البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح المؤلف
زيادة بن يحيى الراسي
الباب الأول
مقدمة الكتاب
الحمد لله الذي جعل الدين دينا على البشر وصيره كرأس مال، لنربح به عبادة ذاته العلية الفائقة كل طهر وبر، المنزهة عن التجسيم والتثليث والتجسد المبتدع، ممن لا يرهبون سقر، ليقابلنا بجزاء أثماره يوم القيامة والنشر، بجنة يعلو سموها على الأوهام والفكر، أثماره صلاح نابت من الأفئدة والفطر، يجمعه بعاد عن ضر القريب، وعن الشرك بالله الحذر، فأرجوك ربي تسقه من سلسال جودك المطر، ومعه فأنعم بإزالة الكفر، كما يعلم عن حنوك ويشتهر، وأضف عليه صلاة وسلاما على حبيبك ورسولك سيد الخلق والبشر، وعلى آله وأصحابه السادات القادة الغرر.
أما بعد، فيقول العبد الفقير إلى ربه الغني الشيخ زيادة بن يحيى النصب الراسي المهتدي، المتشرف في الدين المحمدي:1 إنني لما كنت متفرغا للبحث والمطالعة عن أيما هو الدين الصحيح، بكل جهد وبغاية التنقيح، فنظرت إلى أصحاب الملل، التي من دأبها أن تفخر على بعضها بسمو اعتقادها، وكل منهم يتصور أن ما ذهبت إليه آل ملته هو الدين الصحيح، وسواه على كل فهو قبيح، وقد رأيت أيضا أن بعضهم راض بدينه من دون فحص ولا معرفة، والبعض مباشر الفحص في قواعد ديانته فقط، من دون أن يقابلها على غيرها، والنادر منهم من يقابلها على غيرها مع أوليائها.
ففي الوجهين الأولين رأيت أن فيهما يدخل التعصب المذهبي والغرض، بحيث لا يمكن للإنسان أن يميز فيما بين الحق والباطل، أعني: أنه لا يعود يقدر أن يعين إلا أن دينه الموجود فيه هو الدين الحق الحقيقي، وإن كان بالخلاف.
فحمدت أنا الرأي الأخير، وحددته حالا من دون تأخير، وبدأت أن أقابل كتابي ومعتقدي على كتابي المعتقد الشهيرين، وأراجعهما على أولي العلم، من دون تعصب مذهبي بكل مكنتي، من دون مين، وغب الفحص والتفتيش في ذلك، قصدت أن أحرر ما قد حصلته من المقابلة في تلك المسالك، وأبينه لدى ذوي البصائر القادحة، خواض بحور هذه المعاني الشاسعة، لكي يتفحصوه بكل جهد وتدقيق، ويمعنوا نظرهم فيه من دون غرض وتمحيق، ويفهموا أن الدين المحمدي هو الذي ترجحت عليه البينات، وأنه هو الدين الصحيح، ومن اتخذ سواه دينا فهو من الخاسرين صريح.
وحيث قد تيسر لي بعد مطالعتي في كتب القواعد وتفاسيرهم، أني وجدت أيضا ملخصات أجوبة في رد الملل على بعضهم بأقوال مختصرة صريحة، فضممت إلى كتابي هذا مايناسب منها، وسميته كتاب: «البحث الصريح في (أيما هو) الدين الصحيح». وقسمته إلى خمسة أبواب وخاتمة.
فأرجو من المطالعين فيه بأن يكرروا عبارته وقراءته بكل جهد وإمعان، ويتوسلوا معي إلى الرحيم الرحمن نبيه الهادي، سميد الأكوان، أن يكشف لهم المعاني، إذ هو الكريم المنان، والمفيض على عباده الإحسان.
الفهرس
الباب الأول
يفيد أن سيدنا عيسى عليه السلام ليس هو بإله حقيقي بالذات، وغير مساو لله تعالى في الجوهر، وأن تسميته إلها هو نعت ووصف كحسب عادة كتب العهدين، أعني: التوراة والإنجيل، اللذين كانا يسميان أشراف الشعب وأفاضلهم آلهة، فهو أي المسيح عليه السلام كان من أشراف الأنبياء وأكابرهم، وكانت تحق له هذه التسمية بنوع خصوصي.
الباب الثاني
رد على الافتخار الذي يفتخر به النصارى، أي بسمو آيات عيسى عليه السلام وأنها فائقة، وقصدهم بذلك لكي يثبتوا بدعتهم منها أعني: الألوهية له، وقد قابلت آياته فإذا هي آيات خارقة للعادة، إلا أن الأنبياء الذين سبقوه قد عملوا مثلها وما يعلوها ويفوقها أيضا، ثم إن آل زمانهم واتباعهم لم يعتقدوا فيهم أنهم آلهة بالذات ولا مساوون لله تعالى في الجوهر.
الباب الثالث
رد على ما تدعيه النصارى ضد الله تعالى ويتوهمونه، بأن نبينا الأعظم ﷺ قد حصل منه أمور منافية وغير حسنة، ومنقولة عن القرآن الشريف المعجز، مع كون أن مثل هذه الدعاوى والأمور الملحوظة قد وجدت من الأنبياء الذين سبقوه وأبلغ منها، كما تشهد بذلك كتبهم، ولم تحسب منافية ولا غير حسنة.
الباب الرابع
نورد فيه بينات من كتب العهدين أعني: من التوراة والإنجيل على أن نبينا محمدا ﷺ هو النبى الموعود به أيضا، والمشار إليه والمنبأ عنه - كعيسى عليه السلام - بالأدلة الواضحة والبراهين المكينة، كما قد تراها صريحة.
الباب الخامس
في الشكوك الناتجة من القضايا المتناقضة، والقصور الحاصل من ركاكة الجمل الغير مرتبطة، الموجودة في كتب العهدين، المفيدة بأن التوراة والإنجيل مزوران وذلك بأصرح عبارة وأجلى ييان.
الخاتمة
جمعت نتائج هذه الخمسة أبواب بوجه الاختصار، وبعض ملحقات لها مفيدات.
هامش
==============البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح المؤلف زيادة بن يحيى الراسي
الباب الثاني ←
الباب الأول: الرد على النصارى في دعوى ألوهية المسيح عليه السلام
يفيد أن سيدنا عيسى عليه السلام ليس هو لي بإله حقيقي بالذات، وغير مساو لله تعالى في الجوهر، وأن تسميته إلها هو نعت ووصف كحسب عادة كتب العهدين؛ أعني: التوراة والإنجيل، اللذين كانا يسميان أشراف الشعب وأكابرهم آلهة، فهو أي المسيح عليه السلام كان من أشراف الأنبياء وأفاضلهم، وكانت تحق له هذه التسمية بنوع خصوصي.
فأقول أولا: إن هذا الاعتقاد الذي هو: أن سيدنا عيسى عليه السلام إله بالذات ومساو لله تعالى في الجوهر هو بدعة حديثة مستجدة في الديانة النصرانية.
ثانيا: إن هذا الرأي لم يقبل عندما ابتدع في الابتداء في الجيل الرابع عند عموم النصارى الذي كانوا في تلك الأعصار، إذ أنهم قد اعتلوا واحتجوا على من ابتدعوه بأن هذه الزيادة، أعني أن الابن أي عيسى مساو لله تعالى في الجوهر ليست موجودة في التوراة ولا في الإنجيل حرفيا، بل هي منكم جملة استنباطية اختراعية، وقد ختم على رأيهم هذا جملة مجامع، منها مجمع مادلي، والمجمع الملتئم في سيرمة نحو سنة 360 من تاريخ عيسى عليه السلام، وكان حاضرا فيه وراضيا به وخاتما عليه فيليكس،1 ومرة أخرى ليباريوس أاسقفي روما، الذين يسمون في العصور المتأخرة باباوات، وأساقفة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس، الذين يسمونهم في الأزمنة المتأخرة بطاركة، مع قساوسهم ورهبانهم ووعاظهم ونواب ملوكهم، الذين من رأيهم موجود جملة ملايين إلى يومنا هذا في بلاد أوستريا وليبا وأميريكا والإنكليز وغيرها، ويسمون الموحدين. 2
ثالثا: إن بعضا من النصارى القدماء قد كان يعتقد بأن اللاهوت هو مصاحب الناسوت مصاحبة، أو كما يقال إن الله يحل في الصالحين، وأن سيدنا عيسى كان إنسانا خالصا كالأنبياء وليس إلها وإنسانا. الذين قد يوجد من هؤلاء جملة ألوف وكرات في بلاد المشرق، في الهند والصين والعجم، وبين النهرين: بغداد وما يحوطها، وغير محلات، ويسمون نساطرة.
رابعا: وبالإجمال أقول: إن الذي أورده أولئك النصارى القدماء، المار ذكرهم، وخلفهم من بعدهم من الرد والمجاوبة على مخترعي مساواة عيسى لله تعالى في الجوهر، لما أرادوا أن يبحثوا رأيهم في تلك السندات الضعيفة والبيانات السخيفة، التي نحن الآن سنورد أقواها وجواها في هذا الباب، لكي يحصل مها إنتاج «أيما هو الدين الصحيح». وهي قد تشتمل على ستة بيانات أصولية. 3 4
البيان الأول
عن قول يوحنا الإنجيلي في الإصحاح العاشر: «أنا والأب واحد».
فمن قوله «أنا والأب واحد» المنسوب إلى عيسى عليه السلام، قد استبطوا مساواة الابن أي عيسى الأب في الجوهر.
فأجابهم الغير قابلين هذه الزيادة: نعم إن يوحنا الإنجيلي قال هذا، إلا أن هذا القول لايفيد المساواة، لأنه هو أيضا يقول في الإصحاح السابع عشر في طلب السيد المسيح ودعائه: «كما أنت يا أبتاه فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا» هكذا صلى ودعا لأجل حوارييه.
فإن كان معناه أن قوله: «أنا والاب واحد» يفيد المساواة في الجوهر، فيلزم أن يكون التلاميذ الذين قال عنهم ليكونوا واحدا فينا هم أيضا مساوين للأب والابن في الجوهر، وهذا رأي شنيع. 5
وأيضا: إن يوحنا هذا نفسه قد استعمل لفظة "واحد" في رسالته الأولى الكلية في قوله: «ثلاثة شهود في السماء الأب والكلمة والروح والثلاثة هم واحد، وثلاثة شهود على الأرض الروح والماء والدم والثلاثة هم واحد».
فنرى أنهم ثلاثة جواهر وليس هم جوهرا واحدا، لأن الروح جوهر والماء جوهر والدم جوهر6
وأيضا قد أوضحوا لهم؛ أعني النصارى القدماء للمبتدعين: أن التوراة والإنجيل يعلمان بوحدانية الله تعالى الواحد الأحد مرارا كقوله: «إن الله واحد»، وقوله: «ان لا إله غير الإله الواحد»، وقوله: «إله واحد الذي يفعل كل شئ»، ورقوله: «إله واحد أبو الكل»، وقوله: «أنت تؤمن أن الله واحد»، و«لكي يكون إله سيدنا يسوع المسيح أبو المجد»، و«إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم»، و«يعرفوك أنك أنت إله الحق وحدك». وما سمعوا من كتابهم حرفيا أن الله تعالى وحاشاه ثلاثة أقانيم ثلاثة أشخاص، ولا قرأوا في التوراة والإنجيل أن عيسى مساو للأب في الجوهر.
وكما قرر صابليوس في نحو القرن الثالث أن المقول في الإنجيل «عمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس» هي أوصاف ونعوت لطبائع مختلفة، وليست أقانيم وأشخاص متساوية بالحق، وهي كما يقال مثال ذلك في الاستعمال عن غير الأب الحقيقي والابن الحقيقي: هذا أبي وهذا ابني وهذا روحي. 7
وهي نعوت شريفة للتبجيل، أعني: إضافة تبجيل، وفي الكتاب مثل ذلك وسيأتي بيانه.
وهكذا كان اعتقاد النصارى المعاصرين له في الدهور الأولى، المطابق لقوله تعالى في القرآن الشريف: ﴿قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون﴾
البيان الثاني
استدل النصارى على أن عيسى عليه السلام سمي في الإنجيل إلها وابن إله، كقوله: «أنت ابن الله»، و«إلها كان الكلمة»، و«إذا كنت أنا الرب والمعلم غسلت أقدامكم»، و«هذا ابني الحبيب».
ومن هذه الجملة وأمثالها يستنتجون مساواة الابن أي عيسى للأب فى الجوهر، وأنه إله بالذات وورب.
فأجابهم نصارى تلك الأزمنة الحقيقيون، بلسان مجمعهم قائلين: نعم إن هذه الكلمات هي موجودة في الإنجيل مع أمثالها، إلا أنها لا تفيد المساواة في الجوهر؛ لأن موسى الكليم عليه السلام دعي هذه التسمية بقوله له في سفر الخروج في الإصحاح السابع: «قد أقمتك إلها لفرعون». وكذلك سليمان عليه السلام دعي ابن الله في سفر صموئيل الثاني في الفصل السابع بقوله: «وأنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا». وكذلك يوسف عليه السلام في سفر التكوين في الإصحاح الحادي والأربعين والسابع والأربعين سمي ربا، ورزق أباه يعقوب بقوله: «والمنادي ينادي قدامه أنت رب ومتسلط» وبقوله: «وارزق يوسف أباه وإخوته»، وقيل أيضا في المزمور إلى أئمة اليهود: «إذا قلت إنكم آلهة وبنوا العلي كلكم»، و«الله قام في مجمع الآلهة».
وفي المزمور المائة والرابع والثلاثين قد قيل فيه: «لأن الرب عظيم وربنا أفضل من جميع الآلهة» والملائكة في سفر أيوب دعوا «أبناء الله».
والشعب الإسرائيلي بوجه العموم دعي «ابن الله» حين قال الله لفرعون في سفر الخروج: «إن اسرائيل ابني البكر، أطلقه حتى يعبدني»، وحتى إني لأقول: إن لفظة «إله» التي بينا أنها كانت ينعت بها البشر نعتا ووصفا وإضافة قد وجدت في التوراة في اللغة العبرانية اسما أيضا يستعمله كل من يريد لنفسه، كلفظة «ايلياه» التي إذا ترجمت إلى اللغة العربية حرفا بحرف تراها اسما مركبا من اسمين: «ايل ياه»، أي: إله أبدي كائن، ولفظة اليشع أيضا إذا ترجم اسمه يكون إله مخلص طايق.
ومثل هذه الكلمات قد وجدت كثيرا في الكتب القديمة، وما كان أحد يتصور أو يعتقد في موسى عليه السلام أو في خلافه المنعوتين بهذه النعوت أنهم آلهة بالذات أو مساوون لله تعالى في الجوهر، مع أن الآيات الخارقة المفعولة على أيديهم كان لها الأولوية أن تعطيهم ما تدعونه لعيسى عليه السلام أعني: الألوهية بالذات.
وعدا ذلك أن هذه النعوت أعني: لفظة البنوة لله، والولادة من الله، قد تسمت بها النصارى في تلك الأزمنة في الكتاب؛ لأنهم سموا أبناء الله، ومولودين من الله، والله أبوهم، حيث يقال في إنجيل متى: «وأبوكم السماوي هو كامل»، وقوله: «وليس لكم أجر عند أبيكم السماوي»، و«كم بالحري أبوكم يعطي الخيرات»، وقوله: «ومن دون إرادة أبيكم» و«إن أباكم واحد الذي هو في السماوات».
وفي إنجيل لوقا يقول: «وبنو الله من أجل أنهم بنو القيامة» وفي إنجيل يوحنا يقول: «وأن يجمع أبناء الله المتفرقين».
وفي رسالة قرنيته يقول: «وأنا أكون لكم أبا وأنتم تكونون لي بنين وبنات»، وفي رسالة غلاطية يقول: «وأنتم كلكم أبناء الله بالإيمان». ويعقوب الحواري يقول: «وحسب رحمته ولدنا ثانية»، ويوحنا الحواري في رسالته يقول: «وكل من ولده الله فما يخطئ»، و«كل محب فهو مولود من الله».
فهذه الشهادات وأمثالها لم يعتبرها آل السنين والأجيال الأولى إلا إنها مثل المقول على المسيح عيسى، وكانوا يعتقدون أن عيسى عليه السلام يمتاز عنهم بالبكورية، كما قيل عنه «إنه بكر كل خليقة»، وأن الله تعالى كان يظهر الآيات على يديه، كما هو محرر في الإنجيل وفي أعمال الرسل، ولكونه هو الشفيع والوسيط. وكما يفضل نبي عن نبي وصالح عن صالح، فهو عليه السلام في الأولوية أحق، من كونه مقدما ورأسا وأخا، كما قال عن نفسه عليه السلام: «ها أنا والبنون الذين أعطانيهم الله»، وقول بولس للعبرية: «إنه ما استحى [أي عيسى] أن يسميهم».
وفي رسالته إلى أفسس قال: «إنه هو رأس جسد الكنيسة، وكما أن الرجل هو رأس المرأة، فكذلك المسيح هو رأس الكنيسة»، أعني أن بولس يريد أن يستنتج من كلامه أنه كما أن المرأة والرجل من جوهر واحد، فالمسيح والكنيسة من جوهر واحد، وكما يمتاز الرأس عن الجسد، هكذا يمتاز المسيح ويتشرف عليه السلام عن الكنيسة التي هي جماعة النصارى.
وبالإيجاز أقول: إن هذه التسميات قد جاءت على موجب اصطلاح اللغة اليونانية والعبرانية استعمالا وأصولا، لا العربية، وقد قادت النصارى إلى أن استنتجوا منها أن عيسى هو ابن بالذات لله تعالى، ومساو له في الجوهر، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذه الصيغة قد حرمها القرآن الشريف، لأن في قطع الأسباب تنقطع المسببات.
البيان الثالث
الذي يظن النصارى أن به يثبتون الألوهية لعيسى وهي أوصاف القدم المقولة عليه، حيث نقل عنه في إنجيل يوحنا في الإصحاح الثامن أنه قال: «إني قبل إبراهيم كنت»، وفي الإصحاح الأول قال: «وهذا كان في البدء عند الله»، وأمثاله.
فنجيب: أن هذه لا يفهم منها عند النصارى القدماء، الذين كانوا في القرون الأولى، أنه إله بالذات ومساو لله تعالى في الجوهر، بل كانوا يفهمونها من قول سليمان عليه السلام إنه قديم ومخلوق ومولود قبل صنع الجبال والآكام، لأنه أي سيدنا سليمان أنبأ عن سيدنا عيسى عليه السلام بقوله بلسان حاله: «الرب خلقني ابتداء طرقه لأعماله وقبل جميع الآكام ولدني».
وأيضا نبينا السيد الأعظم قد ورد عنه ﷺ بأنه مخلوق قبل الكون، وظهوره كان ضمن حساب التاريخ.
فإذًا: من قول سليمان، الذي يرمز به إلى عيسى عليه السلام على زعمكم، بأن الرب خلقه قبل أن يبدع اللجج والآكام، نعلم أن عيسى ليس هو فوق الأزمان ولا هو أزلي، ويتبع ذلك أنه ليمى بإله حقيقي. وإن قلنا إن النبوءة كانت مقولة من سليمان على جسد عيسى المخلوق، فجسده عليه السلام قد كان ظهوره تحت حساب التاريخ، وليس مخلوقا قبل الآكام كما تزعمون.
وأيضا داود عليه السلام في هذا المعنى في زبوره يقول: «يا رب ملجأ كنت لنا في جيل وجيل من قبل أن تكون الجبال وتخلق الأرض». وهذا يدل لي على أن أرواحنا مخلوقة قبل أن تخلق الأرض ولا يفيد أننا آلهة أزليين، أو أنه كما قيل في الرؤيا في معنى ذلك فيما زعموا عن يوحنا أنه سمى المسيح في الإصحاح الثالث عشر خروفا بقوله: «الذي للخروف الذي ذبح منذ إنشاء العالم».
وقد يعلم من هذه أيضا أنها تفيد قصد الشئ لا وجوده، ولأن المسيح على زعمكم الباطل ذبح في عهد بيلاطوس، وليس منذ إنشاء العالم كما زعمتم من قول يوحنا في رؤياه.8
وأيضا أقول: نعم إن سليمان قد تكلم على أن الحكمة في الله أزلية، يقول عنها من الأزل أسست، والنصارى فسروا هذه الحكمة أنها عيسى، فنحن لا نعارضهم بهذا التفسير، وأن سليمان يذكرها مرارا على معان كثيرة بعيدة عن فرضهم، حتى وفي هذه الجملة يشير أنها أسست أي مفعولة، بل نجاوبهم بأنها ليست وحدها في الله أزلية، بل جميع صفاته كالقدرة والرحمة والمعرفة والسمع والبصر وما شابه ذلك، فإذا فسرت النصارى الحكمة وأنها أقنوم عيسى، فيلزم أن يكون في الإلهية أقانيم كثيرة على عدد صفاته، لأن سليمان ذاته قال: «إن الله بالحكمة أسس الأرض وبالفطنة أتقن السموات، وبالمعرفة شقق اللجج» كما في العبراني، فهاهنا يستنتج أربعة أقانيم في إلههم وهم: الله والحكمة والفطنة والمعرفة، وقد يظهر أيضا أن الفطنة هي أعظم من الحكمة، لأن بها أتقنت السماوات وبالحكمة أسست الأرض.
البيان الرابع
أن النصارى المتأخرين يستندون على أوصاف السيادة المقولة على عيسى عليه السلام مستنبطين له منها الإلهية، مثل قوله في يوحنا: «إن الأب لا يدين أحدا بل أعطى الحكم كله للابن»، وقوله «كل شئ أعطيت من أبي». وأمثال ذلك كثير.
فأجيب: والحال أن مثل هذه الأوصاف وما يتبعها لا ينبغي أن تقبل أدنى شبهة بأن الابن غير مساو للأب في الجوهر، ولأنه يقول «وأعطى الحكم كله للابن» و«كل شئ أعطيت من أبي»، فيكون الأب هو المعطي والابن هو الآخذ، والأخذ للحكم ليس هو من شيم الألوهية ورتبتها، لأن رتبة الألوهية تعطي الحكم، والمسيح نفسه قد فسر ذلك لما أتبع كلامه إذ قال: «لأنه ابن البشر».
فهذه الأوصاف كما قررنا لا تثبت الألوهية بالذات لعيسى، لأنه في الأول قال إن الله تعالى أعطى له الحكم، وفي الثاني قد كشف عن الحق كله بقوله: لأنه ابن البشر، ولم يقل عنه: إنه يدين ويحكم بحسب طبيعته الخالقة، أو لأنه ابن الله بالطبيعة.
وأما قوله: «إن من يكرم الابن فقد يكرم الأب» وقوله: «ويكرمون الابن كما يكرمون الأب» فهي مثل قوله: «من أهانكم فقد أهانني ومن أهانني فقد أهان الذي أرسلني»، و«من سمع منكم فقد سمع مني»، و«من يرحم مسكينا يقرض الله»، وأمثال ذلك كثير. 9
البيان الخامس
يستند النصارى على ما ورد عن عيسى عليه السلام من قول بولس في العبرية بأنه، أي عيسى: «شعاع مجده وصورة جوهره»، يعني مجد الأب، وهذا الضمير عائد إلى لفظة الله، ويستنبطون من قوله «شعاع مجده وصورة جوهره» مساواته لله تعالى في الجوهر.
فأجيب أن هذا السند هو كالذي قبله، إذ أنه لا يفيد المساواة في الجوهر، لأنه قيل في سفر التكوين ما يحل هذا الإشكال، فقد قال عن الإنسان إنه خلق على صورة الله، وذلك في الإصحاح الأول إذ قال: «وخلق الله الإنسان كصورته».
ثم إن بولس كتب أيضا لقرنيته في الإصحاح الحادي عشر: «إن الإنسان صورة الله ومجده. وحيث إن لفظة صورة الله ومجده قيلت على المسيح وعلى الإنسان أيضا، فلا تفيد مساواة عيسى لله تعالى في الجوهر، وكما تجد أقوالا كثيرة من بولس إلى كولوسي في الإصحاح الأول عن عيسى: «أنه ابن محبته»، أي ابن محبة الله، وأنه «صورة الله ومجده، وأنه بكر كل خليقة»، فيلزم أيضا أن نعرف معانيها، لأنه على معنى قوله: «إنه ابن محبة الله»، فمعلوم وظاهر جدا أن ابن المحبة غير الابن الطبيعي، حسبما أكد ذلك بولس نفسه في رسالته إلى الروم، إذ أنه سمى عيسى «ابن الله بالقوة»، ولم يقل بالطبيعة، وأتبع ذلك بقوله: «حسب روح التقديس»، أي بحيث هو مقدس سمي ابن الله بالقوة، وبقوله: «إنه صورة الله ومجده» و«آدم أيضا صورة الله ومجده»، وبقوله: «إنه بكر كل خليقة»، فيكون معناه أن المسيح قديم ومخلوق وليس بخالق.
وأما قوله الذي يتلوه: «إنه به خلقت البرايا» أعني: لأجله أو بواسطته، وقد كتب قدها للعبرانيين في الإصحاح الأول: «لأن به خلق العالمين» لأن هذه الباء في اليوناني هي باء السببية الواسطية. ونبينا السيد الأعظم ﷺ قد ورد عنه أنه لأجله خلق الوجود.
وأثبت قولي وأختمه بما أورده يوحنا في رؤياه في الإصحاح الثالث بقوله عن عيسى عليه السلام: «إنه رأس خليقة الله»، أي أنه أول المخلوقين، هذا على زعم كتابكم المطابق قول بولس: «إنه بكر كل خليقة».
والنتيجة لهذا القول جميعه هو كيف أن عيسى قيل عنه في كتبكم إنه أول المخلوقات، وإنه بكر كل خليقة، وأنتم تدعون أنه خالق؟ 10 11
البيان السادس
أن بولس قد كتب إلى فيلبي قائلا عن عيسى: «الذي إذا كان له صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون عديل الله»، فعلى هذا يستندون أن عيسى عديل الله في الجوهر، تعالى شأنه.
فأجيب: إن هذه الجملة غير كافية في اللفظ والمعنى، لأننا إذا تعقلنا جملتها فنراها أنها لا تفيد مساواة عيسى لله تعالى في الجوهر، بل إنها تظهر المعادلة في الصورة وليمى في الجوهر؛ لأنه قال عنه: «إذا كان له صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون عديل الله»، يعني بالصورة.
فهذه المعادلة من القرائن قد علمت بهذا الوجه المشروح، وأما بالجوهر فلم يقال عنه إنه عديل الله بالجوهر ومساويه. وهكذا لفظة المعادلة في الاستعمال في كامل قواعد اللغات، وأنها لاتفيد إلا الوجه المقصود فقط من القرائن، لأن بطرس الحواري أيضا يقول في رسالته الثانية في الإصحاح الأول قولا أبلغ من المعادلة في الصورة عن الناس المؤمنين بعيسى: «إنهم صاروا شركاء الطبع الإلهي»، ويعقوب أبو الإسرائيليين في سفر التكوين في الإصحاح الثالث والثلاثين يقول إلى العيص أخيه: «إني نظرت وجهك كوجه الله»، وسيدنا داود عليه السلام قيل عنه إنه نظر قلب الله بقوله: «إني نظرت داود بن يسى رجلا نظير قلبي» يعني نظير قلب الله تعالى.
وفي الإصحاح الثالث من نبوة إرميا النبي يقول عن الله تعالى: «وأعطيكم رعاة كقلبي»، لم يعني نظير قلب الله، ولم يقل عن المقول عنهم هذه الأقوال إنهم آلهة بالذات ومساوين لله تعالى في الجوهر، وكما أنه إذا قلنا: إن زيدا له صورة القمر فهو عديل القمر، ولا يفهم منها أن زيدا عديل القمر بالجوهر، بل المعادلة له في الصورة. وعلى هذا المثال تفهم تلك الجملة التي هي قوله «الذي إذا كان له صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون عديل الله» ويستفاد منها أن المعادلة بالصورة وليس بالجوهر. 12
وأيضا نقول: وإن فسروا ذلك بالناسوت فلا ينطبق معهم هذا التفسير، إذ أن الناسوت كان مأخوذا على زعمهم وليس آخذا، وبولس عزا الإعطاء إلى الآخذ لا إلى المأخوذ، أي أن الذي أفرغ ذانه وأخذ صورة عبد هو الذي رفعه الله ووهبه اسما يفوق كل اسم.
فإذا ينتج من كل ما شرحناه: أن يسوع الإنسان السيد الشريف الآخذ صورة عبد، أعني المتصف بالذل والتواضع، هو الذي أعلاه الله إعلاءً. 13
تنبيه: اعلم أن الذين تنصروا في ابتداء الديانة النصرانية كانوا مركبين من يهود ومن عبدة الأصنام، فالبعض من علماء عبدة الأصنام من المتنصرين إذا سمعوا الإنجيل يقول عن المسيح: إنه إله وابن إله، فكانوا يتصورون أنه إله بالذات كالزهرة والمشتري، كما ظنوا في بولس وبرنابا أنهم آلهة، ولقبوا بولس بهرمس وبرنابا بالمشتري، كما خبرهم شاع في كتاب الابركسيس.
وأما علماء اليهود المتنصرين إذا سمعوا الإنجيل يقول عن المسيح في الإنجيل: إنه إله وابن إله، فكانوا يعتقدون فيه كموسى وكباقي المسمين آلهة، وأنهم مخلوقون وليسو بخالقين، لأنهم لم يسمعوا في الإنجيل في أسمائه المكتوبة والمنبئة عنه، ولا في التوراة اسما صريحا من الأسماء المختصة بالله عز وجل، مثل اسم ياهوفا مفردة، 14 واسم «أهيه اشيراهيه» اللذين لم يطلقا إلا على الله تعالى بالذات، بل كانوا يرون أنه من الأسماء المشتركة التي كانت تقال على الخالق وعلى المخلوقين كألوهيم وأدوناي وأيلواه، وأمثالها.
ولما تنصر الملك قسطنطين في ابتداء الجيل الرابع وجد خلفا في الديانة النصرانية وآراء مشكلة؛ فقصد الفحص هو وخلفه من بعده، وجمعوا مجامع عامة، كما حرر ذلك سعيد البطريق في تاريخه، وغيره من المؤرخين، فكان تارة يثبت رأي اليهود المتنصرين بأن عيسى ليس بإله بالذات بل بالتسمية، وتارة كان يثبت بأنه إله بالذات، أعوذ بالله، كرأي عبدة الأصنام المتنصرين، 15 الذين منهم قسطنطين نفسه، وخلفه ونيكولاوس واسبيردولوس الذين ليس عندهم معرفة في اصطلاح وقواعد التوراة.
وهذا هو الأصل والسبب لهذه الواقعة، مع أن هذه السلالة الملكية كان بعضهم يعقل ويميل إلى الرأي بعدم المساواة، وكان بعضهم يفضله، حتى إن الغربيين مع أتباع البابا والبروتستانيين إلى حد هذا الزمان يعتقدون بأن قسطنطين الملك قد توفي بالمذهب الذي هو عدم المساواة.
هامش
حاشية: اعلم أن في زمان مجمع صيرما انعزل فيلكس البابا المذكور وتنصب عوضه ليباريوس، واثنين تصدروا وختموا بعدم قبولهم بالمساواة، (أي مساوات عيسى بالله عز وجل) وحرموا هم ومجمعهم المجمع النيقاوي الأول الذي اخترع هذه الزيادة وابتدعها وجعلها دستور إيمانه.
حاشية: ربما أن مثل هؤلاء كان يمدحهم القرآن الشريف ويكفر القسم الثاني، لأن النصارى قسمان قسم موحد وقسم مثلث.
حاشية: اعلم أن لفظة أصولية قد يراد بها أنه إذا وجد مائة شهادة أو أكثر أو أقل من مثل هذه المعاني فتكون مبينة من مثل هذه الأصول الستة وقد تنحل بحلها المشروح
حاشية: اعلم أن كلما يوجد من البيات في هذا الباب قد ترتد إلى هذه الستة الأصولية.
حاشية: اعلم أنه يوجد أمثلة كثيرة مستعملة على هذا الأسلوب في كامل اللغات عن المتحدثات من شيئين، ولا يقال عها متساوين في الجوهر.
حاشية: ( اعلم أن جملة «الأب والكلمة والروح والثلاثة هم واحد» ليس لها وجود في جلسات المجمع النيقي، لأن هذه الجملة في بعض نسخ الإنجيل القديمة الموجودة عند النصارى الموحدين، ووعند طائفة السريان في اللغة السريانية ليس لها أثر كليا، مع أنها لو وجدت في بعض النسخ، وهي دخيلة ومبتدعة، إلا أنها لا تفيد المساواة، بحيث قد يحلها مثالها التابع لها، وهو قوله الروح والماء والدم والثلاثة هم واحد، لأننا ننظرهم ثلاثة جواهر، وليس فيهم مساواة في الجوهر كليا. وهذه الشهادة بهذا النسق هي مأخوذة عن كتاب يوناني بخط لليد، ولربما تكون في باقي النسخ مغيرة.
حاشية: إنه يكفي برهانا لعدم المساواة بنعت الروح وحده بالقدس، لأنهم لو كانوا متساويين لكان ينبغي أن يقول عيسى عليه السلام: عمدوهم باممم الأب القدس والابن القدس والروح القدس، ولا يعزو هذا النعت وهو القدس إلى أقنوم واحد وهو الأخير ويترك الباقي.
حاشية: اعلم أن نتيجة هذا البيان الذي هو البيان الثالث قد تشير على أنه إن سلمت النصارى على أن عيسى ذبح قبل إنشاء العالم، فعليا أن نسلم نحن لهم بأن القول عن المسيح كان قبل إبراهيم هو بالفعل. وإن أنكروا وقالوا إنه ما ذبح عيسى أي قبل إنشاء العالم بالفعل فنجاوبهم نحن ونقول إنه ما كان عيسى قبل إبراهيم بالفعل، مع أن هذه القبلية لاتفيد الأولية كيف ما كانت.
حاشية للناسخ : اعلم أنه قد ورد في القرآن الشريف (مثل) قوله: من يكرم الابن فقد أكرم الأب، خطابا للنبي ﷺ إن الذين يبايعونك إنما يايعون الله.
حاشية: اعلم أن هذه الجملة الموجودة في البيان الخامس التي هي قوله: شعاع مجده وصورة جوهره، إذا قرئت في الإنجيل العبراني لا يلزم لها حل مطلقا لأنها محلولة من عين ذاتها ظاهرة جلية، إذ أن لفظة شاع مجده هي في العبراني "توكادها كابود" وتفسيرها بالعربي الزهرة المجيدة، وهي اسم لكوكب الزهرة، وأن بولس نعت بها عيسى، وأنه أي عيسى هو الزهرة المجيدة وصورة جوهرها، وبالمذكر تقال كوكب الغراء المجيد، وصورة جوهره وسايس الجميع بكلامه التوي. هكذا وجدت هذه الجملة في الإنجيل العبراني وليس عائد هذا الضمير على لفظة الله بل على النجم المشبه عيسى به. كذا وجدت في اللغة العبرانية كما قررنا، وهكذا يفهمها اليهود إلى الآ،. وعليك بترجمتها من العبراني تكتفي عن كل ما شرحه المؤلف في هذا البيان.
(حاشية من مخطوط آخر): اعلم أن جملة شعاع مجده التي رقمها بولس في هذه العبارة وقد حلها المؤلف رحمه الله تعالى، هي في اللغة العبرانية غير مفتقرة إلى حل لأنها واردة بمعنى آخر يبعد كثيرا عن صورتها العربية. والوجه الآخر هو: أن هذه الرسالة الواردة فيها هذه العبارة هي من الست رسالات المشبوهات والغير مسلمات فى قدمية النصرانية كما ذكر عنها صاحب كتاب مرشد الطالبين. والدليل على ذلك أن المجمع الأول النيقاوي الذي كان مجتمعا لإثبات هذا المعنى ما أورد هذه العبارة في سنداته التي قررها، أي أنه بعد تاريخ عيسى بثلاث مائة سنة وعشرين ما كان المسيحيون قبلوا هذه الرسالة.
حاشية: اعلم أن بولس نفسه يؤكد هذا الشرح في غلاقة هذه الجملة بقوله ولكنه أخلى ذاته، أي أنه (تنازل) وترك شرف هذه الصورة الفائقة. إذ أنه أخذ صورة عبد، أعني أنه تظاهر بصورة عبد مثل باقي الناس مع سيادته ومعادلته لله في الصورة وشرفه السامي لكي يعلمنا التواضع ويرينا أن الله أثاب هذا الذي ترك ذاته الصائر بشبه الناس رفعة، لأنه يقول: «ولذلك رفعه الله»، وفي نسخة أخرى يقول: «أعلاه الله إعلاء ومنحه اسما يفوق كل اسم». فهل يجوز عند النصارى أن يقال عن اللاهوت أخلى ذاته وأنه يعطي مراتب مثل التي ذكرها بولس وعلقها بالمخلي ذاته. أي أن الله رفعه ومنحه اسما يفوق كل اسم. وهذا الرأي ما أظنه يقال ولا من الكافرين.
حاشية: وهذا الشك بعينه هو الذي كان بعض اليهود المبغضين لعيسى يتأولونه عليه ويطعنونه به بأنه يعادل نفسه بالله من قوله إنه هو ابن الله. وقد كشفه عليه السلام وأعلنه بأنه ليس هو عديل الله من جوابه لهم، لأنه قال: أما هو مكتوب في ناموسكم أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم. فإن كان أولئك قيل عنهم إنهم آلهة فالذي قدسه الأب وأرسله تقولون أنتم إنه يجدف، ومعناه عليه السلام إن كانت لفظة ابن الله التي تؤنبوني فيها ما قيلت سابقا على غيري من البشر فيكون الحق معكم على أني أجدف، وإلأ كانت قيلت سابقا على غيري، فكيف تقولون عني أني أجدف إذا قلتها على نفسي أنا المقدس من الله والمرسل
حاشية: اعلم أن لفظة (ياهوفا) إذا كانت مفردة تمتاز عن (ياهوفا) المركبة، حيث أن المركبة يجوز أن تقال على البشر وعلى الأحجار كقوله في سفر الخروج في الإصحاح السابح عشر: «وابتنى هناك موسى مذبحا ودعى اسمه اليهوبا عظمتي».
حاشية: اعلم أن هذا التاريخ المنقول عن سعيد البطريق الذي صار بطريركا على الإسكندرية يستدل منه (على) أنه لم يوجد دليل لهذا الرأي صريح في الكتب يثبت المساواة، أي أنه (لم يجد) علماء تلك الأزمنة في الإنجيل والتوراة جملة صريحة تقول عن المسيح إنه مساو لله في الجوهر وهذا وحده يكفي للبيان.
===============
الباب الثاني: الرد على النصارى في استدلالهم على ألوهية المسيح بالمعجزات التي أظهرها الله على يديه
رد على الافتخار الذي يفتخر به النصارى المبتدعون بسمو آيات عيسى وعجائبه وأنها فائقة، وقصدهم بذلك لكي يثبتوا بدعتهم منها، أعني الأوهية لعيسى. وقد قابلت آياته وإذا هي في الواقع آيات خارقة للعادة، إلا أن الأنبياء الذين سبقوه قد عملوا مثلها وما يعلوها ويفوقها أيضا، ثم إن آل زمانهم وأتباعهم لم يعتقدوا فيهم أنهم آلهة ولا مساوون لله تعالى في الجوهر.
أقول: إن الافتخار الذي يفتخر به النصارى بآيات عيسى لكي يثبتوا بها أنه إله ومساو لله تعالى في الجوهر، ذلك لايفيدهم شيئا، لأننا مع اعترافنا أن آيات سيدنا عيسى عليه السلام خارقة إلا إنها إذا إلا أن سيدنا موسى عال جملة ألوف بلواحقهم، ليس يوما ولا شهرا بل سنين عديدة في التيه في البرية. وعيسى عليه السلام بنوع عجيب صام أربعين يوما في البرية، إلا أن إلياس النبي تقابلت آياته بآيات سيدنا موسى والأنبياء عليهم السلام فيظهر أن بعضها متساوية وبعضها أقل رتبة منها. فسيدنا عيسى نعم: إنه أطعم خمسة آلاف وأربعة آلاف من خبز قليل لما صلى لله تعالى، صام مثله، وموسى النبي عليه السلام ضاعف الأربعين.
ثم إذا قلنا إن سيدنا عيسى صعد وعرج، فإيليا أيضا صعد بهولة عظيمة وبمركبة نارية. وعيسى انتهر البحر والريح فهدءا، ويشوع بن نون أوقف الشمس والقمر. 1
نعم إن عيسى مشى على الماء، وأيضا تابوت العهد مع كهنة اليهود جازوا في نهر الاردن بأقدام غير مبلولة.
سيدنا عيسى أقام بصلاته أمواتا، وأيضا إيليا واليشع أقاما أمواتا في حياتهما، بل إن عظام اليشع من بعد موته وفنائه حينما وضعوا عليها ذاك الميت للحال قام ناهضا.
مرض البرص شفاه المسيح، واليشع شفى نعمان السريايي من البرص أيضا. 2
نعم إن الأعمى برئ بسيدنا عيسى، وبرئ سابقا من مرارة حوت طوبيا، ومن بخور كبده أخرجت الشياطين، وماء بركة المرسلة كان يشفي المخلعين، وسيدنا المسيح كان يبرئ المخلعين.
سيدنا المسيح هو حي للآن، وإيليا وأخنوخ لم يموتا، بل هما باقيين أحياء.
نعم عيسى أحال شجرة التين المورقة وجعلها يابسة، وموسى تحولت عصاته اليابسة إلى حية. 3
نعم عيسى حين اليهود أرادوا قتله على زعمهم صارت ظلمة على الأرض من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، وربما يكون انكسافا طبيعيا. وأما الظلمة التي صارت بمصر على يد موسى عليه السلام فقد استقامت ثلاثة أيام.
نعم إن عيسى حينما اعتمد شهد له صوت من السماء قائلا: «هذا هو ابني الحبيب»، وأما موسى حسبما ورد عنه بأن الله تعالى ناجاه مخاطبا وقائلا: «قد أقمتك إلها لفرعون».
نعم إن سيدنا عيسى لما تجلي عليه لمعت ثيابه كالثلج، ولكن موسى حينما نزل من الجبل من مناجاة الله سبحانه له كان يضع على وجهه برقعا ليغطي به ذاك البهاء الذي كان فيه، وذلك البهاء لم يكن وجوده ساعة كالتجلي بل بقي زمانا طويلا.
فهذه المقولات والمقابلات قد أوردتها ليس لأن عندي أن سيدنا عيسى هو دون سيدنار موسى عليهما السلام حاشا وكلا، وإنما ليعلم أن المسيح ليس بزائد عن موسى ولا هو إلها له كما يزعم النصارى.
وبقي علينا أن نشرح ونبين الآيات والعجا\ب التي فعلها موسى ولم يفعل سيدنا عيسى مثلها ولم يرد على يديه مثل أصغرها، كتحويل بحار المصريين إلى دم وإيجاد الضفادع الكثيرة والوباء المهلك والجرب والجراد والبرد وموت الأبكار وشق البحر الأحمر بعصاته وإدخال الشعب على الأرض اليابسة في وسط البحر وعامود الغمام وإنباع الماء من الصخرة التي كانت تتبع الشعب أينما مشى لتسقيه وحية النحاس التي كانت تمنع الموت عن الناظرين إليها من الذين كانت تلدغهم الحيات، كما كتب وشرح ذلك بالإفراد في سفر الخروج. وفي غير محل من التوراة تجد آيات أخر فائقة لم تعمل من عيسى عليه السلام كنجاة دانيال من جب السباع وحفظ الثلاثة فتية الذين طرحهم الملك في أتون النار ولم تمسهم ولم تحرق ثيابهم نار ذلك الأتون المتوقد سبعة أضعاف، وشق نهر الأردن من أثواب إيليا حينما ضربه اليشع بتلك المخملة.
فهذه جميعها ما عمل مثلها المسيح عليه السلام مع أن الواجب حيث إن عيسى حسبما يزعمون عنه أنه إله ومساو لله تعالى في الجوهر أن تكون آياته وعجائبه أكثر خرقا للعادة وأعلى وأسمى وأغرب من آيات موسى والأنبياء ولم يقع مثلها في الوجود من كونه كما نوهوا عنه أنه خالق الأنبياء وإلههم - أعوذ بالله من ذلك - وعندما ينحصر المبتدعون لألوهية عيسى من هذه التقارير والمقابلات ربما يقولون: إن أفعال المسيح الخارقة هي عقلية روحانية، مثلما أنه خلص آدم من خطيئته التي لحقتهم وأنه صيرهم أبناء الله بالنعمة وأنه أنقذهم من يد الشيطان الرجيم.
أقول: إن هذه الدعوى المتضمة أن عيسى عليه السلام خلص آدم من الخطيئة ونسله أيضا معه هي دعوى لا دليل عليها ويكذها الحس ومنافية للعدل.
أما قول لا دليل عليها ويكذبها الحس فلأن آدم لما أخطأ على زعمهم مات نفسا وجسدا في الحال: مات بالنفس وبالاستقبال مات بالجسم. وهذين، أعني موت النفس والجسم قد لحق ذريته بأجمعها كما حرر ذلك ر بولس عن موت الجسم لا النفس: (:أن بآدم دخل الموت وعم على الجنس البشري». ولم نر في كل هذه الدهور من حين جاء عيسى وعمل الخلاص - على زعمهم - لآدم وذريته حتى الآن أن البشر تخلصوا أو أي فرد منهم من الموت الجسدي الذي تبع الموت النفساني رعلى زعمكم 4 حتى نستدل على أن سيدنا عيسى خلص البشر من الموت النفساني، بل إننا نراهم يموتون على السواء، حتى الطفل المعمد الذي تخلص من خطيئة آدم وصار ابنا لله على زعمهم الباطل ولم يعمل خطيئة واحدة فإننا نراه يمرض ويموت.
ثم نرى أيضا أن جميع القصاصات الواردة على البشر بواسطة خطيئة أبيهم آدم المشروحة في التوراة في الإصحاح الثالث من سفر التكوين، كالإتعاب وأكل الخبز بعرق الوجه وإخراج الأرض الأشواك التي تفسر بالغموم والهموم وولادة المرأة بالأوجاع ولعنة الأرض، كلها باقية غير منحلة ولا ناقصة ولا نالها تغير ولا تحويل.
وحيث لا يثبت صحة المدلول إلا بالدليل، والدليل هنا بقاء القصاصات التي شرحناها هو ظاهر بين، فينتج إذا من كون القصاصات باقية أن المسيح ما عمل خلاصا كما يزعمون، وهذا هو المدلول الصحيح الذي لا شك فيه، لأن بهذا الميزان انتقض مدلولهم. 5
وأما قولي عن دعواهم إنها منافية للعدل، فلأن الوصية في التوراة تجتزئ ذنوب الآباء من الأبناء إلى ثلاثة وإلى أربعة أجيال حسبما جاء في الوصية الثانية من الوصايا العشر، وهذه الوصية يحتسبها العقل ظلما، إذ أنه يسمع العدل الحقيقي الإلهي من فم نبي آخر يقول: «إن النفس التي تأكل الحصرم هي تدرس»، وقوله: «لا يموت الابن بخطيئة الأب».
فكيف يسلم العقل ههنا بأن خطية آدم وقصاصه يتسلسل جيلا بعد جيل وشخصا بعد شخص حتى يجيء عيسى ليخلص جنس البشر؟ وأن الله تعالى العادل سبحانه يترك البشر تحت هذا الظلم القسري؟ أعني أن آدم يخطئ وتهلك ذريته معه بسبب خطئه إلى أجيال عديدة، حتى يرسل عيسى لكي يخلصهم. وما يرى في الناس خلاص، لأنه كما سبق أقول بأنه لا يوجد قصاص واحد من المترتب على آدم انحل وتلاشى بواسطلة الخلاص الذي يدعون أنه تحقق بعيسى حتى يمكن أن نستدل به عليه إن كان حقا.
فإذا، حيث إننا لم نر انحلالا لقصاص من المترتب على آدم والمتسلسل إلى ذريته حتى الآن، فيلزم أنه لا دليل على الخلاص الذي يعتقده النصارى المتأخرون ولا إثبات.
وإذا كانت خطيئة آدم لزمت البشر جميعهم على زعمهم الباطل، فكيف الله سبحانه وتعالى العادل يحبس بعضهم في الجحيم تحت يد إبليس وسلطانه نحو خمسة آلاف سنة، وبعضهم الذين جاؤا من بعد عيسى يخلصهم بعيسى بلا حبس ولا دقيقة واحدة، مع أن الكل أخطاوا بآدم فأين عدل الله بذلك؟ 6
مع أن عيسى عليه السلام الذي نسبوا إليه هذه الدعوى لم يتكلم ولا تعرض لذكر هذه القضية في جميع تعاليمه على الإطلاق، لا بل إنه تكلم بما يضاد هذا الاعتقاد عن لعازر: أن الملائكة نقلته إلى حضن إبراهيم، وإبراهيم قد أفاد عنه عيسى ههنا بأنه هو نفس النعيم.
ويظهر من هذا الكلام على خلاص واقع قبل الفداء الموهوم.
وإن قيل إن ذلك القول في الإنجيل من سيدنا عيسى كان مثالا،
فنجيب: إن المثل لا بد من أن يكون له رابط فيما بينه وبين الممثل به، فكيف سيدنا عيسى يمثل إبراهيم بالنعيم ويكون يومئذ إبراهيم على رأيكم في جوف الجحيم؟ وما هو الرابط فيما بين المثل والممثل به؟
وغلاقة هذا المبحث تراه في كتاب الأجوبة الجلية أصول وخصوم، أي ردودهم وجواباتها، مع قوله الصريح: بأني «لم آت لأدعو صديقين، بل خطاة إلى التوبة».
فإذا ينتج: أنه يوجد صديقين وما أتى ليدعوهم، لأنه في مقدم هذه الجملة قد أورد سندا قويا لها وهو قوله: «إن الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب لكن المرضى».
والبيان الأخير، أن هذا الرأي، أي: بأن الخطيئة موروثة من آدم والمسيح خلص البشر منها هو رأي منكر الآن عند النصارى الموحدين، ومن ذلك يظهر أنه تزوير محدث.
ونختم هذا الباب بقول مختصر، ونقول: إن النصارى يقولون إنهم هم أبناء الله بواسطة الإيمان والمعمودية، وقد ورد عندهم في كتابم «بأن من ولده فما يخطئ»، وأننا نرى إلى الآن الخطايا جميعها التي يدعو إليها إبليس والشهوات يفعلها النصارى وقد ظهرت فيهم واستحوذت عليهم ليس بأقل من الخارجين عن معتقدهم، بل أكثر وأبلغ، ولم نر لهم ميزة تميزهم عن غيرهم في شئ، فلا يخلو إما أن يكون هؤلاء النصارى لا يخطئون من حيث إنهم أبناء الله ومولودين من الروح الصالح وخلصهم المسيح من الخطيئة ومن يد إبليس، كما ورد عنهم في كتابهم وهو صدق وحق، وإما أنهم أي النصارى إذا كانوا يخطئون دائما مثل الذين هم خارجون عن اعتقادهم كما يرى ظاهرا فيهم، فليسو هم أباء الله كما يزعم كتابهم عنهم ولا خلصهم المسيح من يد إبليس، ويكون كتابهم في هذا الباب متقول.
هامش
حاشية: اعلم أن وقوف الشمس والقمر من يشوع بن نون هو أبلغ من سكون الريح من عيسى، لأن الريح قد يمكن سكونه صدفة وأما الشمس والقمر فغير ممكن وقوفهما، لا بل ممتنع إلى أقصى غاية.
حاشية: اعلم أنه قد زاد في هذه الآية أن اليشع نقل البرص من جسم نعمان السرياني إلى جسم جيازي خادمه، أي خادم اليشع، والمسيح لم ينقل البرص.
حاشية: اعلم أن يبس شجرة التين هو داخل تحت قانون الطبيعة، أي أنه يمكن أن يبس الشجرة كان بنوع الصدفة، لأن الشجرة قد تيبس، إلا أن العصا تتحول إلى حية ليس هو من الأشياء الصدفية الممكنة بل هو من الممتنع وجوده إلا بقدرة الله وهو أبلغ الخوارق وأكبرها.
حاشية: اعلم أن الاعتقاد عند النصارى أن المسيح قد جاء مخلصا وفاديا ويدعون على لسان بولسهم أن عيسى صار لعنة لأجل البشر وفداهم من لعنتهم ورفعها عنهم، ثم يدعون أنه مات عنهم ليفديهم من الموت، وما نرى أنه رفع الموت عنهم بموته الذي كان سببه خطيئة آدم، فأين الفداء الذي يدعونه؟ وقد يستنتج من ذلك أن الموت لم يرفع عنهم بأن تكون اللعنة مع الموت التي قال عنها بولس باقية هي أيضا. هذا على موجب رأيهم واعتقادهم.
حاشية: اعلم أنه لو قيل من بعض علماء النصارى إن هذه العوارض المشروحة كالأوجاع والموت الموجود الآن وأنها بعد مجئ المسيح لم تعد تحسب شيئا عند التابعين له ولا نظن أنحا موت وأثقال، فنجيب: والحال أن عيسى نفسه كان يتضيق منها ويحزن ويتهرب من الموت ويطلب من الله رفعه عنه، وأيضا نجد أن هذه العوارض بعد المسيح كان حصولها وشكلها عند النصارى كمثل شكلها عند الذين هم خارجين عن النصرانية، لأن محبي عيسى الذين ما اعتبروا الموت والعوارض شيئا كالمحبين الموجودين خارج دين النصرانية الذين بذلوا دماءهم وجهدهم رغبة في دينهم، فإذا لا تصح دعوى المدعي لأن في القرآن الشريف إن الذين يموتون شهداء في سبيل الإيمان لا يقال عنهم أموات بل أحياء.
حاشية: اعلم أن الأغرب من كل ما ذكرنا هو أننا لم نر في كتب موسى ولا في قصص نوح وإبراهيم وباقي الأنبياء خبرا بأن أنفسهم من بعد موتهم سوف تذهب إلى تحت يد حكم وسلطان الشيطان لسبب خطيئة أبيهم آدم، أو أنهم ماتوا على رجاء وإيمان بأن عيسى هو إلههم وأنه مزمع أن يأتي ويموت ويخلص أنفسهم من هذا الأسر، بل إننا نسمع منهم وعنهم أنهم ناجوا الله تعالى وخاطبوه كرات عديدة وحصلوا منه على نعم جسيمة في حياتهم مثل إقامتهم للأموات وغير ذلك من الآيات الخارقة. حتى وبعد موتهم قد أشار عنهم سليمان وعن أمثالهم بأن نفوسهم في يد الله ولن يلامسهم عذاب، وأنهم من بعد موتهم قد أصبحوا في ملامة وأنهم لما كانوا يعذبون في الدنيا كان اعتقادهم أنهم لن يهلكوا بعد الموت وأن الله سبحانه يقبلهم قبولا كاملا وأنه تعالى يملك عليهم الدهر، ولم يقل عنهم أنهم من بعد موتهم دخلوا في الجحيم مأسورين تحت يد الشيطان وهو يملك عليهم كما تزعم بعض فرق النصارى . فإذًا هذا قولهم بأفواههم أنى يؤفكون.
=======================
الباب الثالث: الرد على مطاعن النصارى فى نبينا محمد ﷺ
رد على ما يدعيه النصارى ويتوهمونه بأن نبينا الأعظم ﷺ قد حصل منه أمور منافية وغير حسنة، منقولة من القرآن الشريف، مع كون أن مثل هذه الدعاوى والأمور الملحوظة فيه قد وجدت مفعولة من الأنبياء الذين سبقوه وأبلغ منها، كما تشهد بذلك كتبهم وتحسب عادية ولا غير حسنة.
أقول: إن دعوى النصارى على نبينا ﷺ بأنه قد حصل مه أمور منافية وغير حسنة هي دعوى غير صحيحة لأمور:
أولا: يدعون بأن نبيا الأعظم ﷺ كان قصده فيما ادعاه ليس روحانيا بل كان يقصد غاية جسدية، وهذه الغاية هي التي لأجلها ادعى النبوة، مثل اتخاذ امرأة زيد ومثل تزوجه بعدة نساء، وأنه كان يميل إلى الملاذ الجسدية.
والحال أن الأخذ من النساء أكثر من واحدة لم يكن ممنوعا في قبيلته وبني جنسه حتى يدعي النبوة لأجل أن يأخذ أكثر من واحدة، لاسيما وأن سيدنا إبراهيم ﷺ وأولاده قد ورد عنهم في التوراة أنهم أخذوا نساء كثيرات، حتى إني لأقول إن سيدنا سليمان وأباه داود قد أخذا نساء بعدد وافر ولم يحسب لهما ذلك ذنبا.
وفي ابتداء النصرانية قد كتب بولس إلى تيطس « بأن ينتخب الأسقف رجل امرأة واحدة». ويظهر من ذلك أن النصارى مباح لهم أخذ أكثر من امرأة واحدة.
وثانيا: عن اتخاذه امرأة زيد زوجة وأنه قد جاء عليه الأمر بتزوجها وعلى زعمهم أن هذا الشئ غير لاثق.
والحال أن هذه عادة كانت جارية عند العرب وعند اليهود أيضا أن يأخذوا نساء غيرهم بعد أن يتركوا من رجالهم وهذا الترك هو المسمى طلاقا، ومن فحوى آية الأحزاب ترى هذا الجواب. 1
قالت توراتكم في سفر الملوك الثاني في الإصحاح الثالث عن داود عليه السلام وأنه أخذ ابنة شاؤل التي كان اسمها ميكال من زوجها "فليطال بئ ليش" من دون أن تطلق من زوجها، وما حسبت التوراة ذلك ذنبا على داود كما قررنا أن هذه العادة المستمرة عند اليهود والعرب، أي الطلاق قد جاء به الأمر في التوراة ومثبت في القرآن الشريف. وقد تزورون أن عيسى منعه، وقد استجازه في الزنا فقط وأنه قال: «في البدء خلقهما ذكرا وأنثى والذي زوجه الله...» إلى آخرة.
والحال إن كان هذا القول قاله عيسى فيلزمه أن يتزوج هو أيضا، لأن هذا القول يلزم منه مع منع الطلاق وجوب الزواج له وللرهبان. 2
وعلى أي حال كان لم يحسب ذلك ذنبا، لأن رجال الله الصالحين الذين سبقوا نبينا المصطفى ﷺ قد تتهمونهم بأنهم عملوا أمورا منافية للشريعة وللطبيعة، ولم يخطئهم كتابكم، وذلك كتزوج سيدنا إبراهيم للسيدة سارة، التي كانت أخته من أبيه، وليست من أمه، الموجود شرحها في الإصحاح العشرين، والعدد الثاني عشر من سفر التكوين، وكيعقوب عليه السلام الذي قد تزوج الأختين معا، وكيهوذا ابن سيدنا يعقوب الزاني بكنته ومن ذريته منها بالزنا كان المسيح، كما هو مصرح في التوراة والإنجيل، وسيدنا لوط المقول عنه عندكم إنه سكر وزنى بابنتيه وحبلتا منه، كما هو مصرح في التوراة. وسكر سيدنا نوح، وأمثال ذلك كثر، ولم يذكر في مفعولاتهم هذه أنهم أخطأوا فيها، وحاشا أنبياء الله من ذلك.
وثالثا: قال النصارى بأن دعواه للنبوة كانت لأجل أنه كان يميل إلى الملاذ الجسدية، والحال أن ملاذ الجسد ليست من الأشياء المحرمة بذاتها والمذمومة، لأنها مخلوقة من الله لأجل أن الإنسان إذا تمتع بها بالعدل يبتهج ويشكر الخالق، لأنه تبارك وتعالى خلق المخلوقات على أقسام؛ منها للنظر: المنظورات البهية، وللشم: المشمومات الزكية، ولحاسة الذوق: الأطعمة الشهية، ولحاسة السمع: الأخبار والأنغام المفرحة، ولحاسة اللمس: الملومسات الناعمة الوهية.
فهذه بالدليل العقلي فضلا عن الدليل النقلي أن الله سبحانه ما خلقها للإنسان إلا لكي يتمتع بها، ولو كان الأخذ من النساء أكثر من واحدة شيئا رديا ومذموما لما كان الأنبياء والصالحون باشروه كإبراهيم وداود وسليمان وغيرهم. ومحبة الملاذ لو كانت غير حسنة لما كانت الأفاضل استعملوها لأنه مذكور في الإنجيل عمل ولائم كثيرة كقوله: «إنسانا صنع عرسا لابنه».
وقوله: «وعجوله المعلوفة قد ذبحت»، 3 وعرس قانا الجليل الذي كان سيدنا عيسى فيه ويزورون عليه بأنه حول الماه إلى الخمر حتى سكروا ولو كان كذلك لما ذم بولس المانعين لها إذ قال إنه في الأيام الأخيرة «يمرق قوما يحرمون الأطعمة التي خلقها الله:».
ورابعا: يدعون على نبيا الأعظم ﷺ دعوى أخرى وهو أنه قتل أناسا في أيام دعوته وهذا شئ غير حسن على دعواهم الباطلة
أقول: إن النبي ﷺ نعم إنه قتل أناسا في مغازيه الشريفة، إلا أن قتله كان لذوي التعصب عليه المحاربين له، المعادين لشريعته الغراء السامية، المريدين إبطال دينه الحق، المخاتلين له، الجاعلين عليه الفتن غير هادئة، كما يوجد شرح ذلك بالتفصيل في القرآن الشريف عن سبب نزول الآيات الواردة بحق ذلك، وكما نراه ينصحهم المرات العادة قبل قتاله لهم، ويتهددهم ويتوعدهم ويوعدهم، لكى يميلهم عن كفرهم وشرهم وإلحاق الضرر به وبدينه الحق. وحينما لم يقبلوا قوله ولم يرجعوا عما هم عليه من الكفر والضلال والشرك، كانت تنزل تلك الآيات الشريفة عليه حسب مقتضى الحال، تارة بأن يجادلهم بالرفق، 4 بقوله (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وتارة بأن يأخذ الجزية منهم 5 لتصغيرهم، وتارة برفع الشفقة عنهم 6 بقوله تعالى له (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم) وقوله تعالى (وقاتلوا المشركين كافة كحما يقاتلونكم كافة) ومثل ذلك في القرآن العظيم كثير.
وعدا ذلك: إن سيدنا موسى كليم الله ويشوع بن نون خلفه كانا قد قتلا ألوفا كثيرة، ولكن مع ذلك لم يكن قتلهما إياهم بهذه الوجوه المذكورة لأنهم، أي المقتولين، ما بادروها بالشر كما تخبر توراتهم ولا عصوا شريعتهم، لأنهما لم ينذروهم بدينهما، بل لأن سكان تلك الأرض الموعود بها موسى المقتول منهم ألوفا بليغة، لما سمعوا بقدوم بني إسرائيل ليأخذوا تلك الأرض من أيديهم ويتعبدوهم ويطردوهم منها للحال نهضوا للمحاماة عن أوطانهم وأنفسهم، وكان موسى عليه السلام ونوابه لا يقتلون في حروبهم الرجال فقط كما كان يفعل نبينا ﷺ بل النساء والأولاد والأطفال، ويحرقون بعض بلدانهم وخيراتهم وكامل أمتعتهم.
وكل ذلك إذا فحصنا أسبابه إنما كان خوفا من استعبادهم إياهم فكانوا يمارونم ويحاربونهم خوفا على أنفسهم. 7
وأما نبيا السيد الأعظم ﷺ مع كون توجهه على من عصى دينه الشريف كان بأمر الله تعالى إلا أنه مع ذلك تراه بريئا من مثل تلك الوجوه المشروحة والمقولة عن موسى وخلفائه.
هامش
حاشية: اعلم أن زيدا كان النبي ﷺ تبناه، ولما طلق زيد امرأته حسب العادة الجارية، فطلبت أن رسول الله يتزوجها فتمنع عن أخذها لأنها كانت تحسب عند العرب أنها كنته ومحرمة عليه. فأتاه جبرائيل بصورة تحليلها له ﷺ، وكان ذلك تشريعا لأمته حتى إذا كان لأحد من المسلمين امرأة وكان عندها غلام متبنيا له وتزوج هذا الغلام ثم طلق امرأته، فيجوز لزوج المرأة أن يتخذ المرأة المطلقة من الغلام امرأة له، بتوضيح أنها ليست كنة شرعية، بل كنة بالتبني.
حاشية: واعلم أن معنى كلام المؤلف – رحمه الله تعالى- منحصر بكلام وجيز، ومعناه كيف يترك الرهبان كلام التوراة ويخالفونه ويضادونه وهو مكرر من المسيح، وذلك بتركهم للزواج، مع أنه قيل إنه في البدء خلقهما ذكرا وأنثى.
حاشية: اعلم أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يورد هذين المثلين إلا للترغيب ودليل على أنها من الأشياء المستحسنة والمحبوبة.
حاشية: اعلم أن المجادلة كانت إلى محبي الأبحاث وأهل المعارف بالتي هي أحسن.
حاشية: اعلم أن الأمر بأخذ الجزية كان من الذين كانوا كفارا ، ويتظاهروا بالكتاب وكانوا كامنين له الشر، حتى يذلهم ويضعف قوتهم لئلا يظهروا، كما يفهم من قوله (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمرن ما حرم الله ورسوله ولا يديون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ثم ومن كونه أيضا له سلطان، وهذه عادة ذوي السلطة.
حاشية: اعلم أن أمره تعالى برفع الشفقة هو عن المظهرين لنبيه الشر عيانا، ويعلم ذلك من خاتمة الآية لأنه تعالى يقول: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم) إلى آخره.
حاشية: اعلم أن المقتولين في مغازي النبي ﷺ إذا قابلتهم على المقتولين في حروب موسى عليه السلام تراهم بالقياس كل عشرين مقتول من موسى عليه السلام يقابله واحد من نبينا ﷺ، والمشهور عن النبي ﷺ بأنه لم يقتل بيده الشريفة سوى رجل واحد مستحق القتل، لا كما قتل سيدنا موسى عليه السلام الرجل المصري.
====================
الباب الرابع: البشارات بالنبي محمد ﷺ في التوراة والانجيل
نورد فيه بينات من كتب العهدين، أعني من التوراة والإنجيل، على أن نبينا الأعظم محمدا ﷺ هو النبي الموعود به أيضا والمشار إليه والمنبأ عنه من الأنبياء كعيسى عليه السلام، بالأدلة الواضحة والبراهين المتينة كما قد تراها صريحة.
الشهادة الأولى
هو ما ورد عن نبينا محمد ﷺ في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الثامن عشر والعدد الخامس عشر من قول سيدنا موسى، إذ قال قومه بني إسرائيل: «إن نبيا من بينك ومن إخوتك مثلي يقيمه الرب» ولم يقل من شعبك كما ترجمت إلى اللغة العربية، بل من بينك لأنها في اللغة العبرانية (مقربيخا) أي: من بينك، وفي العدد الثامن عشر أيضا، قال: «إن الرب إلهكم سيقيم نبيا من إخوتكم مثلي، فاسمعوا له وكل نفس لا تسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها.»
أقول: إن هذه الشهادة هي بلا ريب منطبقة على نبينا محمد ﷺ من حيث إن إسماعيل وخلفه الذين منهم نبينا كانوا يسمون إخوة لبني إبراهيم، أعني: إسحاق وخلفه عليهما السلام، لأن الله تعالى قال لهاجر رضي الله عنها امرأة سيدنا إبراهيم عن إسماعيل ابنها بأن قبالة إخوته ينصب المضارب، ومن حيث إن إسحاق أبا يعقوب، وذريته بني إسرائيل دعوا إخوة لإسماعيل، فإسماعيل هو أخوهم بلا شك، فمن ههنا ألغز النبي موسى عليه السلام بكلامه، وأشار إشارة خفية غير صريحة في النسق، حسب عادة الأنبياء بإخفاء بعض مقاصدهم وتكلمهم بالرموز عن أن الله تعالى سيقيم نبيا بينهم من إخوتهم، 1 أي من بني إسماعيل المباين لهم، وهو محمدا ﷺ لكونه نبيا ومن ولد إسماعيل، لأن من عادة الكتب المنزلة أن تسمي أولاد الأعمام عن بعد بعيد: إخوة، ومثل ذلك قد ورد في القرآن الشريف إذ أنه دعى النبيين اللذين هما هود وصالح إخوة لعاد وثمود، وهما على بعد بعيد من أولاد الأعمام أيضا.
وفي سفر العدد في الإصحاح العشرين في العدد الرابع يقول: «وأرسل موسى من تادش إلى ملك أدوم قائلا: هكذا يقول أخوك إسرائيل». مع أن الآخرين هم من بني الأعمام عن بعد بعيد.
وأما قولنا: إن هذه الشهادة منطبقة على نبيينا ﷺ بسبب أنه لا يشاركه غيره فيها، لأنه إن ادعت اليهود أن هذه الشهادة قيلت عن يشوع بن نون وليس عن نبيينا محمد ﷺ فنرى أنها لا تتفق مع دعوام بل تنفر عنها نفورا ظاهرا، لأن يشوع كان حاضرا معهم وعند موسى مقيما بخدمته، وقد أشار عنه بعبارة صريحة قبل هذه في الإصحاح الثالث من التثنية بقوله: «فليكن يشوع بن نون خادمك فهو يدخل عوضك وهو يقسم الأرض لإسرائيل». فما ينبغي أن يذكره لهم باسم نكرة بعد إشهاره لهم باسمه العلم.
وثانيا: إذا ادعت النصارى أن هذه الشهادة قيلت عن المسيح، فيقال لهم هذا الجواب؛ وهو أن موسى قال «نبيا مثلي الذي يقيمه الله»، وهم، أعني النصارى، يدعون أن عيسى هو إله وإنسان، فإذا ليس هو كموسى، من كون أن موسى إنسان فقط، وعيسى على زعمهم إله لموسى حتى، ولا ناسوت عيسى مثل ناسوت موسى، لأن ناسوت موسى هو من زرع بشري، وناسوت عيسى من غير زرع بشري، بل ناسوت عيسى من بتول فقط، وموسى كان من امرأة مثل بقية النساء مفضوضة، فما يكون المسيح مثل موسى، لأن موسى قال عن النبي الذي وعد به: «انه نبي مثلي»، حتى ولا شريعته مثل شريعته لأن شريعة عيسى فضلية وشريعة موسى عدلية، ولا إنذاره مثل إنذاره لأن موسى كان لبني إمراشيل حاكما وغنيا وبالسيف، وعيسى كان فقيرا ومحكوما عليه، هذا على موجب زعمهم، ولا كان لعيسى سيف مثل موسى ولا حكم.
وأيضا أقول إنه لم يقل في الإنجيل عن عيسى على التغليب اسم نبي على الحقيقة بالاسم والفعل. 2
ويشوع بن نون كان نبيا أيضا، ولكنه الآخر لم يغلب عليه اسم النبي، أعني أنه لم يقل عنهما: يشوع النبي أو المسيح النبي في الغالب مثلما يقال: موسى النبي أو النبي محمد عليهم الصلاة والسلام.
وفي القرآن الشريف ترى هذه اللفظة، أي: اسم النبي مكررة مرات على نبينا المصطفى ﷺ، فتكون النبوءة من سيدنا موسى صادقة عليه، كما صدقت عليه لفظة «من إخوتكم»، من كونه من بن إسماعيل المبارك، إخوة بني سيدنا إبراهيم الذين منهم بني إسرائيل، الذين رمز لهم موسى عليه السلام أن من إخوتهم يقام النبي الموعود به.
وإن كان بنو عيسو أخو يعقوب يسمون أيضا إخوة لبني إسرائيل عن بعد بعيد كما جاء عنهم في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الثاني، إلا أنه ما قام منهم نبي مثل محمد ﷺ حتى نستدل عليه من شهادة الحال، مع أن عيسو تروج محلة ابنة إسماعيل.
فينتج إذا: أن نبينا ﷺ هو المشار إليه من موسى دون شك، ومع ذلك فإن موسى بين بما أضاف من قول مقصوده، وهو: «بأن كل نفس لا تسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها»، فلفظة استئصال يستدل منها على أنها كانت نبوءة من موسى على نبينا ﷺ وأنه يستأصل كل من لا يسمع له بسيفه البتار، وأن هذه الوصية هي صادقة عليه بهذا الوجه المشروح، ولا تصدق على المسيح؛ لأن المسيح قال: إنه ما جاء ليميت أنفس الناس، وذلك يقول: تستأصل. وليست كما تصور النصارى: أنها مقولة على الخراب الذي عمله تيطس، ملك روما الذي خرب بيت المقدس الشريف وقتل اليهود الذين كانوا فيها، وعلى ظنهم أن ذلك كان بسبب عيسى مع أن تيطس كان غير مؤمن ولا مطيع لعيسى، 3 وكان قتله لهم بسبب عصيانهم له بالأمور الملكية، لا لأجل الأمور الدينبة، أي لم يكن قتله لهم لأنهم لم يتبعوا عيسى ولم يطيعوه، لأنه هو أيضا كان مضطهدا لأتباع عيسى.
وربما كان يوجد نصارى كثيرون مختبئين، وقد قتلهم تيطس نفسه أيضا مع اليهود، لأن حربه وقعت بعد أربعين سنة من عيسى وكان قد تنصر كثيرون في تلك الأراضي.
وبالاختصار إن هذه الشهادة من موسى عليه السلام، أي لفظة «تستأصل» هي وحدها كافية بأنها مقولة على نبينا ﷺ ووظهر تحقيقها منه ومن صحابته وليس من غيره، لأنه كان المنتقم ووالمستأصل من قبل الله للذين لم يسمعوا له.
الشهادة الثانية
في إنجيل يوحنا في الإصحاح الأول في العدد الحادي والعشرين يقول: « وأرسل الفريسيون يسألون يوحنا المعمداني قائلين له: ألنبي أنت؟ فأجابهم: كلا. فأجابوه: ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟».
أقول: إن هذه الشهادة تتضمن أن الفريسيين علماء اليهود إلى زمن مجئ عيسى عليه السلام، كان متداولا بينهم عن آبائهم وأجدادهم المتناقلين لكلام النبي موسى عليه السلام بأن الله تعالى سيرسل نبيا وهم في انتظاره كالمسيح عليه السلام، وحيث إن علماء اليهود كانوا متحيرين في مجئ النبي المخبر عنه من موسى، ومعربسين قصة يوحنا ابن زكريا عليهما السلام، من أنه كان يسكن البواري كولد إسماعيل، فأرسلوا يسألونه: ماتقول عن نفسك؟ فلما جاوبهم بأنه ليس هو المسيح ولا إيليا ولا النبي اعترضوا وقالوا له: مابالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟
فيظهر من مضمون كلامهم أنهم في انتظار ثلاثة أنفار عظام، قد كان الأنبياء السابقون أخبروا بمجيئهم وأسمائهم، وهم: المسيح وإيليا والنبي.
فمن ههنا ينتج أن المسيح شخص، وإيليا شخص، والنبي شخص آخر، وحيث إن الانتظار كان للنبي أيضا، الذي هو غير المسيح، واسمه وارد بالسؤال بعد المسيح، فنبينا ﷺ كان وروده بعد المسيح، وهو خاتمة المطلوب. فمن هذه الشهادة سقطت:
أولا: دعوى اليهود الزاعمين أن شهادة موسى السابقة هي مقولة عن يشوع بن نون، لأنها لو كانت مقولة عن يشوع بن نون لما كان علماء اليهود لحد زمان عيسى يسألون المعمدان عن النبي قائلين:
ألنبي أنت؟ أجابهم: كلا.
وثانيا: تسقط دعوى النصارى القائلين إن النبي المقول عنه من موسى هو المسيح، لأنه ظهر من سؤال الفريسيين علماء اليهود القائلين: «إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي» أن النبي غير المسيح.
فإذا المسيح هو المطلوب الأول لهم، والنبي هو المطلوب الآخير لقولهم: «إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي».
ولو كان النبي هو المسيح كما فسره النصارى، لكان ينبغي ليوحنا بن زكريا عندما سأله علماء اليهود عن المسيح وإيليا والنبي أن يجاوبهم: إن سؤالكم هذا هو جهل مبين، لأن المسيح هو نفسه النبي، فصمته عن مجاوبتهم، ونفيه بأنه ليس هو النبي هو مصادقة كلية شرعية على أن الموعو به نبي آخرغير المسيح، وهو سيد الكائنات الأعظم محمد ﷺ.
الشهادة الثالثة
في إنجيل يوحنا في الإصحاح الخامس عشر يقول: «وإذا جاء البارقليط الذي أرسله إليكم من عند الأب روح الحق الذي من الأب يبثق هو يشهد لي وأنتم أيضا شاهدون». 4
أقول: إن هذه الشهادة المقصود بها نبينا محمد ﷺ:
أولا: من اسم بارقليط.
ثانيا: من قوله: هو يشهد لي.
ثالثا: من تسميته له روح الحق.
رابعا: من قوله عنه إنه من الأب ينبثق.
أما عن قوله «إنه ينبثق من الأب» فهو معنى يخرج ويرسل، كما هو مصرح به في قواميس اللغة اليوناية، والكنائس الغربية هكذا تفسرها أيضا، وهذا الإرسال جاء مصرحا به عن النبي محمد ﷺ بقوله تعالى: )قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)، وقوله: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق).
وأما تسميته له ﷺ بأنه رروح الحق، فنرى هذا الاسم من جملة أسمائه الشريفة المندرجة في كتاب دلائل الخيرات، المجموعة من الكتاب والسنة.
أما اسم بارقليط فهي لفظة يونانية، من معانيها في القواميس: المعزي والناصر والمنذر والداعي، والاسم المطابق هو الداعي. 5
فالنصارى الذين آمنوا وأسلموا في العصور القديمة قد فهموا أن معنى هذه اللفظة منصرف إلى القرآن الشريف وإلى سيد المرسلين الأعظم ﷺ.
فأما انصرافها إلى النبي الأعظم ﷺ فمن كونه قد وصف بمثل هذه الأوصاف في الكتاب المنزل، كقوله تعالى في سورة النساء (واجعل لنا من لدنك نصيرا). وفي سورة الأحزاب (يا أيها النبي إنا ارسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه).
أما النصارى الذين في الدهور المتأخرة، المتناسلين من أولئك، فلم يفهموها إلا عن الروح الذي حل على الحواريين، مع أن الروح الذي يدعون أنه حل عليهم لم يسم بارقليطا من الذين حل عليهم، ولا سمي روح الحق، ولا دعي المنبثق عن الأب مثلما سماه عيسى لما وعد به، بل إنه سمي من الحواريين روح وقوة وألسنة كالنار. 6
وأما قوله: «إن البارقليط يشهد لي»:
فأقول: إنه يظهر من معناه بأن سيدنا عيسى يقصد شخصا آخر غير شخصه يشهد له بالحق، وغير الحواريين. وإثباتا لهذا الدليل هو تعمد إشارته في نسق هذه الجملة الواحدة القائلة عن البارقليط: هو يشهد لي وأنتم ايضا شاهدون.
فبقوله هذا يظهر أن المزمع والعتيد أن يأتي ويشهد له هو غير الشاهدين الحاليين، ولو كانا واحدا لما قال: هو يشهد لي، بصيغة الزمان المستقبل البعيد كما في اليوناني، 7 وأنتم أيضا شاهدون بصيغة الزمان الحال. 8
وأيضا أقول: إنه لوكان معناه بأن البارقليط الحال يتكلم في المحلول فيهم، لكان قال: إذا جاء البارقليط الذي أرسله إليكم هو يشهد لي بواسطة ألسنتكم، مثلما قال في موضع آخر عن الروح الذي حل عليهم «بأن روح أبيكم يتكلم فيكم»، وحيث أن ههنا ثنى موضوع كلامه بقوله: يشهد لي وأنتم أيضا شاهدون وغير أزمنة الشهادة، فيظهر أن الشاهدين له هم غير الشاهد الفريد الذي هو نبينا الأعظم محمد ﷺ.
وأما اسم بارقليط: فيحمل معناه أيضا على القرآن الشريف، لأنه، أي القرآن قد ورد من الله تعالى منبثقا وخارجا من لدن عنايته، معزيا بلفظه المحكم لرسوله المصطفى ﷺ ولخواصه أيضا.
فأما ما أورده تعالى من التعزية لرسوله، فمثل قوله (ولايحزنك الذن يسارعون في الكفر)، وقوله تعالى (واصبرعلى مايقولون)، وقوله (ولربك فاصبر).
وأما ما قاله تعالى من التعزية لأصحابه فقوله (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)، وقوله تعالى (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون).
وبالإجمال أقول: إذا أمعنت النظر في القرآن الشريف ترى أكثر معايه منصرفة إلى التعزية وأجناسها.
وإن قيل: إن البارقليط كان الوعد فيه للحواريين، لأن سيدنا عيسى قال لهم إنه يرسله إليهم، والقرآن جاء بعد الحواريين بستمائة سنة.
فأجيب: إن قوله أرسله إليكم مثل قوله لهم: «وها أنا معكم كل الأيام وإلى إنقضاء الدهر». فالحواريون لم يبقوا إلى انقضاء الدهر، بل خلفهم الذين بقوا إلى انقضاء عالم عيسى عليه السلام. انتهى. 9
والحال أن قوله: «سيقيم لكم» مثل قول عيسى ههنا: «إنه يرسله إليكم»، فالضمير في اللفظتين متساوي للمخاطبين.
الشهادة الرابعة
إن سيدنا داود عليه السلام في المزمور الخامس والأربعين، المعنون في العبراني "من بني قورح من أجل الحبيب قد ترنم به"،
أشار إشارة مطابقة لسيد الخلق نبينا الأعظم حبيب الله ﷺ بقوله: «فاض قلبي كلمة صالحة، أقول أنا أعمالي للملك، لسان قلم كاتب سريع الكتابة، بهي في الحسن، أفضل من بني البثمر، انسكبت النعمة عى شفتيك، لذلك باركك الله إلى الدهر، تقلد سيفك على فخذك أيها القوي بحسنك وجمالك، استله وانجح، واملك من أجل الحق، ورأفة العدل، وتهديك بالعحب يمينك، نبلك مسنونة أيها القوي، الشعوب تحتك يسقطون في قلب أعداء الملك، كرسيك يا ألوهيم إلى دهر الداهرين، عصا الاستقامة عصا ملكك، أحببت العدل وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك ألوهيم إلهك بدهن البهجة، أفضل من رفقائك، المر والميعة السليخة من ثيابك، من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك».
أقول: والحق أن سيدنا رسول الله محمدا كان يفيض من قلبه كلمة صالحة، وهي كلمة الشهادة بالتوحيد، التي هي «لا إله إلا الله»، وأعماله كانت متجهة نحو الملك المتعال، ولسانه قلم كاتب سريع الكتابة، بهي في الحسن، أفضل من بيي البشر، لأنه لما كانت النعمة تسكب على شفتيه الشريفتين كان يباركه الله وتهبه تلك الفصاحة التي تدل عليها كتب الحديث التي تكلم بها، وهو القوي الذي كان سيفه على فخذه، وصاحب الحسن والجمال، الذي استله ونجح وملك، وأجرى الحق والعدل مع الرأفة التي هي شريعة الفضل والإحسان الممتزجة بالعدل، وهو القوي الذي نباله مسنونة، الذي تساقطت تحته الشعوب، الذي كرسي ملكه يدور إلى دهر الداهرين، الذي عصا الاستقامة عصا ملكه، الذي أحب العدل وأبغض الإثم، الذي مسحه الله بدهن الابتهاج أفضل من رفقائه الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام جميعا.
فالنصارى الغير منورين يفسرون هذا المزمور على سيدنا عيسى بنوع من المجاز، حيث إنه لم تنطبق عليه الحقيقة اللفظية، ولم يدركوا أنه إذا وجدت حقيقة للكلام فلا محل للمجاز، لأنه إذا وجد نبي قد سل سيفا حقيقيا فلا يجوز الالتفات إلى نبي استل سيفا مجازيا، وهم إلى الآن يقرون: إن هذا المزمور مقول عن عيسى عليه السلام.
وأما النصارى القدماء فقد فهموه عن نبينا محمد ﷺ، إذ هو واضح الدلالة عليه، لأن عيسى عليه السلام لم يعرف له فصاحة في كلامه، بل كان كلامه بالبساطة، بناء على دعوى النصارى، ولا تقلد سيفا على فخذه ولا نعت بالقوة، ولا كان شهيرا بالحسن والجمال، ولا استل سيفا من أجل أن يحكم بالحق ورأفة العدل، بل إن أحد حوارييه، الذي هو بطرس، حين استل سيفا منعه قائلا: «اردد سيفك إلى غمده»، مع أنه ما نجح ولا ملك في حياته، بل لما جاؤا ليصيروه ملكا هرب، ولا كان له عصا الاستقامة الذي هو الرمح، ولا جاء بالشريعة العدلية على زعم إنجيلهم، بل كان يبدله بالقول: «من ضربك على خدك الايمن حول له الآخر»، الشئ الذي ما قبلته الطبيعة ولا صار شريعة دائمة أو عامة. ولا كانت له نبال مسنونة ولا غير مسنونة، ولا تساقطت تحته الشعوب، ولا كان ذا عيش رغد وابتهاج، وأنه ما كان يتعاطى العطورات في ثيابه ومنازله إلا مرة أو مرتين، من امرأة في أواخر ظهوره. 10 ولا كان له منازل شريفة العاج ولا حقيرة، لأنه هو قال عن نفسه: «إن ابن البشر ليس له موضع يسند إليه رأسه».
فإذا: هذه الشهادة هي بالحق دالة على نبينا محمد ﷺ من كونها منطبقة عليه من كل جهاتها، لأنه كما قلنا عنه: إنه هو الذي كان يفيض قلبه كلمة صالحة، كلمة الشهادة بالتوحيد، وكانت شفتاه ولسانه متحركين بالفصاحة، أفضل من بني البشر، وهذا دليل أفضليته على الخلق ولذلك باركه الله، وهو الذي كانت أعماله متجهة نحو الملك المتعال، سبحانه وتعالى، وهو الذي كان قويا وتقلد سيفه على فخذه ونجح وملك، وملكه إلى الآن باق، وإلى يوم القيامة، يجري في شرائعه الحق، ويحنو بالعدل، أي إن أحكامه تبتدئ بالحق وترغب بالرأفة وتثيب عليها، وهو صاحب الوجه المنير بالحسن والجمال، وهو الذي رشق الكفار الذين عصوا دينه الشريف بعد نصحه لهم بنبال مسنونة، وقوته مع تلك العصا الذي هو رمحه المستقيم تصدق نبوءة داود هذه، وتساقطت تحته ثسعوبهم، وهو الذي مسحه الله بدهن البهجة، أفضل من رفقائه الأنبياء، وثيابه الشريفة بالمر والميعة والسليخة، وهذه الروائح الطيبة التي كانت تصدر من منازله السامية، ومن أقصى ثيابه الشريفة هي مخلوقة بجسمه الشريف، تفضلا من الله تعالى الذي مسحه وأرسله رحمة للعالمين، وكان صحابته الكرام -رضي الله عنهم- إذا صافحوه تبقى رائحة المسك في أيديهم المدة الطويلة، وإذا توجه إلى محل وأرادوا اللحاق به يتدلون في الأزقة من الروائح الطيبة ويعرفوا أين توجه، وهذه كانت من أقل معجزاته الشريفة.
وبالاختصار إن هذه العلامة تكفي للشهادة عليه ﷺ، 11 وأما باقي المزمور فقد يؤول على زوجته وباقي نسائه الفخام، رضي الله عنهن وعلى جواريه، ويؤول أيضا على سمو ديانته ومركزها التي شبهها داود بالملك.
تنبيه: اعلم أن لفظة ألوهيم المرقومة في أصل الشهادة في المزمور الخامس والأربعين في جملة «كرسيك يا ألوهيم»، وفي قوله «مسحك يا ألوهيم»، فلفظة ألوهيم هي عبرانية، وتترجم إل اللغة العربية إله ويقال لها معربة، وتترجم أيضا إلى معناها العربي «طايق» لكون لفظة ألوهيم هي مشتقة من «إيل» بفتح الياء وتعريبها: طايق، كقولنا: مالي طاقة، أي مالي قوة، فهذه لفظة ألوهيم التي تترجم إله معربة وتترجم: طايق على معناها العربي، تقال وتطلق على أفاضل المخلوقين الناطقين، وتقال على الخالق جل وعلا، وهكذا وجدت في التوراة والإنجيل، ومن القرائن تعرف كما قررنا عنها في الباب الأول من هذا الكتاب.
ثم إن لفظة ألوهيم هنا في قوله: «مسحك يا ألوهيم إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك»، تفيد من القرائن المشروحة أنها مقولة على نبينا محمد ﷺ لكونه من أشرف الناطقين، مثلما سمي عيسى وموسى عليهما السلام بلفظة تعريبها «إله»، وأما نحن بهذا المزمور لم نعربها ولم نكتبها إله، لعدم استعمالها عند العرب في هذا الشرع الطاهر على الخلق، بل ابقيناها على أصلها العبراني «الوهيم».
الشهادة الخامسة
إن إشعيا النبي في التوراة في الإصحاح الخامس عندما أنهى كلامه عن قصاص الذين تركوا شريعة الرب، رب الجنود، وأنه اشتد غضبه على شعبه وألقى يده عليهم وصارت جثثهم في الشوارع، ومع هذا كله لم يرتد غضبه ويده عالية، اضاف إلى قوله هده العبارة والرمز على نبينا محمد ﷺ، وأن الله يرفعه وينصبه علامة للأمم ودليلا ليهديهم به، قد تكلم في العدد السادس والعشرين وقال: «ويرفع علامة للأمم من بعيد ويصفر به من أقصى الأرض، وهو ذا يأتي سريعا بخفة ليس فيهم تاعب ولا عائي، لا ينعس ولا ينام، ولا تنحل منطقة حقويه ولا ينقطع سير حذائه، سهامه حادة، وبيع قسيه موتورة، حوافر خيله مثل الصوان، وبكراته [أي نوقه] مثل العاصف، زئيره كالأسد، وبنهم يدرك الفريسة ويحوزها، وليس من ينجى، ويهر عليه في ذلك اليوم كهدير البحر، وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة، والنور اعتم لضبابها.
أقول: وبالحق إن هذه الشهادة منطبقة على نبينا محمد ﷺ كما قلناه ومن كل جهاتها لأن قوله: «ويرفع علامة للأمم»، يعيي أنه هو العلامة المرفوعة للأمم، 12 والدليل الهادي ليقودهم إلى نور دين الله الحق، وهو الذي رفع للأمم اولا، كما عيسى رفع لليهود أولا، وبعده عمموا نبوته.
وقوله: «من بعيد» مشيرا على أن هذه العلامة ليست هي من أرض إسرائيل التي تكلم فيها إشعيا هذه الإشارة، أي قوله «ويرفع علامة للأمم» بل من أرض بعيدة، وأيضاح ذلك قد يظهر من العدد الذي يتلوه، حيث يكشف هذا الرمز بقوله: «ويصفر به من أقصى الأرض»، فقوله: «من أقصى الأرض»، يكشف أنه ليس من أرض إسرائيل ترفع العلامة، بل إنها ترفع من بعيد من أقصى الأرض، حيث رمز عنها بهذا الكلام، فكأنه يقول: إن نهاية وأقصى أرض إسرائيل هي الأرض التي خرج منها نبينا ﷺ، أعني: مكة المشرفة، التي هي عند أقصى أرض إسرائيل، لأن إقليم العرب لا فاصل بينه وبين أرض الموعد.
ثم إن هذه الجملة قد تضمنت دليلا رمزيا آخر، لئلا تجهل العلامة، وأنه عربي بقوله: «ويصفر به» يعني ينادى به، لأن في اللغة العبرانية يقول: ويصفر به، أي أن الله تعالى نادى به الناس كالصفير، كعادة العرب لكونه ﷺ عربيا، لأن العرب ينادون بالصفير عند كمائنهم وأغراضهم الخفية.
وقوله: «يأت سريعا بخفة، ليس فيهم تاعب ولا عائي، لا ينعس ولا ينام، ولا تنحل منطقة حقويه، ولا ينقطع سير حذائه، سهامه حادة، وجميع قسيه موتورة».
فالحق أنه ﷺ أتى بجيوشه بخفة، وما كان في أعوانه تاعب، 13 ولا كان ينعس، بل إنه سهران في عبادة الله سبحانه وتعالى، ونشر دينه الشريف، كما ورد عنه ﷺ أنه كان يقوم الليل كله حتى ترم قدماه الشريفتان، فأمره تعالى في القرآن العظيم شفقة عليه وحبا وتعظيما له بقوله له (يا أيها المزمل قم اليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا).
و«لا انحلت منطقة حقويه»، يعني أن عزيمته نشيطة، و«غير منقطع سير حذائه»، يعني أن قدميه الكريمتين غير فاترة عن السعي بالخير والعبادة، و«سهامه حادة» يعني بما أنه لا يوجد من يساويه ممن كان يضرب بالسهام من قبل الله لأعدائه المعاندين بتلك القسي الموتورة، ويؤكد هذه المعاني غلاقة القول، بأن «حوافر خيله مثل الصوان»، كما وصفت تلك الخيل في القرآن الشريف في قوله تعالى (والعاديات ضبحا فالموريات قدحا). ثم إن ههنا إشعيا قد أظهر بنبوءته أن نبينا ﷺ هو المقول عنه هذه الأقوال وليس سواه، لأن عيسى عليه السلام لم تكن لديه خيل، وإنما نبينا محمد المصطفى ﷺ هو الذي كانت تقدح حوافر خيله، مثل الصوان المطابق لقوله تعالى (فالمورماث قدحا).
ثم قال إشعيا وبكراته» أي نوقه، مثل العاصفة. فلفظة نوقه هي أعظم دليل على المصطفى، من حيث أن عيسى ما كان عنده نوق ولا جمال، «وزئيره كالأسد، وكان يدرك الفريسة ويحوزها، وما كان أحد يتخلص منه»، ههنا سمى إشعيا «زئيره كالأسد». وفي الإصحاح الحادي والعشرين قال: «فصرخ الأسد». ونعم هذا التشبيه، لأنه ﷺ كان سلطان البشر، كما أن الأسد سلطان الحيوانات بالفروسية والشجاعة.
وآخر الأدلة من إشعيا على نبينا ﷺ: «يدوي عليه في ذلك اليوم دوي البحر وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة والنور أعتم بضبابها».
وقد صدق الدليل الأخير على أن نبينا الأعظم ﷺ هو الذي كان ينادي؛ كان يزعق على الكفر كدوي البحره وانتهره وزجره وروعه؛ أي الكفر. وهو الذي نظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة بالكفر ضيقة، وبالحقيقة كانت الأرض مظلمة بالكفر عابدة للمخلوقات.
وقوله: «والنور أظلم بضبابها» يعني أن نور الاعتقاد بالله الذي كان موجودا على الأرض عند النصارى واليهود القدماء قد غطاه ضباب الإلحاد والجحود فينما ضلوا عما تمملموه من موسى وعيسى عليهما السلام، وهذا بالحقيقة هو النور الذي أظلم بضبابها، لم أعني بالأمكنة المشرفة مثل مكة والقدس وغيرهما وهؤلاء أركان القدس.
الشهادة السادسة
إن متى الإنجيلي قد كتب عما رمز به سيدنا عيسى ﷺ في الإصحاح الحادي والعشرين بقوله: ذلك المثل بعدما قتل الفعلة أولئك العبيد المرسلين من عند صاحب الكرم حتى وابنه بالنية. 14 قال: «وإذا جاء رب الكرم ماذا يصنع بأولئك الفعلة؟ فقالوا له: الأرديا بالردى يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته. ثم قال أيضا يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الححر الذي رذله البناؤون، هذا صار رأسا للزاوية، من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا. من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع ويعطى لآخرين لأمة يصنعون ثمرته، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط عليه فإنه يطحنه».
أقول: وبالحق إن سيدنا عيسى عليه السلام أعطى هذا المثال نبوءة منه، رامزا به عن نبينا محمد ﷺ من دون شك، لأنه بعدما ذكر الكرم الذي هو الشريعة الموسوية، والفعلة هم بنو إسرائيل، وأن صاحب الكرم أرسل الأنبياء عليهم السلام، الذين كانوا يحضونهم على عمل الثمار فكانوا، أي الفعلة، يقتلونهم، أي عبيد رب الكرم عوضا عن عملهم الصلاح، وأكمل بابنه الذي كان بيده إثمار شريعة موسى، كما قال هو عن نفسه: «ما أتيت لكي أحل الشريعة لكن لأكملها»، وكملها بالفضل، فهو، أي عيسى عليه السلام، بعدما ذكر هذه الأفعال، وقرر لهم شريعته الفضلية ولم يقبلوها منه، لا بل إنهم كانوا قد هموا بقتله لولا أن الله تعالى رفعه إليه، وحواريه عليهم السلام كانوا مجتهدين بتنفيذها، ولأجل ذلك كانوا يحاربون ويقتلون وتزور كتبهم،15 ويترك أكثرها ويقل زمان حسنها. أفاد عليه السلام إذ قال لتلخيص العبارة: «فإذا جاء رب الكرم ماذا يفعل بأولئك الفعلة؟ فأجابوه: الأرديا بالردى يهلكهم، ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين، ليعطوه ثمرته في حينها». هنا انكشف مجيئ صاحب الكرم، وأنه يهلكهم. 16 وظهر أيضا أن صاحب الكرم الموعود به من عيسى هو غير عيسى الواعد به، ومن المحقق أنه من بعد مجئ عيسى عليه السلام ما جاء غير نبينا ﷺ صاحب الشريعة الغراء.
ومن قوله: «إذا جاء» أن المسيح يقصد شخصا آخر غير شخصه، ومجيئه مستقبلا، وحيث إن الته تعالى بحسب ذاته العلية لا ينتقل من مكان إلى مكان من كونه حاضرا في كل مكان، فلزم أن يكون المجيئ المقول عنه من عيسى: «إذا جاء رب الكرم»، يقصد به رسوله وحبيبه محمدا ﷺ، أعظم الرسل من الله سبحانه، ويشهد مثل ذلك القرآن الشريف بقوله في سورة الفتح: (إن الذن يبايعونك إنما يبايعون الله)، وسمي رب الكرم على وجه الاستعارة للمسند إليه، لأن له أعطيت الأحكام والشريعة، وقد تأخر مجيئه حتى يكمل شر اليهود بقتلهم التابعين لعيسى بل وكذلك الكافرين وغيرهم، من الذين غلوا بعيسى ﷺ حتى إنهم تجاوزرا به حده وجعلوه إلها. فلما جاء ﷺ بعد سيدنا عيسى عليه السلام كان الله تعالى معه معاضدا ومساعدا، لكونه له رسولا ونذيرا، لأنه ﷺ أهلك الأرديا الذين أشار عنهم عيسى، وأما سيدنا عيسى فما جاء مرة أخرى حتى يستدل عليه به، ولا غيره أتى بعده وأهلك الأرديا الذين أشار عنهم هو، و«دفع الكرم» أي الشريعة إلى خلافهم، وإنما الذي جاء وأهلك الأرديا هو نبينا الكامل ﷺ 17 وأن الذين عملوا مفاسد من عهد عيسى وماتوا من العصاة إلى زمان نبينا كثيرون، وأما سيدنا عيسى فلم يقصدهم ولا كانوا كاملين، بل إنه قصد رجلا رب كرم يدفع الكرم إلى فعلة آحرين، أعني دفع الكرم الذي هو الشريعة الطاهرة إلى آخرين، الذين هم ذرية إسماعيل عوضا عن بني إسحاق ويعقوب عليهم السلام، الذين كانت الشريعة عندهم، وحواريي سيدنا عيسى هم من نسلهم، وأما الفعلة الآخرون هم أمة محمد ﷺ وذلك لمطابقة قوله: «ان ملكوت الله يترع منكم ويعطى لأمة لكي يصنعوا ثمرتها»، ولم يقل ههنا لأمم، بل قال: لأمة، لكونه قصد هنا الأمة الإسماعيلية التي أخذت البركة قبل إسحاق عليه السلام، 18 التي إمامها ونبيها هو محمد المصطفى ومنها تنبث إلى غيرها. 19
فمن هنا يتضح أن الجملتين، أعني قوله: "ويدفع الكرم إل فعلة آخرين" وقوله إذ سمى الكرم "ملكوت"، وأنه ينزع منكم ويعطى لأمة يصنعون ثمرته، هما مقولتان من عيسى عليه السلام على نبينا ﷺ وأمته الطاهرة، وليس على غيره، ولكي يتأكد أن هذا الإعطاء هو لهذه الأمة أضاف إلى ذلك إشعاره بحقارتها من نسب الحجر لها، إذ قد شبهها بحجر مهمل. 20 والحق أن ذرية إسماعيل كانوا عند بني إسرائيل كحجر مهمل ومرذول عد البنائين لأن ذرية إسماعيل كانت متناسلة من أمة وآباؤه عند إخوته إسحاق ويعقوب وخلفه كحجر مرذول عند البنائين.
ولهذا أورده سيدنا عيسى بهذا أقول الذي تنبأ عنه داود سابقا إذ قال: «الحجر الذي رذله البناؤون هذا صار رأسا للزاوية». أعني أن نبينا ﷺ هو الحجر الذي كان ثمينا وكريما في طبيعته، إلا أنه كان عربيا غريبا عن بني إسرائيل، وكان غير معدود مع الحجارة الذين هم خلف إسحاق ويعقوب.
فهذا هو المصطفى المكرم الذي اختاره الله سبحانه أن يكون راسا للزاوية، لأن الزاوية من جملة أشكالها الشكل المثلث للرؤوس المتساوية الجهات، ومعناه أن عيسى وموسى هما رأسان للزاوية شهيران، وحبيبه المصطفى ﷺ هو الرأس الثالث لهذه الزاوية المشار إليها من عيسى في هذه العبارة التي هي قوله : «وهذا صار رأسا للزاوية»، لمطابقة كلام النبي داود الذي أوردناه آنفا.
وأقول أيضا إن عيسى عليه السلام دعي من إشعيا: «حجر زاوية» كما تراه مصورا أمامك:
21
وأشار عنه إشارة أخرى غير الإشارة التي أشارها داود وعيسى عليهما السلام عن نبينا محمد ﷺ بأنه، أي عيسى، ممتحنا وكريما وأساسا مطروحا في صهيون»، ولم يقل عنه مثلما قيل من داود وعيسى عن نبينا المصطفى ﷺ بأنه «الحجر الذي رذله البناؤون هذا صار رأسا للزاوية». فإذا قد وضح أن سيدينا عيسى ومحمدا عليهما السلام هما رأسان للزاوية متميزان.
فعيسى عليه السلام قد تميز من إشعيا إذ وصفه بأنه أساس للزاوية،.بمعنى أنه متقدم في الزمان كالبناء، لأن الأساس يتقدم الرأس.
ومحمد رسولنا ﷺ قد تميز إذ إنه وصف من داود وعيسى عليهما السلام بأنه رأس للزاوية، بمعنى أنه متأخر في الزمان كالخاتمة.
وذاك في صهيون وكريم وممتحن. وهذا مرذول عد البنائين وعجيب في أعيننا.
وقول عيسى ههنا عن الحجر الممثل به عن المصطفى ﷺ «وأنه عجيب» يطابق قول إشعيا عنه ﷺ أن اسمه عجيب، وسوف ترى شرح ذك في الشهادة التي تتلو هذه.
وفي هذه الشهادة نكمل الشرح ونقول: إن عيسى عليه السلام قال: «إن من قبل الرب كانت هذه وهو عجيب في أعيننا».
فهاهنا أوضح سيدنا عيسى أن نبينا المختار ﷺ هو رسول الله، ووارد من قبله تعالى حقا وصدقا لقوله: «وهذا كان من قبل الرب». وبين أيضا أنه عجيب في أعيننا، فلو كان هذا الكلام الذي تنبأ به داود وكرره عيسى عليهما السلام مقصودا به عيسى عليه السلام كما ظنه النصارى المتأخرون لكان واجب على سيدنا عيسى عندما كرر تلاوته أن يقول: إنه عجيب في أعينكم، لا أن يقول: إنه عجيب في أعيننا، لأن قوله: عجيب في أعيننا قد أوضح أنه يقول عن سيد الأنام إنه عجيب في عيني أنا عيسى أيضا كما هو عجيب في أعينكم.
وخاتمة الشهادة هي قوله: «من سقط على هذا الحجر يترضض ومن يسقط عليه يطحنه»، وهذا هو الدليل الأخير 22 الظاهرة عبارته جدا، أعني نبينا ﷺ هو المشبه بالحجر الذي رض وطحن المخالفين لدينه السامي دون غيره.
الشهادة السابعة
إن النبي زكريا يقول في الإصحاح الثامن عبارة دالة دلالة واضحة على نبينا محمد ﷺ وعلى صحابته العشرة الكرام رضي الله عنهم:
كرآمار ياهواه صبياوت
هكذا يقول الله رب الجنود
فيايله هاهيما اشير عسوة اناسيم
في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال
ماكول لوشونوت هكوييم
من كل ألسنة الشعوب
واها حازيقي بختان ايش يااودي
ويتمسكون بذيل رجل حميد
ليامور تيلا خا عماخيم
ويقولون لنذهب معك
كه شامنسو ألوهيم عماخيم
لأننا سمعنا أن الله معك. 23
أقول: إن هذه الشهادة التي رقمناها العبراني بالحبر الأحمر والعربي بالحبر الأسود حذرأ من التزوير، تبين لنا بأن نبينا محمدا ﷺ هو الموضرع الوحيد، والمؤكد إطلاق هذه الشهادة عليه من كل جهاته، لأنه أي زكريا قد أفصح بكلامه في هذه النبوءة عن الصحابة الكرام وأن عددهم عشرة، وأنهم من ألسنة ووجوه الشعوب أصحاب القول، وليسوا من سفاسفها، وأنهم شعوبيون من الأمم، وليسو من اليهود، وعن اسم النبي الكريم ذاته، إذ قال: «هكذا يقول الله رب الأجناد في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال من كل ألسنة الشعوب».
أقول: يا ترى من هم هؤلاء العشرة رجال، الذين وجدوا في العالم، وتبعوا رجلا، وكانوا هم وهو مشهورين سوى هؤلاء العشرة الصحابة الكرام الأقمار العظام الذين كان نورهم مستفادا من نور شمس سيدنا محمد ﷺ، وتمسكوا به وذهبوا معه ونادوه بلسان حالهم؛ فلنذهب معك يا رسول الله، لأننا علمنا أن الله معك. 24
فهذا المعنى مكشوف وظاهر من عين ذاته ومطابق للنبوءة جدا، من كون أن زكريا تنبأ عن ظهور عشرة رجال يتمسكون بذيل رجل، والصحابة كانوا عشرة في العدد، وتبعوا نبينا محمدا ﷺ واعترفوا بأن الله تعالى معه، وهؤلاء ما وجد غيرهم من عهد آدم إلى الآن، ولا سمع بأن عشرة رجال تمسكوا في ذيل رجل وتبعوه سوى أولئك العشرة من الصحابة رضي الله عنهم. وبلا شك أن هذه الشهادة هي منطبقة عليهم على كل حال.
وأما قوله عن العشرة رجال: إنهم يتجمعون من كل ألسنة الشعوب،
أقول: إن الشعوب هم القبائل الخارجون عن بني إسرائيل، لأنه إلى هذا الزمان يسمون عند اليهود «هكوييم» أي الشعوبيين الأممين، وأما ألسنة الشعوب، فهم المتكلمون في الشعوب، أصحاب القول وذوي الرأي السديد، كما جاء معنى "لوشونوت" في القاموس العبراني الذي يسمى "شوراشيم".
وأما قوله عن العشرة رجال يتمسكون بذيل رجل اسمه حميد، فلفطة حميد هي اسم نبينا محمد، وهي في العبراني على وزن فَعِيل، وهذا الفعل بهذا الوزن يقصد فيه معنيين: اسم فاعل واسم مفعول، أي أنه يشتق من اسم حميد اسمان: اسم حامد واسم محمود. وهذه المشتقات هي من أسمائه الشريفة، لأنه أي المصطفى كان يسمى في زمان صباه حميدا، وذلك للتنويع، كما تنبأ عنه زكريا مع تسميته أحمد محمدا، وذلك بوجه التفضيل والمبالغة، كقولك عن الكبير أكبر وعن الحميد أجمد، وبالحق إنه حميد لأن الله تعالى قد سبق وهيأ له هذا الاسم الكريم، الذي هو من جملة أسمائه تعالى السنية. 25
وحيث إن هذا الاسم الشريف هو مكتوب من زكريا باللغة العبرانية، ومضمونه عن النبي الهادي، فكان علماء اليهود يترجمونه بلفظه العبراني، ويقرأونه عبراني في اللغة العربية معربا كلفظة إبراهيم وإسحاق وباقي الأسماء الغريبة، ويسمى علم أعجمي، ويشرحون معناه على ما هو عليه في الاصطلاح النسبي، لا على ما هو عليه من أصول اللغة العبرانية إذا ترجمت إلى أصول اللغة العربية، بل كانوا يبقونه بلفظه العبراني، وكذا قد ترجمت هذه اللفظة إلى اليوناني واللاتيني وغيرهما من اللغات بلفظها العبراني كما إلى العربي.
فالنصارى الذين ترجمت إلى لغاتهم هذه الكلمة بلفظها العبراني، كانوا يفهمونها عن اليهود مثل اليهود، على ما هي عليه بالاصطلاح النسبي لا على ما هي عليه من أصول اللغة العبرانية كما قررنا، ولا أدركوا من أين اشتقت هذه الكلمة وأنها اسم لنبينا الأعظم، حتى أني أنا الفقير أيضا كت قرأتها جملة سنين وأتسلمها وأفهمها كما يفهمها اليهود والنصارى لحد الآن على موجب الاصطلاح النسبي لا على أصول اللغة العبرانية المنزلة فيها، بحيث إنها لا تقبل الوجهين إلا بمفردها لا بقرائتها.
ولما حصلت على كتب قواعد اللغة العبرانية التي كانت معدومة عند النصارى المتقدمين عنا في الزمان، ووجودها نادر أيضا عند اليهود بسبب أن المطابع لم تكن وجدت بعد، وقفت على هذه الأصول السنية عن جملة علماء من علماء الكتابين وفهمت معنى هذه اللفظة وأنها تقبل الوجهين إذا كانت بمفردها. 26 27 عدا أن في جميع النسخ السريانية قد وجد عوض هذا، أي عوض لفظة "يااودي" لفظة "يهوذا" وهذه أعني لفظة يهوذا إذا ترجمت إلى اللغة العربية حرفت بحرف هي أحمد، وهو اسم نبينا الشهير والعلم، وقد نقل بالتأكيد أن زكريا كتب نبوءته التي فيها هذه الشهادة بالسرياني لما كان مسبيا في بابل. وبهذا الوجه لا حاجة إلى شهود.
وهذه الشهادة إذا فهمها أحدهم مصادفة كنت أراه يفكر في أيما نبي من الأنبياء قصد بها، مع أنها اسم لنبينا المصطفى، وذلك لأنه لا يعرف إلا اسم نبينا الذي هو أحمد أو محمد فقط على ظاهر الأمر، ولم يدرك أن أسماء نبينا ﷺ محمد أو أحمد هما مشتقان من اسم حميد، وأن اسم حميد هو نفس اسم أحمد. وبسبب هذه الوجوه المشروحة، مع خبث بعض حاخاميم اليهود، قد بقي اسم نبينا المصطفى مخبأ تحت هذه الستور، والذي يريد أن يحقق ذلك فليراجع هذه الفظة في القاموس العبراني المسمى "شوراش"، وفي كتاب الصرف والنحو عندهم "دودوق" في تصاريف اسم يهوذا واشتقاقاته، وليزيل عنه ظلمة الغشاوة، 28 وليعلم أن هذه النبوءة هي منطبقة على النبي المختار ﷺ من أربعة أوجه:
أولا: من عدد صحابته العشرة الكرام رضي الله تعالى عنهم.
ثانيا: أنهم كانوا من الأمم "هكوييم"، وليس هم من بي إسرائيل.
ثالثا: أنهم كانوا من ألسنة ووجوه الشعوب، وليس هم صيادي سمك.
رابعا: إن الذي تبعوه كان اسمه حميدا أحمد، وهو النبي أبو القاسم ﷺ، فعيسى عليه السلام ما كان اسمه حميدا أحمد، والذين تبعوه كانوا صيادي سمك فقراء، وليسو من ألسنة الناس ووجوه الشعوب، وكانوا يهودا. وليسو هم من الأمم شعوبيين، وكان عددهم اثني عشر نفرا، وليسو عشرة كما تنبأ عنهم زكريا. وهذا كفاية لأن التعويل على شهادة الحال، أي الشئ المنظور الواقع، هو المساعد الأكبر على تحقيق شهادة المقال، وهذه الشهادة هي المطابقة لقوله تعالى في سورة الأعراف: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل)، وقوله تعالى أيضا عن أن عيسى عليه السلام قال: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).
ثم مرادي الآن أن أسمي هذه الشهادة "التوأم" بإضافتي لها شهادة أخرى تجانسها من إشعيا النبي.
أقول: إن إشعيا قد قال في الإصحاح التاسع في العدد السادس:
كه يلل بلاد لانوبين نتان.
إن ولدا انولد لنا، ابنا انعطى لنا
ويتهى هم اسراه على شيخيمو رنيتاراسيموبيله
وتكون سيادته على كتفه، 29 ويدعى اسمه عجيبا
ليماريه هم سراه ولشلوم ابن قيس
ليكثر سلطانه ولسلام ليس قياس
علكسه دافيد وعلى علكته ليهاجيم
على كرسي داود وعلى مملكته يجلس
اوتاه ولساعداه به شناط وبمصداقاه
يرتبها وليساعدها بالعدل وبالصدقة التي هي الفضل
والحقيقة أن هذه الشهادة يرى العقل السليم أن فيها مطابقة كلية على سيدنا محمد ﷺ دون غيره من الأنبياء، إذ إن إشعيا يقول فيها:
أولا: إنه قد انولد لمن ولد، وأن سيادته على كتفه، فنبينا المصطفى ﷺ هو الذي كانت سيادته على كتفه، متعلقة في ذراعه وسيفه، ولم يأخذها بالميراث، وذراعه وسيفه هما متعلقان في كتفه وفي فروسيته، كما أخبر عنه إشعيا. وهذا على وجه المجاز، وأما على وجه الحقيقة، فنبينا ﷺ كان على كتفه علامة، وهي شامة كبيرة شهيرة ومكشوفة.
ولا يلزم لها برهان، لكونها شائعة وصلت إلينا بالتواتر وسطرت في أخباره الشريفة، واسمها ختمم النبوة، أي علامة.
وثانيا: يقول إشعيا إنه «يدعى اسمه عجيبا» ولفظة العجيب هي من جملة أسمائه الشريفة، لأنه ما من أحد من الأنبياء سلفا ولا من جميع بني إسرائيل تسمى باسمه الشريف، أي أنه تسمى أحمد، محمدا، حميدا، محمودا، والعجب الأخير أيضا من كونه من سلالة إسماعيل العربي، الذي ما قام مهم سواه واحدا وحيدا.
وعدا ذلك أن لفظة "عجيبا" قد وجدت في التوراة اليونانية "رسولا"، ولفظة رسول يستحقها أيضا لأنها هي الاسم الغالب عليه والشهير به والمختص به دون غيره من الأنبياء، ومكررا عليه كرات عديدة كلفظ نبي، ثم أيضا سماه إشعيا مشاورا، وذلك مطابق لما سماه الله تعالى في القرآن الشريف بقوله له: (وشاورهم في الأمر)، فهو مشاور. ثم دعاه إشعيا أيضا جبارا طايقا، وهذه الأسماء مع ما تقدمها هي من أسمائه الشريفة، وقد تجدها حرفيا في كتاب دلائل الخيرات مجمعة من الكتاب والسنة.
وثالثا: إن إشعيا قد قال عنه بأنه «أب الأخير» وفي الحقيقة أنه صار أبا، واستولى على الدهر الأخير، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، لأنه لم يقم بعده ﷺ نبي.
ورابعا: قد قال عنه إشعيا أنه «سيد السلام»، أعني أنه رئيس الإسلام والمسلمين الذين هم الأمة المخلصة الدين والحب لله تعالى، وأهل الوداد والعهود، أعني السلام والتسليم، وأشار إشعيا بلفظة "سلام"من كون لفظة سلام هي كقطب دائرة، تجمع إليها من خطوطها سائر تصاريف السلام مع اشتقاقاته، من كونها مصدرا لتفريع معانيه، ونبينا المختار دعي رئيسا لهذا القطب، أي أنه رئيس ليس لدين الإسلام والمسلمين فقط، بل هو رئيس لجميع فروع السلام، كما نعت بها في القرآن الشريف مرارا، مثلما قال عنه إشعيا.
وخامسا: قد قال عنه إشعيا «ليكثر سلطانه»، وهذا القول قد ورد في سفر التكوين إلى سيدنا إبراهيم وللسيدة هاجر عن رئاسة نسل سيدنا إسماعيل، الذي منه سيدنا محمد ﷺ. 30
وسادسا: قد أفادنا إشعيا عن دوام دين الإسلام بقوله: «ولسلام ليس له حد وقياس». وهذه نبوءة صريحة بأن دين الإسلام يبقى إلى انتهاء العالم.
وسابعا: قد قال إشعيا بأن نبينا يجلس على كرسي داود وعلى مملكته، ليرتبها ويساعدها بالعدل والإحسان، الذي هو الحنو، وحيث إن كرسي داود وسلالة ملكه قد فنوا قبل مجئ عيسى بزمان طويل، 31 واستولى عليها الرومانيون قبل زمان عيسى، وفي زمانه، وبعد زمانه، فلزم أن يكون هذا الجلوس على وجه الاستعارة، أي أنه يقصد منه الجلوس والترتيب والمساعدة من رجل صالح مؤمن بالله، وصاحب شريعة يجري في شريعته العدل والفضل، وليس معناه أن يكون كطيباريوس الروماني أو كأوغسطس قيصر الوثني، الذين كانا على كرسي داود فعليا في زمان عيسى وكانا بعيدين من شريعة عيسى وموسى، لأن كلام إشعيا إنما هو عن مجئ رجل يجمع الشريعتين، أعني: شريعة موسى العدلية، وشريعة عيسى الفضلية، ويجعل لكل منهما مركزا بحيث أن كل واحدة منهما مفتقرة إلى الأخرى.
ونرى ذلك الترتيب عيانا في شريعة نبينا محمد ﷺ، المرتبة من العدل والفضل، كما جاء في قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله).
فهنا في قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قد استعمل الشريعة العدلية، وأما في قوله (فمن عفى وأصلح فأجره على الله) فقد أفادنا عن الشريعة الفضلية المفوضة إلى إرادة الإنسان، ومن قوله تعالى (العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن). وباقي غلاقة القول العدلي قد أضاف إليه القول التصدقي أي الفضلي بقوله تعالى غب ذلك (فمن تصدق به فهو كفارة له).
وهذا القول الشريف المركب من العدل والإحسان، أي التصدق الجامع بين الشريعتين السابقتين الذي كان في أصل شريعة موسى وانمحى ينطق على نبوءة إشعيا هذه القائلة عن المتنبأ عنه: إن إتيانه يكون بالعدل والصدقة. 32
وهذه المعاني هكذا كان يفهمها النصارى واليهود القدماء، وكانوا يسلمونها إسلاما خالصا. وأما النصارى المتأخرون فيصرفونها إلى عيسى عليه السلام، والحال أنها لا تطبق عليه.
أولأ: لأنه ماكان لعيسى رئاسة مرتبطة في قوة كتفه المتعلق فيه ذراعه وسيفه، بل إنه كان خاليا من الرئاسة مطلقا، ولا كان له في كتفه علامة شامة كبيرة مكشوفة كالمصطفى، وكان دائما يتخوف ويتهرب، كما يخبر عنه إنجيلهم، ومحكوما عليه.
ثانيا: إن سيدنا عيسى المسمى عندهم يسوع لم يكن اسمه "عجيبا"، لأنه قد سبقه من كان باسمه من الأنبياء، وهو يشوع بن نون، 33 وخلافه كثيرون، ومع ذلك فنرى أن لفظة «اسمه عجيبا» قد انطبقت على نبينا المصطفى ﷺ من كل جهاتها، لأنه من عهد آدم إلى الآن ما خرج نبي من الأنبياء اسمه أحمد، محمد. وأعجب من ذلك خروج هذا النبي الكريم من بني إسماعيل في قبيلة معدومة الأنبياء. عدا أن هذا الاسم الذي هو «عجيبا» هو من جملة أسمائه، وتراه مدرجا في "دلائل الخيرات"، ولهذا قد دعى إشعيا اسمه عجيبا،وقد صادق على ذلك، أي على قوله: «عجيبا» عيسى بقوله: «وهو عجيب في أعيننا»، وما كان عيسى جبارا مثل المصطفى، بل إنه كان يتظاهر دائما بأنه كان ضعيفا فقيرا.
وإن قيل عنه من النصارى إنه كان جبارا بلاهوته وليس بناسوته، فأقول: إننا نقضنا هذا الوجه نقضا كافيا فيما سلف وأنه ليس فيه لاهوت. والآن نقول أيضا: إن كان سيدنا عيسى جبارا حسب لاهوته المتحد فيه ناسوته فلماذا عندما تضيق وتحزن وبضجيج توسل وبخوار صوت وأظهر ضعف الإنسانية انحدر ملاك من السماء مقويا له كما أخبر إنجيلهم؟ وأين كان جبروت لاهوته، ولماذا ما صبر لاهوته ناسوته على التضييق وقواه؟ بل إنه افتقر إلى ملاك ليقويه، مع أن هذا الافتقار والمساعدة خلاف افتقاراته الطبيعية ومساعداتها. وأيضا مادعي عيسى مشاورا ولا تسمى هذا الاسم على الإطلاق.
ثالثا: ان عيسى ما كان أبا الأخير، بل كان متوسطا فيما بين موسى ونبينا عليهما السلام وعليه البركات.
رابعا: إن عيسى ما كان رئيس سلام كما قال إشعياء بل كان رئيس الأمة المسيحية، وأما رئيس سلام أي رئيس الإسلام فقد كان محمدا المصطفى ﷺ.
خامسا: إن عيسى لم يكثر سلطانه كما تنبأ عنه إشعيا، بل إنه ما كان له ملك أبدا لأن اليهود لما أرادوا أن يخطفوه ويصيروه ملكا هرب. 34
سادسا: إن سيدنا عيسى ما كانت شريعته عدلية وفضلية كما تنبأ إشعيا في هذه النبوءة، بل كانت شريعته فضلية فقط. وأما الذي انطبقت عليه هذه النبوءة وجاء بالشريعة المرتبة بالعدل والإحسان هو أبو القاسم محمد خاتم الأنبياء والمرسلين. ﷺ
فإذا كان إشعيا تنبأ عن رجل يكون إتيانه بهذه الصفات المشروحة، أي إنه يكون صاحب شريعة ممتزجة من العدل والفضل وصاحب حكم وتملك والأب الأخير الذي لم يعقبه نبي آحر غيره، ورئيس سلام، أعني رئيس الإسلام، ومشاورا وجبارا وطائقا وعجيبا اسمه، ووصاحب علامة على كتفه المتعلقة برئاسته الدالة عليه دون غيره الذي إما على وجه المجاز على مذهب أصحاب علم المعاني والبيان هي رئاسته بسيفه، الذي كان يقلقه على كتفه، كعادة العرب إلى الآن، 35 وإما على وجه الحقيقة تكون الشامة الكبيرة المكتوبة هي العلامة التي كانت على كتفه، التي لا تقبل أدنى شبهة.
وهذه الصفات قد وجدت فيه حقيقية ظاهرة، أي في النبي المصطفى ﷺ، وليست مجازية، وإذا وجدت الحقيقة فلا محل للمجاز. فكيف يسلم العقل قبولها على سيدنا عيسى عليه السلام الذي لم تنطبق عليه، مع أنه ليس مفتقرا إلى سرقة الشهادات التي قيلت عن المختار ﷺ، إذ إنه قيل عنه من إشعيا ومن الأنبياء شهادات أخر كثيرات، التي لم تنطبق على غيره، حتى ولا على نبينا المصطفى صلى الله عليهما وسلم أفضل الصلاة وأتم السلام.
الشهادة الثامنة
إن النبي إشعيا قد أورد في الإصحاح الحادي والعشرين كله ألغازا أخر تنبئ عن نبينا محمد ﷺ، إذ قال من العدد الأول مبتكرا فيه وقائلا: «ثقل البحر البري».
إن إشعيا النبي القائل: «ثقل البحر البري»، قد أشار به عن نبينا وأخذ فيه وجه الاستعارة التشبيهية بأنه بحر بري، أعني أن خروجه ومشيه وفعله في البر مميزا إياه من البحر المائي وإضافته إلى قوله: «ثقل البحر»، أعني أمواجه البليغة التي كانت تهيج فيه، وتكسر سنن الكفر مع أصنامها، وأردف أن قال عن وجوه وروده: «إنه مثلما تأتي الزوابع من الجنوب يأتي إلينا من البر من بلد مخيف» يعني أن هذا البحر مع ثقله وأمواجه، يأتي إلينا من البر من بلد مخيف كالزوابع. ونبينا ﷺ كان مجيئه كالزوابع الجنوبية، وكالأمواج الثقيلة، وكان يلاطم ويهدم البروج الكفرية التي كانت يومئذ مشيدة عند الأعم من البشر، وأضاف إلى قوله: «إنني أخبرت ببيان صعب، العاصي يعصي والناهب ينهب».
ففي هذا النبي إشعيا قد أظهر ثقل فعل البر البري، وكيف نهب العصاة لله كموسى، وهذا النهب هو من خصال العرب، وقد تعجب منه إشعيا إذ قال: إنني أخبرت ببيان صعب الناهب ينهب، وأما على وجه المجاز فنقول بأنه ﷺ نهب العصاة.
وأكد المعنى أن اشار عن نفسه بلسان الحال: «امتلأ حقوي وجعا ومغصا في قلبي، وارتعاشا، والظلمة أزعجتني». يعني أن ظلمة الكفر التي كانت معششة في البشر 36 كانت مورثة على رسوله الانزعاج والمغص، ثم قال: «ابسط المائدة اطلع من المطلع إلى الآكلين والشاربين، قوموا أيها القواد ودربوا بالأترسة». كأنه يتكلم بلسان حال نبينا ﷺ الناظر إلى الآكلين والشاربين، والمنادي إلى صحابته الكرام، «قوموا أيها القواد ودربوا بالأترسة»، لأنه هكذا قال لي الرب: «اذهب وأقم الديدبان ليخبر مايرى، فرآى فارسين أحدهما راكب حمار والآخر راكب جمل. فالراكب على الحمار هو سيدنا عيسى بدخوله عليه القدس الشريف، وأما الراكب على الجمل فهو دليل كاف على نبينا ﷺ.
فهذه العبارة هي على موجب التوراة العربية المترجمة عن اللاتينية، وأما على موجب التوراة العبرانية فالمعنى فيها أجلى من هذا لأنها تقول: (قاري ريخيب صيميد فاراشيم ريخيب حاسود ريخيب كامال) وترجمتها إلى العربي: «فرأى ركب رديف خيل ركب حمار ركب جمل»، وهذه كانت جيوش نبينا المصطفى ﷺ، خلاف عساكر الملوك المقاتلين، لأن الملوك لا تركب جيوشها مراديف، ولا يركبون حميرا ولا جمالا، وهذه عادة العرب فقط على وجه التغلب، وإن إشعيا على هذا المنوال أبصر في رؤياه جيشو نبينا ﷺ ركب رديف خيل ركب حمار ركب جمل. 37 «فصرخ الأسد»، أي نبينا الأعظم ﷺ، وهذا نوع من الالتفات، «على مطلع الرب أنا واقف بالليل وبالهار».
وبالحق إنه كالأسد، وإنه على أوامر الرب كان واقفاء وبها عارفا.
يقول إشعيا: «وإذا برجل راكب أزواجا من الفرسان»، وقال: «سقطت بابل مع أصنامها»، وهذا التفات ثان.
أقول: فكأن الله سبحانه قد كشف لإشعيا أعمال رسوله محمد ﷺ مكررا عليه المعاني لأجل التأكيد، مخبرا له عن رديف الفرسان أزواجا أزواجا ومعهم رجل. وبلا شك إنه هو ﷺ الذي كانت جيوشه مراديف أزواجا، وأبان عن السقوط الكائن من فتح بابل وإسقاط أصنامها. 38
وختم إشعيا كلامه: «إن هذا من عند رب الأجناد».
ثم أفصح بنبوءته عن الأمكنة والأشخاص، أما عن الأمكنة فقال: « دومة تصرخ إلي من ساعير يا حارس فقال الحارس: ارجعوا وأقبلوا». 39
أقول: إن ساعير اسم إيالة، ودوما اسم بلد في ساعير قد كانت مثقلة بالضلال، وأهلها بلسان الحال قد استغاثوا بالحارس، أي بالنبي اليقظان فجاوبهم: «إلى الله ارجعوا واقبلوا». 40
وأما عن الأشخاص فقال: «ثقل على العرب حسبتم تبيتون في الغاب».
والمعنى الذي أورده في أول الإصحاح، أي ثقل البحر البري قل أورد توجيهه هنا: بأنه يكون على العرب، لقوله: «ثقل على العرب»، أعني أن أول توجيهه وإنذاره كان إلى العرب ثم إنه جمع بقوله: «تلاقون العطشان بالماء يا سكان التيمن واخرجوا بالخبز للقاء المنهزم».
إن هذه النبوءة من إشعيا قد انطبقت على نبينا محمد ﷺ من دون شك ولا مراجعة، إذ إن إشعيا المشار إليه ما ترك مقطعا من هذا الإصحاح خاليا من إشارة ورمز على نبينا ﷺ، فكأنه في هذا العدد الذي هو الخامس عشر يقول: يا سكان التيمن - أي القبلة - اخرجوا بالخبز والماء للقاء المنهزم، فبقوله المنهزم كأنه يتعمد شخصه السامي الشريف، لأنه في أول نبوته حينما انهزم وهاجر من وطنه، أي من مكة الشرفة وجاء إلى المدينة المنورة، فعلى الطريق قدم له الخز والماء من سكان التيمن. 41
ولفظة التيمن مع لفظة العرب السابقة عليها ها من أكبر الأدلة على ظهوره من تلك المحلات لا من سواها، وفي المقطع الذي يتلوه قد عطف إشعيا بضمير الجمع إذ قال: «لأنهم منهزمون من قبل السيوف، من وجه السيف الحاضر، من وجه القوس الموترة، ومن وجه الحرب الشديدة» يعني أن خصومه ينهزمون في عودته ورجوعه عليهم من قبل السيوف من وجه السيف، كما جاء الأمر عليه بقوله تعالى له (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)، وكذلك جرى ذلك الانهزام على أعدائه، أعني من جراء سيفه وقوسه الموترة والحرب الشديدة، وكلام إشعيا «بأنهم منهمزمون» متوجه على العرب وعائد ضميره إليهم، والدليل على ذلك هو قوله: «ثقل على العرب».
وترى هذه المعاني موضحة في محلاتها، إذ أن سيدنا محمدا ﷺ هو الذي كان وروده كثقل البحر، وكان هو بحر بريا وليمى مائيا، وهو الذي أتى لنا من البر من بلد مخيف، مثلما تأتي الزوابع من الجنوب، ونهب العصاة». 42
وهو الذي قد نادى صحابته: قوموا يا أيها القواد ودربوا بالأتراس، وكان ﷺ فارسا، وجيوشه المراديف الراكبين الجمال والخيل والحمير.43 وهو الأسد الذي صرخ «على مطلع الرب: أنا واقف»، أي على مناظر الرب وأوامره، أنا واقف نهارا وليلا، وهو الرجل الراكب أزواجأ من الفرسان، العارف سقوط بابل قبل كونه مع أصنامها، الصائر فيما بعد من أمته وخلفه، وهو الذي نادته دوما من ساعير: يا حارس، و أجابها: «ان طلبتم فاطلبوا ارجعوا إلى الله واقبلوا». 44
وهو الثقل الذي كان على العرب العصاة الذين انهزم منهم وهاجر، وقد لاقوه سكان التيمن أي القبلة بالخبز والماء وفيما بعد عند رجوعه غدت أعداؤه مهزمين من وجهه ومن سيفه وقوسه من وجه حربه الشديد.
وبالاختصار أقول: إن إشعيا قد ختم كلامه هذه الجملة الحاملة تلك الإشارة الوافية المعنى بقوله: «بأن هكذا قال لي الرب في انقضاء سنة كسنة الأجير يفني كرامة قيدار وبقية عدد أصحاب القسي الجبابرة من بني قيدار يتقللون فإن الرب إله إسرائيل تكلم».
أقول: إن معنى قوله في انقضاء سنة كسنة الأجير أراد به حولا طويلا وثقيلا، إذ إن الأجير المستأجر قد يحسب سنة استئجاره أنها طويلة ثقيلة. ونبينا رسول الله ﷺ المشبه بالبحر البري من بعد انتهاء هذه السة الطويلة التي جاهد فيها، التي شبهها إشعيا كسنة الأجير قد أفنى فيها جميع كرامة قيدار، لأن قيدار قبيلة وهي سلالة من ثاني ولد من أولاد سيدنا إسماعيل التي كانت تحارب رسول الله محمدا ﷺ لما عصت دينه الشريف، وأنشأت عليه الحروب الردية، فسحق قسي جبابرتهم وتقللوا كما تنبأ عليهم إشعيا بقوله: «يفني جميع كرامة قيدار وبقية أصحاب القسي الجبابرة، من بني قيدار يتقللون، فإن الرب إله إسرائيل تكلم». وهذه النبوءة مربوطة بجملة علامات ومنطبقة على نبينا الأعظم ﷺ دون سواه.
الشهادة التاسعة
إنه في الإصحاح الثالث والثلاثين من تثنية الاشتراع قد أفادنا سيدنا موسى نبوءة وإشارة عن الأرض التي منها خرجت شريعة وأنوار سيدنا محمد ﷺ، وهو جبل فاران، الذي في أرضه موجود مكة المشرفة بقوله: «جاء الرب من سيناء وأشرق لنا من ساعير واستعلن من جبل فاران».
أقول: أما قول سيدنا موسى بأنه «جاء الرب من سيناء»، أي أنه تعالى أورد ثمريعته بكتاب التوراة في سيناء، وأما قوله: «وأشرق لنا من ساعير» فهي نبوءة عن ثمريعة عيسى لأن ساعير كما كتب عنها في سفر التكوين وفي كتب الجغرافيا هي معلومة، بأن فيها أشرقت البشارة والإنذار في الديانة انصوانية، لأنها كانت من حظ سبط يهوذا، وعيسى كان من سلالة سبط يهوذا.
وأما قوله: «واستعلن من جبل فاران» فمعناه أنه من هناك ظهرت شريعة الله تعالى وناموسه العظيم الذي هو القرآن الشريف الذي أنزل على المصطفى الكريم، لأن جبل فاران وأرضه هو ظرف لمكة المشرفة، حيث كان يتردد ﷺ، وولادته كانت هناك، وله فيها أحاديث كهيرة وعجيبة.
ولفظة فاران لها معان كثيرة في م "شوراش" العبراني، أي القاموس، منها الجبل الظليل، ومنها الجبل الذي فيه مغر مجوف من داخله، كما ترجمت هذه اللفظة من اللغة اليونانية.
وجبل مكة الذي شرحنا عنه، الذي موقعه بقربها مسافة ثلاثة أميال، واسمه الآن غار حراء، بمعنى المغور الذي كان ﷺ يختلي فيه في مغارة ثمان سنوات، معتزلا لفراغ القلب بالذكر، وفيه أوحى الله تعالى إليه بواسطة جبرائيل عليه السلام، والذي يؤكد ذلك ظهور أنوار سيدنا محمد ﷺ منه وشريعته الغراء وليس سواها، كما قد يثبت هذا الباب حبقوق النبي في الشهادة التي تتلو هذه، إذ إنه مع ذكر اسم فاران، يعين أيضا جهتها التي هي القبلة لئلا تجهل وتلتبس. 45
وأيضا أقول: إن لفظة فاران مشتقة من فاران في اللغة العبرانية، وتعريبها المتجمل المتزين، وكأن حبقوق مع موسى عليهما السلام يقولان عن نبينا: إنه يأتي من الجبل المتزين. وجبل مكة يصدق عليه هذا الاسم أيضا، بحيث هو المتجمل بوجود بيت الله، الحرم الأعظم المبني فيه من دهور عديدة، قبل ظهور النبي الكرم، من سيدنا إبراهيم، المتردد على تلك الأمكنة، كما هو محرر في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر. وقيل من قبله وعاد فتجدد. ومن هذا الجبل ظهر نبينا محمد الأعظم، وكانت صحابته عشرة، كما تنبأ عنهم زكريا في الشهادة السابقة وشهادة الحال، أعني ظهوره ﷺ من ذلك الجبل المترين، الذي هو بالبراني فاران، هو الإثبات الجاذب لشهادة المقال.
وإن قيل: إن سيدنا موسى تكلم بهذه الاشارة بصيغة الماضي، لأنه قال استعلن، ولم يقل يستعلن بصيغة المضارع.
فأجيب: إنه من عادة الكتب أن تستعمل صيغة الماضي بمعنى المستقبل في بعض محلات، ومن واقع الحال قد يعلم ذلك، كما أنه قل قيل من سيدنا داود عن عيسى: «بأن إلها قام في مجمع الآلهة»، على صيغة الماضي، وهو وقتئذ لم يكن قام، وقوله: «والرؤساء اجتمعوا جميعا»، ولم يكن بعد اجتمعوا، وأمثاله فهي في الماضي، والنصارى تفسرها بالمستقبل.
الشهادة العاشرة
إن حبقوق يقول في الإصحاح الثالث: «ايلواه من التيمن يأتي، والمقدس من جبل فاران يدعس، غطى السماء ببهجته، ومن شكرانه امتلأت الأرض، بهاؤه يكون كالنور، قرون من يده، هناك مختفية قوته، قدامه يمشي الوبا، ويخرج الشرار لعند قدميه وقف ومسح الآرض، نظر وحل الأمم وتبدد جبال العالم وانحنت آكام الدنيا، العالم هو له».
أقول: إن هذه الشهادة قد حلت وكشفت أولا نبوة سيدنا موسى عليه السلام التي سبقت في الشهادة التاسعة، وهي قوله: «استعلن من جبل فاران».
فههنا قد كشفت، وعين حبقوق أن جبل فاران هو الذي موقعه في التيمن، التي هي القبلة، وليس هو البرية التي هي مجاورة سيناء، بقوله: «ايلواه من القبلة يأتي، والمقدس من جبل فاران يدعس»، وسماه حبقوق ايلواه أي إله.
وكما قررنا عن لفظة إله أنها بالعبراني مشتقة "إيل"، التي ترجمتها إلى اللغة العربية طايق مكين. فكأن حبقوق قد عين مكان خروج نبينا ﷺ ونعته بقوله «الطايق من القبلة يأتي ومن جبل فاران يدعس»، أي جبل فاران، الذي هو في لصيق الأرض التي فيها مكة المشرفة، وهو في القبلة أيضا، وليس في حدود سيناء، لأن التي في حدود سيناء هي برية كما قلنا، وههنا حبقوق يذكر جبلا مثلما يذكره مومى، مع أن برية فاران أيضا مسكنا لإسماعيل وخلفه، وهناك تزوج بالمرأة المصرية. راجع سفر التكوين في الإصحاح الحادي والعشرين.
فهذا النبي الكريم الذي سماه حبقوق ايلواه، وأنه يأتي من القبلة من جبل فاران، قد أشار عنه بأوصاف أخر وهي قوله: «غطى السماء ببهجته، ومن مدحه امتلأت الأرض، وبهاؤه كالنور».
فكل هذه الأوصاف تراها معلقة على سيد المرسلين، بحيث لم يشترك معه غيره فيها، لأنه ماوجد في الكون نبي أبهج مه وأبهى، ولا وجد سواه من يمدح في المنائر والمنابر، في المساجد والأزقة، من العلماء والفقهاء، من الأغنياء والفقراء. وقد ترى جميع ألسنتهم غير هادئة من مدحه وشكرانه وأداء الصلاة والسلام عليه وأنواع البركات التي لم يكن لغيره صائر مثلها مثل موسى وعيسى عليهما السلام، وذلك تطبيق لنبوءة حبقوق القائلة: «ومن مدحه امتلأت الأرض».
وأثبت حبقوق نبوءته ﷺ بإشارته إلى القرون التي كانت من يده، وهم الصحابة الكرام، التي كانت قوته مختفية فيهم، لأن حبقوق على بسيط القول تنبأ على أن قرونا في يده، وهناك مختفية قوته، أي في القرون. أعني القوة التي ظهرت بالفتوحات وانتشار الدين من صحابته النجباء رضي الله عنهم، الذين قد سماهم ههنا حبقوق بالقرون، وأضاف إلى ذلك بأن «قدامه يمشي الربا»، وهذا هو وجه الاستعارة التشبيهية، أي أنه شبه موت السيف العجول الذي عمله بالوبا، وأما على وجه الحقيقة فنرى هنا حبقوق كأنه كان ينظر بعينيه ما قد حدث من أمر الوباء وكيف أنه أطاع رسول الله ﷺ لأنه ﷺ حضر لديه الوباء مع جبريل عليه السلام فأرسله إلى بلدة سكانا يهود، واسمها الجحفة، التي منها الآن تبتديء أعمال الحج المصري في القعدة، لأن يهودها في تلك الأيام كانوا كامنين لرسول الله ﷺ الضر. وهذا الوباء هو الذي أرسله ومشى قدامه، وهو مطابق لنبوءة حبقوق هذه حرفيا، كما جاء هذا الخبر في أحاديثه الشريفة في سيرة حياته المنقولة في كتاب مؤلف من الشيخ علي برهان الدين الحلبي، ويسمى القصة الحلبية. وقد نقل عنه في حديث آخر بانه ﷺ أرسل قدامه الوباء إلى الشام« وهي بلد من بلد حوران.
«ويخرج الشرار لعند قدميه». إن الشرار الذي أفادنا عه حبقوق هو الذي قال عنه إشعيا في الشهادة الخامسة «بأن حوافر خيله مثل الصوان الذي منه ينبعث الشرار»، ويخرج لعند قدميه حينما كان يمشي قدامه الوبا ويحارب وييت أعداء دينه السامي، الموردين الضر عليه، بعد نصحه لهم ﷺ كإيليا الذي قتل كهنة باعال بالسيف، وبدد جبال العالم، أعني أنه قد شتت ذوي الاقتدار وانحنت آكام الدنيا له، أعني الممالك، لأن العالم هو له، بحيث إنه هو سيد الأولين والآخرين.
وبالاختصار إن سيدنا عيسى ما جاء من التيمن، أي من القبلة كما قال حبقوق، ولا من جبل فاران دعس، وكل هذه الأوصاف المشروحة لم تنطبق عليه 46 كانطباقها على المصطفى ﷺ. 47
الشهادة الحادية عشر
إن سيدنا عيسى عليه السلام قد أفاد عن ورود سيدنا محمد ﷺ بعده وأنه أعظم من كل الأنبياء بقوله في بشارة لوقا في الإصحاح السابع، وفي بشارة متى الإصحاح الحادي عشر: «إنه لم يقم في مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان، وأما الأصغر الذي هو في ملكوت السماء فأعظم منه».
أقول: يا ترى ومن هو هذا النبي الاصغر الذي هو في ملكوت السماء، الذي أفاد وأشار عنه عيسى عليه السلام وأنه أعظم من يوحنا المعمداني الذي هو أعظم من كل الأنبياء؟ فلنلظر إلى الوسط من تفاسير علماء النصارى لهذه الآية، ونقول إن قوما منهم قالوا إنها منيوحنا الإنجيلي، أحد حواريي سيدنا عيسى. وقوما منهم قالوا إن هذه الاية مقولة عن عيسى نفسه.
فأجيب: إن هذين القولين منقوضان، لأن يوحنا الإنجيلي ما تسمى نبيا على الإطلاق ولا نعت بأنه أعظم من كل الأنبياء، إذ أن بعضا من النصارى قالوا إن بطرس الحواري أعظم منه، وقوما قالوا إنه مساو لبطرس، ومع ذلك فإنه ليس يوحنا الإنجيلي فقط الذي لم يكن نبيا، بل لم يكن بعد عيسى من قومه نبي، فضلا عن أن يدعى أنه أعظم الأنبياء، وصريح الاية تشهد عن الأصغر بأنه نبي، وأنه أعظم من كل الأنبياء.
وأما الذين فسروا هذه الآية على شخص عيسى فنقول لهم: إن سيدنا عيسى ليس هو من مواليد النساء الطبيعية المعتادة كمثل المعمداني أو كباقي الأنبياء، حتى يستدل بأن هذه الآية مشيرة عليه، لأنه عليه السلام مولود من آنسة بتول عذراء، ولم يولد بالأوجاع والزرع النكاحي والعامل النسائي المألوف كالمعمدان أو كباقي الأنبياء.
فبإبطال هذين القولين وعدم احتمال المعنى لهما، وإسقاط الدعوى ما يوجب أن يكون المضون منصرفا ومقولا عن نبي آخر شهير عظيم خلافهما تنطبق عليه الآية: فيكون النبي الموعود به من عيسى هو من مواليد النساء الطبيعية المألوفة مثل يوحنا وباقي الأنبياء، ومنعوتا وشهيرا بالعظمة.
ونرى أنه لم يقم نبي بعد المعمداني بهذه الصفة، بل لم يوجد من تسمى أصغر وعظيما وموجودا في عالم الأرواح تطبيقا لإشارة سيدنا عيسى سوى سيد المرسلين الأولين والآخرين، وهو الذي قيلت عنه هذه النعوت ﷺ، الذي قال عنه موسى الكليم في الشهادة الأولى: «إن الرب إلهكم سيقيم نبيا من إخوتكم مثلي...».
وأيضا نقول: إن لفظة الأصغر المقولة بهذه الآية الإنجيلية هي في اللغة اليوناية "اوميكرتيروس"، وهذه اللفظة عند علماء الغراماتيك والنحو يونانيا وعربيا تفيد المبالغة بالصغر، كما أن لفظة "ميغاليتوروس" التي هي أعظم. وهذه المبالغة بالصغر تصدق على المختار من كونه هو الأصغر في كل الأنبياء، إذ إنه آخرهم جميعا وأتباعه، وبأن هذا الأصغر هو الأعظم بالمجد والشرف، وقد علم منه بأنه، أي نبينا، هو الأصغر بالتأخير، وهو الأعظم بالمجد والشرف والكبير في رتبة النبوة.
انتهت الشهادات
هامش
حاشية: اعلم أن قوله من إخوتكم قول ملغوز فائق الحكمة، لأنه لو كان قصد موسى عليه السلام عن أن النبي الذي وعد به هو من بني إسرائيل لكان ينبغى له أن يقول عوضا من إخوتكم، إن منكم يقيم الرب نبيا أو من أسباطكم أو من سلسلتكم أو من نسلكم أو من زرعكم أو من بنيكم أو من مولوديكم، وبحيث إنه قد ترك ذكر هذه السلسلة النازلة لزم أن يكون الحق كما ثمرح المؤلف بتطبيق العلامات والقرائن الدالة عليه من موسى عليه السلام في هذه الشهادة.
حاشية: اعلم أن التغليب المقول من صاحب التأليف قد يراد به عد أصحاب علم البديع بالمثال، على أن اسم نبي قد ورد مقولا في الإنجيل على عيسى مرتين أو ثلاثة، وأما في القرآن الشريف قد ورد مقولا على رسول الله مرات عديدة، وتكثير هذه المرات قد يقال له عند العلماء: التغلب، وهو تكراره في الاستعمال كرات عديدة، النبي النبي النبيى النبي، [وقد تكرر على عيسى في الإنجيل مرتين أو ثلاثة فقط].
حاشية: اعلم أنه بالتبعية لكلام النبوة ينبغي أن يكون تيطس من المقتولين المستأصلين لأنه ما سمع لعيسى فكيف يسوغ أن يقال بأنه هو المستخلص حق عيسى والنائب عنه والمنتصر لدينه.
حاشية: اعلم أن هذه الشهادة مترجمة على موجب أصلها باليوناني مع كون في نصفها ويدمس بشكل هلالين اللذين يدلان على أن الموحود فيما بين الهلالين هو دخيل.
حاشية: اعلم أن لفظة بارقليط إذا ترجمتها للعربي حرفا بحرف بالمطابقة هي الداعي، ومشتقة من دعى يدعو، وهو اسم من أسماء النبي ﷺ
حاشية: اعلم أنه قد أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم إلى أن يلبسوا قوة من العلا بورود الروح القدس عليهم، ولم يقل إنهم يلبسوا بارقليطا أي داعيا.
حاشية: اعلم أن في اللغة اليونانية يوجد فعلان للمستقبل: فعل بعيد وفعل قريب، وهذه اللفظة وجدت مكتوبة في وزن الفعل البعيد، أعني: يشهد لي بمعنى سوف يشهد.
حاشية: ولفظة شاهدون قد يراد بها في اليوناني ليس الفعل الحالي فقط، بل والمستمر.
حاشية: اعلم أن مثال ذلك قد قاله موسى أيضا في تثنية الاشتراع: إن الرب إلهكم سيقيم لكم نبيا مثلي. وقد يفسره النصارى على عيسى الذي جاء بعد موسى بنحو ألف وقريب الستمائة سنة.
حاشية للناسخ: إن الطيب الذي سكبته الامرأة على عيسى كان عطورات، إلا إن ههها ذكر داود أنه (مرّ) أي مسك وهو علامة للنبي.
حاشية: اعلم بأن قول المزمور المأخوذ عن اللغة العبرانية بأن المر الذي هو المسك من أقصى ثيابه، فلفظة أقصى الثياب تشير إلى جسمه الشريف، لأنه لا يوجد في أقصى الثياب إلا الجسم. ونبينا ﷺ قد نقل عنه في حليته الشريفة كان له رائحة عطرية تطبيقا لهذه النبوءة الداودية، ولفظة مسحه هي على موجب اصطلاح اللغة العبرانية في التوراة بأن كل نبي يسمى مسيح الرب، أي أن الله أقامه نبيا.
حاشية: اعلم أن ما من أحد من الانبياء الذين هم من بني إسرائيل رفع علامة للأمم ولا أنذرهم، حتى ولا عيسى، بل محمد المصطفى ﷺ الذي هو وحده رفع للأمم وهو من الأمم، كما تنبأ عليه إشعيا، ومن غلاقة شرح هذه الشهادة قد ترى هذا المعنى صريحا ظاهرا.
حاشية: اعلم أن الخفة وعدم التعب اللذين ذكرهما إشعيا في جيوش النبي ﷺ هما برهانان قويان ظاهران مشيران على الملائكة الذين كانوا يحاربون معه وعنه، كما خبرهم مشاع في القرآن الشريف في سورة الأنفال بألف، وفي سورة آل عمران بخمسة آلاف، لأنهم أي الملائكة ما كان يعتريهم ألم ولا تعب ولا عي، وسريع إتيانم إلى مساعدة رسول الله.
حاشية: اعلم ولتأكيد أنه بالنية لا بالفعل، أن وقت قول سيدنا عيسى (هذا المثل) ما كان قتل على زعمهم، وهو ذكر أنهم أخرجوه خارج الكرم وقتلوه.
حاشية: اعلم أنك إن أردت أن تعرف البينة من كتب النصارى أين وجد مشارا بالتحريف في كتبهم ذاتها، فعليك بمطالعة كتب مورخيهم، وفي رسالة بولس إلى أهل قرينته الإصحاح الثاني والعدد السابع عشر، وفي رسالة بطرس الثانية الجامعة الإصحاح الثالث العدد السادس عشر. ثم إذا أردت أن تعرف أين وجد ذكر أناجيل غير أربعة الموجودة الآن وقد اختفت، فعليك بمراجعة إنجيل لوقا الإصحاح الأول العدد الأول، فإنك تجد المطلوب الذي قاله المؤلف رحمه الله تعالى، عدا الشكوك اللاحقة المحررة في الباب الخامس التي تؤكد ذلك التحريف.
حاشية: اعلم أن معنى الهلاك الذي ذكره عيسى ههنا هو نفس الاستئصال الذي ذكره موسى، إذ إن موسى في الشهادة الأولى قال: كل نفس لا تسمع لذاك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها، أي تهلك. وههنا عيسى قد كشف هذا الهلاك وفي أي زمان بقوله : إذا جاء رب الكرم فإنه يهلكهم.
حاشية: اعلموا أنه قد يتوهم بعض من علماء النصارى ويقولون: إن هذا المجئ هو متعلق بعيسى وإنه سوف يأتي بالقيامة. والحال أن القيامة إذا قامت يكون زمان الأعمال والشريعة قد مضى وانتهى وليس يوجد أعمال وشرائع يؤديها البشر. وهنا عيسى عليه السلام يقول: ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته. فيظهر من قوله هذا أنه يوجد بعد مجئ رب الكرم الذي وعد فيه عيسى زمان فيه أعمال وثمار ترجى من البشر، وهي هذه التي ابتدت من حين ظهور محمد ﷺ الذي نزع الملكوت، وأعطاها لأمته الشريفة حتى يثمروا، كما تنبأ عنهم ههنا عيسى عليه السلام.
حاشية: لاحظ هذه البركة التي لإسماعيل في سفر التكوين في الإصحاح السادس عشر والسابع عشر التي ما أخذت مفعولها إلا في ذات شخص سيدنا محمد ﷺ.
حاشية: اعلم أن البركة المقولة من الله سبحانه في سفر التكوين إلى سيدنا إبراهيم المتعلقة في إسماعيل لم تتحقق إلا في المصطفى ﷺ وسليله، التي صدقت عليه هذه البركة مع كل علايمها وعليك في مراجعتها.
حاشية: اعلم أن بطرس أحد حواريي سيدنا عيسى عليه السلام نظرا لشدة محبته لعيسى عليه السلام سماه حجرا، إذ إن التسمية بالحجر مفردا هي صفة محمودة.
صورة
حاشية: اعلم أن لفظة هذا هو الدليل الآخير المقيد باسم الإشارة في قوله: «وهذا الحجر»، وأنه يطحن ويرضض، يستفاد منه أنه مقول عن شخص آخر غير شخص عيسى القائل الكلام، لأن عيسى عليه السلام لا طحن ولا رض، ولا يجوز عند علماء القراماتيك باليوناني أي علماء النحو والصرف أن يعود اسم الإشارة عليه، لكونه هو المتكلم به، أي أن عيسى هو المتكلم به فلا يجوز أن يعود عليه الضمير، بل إنه ينطبق على شخص غير عيسى لأ عيسى هو المتكلم به، والمشار إليه هو سيد المرسلين ﷺ.
حاشية: اعلم أن لفظة "عماخيم" ولفظة "ألوهيم" في العبراني هما مقولتان بصيغة الجمع وأيضا للتفخيم حينما تطلق على المفرد، ومن القرائن يعلم ذلك، فأما لفظة عماخيم المقولة في هذه الشهادة فمن قرينتها التي هي قوله: "تبعوا رجلا" يستدل على أنها مقولة للفرد على وجه التفخيم، لمحما في العربي أيضا يجوز ذلك. وأما لفظة ألوهيم لا يوجد لها مثال في العربي على الإطلاق، بل هو اصطلاح اللغة العبرانية فقط، وهي معلوم عند اليهود.
حاشية: اعلم أن هذه الشهادة كلما قرئت من النصارى مع ضعف ترجمتها كنت أرى أكثرهم منقسمين الأفكار فيها، ويخط في ذهن أذكيائهم عها بأنها مشيرة على المصطفى المختار، لكون صحابته مشهورين عندهم، وأن عددهم عشرة.
حاشية: اعلم أن لفظة اسم حميد هو من جملة أسماء الله، وفي هذه الجملة على موجب اللغة العبرانية لها محذوف مقدر أي اسمه أحمد.
حاشية: اعلم أن معنى كلام المؤلف أنه وجدت هذه اللفظة أي "يااودي" في هذه الجملة، فلا عادت تقبل إلا الوجه الواحد وهو حميد، وذلك استنادا على القرائن المطابقة عليها.
حاشية في مخطوط آخر: واعلم أن قوله أنها تقبل الوجهين إذا كانت بمفردها أي إنها تقبل أن تترجم ياأودي كمثل باقى الأسماء المفردة تعريب، كما مر من كلام المؤلف كإبراهيم وإسحاق، وتقبل أيضا أن تترجم حميد. ولكن في هذه الجملة المقولة من زكريا من حيث وجود القرائن المتعلقة فيها فما عادت تقبل إلا الوجه الواحد هو حميد.
حاشية: اعلم أيها المطالع لهذه الشهادة الجوهرية الفريدة، أنه وجد في التوراة بخط اليد قديمة التاريخ باللغة السريانية، وبالأصح هى التي كتب النبي زكريا بنبواته فيها لما كان في بابل بالسبي، مكتوبا بصراحة عوضا عن لفظة (يا أودي) الموجودة في اللغة العبرانية التي استخدمها المؤلف رحمه الله ومبدلة بلفظة يهوذا ، ولفعلة يهوذا هي بالعربي أحمد، وهو اسم نبينا العلم الظاهر ، ولايلزم شرح لذلك لأن القرآن الشريف في سورة الصف يقول (واذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد). فلا حاجة بنا لشهود من بعد هذه الشهادة.
حاشية: إن في العبراني هذه الجملة لها محذوف مقدر، وهو لفظة علامة، أي وتكون علامة سيادته على كتفه.
حاشية: إن سلطنة النصرانية ما كانت دليلا على دين عيسى لأنها قامت بعد تاريخ عيسى بأكثر من ثلاثمائة سنة، وأما سلطنة نبينا فقد صارت دليلا كافيا، فقد انشرت بنورها حالا في شخصه السامي فعليا، كما قال عنها إشعيا النبي في هذه الشهادة، وثانيا من عدم مطابقتها على عيسى من حيث أن إشعيا يذكر عن المنبأ عنه بأن له ملك دنيوي وأنه يجلس ويقوم بالعدل والإفضال. فعيسى ما كان له ملك دنيوي، لأنه قال: إن مملكتي ليست من هذا العالم، ولا كان له شريعة عدلية وفضلية معا كما قالت النبوءة. بل محمد ﷺ الذي كانت له هذه الشريعة مع السلطة السامية.
حاشية: اعلم أن انقضاء مملكة سلالة داود كانت قبل مولد عيسى بنحو خمسمائة وثمان وثمانون سنة، واستولت عليها البابليون ثم الرومانيون، وعيسى ما جلس عليها ولا ملك.
حاشية: اعلم أن علماء اليهود يترجمون هذه الجملة خلاف أصلها العبراني الذي شرحه المؤلف عن قاموس اللغة العبرانية وقواعدها، لأنهم يترجمونها أي أحبار اليهود إلى الآن بالعدل وبالإنصاف كونهما من جنس واحد، وإذا سأل أحد ما السبب الذي أحوجكم لدفع لفظة التصدق وبدلتموها بالانصاف، فيجيبون أن العدل لا يواسيه التصدق، أي أن العدل والفضل لا يجتمعان، ولم يدركوا هذا السر الإلهي الذي الله سبحانه وتعالى قد أوحى به إلى إشعياء إذ كان مزمعا أن يضعه في شريعته المحمدية الجامعة للوجهين، أعني الفارضة العدل والمفوضة التصدق كما قال المؤلف رحمه الله.
حاشية: اعلم أن لفظة يشوع هي عبرانية، ولما ترجموها من العبراني إلى اليوناني كتبوها "ايسوس" ولما ترجموها من اليونان إلى العربي عربوها يسرع، وأما حقيقة ترجمتها في العربي هي مخلص، وكثيرون هم الذين يتسمون بها إلى الآن عند اليهود في اللغة العبرية.
حاشية: اعلم أن الإنجيلي لم يشرح لنا كيف أرادوا أن يقيموه ملكا، وكم واحدا من اليهود الذين كانوا يحبون عيسى وأرادوا أن يصيروه ملكا، مع أن كل كبراء اليهود وعظمائهم الذين بيدهم الأمور كانوا يبغضونه، وأما المحبون له فكانوا من العوام. والعجب فيهم أنهم كيف تجرؤا على الحاكم الروماني، ولم يخشوا كبراءهم ورؤساء ديانتهم حاشية في مخطوط آخر: اعلم أن من قول المؤلف الذي شرحه يتحقق أن السلطان الذي ذكره إشعيا هنا إنما تحقق في شخص محمد عليه الصلاة والسلام. وإن اعترض النصارى بأن نبينا محمدا ﷺ ما جلس على كرسي داود وعلى مملكته، كما قيل في غلاقة هذه الشهادة، فنجيبهم أنتم تسحبون هذه الشهادة إلى عيسى وعيسى لم يجلس على كرسي داود، لأنه في زمن عيسى كان هيرودوس جالسا عن طيباروس قيصر. وحيث إنها لا تنطبق العبارة على الاثنين حقيقة، فيلزم أن تطلق مجازا على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه هو الذي قوم مملكة داود، إذ إنه الذي جاء بشريعة العدل والتصدق، وتشهد على صحة إطلاقها عليه القرائن التي تقدم شرحها من المؤلف رحمه الله تعالى في بيان معانيها بالتفصيل.
حاشية: اعلم أن البين الواضح الذي قد يحمل عليه هذا المعن حرفيا الذي هو إشعيا بأن رئاسته على كتفه، وهو أن هذه الرئاسة هي الدلالة التي كانت في منكبه الشريف، التي كانت تشير على رئاسته وتسمى خاتم النبوة، وهي شمامة كبيرة في لحم كتفه مكتوبة وشهيرة. وكما قررنا في حاشية سابقة أن هذه الجملة في العبراني أيضا لها محذوف مقدر وهو لفظة علامة، أعني أن علامة رئاسته تكون على كتفه، وهذه العلامة كانت بالواقع على كتف رسول الله، وقد وصل إلينا خبرها بالتسلسل خلفا عن سلف، بأنه ﷺ كانت له علامة على كتفه كشامة كبيرة مكشوفة واشتداد ذراعه.
حاشية: اعلم أن هذه الظلمة المذكورة في هذه الجملة هي التي ذكرها إشعيا في آخر الشهادة الخامسة، أي قوله: وإذا هي مظلمة ضيقة، وهي في هذا المعنى ذاته.
حاشية: اعلم أن اسم حمار وجمل هما أسماء جنس معناهم حمير وجمال.
حاشية: اعلم أن هاهنا سمى إشعيا مكة باسم مجازي وهو بابل، لأن هناك أيضا تبلبلت الآراء والعقول في أمر نبوة النبي ﷺ، وانقسمت عندما تساقطت أصنامها، كما خبر ذلك هو مشاع في القصة الحلبية وغيرها.
حاشية: اعلم أن دوما هو الولد السادس من الاثني عشر، أولاد سيدنا إسماعيل، وهذا الولد هو الذي عمر هذد البلدة، وقبيلته كانت ساكنة فيها، وهي التي استغاثت وصرخت للنبي: يا حارس، كما أخبر هنا إشعيا . وقوله السابق إن هذا من عند رب الأجناد قد وافقه سيدنا عيسى وأكده بقوله بأن هذا كان من قبل الرب وهو عجيب في أعيننا.
حاشية: اعلم أن هذا القول، أي ارجعوا إلى الله وأقبلوا كان لهج وإنذار النبي الكريم، لأن كذا كانت ألفاظه الشريفة ومضامينه.
حاشية: اعلم أن لفظة التيمن هي لفظة عبرانية ومعناها في العربي القبلة التي قد ظهر منها نبينا الأعظم.
حاشية: اعلم أن قوله من بلد مخيف أي من مكة المشرفة التي كانت مخيفة لقلة تمدن سكانها يومئذ، وقد وجد في التوراة العبرانية عوضا عن قوله "من بلد مخيف" مكتوب "من المدينة المنورة" وقوله: نهب العصاة يجوز إن ذلك القول كان حرفيا أيضا بالفعل وكان لمحاربيه، كما أمر الله قبله يشوع ابن نون وموسى بمثل ذلك بنهب العصاة.
حاشية: اعلم أن هذه الأشكال من المراكيب والمراديف هى وحدها كافية أن تثبت هذه الشهادة على المختار لكون تلك المذكورات هي من خصال العرب.
,حاشية: اعلم أن لفظة يا حارس هي اسم من جملة أسمائه الشريفة وهي مشهورة وموجودة في كتب كثيرة منها دلائل الخيرات، وقد تراها مكتوبة في العبراني الحريص أو الحافظ.
حاشية: اعلم أن بعضا من النصارى يتوهمون أن فاران هي بقرب جبل سيناء، والحال لو أنها كانت هذه فاران المشار إليها من موسى، لكان يلزم أن يذكرها في هذه الشهادة قبل ساعير، وقد تراه أنه ذكرها بعد ساعير خلاف واقعهما، وأيضا إن فاران التي وجودها بقرب سيناء هي برية كما أفاده عنها التوراة، وههنا موسى عليه السلام يذكر جبلا بقوله: من جبل فاران. والقاعدة في ذلك أن تلك البرية دعيت فاران لسبب أنها ظليلة في الأشجار الهيشية، والجبل الذي هو بمكة سماه موسى ههنا فاران لكونه مجوفا مغورا. ولفظة فاران هي عبرانية تقبل الوجهين عدا غيرهما، أي أنها تترجم مجوف مغور وتترجم أيضا ظليل. فإذا كانت قرائنها في كتاب التوراة مذكورة برية يلزم أن تفهم أنها ظليلة، وإن كان لفظة فاران قرائنها جبلا فينبغي لنا أن نفهم بأنها جبل مجوف مغور. فههنا في قول موسى: إنه يستعلن من جبل فاران، فعلم أن هذا هو جبل فاران، الذي فيه المغارة، الذي هو بقرب مكة المشرفة، وفيها كان ﷺ يختلي. وهذا الجبل هو في القبلة أيضا، كما شرح عنه المؤلف عن موسى وحبقوق، وبالاختصار إن لفظة جبل فاران هي بالعربي جبل غار، وهو اسم شهير ومعلوم لجبل مكة المشرفة، وإن قلت: إنه مشتق من فاران وهو بالعربي أيضا المتزين منطبق عليه هذا الاسم أيضا من كونه متزينا في وجود بيت الله، الذي يشرحه المؤلف بعد ذلك.
حاشية: اعلم أن هذه الشهادة التي هي العاشرة هي مترجمة من اللغة العبرانية خالية من الزغل وعليك بمقابلها.
حاشية: اعلم أن في هاتين الشهادتين المارتين أعني التاسعة والعاشرة قد ذكر فيها موسى وحبقوق اسم جبل فاران، والمؤلف رحمه الله ترجم لفظة فاران من القاموس العبراني بثلاثة معان: الظليل والمغور والمتزين، وهذه الثلاثة معاني قد انطبقت على جبل مكة بموجب القرائن.
==============
الباب الخامس: التناقضات في التوراة والإنجيل الدالة على تحريفهما
في الشكوك الناتجة من القضايا المتناقضة والقصور الحاصل من ركاكة الجمل الغير مرتبطة، الموجودة في كتب العهدين، المفيدة بأن التوراة والإنجيل مزوران، وذلك بأصرح عبارة وأجلى بيان.
الشك الأول
متى الإنجيلي في الإصحاح الأول يقول: «إن يورام أولد عوزيا» ويناقضه سفر الأيام الأول في التوراة في الإصحاح الثالث حيث يقول إن: «ابن يورام أخزياهو وابن أخزياهو يواش وابن يواش امصيا وابن امصيا عوزيا». 1
شرح صورة التناقض
إن الفرق ههنا يظهر أن متى قد نقص ثلاثة ملوك من هذه السلسلة عن سفر الأيام الأول، وهم: أخزياهو ويواش وامصيا. لأن متى ذكر أن يورام ولد عزيا، والحال أن في سفر الأيام الأول يذكر خلاف ذلك، وهو أن عوزيا هو ابن امصيا وليس هو ابنا ليورام كما ذكره متى، بل إن يورام هو جد جد عوزيا.
وإن قيل في حل هذا الشك الذي هو الشك الأول: إنه مكتوب في سفر أستير، التي كان أخذها ابن عمها مردخاي من بعد موت أبيها ورباها وصارت كابنة له، وعلى هذا المنوال صار عوزيا ابنا ليورام.
فأقول: نعم إن أستير صارت بحسب التربية كابنة لمردخاي، ولكن هنا عوزيا لم يذكر عنه أن يورام رباه حتى إنه كان يدعى ابنا ليورام، لأن يورام كان قد مات قبل ثلاثة أجيال من ولادة عوزيا. ث م أستير لم يقل عنها إن مردخاي ولدها كما قال ههنا متى: إن يورام ولد عوزيا، بل قال: إن أستير قد صارت كابنة لمردخاي.
وأيضا أقول: إن متى ثنى بتأكيد سلسلته إذ قال: «إن من داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلا»، فيظهر أن كلامه مرتبا محددا، يريد به أن يورام ولد عوزيا بالفعل، وليس عنده علم بنقص ثلاثة أنفار من سلسلته، الذين لو حسبهم متى كان ينبغي أن يكون عدد الأجيال من داود إلى سبي بابل سبعة عشر جيلا.
وإن قيل: إن متى قد ترك هؤلاء الثلاثة أنفار من سلسلته من أجل أنهم خطاة.
فأجيب: وعساه أن يترك الكثير من السلسلة، لأنه يوجد من هو أكثر خطأ منهم بكثير، مع أنه لم يكن قصده أن يعد الصالحين فقط، بل أراد ذكر سلسلة ولادتهم، سواء كانوا صالحين أم طالحين، بحيث إنه ذكر أشقى منهم بكثير. فمن هذه الأدلة الأربعة يثبت النقص والتزوير في إنجيل متى.
وإن قيل: إن كتاب التوراة قد جرت فيه العادة مثل هذا النقص كما ورد في الشك التاسع والعشرين عن سلسلة هارون.
فأجيب: إن كان متى يقتفي آثار التوراة التي كتب فيها سلسلة هارون بالنقص ويستند على العادة، فالنقص المكتوب في التوراة على من تسند عادته.
وأيضا أقول: إن الابن إذا ثبت عليه عمل فاسد أخذه عن أبيه فلا يخلصه الاعتذار بأن يقول: هذا العمل هو عادة أخذتها عن أبي، بل إن الحق يعطى للخصم، وإن يخطأ الاثنان كلاهما معا.
الشك الثاني
في إنجيل متى في الإصحاح الأول يقول: «إن يوشيا ولد يوخانيا، ويوخانيا ولد شألتئيل، وشألتئيل ولد زروبابل، وزروبابل ولد أبيهود». ويناقضه سفر الأيام الأول في الإصحاح المالث إذ إنه يسحب هذه السلسلة مخالفا لمتى، لأنه يقول: إن يوشيا ولد يهواقيم، ويهواقيم ولد يوخانيا، ويوخانيا ولد شألتئيل وأخاه فدايا، وفدايا ولد زروبابل، وزروبابل ولد سبعة أولاد وهم: مشولاهم وحنانيا واحشديا وأوهيل وبارخيا وحسديا ويوشحشد واشموميت أختهم. 2
إن زروبايل ولد سبعة أولاد ذكور وابنة، ولا ترى واحدا منهم اسمه أبيهود كما ذكر متى.
صورة التناقض
أقول إن ههنا ثلاث مشاكل:
أولا: إن متى يقول إن يوشيا ولد يوخانيا. وفي سفر الأيام الأول يقول إن يوشيا ولد يهواقيم، ويهواقيم هو الذي ولد يوخانيا، فيكون يوخانيا ابن ابن يوشيا، وليس هو ابن يوشيا كما في سلسلة متى.
ثانيا: إن متى يقول إن يوخانيا ولد شألتئيل، وشألتئيل ولد زروبابل، وفي سفر الأيام الأول قال ضد ذلك: إن يوخانيا ولد شألتئيل وأخاه فدايا، وفدايا هو الذي ولد زروبابل. فيكون شألتئيل عم زروبابل أخا أبيه، وليس هو أباه كما غلط متى.
وإن قيل: إن سفر عزرا ونحميا ذكرا أن زروبابل هو ابن شألتئيل كما ذكره متى.
فنقول: إن الفرق صار فيما بين نحميا وعزرا وبين سفر الأيام الأول.
ثالثا: إن متى ذكر أن زروبابل ولد أبيهود، وفي سفر الأيام الأول قال عكس ذلك: إن أولاد زروبابل كانوا بالعدد سبعة وابنة اسمها اشمونيت. انظرهم مسطرين في السلسلة المشروحة تجاهك لا ترى واحدا مهم اسمه أبيهود، بل إن أسماءهم متباعدة عما كتبهم متى الإنجيلي، عدا أن باقي هذه السلسلة من زروبابل إلى عدد ستة أسماء تتهي بهم سلسلة التوراة المدونة في سفر الأيام الأول جميعهم متغيرون في إنجيل متى لأن متى كتب أن «زروبابل ولد أبيهود، وأبيهود ولد ألياقيم، وألياقيم ولد عازر، وعازر ولد صادوق، وصادوق ولد آخين». وأما في التوراة في سفر الأيام الأول فيعدد أناسا خلافا للذين عدهم متى، وهم: زروبابل ولد حنانيا، وحنانيا ولد شيخينا، وشيخينا ولد تعريا، وتعريا ولد اليوعينا، واليوعينا ولد يوحانان.
ويظهر من هذه الاختلافات والتحريفات واحد من ثلاثة وجوه: إما أن متى الإنجيلي جاهل لايعرف هذه السلسلة، أو أن قلما آخر غريبا زور عليه، أو أن التوراة مزورة والله أعلم.
الشك الثالث
في الابركسيس في الإصحاح السابح ذكر أن إبراهيم عليه السلام كان قد اشترى المغارة من بني حمور بن شخيم، وأما في سفر التكوين في الإصحاح الثالث والعشرين فيقول خلاف ذلك، وهو أن إبراهيم اشترى المغارة من عفرون بن صاحر من بني حث في حبرون.
صورة التناقض
يظهر لنا من هذا اختلاف:
أولا: اسم ومكان المغارة.
وثانيا: تغير أسماء البائعين لها والمشتري هو واحد، لأن في الابركسيس يذكر أن إبراهيم اشترى المغارة من بني حمور بن شخيم، والبلد باسمه، أعني شخيم. وفي سفر التكوين قال: إن إبراهيم اشترى المغارة من عفرون بن صاحر من بني حث.
فمن هذين القولين يتبين لنا التناقض عيانا، بحيث إنه قد تغير فيهما مكان المغارة وتغير أيضا أسماء البائعين لها.
فعلى العالم النحرير أن يحدد باختيار وإرادة حرة مكان التزوير إن كان يريد أن يحدده: التوراة القائلة عن البائع إنه كان من عفرون بن صاحر، أو أن يحدده في لوقا الإنجيلي كاتب الابركسيس والقائل فيه بأن البائع كان من بني حمور بن شخيم. فعلى كل حال التحريف واقع.
الشك الرابع
في إنجيل لوقا أيضا كتب في الإصحاح الثالث أن شالح بن قينان ابن أرفخشد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشالح بن اخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان، بن انوش، وأما في سفر التكوين في الإصحاح الخامس والعاشر فأنقص من ذلك قينان واحد، إذ قال فيه: إن آنوش ولد قينان وأرفخشد ولد شالح. 3
صورة التناقض
إن التوراة العبرانية الموجودة عند اليهود تضاد إنجيل لوقا، لأن لوقا في إنجيله قينانين اثنين: الواحد ابن أرفخشد، والآخر ابن آنوش.
وأما التوراة العبرانية فنقول قيان واحد، وهو ابن آنوش، ولم تذكر قينان الآخر الذي هو ابن أرفخشد، بل تذكر أن ابن ارفخشد هو شالح وهذا هو التزوير الظاهر. 4
الشك الخامس
في التوراة العبرانية الموجودة عند اليهود في الإصحاح الخامس من سفر التكوين ذكر أن: شيث لما كان عمره مائة وخمس سنين ولد انوش، وأما في التوراة اليونانية السبعينية فيقال ضد ذلك: إن شيث كان عمره مائتين وخمس سنين ولد انوش.
صورة التناقض
إن التوراة العبرانية أنقصت مائة سنة من عمر شيث عن التوراة اليونانية السبعينية، وهذه التوراة العبرانية التي هي الأصل والمستعملة عند اليهود مقبولة عند الكنائس الغربية أيضا، كما سبق القول وليش سواها، وأما التوراة السبعينية فهي المقبولة عند طائفة الروم الملكية وليس سواها، ومن جراء ذلك لا نعلم أيما هي التوراة الكاملة أو الناقصة المزورة، وتبع ذلك الفرق وهو نقص السنين وزيادتها من عمر شيث إلى عمر سيدنا نوح، أي نقص أعمار الأشخاص مع نقص عمر قينان الزائد الذي ذكرناه سابقا فرق بين التوراتين، هو ألف وأربعمائة سنة وسبع وخمسون سنة. 5
وهذا النقص والتزوير فيما بين التوراتين لايلزمه إثبات، لكونه مشهورا عندهم بالتاريخ الذي لأبينا آدم عليه السلام، لأنك إذا سألتهم: كم التاريخ الذي من أبينا آدم إل سيدنا عيسى عليهما السلام؟ فالروم تقول: خمسة آلاف وخمسمائة وثمان سنوات، والكنائس الغربية الإنجيلية تقول: أربعة آلاف وواحد وخمسون سنة، فيكون الفرق كما حررنا أعلاه قبله: ألفا وأربعمائة وسبعة وخمسين سنة لا غير، وهذا تزوير ظاهر. 6
الشك السادس
في إنجيل لوقا في اللغة اللاتينية في الإصحاح العاشر يذكر أن من بعد ذلك رسم الرب اثنين وسبعين تلميذا، وأما في النسخة اليونانية فيذكرأنه رسم شبعين.
صورة التناقض
إن حواريي سيدنا عيسى غير الاثني عشر في أناجيل الغرب في اللغات الموجودة فيها: أن عددهم اثنان وسبعون تلميذا. وأما في كنائس اليونان فموجود في إنجيلهم بأن عددهم سبعون، وهذا تناقض ظاهر، إذ أن أناسا من النصارى تعتقد بأن النسخة اليونانية هي الصادقة وأن عدد الحواريين سبعون، وأناسا يعتقدون بخلافهم بأن النسخة اللاتينية هي أصدق وأنهم اثنان وسبعون. فلا يخلو صدق الواحدة من بطلان الأخرى، وهذا هو المطلوب لبيان التزوير.
الشك السابع
في إنجيل مرقص في الإصحاح الخامس عشر قال عن موت المسيح على زعمهم: إنه كان نهار الجمعة بعد الساعة التاسعة بقوله: «وفأما يسوع فصرخ بصوت عظيم وأسلم الروح، ولما كانت الجمعة التي قبل السبت».
وأما لوقا في الإصحاح الرابع والعشرين فيذكر عنه قيامته فيقول: «وفي أحد السبوت باكرا جدا أتين إلى القبر فلم يجدن جسد يسوع».
فأما متى في الإصحاح الثاني عشر فيقول عن كلام عيسى إنه قال: «كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، يكون ابن البشر في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال».
صورة التناقض
إن ههنا حصل التناقض في الزمان بحيث إن معنى كلام مرقص والإنجيليين الآخرين أن عيسى مات نهار الجمعة بعد الساعة التاسعة، ويوافق على ذلك أيضا لوقا معهم عن قيامته وأنها كانت نهار الأحد باكرا جدا، فتكون إقامته في القبر ساعة واحدة من آخر نهار الجمعة، وليل السبت ونهاره، أربعا وعشرين ساعة، وليل الأحد إلا جزءا لحين الغلس، فلنفرضها إحدى عشرة ساعة. فتكون جملة الساعات التي مكث فيها بالقبر ستا وثلاثين ساعة.
ومتى الإنجيلي قال عن عيسى إنه قال إنه يكون في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال جمعها اثنتان وسبعون ساعة، فهذا هو الفرق الأول الواقع فيما بين ست وثلاثين ساعة وبين اثتين وسبعين ساعة.
والفرق الثاني هو مخالفته في ثلاثة أيام وثلاث ليال، لأن بقاءه في الأرض لو حسبنا الساعة من آخر نهار الجمعة سميناها يوما بلا ليلة، وليلة السبت ونهاره سميناه يوما كاملا، وليل الأحد الناقص سميناه ليلة بغير نهار، فتكون الجملة يوما واحدا كاملا، ونهارا وليلة ناقصين. فمن أين يكمل قوله: ثلاثة أيام وثلاث ليال؟
وإن قيل في حل هذا الشك (الذي هو الشك السابع): إن الظلمة التي ذكرها مرقص الإنجيلي التي كانت نهار الجمعة من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة قد تحسب ليلة ونهارها يسبقها.
فأجيب: إنه في وقت الظلمة لم يكن المسيح مات بعد ولا قبر في بطن الأرض على زعمكم، ومع ذلك أننا إذا حسبنا الظلمة بالتقدير المحال فلا تكفي لتكميل الحساب المطلوب.
وإن قيل أيضا إنه من حين أعطي جسده لتلاميذه مساء الخميس وأكلوه يمسك الحساب على رأي الذهبي مفسر الإنجيل، ويعتبر بالجواب أنه دفن في بطونهم بواسطة الخبز مجازا.
فأجيب: إن هذا الجواب هو أعقم من الذي قبله، لأن الذي دفن في بطونهم بوامعلة الخبز لم يقم في اليوم الثالث كما قال إنه في اليوم الثالث يقوم فعلا، ولا كان تألم فعلا ولا دفن حقيقة على زعمكم، كما قال إنه قبل دفنه يتألم فعلا.
وثانيا: إن رأيكم هذا يجوز لو كان لم يتألم فعلا ولم يدفن حقيقة على زعمكم الباطل في بطن الأرض، وكان يمكن أن يقبل تفسيركم بأنه دفن في بطون التلاميذ مجازا، معبرا عن ذلك بأكل الخبز والخمر، ولكن حيث دفن جسده حقيقة في بطن الأرض، فلا محل للمجاز مطلقا، وهذا تزوير. ويدل على أنه ما مات بل شبه لهم كما أخبرت الآية الشريفة. 7
الشك الثامن
في إنجيل متى ذكر عن عيسى في الإصحاح العاشر أنه قال: «لا تملكوا فضة ولا ذهبا ولا نحاسا في مناطقكم، ولا هميانا في الطريق، ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا».
وأما مرقص في الإصحاح السادس فيقول ضد ذلك، فقد أمرهم يسوع أن لا يأخذوا شيئا في الطريق غير عصا فقط لا خرجا ولا نحاسا في مناطقكم إلا نعالا». 8
صورة التناقض
إن متى كتب كل الوصايا التي ذكرناها بالسلب بقوله: «لا تملكوا ذهبأ ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم ولا أحذية ولا عصا»، وأما مرقص فيقول مثلما قال متى بالسلب لكن ليس كل الوصايا، بل إنه استثنى الأحذية والعصا، مضادا لمتى لأنه يقول: غير عصا إلا نعالا، يعني أنهم يأخذون أحذية وعصا وذلك خلافا لمتى كما قلنا. وهذا تناقض ظاهر.
الشك التاسع
في إنجيل يوحنا في الإصحاح الثاني كتب أنه «في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل»، أي هيكل سليمان.
وأما في سفر الملوك في الإصحاح السادس قال ضد ذلك وهو: «فمن هذا كمال البيت في جميع أموره وزينته وبناه في سبع سنين».
صورة النقض بالزمان
في إنجيل يوحنا في الإصحاح الثاني قال: إن عمارة الهيكل كانت في ست وأربعين سنة إلى انتهائها» وفي سفر الملوك ينقض هذا القول بأن كمال البيت كان في سبع سنين، فهذا مع أنه تناقض إلا أن الفرق بين السبعة والست والأربعين كبير.
وإن قيل في حل هذا الشك: إن مقصد يوحنا في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل من حيث إنه بعد عمارته الأولى التي ذكر عنها في سفر الملوك الثالث: إنها تمت في سبع منوات، ثم عاد انهدم وعمر مرة أخرى أيضا. فلربما تكون جملة السنين الأولى والثانية في كلام يوحنا ستا وأربعين سنة.
فأجيب: كلا، لأنه في سفر عزرا كتب أن ابتداء تعميره الثاني، الذي حصل بعد الانهدام كان في السنة الثانية من ملك داريوس، ولما انتهى زمان العمارة كان في الستة السادمة من ملكه، فتكون العمارة الثانية تمت في أربع سنوات. فإذا أضفنا هذه الأربع سنوات إلى السبع التي عمر بها سليمان البيت، فتكون إحدى عشرة سنة، فلا تكمل الست وأربعين سنة المذكورة في يوحنا.
وإذا قيل: إن قبل داريوس ابتدأ اليهود في وضع الأساس، وذلك في زمان قورش ومُنعوا كما ذكر عزرا، وبعده في زمان داريوس أكملوه، فلربما تكون هذه المدة لما قاله يوحنا.
فأجيب: إنه إذا حسبنا من حين وضع الأساس بأمر قورش إلى حين بدء تعميره ثانية في السنة الثانية من ملك داريوس لا تجمع جملة المطلوب، لأن جملة هذه المدة تجمع أربع عشرة سنة كما ذكر في سفر عزرا، ومدة تعميره الثاني أربع سنين التي أولها كان السنة الثانية من ملك داريوس، وانتهى في السنة السادسة من ملكه كما ذكرنا. فإذا أضفنا السبع سنين الأخرى التي عمّره فيها سليمان، فيكون الفرق الباقي المظهر للتناقض والتزوير إحدى وعشرين سنة.
وهذا المعدل فيه الكفاية عد أرباب علم الحساب وذوي العقول السليمة أن يدركوا أنه تناقض بالحقيقة، إذ إنه في سبع سنين تمت عمارته الأولى، وأربع سنوات أخرى التي تم بها عمارته الثانية، وأربع عشرة سنة فاصل فيما بين وضع الأساس وبين البناء، وإن فرضنا هذه الأربع عشرة سنة تقدير محال، فتكون الجملة خمسا وعشرين سنة، فلنخرجها من أصل الست والأربعين التي ذكرها يوحنا، فيكون الفرق إحدى وعشرين سنة. ومنها يظهر ظاهرا التناقض والتزوير.
الشك العاشر
في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الرابع والعشرين قالوا: «لا تُقتل الآباء عوض البنين ولا البنون عوض الآباء». وأما في سفر الخروج في الإصحاح العشرين فقال ضد ذلك وهو قوله: «اجتزي ذنوب الآباء من الأبناء إلى ثلاثة وأربعة أجيال».
صورة التناقض
هذا الاشكال مع كونه تناقض ظاهر، إلا أنه ظلم محض، إذ إنه في موضع قال: إنه يقتص من الشخص البرئ عن غيره، وهو الظلم الذي ذكرناه، وفي موضع آخر يناقض كلامه السابق: بأن لا يقتص من البنين عوض آبائهم.
ومثله يوجد تناقض آخر في إرميا في الإصحاح الحادي والثلاثين: «ولكن كل واحد يموت بإثمه»، ويقول هو نفسه في الإصحاح الثاني والثلاثين: «وتروا إثم الآباء على حضن أبنائهم».
فأولا: إن هذين النصين عدا أنهما متنافران، إلا أن أحدهما، أعني قصاص شخص غير مذنب عن شخص آخر مذنب، مباين للعدل مباينة كلية.
وثانيا: يؤكد إجراء هذه الشريعة الظالمة بوجه أبلغ بولص بقوله إلى أهل رومية: «وكما أن بذنب إنسان واحد صار إلى جميع الناس الشجب»، يعني أن البشر كلهم بقوا تحت الخطيئة التي لآدم، 9 فكيف يقبل العقل البشري مثل هذا الظلم القسري، ويسلم بمثل هذا التناقض؟ إذا إن هذا الشك مع أنه ظلم محض فهو تناقض.
الشك الحادي عشرفي سفر الأيام الثاني في الإصحاح الحادي والعشرين ذكر أن يورام لما كان عمره اثنتين وثلاثين سنة نصبوه ملكا وقد تملك ثمان سنين ومات، وأقيم بعده ابنه أخزياهو عوضه، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وملك سنة واحدة.
صورة التناقض
إن ههنا أخبرت التوراة أن يورام لما كان عمره أربعين سنة مات، وملك ابنه أخزياهو عوضه وكان عمره اثتين وأربعين سنة، فكأن أخزياهو قد خلق قبل أبيه بسنتين، وما أدري كيف أن الابن يخلق قبل الأب بسنتين، وهذا لا يتكلم به عاقل.
وإن قيل في حله: بأن في سفر الملوك الرابع مذكورة هذه القصة وفيها أنه لما مات يورام كان ابن أربعين سنة، فجعلوا ابنه أخزياهو عوضه، وكان عمره اثتين وعشرين سنة، وهذا هو الحق.
فأجيب: نعم، ولكن هذا الجواب لا ينفي التحريف بل يؤكده، بحيث قد بقي الفرق فيما بين سفر الآيام الثاني وبين سفر الملوك الرابع. وهذا هو المطلوب لبيان التحريف، لأن في التوراة اليونانية أيضا مذكورا في السفرين، بأن أخزياهو كان ابن اثنتين وعشرين سنة لما ملك.
الشك الثاني عشر
في الإصحاح العشرين في سفر الخروج قال «وإن عملت لي مذبحا من حجارة فلا تبنه لي من حجارة يصيبها الحديد، لأن ما أصابه الحديد يتنجس».
صورة الركاكة
إن هذا القول نسبوه لله تعال، وحاشاه من أن يتكلم بمثل هذا الكلام الذي لا يقبله العقل، لأن من يقول: إن المذبح اذي يعمل لا يكون من حجارة معمولة بالحديد، لأن ماأصابه الحديد يتنجس، أما ينظر إلى الذبائح على المذبح ذاته كيف يذبح بالحديد، وأعمال البشر جميعها من القبة والألواح المنحوتة وبناء الهيكل وعمل الأواني، أما يفطن إليها كلها مصنوعة من البشر بواسطة الحديد! وما ورد لها تطهير في الشريعة، فلا يخلو إما أن يكون البشر وأعمالهم، والقبة وأوانيها، والهيكل والذبائح، كلها تنجست بواسطة الحديد، أو أن الآية فيها تزوير على الله. 10
الشك الثالث عشر
في إنجيل متى في الإصحاح التاسع يقال للأعميين اللذين شفاهما المسيح، «فانفتحت أعنينهما فانتهرهما يسوع قائلا: لا يعلم أحد».
الشك الرابع عشر
في إنجيل مرقس في الإصحاح الثامن قال للأعمى الذي شفاه وأرسله إلى بيته قائلا: «اذهب إل بيتك، وإن دخلت القرية فلا تقل لأحد».
الشك الخامس عشر
في مرقص في الإصحاح الخامس قال: «إن المسيح لما أقام الميتة أمرهم كثيرا بأن لايعلم أحد».
الشك السادس عشر
في إنجيل مرقس في الإصحاح السابع يقول عن شفاء الأخرس والأطرش «وللوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم حسنا، وأوصاهم ألا يقولوا لأحد شيئا، فأما هم بقدر ما كان يأمرهم بقدر ما كانوا يزدادون مكررين».
صورة التحريف
إن المقول في هذا الشك والمقول في الثلاثة شكوك السابقة بمعنى واحد، إذ أنها محتوية على الركاكة، لأنه كيف يمكن للأعميين أن يخفيا أعينهما لكي لا يعلم أحد؟ وكيف الميتة التي أقامها بين أنفار كثيرين أن ينكتم أمرها؟ أو الأخرس والأطرش الذي صار له سنوات قد نظروه صار يسمع ويتكلم، وذاك الأعمى الوحيد كيف يجوز العقل أن يخفى أمرهم؟ فالموصي في إخفاء مثل ذلك هو غير مدرك أن وصيته ممتنع أن تأخذ مفعولها، وهذه الركاكة الكلية حاشا سيدنا عيسى منها، ومن أن يتكلم في مثل هذه الوصايا، التي لايمكن أن تجري. 11
الشك السابع عشر
في إنجيل لوقا في الإصحاح الثاني عشر قال بعد قوله: «لا تهتموا بأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون، بأن من منكم إذا هم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدا، فإن كنتم لا تستطيعون ولا ما هو صغير فكيف تهتمون بالبواقي».
صورة الركاكة
إن معناه ههنا: لا تهتم بالغد ماذا تأكل أو ماذا تلبس، وضرب مثلا بأنه إن كنتم لا تقدرون أن تزيدوا على قامتكم ذراعا واحدا فكيف تهتمون بالبواقي. فكأنه يقول: إن الحصول على مؤونة الغد شاق وصعب، أما التطويل للقامة فهو ممكن الحصول.
والحال أن الأمر بالعكس، لأن الاهتمام بالغد يقع مع الأكثر ويفعلونه، وأما التطويل للقامة ما وجد على الإطلاق، ولا قدر على فعله إنسان.
فكيف عيسى عليه السلام يصعب المكن صنعه، ويجعل الهين المصنوع ممتنعا 12 والمستحيل الغير ممكن صنعه يجعله هينا، فهذا الأمر لا يتصوره عاقل.
والذي يؤكد تزوير هذا المثال شرح صورته الصحيحة في إنجيل متى الإصحاح الممادس، حيث ذكره بدون الجملة المزورة التي هي «فإن كنتم لا تقدرون ولا ما هو صغير كيف تهتمون بالبواقي».
الشك الثامن عشر
في الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا يقول عيسى لليهود «قد كتب في ناموسكم أن شهادة رجلين حق هي، فأنا أشهد نفسي وأبي الذي أرسلني يشهد لي».
صورة الركاكة
فأقول حاشا سيدنا عيسى أن يذكر مثل هذا الكلام السخيف، لأنه هو المدعي وهو الشاهد لنفسه، كأنه غير عارف معنى الشريعة التي ذكرها أن المدعي يقتضي أن يستشهد اثنين خلاف شخصه، فالمسيح كيف يقول عن ذاته: إنه هو يشهد لنفسه، وأبوه هو الشاهد الثاني، الكلام الذي هو مضاد للعقل، ومضاد أيضا لنقله، الذي هو استند عليه بقوله «كتب في ناموسكم أن شهادة رجلين حق»، مع أنه كان يكفي عن قوله «كتب في ناموسكم أن شهادة رجلين حق» أن يقول أبي يشهد لي فقط، فالمؤمن يصدق وغير المؤمن لا يصدق، ففي الوجهين أولى من ورود هذه الدعوى التي يظهر أنها مزورة عليه وهو بريء منها، لكونه له معرفة تامة بالشريعة.
الشك التاسع عشر
في الإصحاح السابع والعشرين من إنجيل متى قال: «حينذ تم ما قيل في إرميا النبي وأخذوا الثلاثين الفضة ثمن المثمن الذي أثمنه بنو إسرائيل وجعلوها في حقل الفخار كما أمرني الرب».
صورة التزوير
هذه الشهادة التي ذكرها، وأنها من نبوة إرميا ليس لها وجود في نبوة إرميا، بل هي موجودة في نبوة زكريا في الإصحاح الحادي عشر.
فالحاكم العاقل له أن يحكم في أحد ثلاثة وجوه:
إما بعدم معرفة متى الإنجيلي وأنه ما أدرك إن كان إرميا كتبها أو زكريا، أو بتحريف هذه الشهادة في إنجيله، وإما أن قلما آخر غيّر موضعها في التوراة.
الشك العشرون
في إنجيل يوحنا في الإصحاح التاسع يقول: «بينما يسوع كان مجتازا رأى رجلا أعمى مولودا فسأله تلاميذه قائلين: من أخطأ أهذا أم أبواه حتى أنه ولد أعمى؟ أجاب يسوع وقال: لا هذا أخطأ ولا أبواه، ولكن لتظهر أعمال الله فيه».
صورة التحريف
إن هذا الرجل الذي ولد وهو أعمى: متى أخطأ حتى أنهم سألوا سيدنا عيسى: من أخطأ أهذا أم أبواه حتى أنه ولد أعمى؟ فلابد أن يظهر من سؤالهم هذا أنه كان في الايا قبل هذه المرة ومات، وقد بقي عليه خطايا كما تزعم اليهود إلى الآن، ولما رجع إلى الدنيا ثانية، أعني في زمان عيسى، اقتص منه بالعمى في جوف أمه عن خطئه السابق قبل موته الأول.
وهذا المعنى الوارد منهم، أعني أن الانسان يوجد في العالم ويموت ثم بعده يرجع ويعيش، لا يخلو إما أن يكون عيسى قد سلم به واستصوبه، بحيث أنه لم ينقضه عليهم ويقول لهم: أيا جهال متى أخطأ هذا؟ أقبل ولادته؟ وإما أنه ما فهم منهم قوة معنى كلامهم ولا أدرك قوة مصادقة كلامه الذي أورده لجواب كلامهم أي قوله: لا هذا المخطئ ولا أبواه. وعلى الحالتين الركاكة والقصور في الاعتقاد موجودان.
الشك الحادي والعشرونفي سفر التكوين في الإصحاح التاسع يقول: فلما نظر حام أبو كنعان عرية أبيه أنها منكشفة أخبر إخوته خارجا، فلما استيقظ نوح من الخمر وعلم ماعمل به ابنه الأصغر فقال: ملعون كنعان بن حام ويكون عبدا لعبيد إخوته.
صورة ظلم كنعان
إن حاما أبا كنعان هو الذي نظر عرية أبيه نوحا، وأما اللعنة من نوح فكانت على كنعان بن حام، عوضا عن أن تكون على حام الذي نظر عرية أبيه، وهذا الوجه ظلم لا مناص منه مطلقا بحيث إنه حسب تقرير التوراة أن حام هو الذي أخطأ واللعنة صارت على ابنه كنعان. 13
الشك الثاني والعشرون
في إنجيل متى في الإصحاح السادس عشر العدد الحادي والعشرين قال: «وبدأ من ذلك الزمان يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يمضي إلى أورشليم ويقبل آلاما كثيرة من المشيخة والكتبة ورؤساء الكهنة ويقتل ثم يقوم في اليوم الثالث، فاتخذه بطرس وبدأ ينهاه قائلا: حاشاك يا رب أن يكون لك هذا، فالتفت يسوع وقال لبطرس: اذهب خلفي يا شيطان لأنك أنت لي شك لأنك لا تفكر فيما لله بل فيما للناس».
صورة ظلم بطرس
فأقول: إنه إذا كان سيدنا عيسى يعلم بأن من قال لأخيه يا أحمق وجبت عليه نار جهنم، فكيف يجعل من يستعطفه شيطانا، الذي قال له: «حاشاك يا رب» - وبالحق حاشاه - كان الجواب له: اذهب خلفي يا شيطان. ففي تلك المشاكل السابقة كنا ننظر قصاصا بليغا على خطايا جزئية، وقلنا إنها ظلم بلا شك، فهذا الذم الوارد على من يستعطف المسيح، مع أنه لا يليق إذلاله، والحط من شأنه، وتوجيه اللوم إليه، مع أنه خال من كل وجه من وجوه الخطأ، ويقال له من نبي مثل هذا: «ياشيطان»، فماذا يحكم العقل فيه؟ أليس تزويرا كما الحكاية كلها؟
والدليل على أنه تزوير هو من الجملة التي كتبها لوقا في الإصحاح التاسع في هذا المعنى فقط، الخالية من قوله: اذهب خلفي يا شيطان. 14
وإن قيل إن أفكار بطرس كانت منصرفة إلى روح العالم، وليست هي متعلقة بالله، لأن يسوع عليه السلام قال له إنك يا بطرس لا تفكر فيما لله بل فيما للناس.
فأجيب: إن هذه الجملة اللاحقة التي هي قوله «لا تفكر فيما لله» يظهر أنها محرفة أيضا، لأن كلام بطرس السابق يدل لي على أن أفكاره متعلقة بالله سبحانه وتعالى، وتراه فكر تفكيرا صائبا، وهو أن الله لا يليق بأحكامه أن يترك رجلا حاويا مثل هذه المناقب الحميدة والأفعال الصالحة يأخذه اليهود ويهينونه ويقتلونه ظلما وجورا.
فهذا الفكر الذي هو: أن الله ليس بظالم، هو الظاهر معناه من مضمون كلام بطرس، وليس فكرا متعلقا فيما للناس، كما ظنه بعض المفسرين من النصارى، بل هو فكر متعلق فيما لله سبحانه وتعالى.
الشك الثالث والعشرون
في إنجيل مرقص في الإصحاح الحادي عشر يقول: «ونظر يسوع إلى تينة من بعيد ذات ورق فجاء إليها لعله يجد فيها شيئا، فلما جاء إليها لم يجد إلا ورقا فقط لأنه لم يكن زمان التين، فقال: لا يأكل أحد منك ثمرا إلى الأبد. ولما جازوا في الغد فرأوا التية يابسة من أصلها، فتقدم بطرس وقال: يا معلم ها التينة التي لعنت قد يبست».
صورة ظلم التينة
فأقول: إن مرقص ههنا شهد أنه لم يكن زمان التين، فكيف يغضب عليها سيدنا عيسى عليه السلام إذا كان لا يوجد فيها ثمر في غير زمان التين والثمار؟ لأن جميع النبات لا يثمر في غير حينه، فإذا يظهر أن هذا الفعل هو مباين للعدل، فكيف ينسب فعله إلى المسيح، وحاشاه من أن يفعل مثل هذا الفعل في هذا الوجه، وهذا النص الوارد من مرقص كان واقعة حقيقية. أعني: أنها شجرة تين صريحة لا تقبل التأويل، لأن بطرس يؤكد حقيقة هذا الكلام بقوله: «يا معلم ها التينة التي لعنت قد يبست».
فهذا المشكل يجب أن يحكم فيه العقلا، الخالون من الغرض، ويميزوا إن كان المسيح تكلم بمثل ذلك، أو أن ذلك تزوير عليه كباقي التزاوير.
الشك الرابع والعشرون
في إنجيل متى في الإصحاح الثامن عشر يقول للذي كان مديونا إلى سيده فأمر سيده أن يباع هو وامرأته وبنوه وكل ماله حتى يوفي، وذلك إذ ليس له مايوفي.
صورة ظلم المديون
إن هذا ظلم مبين: أن مديونا ليس عنده شئ يوفي يحكم عليه بأن يباع هو وامرأته وبنوه وكل ماله حتى يوفي الدين.
أقول: إن كان هذا الأمر جرى وصدر لأنه عبده فيكون أمره بأن يباع العبد هو وامرأته وبنوه وكل ماله، فليس هو من وجوه الاستيفاء لكون العبد وما ملكت يداه لسيده، إذ إنه إن باعه وإن لم يبعه فهو تحت ملكه وحوزة تصرفه، ولا ينبغي له أن يقول حتى يوفي. وإن كان هذا العبد في الوقت الذي أمر به أن يباع هو وامرأته وبنوه كان مطلقا من العبودية وحرا فالقصاص عليه بأن يباع هو وامرأته وبنوه وكل ماله هو مضاد لشرائع الله تعالى ومناف لعدل بل هو مناف لشريعته الفضلية. 15
الشك الخامس والعشرون
في رسالة بولس إلى كولوسي في الإصحاح الرابع يقول: «واقرأوا أتم الرسالة التي من لاودكية» وفي سفر الملوك الثالث يقول: إن عدد الأمثال التي إلى سليمان ثلاثة آلاف مثل، وتسابيحه ألف وخمسة تسابيح ونبوة أخنوخ
صورة النقض
أقول: إنك أيها العالم النحرير تجد تأكيد التزوير في التوراة والإنجيل ليس مما شرحهاه لك في الشكوك الماضية فقط، بل إنك هنا تتأكد من نقص وانعدام رسالة لاودكية، ونقص أمثال سليمان، وتسابيه التي لم يبق منها ولا ثلثها، ونقص نبوة أخنوخ التي ذكر جملة منها يهوذا الحواري في رسالته الجامعة. وهذا وحده يكفي للبيان.
ويوجد نقص آخر كثير قد أعرضنا عنه، كما يخبرنا بذلك يوسيفوس المؤرخ في كتابه، وفي كتاب لافجانيوس المبتدي فيه من المائة سنة الأولى، المسلم عند النصارى، التي ذكر بها: أن الأناجيل التي كانت موجودة في ابتداء الديانة النصرانية كان عددها من نحو ثلائين إنجيلا، التي تعدد أسماء كاتبيها. وقد أشار إليهم لوقا إجمالا في أول إنجيله: بأن كثيرين باشروا كتابة قصص الأمور التي كانت كملت فينا، التي وصل إلينا منها إلى حد زماننا هذا أربع مقالات من متى ومرقس ولوقا ويوحنا وتسمى أناجيلا فقط.
وهذا النقص يدلنا على نقص شهادات أخر كثيرة في التوراة والإنجيل ذكر فيها اسم نبينا ﷺ حرفيا غير التي أوردناها لصدق القرآن العظيم القائل و(اسمه أحمد) وأنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل.
الشك السادس والعشرون
في نبوة حزقيال في الإصحاح الرابع يقول: إن الله تعالى شأنه قال لحزقيال «وخبز ملة من شعير تأكله وتلطخه بزبل يخرج من الإنسان» ولما اعتذر حزقيال وامتنع من أكل الخبز الملوث بزبل الإنسان كما يخبر عنه في الفصل ذاته فبدله بخبز ملوث بزبل البقر، بقوله في العدد الخامس عشر فقال له: «أعطيتك زبل البقر عوضا عن رجيع الإنسان وتصنح خبزك فيه».
صورة أكل زبل الإنسان
إن هذه النبوءة قد صيرت عقلي مذهولا، كيف أن الله تعالى وحاشاه يأمر النبي بأكل خبز ملطخ بزبل الإنسان، ولا أقدر أن أتصور كيف أن الغائط يؤكل، وكيف أن الله سبحانه وتعالى ما أهلك الناسبين له هذا الأمر وأنه من أمره، وحاشاه.
الشك السابع والعشرون
في سفر الخروج في الإصحاح الثاني عشر قال: «فكان جميع ماسكنه بنو إسرائيل في أرض مصر أربعمائة وثلاثون سنة، وبعد أن كملت الأربعمائة وثلاثون سنة في ذلك اليوم خرج جنود الرب جميعهم من أرض مصر».
وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين قال خلاف ذلك، حيث قال لإبراهيم: « اعلم عالما أن نسلك سيكون ساكنا في أرض غريبة ويستعبدونهم ويضيقون عليهم أربعمائة سنة ومن بعدها يخرجون بمال جزيل».
صورة التناقض
فأقول: في سفر التكوين قال أربعمائة سنة، وفي سفر الخروج قال أربعمائة وثلاثون سنة، وأيضا فإن بني إسرائيل لم يبقوا في مصر حتى ولا أربعمائة سنة التي ذكر الله سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم، لأن قاهت جد سيدنا موسى كان قد نزل إلى مصر مع أبيه لاوي، فقاهت هذا إذا كان تزوج على التقدير ابن خمسة وستين سنة، وولد عمران أبا موسى، وعمران لما تزوج فلنفرض عمره خمسة وستين سنة أخر، وولد سيدنا موسى، وهذا موسى عليه السلام لما خرج بنو إسرائيل من مصر كان عمره ثمانين سنة، فتكون جملة السنين المجموعة مائتين وعشرة سنين.
وهذا التقدير يطابق حساب دفاتر اليهود الموجودة عندهم في التلمود. فأين غلاقة الأربعمائة وثلايين سنة المكتوبة في سفر الخروج، لأن الفرق ههنا مائتا سنة وعشرون سنة. 16
ونتيجة الأمر أن الشك يجمع ثلاثة تحريفات:
أولا - الفرق بين الأربعمائة وبين الأربعمائة وثلاثين.
ثانيا - أن التوراة العبرانية تذكر أن إقامة بني إسرائيل كانت في أرض مصر، واليونانية تقول في أرض مصر وأرض كنعان.
ثالثأ - أن الزمانين على حساب دفاتر اليهود غير صحيحين، لأن بني إسرائيل لم يقيموا في مصر غير مائتين وعشرة سنين مأمورين تحت العبردية والضيق، وهذا كفاية لإثبات التحريف.
وأيضا نقول: إنه لو قدرنا المحال وحسبنا حسابك آخر، وهو أن قاهت عند انقضاء حياته التي هي مائة وثلاثين سنة ولد عمران، وعمران عند انقضاء حياته أيضا الني هي مائة وسبعة وثلاثين سنة ولد موسى، 17 وموسى حينما خرج من أرض مصر كان عمره ثمانين سنة كما قالت التوراة، فإذا على جميع الوجوه المشروحة التغيير واقع وموجود، عدا ضعف قولهم المستند على التوراة اليونانية: إن أرض كنعان الشريفة والموهوبة لإبراهيم عليه السلام ولنسله هي أرض أسر وعبودية.
والنهاية إذا كانت أرض كنعان الني هي أرض موعدهم هي أرض أسر وعبودية، والله سبحانه وعدهم بأن يخرجهم من أرض الأسر والعبودية بمال جزيل فإلى أين خرج بنو إسرائيل من أرض كنعان؟ وأين سكنوا خلافها؟
الشك الثامن والعشرون
في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج قال «وارتحل بنو إسرائيل من أرض رعمسيس إلى سكوت نحو ستمائة ألف مقاتل غير الأطفال، ولفيف عظيم أيضا بغير عدد»، ثم في سفر العدد في الإصحاح الثاني قال «فهذا عدد بنو إسرائيل بيوت آبائهم وأفواجهم المتفرقين في العسكر ستمائة ألف وخمسمائة وخمسون رجلا عدا سبط بني لاوي هؤلاء كانوا رجالا مقاتلين»، ونراهم في مجموع أسباطهم بالعدد ذاته.
صورة التحريف
يلزم أن نعمل معدلا لهذه الكثرة والألوف من أين وجدت وولدت؟ لأنه أولا: أن هؤلاء الست كرات من الرجال يقتضي أن ينضاف إليهم أربع كرات أخر من أولاد دون البلوغ وكهول، فتصير الجملة عشرة كرات من الذكور، ونضيف لهم سبط لاوي، وبالفرض نحسبه كرة أخرى، بحيث هو واحد من الاثني عشر سبطا، فتكون جملة عدد بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر إحدى عشرة كرة من الذكور، أعني: أحد عشر مائة ألف من الذكور، ثم ولنضيف لهم قدرهم، أي إحدى عشرة مائة ألف أنثى حسب القاعدة الطبيعية، فتصير جملتهم اثنتين وعشرين مائة الف نفس (2200000)، أي اثنتين وعشرين كرة.
فإذا كان حسب أخبار التوراة نفسها المذكور في سفر التكوين: أن يعقوب أبا الأسباط، الذي هو ابن البركة عندما نزل إلى مصر هو وبنيه وبني بنيه، ثلاثة أجيال جمعت عيلته من الثلاثة أجيال، أي المتوالدين من بنيه وبني بنيه فكان عددهم سبعين نفرا، وفي مكوثهم في مصر توالد هؤلاء السبعون نفسا أولاد سيدنا يعقوب خلال ثلاثة أجيال أخر مثل أبيهم وجدهم يعقوب، وفي الجيل الثالث خرجوا من مصر. وهذا شيء ظاهر أمره ومصرح به في الإصحاح السادس والأربعين من سفر التكوين، وفي الإصحاح السادس من سفر الخروج.
أما الثلاثة أجيال المذكورة في سفر التكوين فهم: يعقوب ولاوي وقاهت، وأما الثلاثة أجيال المذكورين في سفر الخروج فهم: قاهت المذكور في سفر التكوين» وعمران أبو موسى، وموسى هذا الذي خرج ببي إسرائيل من أرض مصر، فإذا كان يعقوب الذي كانت البركة له، كان عدد أهله وبني بنيه على ثلاثة أجيال سبعين نفسا، فيقتضي على هذا المنوال أن هؤلاء السبعين نفسا على ثلاثة أجيال أخرى الذين هم: قاهت وعمران وموسى أن يولدوا سبعين سبعينا، وإذا انضرب في الحساب سبعين في سبعين كان أربعة آلاف وتسعمائة نفس. فمن أين توجد اثنتان وعشرون كرة الذين ذكرناهم بناء على كلام التوراة. 18
وإن قيل في حل هذا المشكل: إنه موجود في تلمود اليهود تفسيرا أن بني إسرائيل بحيث هم مباركون، فكانوا يتوالدون كل خمسة أولاد في بطن واحد مشكوكين مثل حب المسبحة، بخلاف الطبيعة:
فأجيب: إن كان بنو إسرائيل يتوالدون بخلاف الطبيعة، فلماذا لم تذكر التوراة عنهم ذلك ولم تقل إن بني إسرائيل لما كانوا بمصر وقبل نزولهم إلى مصر كانت المرأة منهم تلد في بطن واحد خمسة أولاد؟ ولماذا يعقوب الجد ذكرت عنه أنه في ثلاثة أديال خلف سبعين نفسا؟ وذكرت أيضا مواليد يوسف وأنه أولد منسى، وبعده أفرام، وعن قاهت ابن لاوي أنه أولد عمران ويصهر وحبرون وعوزيل، وأن عمران أولد مريم بعدها وهارون، وبعد ثلاث سنوات أولد موسى، وموسى أولد جرشون واليعازر، وأمثال ذلك كثير ممن قد ذكرتهم التوراة، وكلهم توالدوا على مألوف العادة الطبيعية، ولم تذكر عن واحد منهم أنه أولد ثلاثة أولاد أو أربعة في بطن واحد، عدا يهوذا ابن يعقوب الزاني بكنته، فمنها أولد توأما ذكورا وهما فارص الذي من سلملته ولد عيسى على زعمهم، والولد الثاني هو زارخ.
لاحظ هذه المعاني في سفر الخروج وفي سفر العدد وفي سفر الأيام الأول.
ثم نعود إذا إلى ما ذكرناه: أنه ينبغي أن السبعين الذين توالدوا من يعقوب في ثلاثة أجيال أن يولد لكل واحد من السبعين سبعين نفسا على ثلاثة أجيال أخر، وإذا ضربت كما قررنا السبعين في سبعين تكون أربعة آلاف وتسعمائة، فمن أين يكون تكميل الاثنتين وعشرين كرة؟ 19
وأيضا أقول: إن الواحد الذي هو يعقوب إذا كان خلف سبعين نفسا في ثلاثة أجيال، والسبعين خلفوا في تكميل الخمسة أجيال أربعة آلاف وتسعمائة، فهذا أيضا من أعجب العجائب، لأنك إذا ضربت معدل رجل واحد من باقى طو!ئف العالم صالحا كان أم طالحا، من قديم الزمان إلى الآن، وحسبت ذريته إلى خمسة أجيال، لا تجد الباقي من سلسلته إلا أقل من مائة نفر، وذلك على وجه المبالغة، فإذا كان يعقوب عليه السلام خالف هذا الحد المذكور وأولد من الخمسة أجيال، الذين هم يعقوب نفسه ولاوي وقاهت وعمران وموسى، عوض المائة نفر تسعة وأربعين ومائة نفس، أما يكفي أن تكون هذه الكثرة الغير مألوفة أن تعد من أعجب العجائب!
ثم أيضا نقول: إن المقول في سفر الخروج في الإصحاح الأول عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل: إنهم قد صاروا أكثر منا، فهذا القول على موجب ما شرحاه يقتضي أن يكون مبنيا على ثلاثة أوجه: إما أن يكون تزويرا وتكميلا لهذه التزاوير، أو أنه قيل على طريق المبالغة كمثل القول: إن أجعل نسلك كرمل البحر، أو أن فرعون كان كملك من ملوك الأرض الموجودين في تلك الأيام الذين ذكرتهم التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين، الذين منهم خمسة ملوك كان غلبهم سيدنا إبراهيم، واستخلص لوطا ابن أخيه، وذلك بواسطة ثلثمائة وثمانية عشر نفرا أو اكبر.
وهذا الرأي الأخير ربما هو الأرجح، عدا أن لفظة أكبر منا هي في اللغة العبرانية أعظم منا. 20
الشك التاسع والعشرون
في سفر الأيام الأول في الإصحاح السادس يذكر أن: مربوث أولد أمريا، وأمريا أولد أخيطوب، وأخيطوب أولد صادرق، وصادوق أولد أخيماعص، وأخيماعص أولد عزريا، وعزريا أولد يوحانان، ويوحانان أولد عزريا، وأما في الإصحاح السابع يقول عزرا في سفره إن ابن مريوث هو عزريا. 21
صورة النقض
إن من ههنا يعلم أن عدد الأنفار الموجودين في سفر الأيام الأول أزيد من الموجودين في سفر عزرا بستة أنفار، كما تراهم أمامك في الجدول، وهم: أمريا وأخيطوب وصادرق وأخيماعص وعزريا ويوحانان، فبواسطة نقص هؤلاء الستة أنفار يثبت التزوير بالتوراة. 22
الشك الثلاثون
إن النصارى المبتدعين الذين ابتدعوا الألوهية لعيسى عليه السلام التي ليس لها ذكر في كتابهم كما قررنا ذلك في أول الكتاب، قد ابتدعوا أشياء أخرى في ديانتهم، من جملتها أنهم زعموا أن الله - تعالى شأنه وتنزه عما يقولون - ثلاثة أقانيم، أعني ثلاثة أشخاص، وهذا الاعتقاد ما وجد بهذا اللفظ حرفيا لا في التوراة، ولا في الأنبياء، ولا في إنجيلهم، 23 حتى ولا خطر لأحد على بال، وبحيث أن لفظة أقنوم قد حدها العلماء والمنطقيون: هو الشئ القائم بذاته من جوهر وعرض وله ست جهات، فلكي يتخلصوا من هذه الحدود التي تفيد الحصر ابتدعوا للفظة أقنوم حدا آخر جديدا، وهو الشئ القائم من جوهر وخاصة جوهرية، ولكنهم لم يتخلصوا من هذا التشويش بهذا الحد الذي ذكروه للأقنوم، فلنسألهم عن أقنوم الابن القائم من جوهر وله خاصة جوهرية: هل هو موجود في كل مكان كما أن أقنومي الأب والروح موجودان في كل مكان من حيث أنهما إله واحد؟
فإن كان أقنوم الابن موجودا في كل مكان مع أقنومي الأب والروح لزم أنه مع وجود أقنوم الابن في ناسوت عيسى أن يوجد أيضا أقنومي الأب والروح معه، وتكون الثلاثة أقانيم: الأب والابن والروح، تجسدوا في جسد عيسى وليس أقنوم الابن وحده تجسد في جسد عيسى، وإذا اعتقدوا بهذا فيكونوا اعتقدوا ضد ديانتهم وضد الله تعالى أيضا.
وإن قالوا: إن أقنوم الابن وحده تجسد، فيكونوا قد خالفوا معتقدهم الذي اعتقدوه، وهو أن الله تعالى موجود في كل مكان بأقانيمه، ويفهم أنهم أنكروا أن الأقانيم موجودة في كل مكان، ويكون أقنوم الابن الذي تجسد في جسد عيسى هو وحده موجود في جسد عيسى، وجسد عيسى خال من أقنومي الأب والروح. وينتج من ذلك انقسام الأقانيم وانفصالهم وحصرهم.
وهذا الرأي أيضا يضاد معتقدهم وهو ضد الله تعالى شأنه، مع أن الكلام الذي ألفوه في حدود بدعتهم هذه يفيد بأن: الأب والابن والروح ثالوث متساوي الجوهر غير منقسم ولا منفصل. وقد يلزم من هذا الحد أيضا أن التجسد هو للأقانيم الثلاثة معا،لأنهم على زعمهم غير منقسمين ولا منفصلين بل هم معا في كل حالاتهم، في أفعالهم وحلولهم ووجودهم في كل مكان، الثلاثة متساوون في ذلك على زعمهم.
والنتيجة من هذا جميعه: إن قالوا: بأن الأقانيم هي متحدة مع بعضها وغير منفصلة يلزمهم أن يعتقدوا تجسد الأقانيم الثلاثة معا لأنهم غير منقسمين ولا منفصلين، وإن قالوا: إن الأقانيم منفصلة عن بعضها ومنقسمة فيلزمهم أن يعتقدوا بالخلو أي أن الأقانيم ليست موجودة في كل مكان معا.
وعلى الحالتين: إن هذه القصية ممتنعة في جميع الحالات، لا بل معدومة لا يمكن وجودها.
هامش
حاشية: جدول الفرق
الإنجيل (متى) التوراة (الأيام 1)
يورام يورام
أخزياهو
يواش
امصيا
عوزيا عوزبا
حاشية: جدول
الإنجيل (متى) التوراة (الأيام 1)
يوشيا يوشيا
... ياهوياقيم
يوخانيا يوخانيا
شألتئيل شألتئيل + فدايا
زروبابل زروبابل
أبيهود ......
حاشية: جدول
الإنجيل (لوقا) التوراة (التكوين)
انوش انوش
قينان قينان
أرفكشاد أرفكشاد
قينان شالح
حاشية: وإن قيل في التوراة السبعينية اليونانية موجود في بعض نسخها قينانين اثنين كما ذكر لوقا . فأجيب : إن التزوير في حل المشكل قد تحول وصار فيما بين التوراة السبعينية اليونانية التي هي الفرع، وبين التوراة العبرانية التي هي الأصل، لأن الاثنتين، أعني العبرانية واليونانية، ها مسلمتان عند فرق من النصارى، إذ إن الكنائس الغربية تعتبر التوراة العبرانية مثل اعتبار اليهود لها، والكنيسة الشرقية تعتبر التوراة اليونانية . ففي أي وقت الكنيسة الشرقية التي تعتبر التوراة اليونانية أثبتت صحتها، أي صحة التوراة اليونانية، أثبتنا نحن وهم التزوير على اليهود وعلى الكنيسة الغربية، وأنهم منقصون منها قينان واحد الذي هو ابن ارفخشد، وإن كانت الكنائس الغربية التي تعتبر التوراة العبرانية التي هي الأصل أثبتت مع اليهود التوراة العبرانية، أثبتنا نحن وهم التزوير في التوراة اليونانية وفي إنجيل لوقا أيضا المزود فيهما قينان آخر الزائد عن التوراة العبرانية، وعلى كلا الوجهين التزوير واقع.
حاشية: وهذه صورة الفرق من آدم إلى المسيح: تاريخ الكنائس الغربية عده: 4051، تاريخ الكنائس الشرقية: 5508، الفرق بينهما عده: 1457.
حاشية: اعلم أنه أيهما من التورا تين أثبتتا أنها صحيحة فيلزم أن يكون التزوير موجودا عند الفرقة التي تحامي عن صدق التوراة الثانية التي بيدها كما مر في الشك الرابع.
حاشية: ويا للعجب كيف يقول ما قال النصارى: إن جسد عيسى اندفن في بطون التلاميذ بوامعلة الخبز مع أنه كان حيا، وكيف استجازوا أن يقولوا إنه مات وهو بعد لم يكن تألم أو ربما كان يجوز عندهم أنه اندفن قبل أن يموت بالحقيقة؟ بخ بخ من كذا رأي سقيم وسماع أسقم.
حاشية: وإن قال بعض المتأخرين ربما يكون ذلك إرسالين، قلنا: إن المتقدمين وقريبي العهد قد قالوا إن الارسال واحد، ومن القرائن يعلم ذلك.
حاشية: اعلم أن شجب البشر بسبب خطيئة جدهم آدم هو المركز والقاعدة في الديانة الصوانية وليست ظلما.
حاشية: إن أحبار اليهود يحلون هذا المشكل بجواب مضحك، إذ يقولون عن حجارة البيت كلها وأنها لم تكن قطعت في حديد، بل أن دودة يضعونها على الصخر فكانت تقطعه مستقيما من غير حديد لئلا يتنجس. فأجيب: أولا إنه ما ذكر في التوراة ولا في خلافها عن هذه الدودة أنها موجودة . ثانيا إنه لو كانت موجودة هذه الدودة لما كان أرسل سليمان ثمانين ألف نحات. القضية الثانية المزورة أيضا على سليمان عليه السلام مع تقطيع الحجارة لأجل بناء الهيكل: السبعين ألف حمال والثمانين ألف نحات، الذين لم توجد في مملكة مثل المملكة العثمانية السامية التي أرض مملكة سليمان مع اليهودية بأجمعها وقتئذ لم تساوي قيراطا من المملكة العثمانية المذكورة.
حاشية: قد يقول النصارى في حل الإشكال إن سيدنا عيسى كان يجب أن يخفي ذلك، لكي يعلمهم بأنه ماكان قصده الافتخار ولا شفاهم لأجل الشرف، بل كان لأجل مجد الله، ولذلك كان يعلم بأن لا يقال لأحد، فأجيب: أنه إذا كان سيدنا عيسى شفاهم لأجل مجد الله فينبغي له إظهاره، كما قال هو عن نفسه - في موضع آخر للذي شفاه -: "اذهب وخبر بما صنع الله بك ورحمته إياك"، أو أن يصمت عن أن يأمرهم في وصايا غير ممكن تنفيذها، لا بل معصيتها واجبة، لأنه كيف يمكن للأعمى إذا سئل من الذين كانوا يعرفونه أعمى بأن يكذب ويقول: أنا ما كنت أعمى، ولا المسيح شفاني، وكذلك الميتة التي أقامها، كيف كان يمكنها هي وأهلها بأن يقولوا هذه ما ماتت، وما أقامها المسيح، وكذا الأعميان والأطرش . فهذا ليس ركاكة فقط، بل سفاهة وقصور بحيث لا يمكن حصوله، وهو من قضايا المغفلين، مع أن القصد بعمل الآيات إظهارها لا إخفاؤهاء لكوفا أقوى وأنفد من كل منذر .
حاشية: اعلم أنه وإن قيل إن الاهتمام بالغد هو برتبة الممتنع كما ظنه بعض المفسرين فلذلك جاز عندهم ضرب الممتنع بالممتنع . فالجواب عليه نقول: إن قدرنا أن الاهتمام بالغد ممتنع مع استحالته فالممتنع لا يمنع منه، لأنه لا ترد به شريعة مطلقا، أي أن الشارع لا يحكم عليه بالمنع، لكونه إن منعه وإن لم يمنعه غير ممكن للإنسان عمله. ومثال هذا: كما أنه إذا قال إنسان: إني أريد أن أطير اليوم مع الطيور، وأنا مهتم بذلك، فلا يقتضي من العقلاء أن يمنعوه لأنه ممتنع طيرانه بالطبع . ثم نقول : والنتيجة من ذلك إن قالوا: إن الاهتمام بالغد ممكن، فقد ورد عليه الجواب من المؤلف رحمه الله تعالى، وإن قالوا: إنه ممتنع، قلنا: إن الممتنع لا يمنع منه. وجيمع الأجوبة التي تقدر في هذا الباب تدخل تحت هذين الحدين: إما ممكن أو ممتنع، وكلاهما منقوضان. ثم نرى أن الاهتمام بالغد الذي جعله المزور ممتنعا وأسنده إلى عيسى عليه السلام هو أمر طبيعي مرتبط بالرجاء الطبيعي، لأن القمح مع أكثر المزروعات لا تخرج من الأرض إلا سنويا في أيام معلومة، وبالضرورة يلتزم البشر في حفظها ويهتمون لصيانتها ليكمل معاش السنة . وقل يلحظ من كل ما ذكرنا أن المزور على عيسى عليه السلام في هذا المثال إن الاهتمام بالغد هو أبلغ من التطويل للقامة - هو رجل مبغض لعيسى عليه السلام.
حاشية: وإن قيل من أحبار اليهود والنصارى إن حاما هو كان ابن البركة، وليس من الواجب أن يلعن وإن كان كنعان ابنه قد تحولت عليه اللعنة من حيث أمه قد حملت به أيضا وهم ضمن السفينة، فمن هذين الوجهين اقتضى تحويل اللعنة من حام إلى ابنه كنعان. فأقول: إن هذين الوجهين لايبرءان حاما من القصاص، ولا يوجبان اللعنة على كنعان، لأنه إن كان حام هو المبارك وأخطأ لا يلزم أن يلعن كنعان ابنه عوضه، وإن كانت أم كنعان حملت به وهم ضمن السفينة، لا يلزم أن يلعن، بل الحكم كله على أبيه الذي زرعه في السفينة، وهو الذي ضحك لما نظر عرية نوح، وعلى جده نوح أيضا، الذي تزورت عليه أنه كان سكرانا، وعلى كلا الوجهين فلعنة كنعان من جده نوح عوضا عن أبيه حام هي إما ظلم وإما تحريف.
حاشية: اعلم أن الذي يؤكد ذلك التزوير غلاقة هذه الجملة وهي قوله لبطرس: لأنك لا تفكر فيما لله، ومعناه أنك أنت يا بطرس أو خلافك إذا نظروا رجلا مثلي في غاية الكمال من السيرة الطاهرة قد يلزم لهم إذا سمعوا منه بأنه مزمع أن يقتل بلا سبب ويألم بأن يظنوا فيه بأنه من جملة أفعال الله الخارقة، وحاشا، أن يسمح بأن يقتل ظلما. وأما إذا ظوا ذلك قد يحكم عليهم بأنهم شياطين، وهذا الحكم قد يضاد العقل والنقل، ولهذا قد نسبوه إلى عيسى الذي هو برئ من مثل هذه التهمة. مع أنه كان ينبغي لهم أن ينظروا أن استعطاف بطرس للمسيح هو ناتج من ظنه فيما لله، لأنه أدرك من الله أنه ليس بظالم حتى يترك عيسى البرئ من كل ذنب أن يقتل ظلما.
حاشية للناسخ: نعم إن التوراة قالت إن افتقر أخوك وابتعته فلا تستخدمه مثل العبد إلا أنها لم تأمر صاحب المال أن يبيع المديون وأولاده وامرأته، وهذا الحكم قد صدر عليه من قبل أن يظلمه أخوه ويقسو عليه.
حاشية: قد يقول تلمود اليهود مع مفسري النصارى أن مدة العبودية قد تحسب من حين خروج إبراهيم من أرض الكلدانيين وإتيانه إلى أرض كنعان، إلى حين خروجهم من أرض مصر. فهذه المدة تصير قريبة من الأربعمائة وثلائين سنة، ويستندون على التوراة اليونانية بحيث أنها تذكر في سفر الخروج أن جميع ما سكن بنو إسرائيل في أرض مصر وأرض كنعان أربعمائة وثلاثون سنة. فأقول: إن ههنا ظهر لنا من هذا الكلام تحريفا آخر في التوراة اليونانية، حيث إنها تقول أربعمائة وثلاثون سنة في أرض مصر وأرض كنعان، وفي التوراة العبرانية التي هي الأصل تذكر أن إقامتهم كانت في أرض مصر، فالفرق ههنا في قول التوراة الواحدة في أرض مصر، وفي قول التوراة الأخرى في أرض مصر وأرض كنعان. وأيضا أقول: إن الذي زيف تفسير التلمود هذا وييين تحريف التوراة اليونانية هو نفس نسق العبارة القائلة إن جميع ما سكن بنو إسرائيل في أرض مصر، ولم يقل إن جميع ما سكن إبراهيم وبنو إبراهيم كما فسره التلمود، لأنه إذا كان مراد التلمود أن يحسب الأربعمائة وثلاثون سنة من دخول إبراهيم أرض كنعان، لكان ينبغي أن التوراة تقول إن جميع ما سكن إبراهيم وبنو إبراهيم وليس كما قالت إن جميع ما سكن بنو إسرائيل، لأنه يوجد فرق بليغ فيما بين اسم إبراهيم وإسرائيل، عدا فرق السنين التي بينهما.
حاشية: أعمارهم في سفر الخروج الإصحاح السادس.
حاشية: اعلم أن هذه المقدمة التي أوردها هذا المؤلف رحمه الله تعالى وبحصره هذه الدعوى في يعقوب وخلفه وعدتهم، بعددهم الشهير عندهم في التوراة في ثلاثة أجيال الأول، هي التي أظهرت التحريف وأوضحت النتيجة على أن الثلاثة أجيال التالية لا ينبغي أن تتجاوز هذا الحد بالتوليد، وعلى ذلك يشهد القرآن الشريف القائل عنهم في سورة الشعراء (إن هؤلاء لشرذمة قليلون). إن هذا المؤلف قد أظهر إنسانية بليغة لأنه ما عامل الحساب إلا بأنقص من حقه لأنه أولا: حسب الناس القاطعين الأولاد من السبعين مع السبعين، وثانيا: قد حسب الذين أعمارهم من تحت العشرين سنة، والناس من فوق الخمسين سنة إلى مائة وأكثر الذين لا يحملون سلاح أربع كرات، والحال ينبغي أن يكونوا أربع عشرة كرة، بحيث المولود من عشرين إلى خمسين إذا أخرجوا من الناس المولودين في مسافة مائة سنة تظهر كميتهم ثلاثة من عشرة، فإذا كان الحاملون للسلاح ست كرات، يقتضي أن يكون غير الحاملين سلاحا أربع عشرة كرة، ويكون جمعهم أربعة وأربعين كرة لا اثنين وعشرين كما ذكرهم المؤلف.
حاشية: اعلم أنه يوجد حساب آخر من التوراة نفسها ويظهر عدم وجود هذه المبالغ المذكورة في هذا الشك، وهو أن موسى عليه السلام على موجب شرح التوراة عد شعب إسرائيل الناقلين السلاح في مائتين وعشرة سنين من السبعين ذرية يعقوب الذين نزلوا مصر فأولد الواحد منهم تسعة آلاف نفس، وداوود عليه السلام من بعد موسى بأربعمائة وأربعة وسبعين سنة عد الشعب مرة ثانية في فكان مجموعهم أن الواحد صافيه ائنين من الناقلين السلاح. وما أدري هذا الفرق كيف أن نفرا واحدا يأتي منه تسعة آلاف نفر في مائتين وعشرة سنين؟ ونفرا واحدا أيضا يأتي منه نفرين في أربعمائة وأربعة وسبعين سنة في الشعب نفسه؟ وإن هذا الفرق الغير ممكن وجوده وقبوله يؤكد التزوير عند كل عاقل وخبير في علم الحساب، إذ أنه يدرك أن صافي حساب موسى لو انتهى إلى زمان حساب عدد سيدنا داود بالقاعدة الأولى نفسها لكان شعب إسرائيل تواصل إلى أعداد تسعة عشر قلما من علم الحساب الذين إذا وجدوا في ذلك الزمان لم تسعهم الكرة الأرضية ذات السكن بأجمعها، اضربهم في علم الحساب تنظر صحة ذلك بشرط أن تصيف إلى كل رجل ناقل سلاح ثلاثة أنفار من الكهول ومن هم دون البلوغ والإناث مبتدئا بهم في ضربهم من الأول وأقول حتى عدد داود غير ممكن وجوده، وهذا يؤكد التحريف في التوراة بزيادة لأن الضرب يتعلق في علم الحساب. والله أعلم.
حاشية: اعلم أنه يدل على بطلان هذه الدعوى وأنها تزوير برهانان آخران قاطعان صريحان من التوراة نفسها. الأول هو أنه في زمان موسى كان لبني إسرائيل قابلتان اثنتان فقط مع أن هذه الكرات ينبغي أن يكون لها مئات من القوابل وليس اثنتان فقط كما ذكرت التوراة، والبرهان الثاني: هو أن فرعون عندما أزمع أن يرجع بني إسرائيل إلى مصر الذين عددهم ستة وعشرون مئة ألف إنسان الذين منهم كان ستمائة ألف وخمسين ألف ناقلين سلاح، كان يلزم أن يكون عنده في ذلك الوقت أقله ستة كرات من العسكر، والحال أن الستة كرات من العساكر لم توجد عند ثلاثة ملوك من كبراه ملوك الأرض في زماننا هذا، فكيف توجد في برهة يسيرة في أمكنة قريبة عند حاكم الاقليم المصري حتى يرسلهم جميعا لإرجاع ذلك العدد الكبير على زعم المزور. وقد لاح بذهني برهان ثالث يثبت دعوى صاحب هذا الكتاب وأن التوراة هي مزورة وهو أنه في الإصحاح الخامس من سفر الخروج يذكر أن موسى & لما دخل بأمر الله عند فرعون وطلب منه إطلاق بني إسرائيل، فحالا فرعون أمر الوكلاء على عمل بن إسرائيل أن يمنعوا التبن عنهم وأمرهم بأن بني إسرائيل يجمعون التبن بأنفسهم ولا ينقصوا من عمل اللبن المشروط عليهم شيئا - بقصد أنه يلهيهم عن المذاكرة في خروجهم من أرض مصر - فإذا كان بنو إسرائيل على هذا المنوال قد كانوا مساحي لبن في مصر فكيف يسلم العقل بأنه أي الستمائة وخمسين ألف رجل الذين خرجوا من مصر كانوا مساحي لبن في مصر كما ذكرت التوراة عنهم، الذين إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد في السماء أو في الفراغ عالمين آخرين مع دنيا هذه الأرض جميعها ربما يكفيهم هذه الكرات لعمل اللبن ويزيدوا عليهم مرات. والمعنى المطلوب في هذا المبحث هو في قلب المستشعرين أصحاب العقول السليمة أي أن القضية هي تزوير من دون شبهة.
حاشية الجدول:
الأيام الأولى سفر عزرا
مريوث مريوث
امريا
أخيطوب
صادق
أخيماعص
عزريا
يوحانان
عزريا عزريا
حاشية: ربما يقال في حل هذا الشك مثلما قيل في حل الشك الأول المعادل لهذا في النقص، وهو أن هؤلاء الستة أنفار الناقصين كانوا رجالا أشرارا. فأجيب: أولا إنه ما كتب عنهم أنهم كانوا رجالا أشرارا . ثانيا إغم إن كانوا أشرارا فلماذا كتبوا في سفر الأيام الأول، وأعرض عن كتابتهم في سفر عزرا، لأن السفرين كان قد كتبهم عزرا نفسه، فإن كان قد كتبهم في سفر الأيام الأول وسلسلهم وما خشي من كوغم أشرارا، فيلزم أن يكتبهم في سفره وما يخشى أيضا، وحيث أن عزرا كتبهم في سفر الأيام الأول وسلسلهم، ثم نقصهم من سفره فيكون إما أنه سهو منه وأنه غير مدرك ماذا كتب أو أن قلما آخر خلاف قلمه زور عليه، وعلى الوجهين النقص واقع. مع أن قصده ليس كتابة الصالحين فقط، بل كتابة سلسلة نسبهم أشرارا كانوا أم صالحين.
حاشية: اعلم أن معنى كلام المؤلف أنه ما وجد في الإنحيل مكتوبا إن الله ثلاثة أقانيم ثلاثة أشخاص، ومعناه: كيف قاعدة دين مثل هذه تؤخذ بالتأويل ولا يوجد لها أثر صريح في الكتب المنزلة التي تعلم قواعد الدين، حتى ولا في الكتب المضافة للإنجيل وجد هذا الاعتقاد على الإطلاق حسب ما فحصته أنا أيضا، والذي لا يصدق المؤلف فليحضر وليقل إني نظرت في الموضع الفلاني مكتوبا فيه إن الله ثلاثة أقانيم ثلاثة أشخاص، ثم أقول: إن كلام المؤلف يتضمن نتيجة فريدة وهي أنه لا يخلو أن الأشخاص التي يسميها علماء النصارى أقانيما التي هي: العقل والكلمة والروح، هم متداخلون في بعضهم أم غير متداخلين؟ فإن كانوا متداخلين في بعضهم، أي أن العقل في الكلمة، والروح والكلمة في العقل، والروح في العقل والكلمة، فيكون حيثما وجد واحد منهم يلزم أن يكون الاثنان معه أيضا، ويكون التجسد للأقانيم الثلاثة. وإن كانوا منفصلين فيكون التجسد للكلمة الخالية من العقل ومن الروح، ويكون العقل والروح بغير كلمة.
============
الخاتمة
وهي في نتائج هذه الخمسة أبواب، بوجه الاختصار، وبعض ملحقات لها مفيدة.
أقول: إنني أكتفي الآن بما قد كتبته في مؤلفي هذا، حيث إن نتائجه صريحة، ويقبلها العلماء والفقهاء وذوي العقول السليمة، إذ أني ابتدأت فيه بالاستدلال من الإنجيل والتوراة على نقض ما ابتدعه النصارى من ألوهية عيسى عليه السلام، وبينت عدم مساواته لله تعالى في الجوهر، وأن النعوت المقولة عنه ووصفه: بأنه إله وابن الاله ورب قد وصف بها في التوراة والانجيل غيره من الأنبياء والملائكة ومن العلماء الصالحين، وعلى أن آياته وعجائبه لا تثبت مساواته لله عز وجل، المشروحة في مذهبهم، لأن الأنبياء عليهم السلام سلفا قد عملوا مثلها، وما يعلوها ويفوقها.
ثم يينت تنزيه سيدنا محمد ﷺ مما ظنوا به أنه عمل أمورا منافية وقاصرة غير حسنة، وبينت أن الأنبياء سلفا قد عملوا مثلها، ولم تحسب عليهم بأنها غير حسنة.
وقد أقمت البينات والأدلة بالشهادات المنطبقة والواردة على نبينا ﷺ من التوراة والإنجيل والزبور، أنه هو النبي الوعود به، والمشار إليه كعيسى المسيح عليه السلام مثلا، مصداقا لقوله تعالى ﴿اسمه أحمد﴾، ﴿مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل﴾.
وبنوع خصوصي أظهرت في الباب الخامس تلك الشكوك المشتملة على التناقض والنقص والظلم والقصور والركاكة، التي جعتها من كتاب التوراة والإنجيل تطبيقا لقوله تعالى: ﴿يحرفون الكلم عن مواضعه﴾، وقوله ﴿كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب﴾، مختصرا إياها حذرا من ملل القارئ، إذ أني أعرف جيدا أن الرجل الفهيم يقنع بالقليل، وإذا قابل صحة الشهادات المشروحة يستدل منها أيضا بأني قد جمعتها بسنين كثيرة وعرق غزير.
فيا أيها الغافلون التفتوا من كتابي هذا إلى كتاب الله السامي المنيف، الذي هو القرآن الشريف، الذي أنزل على المصطفى، ذو اللب الحصيف، وانظروا هل يوجد فيه مثل هذه التزاوير والشكوك والركاكة والقصور والظلم المباين لعدل الله تعالى، واعلموا أيها الأحباب أن الذي حملني على جمعها ثلاثة أسباب:
الأول: هو محبتي لأصحاب الكتابين، من كونهم مشاركين لي في الطبيعة.
والثاني: أن هذه الشكوك موجودة عندهم، وهي متفرقة، فلا يكترث فيها ولا تعتبر أنها تحريف.
والثالث: أني قصدت راحة مطالعيها، وأن يقرؤوها من دون تعب ولا عناء، إذ أني عينت محل الشهادات ومواضعها، لأن القارئ إذا قرأ في هذه الكتب، ويمر عليه مشكل من هذه التزاوير، فإنه يظن أنه مشكل مثل باقي المشاكل التي يحلها المفسرون فيتركه ويجوزه، وبعد مدة من الزمان إذا وقع في شك آخر غيره يكون قد نسي الشك الأول فيتركه ويقنع ضميره بأن علماء ديانته يعرفون حله، وهكذا يقع بين كل مدة ومدة في شك آخر من الشكوك فيتكلم فيه مثل تكلمه في الأول والثاني بتللك الإقناعات البسيطة، وبهذه الوجوه المشروحة لا يتحرك شيء من ضميره ينبهه أن كتبه مزورة ومحرفة من قديم الزمان.
وأيضا أقول عن القارئ، لهذه الكتب، واعتذاره أن هذه الكتب هي كتب ديانته، وتربى فيها وصاحبها منذ صباه، فهي على كل محبوبة، والمحب لا يتبصر في غلطات محبوبه، إذا كانت متفرقة، لأنه مثلا إذا درس محب الإنجيل في سلسلة متى الإنجيلي وقرأ أن فلانا أولد فلانا، فلا يظن أن في التوراة موجودة هذه السلسلة، وأنها تناقض أقوال متى، فضلا عن أن الكثير من علمائهم لايعرف في أسفار التوراة أين يوجد هذا التناقض. 1
حتى أنك ترى كبار مفسريهم كرجل يقال له الذهبي - الذي يسمونه سلطان المفسرين - قد أعرض عن ذكر بعض هذه الشكوك، لأنه لم يذكر الشك الثاني مطلقا في تفسيره، ولا تعرض له بوجه من الوجوه، وتارة كان يذكر البعض، لكنه لم يشرحها لأنه لم يجد لها شرحا، كما فعل بالشك الأول الذي ذكره وأنه نقص، إلا أنه تركه لغيره وجازه، وغيرها من الشكوك قد ذكرها وأخذ في شرح معناها، إلا أنه لم يتنبه للتزوير والغلط فيها، كالشك السابع عشر الذي فيه ذمّ الاهتمام، حيث أنه لم يتبعر في أن المزور لهذه الجملة قد جعل الممكن ممتنعا والممتنع ممكنا. وباقي الشكوك تراها على هذه الوجوه مصنوعة ومزورة. 2
ثم إني أقول: وإذا وجد في النادر رجل من هؤلاء القوم وكان خبيرا، وجمع بعضها من هذه التزاوير في فكره وفهم عجز المفسرين لها، فقد يمنعه عن إظهارها ورفض كتبها موانع كثيرة، وأخصها الذي هو المانع الأعظم: أنه لا يعرف شرف الدين المحمدي، ولا فهم شرائعه ولا طالع في كتابه الذي هو القرآن الشريف، وفهم معاني آياته حتى يستنير به ويتبع طريقه الهادي، ولا يعلم أن الانبياء في التوراة والإنجيل قد تنبؤا عن نبيه الهادي محمد ﷺ، وأشاروا عنه، كما أنهم أشاروا عن عيسى عليه السلام. وإنما يعرف القذف والشتيمة عليه من المتعصبين في دينهم، ومن جراء ذلك قد يبقى في تيار هذه الأمور والمشاكل غارقا. وانسداد هذه الطرقات قد عرفته وتحققته من معاشرتي لأفراد منهم، لأني رأيتهم واقفين عند أبواب هذه الشكوك ومبهوتين، لا يمكنهم الدخول فيها ولا الخروج منها.
فهذا وأمثاله هو الذي حركني - كما قررت - على تأليف هذا الكتاب الذي سميته "البحث الصريح في (أيما هو) الدين الصحيح"، لكي يطالعه العلماء فيهم والفقهاء، حتى إذا صار فرصة لأحدهم، وتحرك الحق في قلبه، ونظر تورط نفسه، ينفر من هذا الشرك نفور الغزال، وينصح غيره إن أمكنه ذلك، ويؤمن ويشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الإيمان الذي لا يعتري العقول فيه شك، ولا لذوي الأفكار الثاقبة بهت، وليس هو متطرفا ومعرضا للسقوط، كتطرف مذاهب بعض الهنود والنصارى.
أما مذهب بعض الهنود فهو التطرف باعتقاد خالق موجود فاثق الأوصاف، ولكنه قد ترك اعتناءه بمخلوقاته وانعزل وسلمها إلى بعض مخلوقاته كالشمس والقمر والكواكب وباقي الأفلاك والعناصر. ولذلك يقدمون لها العبادة والإكرام كأنها الله، وتتوجه ضمائرهم إلى ترك العبادة والإكرام للخالق سبحانه وتعالى، حتى إنهم مع تداول الأزمنة قد نسوا عبادة الله، التي هي الأصل لديانتهم، وصاروا يعبدون المخلوقات، واعتبروها خالقة وليست مخلوقة، وهذه الملة تسمى سينتو، وكثير منها في جزائر آسيا.
وأما بعض النصارى فقد تطرفوا حيث بالغوا في اعتنائه تعالى بالبشر، وغلوا حتى إنهم قد قعدوا قاعدة لهذه المبالغة والغلو، 3 وأخذوها عن رجل عندهم اسمه بولص، مؤولين كلامه ومفسرينه أن جميع البشر هالكين بخطيئة جدهم آدم، حتى سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى وباقي النيين عليهم السلام هم في الأسر تحت يد إبليس وسلطانه وأنهم مفتقرون لإله يخلصهم حتى غلوا في دينهم. لأنهم لما سمعوا من كتابهم أن عيسى إله وابن الإله لم يدركوا أن هذه أسماء ونعوت، وقد تسمى بها غيره من الأنبياء والملائكة والصالحين، بل اعتقدوا أن هذه النعوت حقيقية وليست مجازية وأن عيسى ابن الله بالطبيعة ومساو له في الجوهر - تعالى الله عن ذلك - حتى ألجأه الحال إلى أنه أنزله من السماء، وأسكنه في رحم مريم تسعة أشهر، وأخرجه من باب رحمها - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وأعوذ به من هذا الاعتقاد، وليس ناسوتا من دمها، وأنه صلب ومات ونزل إلى جهنم، حتى يخلص إبراهيم وموسى والأنبياء مع جنس البشر الهالكين.
فهذان الرأيان المتطرفان المهلكان قد نفر منهما الدين المحمدي، واعتقد بما قد أوحى له الله تعالى في الكيفيات التي تجب العبادة وفقها، والمصحوب بشرائع مهندمة، منزلة على نبيه الهادي، بكتاب سام ترى فيه كلما تطلب من الصالحات، مشروحا بتلك الألفاظ اللطيفة، والجمل الظريفة والمعاني الفائقة المنيفة، والأخبار بالأمثال الشريفة، والأحكام العادلة اللطيفة.
وقولي عن أحكام القرآن إنها عادلة لطيفة، لأنك لا ترى فيها قساوة، كما حكمت التوراة بالموت على من قرب قربانا خارج المذبح والهيكل، ولا رخاوة كما وجد في الإنجيل، إذ أنه ترك الزانية من غير قصاص ولا نصيحة وارتداد إلى معرفة طريق التوبة، لأنه قال لها: أين هم الذين دانوك؟ اذهبي ولا أنا أدينك - يعني إنهم ما رجموك بحيث أنهم نظروا أنفسهم خطاة - وأنا أيضا مثلهم، اذهبي.
وينتج من هذا الجواب إبطال الشرائع والأحكام لأنه لا يوجد أحد من البشر بغير خطيئة، فلا يطبق شيئا من الأحكام. وكذلك إباحته السكر في عرس قانا الجليل عند تحويل الماء خمرا للسكرانين، وذلك مما يثبت التزوير في التوراة والإنجيل.
وغلاقة هذه الخاتمة أقول:
إن سيدنا عيسى عليه السلام قد أعطى على صحة الانتساب إلى دينه الشريف دلالتين محكمتين صريحتين لا تقبلان تحريفا ولا تصحيفا، وهاتان الدلالتان قد وجدتا في الأزمنة الأولى فعليا حسيا، وبسببهما قامت الديانة النصرانية ونمت. وحيث يوجد الدليل يوجد مدلوله معه، والدلالتان هما:
الأولى: هي فعل العجائب والآيات المعجزات بالتتابع، خلفا عن سلف من المؤمنين بالله، الواردة في إنجيل مرقص، في أواخر إنجيله على لسان عيسى عليه السلام عن أن الآيات تتبع المؤمنين بقوله: «وهذه الآيات تتبع المؤمنين باسمي، يخرجون الشياطين ويتكلمون بألسنٍ جديدة ويحملون الحيات بأيديهم، وإن شربوا شيئا مميتا فلا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون».
والثانية: هي شرف الطريقة الممتلئة هدى ونورا، لتصديق قوله تعالى: ﴿وقفينا على أثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور﴾، مثل محبة الأعداء، وعدم مقاومة الشر بالشر، ورفض الاهتمام للدنيا، والقناعة بثوب واحد، المبني على قوله: أحبوا أعداءكم ولا تقاوموا الشر ولا تهتموا بالغد ولا تكنزوا لكم كنوزا في الأرض ولا تقتنوا ثوبين. وأمثال ذلك كثير مما تفيده هذه المعاني، المطابقة لدلالته الثانية بقوله: «بهذه يعرف الناس أنكم تلاميذي إن عملتم وصاياي».
فلنفحص الآن هاتين الدلالتين أقله عند خلف الحواريين في كامل طوائف النصارى من البابوات والبطاريك والمطارين والمبشرين، هل يوجد فيهم من يعمل آية أو أعجوبة معينة واحدة كبيرة أو صغيرة من الذين ذكرهم مرقص في إنجيله؟
وهل يوجد رئيس من الرؤساء المذكورين المدعى أنه سليل الحواريين محبا لأعدائه وغير مقاوم الشر، وإذا ضرب على الخد الأيمن يحول له الآخر، أو غير مهتم بالغد أو أنه لا يوجد عنده ثوبان؟
وهل يوجد قاض في كامل ملل وطوائف النصارى يجري هذه الشرائع؟
نعم أقول: إنه لم يوجد شيء من كل ما ذكرت، بل يوجد عكسه 4 عوض الثوبين أثواب، وتحف من أموال الناس جمعوها بعلة تطويل صلواتهم، وكنوز بليغة، وموائد منمقة بالأطعمة اللذيذة، ومنازل مزرقة بالألوان الظريفة وفضة كثيرة، وكذلك مقاومة الشر بالشر، وهذه وأمثالها تنظر علانية، غير قابلة الإنكار والجحود. 5
فإذا ينتج أن هذه الدلالات الدالة على دين عيسى الصحيح المشار إليها فيما سبق من عيسى نفسه عليه السلام غير موجودة، أعني الشرائع والآيات، فيقتضي أن يكون مدلولها غير موجود؛ لأنه إذا كان الدال باطلا فيبطل بالضرورة مدلوله.
ويجب قبل ختم القول أن نعلم بأن الله سبحانه وتعالى بعد انتهاء هذه الدلالات التي ذكرناها، وإبطال مدلولها، لم يترك خليقته بغير مرشد ولا هاد، لكنه أرسل الدلالة العظمى والآية الكبرى، التي هي ظهور وإشراق أنوار نبينا محمد ﷺ النبي الهادي، الأمين الصادق، الذي تتبأت عن وروده الأنبياء سلفا عليهم السلام، واتساع بهجة دينه ودوام سيادته وسلطانه، وتعميم شريعته حتى وفي المالك الأجنبية؛ هو من الدلالات الدالة على صدق نبوته.
وعدا أن كتابه السامي، الذي ليس له في الوجود مماثل، والذي قد جمع فيه كل كمال، وضم إليه أخص ما ورد في التوراة والإنجيل، يشهد له بذلك، وقد انتشرت أحكامه في البسيطة، وأكد على الشرف والذكر الحميد لعيسى وموسى وإبراهيم وباقي النبيين، وكان نزوله على سيد الأولين والآخرين، فعليه وعليهم الصلاة والصلام أجمعين، آمين.
(تم هذا الكتاب الذي هو: «البحث الصريح في الدين الصحيح» وهو الكتاب الأول للمرحوم الشيخ زيادة بن الراسي، ويتلوه كتابه الثاني الذي هو: «الأجوبة الجلية لدحض الدعوات النصرانية» وقد تمت نساخته في أواخر جماد الآخر سنة ألف ومائتين وثلاث وستين.)
هامش
حاشية: اعلم أن السبب الأقوى لقلة المعرفة مع الذي ذكره المؤلف هو أنه لم يوجد في أزمنتنا هذه المتأخرة فضلا عن المتقدمة غير نسخة واحدة للتوراة عربية مأخوذة عن اللاتيني، ومشهود بها من علماء النصارى، وهي مع ذلك مليئة بالأغلاط، وقليلة الوجود، وكأنه في كل مدينة مشهورة لا يوجد فيها غير كتاب واحد أو اثنين بالنادر. إلا أنه بعد انتشار الإنجليز في بلاد العرب طبعوا هذه النسخة المغلوطة كتبا، وفرقوها. صح كلام صاحب الحاشية.
==
حاشية: اعلم أن الذهبي أو خلافه من المفسرين كانوا يشرحون بعض هذه الشكوك بالوجه المجازي، حيث لم يكن لهم معرفة بالحقيقة نظرا لغرضهم. والحال أنه لا يجوز عند العلماء تفسيرها بالمجاز إذا كان لها وجها حقيقيا كما قال هذا المؤلف.
حاشية: اعلموا أن ذلك الغلو الذي ذكره المؤلف قد أشار إليه تعالى في القرآن الشريف مناديا به وقائلا (يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) النساء آية (171)
حاشية: اعلم أن كل ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى في هذا المقطع يصنعونه مضادة لإنجيلهم ويتراؤون عنه لأجل إماتة اللذات وحفظ بتولية رهبانيتهم، وإني لأعرض عن ذكر تعريض وتعظيم أطراف ثيابهم تبيانا لعصاوتهم لسيدنا عيسى عليه السلام.
حاشية: اعلم أن كل ما تراه من بطلان ومحو شريعة عيسى الفضلية لا شك أنه قدر وفعل إلهي، وهو دليل عظيم يعلم به انتهاء زمان أحكامها، لأنك لا ترى في كامل طوائف النصارى إنسانا إلا يخالفها وليس يخطر في ذهنه أو يتوجه في ضميره على أنه مخالفها. ولا ترى حاكما ولا ناموسا يوبخ على عدم إجرائها ويصنع لها قصاصا وقانونا، وهذا وحده يكفي لكل عاقل أن يدرك ويستدل على انتهائها أي انتهاء شريعة عيسى، وقد صادق على ذلك قوله تعالى (وأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) المائدة 14 ، وقوله تعالى أيضا (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينمقونها في سيبل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة 34، وقوله تعالى (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) الحديد 27.
المحتوي
البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح
مقدمة | الباب الأول: الرد على النصارى في
دعوى ألوهية المسيح عليه السلام | الباب الثاني: الرد على النصارى في استدلالهم
على ألوهية المسيح بالمعجزات | الباب الثالث: الرد على مطاعن النصارى في نبينا
محمد | الباب الرابع: البشارات بالنبي محمد في التوراة والإنجيل | الباب الخامس:
التناقضات في التوراة والإنجيل الدالة على تحريفهما | الخاتمة