقل البشري حرية العمل ، بكفالة حقه في التفكير ، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل بالتفكير . ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر ، كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض .
ولقد دلت تجارب البشرية حتى اللحظة على أن ذلك المنهج كان وما يزال سابقاً لخطوات البشرية في عمومه . قابلاً لأن تنمو الحياة في ظلاله بكل ارتباطاتها نمواً مطرداً . وهو يقودها دائماً ، ولا يتخلف عنها ، ولا يقعد بها ، ولا يشدها إلى الخلف ، لأنه سابق دائماً على خطواتها متسع دائماً لكامل خطواتها .
وهو في تلبيته لرغبة البشرية في النمو والتقدم لا يكبت طاقاتها في صورة من صور الكبت الفردي أو الجماعي ، ولا يحرمها الاستمتاع بثمرات جهدها وطيبات الحياة التي تحققها .
وقيمة هذا المنهج أنه متوازن متناسق . لا يعذب الجسد ليسمو بالروح ، ولا يهمل الروح ليستمتع الجسد . ولا يقيد طاقات الفرد ورغائبه الفطرية السليمة ليحقق مصلحة الجماعة أو الدولة . ولا يطلق للفرد نزواته وشهواته الطاغية المنحرفة لتؤذي حياة الجماعة ، أو تسخرها لإمتاع فرد أو أفراد .
وكافة التكاليف التي يضعها ذلك المنهج على كاهل الإنسان ملحوظ فيها أنها في حدود طاقته ، ولمصلحته؛ وقد زود بالاستعدادات والمقدرات التي تعينه على أداء تلك التكاليف ، وتجعلها محببة لديه مهما لقي من أجلها الآلام أحياناً لأنها تلبي رغيبة من رغائبه ، أو تصرف طاقة من طاقاته .
ولقد كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية ، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الواقعية والروحية من مسافة . ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئاً فشيئاً من آفاق هذه المبادئ . فتزول غرابتها في حسها ، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عنوانات أخرى .
لقد جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية الجغرافية . لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد . . وكان هذا غريباً على ضمير البشرية وتفكيرها وواقعها يومذاك . والأشراف يعدون أنفسهم من طينة غير طينة العبيد . . ولكن ها هي ذي البشرية في خلال نيف وثلاثة عشر قرناً تحاول أن تقفو خطى الإسلام ، فتتعثر في الطريق ، لأنها لا تهتدي بنور الإسلام الكامل . ولكنها تصل إلى شيء من ذلك المنهج ولو في الدعاوى والأقوال وإن كانت ما تزال أمم في أوربا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها الإسلام منذ نيف وثلاث مائة وألف عام .
ولقد جاء الإسلام ليسوي بين جميع الناس أمام القضاء والقانون . في الوقت الذي كانت البشرية تفرق الناس طبقات ، وتجعل لكل طبقة قانوناً . بل تجعل إرادة السيد هي القانون في عهدي الرق والإقطاع . . فكان غريباً على ضمير البشرية يومذاك أن ينادي ذلك المنهج السابق المتقدم بمبدأ المساواة المطلقة أمام القضاء .. ولكن ها هي ذي شيئاً فشيئاً تحاول أن تصل ولو نظرياً إلى شيء مما طبقة الإسلام عملياً منذ نيف وثلاث مائة وألف عام .
وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - إنما أرسل رحمة للعالمين . من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء . فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة ، شاعرة أو غير شاعرة؛ وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة ، لمن يريد أن يستظل بها ، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية ، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام .
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها . وهي قلقة حائرة ، شاردة في متاهات المادية ، وجحيم الحروب ، وجفاف الأرواح والقلوب . .
ـــــــــــــ
(1/112)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - صاحب الخلق العظيم
قال تعالى :{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم/4]
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، وَلَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ ، فَقَدْ كَانَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِ كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ( خُلُقُهُ القُرْآنُ ) .
تتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم ; ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود ! ويعجز كل قلم , ويعجز كل تصور , عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود , وهي شهادة من الله , في ميزان الله , لعبد الله , يقول له فيها:(وإنك لعلى خلق عظيم) . ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين !
ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تبرز من نواح شتى:
تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال , يسجلها ضمير الكون , وتثبت في كيانه , وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله .
وتبرز من جانب آخر , من جانب إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقيها . وهو يعلم من ربه هذا , قائل هذه الكلمة . ما هو ? ما عظمته ? ما دلالة كلماته ? ما مداها ? ما صداها ? ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة , التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين .
إن إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقي هذه الكلمة , من هذا المصدر , وهو ثابت , لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب . . تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن . . هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل .
ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة , وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة . وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه . ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر . أعظم بصدورها عن العلي الكبير . وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير , وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا . لا يتكبر على العباد , ولا ينتفخ , ولا يتعاظم , وهو الذى سمع ما سمع من العلى الكبير !
والله أعلم حيث يجعل رسالته . وما كان إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعظمة نفسه هذه - من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى . فيكون كفئا لها , كما يكون صورة حية منها .
إن هذه الرسالة من الكمال والجمال , والعظمة والشمول , والصدق والحق , بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء . فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء . في تماسك وفي توازن , وفي طمأنينة . طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم . ثم يتلقى - بعد ذلك - عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته , بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة . ويعلن هذه كما يعلن تلك , لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك . . وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم . والعبد الطائع . والمبلغ الأمين .
إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة . وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة . وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر . وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها . وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار !
ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الكلمة من ربه , وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان . . لقد كان - وهو بشر - يثني على أحد أصحابه , فيهتزكيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم . . وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر . وأصحابه يدركون أنه بشر . إنه نبي نعم . ولكن في الدائرة المعلومة الحدود . دائرة البشرية ذات الحدود . . فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله . وهو يعلم من هو الله . هو بخاصة يعلم من هو الله ! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه . ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير . . . إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير !!!
إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة . . إنه محمد - وحده - هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني . إنه محمد - وحده - هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية ; حتى لتتمثل في شخصه حية , تمشي على الأرض في إهاب إنسان . . إنه محمد - وحده الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام . والله أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم . وأعلن في الأخرى أنه - جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته , يصلي عليه هو وملائكته (إن الله وملائكته يصلون على النبي) . وهو - جل شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم .
ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله ; وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية .
والناظر في هذه العقيدة , كالناظر في سيرة رسولها , يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها , تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء . . الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد , ومطابقة القول للفعل , ومطابقتهما معا للنية والضمير ; والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل , والاعتداء على الحرمات والأعراض , وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور . . والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك , وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع . وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء .
والرسول الكريم يقول:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . . فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل . وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم . وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية , وصورة رفيعة , تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد:(وإنك لعلى خلق عظيم) . . فيمجد بهذا الثناء نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم , ويشد به الأرض إلى السماء , ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم .
وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام . فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة , ولا من اعتبارات أرضية إطلاقا ; وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل . إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء . تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق . وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة , كي يحققوا إنسانيتهم العليا , وكي يصبحوا أهلا لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض ; وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى:(في مقعد صدق عند مليك مقتدر) . . ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض ; إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر , لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد .
ثم إنها ليست فضائل مفردة:صدق . وأمانة . وعدل . ورحمة . وبر . . . . إنما هي منهج متكامل , تتعاونفيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية ; وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعا , وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله . لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة !
وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد - صلى الله عليه وسلم - وتمثلت في ثناء الله العظيم , وقوله:(وإنك لعلى خلق عظيم)
ـــــــــــــ
(1/113)
الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الناس
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) [المائدة/67]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُبَلِّغَ النَّاسَ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ لَيُبَلِّغَهُمْ إيَّاهُ ، وَقَدِ امْتَثَلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأَمْرِ رَبِّهِ .
وَيَقُولُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - : فَإِذَا لَمْ تَقُمْ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ لاَ تَكُونُ قَدْ بَلْغَتَ رِسَالَةَ رَبِّكَ . ثُمَّ يَقُولُ اللهُ لِرَسُولِهِ : لاَ تَخَفْ مِنْ أنْ يَصِلَ إلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِأَذًى ، فَأَنْتَ فِي حِفْظِ اللهِ وَرِعَايَتِهِ ، وَهُوَ يَمْنَعُكَ مِنْهُمْ ، وَيَحْفَظُكَ وَيُؤَيِّدُكَ بِنَصْرِهِ . وَاللهُ هُوَ الذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَهُوَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ إلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ .
( وَعَنْ عَائِشَةَ رِضْوَانَ اللهِ عَلَيْهَا أنَّهَا قَالَتْ : لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - كَاتِماً شَيْئاً مِنَ القًُرْآنِ لَكَتَمَ الأيَةَ { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } ) .
يبدو من السياق - قبل هذا النداء وبعده - أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه ، وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه . . ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء . . ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان . . ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم .ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين : { قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . . } .
وحينما كلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان . . بل ليسوا على شيء أصلاً يرتكن عليه! حينما كلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة ، كانوا يتلون كتبهم؛ وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية؛ وكانوا يقولون : إنهم مؤمنون . . ولكن التبليغ الذي كلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم به ، لم يعترف لهم بشيء أصلاً الا مما كانوا يزعمون لأنفسهم ، لأن « الدين » ، ليس كلمات تقال باللسان؛ وليس كتباً تقرأ وترتل؛ وليس صفة تورث وتدعى . إنما الدين منهج حياة . منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير ، والعبادة الممثلة في الشعائر ، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج . . ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه ، فقد كلف « الرسول » - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين؛ وليسوا على شيء أصلاً من هذا القبيل!
وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ، مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه . وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل - كما أخبر الله وهو أصدق القائلين - فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم : ( سواء كان المقصود بقوله : { وما أنزل إليهم من ربهم } هو القرآن - كما يقول بعض المفسرين - أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود ) . . نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد ، الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه . . فهم ليسوا على شيء - بشهادة الله سبحانه - حتى يدخلوا في الدين الاخير . . والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم؛ وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم؛ وإلا فما بلغ رسالة ربه . . ويا له من تهديد!
وكان الله - سبحانه - يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة ، وبهذه الكلمة الفاصلة ، ستؤدي إلى أن تزيد كثيراً منهم طغياناً وكفراً ، وعناداً ولجاجاً . . ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بها؛ وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والظلال والشرود بسبب مواجهتهم بها؛ لأن حكمته - سبحانه - تقتضي أن يصدع بكلمة الحق؛ وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق .فيهتدي من يهتدي عن بينة ، ويضل من يضل عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة :
{ وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ، فلا تأس على القوم الكافرين } . .
وكان الله - سبحانه - يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة؛ ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج؛ ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون ، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغياناً وكفراً؛ فهم يستحقون هذا المصير البائس؛ لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق؛ ولا خير في أعماقها ولا صدق . فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق؛ ليظهر ما كمن فيها وما بطن؛ ولتجهر بالطغيان والكفر؛ ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين!
ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب - على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ضوء نتائجه التي قدر الله أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغياناً وكفراً . . فماذا نجد . . ؟
نجد أن الله - سبحانه - يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعاً لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان بالله والنبي . في المواضع الأخرى المتعددة . . فهم إذن لم يعودوا على « دين الله » ولم يعودوا أهل « دين » يقبله الله .
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم الله أنها ستزيد الكثيرين منهم طغياناً وكفراً . . ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة . ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها!
فإذا نحن اعتبرنا كلمة الله في هذه القضية هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب . . أهل دين . . يستطيع « المسلم » أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين؛ كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم؛ حتى يعتبرهم المسلم « على شيء » وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف!
وإذا نحن اعتبرنا كلمة الله هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يكن لنا أن نحسب حساباً لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة ، في هياجهم علينا ، وفي اشتداد حربهم لنا ، ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه ، ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه - كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس .
إن الله - سبحانه - لا يوجهنا هذا التوجيه . ولا يقبل منا هذا الاعتراف . ولا يغفر لنا هذا التناصر ، ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه . لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر؛ ونختار في أمرنا غير ما يختار؛ ونعترف بعقائد محرفة أنها « دين » إلهي ، يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي . . والله يقول : إنهم ليسوا على شيء ، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وهم لا يفعلون!
والذين يقولون : إنهم مسلمون - ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم - هم كأهل الكتاب هؤلاء ، ليسوا على شيء كذلك . فهذه كلمة الله عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء . والذي يريد أن يكون مسلماً يجب عليه - بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته - أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه . وأن دعواهم أنهم على دين ، يردها عليهم رب الدين . فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة؛ ودعوتهم إلى « الإسلام » من جديد هي واجب « المسلم » الذي أقام كتاب الله في نفسه وفي حياته . فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاماً ، ولا تحقق إيماناً ، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله ، في أي ملة ، وفي أي زمان!
وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك؛ ويقيموا كتاب الله في حياتهم؛ يملك « المسلم » أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين ، عن « الدين » وعن « المتدينين » . . فأما قبل ذلك فهو عبث؛ وهو تمييع ، يقوم به خادع أو مخدوع!
إن دين الله ليس راية ولا شعاراً ولا وراثة! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء . تتمثل في عقيدة تعمر القلب ، وشعائر تقام للتعبد ، ونظام يصرف الحياة . . ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل؛ ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم . . وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة ، وخداع للضمير؛ لا يقدم عليه « مسلم » نظيف الضمير!
وعلى « المسلم » أن يجهر بهذه الحقيقة؛ ويفاصل الناس كلهم على أساسها؛ ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة . والله هو العاصم . والله لا يهدي القوم الكافرين
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله؛ ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس ، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة؛ ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته ، بلا مجاملة ولا مداهنة . . فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء ، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه ، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماماً غير ما هم عليه .. يدعوهم إلى نقلة بعيدة ، ورحلة طويلة ، وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم . . فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه . . { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة } وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق ، وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم . . حين يفعل صاحب الدعوة هذا - مراعاة للظروف والملابسات ، وحذراً من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم - فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم ، لأنه لم يعرّفهم حقيقة المطلوب منهم كله ، وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه الله تبليغه!
إن التلطف في دعوة الناس إلى الله ، ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية ، لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها . . إن الحقيقة يجب إن تبلغ إليهم كاملة . أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة ، ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة . .
ولقد ينظر بعضنا اليوم - مثلاً - فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية . وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض ، وهم أصحاب كلمة مسموعة ، في الشئون الدولية . وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة . وينظر فيرى الذين يقولون : إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم . . فيتعاظمه الأمر ، ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة ، ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شيء! وأن يبين لهم « الدين » الحق!
وليس هذا هو الطريق . . إن الجاهلية هي الجاهلية - ولو عمت أهل الأرض جميعاً - وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله الحق ، وواجب صاحب الدعوة هو واجبه لا تغيره كثرة الضلاَّل؛ ولا ضخامة الباطل . . فالباطل ركام . . وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة : أنهم ليسوا على شيء . . كذلك ينبغي أن تستأنف . . وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وناداه : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس . إن الله لا يهدي القوم الكافرين . قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } .
ـــــــــــــ
(1/114)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرفض الدعاء على قومه
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا »(1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ، أَنَّ عَائِشَةَ ، قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ : لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمَكِ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَنَادَانِي ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكُ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ : فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.(2)
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ ، وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِى فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ »(3).
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَعْنِي هَذَا الدُّعَاءُ أَنَّهُ ، قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ ، قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي ذَنْبَهُمْ بِي مِنَ الشَّجِّ لِوَجْهِي ، لاَ أَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْكُفَّارِ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَلَوْ دَعَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ لَأَسْلَمُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لاَ مَحَالَةَ.(4)
وعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَشُجَّ وَجْهُهُ حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَقَالَ : كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ ، فَنَزَلَتْ : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .(5)
وعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَسْلُتُ الدَّمُ عَنْ وَجْهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} .(6)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَكَى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ حَتَّى أَدْمَوْا وَجْهَهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَيَقُولُ : رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.(7)
ـــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى(3231 ) و صحيح مسلم (4754 )
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 516) (6561) صحيح
(3) - صحيح البخارى(3477 ) ومسلم (4747 )
(4) - صحيح ابن حبان - (ج 3 / ص 254) (973) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 536) (6574) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 536) (6575) صحيح
(7) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 538) (6576) صحيح
(1/115)
من استغفر له الرسول غفر الله له
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) [النساء/64]
مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي رُسُلِهِ أنَّهُ لاَ يُرْسِلُهُمْ إلاَّ لِيُطَاعُوا بِإِذْنِ اللهِ ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمْ ، أَوْ رَغِبَ عَنْ حُكْمِهِمْ ، خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَسُنَّتِهِ ، وَارْتَكَبَ إثْماً عَظِيماً . وَلًوْ أنَّ هَؤُلاءِ القَوْمَ ، حِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَرَغِبُوا عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللهِ إلى حُكْمِ الطَّاغُوتِ ، جَاؤُوا الرَّسُولَ ، عَقِبَ الذَّنْبِ مُبَاشَرَةً ، فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ، وَأَظْهَرُوا نَدَمَهُمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ لِيَصْفَحَ عَنْهُمْ ، لاعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقْهِ ، وَلِيَدْعُوَ لَهُمْ بِالمَغْفِرَةِ ، وَلَوْ أنَّ الرَّسُولَ دَعَا لَهُمْ بِالمَغْفِرَةِ ، لَتَقَبَّلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ ، وَلَغَمَرَهُمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ ، وَلَشَمِلَهُمْ بِعَفْوِهِ ، فَرَحْمَةُ اللهِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ( وَسَمَّى اللهُ تَعَالَى تَرْكَ طَاعَةِ الرَّسُولِ ظُلْماً لِلنَّفْسِ أَيْ إِفْسَاداً لَهَا ) .
وهذه حقيقة لها وزنها . . إن الرسول ليس مجرد « واعظ » يلقي كلمته ويمضي . لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل؛ أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول « الدين » .
إن الدين منهج حياة . منهج حياة واقعية . بتشكيلاتها وتنظيماتها ، وأوضاعها ، وقيمها ، وأخلاقها وآدابها . وعباداتها وشعائرها كذلك .
وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان . سلطان يحقق المنهج ، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ . . والله أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين . منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة . وما من رسول إلا أرسله الله ، ليطاع ، بإذن الله . فتكون طاعته طاعة لله . . ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني ، والشعائر التعبدية . . فهذا وهم في فهم الدين؛ لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل . وهي إقامة منهج معين للحياة ، في واقع الحياة . . وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظاً . لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي . يستهتر بها المستهترون ، ويبتذلها المبتذلون!!!
ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان . . كان دعوة وبلاغاً . ونظاماً وحكماً . وخلافة بعد ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقوم بقوة الشريعة والنظام ، على تنفيذ الشريعة والنظام . لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول . وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسول . وليست هنالك صورة أخرى يقال لها : الإسلام . أو يقال لها : الدين . إلا أن تكون طاعة للرسول ، محققة في وضع وفي تنظيم . ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف؛ ويبقى أصلها الثابت . وحقيقتها التي لا توجد بغيرها . . استسلام لمنهج الله ، وتحقيق لمنهج رسول الله . وتحاكم إلى شريعة الله . وطاعة للرسول فيما بلغ عن الله ، وإفراد لله - سبحانه - بالألوهية ( شهادة أن لا إله إلا الله ) ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقاً لله ، لا يشاركه فيه سواه .وعدم احتكام إلى الطاغوت . في كثير ولا قليل . والرجوع إلى الله والرسول ، فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة ، والأحوال الطارئه؛ حين تختلف فيه العقول . .
وأمام الذين { ظلموا أنفسهم } بميلهم عن هذا المنهج ، الفرصة التي دعا الله المنافقين إليها على عهد رسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - ورغبهم فيها . .
{ ولو أنهم - إذ ظلموا أنفسهم - جاءوك ، فاستغفروا الله ، واستغفر لهم الرسول ، لوجدوا الله تواباً رحيماً } . .
والله تواب في كل وقت على من يتوب . والله رحيم في كل وقت على من يؤوب . وهو - سبحانه - يصف نفسه بصفته . ويعد العائدين إليه ، المستغفرين من الذنب ، قبول التوبة وإفاضة الرحمة . . والذين يتناولهم هذا النص ابتداء ، كان لديهم فرصة استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد انقضت فرصتها . وبقي باب الله مفتوحاً لا يغلق . ووعده قائماً لا ينقض . فمن أراد فليقدم . ومن عزم فليتقدم . .
ـــــــــــــ
(1/116)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم عليه السلام
قال تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) [البقرة/127-129]
وَاذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ حِينَما كَانَ يَرْفَعُ إِبراهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ القَوَاعِدَ وَالآسَاسَ مِنَ الكَعْبَةِ ، وَيَدْعُوَانِ رَبَّهُمَا أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمَا عَمَلَهُمَا ، لأَنَّهُمَا يَقُومَانِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ ، فَهُو تَعَالَى الذِي يَسْمَعُ الدُّعَاءَ ، وَهُوَ الذِي يَعْلَمُ النِّيَاتِ . فَمَصْدَرُ شَرَفِ الكَعْبَةِ أَنَّها بُنِيَتْ عَلَى اسْمِ اللهِ ، وَلِعبَادَةِ اللهِ فِي تِلْكَ الأَرْضِ ، التِي تَطْغَى عَلَيهَا الوَثَنِيَّةُ ، لاَ لأَحْجَارِهَا وَلاَ لِمَوْقِِهَا .
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُخْلِصَيْنِ لَكَ فِي العِبَادَةِ ، مُسْتَسْلِمَيْنِ لأَمْرِكَ وَقَضَائِكَ ، خَاضِعَيْنِ لِطَاعَتِكَ ، لاَ نُشْرِكُ مَعَكَ فِي العِبَادَةِ أَحَداً ، وَاجْعَلْ مَنْ ذُرِّيتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ تَعْبُدُكَ ، وَلاَ تُشْرِكُ بِكَ شَيْئاً ، لِيَسْتَمِرَّ الإسْلاَمُ بِقُوّةِ الأُمَّةِ ، وَتَعَاوُنِ الجَمَاعَةِ ، وَعَلِّمْنا مَنَاسِكَ حَجِّنَا ، وَوَفِّقْنَا لِنَتُوبَ إِليكَ ، وَنَرْجِعَ إِليكَ مِنَ كُلِّ عَمَلٍ يَشْغَلُنا عَنْكَ ، وَأَنْتَ يَا رَبِّ الكَثِيرُ التَّوْبِ ، الرَّحيمُ بِالتَّائِبينَ .
( وَقَدْ صَحِبَ جِبْرِيلُ ، عَلَيهِ السَّلامُ ، إِبراهيمَ إِلى مِنىً وَعَرَفَاتٍ وَالمشْعَرِ الحَرَامِ ، لِيُرِيَهُ المَنَاسِكَ ، وَالأَعْمَالَ الوَاجِبَ إِتمَامُها فِي الحَجِّ ، وَفِي الطَّرِيقِ عَرَضَ إبليسُ لإِبراهِيمَ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، فَذلِكَ سَبَبُ رَمْيِ الجمارِ ) .
أَرِنَا مَنَاسِكَنَا - عَلِّمْنا مَنَاسِكَ حَجِّنا .
المَنْسَكُ - المَكَانُ المُقَدَّسُ ، وَيُقْصَدُ بِالمَنَاسِكِ هُنَا الأَفْعَالُ التِي يَقُومُ الحَاجُّ بِها . كَالطَّوافِ وَالوُقٌوفِ فِي عَرَفَاتٍ وَمِنىً .
وَأَتَمَّ إِبراهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ ، عَلَيْهِما السَّلامُ ، دَعْوَتَهُمَا لأَهْلِ الحَرَمِ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ( أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبراهِيمَ ) يَتْلُو عَلَيهِمْ آياتِ اللهِ ، وَيُعَلِّمُهُمُ القُرآنَ ( الكِتَابَ ) وَيُعَلّمُهُمْ أَسْرَارَ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدَهَا بِسِيرَتِهِ فِي المُسْلِمِينَ ، فَيَكُونُ قُدْوَةً لَهُمْ ( السُّنَّةُ ) وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ ( يُعَلِّمُهُمُ الحِكْمَةَ ( أَيْ إِنَّ الرَّسُولَ يُعَلِّمُهُمُ الخَيْرَ فَيَفْعَلُونَهُ ، وَيُبَصِّرُهُمْ بِالشَّرِّ فَيَجْتَنِبُونَهُ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِرِضَا اللهِ عَنْهُمْ إِذَا أَطَاعُوهُ ، لِيسْتَكْثِرُوا مِنْ طَاعَتِهِ ، وَيَجْتَنِبُوا مَا يُسْخِطُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ) .
وَخَتَمَا دَعْوَتَهُمَا بِقُوْلِهِما : إِنَّكَ يَا رَبِّ أَنْتَ العَزيزُ الذِي لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ ، القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ ، الحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوالِهِ وَشَرْعِهِ فَيَضَعُ الأَشْيَاءَ فِي مَحَالِّهَا لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ .فنغمة الدعاء ، وموسيقى الدعاء ، وجو الدعاء . . كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة . . وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل . رد المشهد الغائب الذاهب ، حاضراً يسمع ويرى ، ويتحرك ويشخص ، وتفيض منه الحياة . . إنها خصيصة « التصوير الفني » بمعناه الصادق ، اللائق بالكتاب الخالد .
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة ، وإيمان النبوة ، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود . وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء ، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء : { ربنا تقبل منا . إنك أنت السميع العليم } . .إنه طلب القبول . . هذه هي الغاية . . فهو عمل خالص لله . الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله . والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول . . والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء . عليهم بما وراءه من النية والشعور .
ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك . وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } .إنه رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام؛ والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع الرحمن؛ وأن الهدى هداه ، وأنه لا حول لهما ولا قوة إلا بالله ، فهما يتجهان ويرغبان ، والله المستعان . ثم هو طابع الأمة المسلمة . . التضامن . . تضامن الأجيال في العقيدة : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } . . وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن .
إن أمر العقيدة هو شغله الشاغل ، وهو همه الأول . وشعور إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما . . نعمة الإيمان . . تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما ، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام . . لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان؛ وأن يريهم جميعاً مناسكهم ، ويبين لهم عباداتهم ، وأن يتوب عليهم . بما أنه هو التواب الرحيم .
ثم ألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة :{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . إنك أنت العزيز الحكيم } . .
وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون . بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يتلو عليهم آيات الله ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من الأرجاس والأدناس . إن الدعوة المستجابة تستجاب ، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته . غير أن الناس يستعجلون! وغير الواصلين يملون ويقنطون!
وبعد فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر بين اليهود والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف . إن إبراهيم وإسماعيل اللذين عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والمصلين ، وهما أصل سادني البيت من قريش . . إنهما يقولان باللسان الصريح : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } . . { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } . . كما يقولان باللسان الصريح : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } . . وهما بهذا وذاك يقرران وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم ، ووراثتها للبيت الحرام سواء . وإذن فهو بيتها الذي تتجه إليه ، وهي أولى به من المشركين . وهو أولى بها من قبلة اليهود والمسيحيين!
وإذن فمن كان يربط ديانته بإبراهيم من اليهود والنصارى ، ويدعي دعاواه العريضة في الهدى والجنة بسبب تلك الوراثة ، ومن كان يربط نسبه بإسماعيل من قريش . . فليسمع : إن إبراهيم حين طلب الوراثة لبنيه والإمامة ، قال له ربه : { لا ينال عهدي الظالمين } . . ولما أن دعا هو لأهل البلد بالرزق والبركة خص بدعوته : { من آمن بالله واليوم الآخر } . . وحين قام هو وإسماعيل بأمر ربهما في بناء البيت وتطهيره كانت دعوتهما : أن يكونا مسلمين لله ، وأن يجعل الله من ذريتهما أمة مسلمة ، وأن يبعث في أهل بيته رسولاً منهم . . فاستجاب الله لهما ، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله ، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله . الوارثة لدين الله .
ـــــــــــــ
(1/117)
من صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتوراة
قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف/157]
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ الذِينَ يَشْمَلُهُمْ بِرَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ فَيَقُولُ : إِنَّهُمْ الذِينَ يَتَّبِعُونَ مُحَمَّداً النَّبيِّ الأُمِّيَّ ، الذِي لاَ يَكْتُبُ وَلاَ يَقْرَأُ ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ وَالبِشَارَةُ بِهِ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ الخَيْرَاتِ ، وَبِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، وَيَضَعُ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ ، كَاشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ ، وَالقِصَاصِ فِي القَتْلِ العَمْدِ أَوِ الخَطَإِ ، مِنْ غَيْرَ شَرْعٍ لِلدِّيَةِ ، وَقَطْعِ الأَعْضَاءِ الخَاطِئَةِ ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ ، وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ . . . فَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِمَا هُوَ يُسْرٌ وِسَمَاحَةٌ .
[ وَقَالَ رَسُولُ اللهُ - صلى الله عليه وسلم - يُوصِي أَمِيرِينِ أَرْسَلَهُمَا فِي بَعْثَينِ إِلى اليَمَنِ : " بَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا " ] .
وَوَسَّعَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أُمُورَهَا ، وَسَهَّلَهَا لَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَالذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُميِّ ، حِينَ بُعِثَ ، مِنْ قَومِ مُوسَى وَعِيسَى ، وَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ، وَعَزَّرُوهُ بِأَنْ مَنَعُوهُ وَحَمَوْهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ ، مَعَ التَّعْظِيمِ وَالإِجْلاَلِ ، وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الأَعْظَمَ الذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ ، وَهُوَ القُرآنُ . . فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ، الفَائِزُونَ بالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ .
وإنه لنبأ عظيم ، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي ، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى - عليهما السلام - منذ أمد بعيد .جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، وبمنهج رسالته ، وبخصائص ملته . فهو « النبي الأمي » ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به . وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ، ويؤمنون بآيات الله . . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي؛ ويعظمونه ويوقرونه ، وينصرونه ويؤيدونه ، ويتبعون النور الهادي الذي معه { أولئك هم المفلحون } . .وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل- على يد نبيهم موسى عليه السلام - كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه ، وعن حامل رايته ، وعن طريق أتباعه ، وعن مستقر رحمته . . فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة ، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين .وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام - وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه - يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به . وفيه التخفيف عنهم والتيسير ، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين!
إنها الجريمة عن علم وعن بينة! والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً . . فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به . . اليهود أولاً والصليبيون أخيراً . . وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية؛ وأنهم أصروا عليها ودأبوا؛ وما يزالون يصرون ويدأبون!
والذي يراجع - فقط - ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين - وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق - يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم!
والذي يراجع التاريخ بعد ذلك - منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة ، وقامت له دولة - إلى اللحظة الحاضرة ، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود!
ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب ، والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية . . وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته؛ وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة . . لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها - بالإضافة إلى ما استحدثته منها - جملة واحدة!
ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان؛ ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس - سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد ( المستقلة! ) لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية! تنكر « الغيبية » لأنها « علمية »! و « تطوّر » الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في « حرية! » ، و « تطوّر » كذلك الفقه الإسلامي ، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره .كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية!!
إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين ، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد . ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد!
ــــــــــــ
وجوب مقاتلة من هم بإخراج الرسول
قال تعالى : { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) [التوبة/13-15]
يَحُضُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِ المُشْرِكِينَ ، الذِينَ يَنْكُثُونَ عَهْدَهُمْ ، وَقَدْ سَبَقَ لَهُمْ أَنْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ ، وَهُمُ الذِينَ بَدَؤُوكُمْ بِالقِتَالِ أوَّلَ مَرَّةٍ ، إِذْ خَرَجُوا إلَى بَدْرٍ لِنُصْرَةِ عِيرِهِمْ وَإِنْقَاذِهَا ، ثُمَّ يَطْلُبُ اللهُ تَعَالَى إِلَى المُؤْمِنِينَ أَنْ لاَ يَخْشَوا الكُفْرَ وَأَهْلَهُ ، وَيَقُولُ لَهُمْ : إِنَّ الذِي يَسْتَحِقُّ الخَشْيَةَ وَالخَوْفَ مِنْهُ هُوَ اللهُ ذُو السَطْوَةِ وَالعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ . فَالمُؤْمِنُونَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً غَيْرَ اللهِ ، وَلاَ يَخَافُونَ سِوَاهُ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ .
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الكُفَّارِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ تَعَالَى سَيُعَذِّبُهُمْ بِأَيْدِي المُؤْمِنِينَ ، وَيُمَكِّنُ المُؤْمِنِينَ مِنْ رِقَابِهِمْ ، وَيُخْزِيهِمْ وَيُذِلُّهُمْ بَالأَسْرِ وَالقَهْرِ وَالهَزِيمَةِ ، وَيَنْصُرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِمْ ، وَيَشْفِي صُدُورَ قَوْمٍ اعْتَدَى الكَافِرُونَ عَلَيْهِم ، ( مِثْلِ خُزَاعَة ، وَالمُسْتَضْعَفِينَ فِي مَكَّةَ الذِينَ لَمْ يَسْتَطِيعُوا اللِّحَاقَ بِإِخْوَانِهِم المُؤْمِنِينَ إلى دَارِ الهِجْرَةِ ) .
وَيُذْهِبَ اللهُ بِنَصْرِكُمْ عَلَى الكَافِرِينَ ، مَا فِي قُلُوبِ هَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْظٍ عَلَى جَمَاعَةِ الكُفْرِ ، بِسَبَبِ غَدْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، مِنْ غَيْرِ هَؤُلاَءِ ، وَيُوَّفِقَهُمْ لِلإِيمَانِ وَيَتَقَبَّلَهُ مِنْهُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ .
إن تاريخ المشركين مع المسلمين كله نكث للأيمان ، ونقض للعهود . وأقرب ما كان من هذا نقضهم لعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية . ولقد قبل - صلى الله عليه وسلم - من شروطهم - بإلهام من ربه وهداية - ما حسبه بعض أفاضل أصحابه قبولاً للدنية! ووفى لهم بعهده أدق ما يكون الوفاء وأسماه ، ولكنهم هم لم يفوا ، وخاسوا بالعهد عامين اثنين ، عند أول فرصة سنحت . . كما أن المشركين هم الذين هموا بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل في مكة؛ وبيتوا أمرهم في النهاية على قتله قبل الهجرة . وكان هذا في بيت الله الحرام الذي يأمن فيه القاتل منهم على دمه وماله؛ حتى لكان الواحد يلقى قاتل أخيه أو أبيه في الحرم فلا يمسه بسوء . أما محمد رسول الله ، الداعي إلى الهدى والإيمان وعبادة الله وحده ، فلم يرعوا معه هذه الخصلة؛ وهموا بإخراجه؛ ثم تآمروا على حياته؛ وبيتوا قتله في بيت الله الحرام ، بلا تحرج ولا تذمم مما يتحرجون منه ويتذممون مع أصحاب الثارات! .
. كذلك كانوا هم الذين هموا بقتال المسلمين وحربهم في المدينة . فهم الذين أصروا - بقيادة أبي جهل - على ملاقاة المسلمين بعد أن نجت القافلة التي خرجوا لها؛ ثم قاتلوهم بادئين في أحد وفي الخندق . ثم جمعوا لهم في حنين كذلك . . وكلها وقائع حاضرة أو ذكريات قريبة؛ وكلها تنم عن الإصرار الذي يصفه قول الله تعالى : { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } كما تنم عن طبيعة العلاقة بين المعسكر الذي يعبد آلهة من دون الله تجاه المعسكر الذي لا يعبد إلا الله . .
وحين يستعرض السياق هذا الشريط الطويل من الذكريات والمواقف والأحداث ، في هذه اللمسات السريعة العميقة الإيقاع في قلوب المسلمين ، يخاطبهم :{ أتخشونهم؟ } . .فإنهم لا يقعدون عن قتال المشركين هؤلاء إلا أن تكون هي الخشية والخوف والتهيب!
ويعقب على السؤال بما هو أشد استجاشة للقلوب من السؤال : { فالله أحق أن تخشوه ، إن كنتم مؤمنين } . .إن المؤمن لا يخشى أحداً من العبيد . فالمؤمن لا يخشى إلا الله ، فإذا كانوا يخشون المشركين فالله أحق بالخشية ، وأولى بالمخافة؛ وما يجوز أن يكون لغيره في قلوب المؤمنين مكان!
وإن مشاعر المؤمنين لتثور؛ وهي تستجاش بتلك الذكريات والوقائع والأحداث . . وهم يذكرون بتآمر المشركين على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - . . وهم يستعرضون نكث المشركين لعهودهم معهم وتبييتهم لهم الغدر كلما التمسوا منهم غرة ، أو وجدوا في موقفهم ثغرة . وهم يتذكرون مبادأة المشركين لهم بالعداء والقتال بطراً وطغياناً . . وفي غمرة هذه الثورة يحرض المؤمنين على القتال : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ، وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم }
قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته ، وأداة مشيئته ، فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة وهم يتخايلون بالقوة ، وينصركم عليهم ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون . يشفها من غيظها المكظوم ، بانتصار الحق كاملاً ، وهزيمة الباطل ، وتشريد المبطلين . .
وليس هذا وحده ولكن خيراً آخر يُنتظر وثواباً آخر يُنال : { ويتوب الله على من يشاء } . .
فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان ، ويفتح بصيرتهم على الهدى حين يرون المسلمين يُنصرون ، ويحسون أن قوة غير قوة البشر تؤيدهم ، ويرون آثار الإيمان في مواقفهم - وهذا ما كان فعلاً - وعندئذٍ ينال المسلمون المجاهدون أجر جهادهم ، وأجر هداية الضالين بأيديهم؛ وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين : { والله عليم حكيم } .عليم بالعواقب المخبوءة وراء المقدمات . حكيم يقدر نتائج الأعمال والحركات .
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوباً كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف ، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ . وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة ، مرهوبة الجانب ، عزيزة الجناب.على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة ، إلا وعداً واحداً : هو الجنة .ولم يكن يأمرها إلا أمراً واحداً : هو الصبر . . فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب ، آتاها الله النصر؛ وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به . ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته . وإن هي إلا ستار لقدرته . .
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة ، وأن تنبذ عهود المشركين كافة؛ وأن يقف المسلمون إزاءهم صفاً . . لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا والخبايا ، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة ، والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب ، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة . . لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير ، وإعلان المفاصلة للجميع ، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة ، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة ، يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين ، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة : { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ، والله خبير بما تعملون } . .
لقد كان في المجتمع المسلم - كما هو الحال عادة - فئة تجيد المداورة ، وتنفذ من الأسوار . وتتقن استخدام الأعذار . وتدور من خلف الجماعة ، وتتصل بخصومها استجلاباً للمصلحة ولو على حساب الجماعة ، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات . فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة ، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار .
وإنه لمن مصلحة الجماعة ، ومن مصلحة العقيدة ، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج ، وتعرف المداخل ، فيمتاز المكافحون المخلصون ، ويكشف المداورون الملتوون ، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته ، وإن كان الله يعلمهم من قبل :{ والله خبير بما تعملون } . .
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم . وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف ، وتتمحص القلوب . ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات .
ـــــــــــــ
(1/118)
حل الغنائم لنا دون غيرنا من الأمم السابقة
قال تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) } [الأنفال/41]
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ طَرِيقَةَ قِسْمَةِ المَغَانِمِ التِي يَغْنَمُها المُسْلِمُونَ فِي الحَرْبِ . وَالغَنِيمَةِ هِيَ المَالُ المَأْخُوذُ مِنَ الكُفَّارِ بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ . أَمَّا الفَيْءُ فَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ ( أَيْ بُدُونِ حَرْبٍ أَوْ بِدُونِ خُرُوجِ جُيُوشِ المُسْلِمِينَ إلَى الأَعْدَاءِ : كَالأَمْوَالِ التِي يُصَالِحُونَ عَلَيْهَا ، أَوْ يَمُوتُونَ عَنْهَا دُونَ وَارِثٍ لَهُمْ ، وَالخَرَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ) .
يَقُولُ تَعَالَى : اعْلَمُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ أَنَّ كُلَّ مَا غَنِمْتُمُوهُ مِنَ الكُفَّارِ المُحَارِبِينَ فَاجْعَلُوا أوَّلاً خُمْسَهُ للهِ تَعَالَى لِيُنْفِقَ فِيمَا يُرْضِيهِ مِنْ مَصَالِحِ الدَّينِ العَامَّةِ : كَالدَّعْوَةِ لِلإِسْلاَمِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ ، وَعِمَارَةِ الكَعْبَةِ وَكِسْوَتِها ، ثُمَّ أعْطُوا مِنْهُ لِلرَّسُولِ كِفَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَنِسَائِهِ مُدَّةَ سَنَةٍ ، ثُمَّ أعْطُوا مِنْهُ ذَوِي القُرْبَى مِنْ أهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ نَسَباً وَوَلاءً ( وَقَدْ خَصَّ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أَخِيهِ المُطَّلِبِ المُسْلِمِينَ ) ، ثُمَّ المُحْتَاجِينَ مِنْ سَائِرِ المُسْلِمِينَ ، وَهُمُ اليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ ، وَابْنُ السَّبِيلِ ( وَهُوَ المُجْتَازُ الذِي نَفِدَتْ نَفَقَتُهُ ) . وَهَذا الخُمْسُ يُدْفَعُ لِلإمَامِ ( بَعْدَ الرَّسُولِ ) لِيَصْرِفَهُ فِي الوُجُوهِ المُبَيَّنَةِ فِي الآيَةِ .
وَاليَتَامَى - هُمْ أَيْتَامُ المُسْلِمِينَ - وَقِيلَ : إِنَّ النَّصَّ عَامٌّ يَعُمُّ الأَغْنِيَاءَ مِنَ الأَيْتَامِ وَالفُقَرَاءَ .
المَسَاكِينِ - هُمُ المُحْتَاجُونَ الذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَسُدُّونَ بِهِ خَلَّتَهُمْ .
وَابْنِ السَّبِيلِ - هُوَ المُسَافِرُ أَوْ المُريدُ السَّفَرَ مَسَافَةَ القّصْرِ ( أَيْ المَسَافَةُ التِي يُبَاحُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلاَةِ ) وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُهً فِي سَفَرِهِ .
أَمَّا الأَخْمَاسُ الأَرْبَعَةُ البَاقِيَةُ فَهِيَ لِلْمُقَاتِلِينَ فَاعْلَمُوا ذَلِكَ ، وَاعْمَلُوا بِهِ ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ حَقّاً ، وَآمَنْتُمْ بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ آيَاتِ التَّثْبِيتِ وَالمَدَدِ يَوْمَ الفُرْقَانِ الذِي فَرَقْنَا فِيهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، وَالإِيمَانِ وَالكُفْرِ ، وَهُوَ اليَوْمُ الذِي الْتَقَى فِيهِ جَمْعُكُمْ مَعْ جَمْعِ المُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ ، وَاللهُ عَظِيمُ القُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيءٍ .
-------------
وقال تعالى :{ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) } [الأنفال/69]
أَمَا وَإِنَّكُمْ قَدْ قَبِلْتُمُ الفِدَاءَ ، وَأَطْلَقْتُمُ الأَسَارَى ، فَكُلُوا مَا أَخْذْتُمْ مِنَ الفِدَاءِ حَلاَلاً طَيِّباً ، وَلاَ تَتَحَرَّجُوا مِنْ ذَلِكَ ، وَاتَّقُوا اللهَ الغَفُورَ الرَّحِيمَ .
{ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا } وهذا من لطفه تعالى بهذه الأمة، أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لأمة قبلها.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } في جميع أموركم ولازموها، شكرا لنعم اللّه عليكم،. { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } يغفر لمن تاب إليه جميع الذنوب،.ويغفر لمن لم يشرك به شيئا جميع المعاصي.
{ رَحِيمٌ } بكم، حيث أباح لكم الغنائم وجعلها حلالا طيبا.(1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ قَبْلَكُمْ كَانَتْ تَنْزِلُ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهَا . كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِى الْغَنَائِمِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) } [الأنفال/68، 69].(2)
ـــــــــــــ
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 326)
(2) - النَّسائي" في "الكبرى" (11145) صحيح
(1/119)
النبيُّ شاهد ومبشر ونذير
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) } [الأحزاب/45-47]
يَا أَيُّها الرَّسُولُ إِن اللهَ تَعَالى بَعَثَكَ شَاهِداً عَلَى مَنْ أُرْسِلْتَ إِليهِمِ ، تُرَاقِبُ أحْوَالَهُم ، وَتَرَى أَعْمَالَهُمْ ، وَتَشْهَدُ عَلَيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَرْسَلَكَ مُبَشِّراً لَهُمْ بِالجَنَّةِ إِنْ صَدَّقُوكَ ، وَعَمِلُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَمُنْذِراً لَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ إِنْ هُمْ كَذَّبُوكَ وَخَالَفُوا مَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ ، وَنَهَيْتَهُمْ عَنْهُ .
وَإِنَّهُ تَعَالَى بَعَثَكَ دَاعِياً الخَلْقَ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي السِّرِّ والعَلَنِ ، وَجَعَلَ أَمْرَكَ ظَاهِراً كالشَّمْسِ في إِشْرَاقِها وَإِضَاءَتِها لاَ يَجْحَدُها إِلاَّ مَكَابِرٌ .
( أَوْ إِن المَعْنى هُوَ : وَجَعَلْنَاكَ سَرَاجاً مُنيراً لِيَسْتَضِيءَ بِكَ الضَّالُّونَ ، وَيَتقْتَبِسَ مِنْ نُورِكَ المُهْتَدُونَ ) .
وَبَشِّرِ المُؤْمِنينَ بِأَنَّ لَهُمْ فَضَلاً كَبِيراً مِنَ اللهِ عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ ، وَسَيُلْقِي اللهُ عَلَى عَاتِقِهِمْ مَهَمَّةَ نَشْرِ الإِيمَانِ فِي الأَرضِ ، وَإِخْراجِ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ .
فوظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم أن يكون { شاهداً } عليهم؛ فليعلموا بما يحسن هذه الشهادة التي لا تكذب ولا تزور ، ولا تبدل ، ولا تغير . وأن يكون { مبشراً } لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران ، ومن فضل وتكريم . وأن يكون { نذيراً } للغافلين بما ينتظر المسيئين من عذاب ونكال ، فلا يؤخذوا على غرة ، ولا يعذبوا إلا بعد إنذار . { وداعياً إلى الله } . . لا إلى دنيا ، ولا إلى مجد ، ولا إلى عزة قومية ، ولا إلى عصبية جاهلية ، ولا إلى مغنم ، ولا إلى سلطان أو جاه . ولكن داعياً إلى الله . في طريق واحد يصل إلى الله { بإذنه } . . فما هو بمبتدع ، ولا بمتطوع ، ولا بقائل من عنده شيئاً . إنما هو إذن الله له وأمره لا يتعداه . { وسراجاً منيراً } . . يجلو الظلمات ، ويكشف الشبهات ، وينير الطريق ، نوراً هادئاً هادياً كالسراج المنير في الظلمات .وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من النور . جاء بالتصور الواضح البين النير لهذا الوجود ، ولعلاقة الوجود بالخالق ، ولمكان الكائن الإنساني من هذا الوجود وخالقه ، وللقيم التي يقوم عليها الوجود كله ، ويقوم عليها وجود هذا الإنسان فيه؛ وللمنشأ والمصير ، والهدف والغاية ، والطريق والوسيلة .في قول فصل لا شبهة فيه ولا غموض . وفي أسلوب يخاطب الفطرة خطابا مباشرا وينفذ إليها من أقرب السبل وأوسع الأبواب وأعمق المسالك والدروب !
ويكرر ويفصل في وظيفة الرسول مسألة تبشير المؤمنين:(وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) . . بعدما أجملها في قوله:(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) . . زيادة في بيان فضل الله ومنته على المؤمنين , الذين يشرع لهم على يدي هذا النبي , ما يؤول بهم إلى البشرى والفضل الكبير
ـــــــــــــ
(1/120)
وجوب مناصرته
قال تعالى :{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) } [الفتح/8، 10]
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحمَّدُ شَاهِداً عَلَى الخَلْقِ فِيما أَجَابُوكَ بِه عَلَى دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ للإِيمَانِ باللهِ ، فَتُبَشِّر المُؤْمِنينَ الذِينَ استَجَابُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ في الآخِرَةِ ، والثَّوابَ الحَسَنَ ، وَتُنْذِرَالمُكَذِّبينَ المُعْرِضِينَ عَمَّا دَعَوْتَهُمْ إِليهِ ، بِعَذابٍ أليمٍ في نَارِ جَهَنَّمَ .
فآمِنُوا يَا أَيُّها النَّاسُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وانْصُرُوا دِينَه وَعَظَّمُوهُ ، وَنَزِهُوهُ عَمَّا لا يَليِقُ بِجَلاَلِهِ في الغُدَوِّ والعَشِيِّ .
حِينَما وَصَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلى الحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِراً ( وَالحُدَيْبِيَةُ قَرْيَةٌ عَلَى مَسِيرَةٍ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَكَّةَ ) ، مَعَ ألفٍ وَأَرْبَعِمِئَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، دَعَا خُراشَ بْنَ أُميَّةَ الخزَاعِي فَبَعَثَهُ إِلى قُرَيشٍ ، بِمَكَّةَ لِيُبَلِّغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ لأَجْلِهِ ، فَعَقَرَتْ قُرَيشٌ الجَمَلَ ، وَأَرَادُوا قَتْلَ خُراشٍ فَمَنَعَتْهُ الأَحَابِيشُ ، فَخَلُّوا سَبِيلَه ، فَعَادَ إِلى رَسُولِ اللهِ ، وَأَخْبَرَه بِمَا جَرَى . وَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرْسِلَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ ، فاعْتَذَرَ بَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَقَارِبُ في مَكَّةَ يَمْنَعُونَهُ ، وَدَلَّه عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَاسْتَدْعَاهُ إِليهِ وَأَرْسَلَهُ إِلى أَبي سُفْيَانَ وأَشْرافِ قُرَيشٍ ، يُخْبِرْهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَأْتِ لِحَربٍ ، وَإِنما جَاءَ زَائِراً لِلْبَيتِ ، مُعْتَمِراً ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بَنُ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ ، حِينَ دَخَلَ عُثْمانُ مَكَّةَ ، فَجَعَلَهُ في جِوَارِه حَتَّى فَرَغَ مِنْ إِبلاغِ رِسَالَتِهِ ، ثُمَّ إِنَّ قُرَيشاً احْتَبَسَتْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عِنْدَهُمْ فشَاعَ بَينَ المٌسْلِمينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ ، فَقَالَ الرَّسُولُ : لاَ نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ القَوْمَ .
وَدَعَا النَّاسَ إِلى البَيْعَةِ فَكَانت بَيْعَةُ الرِّضْوانِ تَحْتَ شَجرةٍ كَانَتْ هُنَاكَ ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ عَلَى أَلاَّ يَفِرُّوا أَبداً . وَلَم يَتَخَلَّفْ عَنِ البَيْعَةِ إِلا الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ ، وَهُوَ مُنَافِقٌ مِنَ الأنْصَارِ . وَعَلِمَتْ قُرَيشٌ بِالبَيْعَةِ فَخَافَتْ وَأَرْسَلَتِ الرُّسُلَ إِلى النَّبِيِّ يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ وَالمُوادَعَةَ ، فَتَمَّ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الرَّسُولُ وَالمُسْلِمُونَ هذا العَامَ ، وَلاَ يَدْخُلُوا مَكَّةَ ، وَأَنْ يَحُجَّ في العَامِ القَادمِ ، وَعَلى أَنْ يَقُومَ صُلْحٌ بَينَ الرَّسُولِ وَقُريشٍ مُدَّتُهُ عَشْرُ سَنَواتٍ .
وَفِي هذهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ يَتَحَدَّثُ اللهُ تَعَالى عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ التي تَمَّتْ تَحْتَ الشَّجَرةِ ، فَيقُولُ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ في الحُديبيَةِ مِنْ أَصْحابكَ عَلَى أَلاَّ يَفرُّوا مِنَ المَعْرَكَةِ ، وَلا يُوَلُّوا الأَدْبَارَ ، إِنَّما يُبَايُعونَ اللهَ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّاكَ ، واللهُ حَاضِرٌ مَعَهُم ، وَهُمْ يَضَعُونَ أَيديَهم في يَدِكَ مُبَايِعِينَ ، يَسْمَعُ أَقْوالَهُم ، وَيَرَى مَكانَهُمْ ، وَيَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَجَهْرَهُمْ ، فَهُوَ تَعَالى المُبَايُع بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ ، وَيَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ .
وفي الحديث : " مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ في سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ بَايعَ " .فَمَنْ نَقَضَ البَيْعَةَ التِي عَقَدَهَا مَعَ النَّبِيِّ فإِنَّ ذَلِكَ إِنَّما يَعُودُ عَلَيهِ ، وَلاَ يَضرُّ بالنَّكْثِ وَالإِخْلاَفِ إِلا نَفْسَهُ .أَمَّا مَنْ أوفى بَعَهدِ البَيْعَةِ فإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ الأَجْرَ والمَثُوبَة في الآخِرَةِ وَيُدْخِلُه الجَنَّةَ لِيبْقَى فِيها خَالِداً .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهد على هذه البشرية التى أرسل إليها ، يشهد أنه بلغها ما أمر به ، وأنها استقبلته بما استقبلته ، وأنه كان منها المؤمنون ، ومنها الكافرون ، ومنها المنافقون . وكان منها المصلحون ومنها المفسدون . فيؤدي الشهادة كما أدى الرسالة . وهو مبشر بالخير والمغفرة والرضى وحسن الجزاء للمؤمنين الطائعين ، ونذير بسوء المنقلب والغضب . واللعنة والعقاب للكافرين والمنافقين والعصاة والمفسدين . .
هذه وظيفة الرسول . ثم يلتفت بالخطاب إلى المؤمنين ، يكشف لهم عن الغاية المرجوة لهم من الرسالة . إنها الإيمان بالله ورسوله ، ثم النهوض بتكاليف الإيمان ، فينصرون الله بنصرة منهجه وشريعته ويوقرونه في نفوسهم بالشعور بجلاله؛ وينزهونه بالتسبيح والتحميد طرفي النهار في البكور والأصيل ، وهي كناية عن اليوم كله ، لأن طرفي النهار يضمان ما بينهما من آونة . والغرض هو اتصال القلب بالله في كل آن . فهذه هي ثمرة الإيمان المرجوة للمؤمنين من إرسال الرسول شاهداً ومبشراً ونذيراً .
وقد جاء - صلى الله عليه وسلم - ليصلهم بالله ، ويعقد بينهم وبينه بيعة ماضية لا تنقطع بغيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم . فهو حين يضع يده في أيديهم مبايعاً ، فإنما يبايع عن الله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله . يد الله فوق أيديهم } . . وهو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله - صل الله عليه وسلم - والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده ، أن يد الله فوق أيديهم .
فالله حاضر البيعة . والله صاحبها . والله آخذها . ويده فوق أيدي المتبايعين . . ومن؟ الله! يا للهول! ويا للروعة! ويا للجلال!
وإن هذه الصورة لتستأصل من النفس خاطر النكث بهذه البيعة - مهما غاب شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالله حاضر لا يغيب . والله آخذ في هذه البيعة ومعط ، وهو عليها رقيب .
{ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } . .فهو الخاسر في كل جانب . هو الخاسر في الرجاع عن الصفقة الرابحة بينه وبين الله تعالى . وما من بيعة بين الله وعبد من عباده إلا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله ، والله هو الغني عن العالمين . وهو الخاسر حين ينكث وينقض عهده مع الله فيتعرض لغضبه وعقابه على النكث الذى يكرهه ويمقته ، فالله يحب الوفاء ويحب الأوفياء .
{ ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما } . .هكذا على إطلاقه : { أجراً عظيماً } . . لا يفصله ولا يحدده . فهو الأجر الذي يقول عنه الله إنه عظيم
ـــــــــــــ
(1/121)
الرسول مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله
قال تعالى : { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) [التوبة/88-89]
إذَا تَخَلَّفَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الجِهَادِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالمُؤْمِنِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَهَؤُلاَءِ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالخَيْرَاتِ : فِي الدُّنْيَا بِتَحْقِيقِ النَّصْرِ ، وَمَحُوِ الْكُفْرِ ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَالتَّمَتُّعِ بِالمَغَانِمِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِرِضَا اللهِ وَجَنَّاتِهِ
وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
« إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة . وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين . وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق ، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال ، فتعيش عيشة تافهة رخيصة ، مفزعة قلقة ، تخاف من ظلها ، وتفرق من صداها ، يحسبون كل صيحة عليهم ، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة . . هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة . إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة . يؤدونها من نفوسهم ، ويؤدونها من أقدارهم ، ويؤدونها من سمعتهم ، ويؤدونها من اطمئنانهم ، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون » ومن هؤلاْ . . أولئك الذين { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } . .
{ لكن الرسول والذين آمنوا معه } . . وهم طراز آخر غير ذلك الطراز . . { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } . . فنهضوا بتكاليف العقيدة ، وأدوا واجب الإيمان؛ وعملوا للعزة التي لا تنال بالقعود { وأولئك لهم الخيرات } . . خيرات الدنيا والآخرة ، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية . وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى ، ولهم رضوان الله الكريم { وأولئك هم المفلحون } . . الفلاح في الدنيا بالعيش الكريم القويم والفلاح في الآخرة بالأجر العظيم : { أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } . . { ذلك الفوز العظيم } .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بُعِثْت بَيْنَ يَدَيَ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي , وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ.(1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قُلْتُ : مَا أَكْثَرُ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ ؟ قَالَ : قَدْ حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ ، سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا ، وَشَتَمَ آبَاءَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَسَبَّ آلِهَتَنَا ، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ، أَوْ كَمَا قَالُوا ، فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ ، إِذْ طَلَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ، فَمَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ ، قَالَ : وَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ، ثُمَّ مَضَى - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ، ثُمَّ مَضَى - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ ، غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، ثُمَّ قَالَ : أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ. قَالَ : فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ لَكَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَطْأَةً قَبْلَ ذَلِكَ يَتَوَقَّاهُ بِأَحْسَنِ مَا يُجِيبُ مِنَ الْقَوْلِ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ : انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، انْصَرِفْ رَاشِدًا ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولاً. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ ، وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ ، حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ ، وَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَأَحَاطُوا بِهِ ، يَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا - لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ ، وَقَالَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي : أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشُدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ.(2)
ــــــــــــ
ما فضِّل به - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء السابقين
عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ : جُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ ، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ ، وَأُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَ مِثْلَهُ أَحَدٌ قَبْلِي وَلاَ أَحَدٌ بَعْدِي.(3)
وعَنْ حُذَيْفَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاثٍ: جُعِلَتِ الأَرْضُ لَنَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجْدِ الْمَاءَ، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلائِكَةِ.(4)
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ ». وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى.(5)
وعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ : بِالسَّمَاحَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَكَثْرَةِ الْجِمَاعِ ، وَشِدَّةِ الْبَطْشِ.(6)
وعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِى ، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ ، وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ ، وَكَانَ النَّبِىُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ »(7).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِىَ النَّبِيُّونَ ».(8)
ـــــــــــــ
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 5 / ص 313) (19747) وصحيح الجامع (2831) صحيح لغيره
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 525) (6567) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 310) (6400) صحيح
(4) - مسند أبي عوانة (678) صحيح
(5) - صحيح مسلم (1193 )
(6) - مسند الشاميين(2607) والمجمع 8/269 و 9/12 والإتحاف 7/97 وخط 8/70 وبداية 6/70 وهو حديث حسن
ووهم الألباني فحكم بوضعه في ضعيفته (1597) وضعيف الجامع (3985) علما أنه ليس فيه إلا سعيد بن بشير قال ابن عدي عنه : ولا أرى بما يروى عن سعيد بن بشير بأسا ، ولعله يهم في الشيئ بعد الشيئ ويغلط ، والغالب على حديثه الاستقامة والغالب عليه الصدق الكامل 3/376
(7) - صحيح البخارى(438 ) وصحيح مسلم(1191)
(8) - صحيح مسلم(1195 )
(1/122)
وجوب التأدب أثناء مخاطبة الرسول
قال تعالى : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) [النور/63]
كَانَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ المُؤْمِنِيِنَ يُنَادِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَا مُحَمَّدُ ، أو بِيَا أََبَا القَاسِمِ . . . فَنَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ تَعْظِيماً لِقَدْرِ الرَّسُولِ وَتَبْجِيلاً ، فَقَالَ قُولُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، وَيَا رَسُولَ اللهِ . وَيُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ الذين يَتَسَلَّلُونَ وَيَذْهِبُونَ بِدُونَ إِذْنٍ . يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبِعْضٍ ، وَيَتَدَارَى بَعْضُهم بِبَعْضٍ لِكَيْلاَ يَرَاهُم الرَّسُولُ ، فَعَيْنُ اللهِ تَرَاهُمْ وَإِنْ لَمْ تَرَهُمْ عَيْنُ الرَّسُولِ . وَيَُوِّرُ اللهُ تَعَالَى حَالَ هَؤُلاءِ وَهُمْ يَتَسَلَّلُونَ بِحَذَرٍ مِنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ ، مِمَّا يُمَثِّلُ جُبْنَهُمْ عَنَ المُوَاجَهَةِ وَطَلَبِ الإِذْنِ . وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالًَى هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ اللهِ ، وَيَتَّبِعُونَ نَهْجاً غَيْرَ نَهْجِهِ ، وَيَتَسَلَّلُونَ مِن الصَّفِّ ابْتَغِاءَ مَنْفَعَةٍ ، أو اتِّقَاءَ ضَرَرٍ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ أَنْ تُصِيبَهُم فِتْنَةٌ تَخْتَلُّ فِيهَا المَوَازِينُ ، وَيَضَطَرِبُ فِيهَا النَّظَامُ ، فَيَخْتَلِطُ الحَقُّ بالبَاطِل ، وَتَفْسُدُ أُمُورُ الجَمَاعَةِ وَحَيَاتُها ، أَو يُصِيبُهم عَذَابٌ أليمٌ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه . وهي لفتة ضرورية . فلا بد للمربي من وقار , ولا بد للقائد من هيبة . وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا ; وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض . . يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم , ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير .
ــــــــــــ
تحريم النجوى عند الرسول
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) [المجادلة/8-10]
كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ يَهُودِ المَدِينَةِ مُوَادَعَةٌ ، وَكَانَ اليَهُودُ إِذَا مَرَّ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، حَتَّى لَيَظُنَّ المُؤْمِنُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَنَاجَوْنَ بِقَتْلِهِ ، أَوْ بِمَا يَكْرَهُ ، فَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ ذَلِكَ خَشِيَهُمْ فَتَرَكَ طَرِيقَهُ عَلَيْهِمْ ، فَنَهَاهُمُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّجْوَى فَلَمْ يَنْتَهُوا ، وَعَادُوا إِلى النَّجْوَى ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ يُبَيِّنُ لِرَسُولِهِ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ إِنَّهُمْ يَتنَاجَوْنَ بِمَا هُوَ إِثْمٌ فِي نَفْسِهِ ، وَبِمَا هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ ، وَبِمَا هُوَ تَعَد عَلَى هُوَ تَعَد عَلَى المُؤْمِنينَ ، وَتَوَاصٍ بِمُخَالَفَةِ النَّبِيِّ .
وَدَخَلَ نَفَرٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا القَاسِمِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : ( وَعَلَيْكُمُ ) . وَكَانَ هَذَا النَّفَرُ مِنَ اليَهُودِ يَقْصدُ بِقَوْلِهِ هَذَا الإسَاءَةَ إِلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ، والدُّعَاءَ عَلَيهِ ، فَفَضَحَهُمْ اللهُ ، وَكَشَفَ أَسْتَارَهُمْ ، ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ ، انَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَيُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ مُحَمَّداً لَوْ كَانَ نَبِيّاً حَقّاً لَعَذَّبَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَقُولُونَ ، لأَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ : قَائِلاً إِنَّ جَهَنَّمَ كَافِيَةٌ لِعِقَابِهِمْ وَعَذَابِهِمْ ، وَهِيَ بِئْسَ المَقَرُّ وَالمَصِيرُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ . وَيُؤدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ لِئلاَّ يَكُونُوا كَالكَفَرَةِ وَالمُنَافِقِينَ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فِي أَنْدِيتكُمْ وَخَلواتِكُمْ ، فَلاَ تَفْعَلُوا كَمَا يَفْعَلُ أُولَئِكَ الكُفَّارُ ، مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، وَمَنْ وَالاَهُمْ عَلَى ضَلاَلِهِمْ مِنَ المُنَافِقِينَ ، وَتَنَاجَوا بِمَا هُوَ خَيْرٌ ، وَاتَّقُوا اللهَ فِيمَا تَفْعَلُونَ وَفِيمَا تَذُرُونَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيهِ تُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ سَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ .
إِنَّما التَّنَاجِي بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ ، والشَّيْطَانُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَحْزُنَ الذِينَ آمَنُوا بإِيهَامِهِمْ أَنَّ هَذِهِ النَّجْوَى تَضُرُّهُمْ ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَضُرُّ المُؤْمِنِينَ شَيْئاً ، إِلاَّ بِإِرَادَةِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ ، فَعَلَى المُؤْمِنِينَ أَلاَّ يَهْتَمُّوا بِنَجْوَى الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ ، وَلْيَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ : " إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَ اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْزُنُهُ " ) . ( البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ) .
والآية توحي بأن خطة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص ، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدينة وبوحيهم . وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة ، وفي دسائسهم الخفية ، وفي التدبير السيئ للجماعة المسلمة ، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين .
كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيِّئ خفي : { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله } . كأن يقولوا كما كان اليهود يقولون السام عليكم . وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليكم . بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم! أو أية صيغة أخرى ظاهرها برئ وباطنها لئيم! وهم يقولون في أنفسهم : لو كان نبياً حقاً لعاقبنا الله على قولنا هذا . أي في تحيتهم ، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات .
وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما كانوا يقولونه في أنفسهم ، وبمجالسهم ومؤامراتهم . فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم . . الخ . مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم .ثم رد عليهم بقوله تعالى : { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } . .
وكشف هذه المؤامرات الخفية ، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها ، وكذلك فضح ما كانوا يقولونه في أنفسهم : { لولا يعذبنا الله بما نقول } . . هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض ، وحضوره لكل نجوى ، وشهوده لكل اجتماع . وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح ، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق .
وهنا يلتفت إلى الذين آمنوا ، يخاطبهم بهذا النداء : { يا أيها الذين آمنوا } لينهاهم عن التناجي بما يتناجي به المنافقون من الإثم والعدوان ومعصية الرسول ، ويذكرهم تقوى الله ، ويبين لهم أن النجوى على هذا النحو هي من إيحاء الشيطان ليحزن الذين آمنوا ، فليست تليق بالمؤمنين : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وتناجوا بالبر والتقوى ، واتقوا الله الذي إليه تحشرون . إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضآرهم شيئاً إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .ويبدو أن بعض المسلمين ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الإسلامي ، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور ، ليتناجوا فيما بينهم ويتشاوروا بعيداً عن قيادتهم . الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية ، وروح التنظيم الإسلامي ، التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة وكل اقتراح على القيادة ابتداء ، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة . كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة ، وما يؤذي الجماعة المسلمة ولو لم يكن قصد الإيذاء قائماً في نفوس المتناجين ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الآراء فيها على غير علم ، قد يؤدي إلى الإيذاء ، وإلى عدم الطاعة .
وهنا يناديهم الله بصفتهم التي تربطهم به ، وتجعل للنداء وقعه وتأثيره : { يا أيها الذين آمنوا } لينهاهم عن التناجي إذا تناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول . ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي يتناجى بها المؤمنون : { وتناجوا بالبر والتقوى } . . لتدبير وسائلهما وتحقيق مدلولهما . والبر : الخير عامة . والتقوى : اليقظة والرقابة لله سبحانه ، وهي لا توحي إلا بالخير . ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون إليه ، فيحاسبهم بما كسبوا . وهو شاهده ومحصيه . مهما ستروه وأخفوه .
قال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان ، قالا : أخبرنا همام ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، قال : « كنت آخذاً بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل ، فقال : كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول إن الله يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته . وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين » .ثم ينفرهم من التناجي والمسارة والتدسس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة ، التي هم منها ، ومصلحتهم مصلحتها ، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها في شأن من الشئون . فيقول لهم : إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس ، وتخلق جواً من عدم الثقة؛ وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم . ويطمئن المؤمنين بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد : { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا ، وليس بضآرهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
فالمؤمنون لا يتوكلون إلا على الله . فليس وراء ذلك توكل ، وليس من دون الله من يتوكل عليه المؤمنون!
وقد وردت الأحاديث النبوية الكريمة بالنهي عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة وتزعزع الثقة وتبعث التوجس :
جاء في الصحيحين من حديث الأعمش بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه » .
وهو أدب رفيع ، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك . فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر ، أو ستر عورة ، في شأن عام او خاص ، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم . وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة . ولا يجوز أن يكون تجمعاً جانبياً بعيداً عن علم الجماعة . فهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهي عنه الرسول . وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة . وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا . ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة ، لأن الله حارسها وكالئها؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاه ، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر . ولن يضر الشيطان المؤمنين . . { إلا بإذن الله } . . وهو استثناء تحفظي لتقرير طلاقة المشيئة في كل موطن من مواطن الوعد والجزم ، لتبقى المشيئة حرة وراء الوعد والجزم . .
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . . فهو الحارس الحامي ، وهو القوي العزيز ، وهو العليم الخبير . وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب . ولا يكون في الكون إلا ما يريد . وقد وعد بحراسة المؤمنين . فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟
ــــــــــــ
الحث على تقديم صدقة قبل مناجاة الرسول
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) [المجادلة/12-13]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ الذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَدِّثُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ، ( أَيْ مُسَارَّةً ) ، أَنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ، وَتُؤهِّلُهُمْ لِبُلَوغِ هَذَا المُقَامِ ، وَفِي تَقدِيمِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ثَوَابٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ ، وَتَزْكِيَةٌ لِلنُّفُوسِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ، مَنْ يُرِيدُ مُنَاجَاةَ الرَّسُولِ ، مِمَّنْ يَمْلِكُونَ شَيْئاً يَسْتَطِيعُونَ التَّصَدُّقَ بِهِ فَلاَ حَرَجَ عَلَيهِ إِذَا لَمْ يَتَصَدّقْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ السُّؤَالِ فَقَدْ سَأَلَهُ قَوْمٌ حَتَّى شَقُّوا عَلَيهِ ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ .
أَبَخِلْتُمْ بِالمَالِ أَنْ تُنْفِقُوهُ فِي سَبْيلِ اللهِ ، وَخِفْتُم الفَقْرَ إِنْ قَدَّمْتُمُ الصَّدَقَاتِ ، وَوَسْوَسَ إِلَيْكُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ هَذَا الإِنْفَاقَ فِيهِ ضَيَاعٌ لِلْمَالِ؟ فَمَا دُمْتُمْ لَمْ تُنْفِقُوا المَالَ ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَقَدْ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ، وَرَخَّصَ لَكُمْ بِالمُنَاجَاةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِمِةِ صَدَقَاتٍ ، فَتَدَارَكُوا ذَلِكَ بِالمُثَابَرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِهَا الأَكْمَلِ ، وَعَلَى دَفْعِ الزَّكَاةِ عَنْ أَمْوَالِكُمْ ، وَأَطِيعُوا اللهَ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ هُوَ وَرَسُولُهُ ، وَانْتَهُوا عَمَّا يَنْهَاكُمْ عَنْهُ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ .
وقال السعدي :" يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - تأديبا لهم وتعليما، وتعظيما للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإن هذا التعظيم، خير للمؤمنين وأطهر أي: بذلك يكثر خيركم وأجركم، وتحصل لكم الطهارة من الأدناس، التي من جملتها ترك احترام الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأدب معه بكثرة المناجاة التي لا ثمرة تحتها، فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي مناجاته صار هذا ميزانا لمن كان حريصا على الخير والعلم، فلا يبالي بالصدقة، ومن لم يكن له حرص ولا رغبة في الخير، وإنما مقصوده مجرد كثرة الكلام، فينكف بذلك عن الذي يشق على الرسول، هذا في الواجد للصدقة، وأما الذي لا يجد الصدقة، فإن الله لم يضيق عليه الأمر، بل عفا عنه وسامحه، وأباح له المناجاة، بدون تقديم صدقة لا يقدر عليها.
ثم لما رأى تبارك وتعالى شفقة المؤمنين، ومشقة الصدقات عليهم عند كل مناجاة، سهل الأمر عليهم، ولم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة، وبقي التعظيم للرسول والاحترام بحاله لم ينسخ، لأن هذا الحكم من باب المشروع لغيره، ليس مقصودا لنفسه، وإنما المقصود هو الأدب مع الرسول والإكرام له، وأمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصودة بنفسها، فقال: { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا } أي: لم يهن عليكم تقديم الصدقة، ولا يكفي هذا، فإنه ليس من شرط الأمر أن يكون هينا على العبد، ولهذا قيده بقوله: { وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: عفا لكم عن ذلك، { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } بأركانها وشروطها، وجميع حدودها ولوازمها، { وَآتُوا الزَّكَاةَ } المفروضة [في أموالكم] إلى مستحقيها.
وهاتان العبادتان هما أم العبادات البدنية والمالية، فمن قام بهما على الوجه الشرعي، فقد قام بحقوق الله وحقوق عباده، [ولهذا قال بعده:] { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا أشمل ما يكون من الأوامر.
ويدخل في ذلك طاعة الله [وطاعة] رسوله، بامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما، وتصديق ما أخبرا به، والوقوف عند حدود الله .
والعبرة في ذلك على الإخلاص والإحسان، ولهذا قال: { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فيعلم تعالى أعمالهم، وعلى أي: وجه صدرت، فيجازيهم على حسب علمه بما في صدورهم.(1)
ــــــــــــ
المقام المحمود يوم القيامة
قال تعالى :{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء/79]
وقوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } أي: صل به في سائر أوقاته. { نَافِلَةً لَكَ } أي: لتكون صلاة الليل زيادة لك في علو القدر، ورفع الدرجات، بخلاف غيرك، فإنها تكون كفارة لسيئاته.
ويحتمل أن يكون المعنى: أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين، بخلاف صلاة الليل، فإنها فرض عليك بالخصوص، ولكرامتك على الله، أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك، وليكثر ثوابك، وتنال بذلك المقام المحمود، وهو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، مقام الشفاعة العظمى، حين يتشفع الخلائق بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكلهم يعتذر ويتأخر عنها، حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم، ليرحمهم الله من هول الموقف وكربه، فيشفع عند ربه فيشفعه، ويقيمه مقامًا يغبطه به الأولون والآخرون، وتكون له المنة على جميع الخلق.(2)
وعَنْ آدَمَ بْنِ عَلِىٍّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضى الله عنهما يَقُولُ إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا ، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا ، يَقُولُونَ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ ، حَتَّى تَنْتَهِىَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ(3)
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 846)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 464)
(3) - صحيح البخارى(4718 )
(1/123)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا . فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ ، لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا ، قَالَ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ - قَالَ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِىَ عَنْهَا - وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ . فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ . قَالَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ثَلاَثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ - وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا . قَالَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ قَتْلَهُ النَّفْسَ - وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ . قَالَ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . فَيَأْتُونِى فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى فَيَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَ - قَالَ - فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » . قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ « فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَ - قَالَ - فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ - قَالَ - ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » . قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ « فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ - قَالَ - فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ - قَالَ - ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » . قَالَ قَتَادَةُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ « فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِى النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَىْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ - قَالَ - ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قَالَ وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِى وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - »(1)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَبِيَدِى لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِىٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِى وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ قَالَ فَيَفْزَعُ النَّاسُ ثَلاَثَ فَزَعَاتٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُونَا آدَمُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ إِنِّى أَذْنَبْتُ ذَنْبًا أُهْبِطْتُ مِنْهُ إِلَى الأَرْضِ وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ إِنِّى دَعَوْتُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ دَعْوَةً فَأُهْلِكُوا وَلَكِنِ اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّى كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْهَا كَذْبَةٌ إِلاَّ مَاحَلَ بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّى قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ إِنِّى عُبِدْتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا قَالَ فَيَأْتُونَنِى فَأَنْطَلِقُ مَعَهُمْ ». قَالَ ابْنُ جُدْعَانَ قَالَ أَنَسٌ فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا فَيُقَالُ مَنْ هَذَا فَيُقَالُ مُحَمَّدٌ. فَيَفْتَحُونَ لِى وَيُرَحِّبُونَ فَيَقُولُونَ مَرْحَبًا فَأَخِرُّ سَاجِدًا فَيُلْهِمُنِى اللَّهُ مِنَ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ فَيُقَالُ لِى ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَقُلْ يُسْمَعْ لِقَوْلِكَ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِى قَالَ اللَّهُ (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) ». قَالَ سُفْيَانُ لَيْسَ عَنْ أَنَسٍ إِلاَّ هَذِهِ الْكَلِمَةُ « فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا ».(2)
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ ، وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ ، إِلاَّ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(3)
وعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ ، فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ ، فَأَقُولُ : مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ.(4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْبَرًا مِنْ نُورٍ ، وَإِنِّي لَعَلَى أَطْوَلِهَا وَأَنْوِرِهَا ، فَيَجِيءُ مُنَادٍ ، فَيُنَادِي : أَيْنَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ ؟ قَالَ : فَيَقُولُ الأَنْبِيَاءُ : كُلُّنَا نَبِيٌّ أُمِّيٌّ ، فَإِلَى أَيِّنَا أُرْسِلَ ؟ فَيَرْجِعُ الثَّانِيَةَ ، فَيَقُولُ : أَيْنَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ ؟ قَالَ : فَيَنْزِلُ مُحَمَّدٌ حَتَّى يَأْتِيَ بَابَ الْجَنَّةِ ، فَيَقْرَعَهُ ، فَيَقُولُ : مَنْ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ أَوْ أَحْمَدُ ، فَيُقَالُ : أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لَهُ ، فَيَدْخُلُ ، فَيَتَجَلَّى لَهُ الرَّبُّ ، وَلاَ يَتَجَلَّى لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ ، فَيَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا ، وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ وَلَنْ يَحْمَدَهُ أَحَدٌ بِهَا مِمَّنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، تَكَلَّمْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ. فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيُقَالُ : أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الثَّانِيَةَ فَيَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ ، وَلَنْ يَحْمَدَهُ بِهَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، تَكَلَّمْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، فَيُقَالُ لَهُ : أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الثَّالِثَةَ ، فَيَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا ، وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ ، وَلَنْ يَحْمَدَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ ، ثُمَّ يَرْجِعُ ، فَيَخِرُّ سَاجِدًا ، وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ ، وَلَنْ يَحْمَدَهُ بِهَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، تَكَلَّمْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَيُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ لَسْتَ هُنَاكَ ، تِلْكَ لِي ، وَأَنَا الْيَوْمَ أَجْزِي بِهَا."(5)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ.(6)
ـــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى(7440 ،44 ، 4476 ، 6565 ، 7410 ، 7509 ، 7510 ، 7516 )
(2) - سنن الترمذى (3441 ) حسن
أقعقع : أحركها لتصوت من القعقعة وهى حكاية حركة الشىء يسمع له صوت -ماحل : دافع وجادل
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 4 / ص 586) (1689) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 399) (6479) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 400) (6480) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 401) (6481) صحيح
(1/124)
الشفاعة يوم القيامة
دلت الأحاديث على أن هناك نوعان من الشفاعة التي تقع في ذلك اليوم:
النوع الأول : الشفاعة العظمى:
وهي المقام المحمود ، الذي يرغب الأولون والآخرون فيه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليشفع إلى ربه كي يخلص العباد من أهوال المحشر
فعن مَعْبَدَ بْنِ هِلاَلٍ العَنَزِيِّ ، قَالَ : اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ، فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى ، فَاسْتَأْذَنَّا ، فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَقُلْنَا لِثَابِتٍ : لاَ تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ، فَقَالَ : يَا أَبَا حَمْزَةَ هَؤُلاَءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ ، فَيَأْتُونَ آدَمَ ، فَيَقُولُونَ : اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ ، وَكَلِمَتُهُ ، فَيَأْتُونَ عِيسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَأْتُونِي ، فَأَقُولُ : أَنَا لَهَا ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي ، فَيُؤْذَنُ لِي ، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِي الآنَ ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيَقُولُ : انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ، ثُمَّ أَعُودُ ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيَقُولُ : انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - أَوْ خَرْدَلَةٍ - مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ ، فَأَنْطَلِقُ ، فَأَفْعَلُ ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيَقُولُ : انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ " فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا : لَوْ مَرَرْنَا بِالحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ ، فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ : يَا أَبَا سَعِيدٍ ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ ، فَقَالَ : هِيهْ فَحَدَّثْنَاهُ بِالحَدِيثِ ، فَانْتَهَى إِلَى هَذَا المَوْضِعِ ، فَقَالَ : هِيهْ ، فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا ، فَقَالَ : لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلاَ أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا ، قُلْنَا : يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا فَضَحِكَ ، وَقَالَ : خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولًا مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ ، قَالَ : " ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَيَقُولُ : وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي ، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "(1)
وعَنْ أنس، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْبَرًا مِنْ نُورٍ ، وَإِنِّي لَعَلَى أَطْوَلِهَا وَأَنْوِرِهَا ، فَيَجِيءُ مُنَادٍ ، فَيُنَادِي : أَيْنَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ ؟ قَالَ : فَيَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ : كُلُّنَا نَبِيٌّ أُمِّيٌّ ، فَإِلَى أَيِّنَا أُرْسِلَ ؟ فَيَرْجِعُ الثَّانِيَةَ ، فَيَقُولُ : أَيْنَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ ؟ قَالَ : فَيَنْزِلُ مُحَمَّدٌ حَتَّى يَأْتِيَ بَابَ الْجَنَّةِ ، فَيَقْرَعَهُ ، فَيَقُولُ : مَنْ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ أَوْ أَحْمَدُ ، فَيُقَالُ : أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لَهُ ، فَيَدْخُلُ ، فَيَتَجَلَّى لَهُ الرَّبُّ ، وَلَا يَتَجَلَّى لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ ، فَيَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا ، وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ وَلَنْ يَحْمَدَهُ أَحَدٌ بِهَا مِمَّنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، تَكَلَّمْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ . فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيُقَالُ : أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الثَّانِيَةَ فَيَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ ، وَلَنْ يَحْمَدَهُ بِهَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، تَكَلَّمْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، فَيُقَالُ لَهُ : أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الثَّالِثَةَ ، فَيَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا ، وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ ، وَلَنْ يَحْمَدَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ ، فَيَخِرُّ سَاجِدًا ، وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ ، وَلَنْ يَحْمَدَهُ بِهَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، تَكَلَّمْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . فَيُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ لَسْتَ ، تِلْكَ لِي ، وَأَنَا الْيَوْمَ أَجْزِي بِهَا "(2)
وعن معبد بن هلال قَالَ : اجْتَمَعَ رهطٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَانْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُو يُصَلِّي الضُّحَى ، فَانْتَظَرْنَا حَتَّى فَرَغَ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ ، فَأَجْلَسَ ثَابِتًا عَلَى سَرِيرِهِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَمْزَةَ ، إِنَّ إِخْوَانَنَا يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الشَّفَاعَةِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ ، فَيُؤْتَى آدَمُ فَيُقَالُ لَهُ : يَا آدَمُ اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَهُوَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ ، فَيُؤْتَى إِبْرَاهِيمُ ، فَيَقُولُ : يَعْنِي : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَهُوَ كَلِيمُ اللَّهِ ، فَيُؤْتَى مُوسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى ، فَهُوَ رَوْحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ، فَيُؤْتَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأُوتَى فَأَقُولُ : أَنَا لَهَا ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤَذَنُ لِي عَلَيْهِ ، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا الْآنَ ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، قُلْ تُسْمَعْ ، سَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيُقَالُ : انْطَلِقْ ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ - إِمَّا قَالَ : مِثْقَالُ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ تُسْمَعْ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيُقَالُ : انْطَلِقْ ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ تُسْمَعْ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيُقَالُ : انْطَلِقْ ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالَ حَبَّةِ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ ، فَأَنْطَلِقُ " حَدِيثُ أَنَسٍ إِلَى مُنْتَهَاهُ" ... (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً فَقَالَ « أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِى وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَمَا لاَ يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ أَلاَ تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ ائْتُوا آدَمَ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ آدَمُ إِنَّ رَبِّى غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ نَهَانِى عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأَرْضِ وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِى دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِى نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - .
فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ نَبِىُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّى قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - . فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ - وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا - نَفْسِى نَفْسِى اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَأْتُونِّى فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَأَنْطَلِقُ فَآتِى تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّى ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَّ وَيُلْهِمُنِى مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِى ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ اشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى ».(4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن سَلامٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرٌ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلا فَخْرٌ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٌ، لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتِي آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ".(5)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ ، وَمُشَفَّعٍ ، بِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ ، تَحْتِي آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ.(6)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَبِيَدِى لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِىٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِى وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ قَالَ فَيَفْزَعُ النَّاسُ ثَلاَثَ فَزَعَاتٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُونَا آدَمُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ إِنِّى أَذْنَبْتُ ذَنْبًا أُهْبِطْتُ مِنْهُ إِلَى الأَرْضِ وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ إِنِّى دَعَوْتُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ دَعْوَةً فَأُهْلِكُوا وَلَكِنِ اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّى كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْهَا كَذْبَةٌ إِلاَّ مَاحَلَ بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّى قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ إِنِّى عُبِدْتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا قَالَ فَيَأْتُونَنِى فَأَنْطَلِقُ مَعَهُمْ ». قَالَ ابْنُ جُدْعَانَ قَالَ أَنَسٌ فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا فَيُقَالُ مَنْ هَذَا فَيُقَالُ مُحَمَّدٌ. فَيَفْتَحُونَ لِى وَيُرَحِّبُونَ فَيَقُولُونَ مَرْحَبًا فَأَخِرُّ سَاجِدًا فَيُلْهِمُنِى اللَّهُ مِنَ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ فَيُقَالُ لِى ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَقُلْ يُسْمَعْ لِقَوْلِكَ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِى قَالَ اللَّهُ (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) ». قَالَ سُفْيَانُ لَيْسَ عَنْ أَنَسٍ إِلاَّ هَذِهِ الْكَلِمَةُ « فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا ».(7)
وعَن أَنَس ، عَن النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم قال : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع بيدي لواء الحمد يوم القيامة آدم ومن دونه تحت لوائي فآتي ربي تبارك وتعالي فيقال لي : من ؟ فأقول : أحمد فيفتح لي فإذا رأيت ربي عز وجل خررت له ساجدًا فأحمده بمحامد لم يحمدها أحد قبلي ، ولا بعدي يلهمنيها الله تبارك وتعالى.(8)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ طَالَ عَلَى النَّاسِ الْحِسَابُ فَقَالُوا اذْهَبُوا بِنَا إِلَى أَبَيْنَا آدَمَ فَلْيَشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَلْيُحَاسِبْنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ آدَمُ أَبُونَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ وَقَدْ طَالَ عَلَيْنَا الْحِسَابُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيُحَاسِبْنَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّي أُخْرِجْتُ مِنَ الْجَنَّةِ بِخَطِيئَتِي وَلَكِنِ ائْتُوا أَبَاكُمْ نُوحًا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيُحَاسِبْنَا فَقَدْ طَالَ عَلَيْنَا الْحِسَابُ فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكَ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكَ إِنِّي عُبِدْتُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاعٌ فِي وِعَاءٍ عَلَيْهِ خَاتَمٌ ثُمَّ كَانَ يُوصَلُ إِلَى ذَلِكَ الْمَتَاعِ حَتَّى يُفَكَّ الْخَاتَمُ فَأْتُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَالَ فَيَأْتُونِي فَآتِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي ارْفَعْ رَأْسَكَ فَأَحْمَدُ اللَّهَ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، وَلاَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ قَوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ"(9)
__________
(1) - صحيح البخارى(7510)
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (6588 ) صحيح
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (11066) ( صحيح)
(4) - صحيح مسلم (501 ) -نهس : قبض على اللحم وانتزعه بمقدم الأسنان
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 18 / ص 450)(165 ) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 398)(6478) صحيح
(7) - سنن الترمذى(3441 ) حسن -أقعقع : أحركها لتصوت من القعقعة وهى حكاية حركة الشىء يسمع له صوت -ماحل : دافع وجادل
(8) - مسند البزار(6413) صحيح
(9) - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (1135) حسن
(1/125)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا . فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ ، لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا ، قَالَ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ - قَالَ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِىَ عَنْهَا - وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ . فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ . قَالَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ثَلاَثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ - وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا . قَالَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ قَتْلَهُ النَّفْسَ - وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ . قَالَ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . فَيَأْتُونِى فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى فَيَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَ - قَالَ - فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » . قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ « فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَ - قَالَ - فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ - قَالَ - ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » . قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ « فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ - قَالَ - فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ - قَالَ - ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » . قَالَ قَتَادَةُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ « فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِى النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَىْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ - قَالَ - ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قَالَ وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِى وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - »(1).
وعَنْ أَبِى نَضْرَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى [هَذَا الْمِنْبَرِ]، مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ إِلاَّ لَهُ دَعْوَةٌ تَنَجَّزَهَا فِى الدُّنْيَا، وَإِنِّى اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى، وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُ عَنْهُ الأَرْضُ، وَلاَ فَخْرَ، وَبِيَدِى لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَلاَ فَخْرَ، آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِى، وَيَطُولُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّاسِ، فَيَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ أَبِى الْبَشَرِ فَليَشْفَعَ لَنَا إِلَى رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، من بَيْنَنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلاَم، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ الَّذِى خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ، إِنِّى قَدْ أُخْرِجْتُ مِنَ الْجَنَّةِ بِخَطِيئَتِى، وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا رَأْسَ النَّبِيِّينَ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ، إِنِّى قَدْ دَعَوْتُ دَعْوَةً غَرَّقَتْ أَهْلَ الأَرْضِ، وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ، عَلَيْهِ السَّلاَم، قَالَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، اشْفَعْ لَنَا، إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ، إِنِّى قَدْ كَذَبْتُ فِى الإِسْلاَمِ ثَلاَثَ كِذْبَاتٍ، وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ حَاوَلَ بِهِنَّ إِلاَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ قَوْلُهُ: {إِنِّى سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وَقَوْلُهُ: لامْرَأَتِهِ حين أَتِى الملك: أُخْتِى، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَم، الَّذِى اصْطَفَاهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلاَمِهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَّمَكَ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ، إِنِّى قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ، قَدِ اتُّخِذْتُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى، إن لَوْ كَانَ مَتَاعٌ فِى وِعَاءٍ قَدْ مخُتِومَ عَلَيْهِ، أَكَانَ يُقْدَرُ عَلَى مَا فِى جوفه حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَمُ، قَال: فَيَقُولُونَ: لاَ، فَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، قَدْ حَضَرَ الْيَوْمَ، وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَيَأْتُونِى، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيَرْضَى، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَحْمَدُ وَأُمَّتُهُ، فَنَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ، فَنَحْنُ آخِرُ الأُُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ، فَتُفْرَجُ لَنَا الأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا فَنَمْضِى غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الطُّهُورِ، وَتَقُولُ: الأُمَمُ كَادَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا، فَأتِى بَابَ الْجَنَّةِ آخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ، فَأَقْرَعُ، فَيُقَالُ: مَنْ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيُفْتَحُ لِى، فَأَرَى رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَوْ سَرِيرِهِ، شك حمادًا، فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا وَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِى، وَلاَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِى، فَيُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأَقُولُ أَىْ رَبِّ، أُمَّتِى أُمَّتِى، فَيُقَالُ لِى: أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا، لم يحفظه حماد، فَأُخْرِجُهُمْ، ثُمَّ أَعُودُ فأسَجِد فأقول ما قلت، فَيقال: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: أَىْ رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى، فَيُقَالُ: أَخْرِجْ مَنِ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا، دون الأول ثم أعود فأسجد أقول مثل ذلك، فَيُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ أَىْ رَبِّ، أُمَّتِى أُمَّتِى، فَيُقَالُ لِى: أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا، دون ذلك.(2)
وعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُهَمُّونَ لِذَلِكَ ، يَقُولُونَ : لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَيَقُولُونَ : يَا آدَمُ ، أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا ، فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ ، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى الأَرْضِ ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ، فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَا أَصَابَهُنَّ ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا ، فَيَأْتُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ : وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَةَ اللهِ وَرُوحَهُ ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ : لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّيَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَعَتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ أَنْ يَدَعَنِيَ , ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ , وَقُلْ تُسْمَعْ , وَسَلْ تُعْطَهْ , وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ , فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يُعَلِّمِنِيهُ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا , فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ , ثُمَّ أَرْجِعُ , فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّيَ وَقَعَتُ لَهُ سَاجِدًا , فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي فَيُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ , وَقُلْ تُسْمَعْ , وَسَلْ تُعْطَهْ , وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ , فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يُعَلِّمِنِيهُ , ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ , ثُمَّ أَرْجِعُ , فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّيَ وَقَعَتُ لَهُ سَاجِدًا , فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي , ثُمَّ يُقَالُ : ارْفَعْ مُحَمَّدُ , وَقُلْ تُسْمَعْ , وَسَلْ تُعْطَهْ , وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ , فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يُعَلِّمِنِيهُ , ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا , فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ حَتَّى أَرْجِعَ , فَأَقُولُ يَا رَبِّ , مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ , أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ.(3)
---------------
النوع الثاني: الشفاعة في أهل الذنوب من الموحدين الذين دخلوا النار أو استحقوها
وهناك أنواع جاء ذكرها في الأحاديث وهي:
الأول والثاني: وهذا النوع له - صلى الله عليه وسلم - ، ولسائر النبيين والصديقين والشهداء ونحوهم ممن أذنَ الله لهم، فيشفعُ فيمن استحقَّ النار ألا يدخلَها، ويشفعُ فيمن دخلَها أن يخرجَ منها، ،فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ » (أخرجه البخاري)(4).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « شَفَاعَتِى لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى ».(أخرجه أبو داود )(5).
الثالث: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم
الرابع: الشفاعة في أقوام يدخلون الجنة بغير حساب ، ويمكن أن يستشهد لهذا بحديث عكاشة بن محصن حيث دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، والحديث في الصحيحين
الخامس : شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف العذاب عن بعض المشركين؛ كما في شفاعته لعمه أبي طالب، فيكون في ضحضاح من نار؛ فعنِ الْعَبَّاسَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رضى الله عنه -أنّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - :مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ . قَالَ : « هُوَ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِى الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ » (أخرجه الشيخان)(6).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ « لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِى مِنْهُ دِمَاغُهُ ».(7)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ».(8)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلاَنِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِى الْمِرْجَلُ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا ».(9)
إنَّ الله تعالى قد أخبر أن الكافرين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن شفاعته لأهل التوحيد خاصة . فشفاعتُه لعمه أبي طالب خاصة به وخاصة لأبي طالب.
السادس : شفاعته في الإذن للمؤمنين بدخول الجنة ،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ و حُذَيْفَةَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى ابْنِى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ - قَالَ - فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - الَّذِى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا. فَيَأْتُونَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ. فَيَقُولُ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَىِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ ». قَالَ قُلْتُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى أَىُّ شَىْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ قَالَ « أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِى طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِىءَ الرَّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا - قَالَ - وَفِى حَافَتَىِ الصِّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِى النَّارِ ». وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا.(10)
والشفاعة في أهل الذنوب ليست خاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد يشفع النبيون والشهداء والعلماء ، وقد يشفع للمرء أعماله ، ولكن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - له النصيب الأوفر منها ، وقد يشفع غيره أيضا في رفع درجات المؤمنين ، وبقية الأنواع خاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذه الشفاعات كلها لثبوت أدلتها وأنها لا تحققُ إلا بشرطين :
الشرط الأول : إذن الله للشافع أن يشفعَ، كما قال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } الآية ( 255 ) البقرة ، وقوله تعالى :{ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } الآية ( 3 ) من سورة يونس .
الشرط الثاني : رضا اللهِ عن المشفوع له كما قال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } الآية ( 28 ) الأنبياء ويجمع الشرطين قوله تعالى : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } الآية ( 26 ) النجم .
ـــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى (7440 )
(2) - غاية المقصد فى زوائد المسند(5068 ) حسن
(3) - مسند الطيالسي (2122) صحيح
(4) - برقم(6566 )
(5) - برقم(4741 ) والترمذي برقم(2622 ) وهو صحيح مشهور ، وانظر شرح العقيدة الواسطية - (ج 1 / ص 287) والتنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة - (ج 1 / ص 76)
(6) - البخارى برقم( 3883 ) ومسلم برقم(531 )-الضحضاح : ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار
(7) - صحيح مسلم(535)
(8) - صحيح مسلم(537 )
(9) - صحيح مسلم(539 ) -المرجل : القِدر من النحاس أو الحجارة
(10) - صحيح مسلم(503 ) -تزلف : تقرب -مكدوس : المدفوع من ورائه
(1/126)
حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -
يكرم الله عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - في الموقف العظيم بإعطائه حوضا واسع الأرجاء ماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، يأتيه هذا الماء الطيب من نهر الكوثر ، الذي أعطاه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة ، ترد عليه أمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا.
وقد اختلف أهل العلم في موضعه فذهب الغزالي والقرطبي إلى أنه يكون قبل المرور على الصراط في عرصات يوم القيامة، واستدلوا على ذلك بأنه يؤخذ بعض وارديه إلى النار فلو كان بعد الصراط لما استطاعوا الوصول إليه، واستظهر ابن حجر أن مذهب البخاري أن الحوض يكون بعد الصراط لأن البخاري أورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة ، وأحاديث نصب الصراط . وما ذهب إليه الغزالي والقرطبي أرجح .
عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « حَوْضِى مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا » متفق عليه(1).
وعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، قَالَ : قَالَ : ابْنُ عَمْرٍو ، قَالَ : رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، زَوَايَاهُ سَوَاءً ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ ، وَأَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ ، آنِيَتُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا.(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ حَوْضِى أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ وَلآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ وَإِنِّى لأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ « نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ تَرِدُونَ عَلَىَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ »(3).المحجل : أبيض مواضع الوضوء من اليدين -الغر : جمع الأغر وهو أبيض الوجه
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ »(4).
وعَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنِّى لَبِعُقْرِ حَوْضِى أَذُودُ النَّاسَ لأَهْلِ الْيَمَنِ أَضْرِبُ بِعَصَاىَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ ». فَسُئِلَ عَنْ عَرْضِهِ فَقَالَ « مِنْ مَقَامِى إِلَى عَمَّانَ ». وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ فَقَالَ « أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ »(5).
يغت : يدفق فيه دفقا دائما متتابعا -الورق : الفضة -الميزاب : أنبوبة تركب فى جانب البيت من أعلاه لينصرف منها ماء المطر
وعَنْ حَارِثَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ ». فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ « الأَوَانِى ». قَالَ لاَ. فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ « تُرَى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ »(6).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضًا مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ »(7).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضًا كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا »(8).
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا أَلاَ فِى اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ »(9).
يشخب : يسيل -المصحية : التى لا غيم فيها -الميزاب : أنبوبة تركب فى جانب البيت من أعلاه لينصرف منها ماء المطر
وعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ.(10)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ ، وَالْمَدِينَةِ.(11)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ ، وَصَنْعَاءَ ، أَوْ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ ، وَعَمَّانَ.(12)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ الأَخْبَارُ الأَرْبَعُ قَدْ تُوهِمُ مَنْ لَمْ يُحْكِمُ صِنَاعَةَ الْحَدِيثِ أَنَّهَا مُتَضَادَّةٌ ، أَوْ بَيْنَهَا تَهَاتِرُ ، لأَنَّ فِي خَبَرِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ : مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ ، وَالْمَدِينَةِ وَفِي خَبَرِ جَابِرٍ : مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ ، وَفِي خَبَرِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ : مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى بُصْرَى ، وَفِي خَبَرِ قَتَادَةَ : مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَمَّانَ ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الأَخْبَارِ تَضَادٌّ ، وَلاَ تَهَاتِرٌ ، لأَنَّهَا أَجْوِبَةٌ خَرَجَتْ عَلَى أَسْئِلَةٍ ذَكَرَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - ، فِي كُلِّ خَبَرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا جَانِبًا مِنْ جَوَانِبِ حَوْضِهِ أَنَّ مَسِيرَةَ كُلَّ جَانِبٍ مِنْ حَوْضِهِ مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، فَمِنْ صَنْعَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِغَيْرِ الْمُسْرِعِ ، وَمِنْ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ كَذَلِكَ ، وَمِنْ صَنْعَاءَ إِلَى بُصْرَى كَذَلِكَ ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى عَمَّانَ ، الشَّامِ كَذَلِكَ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، وَلَيُرْفَعَنَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِى فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِى . فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ » رواه البخاري(13)
وعَنْ أَبِى حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا ، لَيَرِدُ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ »(14). الفرط : المتقدم والمراد الشفيع
وعَنِ الصُّنَابِحِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، وَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ ، فَلاَ تَقْتَتِلُنَّ بَعْدِي.(15)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، مَنْ مَرَّ عَلَىَّ شَرِبَ ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا ، لَيَرِدَنَّ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ » . قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِى النُّعْمَانُ بْنُ أَبِى عَيَّاشٍ فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ فَقُلْتُ نَعَمْ . فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ لَسَمِعْتُهُ وَهْوَ يَزِيدُ فِيهَا « فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّى . فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ . فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِى » . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُحْقًا بُعْدًا ، يُقَالُ سَحِيقٌ بَعِيدٌ ، وَأَسْحَقَهُ أَبْعَدَهُ .(16)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا ». قَالُوا أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أَنْتُمْ أَصْحَابِى وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ ». فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَىْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا »(17).
بهم : جمع بهيم وهو الأسود وقيل الذى لايخالط لونه لون سواه -الدهم : جمع أدهم وهو الأسود
وعَنْ أَبِى حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلاً يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ وَرَدَ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا وَلَيَرِدَنَّ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ ». قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِى عَيَّاشٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلاً يَقُولُ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فَيَقُولُ « إِنَّهُمْ مِنِّى. فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِى »(18). الفرط : المتقدم والمراد الشفيع
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تَرِدُ عَلَىَّ أُمَّتِى الْحَوْضَ وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ ». قَالُوا يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا قَالَ « نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَىَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّى طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلاَ يَصِلُونَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ هَؤُلاَءِ مِنْ أَصْحَابِى فَيُجِيبُنِى مَلَكٌ فَيَقُولُ وَهَلْ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ »(19).
المحجل : أبيض مواضع الوضوء من اليدين -الغر : جمع الأغر وهو أبيض الوجه
وعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : أَنَا فَرَطُكُمْ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُونِي فَأَنَا عَلَى الْحَوْضِ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ ، وَسَيَأْتِي رِجَالٌ وَنِسَاءٌ بِآنِيَةٍ وَقِرَبٍ ثُمَّ لاَ يَذُوقُونَ مِنْهُ شَيْئًا(20).
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : وَسَيَأْتِي رِجَالٌ وَنِسَاءٌ بِآنِيَةٍ وَقِرَبٍ ثُمَّ لاَ يَذُوقُونَ مِنْهُ شَيْئًا أُرِيدَ بِهِ : مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَدْ غُفِرَ لَهُمْ ، يَجِيئُونَ بِأَوَانِي لِيَسْتَقُوا بِهَا مِنَ الْحَوْضِ ، فَلاَ يُسْقَوْنَ مِنْهُ لأَنَّ الْحَوْضَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَاصٌّ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ ، إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَقْدِرَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ عَلَى حَمْلِ الأَوَانِي وَالْقِرَبِ فِي الْقِيَامَةِ ، لأَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وعن عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ ،قالَ : قَامَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : مَا حَوْضُكَ الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ : هُوَ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى بُصْرَى ، ثُمَّ يُمِدُّنِي اللَّهُ فِيهِ بِكُرَاعٍ لاَ يَدْرِي بَشَرٌ مِمَّنْ خُلِقَ أَيُّ طَرَفَيْهِ ، قَالَ : فَكَبَّرَ عُمَرُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : أَمَّا الْحَوْضُ فَيَزْدَحِمُ عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ يُقْتُلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَيَمُوتُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأَرْجُو أَنْ يُورِدَنِيَ اللَّهُ الْكُرَاعَ فَأَشْرَبَ مِنْهُ.(21)
وقد أورد القرطبي في "التذكرة" بعض الأحاديث التي سقناها ثم قال: ( قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين : فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ، ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض ، المبعدين عنه ، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها ، والروافض على تباين ضلالها ، والمعتزلة على أصناف أهوائها ، فهؤلاء كلهم مبدلون. وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي ، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ثم البعد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد ، وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به ، ثم يقال لهم سحقاً ، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظهرون الإيمان ويسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر . ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم : سحقاً سحقاً ، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان .
وقد يقال : إن من أنفذ الله عليه وعيده من أهل الكبائر إنه ، وإن ورد الحوض وشرب منه فإنه إذا دخل النار بمشيئة الله تعالى لا يعذب بعطش ، والله أعلم(22).
ـــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى (6579 ) وصحيح مسلم (6111 )
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 364)(6452) صحيح
(3) - صحيح مسلم (604 )
(4) - صحيح مسلم (6140 )
(5) - صحيح مسلم(6130 )
(6) - صحيح مسلم (6122 )
(7) - صحيح مسلم (6124 )
(8) - صحيح مسلم (6128)
(9) - صحيح مسلم (6129 )
(10) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 357)(6445) صحيح
(11) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 359)(6448) صحيح
(12) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 362)(6451) صحيح
(13) - صحيح البخارى(6576 ) ومسلم (6118)
(14) - صحيح البخارى (7050 ) ومسلم (6108)
(15) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 357)(6446) صحيح
(16) - صحيح البخارى (6583 و6584)
(17) - صحيح مسلم (607 )
(18) - صحيح مسلم(6108 و6109)
(19) - صحيح مسلم (605 )
(20) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 360)(6449) صحيح
(21) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 361)(6450) صحيح
(22) - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة - (ج 1 / ص 399)
(1/127)
يعلم بهجر أمته القرآن
قال تعالى :{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) [الفرقان/30]
وَقَالَ الرَّسُولُ مُشْتَكِياً إِلَى رَبِّهِ : يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخُذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً ، أَيْ أَنَّ قَوْمِي الّذِينَ بَعَثْتَني إِلَيْهِمْ لأَدْعُوَهُمْ إِلى تَوْحِيدِكَ ، وَأَمَرْتَني بِإِبْلاَغِ القُرْآنِ إِلَيْهِم ، قَدْ هَجرُوا كِتَابَكَ ، وَتَرَكُوا الإِيمانَ بِكَ ، وَلَمْ يَأَبَهُوا بِوَعِيدِكَ ، بل أعْرَضُوا عنِ استماعِهِ واتِّبَاعِهِ .
لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم . ويبصرهم . هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه رداً . وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله ، ويجدوا الهدي على نوره . وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم ، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق
ـــــــــــــ
(1/128)
الإسراء والمعراج
قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) } [الإسراء/1]
يُمَجِّدُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةُ ، وَيُنَزِهُهَا عَنْ شِرْكِ مَنْ أَشْرَكَ ، وَيُعَظِّمُ شَأْنَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، فَقَدْ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلاً مِنْ مَكَّةَ ( المَسْجِدِ الحَرَامِ ) ، إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ ( المَسْجِدِ الأَقْصَى ) ، وَهُوَ المَسْجِدُ الذِي بَارَكَ اللهُ مَا حَوْلَهُ ، مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَنَبَاتٍ . . لِيُرِيَ عَبْدَهُ مُحَمَّداً ، مِنْ آيَاتِهِ العِظَامِ ، مَا فِيهِ الدَّلِيلُ القَاطِعُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ لأَقْوَالِ العِبَادِ ، البَصِيرُ بِأَحْوَالِهِمْ .
( كَانَ الإِسْرَاءُ قَبْلَ خَمْسِ سِنِينَ مِنَ الهِجْرَةِ ، فَأَسْرَى اللهُ تَعَالَى بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، وِفْقاً لِمَا جَاءَ فِي الأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ) .
( وَاخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ مَا إِذَا كَانَ الإِسْرَاءُ قَدْ تَمَّ بِبَدَنِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ . وَأَكْثَرُ الفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ أَسْرَي بِهِ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ ، يَقْظَةً لاَ مَنَاماً . وَلَمَّا حَدَّثَ الرَّسُولُ قُرَيْشاً بِإِسْرَائِهِ اسْتَغْرَبُوا ذَلِكَ كَثِيراً ، وَأَخَذُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ صِفَاتِ بَيْتِ المَقْدِسِ ، فَأَخَذَ يَصِفُهُ لَهُمْ ، فَقَالُوا : أَمَّا النَّعْتَ فَصَحِيحٌ .
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ بِبَدَنِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ : { سبحانالذي أسرى بِعَبْدِهِ } ، فَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الأُمُورِ العِظَامِ ، فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ لَمْ يَتَعَدَّ المَنَامَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيءٍ ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظِماً ، وَلَمَا ارْتَدَّتْ جَمَاعَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَنِ الإِسْلاَمِ ، وَلَمَا بَادَرَتْ قُرَيْشٌ إِلَى تَكْذِيبِهِ ، ثُمَّ إِنَّ عِبَارَةَ ( عَبْدِهِ ) تَدُلُّ عَلَى مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالجَسَدِ . وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى عَنْ هَذَا الإِسْرَاءِ : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى } وَالبَصَرُ مِنَ آلاَتِ الذَّاتِ لاَ الرُّوحِ .
وَمَنْ آمَنَ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى التِي لاَ حُدُودَ لَهَا ، لاَ يَسْتَعْظِمُ أَنْ يُسْرِيَ اللهُ بِرَسُولِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى بِجَسَدِهِ ، لأنَّ الإِسْرَاءَ بِالنَّبِيِّ بِجَسَدِهِ هُوَ أَمَامَ قُدْرَةِ اللهِ فِي مِثْلِ السُّهُولَةِ التِي يُسْرَى بِهِ بِرُوحِهِ ، وَلِذَلِكَ فَلاَ يَسْتَغْرِبْ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وُقُوعَ هَذا الحَادِثِ ) .
وَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبُوءَتَانِ لِنَبِيَّيْنِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ تُشِيرَ أُولاَهُمَا إِلَى أَنَّ سَيِّدَ الرُّسُلِ أُوْ رَسُولَ اللهِ سَيَزُورُ بَيْتَ المَقْدِسِ ( الهَيْكَلَ ) فَجْأَةً . وَتَقُولُ الأٌخْرَى إِنَّهُ سَيُعْرَجُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ لِيَمْثُلَ فِي حَضْرَةْ الرَّبِّ العَظِيمِ لِيَمْنَحَهُ المَجْدَ وَالسُّلْطَانَ لإِبَادَةِ الشِّرْكِ مِنَ الأَرْضِ . وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - هَذا الشَّرَفَ العَظِيمَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ هُوَ المَقْصُودُ بِالنَّبُوءَتَيْنِ .
وتذكر صفة العبودية : { أسرى بعبده } لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام العبودية ، بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام ، بسبب ما لابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات التي أعطيت له ، فاتخذها بعضهم سبباً للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة ، من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى : السير ليلاً . فكلمة { أسرى } تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكن السياق ينص على الليل { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } للتظليل والتصوير على طريقة القرآن الكريم فيلقي ظل الليل الساكن ، ويخيم جوه الساجي على النفس ، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إلى محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعاً . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان؛ وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان والمكان؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه { الذي باركنا حوله } وصف يرسم البركة حافةً بالمسجد ، فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات : { لنريه من آياتنا } والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التي لم يبرد فيها فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - أياً كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري ، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس ، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه ، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . { إنه هو السميع البصير } . . يسمع ويرى كل ما لطف ودق ، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } إلى صيغة التقرير من الله : { لنريه من آياتنا } إلى صيغة الوصف لله : { إنه هو السميع البصير } وفقاً لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصاً . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ - وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ - قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ - قَالَ - فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِى يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ - قَالَ - ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِى وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِابْنَىِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ.
قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِىَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ.
قَالَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ.
قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ - صلى الله عليه وسلم - فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِى إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ - قَالَ - فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِىَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَىَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَىَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّى قَدْ بَلَوْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّى فَقُلْتُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِى. فَحَطَّ عَنِّى خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ حَطَّ عَنِّى خَمْسًا. قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. - قَالَ - فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّى تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً. وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً - قَالَ - فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّى حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ».(1)
ـــــــــــــ
__________
(1) - صحيح مسلم (429)
(1/129)
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
قال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) } [الأحزاب/6]
جَعَلَ اللهُ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى بِالمُؤْمِنينِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَولاَيَتَهُ مُقَدَّمَةً عَلَى وِلاَيَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، لأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاَ يَأَمُرُهُمْ إِلاَّ بِمَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَصَلاَحُهُمْ ، أَمَّا النَّفْسُ فَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ ، وَقَدْ تَجْهَلُ بَعْضَ المَصَالِحِ . وَجَعَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ فِي مَقَامِ الأُمّهَاتِ لِلْمُؤْمِنينَ فِي الحُرْمَةِ والاحتِرَامِ . وَكَانَ التَّوَارُثُ فِي بَدْءِ الإِسْلامِ بِالحِلْفِ وَالمُؤَاخَاةِ بَينَ المُسلِيِمينَ ، فَكَانَ المُتآخِيَانِ يَتَوَأرَثَانِ ( وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَينِ نَسَباً ) دُونَ سَائِرِ الأَقْرِبَاءِ ، فَأَبْطَلَ اللهُ تَعَالى هذا التَّعَامُلَ فِي هذهِ الآيةِ ، وَرَدَّ المِيرَاثَ إِلى أَقْرِبَاءِ النَّسَبِ ، فَجَعَلَ أُولِي الأَرْحَامِ بِحَقِّ القَرَابَةِ ، أَولى بالمِيراثِ مِنَ المُؤمِنينَ بِحَقِّ الدِّينِ ، والمُهَاجِرِينَ بِحَقِّ الهِجْرَةِ . واسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هذا الحُكْمِ الوَصِيَّةَ ( المَعْرُوفَ ) ، التي يُريدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يُوصِيَ بِها إِلى أَحَدِ المُهَاجِرِينَ والمُؤْمِنينَ ( أَوْلِيَائِكُمْ ) فَإِنَّهُ فِي هذِهِ الحَالِ يَسْتَحِقُّها دُونَ ذَوِي الحُقُوقِ فِي المِيراثِ مِنْ أَقْرِبَاءِ النّضسَبِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالى : إِنَّ جَعْلَ ذَوِي الأَرْحَامِ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في المِيراثِ هُوَ حُكْمٌ قَدَّرَهُ الله تَعَالَى ، وَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابِهِ الذِي لاَ يُبَدِّلُ وَلاَ يُغَيَّرُ .
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة ، تاركين وراءهم كل شيء ، فارين إلى الله بدينهم ، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى ، وذخائر المال ، وأسباب الحياة ، وذكريات الطفولة والصبا ، ومودات الصحبة والرفقة ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، متخلين عن كل ما عداها . وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو ، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس ، بما في ذلك الأهل والزوج والولد المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة ، واستيلائها على القلب ، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة . وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول الله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } . .
كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى . فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت ، وظل آخرون فيها على الشرك .
فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم . ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية؛ وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية .
وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليداً ، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس ، من أن تكون نظاماً مستنداً إلى أوضاع مقررة .
هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة ، تغطي على كل العواطف والمشاعر ، وكل الأوضاع والتقاليد ، وكل الصلات والروابط . لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب ، وتربط في الوقت ذاته الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة؛ فتقوم بينها مقام الدم والنسب ، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام ، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة . لا بنصوص التشريع ، ولا بأوامر الدولة؛ ولكن بدافع داخلي ومد شعوري . يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية . وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس ، حيث لم يكن مستطاعاً أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع .
نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار ، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم؛ فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم ، وفي أموالهم . وتسابقوا إلى إيوائهم؛ وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة . إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار . وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس ، وطيب خاطر ، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري ، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة!
وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار . وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد . وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم ، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها .
وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية؛ وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة . بل بما هو أكثر . وكان ضرورياً لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها .
وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف ، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة ، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها . وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية .
وإن الإسلام مع حفاوته بذلك المد الشعوري ، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائماً فوارة دائماً ، مستعدة للفيضان . لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية ، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاسثنائية ، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية؛ ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي ، وللنظام العادي ، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة .
ومن ثم عاد القرآن الكريم بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئاً ما بعد غزوة بدر ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار ، ووجود أسباب معقولة للارتزاق ، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى ، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم . . عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب ، مستبقياً إياه من ناحية العواطف والمشاعر ، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة . ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية . فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب كما هي أصلاً في كتاب الله القديم وناموسه الطبيعي : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً . كان ذلك في الكتاب مسطوراً } . .
وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم ، بل على قرابة النفس! : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } . . وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة لجميع المؤمنين : { وأزواجه أمهاتهم } . .وولاية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها ، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول عليه صلوات الله وسلامه ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به » .
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم من أنفسهم . فلا يرغبون بأنفسهم عنه؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح : « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين » وفي الصحيح أيضاً « أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي . فقال - صلى الله عليه وسلم - : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك . فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من كل شيء حتى من نفسي . فقال - صلى الله عليه وسلم - : الآن يا عمر »
وليست هذه كلمة تقال ، ولكنها مرتقى عال ، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب . فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حباً فوق ما يتصور ، وفوق ما يدرك! وإنه ليخيل إليه أحياناً أنه طوّع مشاعره ، وراض نفسه ، وخفض من غلوائه في حب ذاته ، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها ، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! ويحس لهذه المسة لذعاً لا يملك انفعاله معه ، فإن ملكه كمن في مشاعره ، وغار في أعماقه! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها؛ ولكنه يصعب عليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيراً لها ، أو عيباً لشيء من خصائصها ، أو نقداً لسمة من سماتها ، أو تنقصاً لصفة من صفاتها .
وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره! والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان ، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية؛ أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة ، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته . وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكفي أن عمر وهو من هو قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي .
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم . جاء في الصحيح . . « ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا . وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه » والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغاراً .
وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عال ، ولا إلى فورة شعورية استثنائية . مع الإبقاء على صلات المودة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء . فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته؛ أو أن يهبه في حياته . . { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } . .
ويشد هذه الإجراءات كلها إلى العروة الأولى ، ويقرر أن هذه إرادة الله التي سبق بها كتابه الأزلي : { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } . . فتقر القلوب وتطمئن؛ وتستمسك بالأصل الكبير الذي يرجع إليه كل تشريع وكل تنظيم .
بذلك تستوي الحياة على أصولها الطبيعية؛ وتسير في يسر وهوادة؛ ولا تظل معلقة مشدودة إلى آفاق لا تبلغها عادة إلا في فترات استثنائية محدودة في حياة الجماعات والأفراد .
ثم يستبقي الإسلام ذلك الينبوع الفياض على استعداد للتفجر والفيضان ، كلما اقتضت ذلك ضرورة طارئة في حياة الجماعة المسلمة .
ـــــــــــــ
(1/130)
الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - شهيد على المسلمين
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) [البقرة/143 ]
كَانَ النَّاسُ ، قَبْلَ الإِسْلاَمِ ، فِئَتِينِ :
- فِئَةً مَادِّيَّةً لا هَمَّ لَهَا إِلاَّ تَحْقيقُ مَا يَتَطَلَّبُهُ الجَسَدُ وَلَذَائِذُهُ كَالمُشْرِكينَ وَاليَهُودِ ، وَقَالُوا إِنْ هيَ إِلاَّ حَيَاتُنا الدُّنيا ، وَمَا يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهرُ .
وَفِئَةً طَغَتْ عَلَيها النَّزعَةُ الرُّوحَانِيَّةُ الخَالِصَةُ ، وَسَيْطَرَتْ عَلَيهَا فِكْرَةُ تَرْكِ الدُّنيا وَمَا فِيها مِنَ اللَّذائِذِ الجَسَدِيَّةِ كَالنَّصَارَى وَالصَابِئَةِ وَبَعْضِ طَوَائِفِ الهُنُودِ .
فَجَاءَ الإِسلامُ لِيَجْعَلَ المُسْلِمِينَ وَسَطاً بَيْنَ هؤلاءِ وَهؤُلاءِ ، فَقَالَ بِتَحقيقِ مَطَالِبِ الجَسَدِ بِلا إِسْرافٍ وَلاَ مُبَالَغَةٍ ، مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى السُمُوِّ الرُّوحِيِّ ، لأَنَّ الإِنسَانَ جَسَدٌ وَرُوحٌ .
وََقَدْ جَعَلَ اللهَ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَسَطاً لَِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى المَادِيِّينَ الذِينَ فَرَّطُوا في جَنْبِ اللهِ ، وَأخلَدُوا إِلى اللَّذاتِ ، وَصَرَفُوا أنفُسَهُمْ عَنْ قَضَايَا الرُّوحِ ، وَشُهَداءَ عَلَى الغُلاةِ فِي الرُّوحَانِيَّةِ الذِينَ قَالُوا بِتَخَلِّي الإِنسَانِ عَن اللَّذاتِ الجَسَدِيَّةِ ، وَبِحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ جَميعِ مَا أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ فِي هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيا
وَلِيَكُونَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ القُدوَةُ والمَثَلُ الأَعلَى لِلمُؤْمِنينَ باللهِ ، شَهِيداً عَلَى المُسلِمِينَ إِن كَانُوا اتَّبعُوا سِيرَتَهُ وَشَرْعَهُ ، اوِ انحَرَفُوا وَحَادُوا عَنِ الاعتِدالِ .
وَيَقُولُ اللهُ تََعَالَى إِنَّهُ إِنَّما شَرَعَ لِلنَّبِيِّ التَّوَجُّهَ إِلى بَيْتِ المَقْدِسِ أَوَّلاً ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى البَيتِ الحَرَامِ لِيَظْهَرَ مَنْ يَتَّبعُ النَّبِيَّ وَيُطِيعُهُ وَيَتَّجِهُ حَيثُما اتَّجَهَ ، دُونَ تَشَكُّكٍ وَلا ارتِياب ، ممَّن يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ ( يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) ، وَإِنْ كَانَ فِي هذَا الصَّرفِ عَنْ بيتِ المَقْدِسِ مَشَقَّةٌ عَلَى النُّفُوسِ ، غَيرَ النُّفُوسِ التِي هَدَاهَا اللهُ إِلى الإِيمَان ، وَلِيَظْهَرَ مَنْ يُصَدِّقُ الرَّسُولَ وَمَا جَاءَ إِليهِ مِنْ رَبِّهِ بِصُورَةٍ مُطْلَقةٍ؛ وَهؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ المُصَدِّقُونَ يَكُونُ الأَمْرُ عَلَيهِمْ سَهْلاً يَسِيراً .
وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُتَسَائِلينَ عَلَى أَحْوالِ قَومٍ مِنَ المُسلِمِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلى بيتِ المَقْدِسِ ، ثُمَّ مَاتُوا قَبلَ أن تُحَوَّلَ القِبْلَةُ إِلى الكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّ اللهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ المُحْسِنينَ فَاللهُ تَعَالَى رَؤُوفٌ بِالنَّاسِ رَحِيمٌ .
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً فتقيم بينهم العدل والقسط؛ وتضع لهم الموازين والقيم؛ وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها ، وتقول : هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة . . وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها . . لتعرفها ، ولتشعر بضخامتها . ولتقدر دورها حق قدره ، وتستعد له استعداداً لائقاً . .
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .
{ أمة وسطاً } . . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال .
{ أمة وسطاً } . . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدئم الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ، في تثبت ويقين .
{ أمة وسطاً } . . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .
{ أمة وسطاً } . . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ; وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق .
{ أمة وسطاً } . . في المكان . . في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعاً ، وتشهد على الناس جميعاً؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .
{ أمة وسطاً } . . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى; وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء؛ وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك .
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها ، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها ، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها ، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها .
وأمة تلك وظيفتها وذلك دورها ، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية ، فللقيادة تكاليفها ، وللقوامة تبعاتها ، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى ، ليتأكد خلوصها لله وتجردها ، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة .
وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها بمناسبة تحويلهم الآن عنها : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } . .ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة ، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة ، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة
إنه يريد لها أن تخلص له؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية ومن كل شعار اتخذته ، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر ، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر .
ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك ، ومن عصبية الجنس ، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس ، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره ، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته .
لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى ، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة ، ووجههم إلى بيت المقدس ، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولاً؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ثانياً ، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله ، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة ، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة .
إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة . . إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكاً؛ ولا تقبل شعاراً غير شعارها المفرد الصريح ; إنها لا تقبل راسباً من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور . جل أم صغر . وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } . . والله - سبحانه - يعلم كل ما يكون قبل أن يكون . ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس ، حتى يحاسبهم عليه ويأخذهم به فهو - لرحمته بهم - لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم ، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم .
ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية ، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس عُلقة . . أمر شاق ، ومحاولة عسيرة . . إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق ، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه :{ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } . .
فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات ، وأن تنفض عنها تلك الرواسب؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع حيثما وجهها الله تتجه وحيثما قادها رسول الله تقاد .
ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال وإن صلاتهم لم تضع ، فالله سبحانه لا يعنت العباد ، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها : { وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم } ..
إنه يعرف طاقتهم المحدودة ، فلا يكلفهم فوق طاقتهم؛ وإنه يهدي المؤمنين ، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان ، حين تصدق منهم النية ، وتصح العزيمة . وإذا كان البلاء مظهراً لحكمته ، فاجتياز البلاء فضل رحمته : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } . .
بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة ويذهب عنها القلق ، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . .
ـــــــــــــ
(1/131)
أمته خير الأمم
قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) } [آل عمران/110]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فِي الوُجُودِ ، لأنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِيمَاناً صَادِقاً بِاللهِ ، وَيَظْهَرُ أثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمْ ، فَيَنْزِعُهُمْ عَنِ الشَّرِّ ، وَيَصْرِفُهُمْ إلَى الخَيْرِ ، فَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرَاتِ وَمَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالبَغْي .
وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتَابِ إِيمَاناً صَحِيحاً يَسْتَوْلي عَلَى النُّفُوسِ ، وَيَمْلِكُ أَزِمَّةِ القُلُوبِ فَيَكُونُ مَصْدَرَ الفَضَائِلِ وَالأَخْلاَقِ الحَسَنَةِ ، كَمَا تُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ ، أَيُّها المُسْلِمُونَ ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَهُ مِنْ إِيمَانٍ لاَ يَزَعُ النُّفُوسَ عَنِ الشُّرُورِ ، وَلا يُبْعِدُهَا عَنِ الرَّذَائِلِ . وَبَيْنَ أهْلِ الكِتَابِ جَمَاعَةٌ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ فِي إيمَانِهِمْ ، وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ عَنْ دِينِهِمْ ، مُتَمَرِّدُونَ فِي الكُفْرِ .
إن التعبير بكلمة { أخرجت } المبني لغير الفاعل ، تعبير يلفت النظر . وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة ، تخرج هذه الأمة إخراجاً؛ وتدفعها إلى الظهور دفعاً من ظلمات الغيب ، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله . . إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى ، لطيفة الدبيب . حركة تخرج على مسرح الوجود أمة . أمة ذات دور خاص . لها مقام خاص ، ولها حساب خاص : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } . .
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها ، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة ، ولتكون لها القيادة ، بما أنها هي خير أمة . والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض . ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية . إنما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الأمم مما لديها . وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه . ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح ، والتصور الصحيح ، والنظام الصحيح ، والخلق الصحيح ، والمعرفة الصحيحة ، والعلم الصحيح . . هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ، وتحتمه عليها غاية وجودها . واجبها أن تكون في الطليعة دائماً ، وفي مركز القيادة دائماً . ولهذا المركز تبعاته ، فهو لا يؤخذ ادعاء ، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلاً له .
. وهي بتصورها الاعتقادي ، وبنظامها الاجتماعي أهل له . فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي ، وبعمارتها للأرض - قياماً بحق الخلافة - أهلاً له كذلك . . ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال . . لو أنها تتبعه وتلتزم به ، وتدرك مقتضياته وتكاليفه .
وفي أول مقتضيات هذا المكان . أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد . . وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي خير أمة أخرجت للناس . لا عن مجاملة أو محاباة ، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون : « نحن أبناء الله وأحباؤه » . . كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر ، وإقامتها على المعروف ، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } . .
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة ، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب ، وبكل ما في طريقها من أشواك . . إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد . . وكل هذا متعب شاق ، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة . .
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر . فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي . فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل . ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر ، وللفضيلة والرذيلة ، وللمعروف والمنكر . يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .
وهذا ما يحققه الإيمان ، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه . وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون . . ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية . ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد . ومن سلطان الله في الضمائر ، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير ، الآمرون بالمعروف ، الناهون عن المنكر ، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق ، ويحتملوا تكاليفه . وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته ، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها ، ويواجهون هبوط الأرواح ، وكلل العزائم ، وثقلة المطامع . . وزادهم هو الإيمان ، وعدتهم هي الإيمان . وسندهم هو الله . . وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد . وكل عدة سوى عدة الإيمان تُفلّ ، وكل سند غير سند الله ينهار!
وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها .ليدلها على أنها لا توجد وجوداً حقيقياً إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية ، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني . فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة . وإما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة . وغير متحققة فيها صفة الإسلام .
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة . ندعها لمواضعها . وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته نقتطف بعضها :
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان »
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم . . ثم جلس - وكان متكئاً - فقال : لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً » أي تعطفوهم وتردوهم .
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ، منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم » .
وعن عرس ابن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها » .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر » .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « سيد الشهداء حمزة . ورجل قام إلى سلطان جائر ، فأمره ونهاه ، فقتله » .
وغيرها كثير . . وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم ، وضروراتها لهذا المجتمع أيضاً . وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة . وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته .
ثم نعود إلى الشطر الآخر من الآية الأولى في هذه المجموعة . .{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } . .وهو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان .فهو خير لهم . خير لهم في هذه الدنيا ، يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية ، والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية . إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم ، فتقوم أنظمتهم الاجتماعية - من ثم - على غير أساس ، عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل ، وعلى تفسير كامل للوجود ، ولغاية الوجود الإنساني ، ومقام الإنسان في هذا الكون . . وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير .
ثم هو بيان كذلك لحالهم ، لا يبخس الصالحين منهم حقهم : { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون }
وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم . منهم عبد الله بن سلام ، وأسد بن عبيد ، وثعلبة بن شعبة ، وكعب بن مالك . . وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال - وفي آية تالية بالتفصيل - أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله ، حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين : أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده ، وأن ينصره . وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل ، واتباع هذا الرسول وطاعته ولاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله ، أرادها للناس أجمعين .
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
النبوة والأنبياء في القرآن والسنة
الباب الرابع
شمائل الرسول - صلى الله عليه وسلم -
الفصل الأول
الشمائلُ العامَّةُ
ليس هناك أحدٌ من البشر نال من الحب والتقدير ما ناله المصطفى ، فباسمه تلهج ملايين الألسنة، ولذكره تهتزّ قلوب الملايين، ولكن العبرة أن يتحول هذا الحب إلى محض اتباع دقيق لكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، كما قال الحق تبارك وتعالى مبيناً معيار المحبة الصادقة:{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
بل سيرته هي المنظومة المتألفة والكوكبة المتلألئة والشمس الساطعة والسنا المشرق والمشعل الوضاء الذي يبدّد ركام الظُّلْم والظُّلَم، ولئن فات كثيرين رؤيتُه بأبصارهم، فإن في تأمُّلِ شمائله لعزاءً وسلوانا، فالمطبقون لشمائله إن لم يصحَبوا نفسَه أنفاسَه صحِبوا.
إن فاتكم أن تروه بالعيون فما ... ... يفوتكم وصفُه هاذي شمائله
مكمَّل الذات في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ... ... وفي صفاتٍ فلا تحصى فضائله
يخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى وسيرته كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة، محدودة بعلمٍ أو عبقرية أو حِنكة. فرسولنا قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها في ذاته وشمائله وجميع أحواله، لكنه مع ذلك ليس رباً فيقصَد، ولا إلهًا فيُعبَد، وإنما هو نبي يُطاع ورسول يُتَّبع، خرَّج البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ - رضى الله عنه - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لاَ تُطْرُونِى كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ »(1). .
إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل الإسلام لم يقدروا رسولهم حقَّ قدره حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم، ذلك أنه حبٌّ سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك والامتثال.
تأملوا هديه وشمائله في جوانب الدين والدنيا بأسرها.
ففي مجال توحيده لربه صدَع بالتوحيد ودعا إليه ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة، كيف لا وهو المنزَّل عليه قوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. وإن أول واجب على محبيه أن يُعنَوا بأمر الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرة كل ما يخدش صحيح المعتقد وصفو المتابعة .
وفي مجال عبوديته لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، عَنْ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ : إِنْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ « أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا »(2)..
وفي مجال الأخلاق تجده مثال الكمال في رقة القلب، وسماحة اليد، وكفِّ الأذى، وبذل الندى، وعفة النفس، واستقامة السيرة. فعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى فَقُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ :(يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وَحِرْزاً لِلأُمِّيِّينَ وَأَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَسْتَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ - قَالَ يُونُسُ وَلاَ صَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ - وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُناً عُمْياً وَآذَاناً صُمًّا وَقُلُوباً غُلْفاً.(3)
زانتْه في الخلق العظيم شمائلٌ ... ... يُغرى بهن ويولَع الكرماء
وأعظم من ذلك وأبلغ ثناءُ ربه عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم }[القلم:4]، وقال تعالى :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ،وعن أَنَسٍ قالَ : مَا شَمِمْتُ شَيْئاً عَنْبَراً قَطُّ وَلاَ مِسْكاً قَطُّ وَلاَ شَيْئاً قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ مَسِسْتُ شَيْئاً قَطُّ دِيبَاجاً وَلاَ حَرِيراً أَلْيَنَ مَسًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ ثَابِتٌ فَقُلْتُ يَا أَبَا حَمْزَةَ أَلَسْتَ كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَأَنَّكَ تَسْمَعُ إِلَى نَغَمَتِهِ فَقَالَ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَقُولَ يَا رَسُولَ اللَّهِ خُوَيْدِمُكَ. قَالَ خَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَا غُلاَمٌ لَيْسَ كُلُّ أَمْرِى كَمَا يَشْتَهِى صَاحِبِى أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ لِى فِيهَا أُفٍّ وَلاَ قَالَ لِى لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَأَلاَ فَعَلْتَ هَذَا..(4)
تلك لعمرو الحق عراقةُ الخلال وسمو الخصال، وكريم الشمائل وعظيم الفضائل، فسبحان من رفع قدره، وشرح صدره، وأعلى في العالمين ذكره. وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه :(5)
أغَرُّ، عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّة ِ خَاتَمٌ مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ ويُشْهَدُ
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ، إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ
وشقّ لهُ منِ اسمهِ ليجلهُ، فذو العرشِ محمودٌ، وهذا محمدُ
نَبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأسٍ وَفَتْرَة ٍ منَ الرسلِ، والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ
فَأمْسَى سِرَاجاً مُسْتَنيراً وَهَادِياً، يَلُوحُ كما لاحَ الصّقِيلُ المُهَنَّدُ
وأنذرنا ناراً، وبشرَ جنة ً، وعلمنا الإسلامَ، فاللهَ نحمدُ
وأنتَ إلهَ الخلقِ ربي وخالقي، بذلكَ ما عمرتُ فيا لناسِ أشهدُ
تَعَالَيْتَ رَبَّ الناسِ عن قَوْل مَن دَعا سِوَاكَ إلهاً، أنْتَ أعْلَى وَأمْجَدُ
لكَ الخلقُ والنعماءُ، والأمرُ كلهُ، فإيّاكَ نَسْتَهْدي، وإيّاكَ نَعْبُدُ
فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره في هديه وشمائله؟!
وهناك صفحة أخرى يا رعاكم الله، في معاملاته لأصحابه وأهل بيته وزوجاته، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا ».(6).
وهكذا في سياسة الدولة الإسلامية وفي عبادته لربه، وفي نفقته وبذله، وفي قوته وجهاده، وحرصه على أداء رسالة الله وتبليغ دعوة ربه تبارك وتعالى.
وهذا أنموذج على حكمته في الدعوة، ورفقه بالمدعوين ورحمته بالناس، مسلمين وغير مسلمين،قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء:107]، ومراعاته لحقوق الإنسان، بل ورفقه حتى بالحيوان، في وقت تتغنى فيه حضارة اليوم بدوس كرامة الإنسان ورعاية أحطِّ حيوان، فالله المستعان.
ويتجلى هذا الأنموذج الرائع في قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، حين نهره الصحابة رضي الله عنهم، فقال : ((دعوه، لا تزرموه))، أي: لا تنهروه، فقال لهم : ((إنما بُعثتم مبشرين، ولم تبعثوا معسرين)) وأرشده برفق وحكمه، وكانت النتيجة أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. متفق عليه(7).
وفي قصة ثمامة بن أثال حينما أُسر ورُبط بسارية المسجد وهو مشرك وسيد قومه عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِى خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ ، إِنْ تَقْتُلْنِى تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ . حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ . فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ ، فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِى مَا قُلْتُ لَكَ . فَقَالَ « أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ » ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ وَجْهِكَ ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ دِينِكَ ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَىَّ مِنْ بَلَدِكَ ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَىَّ ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِى وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ ، فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ . قَالَ لاَ ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - .(8).
تلك آثار الدعوة بالرفق والرحمة والحسنى، والبعد عن مسالك العنف والغلظة والفظاظة، وهو درس بليغ للدعاة إلى الله إلى قيام الساعة.
بنيتَ لهم من الأخلاق ركناً ... ... فخانوا الركن فانهدم اضطرابا
وكان جَنابهم فيها مُهابا ... ........ ... ولَلأخلاق أجدرُ أن تهابا
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ :« إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ».(9)، و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ سَرَّحَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْخَيْلِ وَقَالَ :« يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ بِالأَنْصَارِ ». قَالَ :« اسْلُكُوا هَذَا الطَّرِيقَ فَلاَ يُشْرِفَنَّ لَكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَنَمْتُمُوهُ ». فَنَادَى مُنَادِى : لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ دَخَلَ دَارًا فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ ». وَعَمَدَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ فَدَخَلُوا الْكَعْبَةَ فَغَصَّ بِهِمْ وَطَافَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ ثُمَّ أَخَذَ بِجَنَبَتَىِ الْبَابِ فَخَرَجُوا فَبَايَعُوا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الإِسْلاَمِ.
__________
(1) - صحيح البخاري (3445 )- تطرونى : تمدحونى
(2) - صحيح البخاري (1130)
(3) - مسند أحمد(6781) صحيح
الحرز : الحصن - سخاب : صيَّاح - الغلف : جمع الأغلف وهى القلوب المغشاة المغطاة
(4) - مسند أحمد(13663) صحيح
(5) - تراجم شعراء موقع أدب - (ج 7 / ص 467) رقم القصيدة : 12836
(6) - سنن الترمذى( 1195 ) صحيح
(7) - أخرجه البخاري في الوضوء (220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مختصرا، ومسلم في الطهارة (285) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس في الحديثين 215/5قول الأعرابي، وإنما أخرجه البخاري في الأدب (6010) عن أبي هريرة مفردا من غير ذكر القصة.
(8) - صحيح البخارى (4372 )5/215
(9) - صحيح مسلم (6778 )
(1/132)
- زَادَ فِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمِ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ : ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَىِ الْبَابِ فَقَالَ :« مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ ». قَالُوا : نَقُولُ ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٍ رَحِيمٍ قَالَ وَقَالُوا ذَلِكَ ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ». قَالَ فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ فَدَخَلُوا فِى الإِسْلاَمِ"(1)
ألا فلتعلم الإنسانية قاطبة والبشرية جمعاء هذه الصفحات الناصعة من رحمة الإسلام ورسول الإسلام والسلام عليه الصلاة والسلام، الذي يجدون ذكر شمائله في توراة موسى وفي بشارة عيسى، وليعلم من يقفُ وراء الحملات المغرضة ضد الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام ما يتمتع به الإسلام من مكارم وفضائل، ومحاسن وشمائل، ومدى البون الشاسع بين عالميته السامية وعولمتهم المأفونة في إهدارٍ للقيم الإنسانية وإزراءٍ بالمثل الأخلاقية.
وهل تدرك الأمة الإسلامية اليوم الطريقةَ المثلى للدعوة إلى دينها وإحياء سنة رسولها إحياءً عملياً حقيقياً، لا صوريا وشكلياً؟!
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثاني
الشمائل المحمدية(2)
إن محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام لم يكن ميلاده من الأهمية كمثل ميلاد أيّ رجل من الناس، فقد كانت الأرض على موعد بعد أربعين عامًا من مولده مع بعثةٍ هي آخر رسالات الله إلى أهل الأرض، وكان الزمن على موعد مع كلمةِ الله الخاتمة إلى الثقلين الجن والإنس.
بعث الله نبيه محمدًا على فترة من الرسل، ففتح الله بدعوته القلوب، وأنارت رسالته الصدور، وكان للناس كالنهار يأتي بعد الليل، وكالنور يسطع من بعد الظلام.
لقد انطلق نور الدعوة من جوار الكعبة بيت الله الحرام، ليضيء المشارق والمغارب، ولتتحقق دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليهما الصلاة والسلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]،
وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْراءيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف:6].
كان محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الإجابة لدعوة إبراهيم، وكان هو التصديق لبشارة عيسى. أيّ نبيٍ كان؟! وأيّ رسول ؟!
إن العبارة لتنحني أمام شمائل هذا النبي وخصاله، وأي عبارة تصلح لترجمة ما كان عليه هذا النبي الكريم؟! وإنه لشرف كبير أن يكون المرء من أتباعه والمقتدين به، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4].
لقد تشرف برؤيته وصحبته والإيمان به ونصرته جيلُ الصحابة الكرام، فكانوا شهادة أخرى لنبوته في إيمانهم وإسلامهم وجهادهم، ولكن هذه الصحبة ليست خاصة بهم، فكل مسلم يمكن أن يصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها.
إن الصحبة بهذا المعنى مفتوحة لكل الأجيال، فمن فاته أن يراه في الدنيا ويصحبه فيها فإنه يستطيع أن يدرك صحبته وجواره ورؤيته في الجنة.
هذا ميراثه بين الناس: ((كتاب الله وسنتي))، من أخذ بهما أدرك الصحبتين، لا أعني الصحبة الخاصة، فهذه فضيلة لأصحابه الأولين، لا يشاركهم فيها غيرهم، ولكن أقصد الصحبة العامة في الدنيا، والجوار الدائم في الآخرة.
إن رسول الله وإن كان غائبًا بشخصه عنا ـ لأنه مثل غيره من الأنبياء وافاه أجله ـ إلا أنه لم يغب أبدًا بأقواله وأعماله، فهو بيننا في كل وقت، ونحتاج يقظة وانتباهًا لنرى هديه أمامنا وسيرته حولنا وأخلاقه وفضائله عن يميننا وشمالنا.{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
أجل كانت سيرته ملهمة وموجّهة، فيها الشاهد لكل موقف من مواقف الحياة، لا يحتاج المسلمون سوى إلى البحث عنه.
كان خُلُقه القرآن، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه،
وهذه لقطات من هذا الخلق القرآني:
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا(3).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا »(4)..
وعَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّىْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلاَنٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ « مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا » رواه أبو داود(5).
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ .. رواه البخاري(6).
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ ، قَالَ وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا ، قَالَ فَتَلَقَّاهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَرَسٍ لأَبِى طَلْحَةَ عُرْىٍ ، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ فَقَالَ « لَمْ تُرَاعُوا ، لَمْ تُرَاعُوا » . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَجَدْتُهُ بَحْرًا » . يَعْنِى الْفَرَسَ . رواه البخاري(7).
وعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِىِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِى أُفًّا. قَطُّ وَلاَ قَالَ لِى لِشَىْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا رواه مسلم(8).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ .. رواه البخاري(9).
و عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لاَ. رواه مسلم(10).
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ التَّمِيمِيَّ - وَكَانَ وَصَّافًا - عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخْمًا مُفَخَّمًا ، يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَأَطْوَلَ مِنَ الْمَرْبُوعِ ، وَأَقْصَرَ مِنَ الْمُشَذَّبِ عَظِيمَ الْهَامَةِ ، رَجِلَ الشَّعْرِ ، إِذَا تَفَرَّقَتْ عَقِيصَتُهُ فَرَقَ فَلَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ ، إِذَا هُوَ وَفْرُهُ ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ ، وَاسِعَ الْجَبِينِ ، أَزَجَّ الْحَوَاجِبِ ، سَوَابِغَ مِنْ غَيْرِ قَرْنٍ بَيْنَهُمَا عِرْقٌ يُدِرُّهُ الْغَضَبُ ، أَقْنَى الْعِرْنِينِ ، لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ ، يَحْسَبُهُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ أَشَمَّ ، كَثَّ اللِّحْيَةِ ، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ ، ضَلِيعَ الْفَمِ ، أَشْنَبَ ، مُفَلَّجَ الْأَسْنَانَ ، دَقِيقَ الْمَسْرَبَةِ ، كَأَنَّ عُنُقَهُ جِيدَ دِمْنَةٍ فِي صَفَاءِ الْفِضَّةِ ، مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ بَادِنَ مُتَمَاسِكَ ، سَوَاءٌ الْبَطْنُ وَالصَّدْرُ ، عَرِيضَ الصَّدْرِ ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ ، أَنْوَرَ الْمُتَجَرَّدَ ، مَوْصُولَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالسُّرَّةِ بِشَعْرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ ، عَارِيَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ ، أَشَعَرَ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَأَعَالِيَ الصَّدْرِ طَوِيلَ الزَّنْدَيْنِ ، رَحْبَ الرَّاحَةِ ، سَبْطَ الْقَصَبِ ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ ، سَائِرَ الْأَطْرَافِ ، خُمْصَانَ الْأَخْمَصَيْنِ ، مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ ،إِذَا زَالَ زَالَ قُلَعًا ، وَتَخَطَّى تَكَفِيًّا ، وَيَمْشِي هَوْنًا ، ذَرِيعَ الْمِشْيَةِ إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا ، خَافِضَ الطَّرْفِ ، نَظَرُهُ إِلَى الْأَرْضِ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلَاحَظَةُ ، يَسُوقُ أَصْحَابَهُ ، يَبْدُرُ مَنْ لَقِيَ بِالسَّلَامِ . قُلْتُ : صِفْ لِي مَنْطِقَهُ . قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ ، دَائِمَ الْفِكْرَةِ ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ ، لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ ، طَوِيلَ الصَّمْتِ يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ، فَصْلٌ لَا فُصُولٌ وَلَا تَقْصِيرٌ ، دَمِثٌ لَيْسَ بِالْجَافِي وَلَا الْمُهِينِ ، يُعَظِّمُ النِّعْمَةَ وَإِنْ دَقَّتْ لَا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْءٌ، لَا يَذُمُّ ذَوَاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ ، وَلَا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا وَلَا مَا كَانَ لَهَا ، فَإِذَا نُوزِعَ الْحَقَّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ ، لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا ، إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا ، وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا ، وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا فَيَضْرِبُ بِبَاطِنِ رَاحَةِ الْيُمْنَى بَاطِنَ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى ، وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ، وَإِذَا ضَحِكَ غَضَّ طَرْفَهُ ، جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ ، وَيَفْتُرُ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ . فَكَتَمَهَا الْحُسَيْنُ زَمَانًا ، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا سَأَلْتُهُ وَوَجَدْتُهُ قَدْ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مُدْخَلِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمُخْرَجِهِ وَشَكْلِهِ ، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا . قَالَ الْحُسَيْنُ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ نَفْسَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ : جُزْءٌ لِلَّهِ وَجُزْءٌ لِأَهْلِهِ وَجُزْءٌ لِنَفْسِهِ . ثُمَّ جَزَّأَ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ ، فَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا ، فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ ، وَقَسْمُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ ، فَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيُلَائِمُهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ ، وَيَقُولُ : " لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، وَأَبْلِغُوا فِي حَاجَةٍ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا وَأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغِي حَاجَتَهُ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا إِيَّاهُ يُثَبِّتُ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . لَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا ذَاكَ ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ ، يَدْخُلُونَ رُوَّادًا وَلَا يَتَفَرَّقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ وَيَخْرُجُونَ أَذِلَّةً . قَالَ : فَسَأَلْتُهُ عَنْ مُخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُخَزِّنُ لِسَانَهُ إِلَّا مِمَّا يَنْفَعُهُمْ وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يُفَرِّقُهُمْ أَوْ قَالَ : وَلَا يُنَفِّرُهُمْ ، فَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ وَيُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ ،وَيَحْذَرُ النَّاسَ وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ سِرَّهُ وَلَا خُلُقَهُ ، يَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ ، وَيَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي النَّاسِ ، وَيُحَسِّنُ الْحَسَنَ وَيُقَوِّيهِ ، وَيُقَبِّحُ الْقُبْحَ وَيُوهِنُهُ ، مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ، لَا يَغْفُلُ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَمِيلُوا ، لِكُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ عَتَادٌ ، لَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ وَلَا يَجُوزُهُ ، الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ ، أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ نَصِيحَةً ، وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً وَمُؤَازَرَةً . فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَجْلِسُ وَلَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ ، وَلَا يُوَطِّنُ الْأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ ، لَا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ ، مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَصَرِّفَ ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ ، قَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهُ بَسْطَةٌ وَخِلْقَةٌ ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً ، مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ ، لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ ، وَلَا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ وَلَا تُنْثَى فَلَتَاتُهُ ، مُتَعَادِلِينَ مُتَوَاصِينَ فِيهِ بِالتَّقْوَى مُتَوَاضِعِينَ ، يُوَقِّرُونَ الْكَبِيرَ وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ وَيُؤْثِرُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ . قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي جُلَسَائِهِ ؟ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَائِمَ الْبِشْرِ ، سَهْلَ الْخُلُقِ ، لَيِّنَ الْجَانِبِ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا فَاحِشٍ وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مَزَّاحٍ ، يَتَغَافَلُ عَمًّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يُؤْنَسُ مِنْهُ وَلَا يُخَيِّبُ فِيهِ ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : الْمِرَاءُ وَالْإِكْبَارُ وَمِمَّا لَا يَعْنِيهِ ، وَتَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا وَلَا يُعَيِّرُهُ وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا ، وَلَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ ، مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيَّتِهِمْ ، يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْهَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُوهُمْ وَيَقُولُ : " إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ فَأَرْشِدُوهُ " . وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُوزَهُ فَيَقْطَعَهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ . قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ كَانَ سُكُوتُهُ ؟ قَالَ : كَانَ سُكُوتُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَرْبَعٍ : عَلَى الْحِلْمِ وَالْحَذَرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّفَكُّرِ ، فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ فَفِي تَسْوِيَتِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِمَاعَ بَيْنَ النَّاسِ ، وَأَمَّا تَذَكُّرُهُ - أَوْ قَالَ : تَفَكُّرُهُ - فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى ، وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ فِي الصَّبْرِ فَكَانِ لَا يُوصِبُهُ وَلَا يَسْتَفِزُّهُ ، وَجُمِعَ لَهُ الْحَذَرُ فِي أَرْبَعٍ : أَخْذُهُ بِالْحُسْنَى لِيَقْتَدُوا بِهِ ، وَتَرْكُهُ الْقَبِيحَ لِيَنْتَهُوا عَنْهُ ، وَإِجْهَادُهُ الرَّأْيَ فِيمَا يُصْلِحُ أُمَّتَهُ ، وَالْقِيَامُ فِيمَا يَجْمَعُ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .(11).
كان على هذه الأخلاق كلها، وعلى ما هو أعظم منها.
ولقد شهد له ربه بهذه الخصال في كتبه العزيز:{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]،
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران .
هذا هو المبعوث في العرب، أهل العصبية والقبلية والجفاء والخشونة والغلظة؟! عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً - ثُمَّ قَالَ - ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ - ثُمَّ قَالَ - أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِى فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِى . فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ . فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ » رواه البخاري(12).
انظر ما فارق عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فالزمه فإنه طريق النجاة ، فعن خَالِدَ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِىُّ وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ. فَقَالَ الْعِرْبَاضُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». رواه أبو داود(13).
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 9 / ص 118)(18738) وفيه إعضال
(2) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4272) الشمائل المحمدية
(3) - صحيح البخارى (3560 )
(4) - صحيح البخارى (3559 )
(5) - سنن أبى داود (4790 ) صحيح
(6) - صحيح البخارى (1902 )
(7) - صحيح البخارى(3040 )- العرى : لا سرج عليه
(8) - صحيح مسلم (6151 )
(9) - صحيح البخارى 32/8 (6102 )
(10) - صحيح مسلم -(6158 )
(11) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 26)(17868 ) وفيه جهالة
(12) - صحيح البخارى6/70( 4625 )
(13) - سنن أبى داود (4609 )صحيح
النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
(1/133)
ولا يخفى على مسلم أن الله سبحانه وتعالى أمر بتعظيم نبيه فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }[الفتح:8، 9]، وتعزيره نصره وتأييده ومنع كل ما يؤذيه، وتوقيره إجلاله وإكرامه وتشريفه، وقد أعطى المولى سبحانه لهذا النبي الكريم من الصفات العالية والأخلاق العظيمة ما يدعو كل مسلم أن يحبه ويعظمه، فهو محمد أي: المحمود عند الله وعند ملائكته، عند أهل أرضه وسمائه، محمود الخصال والصفات.
من نظر في أخلاقه علم أنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل البشر، كان أصدق الناس حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأجودهم كفًا، وأعظمهم عفوًا، وأوفاهم ذمة، وأشدهم تواضعًا. عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما - قُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى التَّوْرَاةِ . قَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا ، وَآذَانًا صُمًّا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا .أخرجه البخاري .(1)
ـــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى(2125 ) الحرز : الحصن - سخاب : صيَّاح
(1/134)
الفصل الثالث
بعضُ شمائله ووصاياه(1)
الأمرُ بالتيسير والرفق
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا »(2)
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.(3)
وعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ ».(4)
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ »(5).
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ».(6).
ومن ذلك الحذر من الغضب
قال جل وعلا في بيان بعض أوصاف المؤمنين: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (37) سورة الشورى .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ »(7). .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْصِنِى . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » . فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ « لاَ تَغْضَبْ »(8)..
ومنه الحلم والأناة
فعَنْ زَارِعٍ وَكَانَ فِى وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرِجْلَهُ - قَالَ - وَانْتَظَرَ الْمُنْذِرُ الأَشَجُّ حَتَّى أَتَى عَيْبَتَهُ فَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ « إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِى عَلَيْهِمَا قَالَ « بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا ». قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَبَلَنِى عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.(9)
ومن ذلك الوصية بالجار
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ »(10).
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ »(11).
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ إِنَّ خَلِيلِى - صلى الله عليه وسلم - أَوْصَانِى « إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ ».(12)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »(13).
الرحمة بالأطفال
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ - وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رضى الله عنه - وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ » . ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ » .(14).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ »(15).
وعَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ فَائْتِنَا . فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ « إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ » . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ - قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ - كَأَنَّهَا شَنٌّ . فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ . فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ »(16)وعَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِى الْعَاصِ وَهْىَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَاتِقِهِ فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا..(17)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا . فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ »(18)..
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ »(19).
حنانه وشفقته بالمريض
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنهم - فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِى غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ « قَدْ قَضَى » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَبَكَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا فَقَالَ « أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ » .(20)
ومن ذلك رحمته بالنساء والبنات
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ ، وَكَانَ مَعَهُ غُلاَمٌ لَهُ أَسْوَدُ ، يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ ، يَحْدُو ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ بِالْقَوَارِيرِ »(21). ؛ إشارة إلى ما فيهن من الصفاء والنعومة والرقة, وإشارة إلى ضعفهن وقلة تحملهن، ولذا فإنهن يحتجن إلى الرفق والصبر, عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ « مَنِ ابْتُلِىَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ »(22)
وكان يحب فاطمة رضي الله عنها حبًا جمًا, عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى ، كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْىُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَرْحَبًا بِابْنَتِى » . ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا ، فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ ،(23)..
قال الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
خلقه في الوفاء
مما تحلى به الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، من الأخلاق الفاضلة ، والشمائل الطيبة، الوفاء بالعهد ، وأداء الحقوق لأصحابها ، وعدم الغدر ، امتثالاً لأمر الله في كتابه العزيز حيث قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (152) سورة الأنعام. وتخلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخلق الكريم ظاهر بيّن ، سواء في تعامله مع ربه جل وعلا ، أو في تعامله مع أزواجه ، أو أصحابه ، أو حتى مع أعدائه.
ففي تعامله مع ربه كان - صلى الله عليه وسلم - وفياً أميناً ، فقام بالطاعة والعبادة خير قيام ، وقام بتبليغ رسالة ربه بكل أمانة ووفاء ، فبيّن للناس دين الله القويم ، وهداهم إلى صراطه المستقيم ، وفق ما جاءه من الله ، وأمره به ، قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) سورة النحل.
وكان وفياً مع زوجاته ، فحفظ لخديجة رضي الله عنها مواقفها العظيمة ، وبذلها السخي ، وعقلها الراجح، وتضحياتها المتعددة ، حتى إنه لم يتزوج عليها في حياتها ، وكان يذكرها بالخير بعد وفاتها ، ويصل أقرباءها، ويحسن إلى صديقاتها، وهذا كله وفاءاً لها رضي الله عنها، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ - قَالَتْ - فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا. قَالَ « مَا أَبْدَلَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِى إِذْ كَفَرَ بِى النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِى إِذْ كَذَّبَنِى النَّاسُ وَوَاسَتْنِى بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِى النَّاسُ وَرَزَقَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِى أَوْلاَدَ النِّسَاءِ »(24).
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأَةٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِطَعَامٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا تَغْمُرْ يَدَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ، أَوْ حَفِظَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيمَانِ، وَلَمَّا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِكَبِيرَةِ السِّنِّ حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قَالَ:مَا ذَنْبِي أَنْ رَزَقَهَا اللَّهُ مِنِّي الْوَلَدَ، وَلَمْ يَرْزُقْكِ؟ قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا إِلا بِخَيْرٍ.(25)
وكان وفياً لأقاربه
فلم ينس مواقف عمه أبي طالب من تربيته وهو في الثامنة من عمره ، ورعايته له ، فكان حريصاً على هدايته قبل موته ، ويستغفر له بعد موته حتى نهي عن ذلك، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِى طَالِبٍ « يَا عَمِّ ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ » .
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ » . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ :{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113) سورة التوبة.(26)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ « لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِى ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ ، يَغْلِى مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ »(27).
وفيًّا مع أصحابه
وكان من وفائه لأصحابه موقفه مع حاطب بن أبي بلتعة مع ما بدر منه حين أفشى سر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام في أشد المواقف خطورة ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - يَقُولُ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ « انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ ، فَخُذُوهُ مِنْهَا » . فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ . فَقَالَتْ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ . فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى ، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ صَدَقَكُمْ » . قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ « إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ »(28).
وفيًّا مع أعدائه
أما وفاؤه لأعدائه فظاهر كما في صلح الحديبة ، حيث كان ملتزماً بالشروط وفياً مع قريش ، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِىٍّ « اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ». قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا بِاسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِى مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَقَالَ « اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ». قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لاَتَّبَعْنَاكَ وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ». فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا قَالَ « نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ». رواه مسلم(29).
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4934)
(2) - صحيح البخارى (69 )
(3) - صحيح مسلم (687 )- شن : صبه صبا متقطعا
(4) - صحيح مسلم (6763)
(5) - صحيح مسلم (6766 )
(6) - صحيح مسلم (6767 )
(7) - صحيح البخارى (6114 )
(8) - صحيح البخارى (6116 )
(9) - سنن أبى داود (5227 ) صحيح -العيبة : مستودع الثياب
(10) - صحيح البخارى (6015 )
(11) - صحيح مسلم (6855)
(12) - صحيح مسلم (6856 )
(13) - صحيح البخارى (6018 )
(14) - صحيح البخارى (1303)- ظئر : زوج المرضعة غير ولدها- القين : الحداد والصائغ
(15) - صحيح البخارى (1381 )
(16) - صحيح البخارى (1284 )- تقعقع : تضطرب وتتحرك
(17) - صحيح مسلم (1241)
(18) - صحيح البخارى (5997 )
(19) - صحيح البخارى(5998 )
(20) - صحيح البخارى(1304 ) 2/106
الغاشية : جماعة من أهله يغشونه للخدمة وغيرها -قضى : مات
(21) - صحيح البخارى (6161 )
(22) - صحيح البخارى(1418 )
(23) - صحيح البخارى (3623 )248/4
(24) - مسند أحمد(25606){6/118} حسن
(25) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 320)(18557 ) حسن
(26) - صحيح البخارى(1360 )
(27) - صحيح البخارى (6564 ) - الضحضاح : ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار
(28) - صحيح البخارى(3007 ) - العقاص : جمع عقيصة أو عقصة وهى الضفائر
(29) - صحيح مسلم (4732 )
(1/135)
وتم إرجاع أبي بصير مع مجيئه مسلماً وفاءاً بالعهد. عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ - وفيه - فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ، فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ . قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ . فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ . فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ، قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ . قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ، فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .(1)
وعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِى أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى - حُسَيْلٌ - قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ « انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ». رواه مسلم.(2)
وعدّ - صلى الله عليه وسلم - نقض العهد، وإخلاف الوعد من علامات المنافقين، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » . رواه البخاري(3).
حياؤه - صلى الله عليه وسلم -
الحياء خلق إسلامي رفيع يبعث على تجنب القبائح ، ويرغب الإنسان في فعل الحسن، ويمنع من التقصير في حق أصحاب الحقوق. ويكفي لبيان منزلة هذا الخلق في الإسلام ما روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ ». رواه ابن ماجه(4).
والحياء من شعب الإيمان فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ » البخاري .(5)
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس حياءً وأعظمهم اتصافاً بهذا الخلق الرفيع، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ . أخرجه البخاري.(6)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستحي من الخالق سبحانه وتعالى ومن الخلق.
أما حياؤه من الخالق جلّ وعلا فهو أكمل الحياء، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِى وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِى ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِى صَدْرِى ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى فَعَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ . قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ . قَالَ هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ نَعَمْ مَعِى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى ، فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا آدَمُ . وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِى عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، حَتَّى عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا افْتَحْ . فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ » . قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِى السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ . قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدْرِيسَ قَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ . ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا مُوسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا عِيسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - » . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِىَّ كَانَا يَقُولاَنِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « ثُمَّ عُرِجَ بِى حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ » . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِى خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً . قَالَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ . فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا . فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعْتُهُ . فَقَالَ هِىَ خَمْسٌ وَهْىَ خَمْسُونَ ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ . فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى . ثُمَّ انْطَلَقَ بِى حَتَّى انْتَهَى بِى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِى مَا هِىَ ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ » رواه البخاري(7).
وأما حياؤه من الناس فأدلته كثيرة منها ما روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ « خُذِى فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِى بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ قَالَ « تَطَهَّرِى بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ قَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِى » . فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَىَّ فَقُلْتُ تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ . متفق عليه.(8)
فانظر كيف حمله الحياء على الإعراض عن التفصيل في هذا الأمر، حتى تولته أم المؤمنين، لتعلقه بأمور النساء الخاصة.
ومن الأدلة على حيائه كذلك ما روي عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ بُنِىَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا فَيَجِىءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ قَالَ ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ ، وَبَقِىَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِى الْبَيْتِ ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ » . فَقَالَتْ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ ، يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ ، وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا ثَلاَثَةُ رَهْطٍ فِى الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ ، وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - شَدِيدَ الْحَيَاءِ ، فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَمَا أَدْرِى آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا ، فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ ، وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ .(9)
وهذا الحديث من أعظم الأدلة على شدة حيائه - صلى الله عليه وسلم - . فقد حمله الحياء على عدم مواجهة أصحابه بشأن خروجهم، حتى تولى الله تعالى بيان ذلك، إعظاماً لحق نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
حسن خلقه وعشرته
حسن الخلق،ولين الجانب،وطيب العشرة، صفات أجمع العقلاء على حسنها ، وفضل التخلق بها. وقد توافرت الأدلة الشرعية على مدح الأخلاق الحسنة، والحض عليها ، من ذلك ما روي عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَقَالَ « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا » . رواه البخاري.(10)
وقد كان رسول الله صلى عليه وسلم أحسن الناس سمتاً، وأكملهم خُلُقاً، وأطيبهم عشرة، وقد وصفه سبحانه بذلك فقال :{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) ، فما من خصلة من خصال الخير إلا ولرسول - صلى الله عليه وسلم - أوفر الحظ والنصيب من التخلق بها ، وقد وصف الصحابة حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة فعن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ كَانَ عَلِىٌّ رضى الله عنه إِذَا وَصَفَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْمُمَغَّطِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلاَ بِالسَّبِطِ كَانَ جَعْدًا رَجِلاً وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلاَ بِالْمُكَلْثَمِ وَكَانَ فِى الْوَجْهِ تَدْوِيرٌ أَبْيَضُ مُشْرَبٌ أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ أَهْدَبُ الأَشْفَارِ جَلِيلُ الْمُشَاشِ وَالْكَتِدِ أَجْرَدُ ذُو مَسْرُبَةٍ شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ كَأَنَّمَا يَمْشِى فِى صَبَبٍ وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَجْوَدُ النَّاسِ كَفًّا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ يَقُولُ نَاعِتُهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. رواه الترمذي(11).
ووصفه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران.
__________
(1) - صحيح البخارى (2731 و2732 )
(2) - صحيح مسلم(4740 )
(3) - صحيح البخارى (33 )
(4) - سنن ابن ماجه(4321 ) صحيح
(5) - صحيح البخارى (9 )
(6) - صحيح البخارى (6102 )
(7) - صحيح البخارى (349 )
الأسودة : جمع سواد وهو الشخص - الصريف : صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله تعالى ووحيه -ظهرت : علوت
(8) - صحيح البخارى (314 ) ومسلم (774 )-الفرصة : قطعة من قطن أو صوف
(9) - صحيح البخارى (4793 )- الأسكفة : عتبة الباب
(10) - صحيح البخارى (3759 )
(11) - سنن الترمذى (3999 ) وهو حسن لغيره
جعد : منقبض الشعر غير منبسطه الحجونة : الاعوجاج الحدور : الإسراع من علو إلى سفل الأدعج : شديد سواد العينين الأدعج : شديد سواد العينين الربعة : الرجل بين الطويل والقصير الرجل : شعره لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما المتردد : المجتمع القصيرالمتردد : المجتمع القصير السبط : مسترسل الشعر المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن الشثن : الضخم الشثن : الضخم المشرب : الذى فى بياضه حمرة الأشفار : أطراف الأجفان التى ينبت عليها الشعر واحدها شفر الأشفار : أطراف الأجفان التى ينبت عليها الشعر واحدها شفر
الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن المطهم : السمين الفاحش والمدور الوجه المطهم : السمين الفاحش والمدور الوجه العريكة : الطبيعة والنفس والمراد حسن الخلق القطط : شديد جعودة شعر الرأس القطط : شديد جعودة شعر الرأس تقلع : مشى كأنه ينحدر والمراد قوة مشيه وأنه يرفع رجليه ولا يمشى اختيالا الكتد : مجتمع الكتفين من الإنسان الكتد : مجتمع الكتفين من الإنسان المكلثم : كثير لحم الخدين والوجه المكلثم : كثير لحم الخدين والوجه المشاش : رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين المشاش : رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين الممغط : الطويل المتناهى الطول الممغط : الطويل المتناهى الطول تمغط : مد الشىء يستطيله الأهدب : طويل أو كثير الهدب وهو شعر أشفار العينين الأهدب : طويل أو كثير الهدب وهو شعر أشفار العينين
(1/136)
ففي معاشرته لأصحابه من حسن الخلق ما لا يخفي، فقد كان يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويقبل الهدية ممن جادت بها نفسه و يكافئ عليها. وكان عليه الصلاة والسلام يؤلفهم ولا ينفرهم، ويتفقدهم ويعودهم، ويعطي كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية و الاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان ولا يواجه أحداً منهم بما يكره. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِى أُفًّا. قَطُّ وَلاَ قَالَ لِى لِشَىْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا(1).
وذكر عبد الله بن جرير البجلي رضي الله عنه معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - له فعَنْ جَرِيرٍ قَالَ مَا حَجَبَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِى إِلاَّ تَبَسَّمَ فِى وَجْهِى. وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّى لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِى صَدْرِى وَقَالَ « اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ».(2)، ومعنى قوله ما حجبني: أي ما منعني الدخول عليه متى ما أردت ذلك. وهذا الذي ذكرناه من حسن خلقه وعشرته قليل من كثير وغيض من فيض
هديهُ - صلى الله عليه وسلم - في جلوسه واتكائه
كان - صلى الله عليه وسلم - يجلس على الأرض ، وعلى الحصير والبساط و عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَّانَ الْعَنْبَرِىِّ قَالَ حَدَّثَتْنِى جَدَّتَاىَ صَفِيَّةُ وَدُحَيْبَةُ ابْنَتَا عُلَيْبَةَ - قَالَ مُوسَى بِنْتُ حَرْمَلَةَ - وَكَانَتَا رَبِيبَتَىْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ وَكَانَتْ جَدَّةَ أَبِيهِمَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُمَا أَنَّهَا رَأَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُخْتَشِعَ - وَقَالَ مُوسَى الْمُتَخَشِّعَ فِى الْجِلْسَةِ - أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ.(3)
و عََنْ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ، قالَ : لَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ كَانَ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : إِنَّى لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ يَدَهُ فِي يَدِي قَالَ : فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ وَأَلْقَتْ لَنَا الْجَارِيَةُ وِسَادَةً ، أَوْ قَالَ : بِسَاطًا فَجَلَسْنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَتُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُ اللهِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لاَ قَالَ : فَتُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لاَ قَالَ : فَإِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ قَالَ : قُلْتُ : فَإِنِّي مُسْلِمٌ قَالَ : فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَبْشَرَ لِذَلِكَ أَوِ اسْتَنَارَ لِذَلِكَ.(4)
وعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيًا فِى الْمَسْجِدِ ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى .(5)
هدية - صلى الله عليه وسلم - في مشيه
عَنْ عَلِىٍّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ ضَخْمَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ مُشْرَبٌ وَجْهُهُ حُمْرَةً طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤاً كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - .(6)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِى فِى وَجْهِهِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَسْرَعَ فِى مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّمَا الأَرْضُ تُطْوَى لَهُ إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ.(7)
ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -
محمد عليه الصلاة والسلام يضحك، نعيش معه ضاحكاً، كما عشنا معه وهو باكٍ متأثر خاشع لله - عز وجل-. من الذي أضحكه ؟ إنه الله الواحد الأحد، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43) سورة النجم.وماله لا يضحك عليه الصلاة والسلام ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح؟. لقد عشنا معه عليه الصلاة والسلام في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه وينجرح فؤاده، ونعيش معه وهو يهشّ للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مجريات أمورهم وأحاديثهم.
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ - وَهُوَ الَّذِى بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ يُفَقِّهُ النَّاسَ - أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ رَكِبَ يَوْماً عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ يَعْفُورٌ رَسَنُهُ مِنْ لِيفٍ ثُمَّ قَالَ « ارْكَبْ يَا مُعَاذُ ». فَقُلْتُ سِرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « ارْكَبْ ». فَرَدَفْتُهُ فَصُرِعَ الْحِمَارُ بِنَا فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ وَقُمْتُ أَذْكُرُ مِنْ نَفْسِى أَسَفاً ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَرَكِبَ وَسَارَ بِنَا الْحِمَارُ فَأَخْلَفَ يَدَهُ فَضَرَبَ ظَهْرِى بِسَوْطٍ مَعَهُ - أَوْ عَصاً - ثُمَّ قَالَ: « يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ». فَقُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: « فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ». قَالَ: ثُم سَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَخْلَفَ يَدَهُ فَضَرَبَ ظَهْرِى فَقَالَ :« يَا مُعَاذُ يَا ابْنَ أُمِّ مُعَاذٍ ، هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ؟ ». قُلْتُ :اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: « فَإِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ » ..(8)
وعَنْ عَلِىِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - وَأُتِىَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِى الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ (سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَكَ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ. ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ « إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِى ».(9)
عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِىُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ « هَلْ تُمَارُونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « فَهَلْ تُمَارُونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ . قَالَ « فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ . فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا . فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ . وَفِى جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ » . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ « فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَهْوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ ، قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا ، وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا . فَيَقُولُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ . فَيُعْطِى اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ قَدِّمْنِى عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ . فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنْتَ سَأَلْتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ . فَيَقُولُ فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ . فَيُعْطِى رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا ، فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ . فَيَقُولُ اللَّهُ وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِى أَشْقَى خَلْقِكَ . فَيَضْحَكُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُ ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِى دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ تَمَنَّ . فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَمَنَّ كَذَا وَكَذَا . أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِىُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ لأَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنهما - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ قَوْلَهُ « لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ « ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ » .(10).
وعن مُجَاهِدَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى وَعَرَفَ ، مَا فِى نَفْسِى وَمَا فِى وَجْهِى ثُمَّ قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ » . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ ، فَأَذِنَ لِى ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ » . قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ . قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى » . قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا ، فَسَاءَنِى ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا ، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ « يَا أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ « خُذْ فَأَعْطِهِمْ » . قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ » . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « اقْعُدْ فَاشْرَبْ » . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ . فَقَالَ « اشْرَبْ » . فَشَرِبْتُ ، فَمَا زَالَ يَقُولُ « اشْرَبْ » . حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ « فَأَرِنِى » . فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى ، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ.(11)
مزاحه ومداعبته - صلى الله عليه وسلم -
المزاح والمداعبة شيء محبب إلى النفوس ، فهو يبعث على النشاط والإقبال على الأعمال بجد وطاقة ، ولا حرج فيه ما دام منضبطا بضوابط الشرع ، ولا يترتب عليه ضرر ، بل هو مطلوب ومرغوب ، وذلك لأن النفس يعتريها السآمة والملل ، فلا بد من فترات راحة ، وليس أدل على أهمية المزاح والحاجة إليه ، مما كان عليه سيد الخلق وخاتم الرسل ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - ، يمازح أصحابه ، ويداعب أهله ، وكان يعتني بصغار السن ويجعل لهم جزءاً من وقته ، ويعاملهم بما يطيقون ويفهمون. فعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا ذَا الأُذُنَيْنِ ». رواه أبو داود(12).
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِى. قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ ». قَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ »..(13)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ » . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا " رواه البخاري .(14)
وعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ - قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ فَقَالَ أَصْبِرْنِى. فَقَالَ « اصْطَبِرْ ». قَالَ إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَىَّ قَمِيصٌ.فَرَفَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَمِيصِهِ فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ قَالَ إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.(15)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِى الْبَيْتِ فَقَالَ « أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ ».فَقَالَتْ كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ شَىْءٌ فَغَاضَبَنِى فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لإِنْسَانٍ « انْظُرْ أَيْنَ هُوَ ». فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِى الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ « قُمْ أَبَا التُّرَابِ قُمْ أَبَا التُّرَابِ ».(16)
أما مزاحه مع أهله ، ومداعبته لزوجاته ، وبناته ، فكان لهم نصيب وافر من خلقه العظيم في هذا الجانب المهم ، فكان يسابق عائشة رضي الله عنها ، ويقر لعبها مع صواحبها فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لِى صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِى ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِى .. رواه البخاري .(17)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ قَالَتْ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَىَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِى فَقَالَ « هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ ».(18)
__________
(1) - صحيح مسلم (6151 )
(2) - صحيح مسلم (6519 )
(3) - سنن أبى داود (4849 )حسن - الفَرق : الخوف والفزع
(4) - مسند الطيالسي (1135) وفيه جهالة
(5) - صحيح البخارى (475 )
(6) - مسند أحمد(757) حسن لغيره
المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن الشثن : الضخم الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن الكراديس : جمع الكردوس وهو كل عظم تام ضخم والكراديس رءوس العظام
(7) - مسند أحمد (9178) صحيح المكترث : المبالي المهتم
(8) - مسند أحمد (22724) حسن - الرسن : الحبل الذي تقاد به الدابة
(9) - سنن أبى داود(2604 ) صحيح
(10) - صحيح البخارى (806 )الذكاء : لهب النار واشتعالها قشبني : سمني وأهلكني امتحشوا : احترقت جلودهم حتى ظهرت العظام
(11) - صحيح البخارى8/121 (6452 )
(12) - سنن أبى داود (5004 ) صحيح
(13) - سنن أبى داود (5000 ) صحيح
(14) - صحيح البخارى (6203 )- النغير : تصغير نغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار
(15) - سنن أبى داود (5226 ) صحيح
(16) - صحيح مسلم (6382 ) يقيل : ينام وقت القيلولة
(17) - صحيح البخارى (6130 )
(18) - سنن أبى داود(2580 ) صحيح
(1/137)
أما بالنسبة للصغار ، واعتنائه - صلى الله عليه وسلم - بهم، ومداعبته لهم ، فيظهر واضحاً جلياً فيما ورد مع الحسن و الحسين رضي الله عنهما ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ صَلاَتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا. قَالَ أَبِى فَرَفَعْتُ رَأْسِى وَإِذَا الصَّبِىُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِى فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاَةَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ صَلاَتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ. قَالَ « كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِى ارْتَحَلَنِى فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَاجَتَهُ ». رواه النسائي(1)
زهده - صلى الله عليه وسلم -
الزهد في حقيقته هو الإعراض عن الشيء ، ولا يطلق هذا الوصف إلا على من تيسر له أمر من الأمور فأعرض عنه وتركه زهدا فيه , وأما من لم يتيسر له ذلك فلا يقال إنه زهد فيه ، ولذلك قال كثير من السلف : إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس رحمة على الله الجميع ، وقال مالك بن دينار عن نفسه : الناس يقولون مالك زاهد ، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز ، أي إنه هو الزاهد حقيقة فإن الدنيا كانت بين يديه فلم يلتفت إليها. وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا , وأقلهم رغبة فيها ، مكتفياً منها بالبلاغ ، راضياً فيها بحياة الشظف ، ممتثلاً قول ربه عز وجل : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طه ، مع أن الدنيا كانت بين يديه ، ومع أنه أكرم الخلق على الله ، ولو شاء لأجرى الله له الجبال ذهباً وفضة .
وعن خَيْثَمَة؛ قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يُعطى أحد من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله؟ فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله عز وجل في ذلك: { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } (الفرقان 10)(2)،
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَلَكًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مَعَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ الْمَلَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا فَالْتَفَتَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تَوَاضَعْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا ». قَالَ فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا حَتَّى لَقِىَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.(3)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ » .
قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « مَا يَسُرُّنِى أَنَّ عِنْدِى مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا ، تَمْضِى عَلَىَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ ، إِلاَّ شَيْئًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا » . عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ . ثُمَّ مَشَى فَقَالَ « إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ » . ثُمَّ قَالَ لِى « مَكَانَكَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ » . ثُمَّ انْطَلَقَ فِى سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدِ ارْتَفَعَ ، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِى « لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ » فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِى ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ ، فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ « وَهَلْ سَمِعْتَهُ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِى فَقَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ « وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » رواه البخاري(4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا».(5)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ ، وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ ، فَتَبَرَّزَ ، ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) قَالَ وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ . ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِى مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَهُمْ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا ، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ ، فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِى فَرَاجَعَتْنِى فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى قَالَتْ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُرَاجِعْنَهُ ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ . فَأَفْزَعَنِى ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ . ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا أَىْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ قَالَتْ نَعَمْ . فَقُلْتُ قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَهْلِكِى لاَ تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ عُمَرُ وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا ، فَنَزَلَ صَاحِبِى الأَنْصَارِىُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِى ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ . قُلْتُ مَا هُوَ ، أَجَاءَ غَسَّانُ قَالَ لاَ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ ، طَلَّقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ . فَقُلْتُ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ ، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ ، فَجَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَشْرُبَةً لَهُ ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا ، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِىَ تَبْكِى فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لاَ أَدْرِى هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِى الْمَشْرُبَةِ . فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِى بَعْضُهُمْ ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِى فِيهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ الْغُلاَمُ فَكَلَّمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ كَلَّمْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرْتُكَ لَهُ ، فَصَمَتَ . فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ لِلْغُلاَمِ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ . فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَىَّ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ . فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا - قَالَ - إِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِى فَقَالَ قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ . فَرَفَعَ إِلَىَّ بَصَرَهُ فَقَالَ « لاَ » . فَقُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ . ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِى ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِى وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عَائِشَةَ فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - تَبَسُّمَةً أُخْرَى ، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى فِى بَيْتِهِ ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِى بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ ، فَإِنَّ فَارِسًا وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ . فَجَلَسَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ مُتَّكِئًا . فَقَالَ « أَوَفِى هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِى . فَاعْتَزَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ قَالَ « مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا » . مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ ، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا ، وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا . فَقَالَ « الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ » . فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ فَبَدَأَ بِى أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَاخْتَرْتُهُ ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ .(6)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشاً أَوْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ « مَا لِى وَلِلدُّنْيَا مَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ».(7)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَدَمٍ ، وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ .(8)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِى ، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِى شَهْرَيْنِ ، وَمَا أُوقِدَتْ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ . فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتِ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَلْبَانِهِمْ ، فَيَسْقِينَا .(9)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا أَشْبَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.(10)
و عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ ، وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ ، وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ . قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ .(11)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخِى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا ، إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً .(12)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا فِى بَيْتِى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ ، إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى ، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ ، فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ .(13)
عدل النبي - صلى الله عليه وسلم -
العدل خلق كريم وصفة عظيمة جليلة ، محببة إلى النفوس ، تبعث الأمل لدى المظلومين ، ويحسب لها الظالمون ألف حساب ، فالعدل يعيد الأمور إلى نصابها ، وبه تؤدَّى الحقوق لأصحابها ، به يسعد الناس ، وتستقيم الحياة ، ما وجد العدل في قوم إلا سعدوا ، وما فقد عند آخرين إلا شقوا .
والعدل خلق العظماء ، وصفة الأتقياء ، ودأب الصالحين ، وطريق الفلاح للمؤمنين في الدنيا ويوم الدين .
تحلى به الأنبياء والصالحون والقادة والمربون ، وكان أعظمهم في ذلك ،وأكثرهم قدراً ونصيباً سيد العالمين ، وخاتم الرسل أجمعين ، محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم. فالعدل خلق من أخلاقه ، ضمن شمائله العظيمة ، وصفاته الجليلة ، عدل في تعامله مع ربه جل وعلا ، وعدل في تعامله مع نفسه ، وعدل في تعامله مع الآخرين ، من قريب أو بعيد ، ومن صاحب أو صديق ، ومن موافق أو مخالف ، حتى العدو المكابر، له نصيب من عدله - صلى الله عليه وسلم - ، وكيف لا يعدل من خوطب بقول واضح مبين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة ، فكان يمتثل أمر الله عز وجل في كل شأن من شؤونه ، مع أصحابه وأعدائه ، آخذاً بالعدل مع الجميع. يعترض عليه القوم ويخطئ في حقه أناس ، فلا يتخلى عن العدل ، بل يعفو ويصفح ،
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَعَثَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِى تُرْبَتِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِىُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِىُّ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ الْعَامِرِىُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِى كِلاَبٍ وَزَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِىُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِى نَبْهَانَ - قَالَ - فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ فَقَالُوا أَتُعْطِى صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَتَدَعُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لأَتَأَلَّفَهُمْ » فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ. - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِى » قَالَ ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِى قَتْلِهِ - يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ ».(14)
ويظهر هذا الخلق العظيم منه - صلى الله عليه وسلم - في أبهى صورة ، عندما يطلب ممن ظن أنه أخطأ في حقه ، أن يستوفي حقه ، بالقود منه ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ شَيْئاً أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ فَجُرِحَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تَعَالَ فَاسْتَقِدْ ». قَالَ قَدْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.(15)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنِى سَوَادُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ بِخَلُوقٍ فَلَمَّا رَآنِى قَالَ لِى :« يَا سَوَادُ بْنَ عَمْرٍو خَلُوقُ وَرْسٍ أَوَلَمْ أَنْهَ عَنِ الْخَلُوقِ؟ ». وَنَخَسَنِى بِقَضِيبٍ فِى يَدِهِ فِى بَطْنِى فَأَوْجَعَنِى فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقِصَاصَ قَالَ الْقِصَاصَ فَكَشَفَ لِى عَنْ بَطْنِهِ فَجَعَلْتُ أُقَبِّلُهُ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدَعُهُ شَفَاعَةً لِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(16)
__________
(1) - سنن النسائى (1149 ) صحيح
(2) - رواه الطبري في تفسيره (18/140) وتفسير ابن أبي حاتم (13951) وهو صحيح مرسل
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 49)(13708)حسن
(4) - صحيح البخارى 8/118 (6444 )
(5) - صحيح مسلم (2474 )
(6) - صحيح البخارى 7/38 (5191 )
الأهبة : جمع إهاب وهو الجلد قبل الدباغ المشربة : الغرفة العالية
(7) - مسند أحمد (2796)صحيح
(8) - صحيح البخارى (6456)
(9) - صحيح البخارى (2567 ) -المنائح : جمع منيحة وهى الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها
(10) - صحيح مسلم (7648 )
(11) - صحيح البخارى (5386 ) السكرجة : إناء صغير يؤكل فيه القليل من الطعام
(12) - صحيح البخارى 4/3(2739 )
(13) - صحيح البخارى (3097 )
(14) - صحيح مسلم -(2499 )
الصناديد : جمع صنديد وهو كل عظيم شريف رئيس متغلب الضئضئ : النسل الكث : الكثيف الناتئ : المرتفع
(15) - مسند أحمد(11531)حسن لغيره
العرجون : العود الأصفر الذى فيه الشماريخ إذا يبس واعوج استقد : اقتص أكب : التزم
(16) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 48)(16442)حسن
(1/138)
والعدل ملازم للرسول - صلى الله عليه وسلم - في حله وترحاله ، فهو يكره التميز على أصحابه ، بل يحب العدل والمساواة ، وتحمل المشاق والمتاعب مثلهم ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلاَثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ زَمِيلَىْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَقَالاَ نَحْنُ نَمْشِى عَنْكَ. فَقَالَ « مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّى وَلاَ أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا ».(1)
ولم ينشغل - صلى الله عليه وسلم - بالدولة وقيادتها ، والغزوات وكثرتها ، عن ممارسة العدل في نطاق الأسرة الكريمة ، وبين زوجاته أمهات المؤمنين ، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِى فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ».(2)و عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري(3).
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا فِى قَصْعَةٍ فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « طَعَامٌ بِطَعَامٍ وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ ».(4)
وفي قضائه بين المتخاصمين كان عادلاً - صلى الله عليه وسلم - ، بعيداً عن الحيف والظلم ، فعَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ عَلَيْهِمْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِى حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ. رواه أبو داود(5).
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى تعطيل حدود الله ، التي شرعها سبحانه لإقامة العدل بين الناس ، ولو كان الجاني من أقربائه وأحبابه ، ففي حادثة المرأة المخزومية التي سرقت لم يقبل شفاعة أسامة ،
فعَنَ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِى سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ». ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ».(6)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بالعدل في الأمور ، وعدم تغليب جانب على حساب آخر ، وإنما الموازنة وإعطاء كل ذي حق حقه ، فعن سَعِيدَ بْنِ مِينَاءَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بَلَغَنِى أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَلاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَظًّا صُمْ وَأَفْطِرْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بِى قُوَّةً. قَالَ « فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا ». فَكَانَ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى أَخَذْتُ بِالرُّخْصَةِ. رواه مسلم.(7)
وبهذا الخلق العظيم ، والأدب الرفيع ، استطاع - صلى الله عليه وسلم - ، أن يلفت الأنظار نحوه ، ويحرك المشاعر والأحاسيس إلى مبادئه العظيمة ، ويرسم منهاجاً فريداً لخير أمة أخرجت للناس ، تحمل العدل إلى الناس أجمعين ، وتبدد به ظلمات القهر والظلم .
- - - - - - - - - - - - - -
المصادر والمراجع الهامة
1. تفسير الطبري
2. تفسير ابن كثير
3. تفسير ابن أبي حاتم
4. تفسير الرازي
5. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
6. في ظلال القرآن
7. الوسيط لسيد طنطاوي
8. التفسير الميسر
9. أيسر التفاسير لأسعد حومد
10. تفسير السعدي
11. أضواء البيان
12. موطأ مالك
13. صحيح البخارى
14. صحيح مسلم
15. سنن أبى داود
16. سنن الترمذى
17. سنن النسائى
18. سنن ابن ماجه
19. مصنف عبد الرزاق
20. مصنف ابن أبي شيبة
21. مسند أحمد
22. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
23. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
24. المستدرك على الصحيحين للحاكم
25. المعجم الكبير للطبراني
26. المعجم الأوسط للطبراني
27. المعجم الصغير للطبراني
28. دلائل النبوة للبيهقي
29. السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
30. شعب الإيمان للبيهقي
31. سنن الدارمى
32. مسند البزار 1-14
33. مسند أبي يعلى الموصلي
34. مسند الحميدى
35. صحيح ابن حبان
36. صحيح ابن خزيمة
37. مسند الشاميين للطبراني
38. مجمع الزوائد
39. شرح معاني الآثار
40. مشكل الآثار للطحاوي
41. السلسلة الصحيحة
42. صحيح أبي داود
43. صحيح ابن ماجة
44. صحيح الترغيب والترهيب
45. صحيح الترمذي
46. صحيح السيرة النبوية
47. صحيح وضعيف الجامع الصغير
48. المنتقى - شرح الموطأ
49. فتح الباري لابن حجر
50. شرح ابن بطال
51. شرح النووي على مسلم
52. عون المعبود
53. فيض القدير
54. فتاوى الأزهر
55. فتاوى السبكي
56. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
57. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
58. مجموع فتاوى ابن تيمية
59. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
60. فتاوى يسألونك
61. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
62. الفقه الإسلامي وأدلته
63. الموسوعة الفقهية الكويتية
64. طرح التثريب
65. نيل الأوطار
66. الفقه على المذاهب الأربعة
67. موسوعة خطب المنبر
68. الوابل الصيِّب لابن القيم
69. رياض الصالحين للنووي
70. قصص الأنبياء
71. الشفا للقاضي عياض
72. السيرة النبوية لأبي شهبة
73. فقه السيرة للغزالي
74. فقه السيرة النبوية للبوطي
75. السيرة النبوية لأبي فارس
76. السيرة النبوية الصحيحة للعمري
77. الأساس في السنة وفقهها- السيرة النبوية
78. دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
79. السيرة النبوية لابن كثير
80. قراءة سياسية للسيرة النبوية
81. دولة الرسول من التكوين إلى التمكين
82. الموسوعة في سماحة الإسلام، عرجون
83. الجانب السياسي في حياة الرسول
84. صفة الغرباء، سلمان العودة
85. دولة الرسول من التكوين إلى التمكين
86. فقه الدعوة، عبد الحليم محمود
87. التمكين للأمة الإسلامية
88. فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك
89. جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام للإمام ابن القيم
90. الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون
91. مقومات الدعوة والداعية، بادحدح
92. التربية القيادية
93. التاريخ الإسلامي للحميدي
94. الهجرة النبوية المباركة
95. المستفاد من قصص القرآن
96. الهجرة النبوية المباركة
97. محمد رسول الله، محمد عرجون
98. السيرة النبوية الصحيحة
99. حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول
100. السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر
101. الروض الأنف
102. زاد المعاد
103. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد
104. سيرة ابن هشام
105. السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
106. السيرة النبوية السباعي
107. حياة الصحابة للكاندهلوى
108. موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
109. حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
110. الطبقات الكبرى لابن سعد
111. سير أعلام النبلاء
112. تاريخ الرسل والملوك
113. البداية والنهاية لابن كثير مدقق
114. تاريخ الإسلام للذهبي
115. النهاية في غريب الأثر
116. تاج العروس
117. لسان العرب
118. مختار الصحاح
119. برنامج قالون
120. المكتبة الشاملة 2
121. كثير من مواقع النت
الفهرس العام
الباب الأول ... 4
صفات الأنبياء وصفة دعوتهم وموقف الناس منها ... 4
التفاضلُ بين الرسل في الدرجات ... 4
صلة الرسل الأموات بالأحياء من الناس ... 9
1-أنهم أحياء في قبورهم ... 9
2- لا تأكل الأرض أجسادهم ... 9
عرض أعمالنا عليه - صلى الله عليه وسلم - ... 9
صلاة الأنبياء ... 10
الصلاة بالأنبياء ... 12
من هم أعداء الرسل ؟ ... 14
موحى إليهم من الله تعالى ... 18
الرسل موحى إليهم ... 26
الحكمة من نزول القرآن مفرقاً ... 29
الحكمة من إرسال الرسل ... 32
إنزال الكتاب بالحق ليحكم الناس به ... 42
كلما ابتعد الناس عن دين الله جاءهم رسول جديد ... 47
الخصائص البشرية للرسل ... 50
الرسل يموتون ... 50
يأكلون ويشربون ويجوعون ... 53
الرسول بشر مثلنا ... 59
الرسل مؤيدون بالبينات ... 68
ليس كل الرسل قص الله أخبارهم ... 73
تكفل الله تعالى بنجاة الرسل وأتباعهم ... 74
الرسل يسألون يوم القيامة عن أقوامهم ... 80
الفائدة من ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم ... 82
دعوتهم الناس على بصيرة ... 84
الرسل رجال وليسوا نساء ... 86
جزاء مكذبي الرسل ... 89
الرسل مبلغون عن الله ... 103
بماذا بعث الرسل ؟ ... 113
وقفات مع قصة النبي هود عليه السلام مع قومه ... 120
لا عقاب قبل دعوة الرسل ... 129
عدم رد الرسل على اقتراحات المشركين ... 132
كيف يوحي الله للرسل ؟ ... 135
إذا تليت عليهم آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ... 139
القول اللين عند مخاطبة الطغاة ... 142
حرص الرسل على هداية قومهم ... 145
النصيحة لأقوامهم ... 146
الرسول لا يعلم الغيب ... 149
مطالبون بالصبر على أذى الناس ... 156
من عادى الرسل عاداه الله ... 159
رسالات الرسل تصدِّق بعضها ... 161
واجب على كل رسول الإيمان برسالة الرسول الذي يأتي بعده لو أدركه ... 163
الرسول يطاع بإذن الله ... 168
لا يؤمن الناس حتى يحكموا الرسول في جميع شئون حياتهم ... 170
الرسل عباد الله ... 171
من طبيعة بني إسرائيل قتل الرسل أو تكذيبهم ... 182
الرسول أمين على دين الله ... 184
من يؤذي الرسل له عذاب أليم ... 189
لا يجوز للرسول أن يستغفر للمنافقين والكافرين ... 195
جزاء من يترك الجهاد في سبيل الله خلف الرسل ... 197
المؤمنون الصادقون لا يتخلفون عن موكب الرسل ... 200
الرسول يرسل بلسان قومه ... 203
أكثر الناس لا يؤمنون بالرسل ويسخرون منهم ... 204
إلقاء الشيطان في أمنيات الرسل ... 209
حرص الرسل الشديد على هداية قومهم ... 211
وجوب الاقتداء بالرسل ... 220
الرسل لا يخشون أحدا في تبليع الرسالة إلا الله ... 226
اتهام الرسل بالسحر والجنون ... 227
المنافقون يرفضون الاعتذار واستغفار الرسول لهم ... 230
حاجة البشرية إلى رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 231
من صفات كتب الرسل ... 237
الرسول يصاب بالبأساء والضراء ... 238
بأي شيء آمن الرسول ؟ ... 240
وجوب الإيمان بدعوة الرسل ... 245
جزاء من ارتد عن دعوة الرسل ... 246
جزاء من عصى الرسول ... 247
وجوب طاعة الرسل ... 249
من تحاكم إلى الطاغوت فقد كفر بدعوة الرسل ... 256
طاعة الرسول من طاعة الله ... 259
من أطاع الرسول فقد اهتدى ... 260
من أطاع الرسول رحمه الله ... 261
وجوب استشارة الرسول في السراء والضراء ... 262
من شاق الرسول فله جهنم ... 265
دعوة الرسل دعوة الحق والخير ... 267
نهي الرسول عن الحزن على من سارع بالكفر ... 268
جزاء من آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب ... 273
التحذير من معصية الرسول ... 283
الكفار يقلدون الآباء والأجداد ويؤثرون ذلك على دعوة الرسل ... 284
موقف الأعراب من دعوة الرسول ... 286
الجهاد في الله حق جهاده ... 289
تحريم مواددة من حارب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 292
إهلاك من أخرجوا الرسل من ديارهم بغير حق ... 297
وعد الله تعالى بنصرة الرسل وأتباعهم ... 299
إنزال الكتاب والميزان على الرسل ... 303
مهمة الرسول تعليم الكتاب والحكمة ... 305
الحسنات التي تصيب الرسل من الله ... 315
الرسول الأمي ... 317
مهمة الرسول الأساسية إخراج الناس من الظلمات إلى النور ... 320
جزاء من آمن بالرسل ونصرهم ... 324
نهي الرسول أن يكون من الجاهلين ... 327
الرسل مبشرون ومنذرون ... 329
جزاء من سخر بآيات الله وكذب رسله ... 331
اتهام الرسل بتهم كاذبة فاجرة ... 339
الرسول منذر الغافلين ... 343
الرسول لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة ... 346
الرسل دعوا على أقوامهم ... 348
الرسل لا يجبرون الناس على الهداية ... 355
الرسل يتألمون لعدم اهتداء قومهم ... 359
الرسل لا تتقول على الله ... 368
خوف الرسل على قوهم ... 369
هل الرسل تخاف ؟ ... 376
الرسول قد يحزن على فقد ولده ... 381
أشد الناس بلاء الرسل ... 382
ابتلاء النبي إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ... 382
قصة النبي أيوب عليه السلام ... 383
ابتلاء ذي النون ... 384
الأنبياء إخوة ... 386
الباب الثاني ... 388
عِصمَة الرّسُل عليهم الصلاة والسلام ... 388
المبحث الأول ... 388
العِصمة في التحمّل وفي التبليغ ... 388
عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القتل : ... 388
عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان : ... 389
المبحث الثاني ... 391
عدم العصمة من الأعراض البشريّة كالخوف والنسيان ... 391
1- خوف إبراهيم عليه السلام من ضيوفه : ... 391
2- عدم صبر موسى عليه السلام على تصرفات العبد الصالح : ... 391
3- تصرفات موسى عليه السلام عندما رأى قومه يعبدون العجل : ... 391
4- نسيان آدم وجحوده : ... 391
5- نبي يحرق قرية النمل : ... 392
6- نسيان نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصلاته الظهر ركعتين : ... 392
المبحث الثالث ... 395
مدى العصمة في إصابة الحق في القضاء ... 395
المبحث الرابع ... 396
العصمة من الشرك والمعاصي والذّنوب ... 396
المطلب الأول ... 396
العصمة من الكبائر ... 396
المطلب الثاني ... 396
العصمة من الصغائر ... 396
المطلب الثالث ... 399
تكريم الأنبياء وتوقيرهم : ... 399
الباب الثالث ... 400
خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 400
رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لكل الناس ... 400
محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين ... 403
من صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - (رؤوف رحيم بالمؤمنين) ... 404
لا يجوز دخول بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - دون إذن ولا نكاح أزواجه من بعده ... 405
محمد - صلى الله عليه وسلم - شديد على الكفار رحيم بالمؤمنين ... 408
وجوب خفض الصوت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 412
الرسول لا يجيب قومه بكل ما يقترحونه عليه ... 414
الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين ... 416
الرسول - صلى الله عليه وسلم - صاحب الخلق العظيم ... 418
الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الناس ... 421
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرفض الدعاء على قومه ... 426
من استغفر له الرسول غفر الله له ... 428
الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم عليه السلام ... 430
من صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتوراة ... 433
وجوب مقاتلة من هم بإخراج الرسول ... 435
حل الغنائم لنا دون غيرنا من الأمم السابقة ... 438
النبيُّ شاهد ومبشر ونذير ... 440
وجوب مناصرته ... 441
الرسول مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ... 443
ما فضِّل به - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء السابقين ... 445
وجوب التأدب أثناء مخاطبة الرسول ... 446
تحريم النجوى عند الرسول ... 447
الحث على تقديم صدقة قبل مناجاة الرسول ... 451
المقام المحمود يوم القيامة ... 453
الشفاعة يوم القيامة ... 456
النوع الأول : الشفاعة العظمى: ... 456
النوع الثاني: الشفاعة في أهل الذنوب من الموحدين الذين دخلوا النار أو استحقوها ... 463
حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 466
يعلم بهجر أمته القرآن ... 471
الإسراء والمعراج ... 472
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ... 476
الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - شهيد على المسلمين ... 480
أمته خير الأمم ... 484
الباب الرابع ... 488
شمائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 488
الفصل الأول ... 488
الشمائلُ العامَّةُ ... 488
الفصل الثاني ... 492
الفصل الثاني ... 493
الشمائل المحمدية ... 493
كان خُلُقه القرآن، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، ... 494
الفصل الثالث ... 499
بعضُ شمائله ووصاياه ... 499
الأمرُ بالتيسير والرفق ... 499
ومن ذلك الحذر من الغضب ... 499
ومنه الحلم والأناة ... 500
ومن ذلك الوصية بالجار ... 500
الرحمة بالأطفال ... 500
حنانه وشفقته بالمريض ... 501
ومن ذلك رحمته بالنساء والبنات ... 501
خلقه في الوفاء ... 502
وكان وفياً لأقاربه ... 503
وفيًّا مع أصحابه ... 504
وفيًّا مع أعدائه ... 504
حياؤه - صلى الله عليه وسلم - ... 506
حسن خلقه وعشرته ... 508
هديهُ - صلى الله عليه وسلم - في جلوسه واتكائه ... 510
هدية - صلى الله عليه وسلم - في مشيه ... 510
ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 511
مزاحه ومداعبته - صلى الله عليه وسلم - ... 513
زهده - صلى الله عليه وسلم - ... 515
عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 519
__________
(1) - مسند أحمد (3978) صحيح
(2) - سنن الترمذى (1170 ) صحيح لغيره
وَمَعْنَى قَوْلِهِ « لاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ». إِنَّمَا يَعْنِى بِهِ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ كَذَا فَسَّرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
(3) - صحيح البخارى (2593 )
(4) - سنن الترمذى (1410 ) وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وهو كما قال .
(5) - سنن أبى داود (3571 ) صحيح
(6) - صحيح مسلم (4505 )
(7) - صحيح مسلم (2800 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق